زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

قوله تعالى : (فَاعْبُدْهُ) أي : وحده ، لأنّ عبادته بالشّرك ليست عبادة ، (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أي : اصبر على توحيده وقيل : على أمره ونهيه. قوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يدغم «هل تعلم» ، ووجهه أنّ سيبويه يجيز إدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء ، لأنّ آخر مخرج من اللام قريب من مخارجهنّ ، قال أبو عبيدة : إذا كان بعد «هل» تاء ، ففيه لغتان وبعضهم يبين لام «هل» ، وبعضهم يدغمها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : مثلا وشبها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : هل تعلم أحدا يسمّى «الله» غيره ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : هل تعلم أحدا يستحقّ أن يقال له : خالق وقادر ، إلّا هو ، قاله الزّجّاج.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ).

(٩٦٥) سبب نزولها أنّ أبيّ بن خلف أخذ عظما باليا ، فجعل يفتّه بيده ويذرّيه في الرّيح ويقول : زعم لكم محمّد أنّ الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وروى عطاء عن ابن عباس : أنه الوليد بن المغيرة.

قوله تعالى : (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) إن قيل : ظاهره ظاهر سؤال ، فأين جوابه؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري : أحدها : أنّ ظاهر الكلام استفهام ، ومعناه معنى جحد وإنكار ، تلخيصه : لست مبعوثا بعد الموت. والثاني : أنه لمّا استفهم بهذا الكلام عن البعث ، أجابه الله عزوجل بقوله : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) ، فهو مشتمل على معنى : نعم ، وأنت مبعوث. والثالث : أنّ جواب سؤال هذا الكافر في يس عند قوله عزوجل : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) (١) ، ولا ينكر بعد الجواب ، لأنّ القرآن كلّه بمنزلة الرّسالة الواحدة ، والسّورتان مكّيّتان.

قوله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : بفتح الذال مشدّدة الكاف. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر : «يذكر» ساكنة الذال خفيفة. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو المتوكّل النّاجي أو لا يتذكر الإنسان : بياء وتاء. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، والحسن : «يذكر» بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف ، والمعنى : أولا يتذكّر

____________________________________

(٩٦٥) باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٠٩ عن الكلبي بدون إسناد. والصواب عموم الآية.

__________________

(١) سورة يس : ٧٨.

١٤١

هذا الجاحد أوّل خلقه ، فيستدلّ بالابتداء على الإعادة؟! (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) يعني : المكذّبين بالبعث (وَالشَّياطِينَ) أي : مع الشياطين ، وذلك أنّ كلّ كافر يحشر مع شيطانه في سلسلة ، (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ) قال مقاتل : أي : في جهنّم ، وذلك أنّ حول الشيء يجوز أن يكون داخله ، تقول : جلس القوم حول البيت : إذا جلسوا داخله مطيفين به. وقيل : يجثون حولها قبل أن يدخلوها. فأما قوله : (جِثِيًّا) فقال الزّجّاج : هو جمع جاث ، مثل قاعد وقعود ، وهو منصوب على الحال ، والأصل ضمّ الجيم ، وجاء كسرها اتباعا لكسرة الثاء. وللمفسّرين في معناه خمسة أقوال : أحدها : قعودا ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : جماعات جماعات ، وروي عن ابن عباس أيضا. فعلى هذا هو جمع جثوة وهي المجموع من التراب والحجارة. والثالث : جثيّا على الرّكب ، قاله الحسن ، ومجاهد والزّجّاج. والرابع : قياما ، قاله أبو مالك. والخامس : قياما على ركبهم ، قاله السّدّيّ ، وذلك لضيق المكان بهم.

قوله تعالى : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي : لنأخذنّ من كلّ فرقة وأمّة وأهل دين (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أي : أعظمهم له معصية ، والمعنى : أنه يبدأ بتعذيب الأعتى فالأعتى ، وبالأكابر جرما ، والرّؤوس القادة في الشرّ. قال الزّجّاج : وفي رفع «أيّهم» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه على الاستئناف ، ولم تعمل «لننزعنّ» شيئا ، وهذا قول يونس. والثاني : أنه على معنى الذي يقال لهم : أيّهم أشدّ على الرّحمن عتيّا؟ قاله الخليل ، واختاره الزّجّاج ، وقال : التّأويل : لننزعنّ الذي من أجل عتوّه يقال : أيّ هؤلاء أشدّ عتيّا؟ وأنشد :

ولقد أبيت عن الفتاة بمنزل

فأبيت لا حرج ولا محروم

أي : أبيت بمنزلة الذي يقال له : لا هو حرج ولا محرم.

والثالث : أنّ «أيّهم» مبنية على الضمّ ، لأنها خالفت أخواتها ، فالمعنى : أيّهم هو أفضل. وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول : اضرب أيّهم أفضل. ولا يحسن : اضرب من أفضل ، حتى تقول : من هو أفضل ، ولا يحسن : كل ما أطيب ، حتى تقول : ما هو أطيب ، ولا خذ ما أفضل ، حتى تقول : الذي هو أفضل ، فلمّا خالفت «ما» و «من» و «الذي» بنيت على الضمّ ، قاله سيبويه.

قوله تعالى : (هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) يعني : أنّ الأولى بها صليّا الذين هم أشدّ عتيّا فيبتدأ بهم قبل أتباعهم. و «صليّا» : منصوب على التفسير ، يقال : صلي النار يصلاها : إذا دخلها وقاسى حرّها. قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) في الكلام إضمار تقديره : وما منكم أحد إلّا وهو واردها. وفيمن عني بهذا الخطاب قولان : أحدهما : أنه عامّ في حقّ المؤمن والكافر ، هذا قول الأكثرين. وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية للكفّار. وأكثر الرّوايات عنه كالقول الأوّل. قال ابن الأنباري : ووجه هذا أنه لمّا قال : (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) وقال : (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) كان التّقدير ؛ وإن منهم ، فأبدلت الكاف من الهاء ، كما فعل في قوله : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) (١) المعنى : كان لهم ، لأنه مردود على قوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) (٢) ، وقال الشاعر :

شطّت مزار العاشقين وأصبحت

عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم

__________________

(١) سورة الإنسان : ٢٢.

(٢) سورة الإنسان : ٢١.

١٤٢

أراد : طلابها. وفي هذا الورود خمسة أقوال (١) :

أحدها : أنه الدّخول. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٩٦٦) «الورود : الدّخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إنّ للنار ـ أو قال : لجهنّم ـ ضجيجا من بردهم».

وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية ، فقال له : «أمّا أنا وأنت فسندخلها ، فانظر أيخرجنا الله عزوجل منها ، أم لا؟ فاحتجّ بقوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) (٢) وبقوله تعالى : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٣). وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول : أنبئت أني وارد ، ولم أنبّأ أنّي صادر. وحكى الحسن البصريّ : أنّ رجلا قال لأخيه : يا أخي هل أتاك أنك وارد النار؟ قال : نعم ؛ قال : فهل أتاك أنك خارج منها؟ قال : لا ؛ قال : ففيم الضّحك؟! وقال خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنّة ، قالوا : ألم يعدنا ربّنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : بلى ، ولكن مررتم بها وهي خامدة. وممّن ذهب إلى أنه الدّخول : الحسن في رواية ، وأبو مالك. وقد اعترض على أرباب هذا القول بأشياء. فقال الزّجّاج : العرب تقول : وردت بلد كذا ، ووردت ماء كذا : إذا أشرفوا عليه وإن لم يدخلوا ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) (٤) والحجّة القاطعة في هذا القول قوله تعالى : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) (٥) ، وقال زهير :

فلمّا وردن الماء زرقا جمامه

وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم (٦)

أي : لمّا بلغن الماء قمن عليه. قلت : وقد أجاب بعضهم عن هذه الحجج ، فقال : أمّا الآية الأولى ، فإنّ موسى لمّا أقام حتى استقى الماء وسقى الغنم ، كان بلبثه ومباشرته كأنه دخل ، وأمّا الآية الأخرى ؛ فإنها تضمّنت الإخبار عن أهل الجنّة حين كونهم فيها ، وحينئذ لا يسمعون حسيسها. وقد روينا آنفا عن خالد بن معدان أنهم يمرّون بها ، ولا يعلمون.

