زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

الرّسول الصّابر ليتأسّى به في صبره ، وليعلم أنّ الرّسل قبله قد كذّبوا.

قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : يعلوكم بالفضيلة ، فيصير متبوعا ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن لا يعبد شيء سواه (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) تبلّغ عنه أمره ، لم يرسل بشرا (ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يدعونا إليه نوح من التّوحيد (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ). فأمّا الجنّة فمعناها : الجنون.

وفي قوله : (حَتَّى حِينٍ) قولان : أحدهما : أنه الموت ، فتقديره : انتظروا موته. والثاني : أنه وقت منكّر. قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) وقرأ عكرمة ، وابن محيصن : «قال ربّ» بضمّ الباء ، وفي القصّة الأخرى. قوله تعالى : (بِما كَذَّبُونِ) وقرأ يعقوب : «كذّبوني» بياء ، وفي القصة التي تليها أيضا : «فاتقوني» «أن يحضروني» «ربّ ارجعوني» «ولا تكلّموني» أثبتهنّ في الحالين يعقوب ، والمعنى : انصرني بتكذيبهم ، أي : انصرني بإهلاكهم جزاء لهم بتكذيبهم. (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) قد شرحناه في هود (١) إلى قوله : (فَاسْلُكْ فِيها) أي : أدخل في سفينتك (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «من كلّ» بكسر اللام من غير تنوين. وقرأ حفص عن عاصم : (مِنْ كُلٍ) بالتنوين. قال أبو عليّ : قراءة الجمهور إضافة «كلّ» إلى «زوجين» وقراءة حفص تؤول إلى زوجين ، لأنّ المعنى : من كلّ الأزواج زوجين. قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «منزلا» بضمّ الميم. وروى أبو بكر عن عاصم فتحها. والمنزل ، بفتح الميم : اسم لكلّ ما نزلت به ، والمنزل ، بضمّها : المصدر : بمعنى الإنزال ، تقول : أنزلته إنزالا ومنزلا. وفي الوقت الذي قال فيه نوح ذاك قولان : أحدهما : عند نزوله في السفينة. والثاني : عند نزوله من السفينة.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في قصة نوح وقومه (لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا) أي : وما كنّا (لَمُبْتَلِينَ) أي : لمختبرين إيّاهم بإرسال نوح إليهم. (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) يعني عادا (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) وهو هود ، هذا قول الأكثرين ؛ وقال أبو سليمان الدّمشقي : هم ثمود ، والرسول صالح. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ) قال الزّجّاج : موضع «أنّكم» نصب على معنى : أيعدكم أنّكم مخرجون إذا متّم فلمّا طال الكلام أعيد ذكر «أنّ» كقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٢).

قوله تعالى : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) بفتح التاء فيهما في الوصل ، وإسكانها في الوقف. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو مجلز ، وهارون عن أبي عمرو : «هيهاتا هيهاتا» بالنّصب والتنوين. وقرأ ابن مسعود ، وعاصم الجحدريّ ، وأبو حيوة الحضرميّ ، وابن السّميفع : «هيهات هيهات» بالرفع والتنوين. وقرأ أبو العالية ، وقتادة : «هيهات هيهات» بالخفض والتنوين. وقرأ أبو جعفر : «هيهات هيهات» بالخفض من غير تنوين ، وكان يقف بالهاء. وقرأ أبو المتوكّل النّاجي ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : «هيهات هيهات» بالرفع من غير تنوين ، وقرأ معاذ القارئ ، وابن يعمر ، وأبو رجاء ، وخارجة عن أبي عمرو : «هيهات هيهات»

__________________

(١) سورة هود : ٣٧.

(٢) سورة التوبة : ٦٣.

٢٦١

بإسكان التاء فيهما. وفي «هيهات» عشر لغات قد ذكرنا منها سبعة عن القرّاء ، والثامنة : «إيهات» ، والتاسعة : «إيهان» بالنون ، والعاشرة : «إيها» بغير نون ، ذكرهنّ ابن القاسم ؛ وأنشد الأحوص في الجمع بين لغتين منهنّ :

تذكّر أياما مضين من الصّبا

وهيهات هيهاتا إليك رجوعها

قال الزّجّاج : فأمّا الفتح ، فالوقف فيه بالهاء ، تقول : «هيهاه» إذا فتحت ووقفت بعد الفتح ، فإذا كسرت ووقفت على التاء كنت ممّن ينوّن في الوصل ، أو كنت ممن لا ينوّن. وتأويل «هيهات» : البعد لما توعدون. وإذا قلت : «هيهات ما قلت» فمعناه : بعيد ما قلت. وإذا قلت : «هيهات لما قلت» ، فمعناه : البعد لما قلت. ويقال : «أيهات» في معنى «هيهات» ، وأنشدوا :

وأيهات أيهات العقيق ومن به

وأيهات وصل بالعقيق نواصله

قال أبو عمرو بن العلاء : إذا وقفت على «هيهات» فقل : «هيهاه» وقال الفرّاء : الكسائيّ يختار الوقف بالهاء ، وأنا أختار التاء.

قوله تعالى : (لِما تُوعَدُونَ) قرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : «ما توعدون» بغير لام. قال المفسّرون : استبعد القوم بعثهم بعد الموت إغفالا منهم للتّفكّر في بدوّ أمرهم وقدرة الله على إيجادهم ، وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدا ، (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) يعنون : ما الحياة إلّا ما نحن فيه ، وليس بعد الموت حياة. فإن قيل : كيف قالوا : (نَمُوتُ وَنَحْيا) وهم لا يقرّون بالبعث؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزّجّاج : أحدها : نموت ويحيا أولادنا ، فكأنهم قالوا : يموت قوم ويحيا قوم. والثاني : نحيا ونموت ، لأنّ الواو للجمع ، لا للتّرتيب. والثالث : ابتداؤنا موات في أصل الخلقة ، ثم نحيا ، ثم نموت.

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ) يعنون الرسول. وقد سبق تفسير ما بعد هذا (١) إلى قوله : (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) قال الزّجّاج : معناه : عن قليل ، و «ما» زائدة بمعنى التّوكيد.

قوله تعالى : (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي : على كفرهم ، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ) أي : باستحقاقهم العذاب بكفرهم. قال المفسّرون : صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم ، فصاروا لشدّتها غثاء. قال أبو عبيدة : الغثاء : ما أشبه الزّبد وما ارتفع على السّيل ونحو ذلك مما لا ينتفع به في شيء. وقال ابن قتيبة : المعنى : فجعلناهم هلكى كالغثاء ، وهو ما علا السّيل من الزّبد والقمش (٢) ، لأنه يذهب ويتفرّق. وقال الزّجّاج : الغثاء : الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إذا جرى السّيل رأيته مخالطا زبده. وما بعد هذا قد سبق شرحه (٣) إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : «تترى كلّما» منوّنة والوقف بالألف. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : بلا تنوين ، والوقف عند نافع وابن عامر ، بألف. وروى هبيرة ، وحفص عن عاصم ، أنه

__________________

(١) سورة هود : ٧ ، والنحل : ٣٨.

(٢) في «اللسان» القمش : الرديء من كل شيء ، والجمع قماش : وهو ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس : قماش. وقماش كل شيء : فتاته.

(٣) سورة الحجر : ٥.

