زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) قيل : إنها نزلت فيما أبداه القائل : لئن مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأتزوّجنّ عائشة (١). قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ). قال المفسّرون :

(١١٧١) لمّا نزلت آية الحجاب ، قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ونحن أيضا نكلّمهنّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) أي : في أن يروهنّ ولا يحتجبن عنهم ، إلى قوله تعالى : (وَلا نِسائِهِنَ) قال ابن عباس : يعني نساء المؤمنين ، لأنّ نساء اليهود والنّصارى يصفن لأزواجهنّ نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن رأينهنّ.

فإن قيل : ما بال العمّ والخال لم يذكرا؟ فعنه جوابان : أحدهما : لأنّ المرأة تحلّ لأبنائهما ، فكره أن تضع خمارها عند عمّها وخالها ، لأنهما ينعتانها لأبنائهما ، هذا قول الشّعبيّ وعكرمة. والثاني : لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يذكرا ، قاله الزّجّاج.

فأما قوله تعالى : (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) ففيه قولان : أحدهما : أنه أراد الإماء دون العبيد ، قاله سعيد بن المسيّب. والثاني : أنه عامّ في العبيد والإماء. قال ابن زيد : كنّ أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحتجبن من المماليك. وقد سبق بيان هذا في سورة النّور (٢).

قوله تعالى : (وَاتَّقِينَ اللهَ) أي : أن يراكنّ غير هؤلاء (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي : لم يغب عنه شيء.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد تقدّمت في هذه السّورة (٣).

قوله تعالى : (صَلُّوا عَلَيْهِ). قال كعب بن عجرة :

(١١٧٢) قلنا : يا رسول الله قد عرفنا التّسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال : قولوا : «اللهمّ

____________________________________

(١١٧١) لم أره مسندا ، وإنما عزاه المصنف للمفسّرين ، وهو خبر واه ، شبه لا شيء ، لخلوه عن الإسناد.

(١١٧٢) صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٧٠ و ٤٧٩٧ و ٦٣٥٧ ومسلم ٤٠٦ وأبو داود ٩٧٦ و ٩٧٧ و ٩٧٨ والترمذي ٤٨٣ والنسائي ٣ / ٤٧ وابن ماجة ٩٠٤ والشافعي ١ / ٩٢ والحميدي ٧١١ و ٧١٢ وعبد الرزاق ٣١٠٥ وأحمد ـ

__________________

(١) انظر الحديث المتقدم برقم ١١٦٩.

(٢) النور : ٣١.

(٣) الأحزاب : ٤٣.

٤٨١

صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد» ، أخرجه البخاريّ ومسلم. ومعنى قوله قد علمنا التّسليم عليك : ما يقال في التشهّد : «السّلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته». وذهب ابن السّائب إلى أنّ معنى التّسليم : سلّموا لما يأمركم به.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :

(١١٧٣) أحدها : في الذين طعنوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اتّخذ صفيّة بنت حييّ ، قاله ابن عباس.

والثاني : نزلت في المصوّرين ، قاله عكرمة.

والثالث : في المشركين واليهود والنّصارى ، وصفوا الله تعالى بالولد وكذّبوا رسوله وشجّوا وجهه وكسروا رباعيته وقالوا : مجنون شاعر ساحر كذّاب. ومعنى أذى الله : وصفه بما هو منزّه عنه (١) ،

____________________________________

٤ / ٢٤٤ وإسماعيل القاضي ٥٦ و ٥٧ و ٥٨ وابن الجارود ٢٠٦ وابن حبان ٩١٢ والطبراني ١٩ / ١١٦ ـ ١٢٨ ـ ١٢٩ والبيهقي ٢ / ١٤٧ من طرق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة به. وانظر «أحكام القرآن» ١٨٤٤ بتخريجنا.

فائدة : قال العلامة ابن القيم رحمه‌الله في «جلاء الأفهام» ص ١١٨ ـ ١٢٦ ما ملخصه : واختلف في آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أربعة أقوال :

ـ فقيل : هم الذين حرمت عليهم الصدقة ، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء :

ـ أحدها : أنهم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية.