والثاني : أنّ الورود : الممرّ عليها ، قاله عبد الله بن مسعود ، وقتادة. وقال ابن مسعود : يرد الناس النار ، ثم يصدرون عنها بأعمالهم ، فأوّلهم كلمح البرق ، ثم كالرّيح ، ثم كحضر الفرس ، ثم كالراكب في رحله ، ثم كشدّ الرّحل ، ثم كمشيه. والثالث : أنّ ورودها : حضورها ، قاله عبيد بن عمير. والرابع : أنّ ورود المسلمين : المرور على الجسر ، وورود المشركين : دخولها. قاله ابن زيد. والخامس : أنّ ورود المؤمن إليها : ما يصيبه من الحمّى في الدنيا ، روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال : الحمّى

____________________________________

(٩٦٦) حسن. أخرجه أحمد ٣ / ٣٢٩ والحاكم ٤ / ٥٨٧ ح ٨٧٤٤ والبيهقي في «الشعب» ٣٧٠ من حديث جابر.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي ٧ / ٥٥ : رجال أحمد ثقات اه. وهو حديث حسن.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٨ / ٣٦٧ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون فينجيهم الله ويهوي فيها الكفار.

(٢) سورة هود : ٩٨.

(٣) سورة الأنبياء : ٩٨.

(٤) سورة القصص : ٣٣.

(٥) سورة الأنبياء : ١٠١ و ١٠٢.

(٦) البيت في «شرح ديوان زهير» ١٣ ، و «اللسان» ـ زرق ـ. والزّرق : المياه الصافية. وجمامة : راحة وشبع وريّ.

١٤٣

حظّ كلّ مؤمن من النّار ، ثم قرأ : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) فعلى هذا من حمّ من المسلمين ، فقد وردها.

قوله تعالى : (كانَ عَلى رَبِّكَ) يعني : الورد حتما والحتم : إيجاب القضاء ، والقطع بالأمر. والمقضيّ : الذي قضاه الله تعالى ، والمعنى : إنه حتم ذلك وقضاه على الخلق.

قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقرأ ابن عباس ، وأبو مجلز ، وابن يعمر ، وابن أبي ليلى ، وعاصم الجحدريّ : «ثمّ» بفتح الثاء. وقرأ الكسائيّ ، ويعقوب : «ننجي» مخفّفة. وقرأت عائشة ، وأبو بحريّة ، وأبو الجوزاء الرّبعيّ : «ثم ينجي» بياء مرفوعة قبل النون خفيفة الجيم مكسورة. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو مجلز ، وابن السّميفع ، وأبو رجاء : «ننحّي» بحاء غير معجمة مشدّدة. وهذه الآية يحتجّ بها القائلون بدخول جميع الخلق ، لأنّ النّجاة : تخليص الواقع في الشيء ، ويؤكّده قوله تعالى : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها) ولم يقل : وندخلهم ؛ وإنما يقال : نذر ونترك لمن قد حصل في مكانه. ومن قال : إنّ الورود للكفار خاصّة ، قال : معنى هذا الكلام : نخرج المتّقين من جملة من يدخل النار. والمراد بالمتّقين : الذين اتّقوا الشّرك ، وبالظالمين : الكفار ، وقد سبق معنى قوله عزوجل : (جِثِيًّا).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤))

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) يعني : المشركين (آياتُنا) يعني : القرآن (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : مشركي قريش (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : لفقراء المؤمنين (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر ، وحفص عن عاصم مقاما بفتح الميم وقرأ ابن كثير بضمّ الميم. قال أبو عليّ الفارسيّ : المقام : اسم المثوى ، إن فتحت الميم أو ضمّت.

قوله تعالى : (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) والنّديّ والنّادي : مجلس القوم ومجتمعهم. وقال الفرّاء : النّديّ والنّادي ، لغتان. ومعنى الكلام : أنحن خير ، أم أنتم؟ فافتخروا عليهم بالمساكن والمجالس ، فأجابهم الله تعالى فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) وقد بيّنّا معنى القرن في الأنعام (١) وشرحنا الأثاث في النّحل (٢).

فأمّا قوله تعالى : (وَرِءْياً) فقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «ورئيا» بهمزة بين الراء والياء في وزن : «رعيا» ؛ قال الزّجّاج : ومعناها : منظرا ، من «رأيت». وقرأ نافع ، وابن عامر : «ريّا» بياء مشدّدة من غير همز ، قال الزّجّاج : لها تفسيران. أحدهما : أنها بمعنى الأولى. والثاني : أنها من الرّيّ ، فالمعنى : منظرهم مرتو من النّعمة ، كأنّ النعيم بيّن فيهم. وقرأ ابن عباس ، وأبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي سريج عن الكسائيّ : «زيّا» بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز. قال الزّجّاج : ومعناها : حسن هيئتهم.

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦.

(٢) سورة النحل : ٨٠.

١٤٤

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) أي : في الكفر والعمى عن التّوحيد (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ) قال الزّجّاج : وهذا لفظ أمر ، ومعناه الخبر ، والمعنى : أنّ الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها. قال ابن الأنباري : خاطب الله العرب بلسانها ، وهي تقصد التّوكيد للخبر بذكر الأمر ، يقول أحدهم : إن زارنا عبد الله فلنكرمه ، يقصد التّوكيد ع ، وينبّه على أنّي ألزم نفسي إكرامه ؛ ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء على معنى : قل يا محمّد : من كان في الضّلالة فاللهم مدّ له في العمر مدّا. قال المفسّرون : ومعنى مدّ الله تعالى له : إمهاله في الغيّ. (حَتَّى إِذا رَأَوْا) يعني الذين مدّهم في الضّلالة. وإنما أخبر عن الجماعة ، لأنّ لفظ «من» يصحّ للجماعة. ثم ذكر ما يوعدون فقال : (إِمَّا الْعَذابَ) يعني : القتل ، والأسر (وَإِمَّا السَّاعَةَ) يعني : القيامة وما وعدوا فيها من الخلود في النار (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) في الآخرة ، أهم ، أم المؤمنون؟ لأن مكان هؤلاء الجنّة ، ومكان هؤلاء النار ، (وَ) يعلمون بالنّصر والقتل من (أَضْعَفُ جُنْداً) جندهم ، أم جند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا ردّ عليهم في قولهم : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) فيه خمسة أقوال : أحدها : ويزيد الله الذين اهتدوا بالتّوحيد إيمانا. والثاني : يزيدهم بصيرة في دينهم. والثالث : يزيدهم بزيادة الوحي إيمانا ، فكلّما نزلت سورة زاد إيمانهم. والرابع : يزيدهم إيمانا بالنّاسخ والمنسوخ. والخامس : يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالنّاسخ. قال الزّجّاج : المعنى : إنّ الله تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقينا ، كما جعل جزاء الكافر أن يمدّه في ضلالته.

قوله تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) قد ذكرناها في سورة الكهف (١).

قوله تعالى : (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) المردّ ها هنا مصدر مثل الرّدّ ، والمعنى : وخير ردّا للثّواب على عامليها ، فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) في سبب نزولها قولان :

(٩٦٧) أحدها : ما روى البخاريّ ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق عن خبّاب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا ، أي حدادا ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمّد ، فقلت : لا والله لا أكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تموت ، ثم تبعث. قال :

____________________________________

(٩٦٧) صحيح. أخرجه البخاري ٢٢٧٥ و ٤٧٣٢ و ٤٧٣٣ ومسلم ٢٧٩٥ ح ٣٦ والترمذي ٣١٦٢ وأحمد ٥ / ١١٠ وابن حبان ٥٠١٠ من طرق عن سفيان عن الأعمش به. وأخرجه البخاري ٢٠٩١ و ٢٤٢٥ و ٤٧٣٤ و ٤٧٣٥ ومسلم ٢٧٩٥ والنسائي في «التفسير» ٣٤٢ وأحمد ١ / ١١١ وابن حبان ٤٨٨٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٦١٠ و ٦١١ والطبراني ٣٦٥١ و ٣٦٥٢ و ٣٦٥٤.