٢٦٢

يقف بالياء ؛ قال أبو عليّ : يعني بقوله : يقف بالياء ، أي : بألف ممالة. قال الفرّاء : أكثر العرب على ترك التنوين ، ومنهم من نوّن ، قال ابن قتيبة : والمعنى : نتابع بفترة بين كلّ رسولين ، وهو من التّواتر ، والأصل : وترى ، فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التّقوى والتّخمة. وحكى الزّجّاج عن الأصمعي أنه قال : معنى واترت الخبر : أتبعت بعضه بعضا ، وبين الخبرين هنيّة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : وممّا تضعه العامّة غير موضعه قولهم : تواترت كتبي إليك ، يعنون : اتّصلت من غير انقطاع ، فيضعون التّواتر في موضع الاتّصال ، وذلك غلط ، إنما التّواتر مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه ، وهو التّفاعل من الوتر ، وهو الفرد ، يقال : واترت الخبر ، أتبعت بعضه بعضا ، وبين الخبرين هنيهة قال الله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أصلها «وترى» من المواترة فأبدلت التاء من الواو ، ومعناه : منقطعة متفاوتة ، لأنّ بين كلّ نبيّين دهرا طويلا ، وقال أبو هريرة : لا بأس بقضاء رمضان تترى ، أي : منقطعا ، فإذا قيل : واتر فلان كتبه ، فالمعنى : تابعها ، وبين كلّ كتابين فترة.

قوله تعالى : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي : أهلكنا الأمم بعضهم في إثر بعض (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) قال أبو عبيدة : أي يتمثّل بهم في الشرّ ، ولا يقال في الخير : جعلته حديثا.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨))

قوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا) أي : عن الإيمان بالله وعبادته (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أي : قاهرين للناس بالبغي والتّطاول عليهم. قوله تعالى : (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي : مطيعون. قال أبو عبيدة : كلّ من دان لملك فهو عابد له.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني : التّوراة ، أعطيها جملة واحدة بعد غرق فرعون (لَعَلَّهُمْ) يعني : بني إسرائيل ، والمعنى : لكي يهتدوا.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : «آيتين» على التّثنية ، وهذا كقوله : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً) (١) وقد سبق شرحه.

قوله تعالى : (وَآوَيْناهُما) أي : جعلناهما يأويان (إِلى رَبْوَةٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «ربوة» بضمّ الراء ، وقرأ عاصم ، وابن عامر : بفتحها. وقد شرحنا معنى الرّبوة في البقرة (٢) ، (ذاتِ قَرارٍ) أي : مستوية يستقرّ عليها ساكنوها ، والمعنى : ذات موضع قرار. وقال الزّجّاج : أي : ذات مستقرّ (وَمَعِينٍ) وهو الماء الجاري من العيون. وقال ابن قتيبة : «ذات قرار» أي : يستقرّ بها للعمارة «ومعين» هو الماء الظاهر ، ويقال : هو مفعول من العين ، كأنّ أصله معيون ، كم يقال : ثوب

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٩١.

(٢) سورة البقرة : ٢٦٥.

٢٦٣

مخيط ، وبرّ مكيل. واختلف المفسّرون في موضع هذه الرّبوة الموصوفة على أربعة أقوال (١) : أحدها : أنها دمشق ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عبد الله بن سلام ، وسعيد بن المسيّب. والثاني : أنها بيت المقدس ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث : أنها الرّملة من أرض فلسطين ، قاله أبو هريرة. والرابع : مصر ، قاله وهب بن منبّه ، وابن زيد ، وابن السّائب. فأمّا السبب الذي لأجله أويا إلى الرّبوة ، فقال أبو صالح عن ابن عباس : فرّت مريم بابنها عيسى من ملكهم ، ثم رجعت إلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة. قال وهب بن منبّه : وكان الملك أراد قتل عيسى.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين : يعني بالرّسل ها هنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع ، ويتضمّن هذا أنّ الرّسل جميعا كذا أمروا ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة ، والزّجّاج ، والمراد بالطّيّبات : الحلال. قال عمرو بن شرحبيل : كان عيسى عليه‌السلام يأكل من غزل أمّه.

قوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «وأنّ» بالفتح وتشديد النون. وافق ابن عامر في فتح الألف ، لكنه سكّن النون. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «وإنّ» بكسر الألف وتشديد النون. قال الفرّاء : من فتح ، عطف على قوله : «إني بما تعملون عليم» وبأنّ هذه أمّتكم ، فموضعها خفض لأنها مردودة على «ما» ، وإن شئت كانت منصوبة بفعل مضمر ، كأنك قلت : واعلموا هذا ؛ ومن كسر استأنف. قال أبو عليّ الفارسيّ : وأما ابن عامر ، فإنه خفّف النون المشدّدة ، وإذا خفّفت تعلّق بها ما يتعلّق بالمشدّدة. وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في الأنبياء (٢) إلى قوله : (زُبُراً) وقرأ ابن عباس ، وأبو عمران الجوني : «زبرا» برفع الزاي وفتح الباء. وقرأ أبو الجوزاء ، وابن السّميفع : «زبرا» برفع الزاي وإسكان الباء. قال الزّجّاج : من قرأ «زبرا» بضمّ الباء ، فتأويله : جعلوا دينهم كتبا مختلفة ، جمع زبور. ومن قرأ «زبرا» بفتح الباء ، أراد قطعا. قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي : بما عندهم من الدّين الذي ابتدعوه معجبون ، يرون أنهم على الحقّ. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم أهل الكتاب ، قاله مجاهد. والثاني : أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب ، قاله ابن السّائب.

__________________

(١) الصواب أنها بيت المقدس ، ولا يعني اشتهار موضع في دمشق ب «الربوة» أن يكون هو ذلك الموضع ، لأن الربوة تطلق على كل ما ارتفع من الأرض ، وقد وصف الله تلك الربوة بأنها ذات قرار أي صالحة للاستقرار.

و «معين» أي فيها نبع ماء صالحة للشرب ، وليس بالأمر اليسير انتقال مريم عليها‌السلام من بيت المقدس إلى دمشق ، ومن ذا الذي يوصلها إليه. فالصحيح أن ذلك كان في بيت المقدس أو في بيت لحم ، وغير ذلك بعيد غريب ، والله أعلم. فالصواب أنها لم تفارق موطنها الأصلي فلسطين ، وبقيت في قومها وزكريا يحوطها ويرعاها ، والله أعلم.

(٢) سورة الأنبياء : ٩٢.

٢٦٤

قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب : «في غمراتهم» على الجمع. قال الزّجّاج : في عمايتهم وحيرتهم (حَتَّى حِينٍ) أي : إلى حين يأتيهم ما وعدوا به من العذاب. قال مقاتل : يعني كفّار مكّة.

فصل : وهل هذه الآية منسوخة ، أم لا؟ فيها قولان : أحدهما : أنها منسوخة بآية السّيف. والثاني : أنّ معناها التّهديد ، فهي محكمة.

قوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) وقرأ عكرمة ، وأبو الجوزاء : «يمدّهم» بالياء المرفوعة وكسر الميم. وقرأ أبو عمران الجوني : «نمدّهم» بنون مفتوحة ورفع الميم. قال الزّجّاج : المعنى : أيحسبون أنّ الذي نمدّهم به (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) مجازاة لهم؟! إنما هو استدراج ، (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أي : نسارع لهم به في الخيرات. وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، وأيوب السّختيانيّ : «يسارع» بياء مرفوعة وكسر الراء. وقرأ معاذ القارئ ، وأبو المتوكّل مثله ، إلّا أنهما فتح الراء وقرأ أبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدريّ ، وابن السّميفع : «يسرع» بياء مرفوعة وسكون السين ونصب الراء من غير ألف. قوله تعالى : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي : لا يعلمون أنّ ذلك استدراج لهم.

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

ثم ذكر المؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) وقد شرحنا هذا المعنى في قوله : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (١).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) وقرأ عاصم الجحدريّ : «يأتون ما أتوا» بقصر همزة «أتوا».