ـ والثاني : أنهم بنو هاشم خاصة ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، والرواية عن أحمد ، واختيار ابن القاسم صاحب مالك.

والثالث : أنهم بنو هاشم ، ومن فوقهم إلى غالب ، فيدخل بنو المطلب ، وبنو أمية ، وبنو نوفل ، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك.

ـ قال : وهذا القول في الآل ـ أعني الذين تحرم عليهم الصدقة ـ هو منصوص الشافعي وأحمد والأكثرين ، وهو اختيار أصحاب أحمد والشافعي.

ـ والقول الثاني : أن آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة ، حكاه ابن عبد البر في «التمهيد» ...

ـ والقول الثالث : أن آله أتباعه إلى يوم القيامة ، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم ، ورجحه النووي في «شرح مسلم».

ـ والقول الرابع : أن آله هم الأتقياء من أمته ، حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة.

ـ ثم ذكر ابن القيم رحمه‌الله أدلة أصحاب هذه الأقوال وعقب ذلك بقوله : والصحيح هو القول الأول ، ويليه الثاني ، وأما الثالث والرابع فضعيفان اه.

ـ وقال النووي كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٦٣٥ : إذا صلّي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما ، فلا يقول : «صلى الله عليه» فقط ، ولا : «عليه‌السلام». وقال ابن كثير : وهذا منتزع من الآية الكريمة فالأولى أن يقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما.

(١١٧٣) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٨٦٤١ عن ابن عباس برواية عطية العوفي ، وهو واه ، وعنه مجاهيل.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٤ / ٢١١ : اختلف العلماء في أذية الله بما ذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء : معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه ، ووصفه بما لا يليق به ، كقول اليهود لعنهم الله :

٤٨٢

وعصيانه ؛ ولعنهم في الدنيا : بالقتل والجلاء ، وفي الآخرة : بالنّار.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(١١٧٤) أحدها : أنّ عمر بن الخطّاب رأى جارية متبرّجة فضربها ، وكفّ ما رأى من زينتها ، فذهبت إلى أهلها تشكو ، فخرجوا إليه فآذوه ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس.

(١١٧٥) والثاني : أنها نزلت في الزّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهنّ ، فيرون المرأة فيدنون منها فيغمزونها ، وإنما كانوا يؤذون الإماء ، غير أنه لم تكن الأمة تعرف من الحرّة ، فشكون ذلك إلى أزواجهنّ ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.

(١١٧٦) والثالث : أنها نزلت فيمن تكلّم في عائشة وصفوان بن المعطّل بالإفك ، قاله الضّحّاك.

(١١٧٧) والرابع : أنّ ناسا من المنافقين آذوا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

قال المفسّرون : ومعنى الآية : يرمونهم بما ليس فيهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

____________________________________

(١١٧٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧١٦ برواية عطاء عن ابن عباس بدون سند تعليقا ـ قلت : وتفرد الواحدي بذكره من غير إسناد ، فهو لا أصل له لخلوه عن الإسناد ، ولم يذكره الواحدي في «الوسيط» ولا رأيت من أخرجه غيره ، فهو لا شيء.

(١١٧٥) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧١٨ عن الضحاك والسدي الكلبي بدون إسناد.

(١١٧٦) ضعيف جدا. ذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٩٢٢ قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف جدا ، جويبر متروك ، والضحاك لم يلق ابن عباس.

(١١٧٧) باطل ، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧١٧ عن مقاتل بدون سند ، ومقاتل ممن يضع الحديث ، والمتن باطل.

__________________

وقالت اليهود يد الله مغلولة. والنصارى : المسيح ابن الله والمشركون : الملائكة بنات الله. وفي صحيح البخاري قال الله تعالى : «كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك ...».

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال الله تبارك وتعالى : «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما». وقال عكرمة : معناه بالتصوير والتعرض لفعل لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرهما. قلت : وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرهما ، إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبّه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى. وقالت فرقة : ذلك على حذف مضاف ، تقديره : يؤذون أولياء الله اه. قلت : وأخرج الطبري ٢٨٦٤٠ عن عكرمة قال : الذين يؤذون الله ورسوله هم أصحاب التصاوير.