__________________

(١) سورة الكهف : ٤٦.

١٤٥

فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثمّ مال وولد ، فأعطيتك ، فنزلت فيه هذه الآية ، إلى قوله عزوجل : (فَرْداً). والثاني : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، وهذا مرويّ عن الحسن. والمفسّرون على الأوّل.

قوله تعالى : (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر : بفتح الواو. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : بضمّ الواو. وقال الفرّاء : وهم لغتان ، كالعدم ، والعدم ، وليس يجمع ، وقيس تجعل الولد جمعا ، والولد ، بفتح الواو ، واحدا.

وأين زعم هذا الكافر أن يؤتى المال والولد؟ فيه قولان : أحدهما : أنه أراد في الجنّة على زعمكم. والثاني : في الدنيا. قال ابن الأنباري : وتقدير الآية : أرأيته مصيبا؟!

قوله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) قال ابن عباس في رواية : أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو ، أمّ لا؟! وقال في رواية أخرى : أنظر في اللوح المحفوظ؟!

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أم قال : لا إله إلّا الله ، فأرحمه بها؟! قاله ابن عباس. والثاني : أم قدّم عملا صالحا ، فهو يرجوه؟! قاله قتادة. والثالث : أم عهد إليه أنه يدخله الجنّة؟! قاله ابن السّائب.

قوله تعالى : (كَلَّا) أي : ليس الأمر على ما قال من أن يؤتى المال والولد. ويجوز أن يكون معنى «كلّا» أي : إنه لم يطّلع الغيب ، ولم يتّخذ عند الله عهدا. (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي : سنأمر الحفظة بإثبات قوله لنجازيه به ، (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أي : نجعل بعض العذاب على إثر بعض. وقرأ أبو العالية الرّياحي ، وأبو رجاء العطاردي : «سيكتب» «ويرثه» بياء مفتوحة.

قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) فيه قولان : أحدهما : نرثه ما يقول أنه له في الجنّة ، فنجعله لغيره من المسلمين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفرّاء. والثاني : نرث ما عنده من المال ، والولد ، بإهلاكنا إيّاه ، وإبطال ملكه ، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا ، وبه قال قتادة. قال الزّجّاج : المعنى : سنسلبه المال والولد ، ونجعله لغيره.

قوله تعالى : (وَيَأْتِينا فَرْداً) أي : بلا مال ولا ولد.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤))

قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) يعني : المشركين عابدي الأصنام (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) قال الفرّاء : ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة. قوله تعالى : (كَلَّا) أي : ليس الأمر كما قدّروا ، (سَيَكْفُرُونَ) يعني الأصنام بجحد عبادة المشركين ، كقوله عزوجل : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) لأنها كانت جمادا لا تعقل العبادة ، (وَيَكُونُونَ) يعني : الأصنام (عَلَيْهِمْ) يعني : المشركين (ضِدًّا) أي : أعوانا عليهم في القيامة ، يكذّبونهم ويلعنونهم.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) قال الزّجّاج : في معنى هذا الإرسال وجهان :

أحدهما : خلّينا بين الشياطين وبني الكافرين فلم نعصمهم من القبول منهم. والثاني : وهو المختار : سلّطناهم عليهم ، وقيّضناهم لهم بكفرهم. (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي : تزعجهم إزعاجا حتى يركبوا

١٤٦

المعاصي. وقال الفرّاء : تزعجهم إلى المعاصي ، وتغريهم بها. قال ابن فارس : يقال : أزّه على كذا : إذا أغراه به ، وأزّت القدر : غلت. قوله تعالى : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) أي : لا تعجل بطلب عذابهم. وزعم بعضهم أنّ هذا منسوخ بآية السيف ، وليس بصحيح ، (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) في هذا المعدود ثلاثة أقوال : أحدها : أنّه أنفاسهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال طاوس ، ومقاتل. والثاني : الأيام ، والليالي ، والشّهور ، والسّنون ، والسّاعات ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنها أعمالهم ، قاله قطرب.

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) قال بعضهم : هذا متعلّق بقوله تعالى : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) وقال بعضهم : تقديره : اذكر لهم يوم نحشر المتّقين ، وهم الذين اتّقوا الله بطاعته واجتناب معصيته. وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : «يوم يحشر» بياء مفتوحة ورفع الشين «ويسوق» بياء مفتوحة ورفع السين. وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن البصريّ ، ومعاذ القارئ ، وأبو المتوكّل النّاجي : «يوم يحشر» بياء مرفوعة وفتح الشين «المتقون» رفعا «ويساق» بألف وياء مرفوعة «المجرمون» بالواو على الرّفع. والوفد : جمع وافد ، مثل : ركب ، وراكب ، وصحب ، وصاحب. قال ابن عباس ، وعكرمة ، والفرّاء : الوفد : الرّكبان. قال ابن الأنباري : الرّكبان عند العرب : ركّاب الإبل.

وفي زمان هذا الحشر قولان : أحدهما : أنه من قبورهم إلى الرحمن ، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني : أنّه بعد الحساب ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.

قوله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) يعني : الكافرين (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) قال ابن عباس ، وأبو هريرة ، والحسن : عطاشا. قال أبو عبيدة : الورد : مصدر الورود. وقال ابن قتيبة : الورد : جماعة يردون الماء ، يعني : أنهم عطاش ، لأنه لا يرد الماء إلّا العطشان. وقال ابن الأنباري : معنى قوله : «وردا» : واردين. قوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) أي : لا يشفعون ، ولا يشفع لهم. قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال الزّجّاج : جائز أن يكون «من» في موضع رفع على البدل من الواو والنون ، فيكون المعنى : لا يملك الشفاعة إلّا من اتّخذ عند الرحمن عهدا ؛ وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناء ليس من الأوّل ، فالمعنى : لا يملك الشفاعة المجرمون ، ثم قال : «إلا» على معنى «لكن» (مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) فإنه يملك الشفاعة. والعهد ها هنا : توحيد الله والإيمان به. وقال ابن الأنباري : تفسير العهد في اللغة : تقدمة أمر يعلم ويحفظ ، من قولك : عهدت فلانا في المكان ، أي : عرفته ، وشهدته.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

١٤٧

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) يعني : اليهود ، والنّصارى ، ومن زعم من المشركين أنّ الملائكة بنات الله (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أي : شيئا عظيما من الكفر. قال أبو عبيدة : الإدّ ، والنّكر : الأمر المتناهي العظم.

قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «تكاد» بالتاء. وقرأ نافع ، والكسائيّ : «يكاد» بالياء. وقرءا جميعا : «يتفطرن» بالياء والتاء مشدّدة الطّاء ، ووافقهما ابن كثير ، وحفص عن عاصم في «يتفطّرن» وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «ينفطرن» ، بالنون وهذا خلافهم في عسق. وقرأ حمزة ، وابن عامر في سورة مريم مثل أبي عمرو ، وفي «عسق» (١) مثل ابن كثير. ومعنى «يتفطّرن منه» : يقاربن الانشقاق من قولكم. قال ابن قتيبة : وقوله تعالى : (هَدًّا) أي : سقوطا.

