زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

عباس. والثاني : الأبلّة ، قاله ابن سيرين. والثالث : باجروان ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي : سألاهم الضّيافة (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) روى المفضّل عن عاصم : «يضيفوهما» بضمّ الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية. وقرأ أبو الجوزاء كذلك ، إلّا أنه فتح الياء الأولى وقرأ الباقون : «يضيّفوهما» بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها. قال أبو عبيدة : ومعنى يضيّفوهما : ينزلوهما منزل الأضياف ، يقال : ضفت أنا ، وأضافني الذي ينزلني. وقال الزّجّاج : يقال : ضفت الرجل : إذا نزلت عليه ، وأضفته : إذا أنزلته وقريته. قال ابن قتيبة : يقال : ضيّفت الرجل : إذا أنزلته منزلة الأضياف ، ومنه هذه الآية ، وأضفته : أنزلته ، وضفته : نزلت عليه.

(٩٤٠) وروى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كانوا أهل قرية لئاما».

قوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً) أي : حائطا. قال ابن فارس : وجمعه جدر ، والجدر : أصل الحائط. ومنه حديث الزّبير : «ثم دع الماء يرجع إلى الجدر» (١) ، والجيدر : القصير.

قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو رجاء : «ينقاض» بألف ممدودة ، وضاد معجمة ، وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، وأبو عثمان النّهدي : «ينقاص» بألف ومدّة وصاد غير معجمة ، وكلّه بلا تشديد. قال الزّجّاج : فمعنى : ينقضّ : يسقط بسرعة ، وينقاص ، غير معجمة : ينشقّ طولا ، يقال : انقاصت سنّه : إذا انشقّت. قال ابن مقسم : يقال انقاصت سنّه ، وانقاضت ـ بالصاد ، والضاد ـ على معنى واحد.

فإن قيل : كيف نسبت الإرادة إلى ما لا يعقل؟

فالجواب : أنّ هذا على وجه المجاز تشبيها بمن يعقل ، ويريد : لأنّ هيأته في التّهيّؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين ، فوصفت بالإرادة إذ كانت الصّورتان واحدة ، وقد أضافت العرب الأفعال إلى ما لا يعقل تجوّزا ، قال الله عزوجل : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى) (٢) والغضب لا يسكت ، وإنما يسكت صاحبه ، وقال : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) (٣). وأنشدوا من ذلك :

إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل

لزمان يهمّ بالإحسان (٤)

وقال آخر :

ضحكوا والدّهر عنهم ساكت

ثم أبكاهم دما لمّا نطق

وقال آخر :

يريد الرّمح صدر أبي براء

ويرغب عن دماء بني عقيل (٥)

____________________________________

(٩٤٠) صحيح. أخرجه مسلم ٢٣٨٠ ح ١٧٢ وقد تقدم.

__________________

(١) أخرجه البخاري وغيره ، وتقدّم.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٤.

(٣) سورة محمد : ٢١.

(٤) البيت غير منسوب في «اللسان» ـ دهر ـ و «أمالي المرتضى» ٤ / ٥٥ ، وقد نسبه الآلوسي في «روح المعاني» : ١٦ / ٦ إلى حسان بن ثابت ولم يوجد في ديوانه.

(٥) البيت للراعي كما في «الكشاف» ٢ / ٦٨٩.

١٠١

وقال آخر :

يشكو إليّ جملي طول السّرى (١)

وهذا كثير في أشعارهم.

قوله تعالى : (فَأَقامَهُ) أي : سوّاه ، لأنه وجده مائلا. وفي كيفية ما فعل قولان : أحدهما : أنه دفعه بيده فقام. والثاني : هدمه ثم قعد يبنيه ، روي القولان عن ابن عباس.

قوله تعالى : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «لتخذت» بكسر الخاء ، غير أنّ أبا عمرو كان يدغم الذّال ، وابن كثير يظهرها. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «لاتّخذت» وكلّهم أدغموا ، إلا حفصا عن عاصم ، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير. قال الزّجّاج : يقال : تخذ يتخذ في معنى : اتّخذ يتّخذ. وإنما قال له هذا ، لأنهم لم يضيّفوهما. قوله تعالى : (قالَ) يعني الخضر (هذا) يعني الإنكار عليّ (فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي : هو المفرّق بيننا. قال الزّجّاج : المعنى : هذا فراق بيننا ، أي : فراق اتّصالنا ، وكرّر «بين» توكيدا ، ومثله في الكلام : أخزى الله الكاذب مني ومنك. وقرأ أبو رزين ، وابن السّميفع ، وأبو العالية ، وابن أبي عبلة : «هذا فراق» بالتنوين «بيني وبينك» بنصب النون. قال ابن عباس : كان قول موسى في السفينة والغلام ، لربّه ، وكان قوله في الجدار ، لنفسه لطلب شيء من الدنيا.

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

قوله تعالى : (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) في المراد بمسكنتهم قولان : أحدهما : أنهم كانوا ضعفاء في أكسابهم. والثاني : في أبدانهم. وقال كعب : كانت لعشرة إخوة ، خمسة زمنى ، وخمسة يعملون في البحر.

قوله تعالى : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أي : أجعلها ذات عيب ، يعني بخرقها ، (وَكانَ وَراءَهُمْ) فيه قولان : أحدهما : أمامهم ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن مسعود : «وكان أمامهم ملك». والثاني : خلفهم ؛ قال الزّجّاج : وهو أجود الوجهين. فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم كان عليه ، ولم يعلموا بخبره ، فأعلم الله تعالى الخضر خبره. قوله تعالى : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أي : كلّ سفينة صالحة. وفي قراءة أبيّ بن كعب : «كلّ سفينة صحيحة» قال الخضر : إنما خرقتها ، لأنّ الملك إذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلها فانتفعوا بها. قوله تعالى : (وَأَمَّا الْغُلامُ) روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «وأما الغلام فكان كافرا».

__________________

(١) هو صدر بيت وعجزه : «صبرا جميلا فكلانا مبتلى». وهو في «اللسان» ـ شكا ـ بلا نسبة لأحد.

١٠٢

(٩٤١) وروى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا». قال الرّبيع بن أنس : كان الغلام على الطريق لا يمرّ به أحد إلّا قتله أو غصبه ، فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه. وقال ابن السّائب : كان الغلام لصّا ، فإذا جاء من يطلبه حلف أبواه أنه لم يفعل.

قوله تعالى : (فَخَشِينا) في القائل لهذا قولان : أحدهما : الله عزوجل. ثم في معنى الخشية المضافة إليه قولان : أحدهما : أنها بمعنى : العلم. قال الفرّاء : معناه : فعلمنا. والثاني : الكراهة ، قاله الأخفش ، والزّجّاج ، وقال ابن عقيل : المعنى : فعلنا فعل الخاشي. والثاني : أنه الخضر ، فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهّم ، قاله ابن الأنباري. وقد استدلّ بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما). قال الزّجّاج : المعنى : فأراد الله ، لأنّ لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى. ومعنى (يُرْهِقَهُما) : يحملهما على الرّهق ، وهو الجهل. قال أبو عبيدة : «يرهقهما» : يغشيهما. قال سعيد بن جبير : خشينا أن يحملهما حبّه على أن يدخلا في دينه. وقال الزجّاج : فرحا به حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فرضي امرؤ بقضاء الله ، فإنّ قضاء الله للمؤمن فيما يكره ، خير له من قضائه فيما يحب. قوله تعالى : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما) قرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم : «أن يبدلهما» بالتخفيف. وقرأ نافع ، وأبو عمرو بالتشديد. قوله تعالى : (خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : دينا ، قاله ابن عباس. والثاني : عملا ، قاله مقاتل. والثالث : صلاحا ، قاله الفرّاء. قوله تعالى : (وَأَقْرَبَ رُحْماً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «رحما» ساكنة الحاء ، وقرأ ابن عامر : «رحما» مثقّلة. وعن أبي عمرو كالقراءتين. وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، وأبو رجاء : «رحما» بفتح الراء ، وكسر الحاء. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : أوصل للرّحم وأبرّ للوالدين ، قاله ابن عباس ، وقتادة. وقال الزّجّاج : أقرب عطفا وأمسّ بالقرابة. ومعنى الرّحم والرّحم في اللغة : العطف والرّحمة ، قال الشاعر :

وكيف بظلم جارية

ومنها اللّين والرّحم (١)

والثاني ؛ أقرب أن يرحما به ، قاله الفرّاء ، وفيما بدّلا به قولان : أحدهما : جارية ، قاله الأكثرون. وروى عطاء عن ابن عباس ، قال : أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيّا. والثاني : غلام مسلم ، قاله ابن جريج.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) يعني : القرية المذكورة في قوله تعالى : (أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) ، قال مقاتل : واسمهما : أصرم ، وصريم.