(١٠١٦) وسألت عائشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية فقالت : يا رسول الله ، أهم الذين يذنبون وهم مشفقون؟ فقال : «لا ، بل هم الذين يصلّون وهم مشفقون ، ويصومون وهم مشفقون ، ويتصدّقون

____________________________________

(١٠١٦) حسن. أخرجه الترمذي ٣١٧٥ وابن ماجة ٤١٩٨ وأحمد ٦ / ٢٠٥ والطبري ٢٥٥٦٠ و ٢٥٥٦٢ ، والحاكم ٢ / ٣٩٤ والبيهقي في «الشعب» ٧٦٢ من طريق عبد الرحمن بن سعيد الهمداني عن عائشة به. وإسناده ضعيف ، رجاله رجال مسلم ، إلا أنه منقطع ، عبد الرحمن لم يدرك عائشة. وجرى الحاكم على ظاهره ، فصححه! وسكت الذهبي! ووصله الطبري ، فقد أخرجه ٢٥٥٥٩ من طريق عمر بن قيس عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة عن عائشة ، وإسناده ضعيف لضعف عمر بن قيس. وكرره ٢٥٥٦١ من وجه آخر عن ليث عن مغيث عن رجل من أهل مكة عن عائشة ، وإسناده ضعيف ، فيه راو لم يسمّ. وكرره ٢٥٥٦٣ من طريق ليث وهشيم عن العوام بن حوشب عن عائشة ، وهو ضعيف لانقطاعه بين عائشة والعوام. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٢٩٣ عن ليث عن عمرة عن عائشة ، وإسناده ضعيف لضعف ليث ، وهو ابن أبي سليم.

الخلاصة : هو حديث حسن صحيح ، بمجموع طرقه ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٨.

٢٦٥

وهم مشفقون أن لا يتقبّل منهم». قال الزّجّاج : فمعنى : «يؤتون» : يعطون ما أعطوا وهم يخافون أن لا يتقبّل منهم ، (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي : لأنهم يوقنون أنهم يرجعون. ومعنى «يأتون» : يعملون الخيرات وقلوبهم خائفة أن يكونوا مع اجتهادهم مقصّرين ، (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) وقرأ أبو المتوكّل ، وابن السّميفع : «يسرعون» برفع الياء وإسكان السين وكسر الراء من غير ألف. قال الزّجّاج : يقال : أسرعت وسارعت في معنى واحد ، إلّا أنّ «سارعت» أبلغ من «أسرعت» ، (وَهُمْ لَها) أي : من أجلها ، وهذا كما تقول : أنا أكرم فلانا لك ، أي : من أجلك. وقال بعض أهل العلم : الوجل المذكور ها هنا واقع على مضمر.

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧))

قوله تعالى : (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يعني : اللّوح المحفوظ (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) قد أثبت فيه أعمال الخلق ، فهو ينطق بما يعملون (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي : لا ينقصون من ثواب أعمالهم. ثم عاد إلى الكفّار ، فقال : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) قال مقاتل : في غفلة عن الإيمان بالقرآن. وقال ابن جرير : في عمى عن هذا القرآن. قال الزّجّاج : يجوز أن يكون إشارة إلى ما وصف من أعمال البرّ في قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ، فيكون المعنى : بل قلوب هؤلاء في عماية من هذا ؛ ويجوز أن يكو إشارة إلى الكتاب ، فيكون المعنى : بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطق بالحقّ وأعمالهم محصاة فيه. فخرج في المشار إليه ب «هذا» ثلاثة أقوال : أحدها : القرآن. والثاني : أعمال البرّ. والثالث : اللوح المحفوظ.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أعمال سيّئة دون الشّرك ، رواه عكرمة عن ابن عباس : والثاني : خطايا من دون ذلك الحقّ ، قاله مجاهد. وقال ابن جرير : من دون أعمال المؤمنين وأهل التّقوى والخشية. والثالث : أعمال غير الأعمال التي ذكروا بها سيعملونها ، قاله الزّجّاج. والرابع : أعمال ـ من قبل الحين الذي قدّر الله تعالى أنه يعذّبهم عند مجيئه ـ من المعاصي ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. قوله تعالى : (هُمْ لَها عامِلُونَ) إخبار بما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم لا بدّ لهم من عملها.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) أي : أغنياءهم ورؤساءهم ، والإشارة إلى قريش. وفي المراد «بالعذاب» قولان : أحدهما : ضرب السيوف يوم بدر ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضّحّاك. والثاني : الجوع الذي عذّبوا به سبع سنين ، قاله ابن السّائب. و (يَجْأَرُونَ) بمعنى : يصيحون. (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) أي : لا تستغيثوا من العذاب (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي : لا تمنعون من عذابنا. (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني : القرآن (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي : ترجعون وتتأخّرون عن الإيمان بها ، (مُسْتَكْبِرِينَ) منصوب على الحال. وقوله : (بِهِ) الكناية عن البيت الحرام ، وهي كناية عن غير مذكور ؛ والمعنى : إنّكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم ، لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في

٢٦٦

مواطنهم. تقولون : نحن أهل الحرم فلا نخاف أحدا ، ونحن أهل بيت الله وولاته ، هذا مذهب ابن عباس وغيره. قال الزّجّاج : ويجوز أن تكون الهاء في «به» للكتاب ، فيكون المعنى : تحدث لكم تلاوته عليكم استكبارا. قوله تعالى : (سامِراً) قال أبو عبيدة : معناه : تهجرون سمّارا ، والسّامر بمعنى السّمّار ، بمنزلة طفل في موضع أطفال ، وهو من سمر الليل. وقال ابن قتيبة : «سامرا» أي : متحدّثين ليلا ، والسّمر : حديث الليل. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو العالية ، وابن محيصن : «سمّرا» بضمّ السين وتشديد الميم وفتحها ، جمع سامر. قرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدريّ : «سمّارا» برفع السين وتشديد الميم وألف بعدها. قوله تعالى : (تَهْجُرُونَ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «تهجرون» بفتح التاء وضمّ الجيم. وفي معناها أربعة أقوال : أحدها : تهجرون ذكر الله والحقّ ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : تهجرون كتاب الله تعالى ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الحسن. والثالث : تهجرون البيت ، قاله أبو صالح. وقال سعيد بن جبير : كانت قريش تسمر حول البيت ، وتفتخر به ولا تطوف به. والرابع : تقولون هجرا من القول ، وهو اللّغو والهذيان ، قاله ابن قتيبة. قال الفرّاء : يقال : قد هجر الرجل في منامه : إذا هذى ، والمعنى : إنّكم تقولون في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ليس فيه وما لا يضرّه. وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن محيصن ، ونافع : «تهجرون» بضمّ التاء وكسر الجيم. قال ابن قتيبة : وهذا من الهجر ، وهو السّبّ والإفحاش من المنطق ، يريد سبّهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اتّبعه. وقرأ أبو العالية ، وعكرمة ، وعاصم الجحدريّ ، وأبو نهيك : «تهجّرون» بتشديد الجيم ورفع التاء ؛ قال ابن الأنباري : ومعناها معنى قراءة ابن عباس.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) يعني : القرآن ، فيعرفوا ما فيه من الدّلالات والعبر على صدق رسولهم (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) المعنى : أليس قد أرسل الأنبياء إلى أممهم كما أرسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) هذا توبيخ لهم ، لأنهم عرفوا نسبه وصدقة وأمانته صغيرا وكبيرا ثم أعرضوا عنه. والجنّة : الجنون ، (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) يعني القرآن.