قوله تعالى : (أَنْ دَعَوْا) قال الفرّاء : من أن دعوا ، ولأن دعوا. وقال أبو عبيدة : معناه : أن جعلوا ، وليس هو من دعاء الصّوت ، وأنشد :

ألا ربّ من تدعو نصيحا وإن تغب

تجده بغيب غير منتصح الصّدر (٢)

قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي : ما يصلح له ، ولا يليق به اتّخاذ الولد ، لأنّ الولد يقتضي مجانسة ، وكلّ متّخذ ولدا يتّخذه من جنسه ، والله تعالى منزّه عن أن يجانس شيئا ، أو يجانسه ، فمحال في حقّه اتّخاذ الولد ، (إِنْ كُلُ) أي : ما كلّ (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ) يوم القيامة (عَبْداً) ذليلا خاضعا. والمعنى : أنّ عيسى وعزيرا والملائكة عبيد له. قال القاضي أبو يعلى : وفي هذا دلالة على أنّ الوالد إذا اشترى ولده ، لم يبق ملكه عليه ، وإنما يعتق بنفس الشراء ، لأنّ الله تعالى نفى البنوّة لأجل العبودية ، فدلّ على أنه لا يجتمع بنوّة ورقّ. قوله تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) أي : علم عددهم (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) فلا يخفى عليه مبلغ جميعهم مع كثرتهم (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) بلا مال ، ولا نصير يمنعه. فإن قيل : لأيّة علّة وحّد في «الرحمن» و «آتيه» وجمع في العائد في «أحصاهم ، وعدّهم». فالجواب : أنّ لكلّ لفظ توحيدا ، وتأويل جمع ، فالتوحيد محمول على اللفظ ، والجمع مصروف إلى التأويل.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال ابن عباس : نزلت في عليّ رضي الله عنه ، وقال معناها : يحبّهم ، ويحبّبهم إلى المؤمنين. قال قتادة : يجعل لهم ودّا في قلوب المؤمنين. ومن هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

__________________

(١) سورة الشورى : ٢.

(٢) في «اللسان» : النّصح : نقيض الغش.

١٤٨

(٩٦٨) «إذا أحبّ الله عبدا قال : يا جبريل ، إني أحبّ فلانا فأحبّوه ، فينادي جبريل في السموات إن الله يحب فلانا فأحبوه فيلقى حبّه على أهل الأرض فيحبّ» ، وذكر في البغض مثل ذلك. وقال هرم بن حيّان : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عزوجل ، إلّا أقبل الله عزوجل بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم.

قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) يعني : القرآن. قال ابن قتيبة : أي ، سهّلناه ، وأنزلناه بلغتك واللّدّ : جمع ألدّ ، وهو الخصم الجدل.

قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) هذا تخويف لكفّار مكّة (هَلْ تُحِسُ) قال الزّجّاج : أي : هل ترى يقال : هل أحسست صاحبك ، أي : هل رأيته؟ والرّكز : الصوت الخفيّ ؛ وقال ابن قتيبة : الصّوت الذي لا يفهم ، وقال أبو صالح : حركة ، والله تعالى أعلم.

____________________________________

(٩٦٨) صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٩ و ٧٤٨٥ ومسلم ٣٦٣٧ ومالك ٢ / ٩٥٣ والطيالسي ٢٤٣٦ وأحمد ٢ / ٢٦٧ وابن حبان ٣٦٥ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ١٩٧ كلهم من حديث أبي هريرة. وانظر «أحكام القرآن» ١٤٧٩ بتخريجنا.

١٤٩

سورة طه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

وهي مكيّة كلّها بإجماعهم. وفي سبب نزول (طه) ثلاثة أقوال :

(٩٦٩) أحدها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يراوح بين قدميه ، يقوم على رجل ، حتى نزلت هذه الآية ، قاله عليّ رضي الله عنه.

(٩٧٠) والثاني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا نزل عليه القرآن صلّى هو وأصحابه فأطال القيام ، فقالت قريش : ما أنزل هذا القرآن على محمّد إلّا ليشقى ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضّحّاك.

والثالث : أنّ أبا جهل ، والنّضر بن الحارث ، والمطعم بن عديّ ، قالوا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لتشقى بترك ديننا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل (١).

وفي «طه» قراءات. قرأ ابن كثير ، وابن عامر : «طه» بفتح الطاء والهاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر الطاء والهاء. وقرأ نافع : «طه» بين الفتح والكسر ، وهو إلى الفتح أقرب ؛ كذلك قال خلف عن المسيّبي. وقرأ أبو عمرو : بفتح الطاء وكسر الهاء وروى عنه عباس مثل حمزة. وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين العقيلي ، وسعيد بن المسيّب ، وأبو العالية : بكسر الطاء وفتح الهاء. وقرأ الحسن «طه» بفتح الطاء وسكون الهاء ، وقرأ الضّحّاك ، ومورّق العجلي : «طه» بكسر الطاء وسكون الهاء. واختلفوا في معناها على أربعة أقوال (٢) : أحدها : أنّ معناها : يا رجل ، رواه العوفيّ عن ابن

____________________________________

(٩٦٩) أخرجه البزار ٢٢٣٢ «كشف» وقال الهيثمي في «المجمع» ١١١٦٥ : فيه يزيد بن بلال. قال البخاري : فيه نظر. وكيسان بن عمرو ، وثقه ابن حبان ، وضعفه ابن معين ، وبقية رجاله رجال الصحيح اه. فالخبر غير قوي ، وهو إلى الضعف أقرب. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٩١ بتخريجنا.

(٩٧٠) واه بمرة. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٤ عن الضحاك مرسلا ، ومع إرساله مراسيل الضحاك واهية ، والراوي عنه جويبر بن سعيد ، وهو متروك الحديث ، فالخبر لا شيء.

__________________

(١) باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٣ عن مقاتل بدون سند ، ومقاتل متهم ، والمتن باطل.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٨ / ٣٩٠ : والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه : قول من قال :

١٥٠

عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ؛ واختلف هؤلاء بأيّ لغة هي ، على أربعة أقوال : أحدها : بالنّبطيّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير في رواية ، والضّحّاك. والثاني : بلسان عكّ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : بالسّريانيّة ، قاله عكرمة في رواية ، وسعيد بن جبير في رواية ، وقتادة. والرابع : بالحبشيّة ، قاله عكرمة في رواية. قال ابن الأنباري : ولغة قريش وافقت هذه اللغة في المعنى. والثاني : أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان : أحدهما : أنها من أسماء الله تعالى. ثم فيها قولان : أحدهما : أنّ الطاء من اللطيف ، والهاء من الهادي ، قاله ابن مسعود ، وأبو العالية ، والثاني : أنّ الطاء افتتاح اسمه «طاهر» و «طيّب» والهاء افتتاح اسمه «هادي» قاله سعيد بن جبير. والقول الثاني : أنها من غير أسماء الله تعالى. ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الطاء من طابة وهي مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والهاء من مكّة ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي. والثاني : أنّ الطاء : طرب أهل الجنة ، والهاء : هوان أهل النار. والثالث : أنّ الطاء في حساب الجمّل تسعة ، والهاء خمسة ، فتكون أربعة عشر. فالمعنى : يا أيها البدر ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ، حكى القولين الثّعلبيّ. والثالث : أنه قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد شرحنا معنى كونه اسما في فاتحة (مريم). وقال القرظيّ : أقسم الله بطوله وهدايته ؛ وهذا القول قريب المعنى من الذي قبله. والرابع : أن معناه : طأ الأرض بقدميك ، قاله مقاتل بن حيّان. ومعنى قوله تعالى (لِتَشْقى) : لتتعب وتبلغ من الجهد ما قد بلغت ، وذلك أنه اجتهد في العبادة وبالغ ، حتى إنه كان يرواح بين قدميه لطول القيام ، فأمر بالتّخفيف.

قوله تعالى : (إِلَّا تَذْكِرَةً) قال الأخفش : هو بدل من قوله تعالى : (لِتَشْقى) ما أنزلناه إلّا تذكرة ، أي : عظة. قوله تعالى : (تَنْزِيلاً) قال الزّجّاج : المعنى : أنزلناه تنزيلا ، و (الْعُلى) جمع العليا ، تقول : سماء عليا ، وسماوات على ، مثل الكبرى ، والكبر ، فأمّا «الثّرى» فهو التّراب النّديّ ، والمفسّرون يقولون : أراد الثّرى الذي تحت الأرض السابعة.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أي : ترفع صوتك (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ) والمعنى : لا تجهد نفسك برفع الصوت ، فإنّ الله يعلم السرّ. وفي المراد ب «السرّ وأخفى» خمسة أقوال (١) : أحدها : أنّ السّرّ : ما أسرّه الإنسان في نفسه ، وأخفى : ما لم يكن بعد وسيكون ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والثاني : أنّ السّرّ : ما حدّثت به نفسك ، وأخفى : ما لم تلفظ به ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : أنّ السّرّ : العمل الذي يسرّه الإنسان من الناس ، وأخفى منه : الوسوسة ، قاله مجاهد. والرابع : أنّ معنى الكلام : يعلم إسرار عباده ؛ وقد أخفى سرّه عنهم فلا يعلم ، قاله زيد بن أسلم ، وابنه. والخامس : يعلم ما أسرّه الإنسان إلى غيره ، وما أخفاه في نفسه ، قاله الفرّاء. قوله تعالى : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) قد شرحناه في سورة الأعراف (٢).