قوله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) فيه ثلاثة أقوال (٢) :

____________________________________

(٩٤١) صحيح. أخرجه مسلم ٢٣٨٠ ح ١٧٢ عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر به مطولا. وأخرجه أبو داود ٤٧٠٥ ، وأحمد ٥ / ١٢١ ، وابن حبان ٦٢٢١ من طرق عن معتمر به. وأخرجه أبو داود ٤٧٠٦ والترمذي ٣١٥٠ من طريقين عن أبي إسحاق به. وكلهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب به.

__________________

(١) البيت في «اللسان» ـ رحم ـ و «تفسير القرطبي» بدون نسبة.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ٢٦٩ : وأولى التأولين في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله عكرمة ، لأن المعروف

١٠٣

(٩٤٢) أحدها : أنه كان ذهبا وفضّة ، رواه أبو الدّرداء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الحسن ، وعكرمة ، وقتادة : كان مالا. والثاني : أنه كان لوحا من ذهب ، فيه مكتوب : عجبا لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ، عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجبا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، عجبا لمن يوقن بالرّزق كيف يتعب ، عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، عجبا لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها ، أنا الله الذي لا إله إلّا أنا ، محمّد عبدي ورسولي ؛ وفي الشّقّ الآخر : أنا الله لا إله إلّا أنا وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشّرّ ، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه ، والويل لمن خلقته لمن خلقته للشرّ وأجريته على يديه ، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن الأنباري : فسمّي كنزا من جهة الذّهب ، وجعل اسمه هو المغلّب. والثالث : كنز علم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وقال مجاهد : صحف فيها علم وبه قال سعيد بن جبير ، والسّدّيّ. قال ابن الأنباري : فيكون المعنى على هذا القول : كان تحته مثل الكنز ، لأنه يتعجّل من نفعه أفضل مما ينال من الأموال. قال الزّجّاج : والمعروف في اللغة : أنّ الكنز إذا أفرد ، فمعناه : المال المدفون المدّخر ، فإذا لم يكن المال ، قيل : عنده كنز علم ، وله كنز فهم ، والكنز ها هنا بالمال أشبه ، وجائز أن يكون الكنز كان مالا ، مكتوب فيه علم ، على ما روي ، فهو مال وعلم عظيم.

قوله تعالى : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاحا. وقال جعفر بن محمّد : كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء. وقال مقاتل : كان أبوهما ذا أمانة. قوله تعالى : (فَأَرادَ رَبُّكَ) قال ابن الأنباري : لمّا كان قوله : «فأردت» «فأردنا» كلّ واحد منهما يصلح أن يكون خبرا عن الله عزوجل ، وعن الخضر ، أتبعهما بما يحصر الإرادة عليه ، ويزيلها عن غيره ، ويكشف البغية من اللفظتين الأوليين. وإنما قال : «فأردت» «فأردنا» «فأراد ربّك» ، لأنّ العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتّفاقه مع تساوي المعاني ، لأنه أعذب على الألسن ، وأحسن موقعا في الأسماع ، فيقول الرجل : قال لي فلان كذا ، وأنبأني بما كان ، وخبّرني بما نال. فأمّا «الأشدّ» فقد سبق ذكره في مواضع (١). ولو أنّ الخضر لم يقم الحائط لنقض وأخذ ذلك الكنز قبل بلوغهما. قوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي : رحمهما‌الله بذلك. (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) قال قتادة : كان عبدا مأمورا. فأمّا قوله : (تَسْطِعْ) فإنّ «استطاع» و «اسطاع» بمعنى واحد.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ

____________________________________

(٩٤٢) ضعيف جدا. أخرجه الترمذي ٣١٥٢ والحاكم ٢ / ٣٦٩ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ١٦٢ وابن عدي في «الكامل» ٧ / ٢٦٨ من حديث أبي الدرداء. وضعفه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ٧٤٢ وفي إسناده يزيد بن يوسف الصنعاني ، وهو متروك. قلت : وهذا الخبر وإن لم يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمعناه صحيح وهو أن الكنز إنما هو مال أو ذهب أو فضة.

__________________

من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من مال ، وأن كل ما كنز فقد وقع عليه اسم الكنز ، فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل ، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك.

(١) عند الآيات في الأنعام : ١٥٢ ويوسف : ٢٢ والإسراء : ٣٤.

١٠٤

شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨))

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (١). واختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال (٢) : أحدها : عبد الله ، قاله عليّ رضي الله عنه ، وروي عن ابن عباس أنه عبد الله بن الضّحّاك. والثاني : الإسكندر ، قاله وهب. والثالث : عيّاش ، قاله محمّد بن عليّ بن الحسين. والرابع : الصّعب بن جابر بن القلمس ، ذكره ابن أبي خيثمة. وفي علّة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال : أحدها : أنه دعا قومه إلى الله تعالى ، فضربوه على قرنه فهلك ، فغبر زمانا ، ثم بعثه الله ، فدعاهم إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك ، فذانك قرناه ، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني : أنه سمّي بذي القرنين ، لأنه سار إلى مغرب الشمس وإلى مطلعها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : لأنّ صفحتي رأسه كانتا من نحاس. والرابع : لأنه رأى في المنام كأنه امتدّ من السماء إلى الأرض وأخذ بقرني الشمس ، فقصّ ذلك على قومه ، فسمّي بذي القرنين. والخامس : لأنه ملك الرّوم وفارس. والسادس : لأنه كان في رأسه شبه القرنين ، رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبّه. والسابع : لأنه كانت له غديرتان من شعر ، قاله الحسن. قال ابن الأنباري : والعرب تسمّي الضّفيرتين من الشّعر غديرتين ، وجميرتين ، وقرنين ؛ قال : ومن قال : سمّي بذلك لأنه ملك فارس والروم ، قال : لأنهما عاليان على جانبين من الأرض يقال لهما : قرنان. والثامن : لأنه كان كريم الطّرفين من أهل بيت ذوي شرف. والتاسع : لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس ، وهو حيّ. والعاشر : لأنه سلك الظّلمة والنّور ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو إسحاق الثّعلبيّ.

واختلفوا هل كان نبيّا ، أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنه كان نبيّا ، قاله عبد الله بن عمرو ، والضّحّاك بن مزاحم. والثاني : أنه كان عبدا صالحا ، ولم يكن نبيّا ، ولا ملكا ، قاله عليّ رضي الله تعالى عنه. وقال وهب : كان ملكا ، ولم يوح إليه.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨٥.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ١٢٨ : ذكر الأزرقي وغيره أن الإسكندر الأول المذكور في القرآن هو الذي طاف بالبيت مع إبراهيم عليه‌السلام أول ما بناه وآمن به واتبعه. وكان معه الخضر عليه‌السلام. وقرّب إلى الله قربانا وقد ذكرنا طرفا صالحا من أخباره في كتاب «البداية والنهاية» بما فيه الكفاية ولله الحمد. وأما الإسكندر الثاني الذي كان من الروم بن فيليبس المقدوني اليوناني الذي تؤرخ به الروم وقد كان قبل المسيح عليه‌السلام بنحو من ثلاثمائة سنة. والحديث الذي روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عن ذي القرنين : «أنه شاب من الروم ، وأنه بنى الإسكندرية ...» فيه طول ونكارة ورفعه لا يصح وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل اه.

قلت : هذا الحديث ضعيف جدا ، وهو مرسل ، ولو صح هذا مرفوعا لما اختلف الناس في سبب تسميته بذلك ، والأشبه كونه من كلام بعض أئمة التفسير. وقد أخرجه الطبري ٢٣٢٧٥. وله ثلاث علل ضعف ابن لهيعة وشيخه عبد الرحمن بن غنم ، وجهالة رواته ، فهو شبه موضوع. وانظر «تفسير القرطبي» ٤١٩٢ و «تفسير الشوكاني» ١٥٢٤ بتخريجنا.