٤٨٣

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية. سبب نزولها :

(١١٧٨) أنّ الفسّاق كانوا يؤذون النساء إذا خرجن بالليل ، فإذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا : هذه حرّة ، وإذا رأوها بغير قناع قالوا : أمة ، فآذوها ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) قال ابن قتيبة : يلبسن الأردية. وقال غيره : يغطين رؤوسهنّ ووجوههنّ ليعلم أنهنّ حرائر (ذلِكَ أَدْنى) أي : أحرى وأقرب (أَنْ يُعْرَفْنَ) أنهنّ حرائر (فَلا يُؤْذَيْنَ). قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) أي : عن نفاقهم (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : فجور ، وهم الزّناة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) بالكذب والباطل ، يقولون : أتاكم العدوّ ، وقتلت سراياكم وهزمت (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي : لنسلّطنّك عليهم بأن نأمرك بقتالهم. قال المفسّرون : وقد أغري بهم ، فقيل له : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) (١). وقال يوم جمعة :

(١١٧٩) «اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق. قم يا فلان فإنك منافق».

(ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) ثم لا يجاورونك فيها أي : في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) حتى يهلكوا ، (مَلْعُونِينَ) منصوب على الحال ؛ أي : لا يجاورونك إلّا وهم ملعونون (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي : وجدوا وأدركوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) معنى الكلام : الأمر ، أي : هذا الحكم فيهم ، (سُنَّةَ اللهِ) أي : سنّ في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يفعل بهم هذا.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) قال عروة : الذي سأله عنها عتبة بن ربيعة.

قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ) أي : أيّ شيء يعلمك أمر الساعة ومتى تكون؟ والمعنى : أنت لا تعرف ذلك ؛ ثم قال : (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) فإن قيل : هلّا قال : قريبة؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها :

____________________________________

(١١٧٨) أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٥ / ٤١٦ عن السدي مرسلا. وأخرجه الطبري ٢٨٦٥١ عن قتادة ، وهذا مرسل. وورد من مرسل أبي مالك. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٧١٩. وورد من مرسل أبي صالح ، أخرجه الطبري ٢٨٦٥٣ ومع إرساله فيه من لم يسم ، وأبو صالح ضعيف الحديث ، ليس بشير بشيء. وعزاه الواحدي في «الأسباب» ٧١٨ للضحاك والسدي والكلبي بدون إسناد. وورد من مرسل معاوية بن قرة ، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر المنثور» ٥ / ٤١٦. الخلاصة : هذه المراسيل تتأيد بمجموعها وتعتضد ، ويعلم أن للخبر أصلا ، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٣ / ٦٢٦ بتخريجنا.

(١١٧٩) ضعيف. أخرجه الطبري ١٧١٣٧ بإسناد واه ، لأجل حسين بن عمرو العنقزي عن أسباط عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به.

__________________

(١) التوبة : ٧٣.

٤٨٤

أنه أراد الظّرف ، ولو أراد صفة الساعة بعينها ، لقال : قريبة ، هذا قول أبي عبيدة. والثاني : أنّ المعنى راجع إلى البعث ، أو إلى مجيء الساعة. والثالث : أنّ تأنيث الساعة غير حقيقي ، ذكرهما الزّجّاج. وما بعد هذا قد سبق بيان ألفاظه (١).

فأمّا قوله تعالى : (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فقال الزّجّاج : الاختيار الوقف بألف ، لأنّ أواخر الآي وفواصلها تجري مجرى أواخر الأبيات ، وإنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلّف ليدلّ بالوقف بزيادة الحرف أنّ الكلام قد تمّ ، وقد أشرنا إلى هذا في قوله تعالى : (الظُّنُونَا) (٢).