__________________

معناه : يا رجل ، لأنها كلمة معروفة في عكّ فيما بلغني ، وأن معناها فيهم : يا رجل.

(١) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ٣٩٤ : والصواب من القول في ذلك ، معناه : يعلم السرّ وأخفى من السر ، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام. فإنه يعلم السر وأخفى من السر وهو ما علم الله مما أخفى عن عباده ولم يعلموه مما هو كائن ولم يكن.

(٢) سورة الأعراف : ١٨٠.

١٥١

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩)) هذا استفهام تقرير ، ومعناه : قد أتاك. قال ابن الأنباري : وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي «هل» معبّرة عن «قد».

(٩٧١) فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أفصح العرب : «اللهمّ هل بلّغت» ، يريد : قد بلّغت.

قال وهب بن منبّه : استأذن موسى شعيبا عليهما‌السلام في الرّجوع إلى والدته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، فولد له في الطريق في ليلة شاتية ، فقدح فلم يور الزّناد ، فبينا هو في مزاولته ذلك ، أبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق ؛ وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في كتاب «الحدائق» فكرهنا إطالة التفسير بالقصص ، لأنّ غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه ، قال المفسّرون : رأى نورا ، ولكن أخبر بما كان في ظنّ موسى. (فَقالَ لِأَهْلِهِ) يعني : امرأته (امْكُثُوا) أي : أقيموا مكانكم وقرأ حمزة : «لأهله امكثوا» بضمّ الهاء ها هنا وفي القصص (١) (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) قال الفرّاء : إني وجدت ، يقال : هل آنست أحدا ، أي : وجدت؟ وقال ابن قتيبة : «آنست» بمعنى أبصرت. فأمّا القبس ، فقال الزّجّاج : هو ما أخذته من النار في رأس عود أو في رأس فتيلة.

قوله تعالى : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) قال الفرّاء : أراد : هاديا ، فذكره بلفظ المصدر ، قال ابن الأنباري : يجوز أن تكون «على» ها هنا بمعنى «عند» ، وبمعنى «مع» ، وبمعنى الباء. وذكر أهل التّفسير أنه كان قد ضلّ عن الطريق ، فعلم أنّ النار لا تخلو من موقد. وحكى الزّجّاج : أنه ضلّ عن الماء ، فرجا أن يجد من يهديه الطريق أو يدلّه على الماء.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَتاها) يعني : النّار (نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) إنما كرّر الكناية ، لتوكيد

____________________________________

(٩٧١) صحيح. أخرجه البخاري ٩٢٥ و ٢٥٩٧ و ٦٦٣٦ و ٧١٧٤ ومسلم ١٨٣٢ وأبو داود ٢٩٤٦ والحميدي ٨٤٠ وأحمد ٥ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤ من طرق عن الزهري عن عروة عن أبي حميد وهو بعض حديث.

وأخرجه البخاري ٦٩٧٩ و ٧١٩٧ ومسلم ١٨٣٢ ح ٢٧ و ٢٨ والحميدي ٨٤٠ والشافعي ١ / ٢٤٧ من طرق عن هشام بن عروة ، عن عروة به ، وأتم. وأخرجه البغوي ١٥٦٢ والشافعي ١ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧ والبيهقي ٧ / ١٦ و ١٠ / ١٣٨ عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي. قال : «فهلا جلس في بيت أبيه ـ أو بيت أمه ـ فينظر يهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر» ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه «اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت» ثلاثا.

__________________

(١) سورة القصص : ٢٩.

١٥٢

الدّلالة وتحقيق المعرفة وإزالة الشّبهة ، ومثله : (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (١). قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : «أنّي» بفتح الألف والياء. وقرأ نافع وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «إنّي» بكسر الألف ، إلّا أنّ نافعا فتح الياء ، قال الزّجّاج : من قرأ : «أنّي أنا» بالفتح ، فالمعنى : نودي بأنى أنا ربّك ، ومن قرأ بالكسر ، فالمعنى : نودي يا موسى ، فقال الله : إنّي أنا ربّك. قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) في سبب أمره بخلعهما قولان :

(٩٧٢) أحدهما : أنهما كانا من جلد حمار ميت ، رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبه قال عليّ بن أبي طالب ، وعكرمة.

والثاني : أنهما كانا من جلد بقرة ذكّيت ، ولكنه أمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدّسة ، فتناله بركتها ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة.

قوله تعالى : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) فيه قولان قد ذكرناهما في سورة المائدة (٢) عند قوله تعالى : (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ). قوله تعالى : (طُوىً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «طوى ، وأنا» غير مجراة. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «طوى» مجراة ؛ وكلّهم ضمّ الطاء ، وقرأ الحسن وأبو حيوة : «طوى» بكسر الطاء مع التنوين ، وقرأ عليّ بن نصر عن أبي عمرو : «طوى» بكسر الطاء من غير تنوين. قال الزّجّاج : في «طوى» أربعة أوجه. طوى ، بضمّ أوّله من غير تنوين وبتنوين. فمن نوّنه ، فهو اسم للوادي. وهو مذكّر سمّي بمذكّر على فعل نحو حطم وصرد ، ومن لم ينوّنه ترك صرفه من جهتين : إحداهما : أن يكون معدولا عن طاو ، فيصير مثل «عمر» المعدول عن عامر ، فلا ينصرف كما لا ينصرف «عمر». والجهة الثانية : أن يكون اسما للبقعة ، كقوله : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) (٣) ، وإذا كسر ونون فهو مثل معى. والمعنى : المقدّس مرّة بعد مرّة كما قال عديّ بن زيد :

أعاذل ، إنّ اللوم في غير كنهه

عليّ طوى من غيك المتردّد

أي : اللوم المكرّر عليّ ؛ ومن لم ينوّن جعله اسما للبقعة.

وللمفسّرين في معنى «طوى» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اسم الوادي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنّ معنى «طوى» : طأ الوادي ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وعن مجاهد كالقولين. والثالث : أنه قدّس مرّتين ، قاله الحسن وقتادة.

قوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي : اصطفيتك ، وقرأ حمزة ، والمفضّل : «وأنّا» بالنون المشدّدة

____________________________________

(٩٧٢) ضعيف جدا. أخرجه الترمذي ١٧٣٤ والطبري ٢٤٠٣٨ والحاكم ٢ / ٣٧٩ والذهبي في «الميزان» ١ / ٦١٥ من طرق عن حميد بن عبد الله الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود مرفوعا. صححه الحاكم على شرط البخاري! وتعقبه الذهبي بقوله : بل ليس على شرط البخاري وإنما غرّه أن في الإسناد حميد بن قيس كذا ، وهو خطأ. إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمارة ، أحد المتروكين. فظنه المكي الصادق. وقال الترمذي : غريب ، وحميد هو ابن علي ، سمعت محمدا ـ البخاري ـ يقول : منكر الحديث. ونقل الذهبي في «الميزان» ١ / ٦١٥ عن ابن حبان قوله : روى عن ابن مسعود نسخة كأنها موضوعة.

__________________

(١) سورة الحجر : ٨٩.

(٢) سورة المائدة : ٢١.

(٣) سورة القصص : ٣٠.

