زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

وهو ظاهر القرآن ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، وكعب ، ووهب. والثاني : أنّ عيسى أرسلهم ، وجاز أن يضاف ذلك إلى الله تعالى لأنهم رسل رسوله ، قاله قتادة ، وابن جريج.

قوله تعالى : (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي : ما لكم علينا فضل في شيء (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) أي : لم ينزل كتابا ولم يرسل رسولا. وما بعده ظاهر إلى قوله : (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) وذلك أنّ المطر حبس عنهم ، فقالوا : إنّما أصابنا هذا من قبلكم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) أي : تسكتوا عنّا (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي لنقتلنكم. (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي : شؤمكم معكم بكفركم لا بنا (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) قرأ ابن كثير «أين ذكّرتم» بهمزة واحدة بعدها ياء ؛ وافقه أبو عمرو إلّا أنه كان يمدّ. قال الأخفش : معناه حيث ذكّرتم ، أي وعظتم وخوّفتم ، وهذا استفهام جوابه محذوف تقديره : أئن ذكّرتم تطيّرتم بنا؟ وقيل : أئن ذكرتم قلتم هذا القول؟ والمسرفون ها هنا المشركون.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩))

قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) واسمه حبيب النجار ، وكان مجذوما ، وكان قد آمن بالرّسل لمّا وردوا القرية ، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب القرية ، فلمّا بلغه أنّ قومه قد كذّبوا الرّسل وهمّوا بقتلهم ، جاء يسعى ، فقال ما قصّه الله علينا إلى قوله تعالى : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) يعني الرّسل ، فأخذوه ورفعوه إلى الملك ، فقال له الملك : أفأنت تتبعهم؟ فقال : (وَما لِيَ) أسكن هذه الياء حمزة ، وخلف ، ويعقوب (لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي : وأيّ شيء لي إذا لم أعبد خالقي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عند البعث ، فيجزيكم بكفركم؟!

فإن قيل : لم أضاف الفطرة إلى نفسه والبعث إليهم وهو يعلم أنّ الله فطرهم جميعا كما يبعثهم جميعا؟ فالجواب : أنّ إيجاد الله تعالى نعمه يوجب الشّكر ، والبعث في القيامة وعيد يوجب الزّجر ، فكانت إضافة النّعمة إلى نفسه أظهر في الشّكر ، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ في الزّجر.

ثم أنكر عبادة الأصنام بقوله تعالى : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً).

قوله تعالى : (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ) يعني أنه لا شفاعة لهم فتغني ، (وَلا يُنْقِذُونِ) أثبت ها هنا

__________________

جهة المسيح ، كما قال تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ...) إلى أن قالوا : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه‌السلام ، والله أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا).

٥٢١

الياء في الحالين يعقوب ، وورش ، والمعنى : لا يخلّصوني من ذلك المكروه. (إِنِّي إِذاً) فتح هذه الياء نافع ، وأبو عمرو.

قوله تعالى : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) فتح هذه الياء أهل الحجاز وأبو عمرو. وفيمن خاطبهم بإيمانه قولان : أحدهما : أنه خاطب قومه بذلك ، قاله ابن مسعود. والثاني : أنه خاطب الرّسل. ومعنى (فَاسْمَعُونِ) : اشهدوا لي بذلك ، قاله الفرّاء. وقال أبو عبيدة : المعنى : فاسمعوا منّي. وأثبت ياء «فاسمعوني» في الحالين يعقوب. قال ابن مسعود : لمّا خاطب قومه بذلك ، وطئوه بأرجلهم. وقال السّدّيّ : رموه بالحجارة ، وهو يقول : اللهمّ اهد قومي.

قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) لمّا قتلوه فلقي الله عزوجل ، قيل له : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ، فلمّا دخلها (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) ، وفي «ما» قولان :

أحدهما : أنها مع «غفر» في موضع مصدر ؛ والمعنى بغفران الله لي. والثاني : أنها بمعنى «الذي» ، فالمعنى : ليتهم يعلمون بالذي غفر لي به ربّي فيؤمنون ، فنصحهم حيّا وميتا.

فلمّا قتلوه عجّل الله لهم العذاب ، فذلك قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) يعني قوم حبيب (مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد قتله (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) يعني الملائكة ، أي : لم ينتصر منهم بجند من السّماء (وَما كُنَّا) ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم. وقيل : المعنى : ما بعثنا إليهم بعده نبيّا ، ولا أنزلنا عليهم رسالة. (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) قال المفسّرون : أخذ جبريل عليه‌السلام بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم ميّتون لا يسمع لهم حسّ كالنّار إذا طفئت ، وهو قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي : ساكنون كهيئة الرّماد الخامد.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) قال الفرّاء : المعنى : يا لها حسرة على العباد. وقال الزّجّاج : الحسرة أن يركب الإنسان من شدّة النّدم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبه حسيرا. وفي المتحسّر على العباد قولان : أحدهما : أنهم يتحسّرون على أنفسهم ، قال مجاهد والزّجّاج : استهزاؤهم بالرّسل كان حسرة عليهم في الآخرة. وقال أبو العالية : لمّا عاينوا العذاب ، قالوا : يا حسرتنا على المرسلين ، كيف لنا بهم الآن حتى نؤمن. والثاني : أنه تحسّر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرّسل ، قاله الضّحّاك.

ثم خوّف كفّار مكّة فقال : (أَلَمْ يَرَوْا) أي : ألم يعلموا (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) فيعتبروا ويخافوا أن نعجّل لهم الهلاك كما عجّل لمن أهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا؟!. قال الفرّاء : وألف (أَنَّهُمْ) مفتوحة ، لأنّ المعنى : ألم يروا أنّهم إليهم لا يرجعون. وقد كسرها الحسن ، كأنه لم يوقع

٥٢٢

الرّؤية على «كم» ، فلم يوقعها على «أنّ» وإن استأنفتها كسرتها.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا) وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «لمّا» بالتشديد ، (جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي : إنّ الأمم يحضرون يوم القيامة ، فيجازون بأعمالهم. قال الزّجّاج : من قرأ «لما» بالتخفيف ، ف «ما» زائدة مؤكّدة ، والمعنى : وإن كلّ لجميع ، ومعناه : وما كلّ إلّا جميع لدينا محضرون. ومن قرأ «لمّا» بالتشديد ، فهو بمعنى «إلّا» ، تقول : «سألتك لمّا فعلت» و «إلّا فعلت».

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) وقرأ نافع : «الميتة» بالتشديد ، وهو الأصل ، والتخفيف أكثر ، وكلاهما جائز ؛ و «آية» مرفوعة بالابتداء ، وخبرها «لهم» ، ويجوز أن يكون خبرها «الأرض الميتة» ؛ والمعنى : وعلامة تدلّهم على التوحيد وأنّ الله يبعث الموتى أحياء ، الأرض الميتة.

قوله تعالى : (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) يعني ما يقتات من الحبوب.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها) وقوله تعالى (وَفَجَّرْنا فِيها) يعني في الأرض.