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣))

قوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) في المراد بالحقّ قولان : أحدهما : أنه الله عزوجل ، قاله مجاهد ، وابن جريج ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أنه القرآن ، ذكره الفرّاء ، والزّجّاج. فعلى القول الأول يكون المعنى : لو جعل الله لنفسه شريكا كما يحبّون. وعلى الثاني : لو نزّل القرآن بما يحبّون من جعل شريك لله (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي : فما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي : قد تولّوا عما جاءهم من شرف الدنيا والآخرة. وقرأ ابن

٢٦٧

مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء : «بل أتيناهم بذكراهم فهم عن ذكراهم معرضون» بألف فيهما. (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) عمّا جئتهم به (خَرْجاً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : «خرجا» بغير ألف «فخراج» بألف. وقرأ ابن عامر : «خرجا» «فخرج» بغير ألف في الحرفين. وقرأ حمزة والكسائي «خراجا» بألف «فخراج» بألف في الحرفين. ومعنى «خرجا» : أجرا ومالا ، (فَخَراجُ رَبِّكَ) أي ؛ فما يعطيك ربّك من أجره وثوابه (خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : أفضل من أعطى ؛ وهذا على سبيل التّنبيه لهم أنه لم يسألهم أجرا ، لا أنه قد سألهم. والنّاكب : العادل ؛ يقال : نكب عن الطريق ، أي : عدل عنه.

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))

قوله تعالى : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ).

(١٠١٧) قال ابن عباس : الضّرّ ها هنا : الجوع الذي نزل بأهل مكّة حين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهمّ أعنّي على قريش بسنين كسني يوسف» ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكا إليه الضّرّ ، وأنهم قد أكلوا القدّ (١) والعظام ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، وهو العذاب المذكور في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ).

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يوم بدر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنّه الجوع الذي أصابهم ، قاله مقاتل. والثالث : باب من عذاب جهنّم في الآخرة ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو المتوكّل ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارئ : «مبلسون» بفتح اللام. وقد شرحنا معنى المبلس في سورة الأنعام.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما

____________________________________

(١٠١٧) أخرجه الطبري ٢٥٦٣٣ عن ابن عباس به ، وفيه يحيى بن واضح ، وفيه كلام ، وعبد المؤمن بن عثمان غير قوي. وورد من وجه آخر بنحوه عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز ـ يعني الوبر ، والدم ـ فأنزل الله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ...).

أخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٣٥٢ وفي «التفسير» ٣٧٢ والطبري ٢٥٦٣٢ والواحدي ٦٢٩ والطبراني ١١ / ٣٧٠ ح ١٢٠٣٨ والحاكم ٢ / ٣٩٤ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٩٠ من وجوه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس به ، وهو حديث حسن بطرقه. ويشهد لأصله ما أخرجه البخاري ٤٨٢٤ ومسلم ٢٧٩٨ والترمذي ٣٢٥٤ وأحمد ١ / ٣٨٠ من حديث ابن مسعود وفيه «... اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ...».

__________________

(١) في «اللسان» : القدّ : السير الذي يقدّ من الجلد.

٢٦٨

قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥))

قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) قال المفسرون : يريد أنهم لا يشكرون أصلا.

قوله تعالى : (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : خلقكم من الأرض.

قوله تعالى : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السّواد والبياض (أَفَلا تَعْقِلُونَ) مال ترون من صنعه؟! وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ) أي : قل لأهل مكّة المكذّبين بالبعث : لمن الأرض (وَمَنْ فِيها) من الخلق (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بحالها ، (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو : «لله» بغير ألف ها هنا ، وفي اللّذين بعدها بألف. وقرأ الباقون : «لله» في المواضع الثلاثة. وقراءة أبي عمرو على القياس. قال الزّجّاج : ومن قرأ : «سيقولون الله» فهو جواب السؤال ، ومن قرأ «لله» فجيّد أيضا ، لأنك إذا قلت ؛ من صاحب هذه الدّار؟ فقيل : لزيد ، جاز ، لأنّ معنى «من صاحب هذه الدّار؟» : لمن هي؟ وقال أبو عليّ الفارسيّ : من قرأ «لله» في الموضعين الآخرين ، فقد أجاب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ. وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء : «سيقولون الله» «الله» «الله» بألف فيهنّ كلّهنّ. قال أبو عليّ الأهوازي : وهو في مصاحف أهل البصرة بألف فيهنّ. قوله تعالى : (قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أنّ من قدر على خلق ذلك ابتداء ، أقدر على إحياء الأموات؟!

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩))

قوله تعالى : (أَفَلا تَتَّقُونَ) فيه قولان : أحدهما : تتّقون عبادة غيره. والثاني : تخشون عذابه. فأمّا الملكوت ، فقد شرحناه في سورة الأنعام (١).

قوله تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي : يمنع من السّوء من شاء ، ولا يمنع منه من أراده بسوء ، يقال : أجرت فلانا : أي : حميته ، وأجرت عليه : أي : حميت عنه.

قوله تعالى : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) قال ابن قتيبة : أنّى تخدعون وتصرفون عن هذا؟!.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢))

__________________

(١) سورة الأنعام : ٧٥.

٢٦٩

قوله تعالى : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) أي : بالتّوحيد والقرآن (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يضيفون إلى الله من الولد والشّريك ؛ ثم نفاهما عنه بما بعد هذا إلى قوله : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي : لانفرد بخلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ، ولمنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : غلب بعضهم بعضا. قوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : «عالم» بالخفض. وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم : «عالم» بالرّفع. قال الأخفش : الجرّ أجود ليكون الكلام من وجه واحد ، والرّفع على أن يكون خبر ابتداء محذوف. ويقوّيه أنّ الكلام الأول قد انقطع.

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

قوله تعالى : (إِمَّا تُرِيَنِّي) وقرأ أبو عمران الجوني ، والضّحّاك : «ترئنّي» بالهمز بين الراء والنون من غير ياء. والمعنى : إن أريتني ما يوعدون من القتل والعذاب ، فاجعلني خارجا عنهم ولا تهلكني بهلاكهم ؛ فأراهم الله تعالى ما وعدهم ببدر وغيرها ، ونجّاه ومن معه.

قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : ادفع إساءة المسيء بالصّفح ، قاله الحسن. والثاني : ادفع الفحش بالسّلام ، قاله عطاء ، والضّحّاك. والثالث : ادفع الشّرك بالتوحيد ، قاله ابن السّائب. والرابع : ادفع المنكر بالموعظة ، حكاه الماوردي. وذكر بعض المفسّرين أنّ هذا منسوخ بآية السيف (١).

قوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي : بما يقولون من الشرك والتّكذيب ؛ والمعنى : إنّا نجازيهم على ذلك. (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ) أي : ألجأ وأمتنع (بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) قال ابن قتيبة : هو نخسها وطعنها ، ومنه قيل للعائب : همزة ، كأنه يطعن وينخس إذا عاب. وقال ابن فارس : الهمز كالعصر ، يقال : همزت الشيء في كفّي ، ومنه الهمز في الكلام ، لأنه كأنه يضغط الحرف ، وقال غيره : الهمز في اللغة : الدّفع ، وهمزات الشّياطين : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي.

قوله تعالى : (أَنْ يَحْضُرُونِ) أي : أن يشهدون ؛ والمعنى : أن يصيبوني بسوء ، لأنّ الشيطان لا يحضر ابن آدم إلّا بسوء. ثم أخبر أنّ هؤلاء الكفار المنكرين للبعث يسألون الرّجعة إلى الدنيا عند الموت بالآية التي تلي هذه ، وقيل : هذا السؤال منهم للملائكة الذين يقبضون أرواحهم.

فإن قيل : كيف قال : «ارجعون» وهو يريد : «ارجعني»؟

فالجواب : أنّ هذا اللفظ تعرفه العرب للعظيم الشّأن ، وذلك أنه يخبر عن نفسه فيه بما تخبر به الجماعة ، كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) (٢) ، فجاء خطابه عن نفسه ، هذا قول الزّجّاج.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ

__________________

(١) وهي مطلع سورة براءة ـ التوبة.

(٢) سورة ق : ٤٣.