١٠٥

وفي زمان كونه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه من القرون الأوّل من ولد يافث بن نوح ، قاله عليّ رضي الله تعالى عنه. والثاني : أنه كان بعد ثمود ، قاله الحسن. ويقال : كان عمره ألفا وستمائة سنة. والثالث : أنه كان في الفترة بين عيسى ومحمّد صلى الله عليهما وسلّم ، قاله وهب.

قوله تعالى : (سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) أي : خبرا يتضمّن ذكره. (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي : سهّلنا عليه السّير فيها. قال عليّ رضي الله عنه : إنه أطاع الله ، فسخّر له السّحاب فحمله عليه ، ومدّ له في الأسباب ، وبسط له النّور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ، وقال مجاهد : ملك الأرض أربعة : مؤمنان ، وكافران ؛ سليمان بن داود ، وذو القرنين ؛ والكافران : النّمرود ، وبخت نصّر. قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قال ابن عباس : علما يتسبّب به إلى ما يريد. وقيل : هو العلم بالطّرق والمسالك. قوله تعالى : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «فاتّبع سببا» «ثم اتّبع سببا» «ثم اتّبع سببا» مشدّدات التاء. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «فأتبع سببا» «ثم أتبع سببا» «ثم أتبع سببا» مقطوعات. قال ابن الأنباري : من قرأ «فاتّبع سببا» فمعناه : قفا الأثر ، ومن قرأ «فأتبع» فمعناه : لحق ؛ يقال : اتّبعني فلان ، أي تبعني ، كما يقال : الحقني ، بمعنى : لحقني. وقال أبو عليّ : «أتبع» تقديره : أتبع سببا سببا ، فأتبع ما هو عليه سببا ، والسّبب : الطريق ، والمعنى : تبع طريقا يؤدّيه إلى مغرب الشمس. وكان إذا ظهر على قوم أخذ منهم جيشا فسار بهم إلى غيرهم.

قوله تعالى : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «حمئة» ، وهي قراءة ابن عباس. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «حامية» ، وهي قراءة عمرو ، وعليّ ، وابن مسعود ، وابن الزّبير ، ومعاوية ، وأبي عبد الرّحمن ، والحسن ، وعكرمة ، والنّخعيّ ، وقتادة ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، والأعمش ، كلّهم لم يهمز. قال الزّجّاج : فمن قرأ : «حمئة» أراد في عين ذات حمأة. يقال : حمأت البئر : إذا أخرجت حمأتها ؛ وأحمأتها : إذا ألقيت فيها الحمأة. وحمئت فهي حمئة : إذا صارت فيها الحمأة. ومن قرأ : «حامية» بغير همز ؛ أراد : حارّة. وقد تكون حارّة ذات حمأة. وروى قتادة عن الحسن ، قال : وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القدور (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) لباسهم جلود السّباع ، وليس لهم طعام إلّا ما أحرقت الشمس من الدّوابّ إذا غربت نحوها ، وما لفظت العين من الحيتان إذا وقعت فيها الشّمس. وقال ابن السّائب : وجد عندها قوما مؤمنين وكافرين ، يعني عند العين. وربما توهّم متوهّم أنّ هذه الشمس على عظم قدرها تغوص بذاتها في عين ماء ، وليس كذلك. فإنها أكبر من الدنيا مرارا ، فكيف يسعها عين ماء ، وقيل : إن الشمس بقدر الدنيا مائة وخمسين مرة ، وقيل : بقدر الدنيا مائة وعشرين مرة ، والقمر بقدر الدنيا ثمانين مرة وإنما وجدها تغرب في العين كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طرفه أنّ الشمس تغيب في الماء ، وذلك لأنّ ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان فوجد عينا حمئة ليس بعدها أحد.

قوله تعالى : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) فمن قال : إنه نبيّ ، قال : هذا القول وحي ؛ ومن قال : ليس بنبيّ ، قال : هذا إلهام. قوله تعالى : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) قال المفسّرون : إمّا أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليهم ، وإمّا أن تأسرهم ، فتبصّرهم الرّشد. (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي : أشرك (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل إذا لم يرجع عن الشّرك. وقال الحسن : كان يطبخهم في القدور ، (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) بعد العذاب (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) بالنار.

١٠٦

قوله تعالى : (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «جزاء الحسنى» برفع مضاف. قال الفرّاء : «الحسنى» : الجنة ، وأضيف الجزاء إليها ، وهي الجزاء ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١)) (١) (دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٢) (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) (٣) قال أبو عليّ الفارسيّ : المعنى : فله جزاء الخلال الحسنى ، لأنّ الإيمان والعمل الصالح خلال. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم ، وخلف ، ويعقوب : «جزاء» بالنصب والتنوين ؛ قال الزّجّاج : وهو مصدر منصوب على الحال ، المعنى : فله الحسنى مجزيّا بها جزاء. قال ابن الأنباري : وقد يكون الجزاء غير الحسنى إذا تأوّل الجزاء بأنه الثواب ؛ والحسنى : الحسنة المكتسبة في الدنيا ، فيكون المعنى : فله ثواب ما قدّم من الحسنات.

قوله تعالى : (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي : نقول له قولا جميلا.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١))

قوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي : طريقا آخر يوصله إلى المشرق. قال قتادة : مضى يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إلّا من آمن حتى أتى مطلع الشمس فأصاب قوما في أسراب عراة ، ليس لهم طعام إلّا ما أحرقت الشمس إذا طلعت ، فإذا توسّطت السماء خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم ممّا أحرقته الشمس. وبلغنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان ، فيقال : إنهم الزّنج. وقال الحسن : إذا غربت الشمس خرجوا يتراعون كما يتراعى الوحش. وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، وابن محيصن : «مطلع الشمس» بفتح اللام. قال ابن الأنباري : ولا خلاف بين أهل العربية في أنّ المطلع ، والمطلع كلاهما يعنى بهما المكان الذي تطلع منه الشمس. ويقولون : ما كان على فعل يفعل ، فالمصدر واسم الموضع يأتيان على المفعل ، كقولهم : المدخل ، للدّخول ، والموضع الذي يدخل منه ، إلا أحد عشر حرفا جاءت مكسورة إذا أريد بها المواضع ، وهي : المطلع ، والمسكن ، والمنسك ، والمشرق ، والمغرب ، والمسجد ، والمنبت ، والمجزر ، والمفرق ، والمسقط ، والمهبل ، الموضع الذي تضع فيه النّاقة ؛ وخمسة من هؤلاء الأحد عشر حرفا سمع فيهنّ الكسر والفتح : المطلع ، والمطلع. والمنسك ، والمنسك. والمجزر ، والمجزر. والمسكن ، والمسكن. والمنبت ، والمنبت ؛ فقرأ الحسن على الأصل من احتمال المفعل الوجهين الموصوفين ، بفتح العين وكسرها وقراءة العامّة على اختيار العرب وما كثر على ألسنتها ، وخصّت الموضع بالكسر ، وآثرت المصدر بالفتح. قال أبو عمرو : المطلع ، بالكسر : الموضع الذي تطلع فيه ؛ والمطلع ، بالفتح : الطّلوع ؛ قال ابن الأنباري : هذا هو الأصل ، ثم إن العرب تتسع فتجعل الاسم نائبا عن المصدر ، فيقرؤون : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٤) بالكسر وهم يعنون الطّلوع ؛ ويقرأ من قرأ (مَطْلِعَ الشَّمْسِ) بالفتح على أنه موضع بمنزلة المدخل الذي هو اسم للموضع الذي يدخل منه.

__________________

(١) سورة الحاقة : ٥١.

(٢) سورة البينة : ٥.

(٣) سورة النحل : ٣٠.

(٤) سورة القدر : ٥.

١٠٧

قوله تعالى : (كَذلِكَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها. والثاني : أتبع سببا كما أتبع سببا. والثالث : كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم ، كذلك وجد هؤلاء عند مطلعها وحكم فيهم. والرابع : أنّ المعنى : كذلك أمرهم كما قصصنا عليك ؛ ثم استأنف فقال : (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ) أي : بما عنده ومعه من الجيوش والعدد. وحكى أبو سليمان الدّمشقي : «بما لديه» أي : بما عند مطلع الشمس. وقد سبق معنى الخبر (١).