قوله تعالى : (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) يعني النّخيل ، وهو في اللفظ مذكّر. (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «عملته» بهاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «عملت» بغير هاء. والهاء مثبتة في مصاحف مكّة والمدينة والشام والبصرة ، ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة. قال الزّجّاج : موضع «ما» خفض ؛ والمعنى : ليأكلوا من ثمره وممّا عملته أيديهم ؛ ويجوز أن يكون «ما» نفيا ؛ المعنى : ولم تعمله أيديهم ، وهذا على قراءة من أثبت الهاء ، فإذا حذفت الهاء ، فالاختيار أن تكون «ما» في موضع خفض ، وتكون بمعنى «الذي» ، فيحسن حذف الهاء ؛ وكذلك ذكر المفسّرون القولين ، فمن قال بالأوّل. قال : ليأكلوا ممّا عملت أيديهم ، وهو الغروس والحروث التي تعبوا فيها ، ومن قال بالثاني. قال : ليأكلوا ما ليس من صنعهم ، ولكنه من فعل الحقّ عزوجل (أَفَلا يَشْكُرُونَ) الله تعالى فيوحّدوه؟!. ثم نزّه نفسه بقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) يعني الأجناس كلّها (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من الفواكه والحبوب وغير ذلك (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهم الذكور والإناث (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) من دوابّ البرّ والبحر وغير ذلك ممّا لم يقفوا على علمه.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي : وعلامة لهم تدلّ على توحيدنا وقدرتنا الليل نسلخ منه النهار ؛ قال الفرّاء : نرمي بالنهار عنه ، و «منه» بمعنى «عنه». وقال أبو عبيدة : نخرج منه النهار ونميّزه منه فتجيء الظّلمة ، قال الماوردي : وذلك أنّ ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء ، فإذا خرج منه أظلم. وقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي : داخلون في الظّلام. (وَالشَّمْسُ) أي : وآية لهم الشمس (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) وفيه أربعة أقوال :

أحدها : إلى موضع قرارها. روى أبو ذرّ قال :

٥٢٣

(١١٩٨) سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال : «مستقرّها تحت العرش». وقال : «إنّها تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها ، فتستأذن في الطّلوع ، فيؤذن لها».

والثاني : أنّ مستقرّها مغربها لا تجاوزه ولا تقصر عنه ، قاله مجاهد. والثالث : لوقت واحد لا تعدوه ، قاله قتادة. وقال مقاتل : لوقت لها إلى يوم القيامة. والرابع : تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرّها الذي لا تجاوزه ، ثم ترجع إلى أوّل منازلها ، قاله ابن السّائب. وقال ابن قتيبة : إلى مستقرّ لها ، ومستقرّها : أقصى منازلها في الغروب ، وذلك لأنها لا تزال تتقدّم إلى أقصى مغاربها ثم ترجع. وقرأ ابن مسعود وعكرمة وعليّ بن الحسين والشّيزري عن الكسائيّ «لا مستقرّ لها» والمعنى أنها تجري أبدا لا تثبت في مكان واحد. قوله تعالى : (ذلِكَ) الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس والقمر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في ملكه (الْعَلِيمِ) بما يقدّر.

قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «والقمر» بالرّفع. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «والقمر» بالنّصب. قال الزّجّاج : من قرأ بالنّصب ، فالمعنى : وقدّرنا القمر قدّرناه منازل ، ومن قرأ بالرفع ، فالمعنى : وآية لهم القمر قدّرناه ، ويجوز أن يكون على الابتداء ، و «قدّرناه» الخبر. قال المفسّرون : ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ينزلها من أوّل الشّهر إلى آخره ، وقد سمّيناها في سورة يونس (١) ، فإذا صار إلى آخر منازله ، دقّ فعاد كالعرجون ، وهو عود العذق الذي تركته الشّماريخ (٢) ، فإذا جفّ وقدم يشبه الهلال. قال ابن قتيبة : و «القديم» ها هنا : الذي قد أتى عليه حول ، شبّه القمر آخر ليلة يطلع به. قال الزّجّاج : وتقدير «عرجون» : فعلون ، من الانعراج. وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، والضّحّاك ، وعاصم الجحدريّ ، وابن السّميفع : «كالعرجون» ، بكسر العين.

قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) فيه ثلاثة أقوال (٣) : أحدها : أنهما إذا اجتمعا في السماء ، كان أحدهما بين يدي الآخر ، فلا يشتركان في المنازل ، قاله ابن عباس. والثاني : لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر ، قاله مجاهد. والثالث : لا يجتمع ضوء أحدهما مع الآخر ، فإذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر ، قاله قتادة ؛ فيكون وجه الحكمة في ذلك أنه لو اتّصل الضوء ، لم يعرف

____________________________________

(١١٩٨) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٠٣ و ٧٤٣٣ ومسلم ١٥٩ ح ٢٥١ وأحمد ٥ / ١٥٨ وابن حبان ٦١٥٢ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٥١٤ من طرق عن وكيع به عن أبي ذر مرفوعا.

ـ وأخرجه الطحاوي في «المشكل» ٢٨١ من طريق أبي معاوية عن الأعمش به.

__________________

(١) يونس : ٥.

(٢) في «اللسان» : الشمروخ : غصن دقيق رخص ينبت في أعلى الغصن الغليظ في سنته رخصا.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٠ / ٤٤٢ : يقول تعالى ذكره : لا الشمس يصلح لها إدراك القمر فيذهب ضوءها بضوئه فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها ، (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يقول تعالى ذكره : ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلا اه.

وقال ابن كثير رحمه‌الله : يعني لكل منهما سلطانا ، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل ولا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار ، فسلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل. وأنه لا فترة بين الليل والنهار بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ ، لأنهما سخران دائبين يتطالبان طلبا حثيثا.

٥٢٤

الليل. قوله تعالى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران ، وعاصم الجحدري : «سابق» بالتنوين «النّهار» بالنّصب ، وفيه قولان : أحدهما : لا يتقدّم الليل قبل استكمال النّهار. والثاني : لا يأتي ليل بعد ليل من غير نهار فاصل بينهما. وباقي الآية مفسّر في سورة الأنبياء (١).

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦))

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) قرأ نافع ، وابن عامر : «ذرّيّاتهم» على الجمع ؛ وقرأ الباقون من السّبعة : «ذريّتهم» على التّوحيد. قال المفسّرون : أراد : في سفينة نوح ، فنسب الذّريّة إلى المخاطبين ، لأنهم من جنسهم ، كأنه قال : ذرّيّة الناس. وقال الفرّاء : أي : ذرّيّة من هو منهم ، فجعلها ذرّيّة لهم ، وقد سبقتهم. وقال غيره : هو حمل الأنبياء في أصلاب الآباء حين ركبوا السفينة ، ومنه قول العبّاس :

بل نطفة تركب السّفين وقد

ألجم نسرا وأهله الغرق

قال المفضّل بن سلمة : الذّرّيّة : النّسل ، لأنهم من ذرأهم الله منهم ، والذّرّيّة أيضا : الآباء ، لأنّ الذّرّ وقع منهم ، فهو من الأضداد ، ومنه هذه الآية ، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) (٢). والمشحون : المملوء. قوله تعالى : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) فيه قولان : أحدهما : مثل سفينة نوح ، وهي السّفن ، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، وأبو مالك ، وأبو صالح ، والمراد بهذا ذكر منّته بأن خلق الخشب الذي تعمل منه السّفن. والثاني : أنها الإبل ، خلقها لهم للرّكوب في البرّ مثل السّفن المركوبة في البحر ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وعن الحسن وقتادة كالقولين.

قوله تعالى : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي : لا مغيث ولا مجير (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي : ينجون من الغرق ، يقال : أنقذه واستنقذه : إذا خلّصه من المكروه ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) المعنى : إلّا أن نرحمهم ونمتّعهم إلى آجالهم. قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) يعني الكفّار (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها : «ما بين أيديكم» : ما مضى من الذّنوب ، «وما خلفكم» : ما يأتي من الذّنوب ، قاله مجاهد. والثاني : ما تقدّم من عذاب الله للأمم ، «وما خلفكم» منّ أمر الساعة ، قاله قتادة. والثالث : «ما بين أيديكم» من الدنيا ، «وما خلفكم» من عذاب الآخرة ، قاله سفيان. والرابع : «ما بين أيديكم» من أمر الآخرة ، «وما خلفكم» من أمر الدنيا فلا تغترّوا بها. قاله ابن عباس والكلبي. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لتكونوا على رجاء الرّحمة من الله. وجواب «إذا» محذوف ، تقديره : إذا قيل لهم هذا ، أعرضوا ؛ ويدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) أي : من دلالة تدلّ على صدق الرّسول.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ

__________________

(١) الأنبياء : ٣٣.