٢٧٠

قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤))

قوله تعالى : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) قال ابن عباس : فيما مضى من عمري ؛ وقال مقاتل : فيما تركت من العمل الصّالح. قوله تعالى : (كَلَّا) أي : لا يرجع إلى الدنيا (إِنَّها) يعني : مسألته الرجعة (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي : هو كلام لا فائدة له فيه (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمامهم وبين أيديهم (بَرْزَخٌ) قال ابن قتيبة : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة ، وكلّ شيء بين شيئين فهو برزخ. وقال الزّجّاج : البرزخ في اللغة : الحاجز ، وهو ها هنا : ما بين موت الميت وبعثه.

قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) في هذه النّفخة قولان : أحدهما : أنها النّفخة الأولى ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : أنها الثانية ، رواه عطاء عن ابن عباس.

قوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) في الكلام محذوف ، تقديره : لا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها أو يتقاطعون بها ، لأنّ الأنساب لا تنقطع يومئذ ، إنما يرفع التّواصل والتّفاخر بها.

وفي قوله : (وَلا يَتَساءَلُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : لا يتساءلون بالأنساب أن يترك بعضهم لبعض حقّه. والثاني : لا يسأل بعضهم بعضا عن شأنه ، لاشتغال كلّ واحد بنفسه. والثالث : لا يسأل بعضهم بعضا من أيّ قبيل أنت ، كما تفعل العرب لتعرف النّسب فتعرف قدر الرّجل. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) قال الزّجّاج : تلفح وتنفح بمعنى واحد ، إلّا أنّ اللفح أعظم تأثيرا ، والكالح : الذي قد تشمّرت شفته عن أسنانه ، نحو ما ترى من رؤوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمّرت الشّفاه. وقال ابن مسعود : قد بدت أسنانهم وتقلّصت شفاهم كالرأس المشيط بالنار.

(١٠١٨) وروى أبو عبد الله الحاكم في («صحيحه») من حديث أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية : «تشويه النّار فتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته الشّفلى حتى تبلغ سرّته».

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

____________________________________

(١٠١٨) ضعيف. أخرجه الترمذي ٣١٧٦ والحاكم ٢ / ٣٩٥ من حديث أبي سعيد ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب ، وصححه الحاكم! واعترضه الذهبي على أن الكلام على إسناده تقدم اه. وإسناده ضعيف لأجل دراج ، فإنه روى عن أبي الهيثم أحاديث مناكير ، كما ذكر العلماء وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» ٤٤٨٠ بتخريجنا.

٢٧١

قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ) المعنى : ويقال لهم : ألم تكن (آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني : القرآن. (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «شقوتنا» بكسر الشين من غير ألف ، وقرأ عمرو بن العاص ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو رجاء العطاردي كذلك ، إلّا أنه بفتح الشين. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، والحسن ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائيّ : «شقاوتنا» بألف مع فتح الشين والقاف ؛ وعن الحسن ، وقتادة كذلك ، إلّا أنّ الشين مكسورة. قال المفسّرون : أقرّ القوم بأنّ ما كتب عليهم من الشّقاء منعهم الهدى. قوله تعالى : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي : من النّار. قال ابن عباس : طلبوا الرّجوع إلى الدنيا (فَإِنْ عُدْنا) أي : إلى الكفر والمعاصي.

قوله تعالى : (اخْسَؤُا) قال الزّجّاج : تباعدوا تباعد سخط ، يقال : خسأت الكلب أخسؤه : إذا زجرته ليتباعد. قوله تعالى : (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي : في رفع العذاب عنكم. قال عبد الله بن عمرو : إنّ أهل جهنّم يدعون مالكا أربعين عاما ، فلا يجيبهم ، ثم يقول : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (١) ، ثم ينادون ربّهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) فيدعهم مثل عمر الدنيا ، ثم يقول : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) ثم ينادون ربّهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) فيدعهم مثل عمر الدنيا ، ثم يردّ عليهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان ، إلّا الزّفير والشّهيق.

ثم بيّن الذي لأجله أخسأهم بقوله : (إِنَّهُ) وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدريّ : «أنّه» بفتح الهمزة (كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) قال ابن عباس : يريد المهاجرين.

قوله تعالى : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) قال الزّجّاج : الأجود إدغام الذال في التاء لقرب المخرجين ، وإن شئت أظهرت ، لأنّ الذال من كلمة والتاء من كلمة والتاء ، من كلمة ، وبين الذال والتاء في المخرج شيء من التباعد. قوله تعالى : (سِخْرِيًّا) قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو حاتم عن يعقوب : «سخريّا» بضمّ السين ها هنا وفي سورة ص (٢) ، تابعهم المفضّل في ص. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : بكسر السين في السّورتين. ولم يختلف في ضمّ السين في الحرف الذي في الزّخرف. واختار الفرّاء الضمّ ، والزّجّاج الكسر. وهل هما بمعنى؟ فيه قولان : أحدهما : أنهما لغتان ومعناهما واحد ، قاله الخليل ، وسيبويه ، ومثله قول العرب : بحر لجيّ ولجّيّ ، وكوكب درّيّ ودرّيّ. والثاني : أنّ الكسر بمعنى الهمز ، والضمّ بمعنى السّخرة والاستبعاد ، قاله أبو عبيدة ، وحكاه الفرّاء ، وهو مرويّ عن الحسن ، وقتادة. قال أبو عليّ : قراءة من كسر أرجح من قراءة من ضمّ ، لأنه من الهزء ، والأكثر في الهزء كسر السين.

(١٠١٩) قال مقاتل : كان رؤوس كفار قريش كأبي جهل وعقبة والوليد قد اتّخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعمّار وبلال وخبّاب وصهيب سخريّا يستهزئون بهم ويضحكون منهم.

قوله تعالى : (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي : أنساكم الاشتغال بالاستهزاء بهم ذكري ، فنسب الفعل إلى

____________________________________

(١٠١٩) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فالخبر لا شيء.

__________________

(١) سورة الزخرف : ٧٧.

(٢) سورة ص : ٦٣.

٢٧٢

المؤمنين وإن لم يفعلوه ، لأنهم كانوا السّبب في وجوده ، كقوله : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (١). قوله تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي : على أذاكم واستهزائكم (أَنَّهُمْ) قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر : «أنّهم» بفتح الألف. وقرأ حمزة والكسائيّ : «إنّهم» بكسرها. فمن فتح «أنّهم» فالمعنى : جزيتهم بصبرهم الفور ، ومن كسر «إنهم» ، استأنف.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) قرأ نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «قال كم لبثتم» وهذا سؤال الله تعالى للكافرين. وفي وقته قولان : أحدهما : أنه يسألهم يوم البعث. والثاني : بعد حصولهم في النار. وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ : «قل كم لبثتم» وفيها قولان : أحدهما : أنه خطاب لكلّ واحد منهم ، والمعنى : قل يا أيّها الكافر. والثاني : أنّ المعنى : قولوا ، فأخرجه مخرج الأمر للواحد ، والمراد الجماعة ، لأنّ المعنى مفهوم. وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ يدغمون ثاء «لبثتم» ، والباقون لا يدغمونها ؛ فمن أدغم ، فلتقارب مخرج الثاء والتاء ، ومن لم يدغم ، فلتباين المخرجين.

وفي المراد بالأرض قولان : أحدهما : أنها القبور. والثاني : الدنيا. فاحتقر القوم ما لبثوا لما عاينوا من الأهوال والعذاب فقالوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال الفرّاء : والمعنى : لا ندري كم لبثنا. وفي المراد بالعادّين قولان : أحدهما : الملائكة ، قاله مجاهد. والثاني : الحسّاب ، قاله قتادة. وقرأ الحسن ، والزّهريّ ، وأبو عمران الجوني ، وابن يعمر : «العادين» بتخفيف الدّال.