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨))

قوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي : طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) قال وهب بن منبه : هما جبلان منيفان في السماء ، من ورائهما البحر ، ومن أمامهما البلدان ، وهما بمنقطع أرض التّرك مما يلي بلاد أرمينيّة. وروى عطاء الخراسانيّ عن ابن عباس قال : الجبلان من قبل أرمينيّة وأذربيجان. واختلف القرّاء في «السدّين» فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بفتح السين. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائيّ بضمّها. وهل المعنى واحد ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنه واحد. قال ابن الأعرابيّ : كلّ ما قابلك فسدّ ما وراءه ، فهو سدّ ، وسدّ ، نحو : الضّعف والضّعف ، والفقر والفقر. قال الكسائيّ ، وثعلب : السّدّ والسّدّ لغتان بمعنى واحد ، وهذا مذهب الزّجّاج. والثاني : أنهما يختلفان.

وفي الفرق بينهما قولان : أحدهما : أنّ ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم ، وما هو من فعل الآدميين فهو مفتوح ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وأبو عبيدة. قال الفرّاء : وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين. والثاني : أنّ السّدّ ، بفتح السين : الحاجز بين الشيئين ، والسدّ ، بضمّها :

الغشاوة في العين ، قاله أبو عمرو بن العلاء.

قوله تعالى : (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) يعني : أمام السّدّ (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «يفقهون» بفتح الياء ، أي : لا يكادون يفهمونه. قال ابن الأنباري : كقوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٢) قال المفسّرون : وإن كانوا كذلك لأنهم لا يعرفون غير لغتهم. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «يفقهون» بضمّ الياء ، أراد : يفهمون غيرهم. وقيل : كلّم ذا القرنين عنهم مترجمون ترجموا.

قوله تعالى : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) هما : اسمان أعجميّان ، وقد همزهما عاصم. قال الليث : الهمز لغة رديئة. قال ابن عباس : يأجوج رجل ، وهما ابنا يافث بن نوح عليه‌السلام ، فيأجوج ومأجوج عشرة

__________________

(١) سورة الكهف : ٦٨.

(٢) سورة البقرة : ٧١.

١٠٨

أجزاء ، وولد آدم كلّهم جزء ، وهم شبر وشبران وثلاثة أشبار. وقال عليّ رضي الله عنه : منهم من طوله شبر ، ومنهم من هو مفرط في الطّول ، ولهم من الشّعر ما يواريهم من الحرّ والبرد. وقال الضّحّاك : هم جيل من التّرك. وقال السّدّيّ : التّرك سريّة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير ، فجاء ذو القرنين فضرب السّدّ ، فبقيت خارجه.

(٩٤٣) وروى شقيق عن حذيفة ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يأجوج ومأجوج ، فقال : «يأجوج أمّة ، ومأجوج أمّة ، كلّ أمّة أربعمائة ألف أمّة ، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه كلّ قد حمل السلاح» قلت : يا رسول الله ، صفهم لنا ، قال : «هم ثلاثة أصناف ، صنف منهم أمثال الأرز» ؛ قلت : يا رسول الله : وما الأرز؟ قال : «شجر بالشّام ، طول الشّجرة عشرون ومائة ذراع في السماء ؛ وصنف منهم عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ، ويلتحف بالأخرى ولا يمرّون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلّا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مقدّمتهم بالشّام ، وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبريّة».

قوله تعالى : (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) في هذا الفساد أربعة أقوال : أحدها : أنهم كانوا يفعلون فعل قوم لوط ، قاله وهب بن منبّه. والثاني : أنهم كانوا يأكلون الناس ، قاله سعيد بن عبد العزيز. والثالث : يخرجون إلى الأرض الذين شكوا منهم أيام الرّبيع ، فلا يدعون شيئا أخضر إلّا أكلوه ، ولا يابسا إلّا احتملوه إلى أرضهم ، قاله ابن السّائب. والرابع : كانوا يقتلون الناس ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «خرجا» بغير ألف. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «خراجا» بألف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان : أحدهما : أنهما لغتان بمعنى واحد ، قاله أبو عبيدة ، والليث. والثاني : أنّ الخرج : ما تبرّعت به ، والخراج : ما لزمك أداؤه ، قاله أبو عمرو بن العلاء. قال المفسّرون : المعنى : هل نخرج إليك من أموالنا شيئا كالجعل لك؟

قوله تعالى : (ما مَكَّنِّي) وقرأ ابن كثير : «مكّنني» بنونين ، وكذلك هي في مصاحف مكّة. قال الزّجّاج : من قرأ : «مكّنّي» بالتشديد ، أدغم النون في النون لاجتماع النونى. ومن قرأ : «مكّنني» أظهر النونين ، لأنهما من كلمتين ، الأولى من الفعل ، والثانية تدخل مع الاسم المضمر.

وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان : أحدهما : أنه العلم بالله ، وطلب ثوابه. والثاني : ما ملك من الدنيا. والمعنى : الذي أعطاني الله خير ممّا تبذلون لي.

قوله تعالى : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) فيها قولان : أحدهما : أنها الرجال ، قاله مجاهد ، ومقاتل. والثاني : الآلة ، قاله ابن السّائب. فأمّا الرّدم ، فهو : الحاجز ؛ قال الزّجّاج : والرّدم في اللغة أكبر من السّدّ ، لأنّ الرّدم : ما جعل بعضه على بعض ، يقال : ثوب مردّم : إذا كان قد رقّع رقعة فوق رقعة. قوله تعالى :

____________________________________

(٩٤٣) موضوع. أخرجه ابن عدي ٦ / ١٦٩ وابن الجوزي في «الموضوعات» ١ / ٢٠٦ من حديث حذيفة ، وأعله ابن عدي بمحمد بن إسحاق العكاشي ، وأنه يضع الحديث ، وحكم هو وابن الجوزي بوضعه.

وانظر «تفسير القرطبي» ٤١٩٧ بتخريجنا.

١٠٩

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) قرأ الجمهور : «ردما آتوني» أي : أعطوني. وروى أبو بكر عن عاصم : «ردم ائتوني» بكسر التنوين ، أي : جيئوني بها. قال ابن عباس : احملوها إليّ. وقال مقاتل : أعطوني. وقال الفرّار : المعنى : ائتوني بها ، فلمّا ألقيت الياء زيدت ألف. فأمّا الزّبر ، فهي : القطع ، واحدتها : زبرة ؛ والمعنى : فأتوه بها فبناه ، (حَتَّى إِذا ساوى) وروى أبان «إذا سوّى» بتشديد الواو من غير ألف. قال الفرّاء : ساوى وسوّى سواء. واختلف القرّاء في (الصَّدَفَيْنِ) فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «الصّدفين» بضمّ الصاد والدال ، وهي : لغة حمير. وروى أبو بكر والمفضّل عن عاصم : «الصّدفين» بضمّ الصاد وتسكين الدال. وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم ، وخلف ، بفتح الصاد والدال جميعا ، وهي لغة تميم ، واختارها ثعلب. وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ؛ وابن يعمر : «الصّدفين» بفتح الصاد ورفع الدال. وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران ، والزّهريّ ، والجحدريّ برفع الصاد وفتح الدال. قال ابن الأنباري : ويقال : صدف ، على مثال نغر ، وكلّ هذه لغات في الكلمة. قال أبو عبيدة : الصّدفان : جنبا الجبل. قال الأزهريّ يقال لجانبي الجبل : صدفان ، إذا تحاذيا ، لتصادفهما ، أي : لتلاقيهما. قال المفسّرون : حشا ما بين الجبلين بالحديد ، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم ، ووضع عليها المنافيخ ، ثم (قالَ انْفُخُوا) فنفخوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ) يعني : الحديد ، وقيل : الهاء ترجع إلى ما بين الصّدفين (ناراً) أي : كالنار ، لأنّ الحديد إذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار ، (قالَ آتُونِي) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائيّ : «آتوني» ممدودة ، والمعنى : أعطوني ، وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «ائتوني» مقصورة ؛ والمعنى : جيئوني به أفرغه عليه.

وفي القطر أربعة أقوال : أحدها : أنه النّحاس ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والفرّاء ، والزّجّاج. والثاني : أنه الحديد الذّائب ، قاله أبو عبيدة. والثالث : الصّفر المذاب ، قاله مقاتل. والرابع : الرّصاص ، حكاه ابن الأنباري. قال المفسّرون : أذاب القطر ثم صبّه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلا صلدا من حديد وقطر. قال قتادة : فهو كالبرد المحبّر ، طريقة سوداء وطريقة حمراء. قوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا) أصله : فما «استطاعوا» فلمّا كانت التاء والطاء من مخرج واحد أحبّوا التخفيف فحذفوا. قال ابن الأنباري : إنما تقول العرب : اسطاع ، تخفيفا ، كما قالوا : سوف يقوم ، أو سو يقوم ، فأسقطوا الفاء. قوله تعالى : (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي : يعلوه ؛ يقال : ظهر فلان فوق البيت : إذا علاه ، والمعنى : ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وامّلاسه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) من أسفله ، لشدّته وصلابته.