(٢) آل عمران : ٣٤.

٥٢٥

 أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : في اليهود ، قاله الحسن. والثاني : في الزّنادقة ، قاله قتادة.

(١١٩٩) والثالث : في مشركي قريش ، قاله مقاتل ؛ وذلك أنّ المؤمنين قالوا لكفّار مكّة : أنفقوا على المساكين النّصيب الذي زعمتم أنه لله من الحرث والأنعام ، فقالوا : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ).

(١٢٠٠) وقال ابن السّائب : كان العاص بن وائل إذا سأله المسكين ، قال : اذهب إلى ربّك فهو أولى بك مني ويقول : قد منعه الله ، أطعمه أنا؟!

ومعنى الكلام أنهم قالوا : لو أراد الله أن يرزقهم لرزقهم ، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نطعمهم ؛ وهذا خطأ منهم ، لأنّ الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضا ، ليبلو الغنيّ بالفقير فيما فرض له في ماله من الزّكاة ، والمؤمن لا يعترض على المشيئة ، وإنما يوافق الأمر. وقيل : إنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء. وفي قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قولان : أحدهما : أنه من قول الكفّار للمؤمنين ، يعنون : إنكم في خطأ من اتّباع محمّد. والثاني : أنه من قول الله للكفّار لما ردّوه من جواب المؤمنين.

قوله تعالى : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعنون القيامة ؛ والمعنى : متى إنجاز هذا الوعد (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ يعنون محمّدا وأصحابه. (ما يَنْظُرُونَ) أي : ما ينتظرون (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي النّفخة الأولى. و (يَخِصِّمُونَ) بمعنى يختصمون ، فأدغمت التاء في الصاد ، كذلك قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «يخصّمون» بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وروي عن ابن عمرو اختلاس حركة الخاء. وقرأ عاصم وابن عامر والكسائي «يخصمون» بفتح الياء وكسر الخاء. وعن عاصم كسر الياء والخاء. وقرأ نافع بسكون الخاء وتشديد الصاد. وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد ، أي : يخصم بعضهم بعضا. وقرأ أبيّ بن كعب : «يختصمون» بزيادة تاء ؛ والمعنى أنّ الساعة تأتيهم أغفل ما كانوا عنها وهم يتشاغلون في متصرّفاتهم وبيعهم وشرائهم ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) قال مقاتل : أعجلوا عن الوصيّة

____________________________________

(١١٩٩) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك متهم.

(١٢٠٠) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ، وهو متروك متهم.

٥٢٦

فماتوا ، (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي : لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم ؛ فهذا وصف ما يلقون في النّفخة الأولى. ثم ذكر ما يلقون في النّفخة الثانية قال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ) يعني القبور ، (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي : يخرجون بسرعة ، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة الأنبياء (١). (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو رزين ، والضّحّاك ، وعاصم الجحدري : «من بعثنا» بكسر الميم والثاء وسكون العين. قال المفسّرون : إنما قالوا هذا ، لأنّ الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النّفختين. قال أبيّ بن كعب : ينامون نومة قبل البعث ، فإذا بعثوا قالوا هذا.

قوله تعالى : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قول المؤمنين ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن أبي ليلى. قال قتادة : أوّل الآية للكافرين ، وآخرها للمؤمنين. والثاني : أنه قول الملائكة لهم ، قاله الحسن. والثالث : أنه قول الكافرين ، يقول بعضهم لبعض : هذا الذي أخبرنا به المرسلون أنّنا نبعث ونجازي ، قاله ابن زيد.

قال الزّجّاج : «من مرقدنا» هو وقف التّمام ، ويجوز أن يكون «هذا» من نعت «مرقدنا» على معنى : من بعثنا من مرقدنا هذا الذي كنّا راقدين فيه؟ ويكون في قوله تعالى : (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) أحد إضمارين ، إمّا «هذا» ، وإمّا «حق» ، فيكون المعنى : حقّ ما وعد الرّحمن.

ثم ذكر النّفخة الثانية ، فقال : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ) يعني في الآخرة (فِي شُغُلٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «في شغل» بإسكان الغين. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «في شغل» بضمّ الشين والغين. وقرأ أبو هريرة ، وأبو رجاء ، وأيوب السّختيانيّ : «في شغل» بفتح الشين والغين. وقرأ أبو مجلز ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والضّحّاك ، والنّخعيّ ، وابن يعمر ، والجحدريّ : «في شغل» بفتح الشين وسكون الغين ، وفيه ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنّ شغلهم افتضاض العذارى ، رواه شقيق عن ابن مسعود ، ومجاهد عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن المسيّب ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : ضرب الأوتار ، رواه عكرمة عن ابن عباس ؛ وعن عكرمة كالقولين ، ولا يثبت هذا القول. والثالث : النّعمة ، قاله مجاهد. وقال الحسن : شغلهم : نعيمهم عمّا فيه أهل النّار من العذاب. قوله تعالى : (فاكِهُونَ) وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو المتوكّل ، وقتادة ، وأبو الجوزاء ، والنّخعيّ ، وأبو جعفر : «فكهون». وهل بينهما فرق؟ فيه قولان : أحدهما : أنّ بينهما فرقا. فأما «فاكهون» ففيه أربعة أقوال : أحدها : فرحون ، قاله ابن عباس. والثاني : معجبون ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : ناعمون ، قاله أبو مالك ، ومقاتل. والرابع : ذوو فاكهة ، كما يقال : فلان لابن تامر ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة. وأمّا «فكهون» ففيه قولان : أحدهما : أنّ الفكه : الذي يتفكّه ، تقول العرب للرجل إذا كان يتفكّه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض

__________________

(١) الأنبياء : ٩٦.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «التفسير» ٣ / ٧٠٥ : يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم ، وعن ابن عباس في رواية عنه : (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي : سماع الأوتار. وقال أبو حاتم : لعله غلط من المستمع ، وإنما هو افتضاض الأبكار.

٥٢٧

الناس : إنّ فلانا لفكه بكذا ، ومنه يقال للمزاح : فكاهة ، قاله أبو عبيدة. والثاني : أنّ فكهين بمعنى فرحين ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. والقول الثاني : أنّ فاكهين وفكهين بمعنى واحد ، كما يقال : حاذر وحذر ، قاله الفرّاء. وقال الزّجّاج : فاكهون وفكهون بمعنى فرحين. وقال أبو زيد : الفكه : الطيّب النّفس الضّحوك ، يقال : رجل فاكه وفكه.

قوله تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) يعني حلائلهم (فِي ظُلَلٍ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «في ظلل». قال الفرّاء : الظّلال جمع ظلّ والظّلل جمع ظلّة وقد تكون الظلال جمع ظلة أيضا ، كما يقال : خلّة وخلل ؛ فإذا كثرت فهي الخلال والحلال والقلال. قال مقاتل : والظّلال : أكنان القصور. قال أبو عبيدة : والمعنى أنهم لا يضحون. فأمّا الأرائك فقد بيّنّاها في الكهف (١).

قوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) قال ابن قتيبة : ما يتمنّون ، ومنه يقول الناس : هو في خير ما ادّعى ، أي : ما تمنّى ، والعرب تقول : ادّع ما شئت ، أي : تمنّ ما شئت. وقال الزّجّاج : وهو مأخوذ من الدّعاء ؛ والمعنى : كلّ ما يدعو به أهل الجنّة يأتيهم. وقوله : (سَلامٌ) بدل من «ما» ؛ المعنى : لهم ما يتمنّون سلام ، أي : هذا منى أهل الجنّة أن يسلّم الله عليهم. و (قَوْلاً) منصوب على معنى : سلام يقوله الله قولا. وقال أبو عبيدة : «سلام» رفع على «لهم» ؛ فالمعنى : لهم فيها فاكهة ولهم فيها سلام. وقال الفرّاء : معنى الكلام : لها ما يدّعون مسلّم خالص ، ونصب القول ، كأنك قلت : قاله قولا ، وإن شئت جعلته نصبا من قوله تعالى : ولهم ما يدّعون قولا ، كقولك : عدة من الله. وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، والجحدري : «سلاما قولا» بنصبهما جميعا.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤))

قوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ) قال ابن قتيبة : أي : انقطعوا عن المؤمنين وتميّزوا منهم ، يقال : مزت الشيء من الشيء : إذا عزلته عنه ، فانماز وامتاز ، وميّزته فتميّز. قال المفسّرون : إذا اختلط الإنس والجنّ في الآخرة ، قيل : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) فيقال للمجرمين : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) أي : ألم آمركم ، ألم أوصكم؟ و «تعبدوا» بمعنى تطيعوا ، والشيطان هو إبليس ، زيّن لهم الشّرك فأطاعوه ، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة ، أخرج أبويكم من الجنّة. (وَأَنِ اعْبُدُونِي) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائيّ : «وأن اعبدوني» بضمّ النون. وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة : «وأن اعبدوني» بكسر النون ؛ والمعنى : وحّدوني (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) يعني التّوحيد. (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «جبلا» بضمّ الجيم والباء وتخفيف اللام ، وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر : «جبلا» بضمّ الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام. وقرأ نافع ، وعاصم : «جبلا» بكسر الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، والزّهري ،

__________________

(١) الكهف : ٣١.

٥٢٨

والأعمش : «جبلّا» بضمّ الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو ، وابن السّميفع : «جبلا» بكسر الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام. وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو المتوكّل ، ومعاذ القارئ : «جبلا» برفع الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبو العالية : وابن يعمر : «جبلّا» بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبو عمران الجوني ، وعمرو بن دينار : «جبالا» مكسورة الجيم مفتوحة الباء وبألف. ومعنى الكلمة كيف تصرّفت في هذه اللغات : الخلق والجماعة ؛ فالمعنى : ولقد أضلّ منكم خلقا كثيرا (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) ؛ فالمعنى : قد رأيتم آثار الهالكين قبلكم بطاعة الشيطان ، أفلم تعقلوا ذلك؟! وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وابن يعمر : «أفلم يكونوا يعقلون» بالياء فيهما ، فإذا أدنوا إلى جهنّم قيل لهم : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في الدنيا (اصْلَوْهَا) أي : قاسوا حرّها.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

قوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء : «يختم» بياء مضمومة وفتح التاء (وَتُكَلِّمُنا) قرأ ابن مسعود : «ولتكلّمنا» بزيادة لام مكسورة وفتح الميم وواو قبل اللام. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن أبي عبلة : «لتكلّمنا» بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب الميم ؛ وقرءوا جميعا : «ولتشهد أرجلهم» بلام مكسورة وبنصب الدال. ومعنى «نختم» : نطبع عليها ، وقيل : منعها من الكلام هو الختم عليها ، وفي سبب ذلك أربعة أقوال : أحدها : أنهم لمّا قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) ختم الله على أفواههم ونطقت جوارحهم ، قاله أبو موسى الأشعري. والثاني : ليعلموا أنّ أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي صارت شهودا عليهم. والثالث : ليعرفهم أهل الموقف ، فتميّزوا منهم بذلك. والرابع : لأنّ إقرار الجوارح أبلغ في الإقرار من نطق اللسان ، ذكرهنّ الماوردي. فإن قيل : ما الحكمة في تسمية نطق اليد كلاما ونطق الرّجل شهادة؟ فالجواب : أنّ اليد كانت مباشرة والرّجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى ، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل.

قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ولو نشاء لأذهبنا أعينهم حتى لا يبدو لها شقّ ولا جفن. والمطموس : الذي لا يكون بين جفنيه شقّ ، (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي : فتبادروا إلى الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي : فكيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم؟! وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وعروة بن الزّبير ، وأبو رجاء : «فاستبقوا» بكسر الباء «فإنّى تبصرون» بالتاء. وهذا تهديد لأهل مكّة ، وهو قول الأكثرين. والثاني : ولو نشاء لأضللناهم وأعميناهم عن الهدى ، فإنّى يبصرون الحقّ؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم وأعميناهم عن غيّهم وحوّلنا أبصارهم من الضّلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم ، فإنّى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم؟! حكي عن جماعة منهم مقاتل.

__________________

(١) الأنعام : ٢٣.

٥٢٩

قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) روى أبو بكر ، عن عاصم «على مكاناتهم» وقد سبق بيان هذا (١). وفي المراد بقوله : «لمسخناهم» أربعة أقوال : أحدها : لأهلكناهم ، قاله ابن عباس. والثاني : لأقعدناهم على أرجلهم ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : لجعلناهم حجارة ، قاله أبو صالح ، ومقاتل. والرابع : لجعلناهم قردة وخنازير لا أرواح فيها ، قاله ابن السّائب. وفي قوله : (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : فما استطاعوا أن يتقدّموا ولا أن يتأخّروا ، قاله قتادة. والثاني : فما استطاعوا مضيّا عن العذاب ، ولا رجوعا إلى الخلقة الأولى بعد المسخ ، قاله الضّحّاك. والثالث : مضيّا من الدنيا ولا رجوعا إليها ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

قوله تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) قرأ حمزة : «ننكّسه» مشدّدة مع ضمّ النون الأولى وفتح الثانية ؛ والباقون : بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد ؛ وعن عاصم كالقراءتين. ومعنى الكلام : من نطل عمره ننكّس خلقه ، فنجعل مكان القوّة الضّعف ، وبدل الشباب الهرم ، فنردّه إلى أرذل العمر. (أَفَلا يَعْقِلُونَ) قرأ نافع ، وأبو عمرو : «أفلا تعقلون» بالتاء ، والباقون بالياء. والمعنى : أفلا يعقلون أنّ من فعل هذا قادر على البعث؟

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠))

قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) قال المفسّرون : إنّ كفّار مكّة قالوا : إنّ القرآن شعر وإنّ محمّدا شاعر ، فقال الله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي : ما يتسهّل له ذلك. قال المفسّرون : ما كان يتّزن له بيت شعر ،

(١٢٠١) حتى إنه روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تمثّل يوما فقال : كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا.

فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنما قال الشاعر :

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

أشهد أنّك رسول الله ، ما علّمك الله الشّعر ، وما ينبغي لك.

(١٢٠٢) ودعا يوما بعباس بن مرداس فقال : «أنت القائل :

أتجعل نهبي ونهب العبيد

بين الأقرع وعيينة»؟

فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمّي ، لم يقل كذلك ، فأنشده أبو بكر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يضرّك بأيّهما بدأت» ، فقال أبو بكر : والله ما أنت بشاعر ، ولا ينبغي لك الشّعر.

____________________________________

(١٢٠١) ضعيف جدا. أخرجه ابن سعد ١ / ٢٩٨ والبغوي في «معالم التنزيل» ١٧٨٩ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٧٠٩ من طريق علي بن زيد عن الحسن مرسلا ، وإسناده ضعيف جدا وله علل ثلاث : الأولى : ضعف علي بن زيد ، والثانية : هو مرسل ، والثالث : مراسيل الحسن واهية.

(١٢٠٢) ضعيف. هو بعض حديث أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥ / ١٧٩ ـ ١٨١ ـ ١٨٢ وعلته الإرسال.

__________________

(١) البقرة : ٦٥.

٥٣٠

(١٢٠٣) وتمثّل يوما ، فقال : «ويأتيك من لم تزوّده بالأخبار» فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله ، فقال : «إنّي لست بشاعر ، ولا ينبغي لي». وإنما منع من قول الشّعر ، لئلّا تدخل الشّبهة على قوم فيما أتى به من القرآن فيقولون : قوي على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشّعر.