قوله تعالى : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «قال إن لبثتم». وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «قل إن لبثتم» على معنى : قل أيّها السّائل عن لبثهم. وزعموا أنّ في مصحف أهل الكوفة «قل» في الموضعين ، فقرأهما حمزة ، والكسائيّ على ما في مصاحفهم ، أي : ما لبثتم في الأرض (إِلَّا قَلِيلاً) لأنّ مكثهم في الأرض وإن طال ، فإنه متناه ومكثهم في النار لا يتناهى. وفي قوله : (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما : لو علمتم قدر لبثكم في الأرض. والثاني : لو علمتم أنكم إلى الله ترجعون ، فعملتم لذلك.

قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ) أي : أفظننتم (أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي : للعبث ؛ والعبث في اللغة : اللّعب ، وقيل : هو الفعل لا لغرض صحيح ، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : «لا ترجعون» بضمّ التاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ بفتحها. (فَتَعالَى اللهُ) عمّا يصفه به الجاهلون من الشّرك والولد ، (الْمَلِكُ) قال الخطّابي : هو التّامّ الملك الجامع لأصناف المملوكات.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٦.

٢٧٣

وأمّا المالك : فهو الخالص الملك. وقد ذكرنا معنى «الحقّ» في سورة يونس (١).

قوله تعالى : (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) والكريم في صفة الجماد بمعنى : الحسن. وقرأ ابن محيصن : «الكريم» برفع الميم ، يعني الله عزوجل.

قوله تعالى : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي : لا حجّة له به ولا دليل ؛ وقال بعضهم : معناه : فلا برهان له به. قوله تعالى : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي : جزاؤه عند ربّه.

__________________

(١) سورة يونس : ٣٢.

٢٧٤

سورة النّور

وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

(١٠٢٠) روى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تنزلوهنّ الغرف ولا تعلّموهنّ الكتابة ، وعلّموهنّ الغزل وسورة النّور» ، يعني : النّساء.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قوله تعالى : (سُورَةٌ) قرأ الجمهور بالرّفع. وقرأ أبو رزين العقيلي ، وابن أبي عبلة ، ومحبوب عن أبي عمرو : «سورة» بالنصب. قال أبو عبيدة : من رفع ، فعلى الابتداء. وقال الزّجّاج : هذا قبيح ، لأنها نكرة ، و (أَنْزَلْناها) صفة لها ، وإنما الرّفع على إضمار : هذه سورة ، والنّصب على وجهين : أحدهما على معنى : أنزلنا سورة والثاني على معنى : أتل سورة.

قوله تعالى : (وَفَرَضْناها) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرّحمن السّلمي والحسن وعكرمة والضّحّاك والزّهري ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائيّ وأبو جعفر وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة بالتّخفيف. قال الزّجّاج : من قرأ بالتشديد فعلى وجهين : أحدهما :

على معنى التّكثير ، أي إنّنا فرضنا فيها فروضا. والثاني : على معنى : بيّنّا وفصّلنا ما فيها من الحلال والحرام ؛ ومن قرأ بالتّخفيف ، فمعناه : ألزمناكم العمل بما فرض فيها. وقال غيره : من شدّد ، أراد : فصّلنا فرائضها ، ومن خفّف ، فمعناه : فرضنا ما فيها.

قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) القراءة المشهورة بالرّفع. وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو الجوزاء ، وابن

____________________________________

(١٠٢٠) موضوع. أخرجه الحاكم ٢ / ٣٩٦ والبيهقي في «الشعب» ٢٤٥٣ من حديث عائشة وفيه عبد الوهّاب بن الضحاك ، وهو متروك متهم ، ومع ذلك ، صححه الحاكم! لكن تعقّبه الذهبي بقوله : بل موضوع ، وآفته عبد الوهّاب. قال أبو حاتم : كذاب اه. وأخرجه الخطيب ١٣ / ٢٢٤ ومن طريقه ابن الجوزي والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٠٢ والبغوي في «التفسير» ٣ / ٣٦٠ من طريقين عن محمد بن إبراهيم الشامي ، وإسناده ساقط ، فيه محمد بن إبراهيم الشامي ، قال عنه الذهبي في «الميزان» ٣ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦ : قال الدار قطني : كذاب ، وقال ابن حبان : يضع الحديث ، ثم ذكر الذهبي أحاديث ومنها حديث الباب هذا ، وقال : صدق الدار قطني. وورد من حديث ابن عباس أخرجه ابن عدي ٢ / ١٥٣ ومن طريقه ابن الجوزي ٢ / ٢٦٨ وفيه جعفر بن نصر أعله ابن عدي به ، وقال : حدّث عن الثقات بالبواطل ، وله موضوعات. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٧٢٤ بتخريجنا.

٢٧٥

أبي عبلة ، وعيسى بن عمر : «الزانية» بالنّصب. واختاره الخليل وسيبويه والرّفع اختيار الأكثرين. قال الزّجّاج : والرّفع أقوى في العربية ، لأنّ معناه : من زنى فاجلدوه ، فتأويله الابتداء ، ويجوز النّصب على معنى : اجلدوا الزّانية. فأمّا الجلد ، فهو ضرب الجلد ، يقال : جلده : إذا ضرب جلده ، كما يقال : بطنه : إذا ضرب بطنه. قال المفسّرون : ومعنى الآية : الزّانية والزّاني إذا كانا حرّين بالغين بكرين ، (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

فصل : قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : هذه الآية تقتضي وجوب الجلد على البكر والثّيّب (١). وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حقّ البكر زيادة على الجلد بتغريب عام ، وفي حقّ الثّيّب زيادة على الجلد بالرّجم بالحجارة.

(١٠٢١) فروى عبادة بن الصّامت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثّيّب بالثّيب جلد مائة ورجم بالحجارة». وممّن قال بوجوب النّفي في حقّ البكر : أبو بكر ،

____________________________________

(١٠٢١) تقدم في سورة النساء : عند الآية ١٥ و ١٦ وقد خرجه مسلم وغيره.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ١٢ / ٣٧٠ : الزنى حرام ، وهو من الكبائر العظام وقد كان حد الزاني في صدر الإسلام الحبس للثيب ، والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر. ثم نسخ بما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذهب بعض أصحابنا بجواز نسخ القرآن بالسنة ومن منع ذلك قال : ليس هذا نسخا ، وإنما هو تفسير للقرآن وتبيين له. ويمكن أن يقال إن نسخه حصل بالقرآن ، فإن الجلد في كتاب الله تعالى ، والرجم كان فيه ، فنسخ رسمه ، وبقي حكمه. وإذا زنى الحر المحصن ، أو الحرة المحصنة ، جلدا ورجما حتى يموتا ، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه‌الله ، والرواية الأخرى ، يرجمان ولا يجلدان.

وفي وجوب الرجم على الزاني المحصن ، رجلا كان أو امرأة قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج ، فإنهم قالوا : الجلد للبكر والثيب ، ولا يجوز ترك كتاب الله تعالى الثابت بطريق القطع واليقين بخبر الآحاد.

والرد عليهم ـ لقد ثبت الرجم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله وفعله ، في أخبار تشبه التواتر وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه قال : إن الله تعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأتها وعقلتها ووعيتها ، ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان ، أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحبل ، أو الاعتراف وقد قرأتها : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» متفق عليه.

وأما الجلد فنقول بها ، إن الزاني يجب جلده ، فإن كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض لنفيه. في إحدى الروايتين ، فعل ذلك علي رضي الله عنه ، وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب وأبو ذر وفي الرواية الثانية ، يرجم ولا يجلد. روي عن عمر وعثمان وابن مسعود ، والنخعي ، والزهري والأوزاعي ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي.