١٥٣

«اخترناك» بألف. (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) أي : للذي يوحى ، قال ابن الأنباري : الاستماع ها هنا محمول على الإنصات. المعنى : فأنصت لوحيي ، والوحي ها هنا قوله : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) أي : وحّدني ، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فيه قولان : أحدهما : أقم الصّلاة متى ذكرت أنّ عليك صلاة ، سواء كنت في وقتها أو لم تكن ، هذا قول الأكثرين.

(٩٧٣) وروى أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها ، لا كفّارة لها غير ذلك ، وقرأ : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)».

والثاني : أقم الصّلاة لتذكرني فيها ، قاله مجاهد : وقيل : إنّ الكلام مردود على قوله : (فَاسْتَمِعْ) ، فيكون المعنى : فاستمع لما يوحى ، واستمع لذكري. وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وابن السّميفع : «وأقم الصلاة للذكرى» بلامين وتشديد الذال.

قوله تعالى : (أَكادُ أُخْفِيها) أكثر القرّاء على ضمّ الألف. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أكاد أخفيها من نفسي ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد في آخرين. وقرأ ابن مسعود وأبيّ بن كعب ، ومحمّد بن عليّ : أكاد أخفيها من نفسي ، قال الفرّاء : المعنى : فكيف أظهركم عليها؟ قال المبرّد : وهذا على عادة العرب ، فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي ، أي : لم أطلع عليه أحدا. والثاني : أنّ الكلام تمّ عند قوله : «أكاد» ، وبعده مضمر تقديره : أكاد آتي بها والابتداء : أخفيها ، قال ضابئ البرجمي :

هممت ولم أفعل وكدت (٢)

أراد : كدت أفعل. والثالث : أنّ معنى «أكاد» : أريد ، قال الشاعر :

كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى (٣)

معناه : أرادت وأردت ، ذكرهما ابن الأنباري.

فإن قيل : فما فائدة هذا الإخفاء الشديد؟ فالجواب : أنه للتّحذير والتّخويف ، ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوّه كان أشدّ حذرا. وقرأ سعيد بن جبير ، وعروة بن الزّبير ، وأبو رجاء العطاردي ، وحميد بن قيس : «أخفيها» بفتح الألف ، قال الزّجّاج : ومعناه : أكاد أظهرها ، قال امرؤ القيس :

وإن تدفنوا الدّاء لا نخفه

وإن تبعثوا الحرب لا نقعد (٤)

____________________________________

(٩٧٣) صحيح. أخرجه البخاري ٥٩٧ و ٨٤٧ ومسلم ٦٨٤ وأبو داود ٤٤٢ والترمذي ١٧٨ والنسائي ٦١٤ وابن ماجة ٦٩٦ وأحمد ٣ / ٢٤٣ وأبو يعلى ٢٨٥٤ كلهم من حديث أنس.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٨ / ٤٠٢ : والذي هو أولى بتأويل الآية من القول ، قول من قال : معناه : أكاد أخفيها من نفسي لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء.

(٢) هو صدر بيت وتمامه :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

(٣) البيت غير منسوب في «اللسان» ـ كود ـ.

(٤) البيت في ديوانه ١٨٦ و «اللسان» ـ خفا ـ.

١٥٤

أي : إن تدفنوا الدّاء لا نظهره. قال : وهذه القراءة أبين في المعنى ، لأنّ معنى «أكاد أظهرها» قد أخفيتها وكدت أظهرها. (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي : بما تعمل. و (لِتُجْزى) متعلّق بقوله : «إن الساعة آتية» لتجزى ، ويجوز أن يكون على «أقم الصلاة لذكري» لتجزى.

قوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) أي : عن الإيمان بها (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) أي : من لا يؤمن بكونها ؛ والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطاب لجميع أمّته ، (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي : مراده وخالف أمر الله عزوجل ، (فَتَرْدى) أي : فتهلك ؛ قال الزّجّاج : يقال : ردي يردى ردى : إذا هلك.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) قال الزّجّاج : «تلك» اسم مبهم يجري مجرى «التي» ، والمعنى : ما التي بيمينك؟ قوله تعالى : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) التّوكّؤ : التّحامل على الشيء اليابس (وَأَهُشُّ بِها) قال الفرّاء : أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي ، قال الزّجّاج : واشتقاقه من أنّي أحيل الشيء إلى الهشاشة والإمكان. والمآرب : الحاجات ، واحدها : مأربة ، ومأربة ، وروى قتيبة ، وورش : «مآرب» بإمالة الهمزة. فإن قيل : ما الفائدة في سؤال الله تعالى له : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) وهو يعلم؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ لفظه لفظ الاستفهام ، ومجراه مجرى السؤال ، يجيب المخاطب بالإقرار به ، فتثبت عليه الحجّة باعترافه فلا يمكنه الجحد ، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء : ما هذا؟ فيقول : ماء ، فتضع عليه شيئا من الصّبغ ، فإن قال : لم يزل هكذا ، قلت له : ألست قد اعترفت بأنه ماء؟ فتثبت عليه الحجّة ، هذا قول الزّجّاج. فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرّر موسى أنها عصا لمّا أراد أن يريه من قدرته في انقلابها حيّة ، فوقع المعجز بها بعد التّثبت في أمرها. والثاني : أنه لمّا اطّلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإجلال حين التّكليم ، أراد أن يؤانسه ويخفّف عنه ثقل ما كان فيه من الخوف ، فأجرى هذا الكلام للاستئناس ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي. فإن قيل : قد كان يكفي في الجواب أن يقول : «هي عصاي» فما الفائدة في قوله : «أتوكّأ عليها» إلى آخر الكلام ، وإنما يشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه أجاب بقوله : «هي عصاي» فقيل له : ما تصنع بها؟ فذكر باقي الكلام جوابا عن سؤال ثان ، قاله ابن عباس ، ووهب. والثاني : أنه إنما أظهر فوائدها ، وبيّن حاجته إليها ، خوفا من أن يأمره بإلقائها كالنّعلين ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : أنه بيّن منافعها لئلّا يكون عابثا بحملها ، قاله الماوردي. فإن قيل : فلم اقتصر على ذكر بعض منافعها ولم يطل الشرح؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها. والثاني : أنه استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التّعداد. والثالث : أنه اقتصر على اللازم دون العارض. وقيل : كانت تضيء له بالليل ، وتدفع عنه الهوام ، وتثمر له إذا اشتهى الثّمار. وفي جنسها قولان : أحدهما : أنها كانت من آس الجنّة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها كانت من عوسج.

١٥٥

فإن قيل : المآرب جمع ، فكيف قال : «أخرى» ولم يقل : «أخر»؟ فالجواب : أنّ المآرب في معنى جماعة ، فكأنه قال : جماعة من الحاجات أخرى ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (قالَ أَلْقِها يا مُوسى) قال المفسّرون : ألقاها ، ظنّا منه أنه قد أمر برفضها ، فسمع حسّا فالتفت فإذا هي كأعظم ثعبان تمرّ بالصخرة العظيمة فتبتلعها ، فهرب منها.

وفي وجه الفائدة في إظهار هذه الآية ليلة المخاطبة قولان : أحدهما : لئلّا يخاف منها إذا ألقاها بين يدي فرعون. والثاني : ليريه أنّ الذي أبعثك إليه دون ما أريتك ، فكما ذلّلت لك الأعظم وهو الحيّة ، أذلّل لك الأدنى.

ثم إنّ الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حيّة ، فوضع يده عليها فعادت عصا ، فذلك قوله : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) قال الفرّاء : طريقتها ، يقول : تردّها عصا كما كانت ، قال الزّجّاج : «وسيرتها» منصوبة على إسقاط الخافض وإفضاء الفعل إليها ، المعنى : سنعيدها إلى سيرتها.