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ) يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) إلّا موعظة (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) فيه الفرائض والسنن والأحكام. قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «لينذر» بالياء ، يعنون القرآن. وقرأ نافع ، وابن عامر ، ويعقوب : «لتنذر» بالتاء ، يعنون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : لتنذر يا محمّد بما في القرآن. وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وابن السّميفع : «لينذر» بياء مرفوعة وفتح الذال والراء جميعا. قوله تعالى : (مَنْ كانَ حَيًّا) وفيه أربعة أقوال : أحدها : حيّ القلب حيّ البصر ، قاله قتادة. والثاني : من كان عاقلا ، قاله الضّحّاك. قال الزّجّاج : من كان يعقل ما يخاطب به ، فإنّ الكافر كالميت في ترك النّذير. والثالث : مهتديا ، قاله السّدي. وقال مقاتل : من كان مهتديا في علم الله. والرابع : من كان مؤمنا ، قاله يحيى بن سلام ؛ وهذا على المعنى الذي قد سبق في قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) (١) ، ويجوز أن يريد : إنّما ينفع إنذارك من كان مؤمنا في علم الله. قوله تعالى : (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) معناه : يجب. وفي المراد بالقول قولان : أحدهما : أنه العذاب. والثاني : الحجّة.

____________________________________

(١٢٠٣) صحيح. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٢٤٩٦ والطبري ٢٩٢٢٩ عن قتادة عن عائشة ، ورجاله ثقات لكنه منقطع ، قتادة لم يدرك عائشة. وورد موصولا من وجه آخر ، أخرجه أحمد ٦ / ١٥٦ والبخاري في «الأدب المفرد» ٨٦٧ والترمذي ٢٨٥٢ والطحاوي في «المعاني» ٤ / ٢٩٧ والبغوي في «معالم التنزيل» ١٧٩٠ عن شريح بن هانئ عن عائشة ، وإسناده حسن في الشواهد لأجل شريك. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ٢٩٢ وابن سعد ١ / ٢٩٠ من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عكرمة عن عائشة ، وإسناده ضعيف لضعف الوليد ، وسماك مضطرب في عكرمة. وله شاهد من حديث ابن عباس ، أخرجه البزار ٢١٠٦ والطبراني ١١٧٦٣ وقال الهيثمي في «المجمع» ١٣٣٤٦ : رجالهما رجال الصحيح. الخلاصة : هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشاهده ، وانظر «معالم التنزيل» للبغوي ١٧٩٠ و «أحكام القرآن» ١٨٧٦ بتخريجنا ، والله الموفق.

ـ وقال ابن كثير رحمه‌الله في تفسيره ٣ / ٧٠٨ : يقول تعالى مخبرا عن نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه أنه ما علّمه الشعر ، (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي : وما هو في طبعه ، فلا يحسنه ولا يحبه ، ولا تقتضيه جبلته ، ولهذا ورد أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم ، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه وما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحاديث السابقة ـ قال ابن كثير رحمه‌الله : وكل هذا لا ينافي كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما علّم شعرا ولا ينبغي له ، فإن الله تعالى إنما علّمه القرآن العظيم الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وهو ليس بشعر كما زعمه طائفة من جهلة قريش ، ولا كهانة ولا مفتعل ، ولا سحر يؤثر كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهّال. وقد كانت سجيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأبى صناعة الشعر طبعا وشرعا ، ثم قال ابن كثير رحمه‌الله : على أن الشعر فيه ما هو مشروع ، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام ، كحسان بن ثابت. وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأحزابهم رضي الله عنهم أجمعين ، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية.

__________________

(١) فاطر : ١٨.

٥٣١

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

ثم ذكّرهم قدرته فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) قال ابن قتيبة : يجوز أن يكون المعنى : ممّا عملناه بقوّتنا وقدرتنا ، وفي اليد القدرة والقوّة على العمل ، فتستعار اليد فتوضع موضعها ، هذا مجاز للعرب يحتمله هذا الحرف ، والله أعلم بما أراد. وقال غيره : ذكر الأيدي ها هنا يدلّ على انفراده بما خلق ، والمعنى : لم يشاركنا أحد في إنشائنا ؛ والواحد منّا إذا قال : عملت هذا بيدي ، دلّ ذلك على انفراده بعمله. وقال أبو سليمان الدّمشقي : معنى الآية : ممّا أوجدناه بقدرتنا وقوّتنا ؛ وهذا إجماع أنه لم يرد ها هنا إلّا ما ذكرنا. قوله تعالى : (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) فيه قولان : أحدهما : ضابطون ، قاله قتادة ومقاتل. قال الزّجّاج : ومثله في الشّعر :

أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا (١)

أي : لا أضبط رأس البعير. والثاني : قادرون عليها بالتّسخير لهم ، قاله ابن السّائب.

قوله تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي : سخّرناها ، فهي ذليلة لهم (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) قال ابن قتيبة : الرّكوب : ما يركبون ، والحلوب : ما يحلبون. قال الفرّاء : ولو قرأ قارئ : «فمنها ركوبهم» ، كان وجها ، كما تقول : منها أكلهم وشربهم وركوبهم. وقد قرأ بضمّ الراء الحسن ، وأبو العالية ، والأعمش ، وابن يعمر في آخرين. وقرأ أبيّ بن كعب ، وعائشة : «ركوبتهم» بفتح الراء والباء وزيادة تاء مرفوعة. قال المفسّرون : يركبون من الأنعام الإبل ، ويأكلون الغنم ، (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) من الأصواف والأوبار والأشعار والنّسل (وَمَشارِبُ) من ألبانها ، (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ربّ هذه النّعم فيوحّدونه؟! ثم ذكر جهلهم فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي : لتمنعهم من عذاب الله ؛ ثم أخبر أنّ ذلك لا يكون بقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أي : لا تقدر الأصنام على منعهم من أمر أراده الله بهم (وَهُمْ) يعني الكفّار و (لَهُمْ) يعني الأصنام (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : جند في الدنيا محضرون في النّار ، قاله الحسن. والثاني : محضرون عند الحساب ، قاله مجاهد. والثالث : المشركون جند للأصنام ، يغضبون لها في الدنيا ، وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرّا ، قاله قتادة. وقال مقاتل : الكفّار يغضبون للآلهة ويحضرونها في الدنيا. وقال الزّجّاج : هم للأصنام ينتصرون ، وهي لا تستطيع نصرهم. والرابع : هم جند محضرون عند الأصنام يعبدونها ، قاله ابن السّائب.

قوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) يعني قول كفّار مكّة في تكذيبك (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في ضمائرهم من تكذيبك (وَما يُعْلِنُونَ) بألسنتهم من ذلك ؛ والمعنى : إنا نثيبك ونجازيهم.

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ

__________________

(١) البيت للربيع بن منيع الفزاري ، كما في «روح المعاني» ٢٣ / ٤٧ ، قاله بعد ما أسن ، وجاوز المائة.

٥٣٢

مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية والتي بعدها على خمسة أقوال :

(١٢٠٤) أحدها : أنه العاص بن وائل السّهمي ، أخذ عظما من البطحاء ففتّه بيده ، ثم قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال : «نعم ، يميتك الله ثمّ يحييك ثمّ يدخلك نار جهنّم» ، فنزلت هذه الآيات ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(١٢٠٥) والثاني : أنه عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، جرى له نحو هذه القصّة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

(١٢٠٦) والثالث : أنه أبو جهل بن هشام ، وأنّ هذه القصة جرت له ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

(١٢٠٧) والرابع : أنه أميّة بن خلف ، قاله الحسن.

(١٢٠٨) والخامس : أنه أبيّ بن خلف الجمحي ، وهذه القصّة جرت له ، قاله مجاهد وقتادة والجمهور ، وعليه المفسّرون.