(٩٤٤) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ يأجوج ومأجوج ليحفرون السّدّ كلّ يوم ،

____________________________________

(٩٤٤) أخرجه ابن ماجة ٤١٩٩ والحاكم ٤ / ٤٤٨ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ١٦٨ من طريق قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة به. وصححه الحاكم على شرطهما ، وسكت الذهبي! وقال البوصيري : إسناده صحيح ، رجاله ثقات. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ١١٠ : إسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا نقبه ، لإحكام بنائه وصلابته ثم ذكر ابن كثير أحاديث صحيحة مثل «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وهذا متفق عليه ، وفيه أن ما فتح من الردم شيء يسير ، فهو يخالف ما ذكره المصنف من الحديث ، وأنه يظهر لهم شعاع الشمس ، والله أعلم ، وانظر بقية كلام ابن كثير عند هذه الآية بتخريجي ، وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٣٠. بتخريجنا.

١١٠

حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا ، فستحفرونه غدا ، فيعودون إليه ، فيرونه كأشدّ ما كان ، حتى إذا بلغت مدّتهم ، وأراد الله عزوجل أن يبعثهم على الناس ، حفروا ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذين عليهم : ارجعوا ، فستحفرونه غدا إن شاء الله ، ويستثني ، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون على الناس» وذكر باقي الحديث ؛ وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب «الحدائق» فكرهت التّطويل ها هنا.

قوله تعالى : (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) لمّا فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا. وفيما أشار إليه قولان : أحدهما : أنه الرّدم ، قاله مقاتل ؛ قال : فالمعنى : هذا نعمة من ربّي على المسلمين لئلّا يخرجوا إليهم. والثاني : أنه التّمكين الذي أدرك به عمل السّدّ ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) فيه قولان : أحدهما : القيامة. والثاني : وعده لخروج يأجوج ومأجوج.

قوله تعالى : (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «دكّا» منونا غير مهموز ولا ممدود. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : دكّاء مهموزة بلا تنوين. وقد شرحنا معنى الكلمة في سورة الأعراف (١). قوله تعالى : (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي : بالثواب والعقاب.

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١))

قوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) في المشار إليهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم يأجوج ومأجوج. ثم في المراد ب «يومئذ» قولان : أحدهما : أنه يوم انقضى أمر السّدّ ، تركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين لكثرتهم ؛ وقيل : ماجوا متعجّبين من السّدّ. والثاني : أنه يوم يخرجون من السّدّ تركوا يموج بعضهم في بعض. والثاني : أنهم الكفّار. والثالث : أنهم جميع الخلائق : الجنّ والإنس يموجون حيارى. فعلى هذين القولين ، المراد باليوم المذكور يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هذه نفخة البعث. وقد شرحنا معنى «الصّور» في سورة الأنعام (٢). قوله تعالى : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) أي : أظهرناها لهم حتى شاهدوها. قوله تعالى : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ) يعني : أعين قلوبهم (فِي غِطاءٍ) أي : في غفلة (عَنْ ذِكْرِي) أي : عن توحيدي والإيمان بي وبكتابي (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) هذا لعداوتهم وعنادهم وكراهتهم ما ينذرون به ، كما تقول لمن يكره قولك : ما تقدر أن تسمع كلامي.

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢))

قوله تعالى : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : أفظنّ المشركون (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) في هؤلاء العباد ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الشياطين ، قاله ابن عباس. والثاني : الأصنام ، قاله مقاتل. والثالث : الملائكة والمسيح وعزير وسائر المعبودات من دونه ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. قوله تعالى : (مِنْ دُونِي) فتح هذه الياء نافع ، وأبو عمرو. وجواب الاستفهام في هذه الآية محذوف ، وفي تقديره قولان : أحدهما :

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٤٣.

(٢) سورة الأنعام : ٧٣.

١١١

أفحسبوا أن يتّخذوهم أولياء ، كلا بل هم أعداء لهم يتبرّؤون منهم. والثاني : أن يتّخذوهم أولياء ولا أغضب ولا أعاقبهم. وروى أبان عن عاصم ، وزيد عن يعقوب : «أفحسب» بتسكين السين وضمّ الباء ، وهي قراءة عليّ ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وابن محيصن ؛ ومعناها : أفيكفيهم أن يتّخذوهم أولياء؟ فأمّا النّزل ففيه قولان : أحدهما : أنه ما يهيّأ للضّيف والعسكر ، قاله ابن قتيبة. والثاني : أنه المنزل ، قاله الزّجّاج.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦))

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) فيهم قولان : أحدهما : أنهم القسّيسون والرّهبان ، قاله عليّ ، والضّحّاك. والثاني : اليهود والنّصارى ، قاله سعد بن أبي وقّاص.

قوله تعالى : (أَعْمالاً) منصوب على التّمييز ، لأنه لمّا قال : (بِالْأَخْسَرِينَ) كان ذلك مبهما لا يدلّ على ما خسروه ، فبيّن ذلك في أيّ نوع وقع. قوله تعالى : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) أي : بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا ، وهم يظنّون أنهم محسنون بأفعالهم. فرؤساؤهم يعلمون الصحيح ، ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم ، وأتباعهم مقلّدون بغير دليل. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) جحدوا دلائل توحيده ، وكفروا بالبعث والجزاء ، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، صاروا كافرين بهذه الأشياء (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي : بطل اجتهادهم ، لأنه خلا عن الإيمان (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) وقرأ ابن مسعود ، والجحدريّ : «فلا يقيم» بالياء. وفي معناه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه إنما يثقل الميزان بالطاعة ، وإنما توزن الحسنات والسّيئات ، والكافر لا طاعة له. والثاني : أنّ المعنى : لا نقيم لهم قدرا. قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية : يقال : ما لفلان عندنا وزن ، أي : قدر ، لخسّته. فالمعنى : أنهم لا يعتدّ بهم ، ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة.

(٩٤٥) روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يؤتى بالرّجل الطّويل الأكول الشّروب فلا يزن جناح بعوضة ، اقرءوا إن شئتم : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)».

والثالث : أنه قال : «فلا نقيم لهم» لأنّ الوزن عليهم لا لهم ، ذكره ابن الأنباري.

قوله تعالى : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) أي : الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخسّة قدرهم ، ثم ابتدأ فقال : (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) ، وقيل : المعنى : ذلك التّصغير لهم ، وجزاؤهم جهنّم ، فأضمرت واو الحال. قوله تعالى : (بِما كَفَرُوا) أي : بكفرهم واتّخاذهم (آياتِي) التي أنزلتها (وَرُسُلِي هُزُواً) أي : مهزوءا به.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨))

____________________________________

(٩٤٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٢٩ ومسلم ٢٧٨٥ والواحدي في الوسيط ٣ / ١٧٠ والبيهقي في «الشعب» ٥٦٧٠ كلهم عن أبي هريرة مرفوعا.

١١٢

قوله تعالى : (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) قال ابن الأنباري : كانت لهم في علم الله قبل أن يخلقوا. وروى البخاريّ ومسلم في (الصّحيحين) من حديث أبي موسى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٩٤٦) «جنان الفردوس أربع ، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وثنتان من فضّة حليتهما وآنيتهما وما فيها ، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن».