فإن قيل : إنما كانت العصا واحدة ، وكان إلقاؤها مرّة ، فما وجه اختلاف الأخبار عنها ، فإنه يقول في الأعراف : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١) ، وها هنا : «حية» وفي مكان آخر : (كَأَنَّها جَانٌّ) (٢) ليست بالعظيمة ، والثّعبان أعظم الحيّات؟ فالجواب : أنّ صفتها بالجانّ عبارة عن ابتداء حالها ، وبالثّعبان إخبار عن انتهاء حالها ، والحيّة اسم يقع على الصّغير والكبير والذّكر والأنثى. وقال الزّجّاج : خلقها خلق الثّعبان العظيم ، واهتزازها وحركتها وخفّتها كاهتزاز الجانّ وخفته.

قوله تعالى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) قال الفرّاء : الجناح من أسفل العضد إلى الإبط.

وقال أبو عبيدة : الجناح ناحية الجنب ، وأنشد :

أضمّه للصّدر والجناح

قوله تعالى : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : من غير برص (آيَةً أُخْرى) أي : دلالة على صدقك سوى العصا. قال الزّجّاج : ونصب «آية» على معنى : آتيناك آية ، أو نؤتيك.

قوله تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى). إن قيل : لم لم يقل : «الكبر»؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه كقوله : (مَآرِبُ أُخْرى) وقد شرحناه ، هذا قول الفرّاء. والثاني : أنّ فيه إضمارا تقديره : لنريك من آياتنا الآية الكبرى. وقال أبو عبيدة : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لنريك الكبرى من آياتنا. والثالث : أنه إنما كان ذلك لوفاق الآي ، حكى القولين الثّعلبيّ.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨))

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

قوله تعالى : (إِنَّهُ طَغى) أي : جاوز الحدّ في العصيان.

قوله تعالى : (اشْرَحْ لِي صَدْرِي) قال المفسّرون : ضاق موسى صدرا بما كلّف من مقاومة فرعون

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٠٧.

(٢) سورة النمل : ٢٠.

١٥٦

وجنوده ، فسأل الله تعالى أن يوسّع قلبه للحقّ حتى لا يخاف فرعون وجنوده. ومعنى قوله : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) : سهّل عليّ ما بعثتني له. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) قال ابن قتيبة : كانت فيه رتّة (١) قال المفسّرون : كان فرعون قد وضع موسى في حجره وهو صغير ، فجرّ لحية فرعون بيده ، فهمّ بقتله ، فقالت له آسية : إنه لا يعقل ، وسأريك بيان ذلك ، قدّم إليه جمرتين ولؤلؤتين ، فإن اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل ، فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة ، فسأل حلّها ليفهموا كلامه.

وأمّا الوزير ، فقال ابن قتيبة : أصل الوزارة من الوزر وهو الحمل ، كأنّ الوزير قد حمل عن السلطان الثّقل. وقال الزّجّاج. اشتقاقه من الوزر ، والوزر : الجبل الذي يعتصم به لينجي من الهلكة ، وكذلك وزير الخليفة ، معناه : الذي يعتمد عليه في أموره ويلتجئ إلى رأيه. ونصب «هارون» من جهتين. إحداهما : أن تكون «اجعل» تتعدّى إلى مفعولين ، فيكون المعنى : اجعل هارون أخي وزيري ، فينتصب «وزيرا» على أنه مفعول ثان. ويجوز أن يكون «هارون» بدلا من قوله : (وَزِيراً) ، فيكون المعنى : اجعل لي وزيرا من أهلي ، ثم أبدّل هارون من وزير ؛ والأوّل أجود. قال الماوردي : وإنما سأل الله تعالى أن يجعل له وزيرا ، لأنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى يكون شريكا في النّبوّة ، ولو لا ذلك لجاز أن يستوزر من غير مسألة. وحرّك ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح ياء «أخي». قوله تعالى : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) قال الفرّاء : هذا دعاء من موسى ، والمعنى : اشدد به يا ربّ أزري ، وأشركه يا ربّ في أمري. وقرأ ابن عامر : «أشدد» بالألف مقطوعة مفتوحة ، «وأشركه» بضمّ الألف ، وكذلك يبتدئ بالألفين. قال أبو عليّ : هذه القراءة على الجواب والمجازاة ، والوجه الدّعاء دون الإخبار ، لأنّ ما قبله دعاء ، ولأنّ الإشراك في النبوّة لا يكون إلّا من الله عزوجل. قال ابن قتيبة : والأزر : الظّهر ، يقال : آزرت فلانا على الأمر ، أي : قوّيته عليه وكنت له فيه ظهرا. قوله تعالى : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي : في النبوّة معي (كَيْ نُسَبِّحَكَ) أي : نصلّي لك (وَنَذْكُرَكَ) بألسنتنا حامدين لك على ما أوليتنا أي من نعمك (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي : عالما إذ خصصتنا بهذه النّعم ،

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢))

قوله تعالى : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) قال ابن قتيبة : أي : طلبتك ، وهو «فعل» من «سألت» ، أي : أعطيت ما سألت. قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) أي : أنعمنا عليك (مَرَّةً أُخْرى) قبل هذه المرّة. ثم بيّن متى كانت بقوله : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) أي : ألهمناها ما يلهم مما كان سببا لنجاتك ، ثم فسّر

__________________

(١) في «اللسان» : الرّتّة بالضم : عجلة في الكلام ، وقلة أناة ، وقيل : هو أن يقلب اللام ياء.

١٥٧

ذلك بقوله : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) وقذف الشيء : الرّمي به. فإن قيل : ما فائدة قوله : (لِما يُوحى) وقد علم ذلك؟ فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين : أحدهما : أنّ المعنى : أوحينا إليها الشيء الذي يجوز أن يوحى إليها ، إذ ليس كلّ الأمور يصلح وحيه إليها ، لأنها ليست بنبيّ ، وذلك أنها ألهمت. والثاني : أنّ (لِما يُوحى) أفاد توكيدا ، كقوله : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) (١).

قوله تعالى : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ) قال ابن الأنباري : ظاهر هذا الأمر ، ومعناه معنى الخبر ، تأويله : يلقيه اليمّ ، ويجوز أن يكون البحر مأمورا بآلة ركّبها الله تعالى فيه ، فسمع وعقل ، كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار. فأمّا السّاحل ، فهو : شطّ البحر. (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) يعني : فرعون. قال المفسّرون : اتّخذت أمّه تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا ، ووضعت فيه موسى وأحكمت بالقار شقوق التّابوت ، ثم ألقته في النّيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية ، إذا بالتّابوت ، فأمر الغلمان والجواري بأخذه ، فلما فتحوه رأوا صبيا من أصبح الناس وجها ؛ فلما رآه فرعون أحبّه حبّا شديدا ، فذلك قوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) ، قال أبو عبيدة : ومعنى «ألقيت عليك» أي : جعلت لك محبّة منّي. قال ابن عباس : أحبّه وحبّبه إلى خلقه ، فلا يلقاه أحد إلّا أحبّه من مؤمن وكافر. وقال قتادة : كانت في عينيه ملاحة ، فما رآه أحد إلّا أحبّه.

قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) وقرأ أبو جعفر : «ولتصنع» بسكون اللام والعين والإدغام. قال قتادة : لتغذى على محبتي وإرادتي. قال أبو عبيدة : على ما أريد وأحبّ. قال ابن الأنباري : هو من قول العرب : غذي فلان على عيني ، أي : على المحبّة منّي. وقال غيره : لتربّى وتغذى بمرأى منّي ، يقال : صنع الرجل جاريته : إذا ربّاها ؛ وصنع فرسه : إذا داوم على علفه ومراعاته ، والمعنى : ولتصنع على عيني ، قدّرنا مشي أختك وقولها : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) لأنّ هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله تعالى. فأمّا أخته ، فقال مقاتل : اسمها مريم. قال الفرّاء : وإنما اقتصر على ذكر المشي ، ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون فدلّتهم على الظّئر ، لأنّ العرب تجتزئ بحذف كثير من الكلام ، وبقليله ، إذا كان المعنى معروفا ، ومثله قوله : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (٢) ، ولم يقل : فأرسل حتى دخل على يوسف.