قوله تعالى : (أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) أي : أشرافنا وعظماءنا. قال مقاتل : هم المطعمون في غزاة بدر. وكلّهم قرءوا : «سادتنا» على التوحيد ، غير ابن عامر ، فإنه قرأ : «ساداتنا» على الجمع مع كسر التاء ، ووافقه المفضّل ، ويعقوب ، إلّا أبا حاتم (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي : عن سبيل الهدى ، (رَبَّنا آتِهِمْ) يعنون السّادة (ضِعْفَيْنِ) أي : ضعفي عذابنا ، (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «كثيرا» بالثاء. وقرأ عاصم ، وابن عامر : «كبيرا». وقال أبو علي : الكثرة أشبه بالمرار المتكررة من الكبر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١))

قوله تعالى : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) أي : لا تؤذوا محمّدا كما آذى بنو إسرائيل موسى فينزل بكم ما نزل بهم ، وفي ما آذوا به موسى أربعة أقوال :

(١١٨٠) أحدها : أنهم قالوا : هو آدر ، فذهب يوما يغتسل ، ووضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر

____________________________________

(١١٨٠) صح مرفوعا وموقوفا ، فالله أعلم. أخرجه البخاري ٣٤٠٤ والترمذي ٣٢٢١ والبغوي في «معالم التنزيل» ٣ / ٥٤٥ من طريق روح بن عبادة عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده فيه لين ، روح بن عبادة ، وإن وثقه غير واحد ، فقد قال أبو حاتم : لا يحتج به ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال يعقوب بن شيبة : سمعت عفان لا يرضى أمر روح بن عبادة. هذا شيء. والشيء الثاني : الحسن لم يسمع من أبي هريرة. وكذا خلاس فيما قال أحمد. قال الحافظ في «الفتح» ٦ / ٤٣٧ : قال أبو داود عن أحمد : لم يسمع خلاس من أبي هريرة. قال الحافظ : وما له في البخاري غير هذا الحديث ، وقد أخرجه له مقرونا بغيره ، وله حديث آخر مقرون بمحمد بن سيرين. قلت : وكأن روح اضطرب في هذا الحديث. فقد أخرجه أحمد ٢ / ٥١٤ ـ ٥١٥ عن روح عن عوف عن الحسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلاس ومحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فجعل رواية الحسن مرسلة. وهكذا أخرجه الطبري ٢٨٦٧٤ من طريق ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن مرسلا. وأخرجه الطبري ٢٨٦٧٣ والطحاوي في «المشكل» ٦٧ عن روح عن عوف عن محمد ـ ابن سيرين ـ عن أبي هريرة. وأخرجه النسائي في «التفسير» ٤٤٤ و «الكبرى» ١١٤٢٤ من طريق روح عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة مرفوعا ، وتقدم عن أحمد قوله : خلاس لم يسمع من أبي هريرة. وكرره النسائي ١١٤٢٥ وفي «التفسير» ٤٤٥ من طريق النضر عن عوف بمثله. وعلى هذا فقد توبع روح ، لكن هذا الإسناد معلول بسبب ـ

__________________

(١) البقرة : ١٥٩ ـ النساء : ١٠ ـ الإسراء : ٩٧.

(٢) الأحزاب : ١.

٤٨٥

بثوبه ، فخرج في طلبه ، فرأوه فقالوا : والله ما به من بأس. والحديث مشهور في الصّحاح كلّها من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذكرته بإسناده في «المغني» و «الحدائق». قال ابن قتيبة : والآدر : عظيم الخصيتين.

(١١٨١) والثاني : أنّ موسى صعد الجبل ومعه هارون ، فمات هارون ، فقال بنو إسرائيل : أنت قتلته فآذوه بذلك ، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مرّت به على بني إسرائيل ، وتكلّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات ، فبرّأه الله تعالى من ذلك ، قاله عليّ عليه‌السلام.

____________________________________

الإرسال كما تقدم. وكرره البخاري ٤٧٩٩ من طريق روح عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن موسى كان رجلا حييّا» ، وذلك قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ...).

ـ وللحديث طريق آخر : أخرجه البخاري ٢٧٨ ومسلم ٣٣٩ وص ١٨٤١ وابن حبان ٦٢١١ وأبو عوانة ١ / ٢٨١ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٤٨٣ من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة مرفوعا.