(٩٤٧) وروى عبادة بن الصّامت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الجنّة مائة درجة ، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض ، الفردوس أعلاها ، ومنها تفجّر أنهار الجنّة ، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس». قال أبو أمامة : الفردوس سرّة الجنّة. قال مجاهد : الفردوس : البستان بالرّوميّة. وقال كعب ، والضّحّاك : «جنات الفردوس» : جنّات الأعناب. قال الكلبيّ ، والفرّاء : الفردوس : البستان الذي فيه الكرم. وقال المبرّد : الفردوس فيما سمعت من كلام العرب : الشجر الملتفّ ، والأغلب عليه العنب. وقال ثعلب : كلّ بستان يحوّط عليه فهو فردوس ، قال عبد الله بن رواحة:

في جنان الفردوس ليس يخافون

خروجا عنها ولا تحويلا

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : قال الزّجّاج : الفردوس أصله روميّ أعرب ، وهو البستان ، كذلك جاء في التّفسير ، وقد قيل : الفردوس تعرفه العرب ، وتسمّي الموضع الذي فيه كرم : فردوسا. وقال أهل اللغة : الفردوس مذكّر ، وإنما أنّث في قوله تعالى : (يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١). لأنه عنى به الجنّة. وقال الزّجّاج : وقيل : الفردوس : الأودية التي تنبت ضروبا من النّبت ، وقيل : هو بالرّوميّة منقول إلى لفظ العربية ، قال : والفردوس أيضا بالسّريانيّة كذا لفظه : فردوس ، قال : ولم نجده في أشعار العرب إلّا في شعر حسّان ، وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كلّ ما يكون في البساتين ، لأنه عند أهل كلّ لغة كذلك ، وبيت حسّان :

فإنّ ثواب الله كلّ موحّد

جنان من الفردوس فيها يخلّد (٢)

____________________________________

(٩٤٦) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٧٨ و ٤٨٨٠ و ٧٤٤٤ ومسلم ١٨٠ والترمذي ٢٥٢٨ وابن ماجة ١٨٦ وابن أبي عاصم في «السنة» ٦١٣ وأحمد ٤ / ٤١١ والدولابي في «الكنى» ٢ / ٧١ وابن أبي داود في «البعث» ٥٩ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٦ وابن حبان ٧٣٨٦ والبيهقي في «الاعتقاد» ص ١٣٠ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٧٥ والذهبي في «تذكرة الحفاظ» ١ / ٢٧٠ من طرق عن أبي موسى الأشعري. وأخرجه أحمد ٤ / ٤١٦ وابن أبي شيبة ١٣ / ١٤٨ والدارمي ٢ / ٣٣٣ والطيالسي ٥٢٩ وابن مندة في «التوحيد» ٧٨١ من طريق أبي قدامة الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني به وأتم منه وكلهم عن أبي موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن».

(٩٤٧) صحيح. أخرجه الترمذي ٢٥٣١ وأحمد ٥ / ٣١٦ والطبري ٢٣٤٠٦ و ٢٣٤٠٧ والحاكم ١ / ٨٠ والبيهقي في «البعث» ٢٤٨ من حديث عبادة بن الصامت ، وإسناده صحيح. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وله شواهد كثيرة عند الطبري والبيهقي. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٣٦ بتخريجنا.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١١.

(٢) البيت في ديوانه : ١٥٠ واللسان ـ فردس ـ.

١١٣

وقال ابن الكلبي بإسناده : الفردوس : البستان بلغة الرّوم ، وقال الفرّاء : وهو عربيّ أيضا ، والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوسا. وقال السّدّيّ : الفردوس أصله بالنّبطيّة «فرداسا». وقال عبد الله بن الحارث : الفردوس : الأعناب. وقد شرحنا معنى قوله : «نزلا» (١) آنفا.

قوله تعالى : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) قال الزّجّاج : لا يريدون عنها تحوّلا ، يقال : قد حال من مكانه حولا ، كما قالوا في المصادر : صغر صغرا ، وعظم عظما ، وعادني حبّها عودا ؛ قال : وقد قيل أيضا : إنّ الحول : الحيلة ، فيكون المعنى : لا يحتالون منزلا غيرها.

فإن قيل : قد علم أنّ الجنّة كثيرة الخير ، فما وجه مدحها بأنهم لا يبغون عنها حولا؟

فالجواب : أنّ الإنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه ، فيحب أن ينتقل إلى دار أخرى ، وقد يملّ ، والجنّة على خلاف ذلك.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩))

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٢) قالت اليهود : كيف وقد أوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس (٣). ومعنى الآية : لو كان ماء البحر مددا يكتب به. قال مجاهد : والمعنى : لو كان البحر مدادا للقلم ، والقلم يكتب. وقال ابن الأنباري : سمّي المداد مدادا لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء. وقرأ الحسن ، والأعمش : «مددا لكلمات ربّي» بغير ألف. قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : «تنفد» بالتاء. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «ينفد» بالياء. قال أبو عليّ : التأنيث أحسن ، لأنّ المسند إليه الفعل مؤنّث ، والتّذكير حسن ، لأنّ التأنيث ليس بحقيقي ، وإنما لم تنفد كلمات الله ، لأنّ كلامه صفة من صفات ذاته ، ولا يتطرّق على صفاته النّفاد ، (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ) أي : بمثل البحر (مَدَداً) أي : زيادة ؛ والمدد : كلّ شيء زاد في شيء. فإن قيل : لم قال في أوّل الآية : «مددا» وفي آخرها : «مددا» وكلاهما بمعنى واحد ، واشتقاقهما غير مختلف؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباريّ فقال : لمّا كان الثاني آخر آية ، وأواخر الآيات ها هنا أتت على الفعل ، والفعل ، كقوله تعالى : «نزلا» «هزوا» «حولا» كان قوله : «مددا» أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد ، واتّفاق المقاطع عند أواخر الآي ، وانقضاء الآيات ، وتمام السّجع والنّثر ، أخفّ على الألسن ، وأحلى موقعا في الأسماع ، فاختلفت اللفظتان لهذه العلّة. وقد قرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وابن محيصن : «ولو جئنا بمثله مددا» فحملوها على الأولى ، ولم ينظروا إلى المقاطع. وقراءة الأوّلين أبين حجّة ، وأوضح منهاجا.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) قال ابن عباس : علّم الله تعالى رسوله التّواضع لئلّا يزهى

__________________

(١) سورة الكهف : ١٠٢.

(٢) سورة الإسراء : ٨٥.

(٣) تقدم.

١١٤

على خلقه ، فأمره أن يقرّ على نفسه بأنه آدميّ كغيره ، إلّا أنه أكرم بالوحي. قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) سبب نزولها أنّ جندب بن زهير العامريّ قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(٩٤٨) إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرّني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا الطّيّب ، ولا يقبل ما روئي فيه» فنزلت فيه هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(٩٤٩) وقال طاوس : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّي أحبّ الجهاد في سبيل الله وأحبّ أن يرى مكاني ، فنزلت هذه الآية.

(٩٥٠) وقال مجاهد : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني أتصدّق ، وأصل الرّحم ، ولا أصنع ذلك إلّا لله تعالى ، فيذكر ذلك منّي وأحمد عليه فيسرّني ذلك وأعجب به ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية.

وفي قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا) قولان : أحدهما : يخاف ، قاله ابن قتيبة. والثاني : يأمل ، وهو اختيار الزّجّاج. قال ابن الأنباري : المعنى : فمن كان يرجو لقاء ثواب ربّه. قال المفسّرون. وذلك يوم البعث والجزاء. (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) لا يرائي به (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) قال سعيد بن جبير : لا يرائي. قال معاوية بن أبي سفيان : هذه آخر آية نزلت من القرآن.

____________________________________

(٩٤٨) واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٠٤ عن ابن عباس بدون سند. وأخرجه ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة وابن عساكر عن طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس كما في «الدر» ٤ / ٤٥٩. وهذا إسناد ضعيف جدا ، فيه السدي ، وهو محمد بن مروان ، متروك متهم ، والكلبي هو محمد بن السائب متروك متهم بالكذب أيضا. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٣٨ بتخريجنا.

(٩٤٩) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٣٤٢٧ وعبد الرزاق في «تفسيره» ١٧٢٨ عن طاوس مرسلا.

(٩٥٠) هذا مرسل. ثم إن السورة مكية والخبر مدني ، فهو واه ، ولا يصح في سبب نزول هذه الآية شيء.