قال المفسّرون : سبب مشي أخته أنّ أمّه قالت لها : قصّيه ، فاتّبعت موسى على أثر الماء ، فلمّا التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة ، فقالت لهم أخته : «هل أدلّكم على من يكفله» أي : يرضعه ويضمّه إليه ، فقيل لها : ومن هي؟ فقالت : أمّي ، قالوا : وهل لها لبن؟ قالت : لبن أخي هارون ، وكان هارون أسنّ من موسى بثلاث سنين ، فأرسلوها ، فجاءت بالأمّ فقبّل ثديها ، فذلك قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) أي : رددناك إليها (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بك وبرؤيتك. (وَقَتَلْتَ نَفْساً) يعني : القبطي الذي وكره فقضى عليه ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) وكان مغموما مخافة أن يقتل به ، فنجاه الله بأن هرب إلى مدين ، (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : اختبرناك اختبارا ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أخلصناك إخلاصا ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثالث : ابتليناك ابتلاء ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. وقال الفرّاء : ابتليناك بغمّ

__________________

(١) سورة النجم : ٥٤.

(٢) سورة يوسف : ٤٥.

١٥٨

القتل ابتلاء. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الفتون : وقوعه في محنة بعد محنة خلّصه الله منها ، أوّلها أنّ أمّه حملته في السّنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر ، ثم منعه الرّضاع إلّا من ثدي أمّه ، ثم جرّه لحية فرعون حتى همّ بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل الدّرّة ، ثم قتله القبطيّ ، ثم خروجه إلى مدين خائفا ؛ وكان ابن عباس يقصّ هذه القصص على سعيد بن جبير ، ويقول له عند كلّ بليّة : وهذا من الفتون يا ابن جبير ؛ فعلى هذا يكون معنى «فتنّاك» خلّصناك من تلك المحن كما يفتن الذهب بالنار فيخلّص من كلّ خبث. والفتون : مصدر.

قوله تعالى : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ) تقدير الكلام : فخرجت إلى أهل مدين. ومدين : بلد شعيب ، وكان على ثماني مراحل من مصر ، فهرب إليه موسى. وقيل : مدين : اسم رجل ، وقد سبق هذا (١). وفي قدر لبثه هناك قولان : أحدهما : عشر سنين ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : ثمان وعشرون سنة ، عشر منهنّ مهر امرأته ، وثمان عشرة أقام حتى ولد له ، قاله وهب.

قوله تعالى : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) أي : جئت لميقات قدّرته لمجيئك قبل خلقك ، وكان ذلك على رأس أربعين سنة ، وهو الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء ، هذا قول الأكثرين. وقال الفرّاء : «على قدر» أي : على ما أراد الله به من تكليمه.

قوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي : اصطفيتك واختصصتك ، والاصطناع : اتّخاذ الصّنيعة ، وهو الخير تسديه إلى إنسان. وقال ابن عباس : اصطفيتك لرسالتي ووحيي (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها العصا واليد. وقد يذكر الاثنان بلفظ الجمع. والثاني : العصا واليد وحلّ العقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها ، ذكرهما ابن الأنباري. والثالث : الآيات التّسع. والأول أصحّ. قوله تعالى : (وَلا تَنِيا) قال ابن قتيبة : لا تضعفا ولا تفترا ؛ يقال : ونى يني في الأمر ؛ وفيه لغة أخرى : ونى ، يونى. وفي المراد بالذّكر ها هنا قولان (٢) : أحدهما : أنه الرّسالة إلى فرعون. والثاني : أنه القيام بالفرائض والتّسبيح والتّهليل.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨))

قوله تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) فائدة تكرار الأمر بالذّهاب ، التّوكيد. وقد فسّرنا قوله (إِنَّهُ طَغى) (٣). قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) وقرأ أبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدريّ : «لينا» بإسكان

__________________

(١) في سورة الأعراف : ٨٦.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ١٩٤ : والمراد أنهما لا يفتران عن ذكر الله ، بل يذكر ان الله في حال مواجهة فرعون ، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه ، وقوّة لهما وسلطانا كاسرا له ، كما جاء في الحديث : «إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه».

(٣) في سورة طه : ٢٤.

١٥٩

الياء ، أي : لطيفا رفيقا. وللمفسّرين فيه خمسة أقوال : أحدها : قولا له : قل : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له» ، رواه خالد بن معدان عن معاذ ، والضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنه قوله : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١) ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. والثالث : كنّياه ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال السّدّيّ. فأمّا اسمه ، فقد ذكرناه في البقرة (٢). وفي كنيته أربعة أقوال. أحدها : أبو مرّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : أبو مصعب ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. والثالث : أبو العبّاس. والرابع : أبو الوليد ، حكاهما الثّعلبيّ. والقول الرابع : قولا له : إنّ لك ربّا ، وإنّ لك معادا ، وإنّ بين يديك جنّة ونارا ، قاله الحسن. والخامس : أنّ القول اللّين : أنّ موسى أتاه ، فقال له : تؤمن بما جئت به وتعبد ربّ العالمين ، على أنّ لك شبابك فلا تهرم ، وتكون ملكا لا ينزع منك حتى تموت ، فإذا متّ دخلت الجنّة ، فأعجبه ذلك ؛ فلمّا جاء هامان ، أخبره بما قال موسى ، فقال : قد كنت أرى أنّ لك رأيا ، أنت ربّ أردت أن تكون مربوبا؟! فقلبه عن رأيه ، قاله السّدّيّ. وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ هذه الآية ، فقال : إلهي هذا رفقك بمن يقول : أنا إله ، فكيف رفقك بمن يقول : أنت إله.

قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) قال الزّجّاج : «لعلّ» في اللغة : ترجّ وطمع ، تقول : لعلّي أصير إلى خير ، فخاطب الله تعالى العباد بما يعقلون. والمعنى عند سيبويه : اذهبا على رجائكما وطمعكما. والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون ، وقد علم أنه لا يتذكّر ولا يخشى ، إلّا أنّ الحجّة إنما تجب عليه بالآية والبرهان ، وإنما تبعث الرّسل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري أيقبل منها ، أم لا ، وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم ، ومعنى «لعلّ» متصوّر في أنفسهم ، وعلى تصوّر ذلك تقوم الحجّة. قال ابن الأنباري : ومذهب الفرّاء في هذا : كي يتذكّر. وروى خالد بن معدان عن معاذ قال : والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى يتذكّر أو يخشى ، لهذه الآية ، وإنه تذكّر وخشي لمّا أدركه الغرق. وقال كعب : والذي يحلف به كعب ، إنه لمكتوب في التّوراة : فقولا له قولا ليّنا ، وسأقسّي قلبه فلا يؤمن. قال المفسّرون : كان هارون يومئذ غائبا بمصر ، فأوحى الله تعالى إلى هارون أن يتلقّى موسى ، فتلقّاه على مرحلة ، فقال له موسى : إنّ الله تعالى أمرني أن آتي فرعون ، فسألته أن يجعلك معي ؛ فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا : ربّنا إننا نخاف. قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده ، وأخبر الله عنه بالتثنية لمّا ضمّ إليه هارون ، فإنّ العرب قد توقع التثنية على الواحد ، فتقول : يا زيد قوما ، يا حرسيّ اضربا عنقه.

قوله تعالى : (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) وقرأ عبد الله بن عمرو ، وابن السّميفع ، وابن يعمر ، وأبو العالية : «أن يفرط» برفع الياء وكسر الراء. وقرأ عكرمة ، وإبراهيم النّخعيّ : «أن يفرط» بفتح الياء والراء. وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وابن محيصن : «أن يفرط» بضمّ الياء وفتح الراء. قال الزّجّاج : المعنى ، أن يبادر بعقوبتنا ، يقال : قد فرط منه أمر ، أي : قد بدر ؛ وقد أفرط في الشيء : إذا اشتطّ فيه ؛ وفرّط في الشيء : إذا قصّر ؛ ومعناه كلّه : التّقدّم في الشيء ، لأنّ الفرط في اللغة : المتقدّم.

__________________

(١) سورة النازعات : ١٨ و ١٩.

(٢) سورة البقرة : ٤٩.

١٦٠