ومعنى الكلام : التّعجّب من جهل هذا المخاصم في إنكاره البعث ؛ والمعنى : ألا يعلم أنه مخلوق فيتفكّر في بدء خلقه فيترك خصومته؟! وقيل : هذا تنبيه له على نعمة الله عليه حيث أنشأه من نطفة فصار مجادلا. (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) في إنكار البعث بالعظم البالي حين فتّه بيده ، وتعجّب ممّن يقول : إنّ الله يحييه (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي : نسي خلقنا له ، أي : ترك النّظر في خلق نفسه إذ خلق من نطفة (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي : بالية ، يقال : رمّ العظم ، إذا بلي ، فهو رميم ، لأنه معدول عن فاعله ، وكلّ

____________________________________

(١٢٠٤) حسن. أخرجه الحاكم ٢ / ٤٢٩ من حديث ابن عباس ، وإسناده حسن ، وصححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري ٢٩٢٤٣ عن سعيد بن جبير مرسلا. وانظر «أحكام القرآن» ١٨٨٢.

(١٢٠٥) باطل ، أخرجه الطبري ٢٩٢٤٤ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي ، وهو واه عن ابن عباس ، وهذا باطل لأن السورة مكية بإجماع ، وعبد الله بن أبي ابن سلول إنما كانت أخباره في العهد المدني.

(١٢٠٦) ضعيف جدا. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ، وهو متروك.

(١٢٠٧) عزاه المصنف للحسن البصري ، وهذا مرسل ، ومراسيل الحسن واهية.

(١٢٠٨) أخرجه الطبري ٢٩٢٤٠ عن مجاهد مختصرا ، وهذا مرسل. وكرره ٢٩٢٤٢ عن قتادة مرسلا. وذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٢١ عن أبي مالك مرسلا. والخلاصة : ورد في شأن العاص وابن خلف من وجوه متساوية ، فأصل الخبر محفوظ ، وإن كان اضطرب المفسّرون في تعيين أحدهما ، والله أعلم. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٥١٨١ و «فتح القدير» ٢١٠٣ بتخريجنا ، والله الموفق.

٥٣٣

معدول عن وجهه ووزنه فهو مصروف عن إعرابه كقوله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (١) فأسقط الهاء لأنها مصروفة ، عن «باغية» ؛ فقاس هذا الكافر قدرة الله تعالى بقدرة الخلق ، فأنكر إحياء العظم البالي لأنّ ذلك ليس في مقدور الخلق. (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) أي : ابتدأ خلقها (أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) من الابتداء والإعادة (عَلِيمٌ). (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) قال ابن قتيبة : أراد الزّنود التي توري بها الأعراب من شجر المرخ والعفار. فإن قيل : لم قال : «الشّجر الأخضر». ولم يقل : الشجر الخضر. فالجواب : أنّ الشّجر جمع ، وهو يؤنّث ويذكّر ، قال الله تعالى : (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٢) ، وقال : (فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ). ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان ، فقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ) وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وعاصم الجحدري : «يقدر» بياء من غير ألف (عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) وهذا استفهام تقرير ؛ والمعنى : من قدر على ذلك العظيم ، قدر على هذا اليسير. وقد فسّرنا معنى «أن يخلق مثلهم» في بني إسرائيل (٣) ؛ ثم أجاب عن هذا الاستفهام فقال : (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ) يخلق خلقا بعد خلق. وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن ، وعاصم الجحدري : «وهو الخالق» (الْعَلِيمُ) بجميع المعلومات. والملكوت والملك واحد. وباقي السّورة قد تقدّم شرحه (٤). والله أعلم بالصّواب.

__________________

(١) مريم : ٢٨.

(٢) الواقعة : ٥٣.

(٣) الإسراء : ٩٩.

(٤) البقرة : ٣٢ ـ ١١٧ ، الأنعام : ٧٥.

٥٣٤

سورة الصّافّات

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))

قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) فيها قولان : أحدهما : أنها الملائكة ، قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. قال ابن عباس : هم الملائكة صفوف في السماء ، لا يعرف ملك منهم من إلى جانبه ، لم يلتفت منذ خلقه الله عزوجل. وقيل : هي الملائكة تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة إلى أن يأمرها الله تعالى بما يشاء. والثاني : أنها الطّير ، كقوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) (١) ، حكاه الثّعلبي. وفي الزّاجرات قولان : أحدهما : أنها الملائكة التي تزجر السّحاب ، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني : أنها زواجر القرآن وكلّ ما ينهى ويزجر عن القبيح ، قاله قتادة. وفي التّاليات ذكرا ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الملائكة تقرأ كتب الله تعالى ، قاله ابن مسعود والحسن والجمهور. والثاني : أنهم الرّسل ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : ما يتلى في القرآن من أخبار الأمم ، قاله قتادة. وهذا قسم بهذه الأشياء ، وجوابه : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ). وقيل معناه : وربّ هذه الأشياء إنّه واحد.

قوله تعالى : (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) قال السّدّيّ : المشارق ثلاثمائة وستون مشرقا ، والمغارب مثلها ، على عدد أيام السّنة. فإن قيل : لم ترك ذكر المغارب؟

فالجواب : أنّ المشارق تدلّ على المغارب ، لأنّ الشّروق قبل الغروب.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) يعني التي تلي الأرض ، وهي أدنى السّموات إلى الأرض (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، والكسائيّ : «بزينة الكواكب» مضافا ، أي : بحسنها وضوئها. وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : «بزينة» منوّنة وخفض «الكواكب» فجعل

__________________

(١) النور : ٤١.

٥٣٥

«الكواكب» بدلا من الزّينة لأنها هي ، كما تقول : مررت بأبي عبد الله زيد ؛ فالمعنى : إنّا زيّنّا السماء الدّنيا بالكواكب. وقرأ أبو بكر عن عاصم : «بزينة» بالتنوين وبنصب «الكواكب» ؛ والمعنى : زيّنّا السّماء الدّنيا بأن زيّنّا الكواكب فيها حين ألقيناها في منازلها وجعلناها ذات نور. قال الزّجّاج : ويجوز أن يكون «الكواكب» في النّصب بدلا من قوله : «بزينة» لأنّ قوله : «بزينة» في موضع نصب. وقرأ أبيّ بن كعب ، ومعاذ القارئ ، وأبو نهيك ، وأبو حصين الأسدي في آخرين : «بزينة» بالتنوين «الكواكب» برفع الباء ؛ قال الزّجّاج : والمعنى : إنّا زيّنّا السّماء الدّنيا بأن زيّنتها الكواكب وبأن زيّنت الكواكب. (وَحِفْظاً) أي : وحفظناها حفظا. فأمّا المارد ، فهو العاتي ، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى : (شَيْطاناً مَرِيداً) (١).