ـ وله علة ، وهي الوقف : أخرجه مسلم ص ١٨٤٢ من وجه آخر عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة موقوفا عليه. وراويه عن خالد الحذاء ، يزيد بن زريع ، وهذا إسناد كالشمس.

ـ وأخرجه الطبري ٢٦٨٧٥ عن قتادة ، قال : حدث الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... الحديث ، وهذا منقطع. وورد من حديث أبي هريرة من وجه آخر : أخرجه الطبري ٢٨٦٦٩ من طريق جابر الجعفي عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ساقط ، جابر هو ابن يزيد ، متروك الحديث. وله شاهد من حديث أنس : أخرجه البزار ٢٢٥٢ «كشف» وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٩٣ ـ ٩٤ : ثقة ، سيء الحفظ. قلت : جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. وورد عن ابن عباس موقوفا : أخرجه الطبري ٢٨٦٦٨ وإسناده صحيح ، رجاله رجال البخاري ومسلم. وكرره ٢٨٦٧٠ وإسناده ضعيف جدا ، فيه مجاهيل ، وعطية العوفي واه. وورد عن قتادة قوله : أخرجه الطبري ٢٨٦٧٢. وورد عن الحسن وقتادة قولهما : أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٢٣٨٢ عن معمر عن الحسن وقتادة.

ـ الخلاصة : روي مرفوعا بإسناد حسن ، وآخر صحيح ، وأخر ضعيفة. وورد موقوفا بإسناد كالشمس ، عن أبي هريرة ومثله عن ابن عباس بسند صحيح موقوفا. وورد عن قتادة وعن الحسن قولهما لم يرفعاه. فالحديث كما ترى ورد مرفوعا ، وموقوفا ، وموقوفا على بعض التابعين ، وفي المتن غرابة. لكن لا أقدم على ترجيح الوقف بسبب أن الحديث في الصحيحين ، ولم أجد من رجح وقفه ، والله أعلم.

ولفظ البخاري المرفوع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن موسى كان رجلا حييا سترا لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا : ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده : إما برص وإما أدرة ، وإما من آفة. وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى ، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا. فذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ، وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً). قال الحافظ في «الفتح» ١ / ٣٨٦ : قال الجوهري : الأدرة : نفخة في الخصية ، وهي بفتحات ، وحكي بضم أوله ، وإسكان الدال.

وقال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٤ / ٢٢٤ : وهو الصحيح من الأقوال. وهو مذهب الجمهور.

(١١٨١) أخرجه الطبري ٢٨٧٦ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٦٣٩ وإسناده حسن لأجل سفيان بن حسين ، فإنه حسن الحديث ، وباقي الإسناد ثقات. وانظر «أحكام القرآن» ٣ / ٦٢٧ بتخريجنا.

٤٨٦

(١١٨٢) والثالث : أنّ قارون استأجر بغيّا لتقذف موسى بنفسها على ملإ من بني إسرائيل فعصمها الله تعالى وبرّأ موسى من ذلك ، قاله أبو العالية.

والرابع : أنهم رموه بالسّحر والجنون ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) قال ابن عباس : كان عند الله تعالى حظيّا لا يسأله شيئا إلّا أعطاه. وقد بيّنّا معنى الوجيه في سورة آل عمران (١). وقرأ ابن مسعود والأعمش ، وأبو حيوة : «وكان عبد الله» بالتنوين والباء وكسر اللام.

قوله تعالى : (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) فيه أربعة قوال : أحدها : صوابا ، قاله ابن عباس. والثاني : صادقا ، قاله الحسن. والثالث : عدلا ، قاله السّدّيّ. والرابع : قصدا ، قاله ابن قتيبة. ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال : أحدها : أنه «لا إله إلّا الله» ، قاله ابن عباس وعكرمة. والثاني : أنه العدل في جميع الأقوال ، والأعمال ، قاله قتادة. والثالث : في شأن زينب وزيد ، ولا تنسبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما لا يصلح ، قاله مقاتل بن حيّان. قوله تعالى : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) فيه قولان : أحدهما : يتقبّل حسناتكم ، قاله ابن عباس. والثاني : يزكّي أعمالكم ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي : نال الخير وظفر به.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) فيها قولان (٢) :