وإذا زنى الحر البكر ، جلد مائة ، وغرّب عاما. ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني ويجب مع الجلد تغريبه عاما في قول جمهور العلماء. وقال مالك والأوزاعي : يغرّب الرجل دون المرأة ، لأنها إن غرّبت بمحرم ، أفضى إلى تغريب من ليس بزان ، ونفي من لا ذنب له ، وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به ، ويلزم منه الزيادة على ذلك. وفوات حكمته. وفي تغريبها إغراء به ، وتمكين منه. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن : لا يجب التغريب وقول مالك فيما يقع لي ، أصح الأقوال وأعدلها.

٢٧٦

وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وابن عمر ، وممن بعدهم عطاء ، وطاوس ، وسفيان ، ومالك ، وابن أبي ليلى ، والشّافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ، وممّن قال بالجمع بين الجلد والرّجم في حقّ الثّيّب عليّ بن أبي طالب ، والحسن البصريّ ، والحسن بن صالح ، وأحمد ، وإسحاق. قال : وذهب قوم من العلماء إلى أنّ المراد بالجلد المذكور في هذه الآية : البكر ، فأمّا الثّيّب ، فلا يجب عليه الجلد ، وإنما يجب الرّجم ، روي عن عمر ، وبه قال النّخعيّ والزّهري والأوزاعي والثّوري وأبو حنيفة ومالك ، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء.

قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي وأبو رزين والضّحّاك وابن يعمر والأعمش : «يأخذكم» بالياء (بِهِما رَأْفَةٌ) قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائيّ : «رأفة» بإسكان الهمزة. وقرأ أبو المتوكّل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير : بفتح الهمزة وقصرها على وزن رعفة. وقرأ سعيد بن جبير والضّحّاك وأبو رجاء العطاردي : «رآفة» مثل سآمة وكآبة ، وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : لا تأخذكم بهما رأفة ، فتخفّفوا الضّرب ، ولكن أوجعوهما ، قاله سعيد بن المسيّب والحسن والزّهري وقتادة. والثاني : لا تأخذكم بهما رأفة فتعطّلوا الحدود ولا تقيموها ، قاله مجاهد والشّعبيّ وابن زيد في آخرين.

فصل : واختلف العلماء في شدّة الضّرب في الحدود ، فقال الحسن البصريّ : ضرب الزّنا أشدّ من القذف ، والقذف أشدّ من الشّرب ، ويضرب الشّارب أشدّ من ضرب التّعزير ، وعلى هذا مذهب أصحابنا ، وقال أبو حنيفة : التّعزير أشدّ الضّرب ، وضرب الزّنى أشدّ من ضرب الشّارب ، وضرب الشّارب أشدّ من ضرب القذف. وقال مالك : الضّرب في الحدود كلّها سواء غير مبرّح.

فصل : فأمّا ما يضرب من الأعضاء ، فنقل الميموني عن أحمد في جلد الزّاني ، قال : يجرّد ، ويعطى كلّ عضو حقّه ، ولا يضرب وجهه ولا رأسه. ونقل يعقوب بن بختان : لا يضرب الرّأس ولا الوجه ولا المذاكير ، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك : لا يضرب إلّا في الظّهر. وقال الشّافعيّ : يتّقى الفرج والوجه.

قوله تعالى : (فِي دِينِ اللهِ) فيه قولان : أحدهما : في حكمه ، قاله ابن عباس. والثاني : في طاعة الله ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) قال الزّجّاج : القراءة بإسكان اللام ، ويجوز كسرها ، والمراد بعذابهما ضربهما ، وفي المراد بالطّائفة ها هنا خمسة أقوال (١) : أحدها : الرجل فما فوقه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. وقال النّخعيّ : الواحد طائفة. والثاني : الاثنان فصاعدا ، قاله

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٩ / ٢٦٠ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قول : أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين : الواحد فصاعدا ، وذلك أن الله عمّ بقوله (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ) والطائفة : قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا ، غير أنّي وإن كان الأمر على ما وصفت أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس ، عدد من تقبل شهادته على الزنا لأن ذلك إذا كان كذلك ، فلا خلاف بين الجميع أنه قد أدى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك وهم فيما دون ذلك مختلفون.

٢٧٧

سعيد بن جبير ، وعطاء ؛ وعن عكرمة كالقولين. قال الزّجّاج : والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة ، لأنّ الطّائفة في معنى جماعة ، وأقلّ الجماعة اثنان. والثالث : ثلاثة فصاعدا ، قاله الزّهري. والرابع : أربعة ، قاله ابن زيد. والخامس : عشرة ، قاله الحسن البصريّ.

قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً).

(١٠٢٢) قال عبد الله بن عمرو : كانت امرأة تسافح ، وتشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النّفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوّجها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية.

(١٠٢٣) وقال عكرمة : نزلت في بغايا ، كنّ بمكّة ، ومنهنّ تسع صواحب رايات ، وكانت بيوتهنّ تسمّى في الجاهليّة : المواخير ، ولا يدخل عليهنّ إلّا زان من أهل القبلة ، أو مشرك من أهل الأوثان ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ ، فنزلت هذه الآية. قال المفسّرون : ومعنى الآية : الزّاني من المسلمين لا يتزوّج من أولئك البغايا إلّا زانية (أَوْ مُشْرِكَةً) لأنهنّ كذلك كنّ (وَالزَّانِيَةُ) منهنّ (لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ، ومذهب أصحابنا (١) أنه إذا زنى بامرأة ، لم يجز له أن يتزوّجها إلّا بعد التّوبة منهما.

____________________________________

(١٠٢٢) حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ٣٧٩ وأحمد ٢ / ١٥٩ ـ ٢٢٥ والحاكم ٢ / ١٩٣ والطبري ٢٥٧٤٢ والواحدي في «الأسباب» ٦٣٢ والبيهقي ٧ / ١٥٣ كلهم من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مع اختلاف يسير في ألفاظهم. وإسناده ضعيف لجهالة الحضرمي هذا ، وقد وثقه ابن حبان وحده. واعتمده الهيثمي ، فقال في «المجمع» ٧ / ٧٤ : رجال أحمد ثقات! وكذا صححه الحاكم! ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٩١ من طريق هشيم عن سليمان التيمي عن القاسم عن عبد الله بن عمرو به ، وإسناده ضعيف ، فقد سقط منه الحضرمي ، ولعل ذلك بسبب عنعنة هشيم ، فإنه مدلس ، وقد جرى الحاكم على ظاهره ، فصححه على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وليس كما قالا. وله شاهد من مرسل مجاهد ، أخرجه الطبري ٢٥٧٤٩ ومع إرساله فيه راو لم يسم ، ومع ذلك هذه الروايات تشهد للحديث الآتي وليست مخالفة له ، والله أعلم فقد تكون الحادثة مكررة والسبب واحد. وانظر «أحكام القرآن» ١٥٤٩.

(١٠٢٣) مرسل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٣١ عن عكرمة بدون إسناد. وانظر ما قبله.

__________________

(١) قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٩ / ٥٦١ : إذا زنت المرأة ، لم يحل ذلك نكاحها إلا بشرطين :

أحدهما : انقضاء عدتها ولا يحل نكاحها قبل وضع حملها. وبهذا قال مالك وأبو يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة ، وفي الأخرى قال : يحل نكاحها ويصح. وهو مذهب الشافعي لأنه وطء لا يلحق به النسب فلم يحرّم النكاح ، كما لو لم تحمل. والثاني : أن تتوب من الزنى. وبه قال قتادة ، وأبو عبيد ، وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا يشترط ذلك. وإذا وجد الشرطان حل نكاحها للزاني وغيره في قول أكثر العلم. وروي عن ابن مسعود وعائشة والبراء : أنها لا تحل للزاني بحال ، قالوا : لا يزالان زانيين ما اجتمعا ، ويحتمل أنهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة. أو قبل استبرائها فيكون كقولنا. أما تحريمها على الإطلاق فلا يصح. هذا وإن عدة الزانية كعدة المطلقة ، لأنه استبراء لحرة ، فأشبه عدة الموطوءة بشبهة. وحكى ابن أبي موسى ، أنها تستبرأ بحيضة. وأما التوبة ، فهي الاستغفار والندم والإقلاع عن الذنب ، كالتوبة من سائر الذنوب.