قوله تعالى : (لا يَسَّمَّعُونَ) قال الفرّاء : «لا» ها هنا كقوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) (٢) ، ويصلح في «لا» على هذا المعنى الجزم ، والعرب تقول : ربطت فرسي لا ينفلت. وقال غيره : لكي لا يسّمّعوا إلى الملأ الأعلى ، وهم الملائكة الذين في السماء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ وخلف ، وحفص عن عاصم : (لا يَسَّمَّعُونَ) بتشديد السين ، وأصله : يتسمّعون ، فأدغمت التاء في السين. وإنّما قال : (إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) لأنّ العرب تقول : سمعت فلانا ، وسمعت من فلان ، وإلى فلان. (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) بالشّهب (دُحُوراً) قال قتادة : أي قذفا بالشّهب. وقال ابن قتيبة : أي : طردا ، يقال : دحرته دحرا ودحورا ، أي : دفعته. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو رجاء ، وأبو عبد الرّحمن ، والضّحّاك ، وأيوب السّختيانيّ ، وابن أبي عبلة : «دحورا» بفتح الدال. وفي «الواصب» قولان : أحدهما : أنه الدائم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والفرّاء ، وابن قتيبة. والثاني : أنه الموجع ، قاله أبو صالح ، والسّدّيّ. وفي زمان هذا العذاب قولان : أحدهما : أنه في الآخرة. والثاني : أنه في الدنيا ، فهم يخرجون بالشّهب ويخبلون إلى النّفخة الأولى في الصّور.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) قرأ ابن السّميفع : «خطّف» بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها. وقرأ أبو رجاء ، والجحدري : بكسر الخاء والطاء جميعا والتّخفيف. وقال الزّجّاج : خطف وخطف ، بفتح الطاء وكسرها ، يقال : خطفت أخطف ، وخطفت أخطف : إذا أخذت الشيء بسرعة ، ويجوز «إلّا من خطّف» بفتح الخاء وتشديد الطاء ، ويجوز «خطف» بكسر الخاء وفتح الطاء ؛ والمعنى : اختطف ، فأدغمت التاء في الطاء ، وسقطت الألف لحركة الخاء ؛ فمن فتح الخاء ؛ ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في «اختطف» ، ومن كسر الخاء ، فلسكونها وسكون الطاء. فأمّا من روى «خطف» بكسر الخاء والطاء ، فلا وجه لها إلّا وجها ضعيفا جدّا ، وهو أن يكون على إتباع الطاء كسرة الخاء. قال المفسّرون : والمعنى : إلّا من اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة (فَأَتْبَعَهُ) أي : لحقه (شِهابٌ ثاقِبٌ) قال ابن قتيبة : أي كوكب مضيء ، يقال : أثقب نارك ، أي : أضئها ، والثّقوب : ما تذكى به النّار.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)

__________________

(١) النساء : ١١٧.

(٢) الشعراء : ٢٠٠ ، ٢٠١.

٥٣٦

وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦))

قوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي : فسلهم سؤال تقرير (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي : أحكم صنعة (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) فيه قولان : أحدهما : أنّ المعنى : أم من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسّموات والأرض ، قاله ابن جير. والثاني : أم من خلقنا قبلهم من الأمم السّالفة ، والمعنى : إنّهم ليسوا بأقوى من أولئك وقد أهلكناهم بالتّكذيب ، فما الذي يؤمّن هؤلاء؟. ثم ذكر الناس فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) قال الفرّاء ، وابن قتيبة : أي : لاصق لازم ، والباء تبدل من الميم لقرب مخرجيهما. قال ابن عباس : هو الطّين الحرّ الجيّد اللّزق. وقال غيره : هو الطّين الذي ينشف عنه الماء وتبقى رطوبته في باطنه فيلصق باليد كالشّمع. وهذا إخبار عن تساوي الأصل في خلقهم وخلق من قبلهم ؛ فمن قدر على إهلاك الأقوياء ، قدر على إهلاك الضّعفاء.

قوله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ) «بل» معناه : ترك الكلام في الأوّل والأخذ في الكلام الآخر ، كأنه قال : دع يا محمّد ما مضى. وفي «عجبت» قراءتان قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «بل عجبت» بفتح التاء. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرّحمن السّلّمي ، وعكرمة ، وقتادة ، وأبو مجلز ، والنّخعيّ ، وطلحة بن مصرّف ، والأعمش ، وابن أبي ليلى ، وحمزة ، والكسائيّ في آخرين : «بل عجبت» بضمّ التاء ، واختارها الفرّاء. فمن فتح أراد : بل عجبت يا محمّد ، (وَيَسْخَرُونَ) هم. قال ابن السّائب : أنت تعجب منهم ، وهم يسخرون منك. وفي ما عجب منه قولان (١) : أحدهما : من الكفّار إذ لم يؤمنوا بالقرآن. والثاني : إذ كفروا بالبعث. ومن ضمّ ، أراد الإخبار عن الله عزوجل أنه عجب ، قال الفراء : وهي قراءة علي وعبد الله وابن عباس وهي أحب إليّ ، وقد أنكر هذه القراءة قوم ، منهم شريح القاضي ، قال : إنّ الله لا يعجب ، إنّما يعجب من لا يعلم ، قال الزّجّاج : وإنكار هذه القراءة غلط ، لأنّ العجب من الله خلاف العجب من الآدميين ، وهذا كقوله تعالى : (وَيَمْكُرُ اللهُ) (٢) وقوله : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) (٣) ، وأصل العجب في اللغة : أنّ الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقلّ مثله ، قال : قد عجبت من كذا ، وكذلك إذا فعل الآدميّون ما ينكره الله عزوجل ، جاز أن يقول عجبت. والله قد علم الشيء قبل كونه. وقال ابن الأنباري : المعنى : جازيتهم على عجبهم من الحقّ ، فسمّى الجزاء على الشيء باسم الشيء الذي له الجزاء ، فسمّى فعله عجبا وليس بعجب في الحقيقة ، لأنّ المتعجّب يدهش ويتحيّر ، والله عزوجل قد جلّ عن ذلك ؛ وكذلك سمّي تعظيم الثواب عجبا ،

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٠ / ٤٧٦ : والصواب من القول أن يقال : أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب ، فإن قال قائل : وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنيهما؟

إنهما وإن اختلف معنياهما فكل واحد من معنييه صحيح ، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل ، وسخر منه أهل الشرك بالله ، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله ، وسخر المشركون بما قالوه.

(٢) الأنفال : ٣٠.

(٣) التوبة : ٧٩.

٥٣٧

لأنه إنما يتعجّب من الشيء إذا كان في النّهاية ، والعرب تسمّي الفعل باسم الفعل إذا داناه من بعض وجوهه وإن كان مخالفا له في أكثر معانيه ، قال عديّ :

ثمّ أضحوا لعب الدّهر بهم (١)

فجعل إهلاك الدهر وإفساده لعبا ، قال ابن جرير : من ضمّ التاء ، فالمعنى : بل عظم عندي وكبر اتّخاذهم لي شريكا وتكذيبهم بتنزيلي. وقال غيره : إضافة العجب إلى الله عزوجل على ضربين : أحدهما : بمعنى الإنكار والذّمّ ، كهذه الآية. والثاني : بمعنى الاستحسان والإخبار عن تمام الرّضا ، كقوله عليه‌السلام :

(١٢٠٩) «عجب ربّك من شابّ ليست له صبوة».

قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي : إذا وعظوا بالقرآن لا يذكرون ولا يتّعظون. وقرأ سعيد بن جبير ، والضّحّاك ، وأبو المتوكّل ، وعاصم الجحدري ، وأبو عمران : «ذكروا» بتخفيف الكاف. (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) قال ابن عباس : يعني انشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) قال أبو عبيدة : يستسخرون ويسخرون سواء. قال ابن قتيبة. يقال : سخر واستسخر ، كما يقال : قرّ واستقرّ ، وعجب واستعجب ، ويجوز أن يكون : يسألون غيرهم من المشركين أن يسخروا من رسول الله ، كما يقال : استعتبته ، أي : سألته العتبى ، واستوهبته ، أي : سألته الهبة ، واستعفيته : سألته العفو. (وَقالُوا إِنْ هذا) يعنون انشقاق القمر (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : بيّن لمن تأمّله أنه سحر. (أَإِذا مِتْنا) قد سبق بيان هذه الآية (٢). (أَوَآباؤُنَا) هذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف ، كقوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) (٣). وقرأ نافع ، وابن عامر : «أو آباؤنا الأوّلون» بسكون الواو ها هنا وفي الواقعة (٤). (قُلْ نَعَمْ) أي : نعم تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي : صاغرون. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي : فإنّما قصّة البعث صيحة واحدة من إسرافيل ، وهي نفخة البعث ، وسمّيت زجرة ، لأنّ مقصودها الزّجر (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) قال الزّجّاج : أي : يحيون ويبعثون بصراء ينظرون ، فإذا عاينوا بعثهم ، ذكروا إخبار الرّسل عن البعث ، (وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي : يوم الحساب والجزاء ، فتقول الملائكة : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : يوم القضاء الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء ؛ ويقول الله عزوجل يومئذ للملائكة : (احْشُرُوا) أي : اجمعوا (الَّذِينَ ظَلَمُوا) من حيث هم ، وفيهم قولان : أحدهما : أنهم المشركون. والثاني : أنه عامّ في كلّ ظالم. وفي أزواجهم أربعة أقوال : أحدها : أمثالهم وأشباههم ، وهو قول عمر وابن عباس ، والنّعمان بن بشير ، ومجاهد في آخرين. وروي عن عمر قال : يحشر صاحب الرّبا مع صاحب الرّبا وصاحب الزّنا مع صاحب الزّنا وصاحب الخمر مع

____________________________________

(١٢٠٩) ضعيف. أخرجه أحمد ٤ / ١٥١ وأبو يعلى ١٧٤٩ والطبراني ١٧ / ٣٠٩ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٩٣ من طريق ابن لهيعة عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر مرفوعا. وإسناده ضعيف ، لضعف ابن لهيعة.

وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٢٧٠ وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ، وإسناده حسن! كذا قال رحمه‌الله ، ومداره على ابن لهيعة ، وهو ضعيف لا يحتج به ، وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» ٣٤٩ موقوفا وهو أصح.

__________________

(١) هو صدر بيت وعجزه : وكذاك الدهر يودي بالرجال.

(٢) مريم : ٦٦.

(٣) الأعراف : ٩٨.

(٤) الواقعة : ٤٨.

٥٣٨

صاحب الخمر. والثاني : أنّ أزواجهم : المشركات ، قاله الحسن. والثالث : أشياعهم ، قاله قتادة. والرابع : قرناؤهم من الشّياطين الذين أضلّوهم ، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى : (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : الأصنام ، قاله عكرمة ، وقتادة. والثاني : إبليس وحده ، قاله مقاتل. والثالث : الشياطين ، ذكره الماوردي وغيره.

قوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي : دلّوهم على طريقها ؛ والمعنى : اذهبوا بهم إليها. قال الزّجّاج : يقال : هديت الرّجل : إذا دللته ، وهديت العروس إلى زوجها ، وأهديت الهدية ، فإذا جعلت العروس كالهديّة ، قلت : أهديتها.

قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ) أي : احبسوهم (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وقرأ ابن السّميفع : «أنّهم» بفتح الهمزة. قال المفسّرون : لمّا سيقوا إلى النّار حبسوا عند الصّراط ، لأنّ السؤال هناك. وفي هذا السؤال ستة أقوال : أحدها : أنهم سئلوا عن أعمالهم وأقوالهم في الدنيا. والثاني : عن «لا إله إلّا الله» ، رويا جميعا عن ابن عباس. والثالث : عن خطاياهم ، قاله الضّحاك. والرابع : سألهم خزنة جهنّم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (١) ونحو هذا ، قاله مقاتل. والخامس : أنهم يسألون عمّا كانوا يعملون ، ذكره ابن جرير. والسادس : أنّ سؤالهم قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) ، ذكره الماوردي. قال المفسّرون : المعنى : ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا؟! وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٢) ، فقيل لهم ذلك يومئذ توبيخا. والمستسلم : المنقاد الذّليل ؛ والمعنى أنهم منقادون لا حيلة لهم.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) فيهم قولان : أحدهما : الإنس على الشّياطين. والثاني : الأتباع على الرّؤساء (يَتَساءَلُونَ) تسآل توبيخ وتأنيب ولوم ، فيقول الأتباع للرّؤساء : لم غرّرتمونا؟ ويقول الرّؤساء : لم قبلتم منّا؟ فذلك قوله تعالى : (قالُوا) يعني الأتباع للمتبوعين (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : كنتم تقهروننا بقدرتكم علينا ، لأنّكم كنتم أعزّ منّا ، رواه الضّحّاك. والثاني : من قبل الدّين فتضلّونا عنه ، قاله الضّحّاك ، وقال الزّجّاج : تأتوننا من قبل الدّين فتخدعونا

__________________

(١) الملك : ٨٠.

(٢) القمر : ٤٤.

٥٣٩

بأقوى الأسباب. والثالث : كنتم توثّقون ما كنتم تقولون بأيمانكم ، فتأتوننا من قبل الأيمان التي تحلفونها ، حكاه عليّ بن أحمد النّيسابوريّ. فيقول المتبوعون لهم : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لم تكونوا على حقّ فنضلّكم عنه ، إنما الكفر من قبلكم. (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه القهر. والثاني : الحجّة. فيكون المعنى على الأول : وما كان لنا عليكم من قوّة نقهركم بها ونكرهكم على متابعتنا ، وعلى الثاني : لم نأتكم بحجّة على ما دعوناكم إليه كما أتت الرّسل.

قوله تعالى : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) أي : فوجبت علينا كلمة العذاب ، وهي قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١) ؛ (إِنَّا لَذائِقُونَ) العذاب جميعا نحن وأنتم ، (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي : أضللناكم عن الهدى بدعائكم إلى ما نحن عليه ، وهو قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ).

ثم أخبر عن الأتباع والمتبوعين بقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) ، والمجرمون ها هنا : المشركون ، (إِنَّهُمْ كانُوا) في الدّنيا (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي : قولوا هذه الكلمة (يَسْتَكْبِرُونَ) أي : يتعظّمون عن قولها ، (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا) المعنى : أنترك عبادة آلهتنا (لِشاعِرٍ) أي : لاتباع شاعر؟! يعنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فردّ الله تعالى عليهم فقال : (بَلْ) أي : ليس الأمر على ما قالوا ، بل (جاءَ بِالْحَقِ) وهو التوحيد والقرآن ، (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين كانوا قبله ؛ والمعنى أنه أتى بما أتوا به. ثم خاطب المشركين بما بعد هذا إلى قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) يعني الموحّدين. قال أبو عبيدة : والعرب تقول : إنّكم لذاهبون إلّا زيدا. وفي ما استثناهم منه قولان : أحدهما : من الجزاء على الأعمال ، فالمعنى : إنّا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم ، بل نغفر لهم ، قاله ابن زيد. والثاني : من دون العذاب ، فالمعنى : فإنهم لا يذوقون العذاب ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الجنّة ، قاله قتادة. والثاني : أنه الرّزق في الجنّة ، قاله السّدّيّ ، فعلى هذا ، في معنى «معلوم» قولان : أحدهما : أنه بمقدار الغداة والعشيّ ، قاله ابن السّائب. والثاني : أنهم حين يشتهونه يؤتون به ، قاله مقاتل.

ثم بيّن الرّزق فقال : (فَواكِهُ) وهي جمع فاكهة وهي الثّمار كلّها ، رطبها ويابسها (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) بما أعطاهم الله. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره (٢) إلى قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) قال الضّحّاك : كلّ كأس ذكرت في القرآن ، فإنما عني بها الخمر ، قال أبو عبيدة : الكأس : الإناء بما فيه ؛ والمعين : الماء الطاهر الجاري. قال الزّجّاج : الكأس : الإناء الذي فيه الخمر ، وتقع الكأس على كلّ إناء مع شرابه ، فإن كان فارغا فليس بكأس. والمعين : الخمر يجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العيون.

قوله تعالى : (بَيْضاءَ) قال الحسن : خمر الجنّة أشدّ بياضا من اللّبن ، قال أبو سليمان الدّمشقي : ويدلّ على أنه أراد بالكأس الخمر ، أنه قال : «بيضاء» فأنّث ولو أراد الإناء على انفراده ، أو الإناء والخمر ، لقال : أبيض. وقال ابن جرير : إنما أراد بقوله : «بيضاء» الكأس ، ولتأنيث الكأس أنثت البيضاء. قوله تعالى : (لَذَّةٍ) قال ابن قتيبة : أي : لذيذة ، يقال : شراب لذاذ : إذا كان طيّبا. وقال

__________________

(١) الأعراف : ١٨.

(٢) الحجر : ٤٧.

٥٤٠