١١٥

سورة مريم

وهي مكّيّة بإجماعهم من غير خلاف علمناه. وقال مقاتل : هي مكّيّة غير سجدتها ، فإنها مدنيّة. وقال هبة الله المفسّر : هي مكّيّة غير آيتين منها ، قوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) والتي تليها (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

قوله تعالى : (كهيعص) قرأ ابن كثير : (كهيعص (١) ذِكْرُ) بفتح الهاء والياء وتبيين الدال التي في هجاء «صاد». وقرأ أبو عمرو : «كهيعص» بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال ، وكان نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح ، ولا يدغم الدال التي في هجاء «صاد» في الذال من «ذكر». وقرأ أبو بكر عن عاصم ، والكسائيّ ، بكسر الهاء والياء. إلّا أنّ الكسائيّ لا يبيّن الدال ، وعاصم يبيّنها. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان. وقرأ أبيّ بن كعب : «كهيعص» برفع الهاء وفتح الياء. وقد ذكرنا في أوّل «البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس. وقد خصّ المفسّرون هذه الحروف المذكورة ها هنا بأربعة أقوال (٢) :

أحدها : أنها حروف من أسماء الله عزوجل ، قاله الأكثرون. ثم اختلف هؤلاء في الكاف من أيّ اسم هو ، على أربعة أقوال. أحدها : أنه من اسم الله الكبير. والثاني : من الكريم. والثالث : من الكافي ، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع : أنه من الملك ، قاله محمّد بن كعب. فأمّا الهاء ، فكلّهم قالوا : هي من اسمه الهادي ، إلّا القرظي فإنه قال : من اسمه الله. وأمّا الياء ، ففيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها من حكيم. والثاني : من رحيم. والثالث : من أمين ، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس. فأمّا العين ، ففيها أربعة أقوال : أحدها : أنها من عليم. والثاني :

__________________

(١) سورة مريم : ٥٩ ، ٦٠.

(٢) تقدم الكلام على الحروف المقطّعة في أول سورة البقرة.

١١٦

من عالم. والثالث : من عزيز ، رواها أيضا سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع : أنها من عدل ، قاله الضّحّاك. وأما الصاد ، ففيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها من صادق. والثاني : من صدوق ، رواهما سعيد أيضا عن ابن عباس. والثالث : أنها من الصّمد ، قاله محمّد بن كعب.

والقول الثاني : أنّ «كهيعص» قسم أقسم الله تعالى به ، وهو من أسمائه ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : هو اسم من أسماء الله تعالى. وروي عنه أنه كان يقول : يا كهيعص اغفر لي. قال الزّجّاج : والقسم بهذا والدّعاء لا يدلّ على أنه اسم واحد ، لأنّ الدّاعي إذا علم أنّ الدّعاء بهذه الحروف يدلّ على صفات الله تعالى فدعا بها ، فكأنه قال : يا كافي ، يا هادي ، يا عالم ، يا صادق ، وإذا أقسم بها ، فكأنه قال : والكافي الهادي العالم الصّادق ، وأسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجّ ، النيّة فيها الوقف. والثالث : أنه اسم للسورة ، قاله الحسن ، ومجاهد. والرابع : اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة.

فإن قيل : لم قالوا : هايا ، ولم يقولوا في الكاف : كا ، وفي العين : عا ، وفي الصّاد : صا ، لتتّفق المباني كما اتّفقت العلل؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : حروف المعجم التّسعة والعشرون تجري مجرى الرّسالة والخطبة ، فيستقبحون فيها اتّفاق الألفاظ واستواء الأوزان ، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم ، فيغيّرون بعض الكلم ليختلف الوزن وتتغيّر المباني ، فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الأسماع.

قوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) قال الزّجّاج : الذّكر مرفوع بالمضمر ، المعنى : هذا الذي نتلو عليك ذكر رحمة ربّك عبده. قال الفرّاء : وفي الكلام تقديم وتأخير ؛ المعنى : ذكر ربّك عبده بالرّحمة ، و «زكريا» في موضع نصب.

قوله تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ) النداء ها هنا بمعنى الدّعاء. وفي علّة إخفائه لذلك ثلاثة أقوال : أحدها : ليبعد عن الرّياء ، قاله ابن جريج. والثاني : لئلّا يقول الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر ، قاله مقاتل. والثالث : لئلا يعاديه بنو عمّه ، ويظنّوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. وهذه القصة تدلّ على أنّ المستحبّ إسرار الدعاء ، ومنه الحديث : «إنكم لا تدعون أصمّ». قوله تعالى : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) وقرأ معاذ القارئ ، والضّحّاك : «وهن» بضم الهاء ، أي :ضعف. قال الفرّاء وغيره : وهن العظم ، ووهن ، بفتح الهاء وكسرها ؛ والمستقبل على الحالين كليهما : يهن. وأراد أنّ قوّة عظامه قد ذهبت لكبره ؛ وإنما خصّ العظم ، لأنه الأصل في التّركيب. وقال قتادة : شكا ذهاب أضراسه. قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) يعني : انتشر الشّيب فيه ، كما ينتشر شعاع النار في الحطب ، وهذا من أحسن الاستعارات. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ) أي : بدعائي إيّاك (رَبِّ شَقِيًّا) أي : لم أكن لأتعب بالدّعاء ثم أخيّب ، لأنك قد عوّدتني الإجابة ؛ يقال : شقي فلان بكذا : إذا تعب بسببه ، ولم ينل مراده.

قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) يعني : الذين يلونه في النّسب ، وهم بنو العمّ والعصبة (مِنْ وَرائِي) أي : من بعد موتي. وفي ما خافهم عليه قولان :

أحدهما : أنه خاف أن يرثوه ، قاله ابن عباس. فإن اعترض عليه معترض ، فقال : كيف يجوز لنبيّ

١١٧

أن ينفس على قراباته بالحقوق المفروضة لهم بعد موته؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه لمّا كان نبيّا ، والنبيّ لا يورث ، خاف أن يرثوا ماله فيأخذوا ما لا يجوز لهم. والثاني : أنه غلب عليه طبع البشر ، فأحبّ أن يتولّى ماله ولده ، ذكرهما ابن الأنباري. قلت : وبيان هذا أنه لا بدّ أن يتولّى ماله وإن لم يكن ميراثا ، فأحبّ أن يتولّاه ولده.

والقول الثاني : أنه خاف تضييعهم للدّين ونبذهم إيّاه ، ذكره جماعة من المفسّرين.

وقرأ عثمان ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمرو ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن أبي سرح. عن الكسائيّ : «خفّت» بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى «قلت» ؛ فعلى هذا يكون إنما خاف على علمه ونبوّته ألّا يورثا فيموت العلم. وأسكن ابن شهاب الزّهريّ ياء «الموالي».

قوله تعالى : (مِنْ وَرائِي) أسكن الجمهور هذه الياء ، وفتحها ابن كثير في رواية قنبل. وروى عنه شبل : «وراي» مثل «عصاي».

قوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي : من عندك (وَلِيًّا) أي : ولدا صالحا يتولّاني.

قوله تعالى : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «يرثني ويرث» برفعهما. وقرأ أبو عمرو ، والكسائيّ : «يرثني ويرث» بالجزم فيهما. قال أبو عبيدة : من قرأ بالرّفع ، فهو على الصّفة للوليّ ؛ فالمعنى : هب لي وليّا وارثا ، ومن جزم ، فعلى الشّرط والجزاء ، كقولك : إن وهبته لي ورثني.

وفي المراد بهذا الميراث أربعة أقوال (١) : أحدها : يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال أبو صالح. والثاني : يرثني العلم ، ويرث من آل يعقوب الملك ، فأجابه الله تعالى إلى وراثة العلم دون الملك ، وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا. والثالث : يرثني نبوّتي وعلمي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة أيضا ، قاله الحسن. والرابع : يرثني النبوّة ، ويرث من آل يعقوب الأخلاق ، قاله عطاء ، قال مجاهد : كان زكريّا من ذريّة يعقوب. وزعم الكلبيّ أنّ آل يعقوب كانوا أخواله ، وأنه ليس بيعقوب أبي يوسف. وقال مقاتل : هو يعقوب بن ماثان ، وكان يعقوب هذا وعمران ـ أبو مريم ـ أخوين. والصحيح : أنه لم يرد ميراث المال لوجوه : أحدها : أنه قد صحّ. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(٩٥١) «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة».

____________________________________

(٩٥١) أخرجه النسائي في «الكبرى» ٦٣٠٩ من طريق أحمد بن منصور عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الزهري عن مالك بن أوس من حديث عمر. وقد تفرد النسائي من بين الأئمة الستة بهذا اللفظ ، ورواية الأئمة لهذا الحديث هي بدون لفظ «معشر الأنبياء» ولم ينفرد أحمد بن منصور عن ابن عيينة بهذا اللفظ ، بل تابعه ـ

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ١٤٢ : سأل الله عزوجل ولدا يكون نبيا من بعده ، ليسوس الناس بنبوته وما يوحى إليه لا أنه خشي وراثتهم له ماله ، فإن النبي أعظم منزلة وأجلّ قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حدّه أن يأنف من وراثة عصابته له ، ويسأل أن يكون له ولد ، ليحوز ميراثه دونهم. ولم يذكر أنه كان ذا مال ، بل كان نجارا يأكل من عمل يده. وقد ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة».