وهو الصحيح. وروي عن ابن عمر ، أنه قيل له : كيف تعرف توبتها؟ قال يريدها على ذلك ، فإن طاوعته لم تتب وإن أبت فقد تابت. فصار أحمد إلى قول ابن عمر اتباعا له. والصحيح الأول ، فإنه لا ينبغي لمسلم أن يدعو امرأة إلى الزنا ، ويطلبه منها ، ولا تحل الخلوة بأجنبية ولو كان في تعليمها القرآن. فلا يحل التعرض لمثل هذا. قال الطبري رحمه‌الله ٩ / ٢٦٤ : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عني

٢٧٨

قوله تعالى : (وَحُرِّمَ ذلِكَ) وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكّل وأبو الجوزاء : «وحرّم الله ذلك» بزيادة اسم الله تعالى مع فتح حروف «حرّم». وقرأ زيد بن عليّ : «وحرم ذلك» بفتح الحاء وضمّ الراء مخفّفة. ثم فيه قولان : أحدهما : أنه نكاح الزّواني ، قاله مقاتل. والثاني : الزّنا ، قاله الفرّاء.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) شرائط الإحصان في الزنا الموجب للرجم عندنا أربعة : البلوغ ، والحريّة ، والعقل ، والوطء في نكاح صحيح. فأمّا الإسلام ، فليس بشرط في الإحصان ، خلافا لأبي حنيفة ، ومالك. ومعنى الآية : يرمون المحصنات بالزّنا ، فاكتفى بذكره المتقدّم عن إعادته (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا) على ما رموهنّ به (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) عدول يشهدون أنهم رأوهنّ يفعلن ذلك (فَاجْلِدُوهُمْ) يعني القاذفين.

فصل : وقد أفادت هذه الآية أنّ على القاذف إذا لم يقم البيّنة ، الحدّ ، وردّ الشهادة وثبوت الفسق ، واختلفوا هل يحكم بفسقه وردّ شهادته بنفس القذف ، أم بالحدّ؟ فعلى قول أصحابنا : إنه يحكم بفسقه وردّ شهادته إذا لم يقم البيّنة ، وهو قول الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة ومالك : لا يحكم بفسقه ، وتقبل شهادته ما لم يقم الحدّ عليه.

فصل : والتّعريض بالقذف ـ كقوله لمن يخاصمه : ما أنت بزان ، ولا أمّك زانية ـ يوجب الحدّ في المشهور من مذهبنا. وقال أبو حنيفة : لا يوجب الحدّ. وحدّ العبد في القذف نصف حدّ الحرّ ، وهو أربعون ، قاله الجماعة ، إلّا الأوزاعيّ فإنه قال : ثمانون. فأمّا قاذف المجنون ، فقال الجماعة : لا يحدّ. وقال اللّيث : يحدّ. فأمّا الصّبيّ ، فإن كان مثله يجامع أو كانت صبيّة مثلها يجامع ، فعلى القاذف الحدّ. وقال مالك : يحدّ قاذف الصّبيّة التي يجامع مثلها ، ولا يحدّ قاذف الصّبيّ. وقال أبو حنيفة ، والشّافعيّ : لا يحدّ قاذفهما. فإن قذف رجل جماعة بكلمة واحدة ، فعليه حدّ واحد ، وإن أفرد كلّ واحد بكلمة ، فعليه لكلّ واحد حدّ ، وهو قول الشّعبيّ ، وابن أبي ليلى ؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه : عليه حدّ واحد ، سواء قذفهم بكلمة أو بكلمات.

فصل : وحدّ القذف حقّ لآدميّ ، يصحّ أن يبرئ منه ، ويعفو عنه ، وقال أبو حنيفة : هو حقّ الله عزوجل وعندنا أنه لا يستوفى إلّا بمطالبة المقذوف ، وهو قول الأكثرين. وقال ابن أبي ليلى : يحدّه

__________________

بالنكاح في هذا الموضع : الوطء ، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات وإنه لم يعن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات ، ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة. وإذا كان ذلك كذلك ، فبين أن معنى الآية : الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحل الزنا ، أو بمشركة تستحله. وقوله (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يقول : وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله ، وذلك هو النكاح الذي قال جل ثناؤه (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً). ووافقه ابن كثير رحمه‌الله ٣ / ٣٢٩ وقال : وهذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة ، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة ، لا ترى حرمة ذلك وكذلك : (الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ) أي : عاص بزناه (أَوْ مُشْرِكٌ) لا يعتقد تحريمه.

٢٧٩

الإمام وإن لم يطالب المقذوف.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي : من القذف (وَأَصْلَحُوا) قال ابن عباس : أظهروا التّوبة ؛ وقال غيره : لم يعودوا إلى قذف المحصنات ، وفي هذا الاستثناء قولان : أحدهما : أنه نسخ حدّ القذف وإسقاط الشّهادة معا ، وهذا قول عكرمة ، والشّعبيّ ، وطاوس ، ومجاهد ، والقاسم بن محمّد ، والزّهري ، والشّافعيّ ، وأحمد. والثاني : أنه يعود إلى الفسق فقط ، وأمّا الشّهادة ، فلا تقبل أبدا ، قاله الحسن ، وشريح ، وإبراهيم ، وقتادة. فعلى هذا القول انقطع الكلام عند قوله : «أبدا» ؛ وعلى القول الأول وقع الاستثناء على جميع الكلام ، وهذا أصحّ ، لأنّ المتكلّم بالفاحشة لا يكون جرما من راكبها ، فإذا قبلت شهادة المقذوف بعد ثبوته ، فالرّامي أيسر جرما ، وليس القاذف بأشدّ جرما من الكافر ، فإنه إذا أسلم قبلت شهادته.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ).

(١٠٢٤) سبب نزولها أنّ هلال بن أميّة وجد عند أهله رجلا ، فرأى بعينه وسمع بأذنه ، فلم يهجه حتى أصبح ، فغدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله : إنّي جئت أهلي ، فوجدت عندها رجلا ، فرأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء به ، واشتدّ عليه ، فقال سعد بن عبادة : الآن يضرب رسول الله هلالا ويبطل شهادته ، فقال هلال : والله إنّي لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا ، فو الله إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(١٠٢٥) وفي حديث آخر ، أنّ الرجل الذي قذفها به شريك بن سحماء ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال

____________________________________

(١٠٢٤) أخرجه أحمد ١ / ٢٣٨ والطبري ٢٥٨٢٨ من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لأجل عباد بن منصور ، لكن أصله محفوظ ، أخرجه البخاري وغيره. وانظر ما بعده وانظر «أحكام القرآن» ١٥٥٥.

(١٠٢٥) صحيح. أخرجه البخاري ٢٦٧١ و ٤٧٤٧ وأبو داود ٢٢٥٤ والترمذي ٣١٧٩ وابن ماجة ٢٠٦٧ والبيهقي ٧ / ٣٩٣ والبغوي ٢٣٧٠ كلهم من حديث ابن عباس ، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «البينة وإلا حد في ظهرك». فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد. فنزل جبريل وأنزل عليه (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) فقرأ حتى بلغ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، فانصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليها. فجاء هلال فشهد. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقّفوها وقالوا : إنها موجبة.

قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت. فقال

٢٨٠