١١٨

____________________________________

الحميدي كما في «الفتح» ١٢ / ٨. وأخرجه ابن عبد البر ٨ / ١٧٥ من طريق مالك عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر عن أبي بكر مرفوعا ، ومالك فمن فوقه رجال البخاري ومسلم ، لكن الوهم ممن دون مالك فقد رواه الثقات عن مالك دون هذه اللفظة.

وأخرجه باللفظ المذكور الهيثم بن كليب كما في «الفتح» ١٢ / ٨ من حديث أبي بكر.

وأخرجه الدار قطني في «العلل» كما في «الفتح» ١٢ / ٨ من حديث أم هانئ عن فاطمة ، عن أبي بكر مرفوعا ، وسكت عليه الحافظ ، وهو غريب جدا من هذا الوجه.

وورد من حديث أبي هريرة ، أخرجه أحمد ٢ / ٤٦٣ / ٩٦٥٥ من طريق الثوري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا به.

وأخرجه ابن عبد البر ٨ / ١٧٥ من طريق الحميدي عن ابن عيينة عن أبي الزناد به.

فهذه أشهر الكتب التي أوردت هذه اللفظة عن هؤلاء الأئمة. والحديث ورد عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما بدون هذه اللفظة وإنما هو بلفظ «لا نورث ، ما تركنا صدقة» وفي رواية زيد في أوله «إنا». أخرجه البخاري ٤٠٣٥ و ٤٠٣٦ و ٤٢٤٠ و ٢٢٤١ و ٦٧٢٥ و ٦٧٢٦ ومسلم ١٧٥٩ وأبو داود ٢٩٦٩ و ٢٩٧٠ وأحمد ١ / ٩ ـ ١٠ وابن حبان ٤٨٢٣ من حديث عائشة عن أبي بكر مرفوعا ، وله قصة. وورد من مسند أبي بكر وعمر ، أخرجه البخاري ٢٩٠٤ و ٣٠٩٤ ومسلم ١٧٥٧ وأبو داود ٢٩٦٣ والترمذي ١٦١٠ والحميدي ٢٢ وعبد الرزاق ٩٧٧٢ وأحمد ١ / ٢٥ وأبو يعلى ٢ و ٣ و ٤ وابن حبان ٦٦٠٨ مطولا. وورد من مسند عائشة رضي الله عنها ، أخرجه البخاري ٤٠٣٤ و ٦٧٣٠ ومسلم ١٧٥٨ وأبو داود ٢٩٧٦ و ٢٩٧٧ وأحمد ٦ / ١٤٥ وابن سعد ٢ / ٣١٤ وابن حبان ٦٦١١ والبيهقي ٦ / ٣٠٢.

ـ وورد من مسند أبي هريرة ، بلفظ «لا يقتسم ورثتي بعدي دينارا ، ما تركت بعد نفقة عيالي ومؤونة عاملي صدقة». أخرجه البخاري ٢٧٧٦ و ٣٠٩٦ و ٦٧٢٩ ومسلم ١٧٦٠ وأبو داود ٢٩٧٤ ومالك ٢٠ / ٩٩٣ وابن سعد ٢ / ٣١٤ والحميدي ١١٣٤ وابن حبان ٦٦٠٩ و ٦٦١٠ و ٦٦١٢ والبيهقي ٦ / ٣٠٢ من طرق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به.

وهذا هو اللفظ المشهور في حديث أبي هريرة ، وهكذا رواه مالك في «الموطأ» وأصحاب الصحيح والكتب المشهورة. وهو عند مسلم هكذا من طريق ابن عيينة ، وهذا هو الصحيح في هذا المتن.

وللحديث شواهد أخرى ، تبلغ به حد الصحة. دون لفظ «معاشر الأنبياء».

ـ وقال الحافظ في «الفتح» ١٢ / ٨ ما ملخصه : وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» فقد أنكره جماعة من الأئمة ، لكن أخرجه النسائي ... فذكر الطرق التي ذكرتها في أول هذا البحث ، وقد نقلت عن الحافظ بعض ذلك ، والله أعلم.

قال ابن عبد البر في «التمهيد» ٨ / ١٧٤ ـ ١٧٥ ما ملخصه بعد أن ذكر حديث الباب : وفي حديثنا المذكور تفسير لقول الله عزوجل (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) و (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ...) وتخصيص للعموم في ذلك ، وإن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده ، وإنما ورث منه الحكمة والعلم ، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب وعلى هذا جماعة أهل العلم وسائر المسلمين إلا الروافض ، وكذلك قولهم في (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) لا يختلفون في ذلك ، إلا ما روي عن الحسن قال : يرثني : مالي ، ويرث من آل يعقوب : النبوة والحكمة ، والدليل على صحة ما قال علماء المسلمين ما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنا معاشر الأنبياء ...» اه ... باختصار.

وقال النووي رحمه‌الله في «شرح مسلم» ١٢ / ٨١ : ثم إن جمهور العلماء على أن جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يورثون ، وحكى القاضي ـ عياض ـ عن الحسن أنه قال : عدم الإرث بينهم مختص بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى عن زكريا و (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وزعم أن المراد وراثة المال ، وقال : لو أراد

١١٩

والثاني : أنه لا يجوز أن يتأسّف نبيّ الله على مصير ماله بعد موته إذا وصل إلى وارثه المستحقّ له شرعا. والثالث : أنه لم يكن ذا مال.

(٩٥٢) وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ زكريّا كان نجّارا.

قوله تعالى : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) قال اللغويون : أي : مرضيّا ، فصرف عن مفعول إلى فعيل ، كما قالوا : مقتول وقتيل.

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) في الكلام إضمار ، تقديره : فاستجاب الله له فقال : «يا زكريّا إنا نبشرك». وقرأ حمزة : «نبشرك» بالتّخفيف. وقد شرحنا هذا في سورة آل عمران (١). قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) فيه ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : لم يسمّ يحيى قبله ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وقتادة ، وابن زيد ، والأكثرون. فإن اعترض معترض ، فقال : ما وجه المدحة باسم لم يسمّ به أحد قبله ، ونرى كثيرا من الأسماء لم يسبق إليها؟ فالجواب : أنّ وجه الفضيلة أنّ الله تعالى تولّى تسميته ، ولم يكل ذلك إلى أبويه ، فسمّاه باسم لم يسبق إليه. والثاني : لم تلد العواقر مثله ولدا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى : لم نجعل له نظيرا. والثالث : لم نجعل له من قبل مثلا وشبها ، قاله مجاهد. فعلى هذا يكون عدم الشّبه من حيث إنه لم يعص ولم يهمّ

____________________________________

وراثة النبوة ، لم يقل (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) إذ لا يخاف الموالي على النبوة ، ولقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) ، والصواب ما حكيناه عن الجمهور ، أن جميع الأنبياء لا يورثون ، والمراد بقصة زكريا وداود ، وراثة النبوة ، والله أعلم.

وذكر الحافظ في «الفتح» ١٢ / ٨ ـ ٦ بعض كلام ابن عبد البر الذي تقدم آنفا ، ثم ذكر ما ذهب إليه الحسن ، وأنه قول إبراهيم بن إسماعيل بن علية من الفقهاء. قال : وأخرج الطبري عن أبي صالح في الآية ، حكاية عن زكريا (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) قال : العصبة ، ومن قوله (يَرِثُنِي) يرث مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوة ، وأخرج من طريق قتادة عن الحسن نحوه ، لكن لم يذكر المال ، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه «رحم الله أخي زكريا : ما كان عليه من يرث ماله».

(٩٥٢) صحيح. أخرجه مسلم ٢٣٧٩ وأحمد ٢ / ٢٩٦ ـ ٤٠٥ وابن ماجة ٢١٥٠ والطحاوي في «المشكل» ١ / ٤٢٩ وابن حبان ٥١٤٢ ، واستدركه الحاكم ٢ / ٥٩٠ كلهم من حديث أبي هريرة.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٩.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٨ / ٣١٠ : وقول من قال : لم يكن ليحيى قبل يحيى أحد سمي باسمه أشبه بتأويل ذلك ، وإنما معنى الكلام : لم نجعل للغلام الذي نهب لك الذي اسمه يحيى من قبله أحدا مسمى باسمه.

١٢٠