أحدهما : أنها الفرائض ، عرضها الله على السّموات والأرض والجبال ، إن أدّتها أثابها ، وإن ضيّعتها عذّبها ، فكرهت ذلك ؛ وعرضها على آدم فقبلها بما فيها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ؛ وكذلك قال سعيد بن جبير : عرضت الأمانة على آدم فقيل له : تأخذها بما فيها ، إن أطعت غفرت لك ، وإن عصيت عذّبتك ، فقال : قبلت ، فما كان إلّا كما بين صلاة العصر إلى أن غربت الشمس حتى أصاب الذّنب. وممن ذهب إلى أنها الفرائض قتادة والضّحّاك والجمهور.

والثاني : أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضا عليها. روى السّدّيّ عن أشياخه أنّ آدم لمّا أراد الحجّ قال للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت ، وقال للأرض ، فأبت ، وقال للجبال ، فأبت ، فقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وتجيء وتجد أهلك كما يسرّك ، فلما انطلق آدم قتل قابيل هابيل ،

____________________________________

(١١٨٢) لا أصل له. عزاه المصنف لأبي العالية ، ولم أره عنه مسندا ، وأبو العالية يروي عن كتب الإسرائيليات ، وهذا منها.

__________________

(١) آل عمران : ٤٥.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٠ / ٣٤٢ : إنه عني بالأمانة في هذا الموضع جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس ، وذلك أن الله تعالى لم يخصّ بقوله بعض معاني الأمانات.

٤٨٧

فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه ، فذلك حيث يقول الله عزوجل : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) إلى قوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) وهو ابن آدم ، فما قام بها.

وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسّرين أنّ آدم لمّا حضرته الوفاة قال : يا ربّ ، من استخلف من بعدي؟ فقيل له : اعرض خلافتك على جميع الخلق ، فعرضها ، فكلّ أباها غير ولده. وللمفسّرين في المراد بعرض الأمانة على السّموات والأرض قولان : أحدهما : أنّ الله تعالى ركّب العقل في هذه الأعيان ، وأفهمهنّ خطابه ، وأنطقهنّ بالجواب حين عرضها عليهنّ ، ولم يرد بقوله : «أبين» المخالفة ، ولكن أبين للخشية والمخافة ، لأنّ العرض كان تخييرا لا إلزاما ، و «أشفقن» بمعنى خفن منها أن لا يؤدينها فيلحقهنّ العقاب ، هذا قول الأكثرين. والثاني : أنّ المراد بالآية : إنّا عرضنا الأمانة على أهل السّموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة ، قاله الحسن.

وفي المراد بالإنسان أربعة أقوال : أحدها : آدم في قول الجمهور. والثاني : قابيل في قول السّدّيّ. والثالث : الكافر والمنافق ، قاله الحسن. والرابع : جميع الناس ، قاله ثعلب.

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ظلوما لنفسه ، غرّا بأمر ربّه ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : ظلوما لنفسه ، جهولا بعاقبة أمره ، قاله مجاهد. والثالث : ظلوما بمعصية ربّه ، جهولا بعقاب الأمانة ، قاله ابن السّائب.

وذكر الزّجّاج في الآية وجها يخالف أكثر الأقوال ، وذكر أنّه موافق للتفسير فقال : إنّ الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته ، وائتمن السّموات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له ، فأمّا السموات والأرض فقالتا : (أَتَيْنا طائِعِينَ) (١) وأعلمنا أنّ من الحجارة ما يهبط من خشية الله ، وأنّ الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجدون لله ، فعرّفنا الله تعالى أنّ السموات والأرض لم تحتمل الأمانة ، لأنها أدّتها ، وأداؤها : طاعة الله وترك معصيته ، وكلّ من خان الأمانة فقد احتملها ، وكذلك كلّ من أثم فقد احتمل الإثم ، وكذلك قال الحسن : «وحملها الإنسان» أي : الكافر والمنافق حملاها ، أي : خانا ولم يطيعا ؛ فأمّا من أطاع ، فلا يقال : كان ظلوما جهولا.

قوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) قال ابن قتيبة : المعنى : عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذّبهم الله ، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم ، أي : يعود عليهم بالرّحمة والمغفرة إن وقع منهم تقصير في الطاعات.

__________________

(١) فصلت : ١١.

٤٨٨

سورة سبأ

وهي مكّيّة بإجماعهم. وقال الضّحّاك ، وابن السّائب ، ومقاتل : فيها آية مدنيّة ، وهي قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنّة ، فيقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (٢) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (٣) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (٤). (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من بذر أو مطر أو كنز أو غير ذلك (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من زرع ونبات وغير ذلك (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من مطر أو رزق أو ملك (وَما يَعْرُجُ فِيها) من ملك أو عمل أو دعاء. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني منكري البعث (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي : لا نبعث (٥).

قوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ) قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو : «عالم الغيب» بكسر الميم ، وقرأ

__________________

(١) سبأ : ٦.

(٢) الزمر : ٧٤.

(٣) الأعراف : ٤٣.

(٤) فاطر : ٣٤.

(٥) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٦٤٥ : هذه إحدى الآيات الثلاث اللاتي لا رابع لهن ، مما أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد ، فإحداهن في سورة يونس : [٥٣] ، والثانية هذه ، والثالثة في سورة التغابن [٧].

٤٨٩

نافع وابن عامر برفعها. وقرأ حمزة والكسائيّ : «علّام الغيب» بالكسر ولام قبل الألف. قال أبو عليّ : من كسر فعلى معنى : الحمد لله عالم الغيب ؛ ومن رفع جاز أن يكون «عالم الغيب» خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو عالم الغيب ، ويجوز أن يكون ابتداء خبره (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) ؛ و «علّام» أبلغ من «عالم». وقرأ الكسائيّ وحده : «لا يعزب» بكسر الزاي ؛ وهما لغتان.

قوله تعالى : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) وقرأ ابن السّميفع ، والنّخعيّ ، والأعمش : «ولا أصغر من ذلك ولا أكبر» بالنصب فيهما. قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) قال الزّجّاج : المعنى : بل وربّي لتأتينّكم المجازاة ، وقال ابن جرير : المعنى : أثبت مثقال الذّرّة وأصغر منه في كتاب مبين ، ليجزي الذين آمنوا ، وليري الذين أوتوا العلم.

قوله تعالى : (مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، والمفضّل : «من رجز أليم» رفعا ؛ والباقون بالخفض فيهما (١). وفي (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قولان : أحدهما : أنهم مؤمنوا أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني القرآن (هُوَ الْحَقَ) قال الفرّاء : «هو» عماد للذي ، فلذلك انتصب الحقّ. وما أخللنا به فقد سبق في مواضع (٢).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم منكروا البعث ، قال بعضهم لبعض : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) أي : يقول لكم : إنّكم (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي : فرّقتم كلّ فريق ؛ والممزّق ها هنا مصدر بمعنى التّمزيق (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : يجدّد خلقكم للبعث. ثم أجاب بعضهم فقالوا : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) حين زعم أنّا نبعث؟! وألف «أفترى» ألف استفهام ، وهو استفهام تعجّب وإنكار ، (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون؟! فردّ الله تعالى عليهم فقال : (بَلِ) أي : ليس الأمر كما تقولون من الافتراء والجنون ، بل (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم الذين يجحدون البعث (فِي الْعَذابِ) إذا بعثوا في الآخرة (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) من الحقّ في الدنيا. ثم وعظهم فقال : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وذلك أنّ الإنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قدّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ؛ فالمعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم ، وأنا القادر عليهم ، إن شئت خسفت بهم الأرض ، وإن شئت أسقطت عليهم قطعة من السماء (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما يرون من السماء والأرض

__________________

(١) أي هنا وفي سورة الجاثية : ١١.

(٢) البقرة : ١٣٠ ـ ٢٦٧ ، الحج : ٥١ ـ ٥٢.

٤٩٠

(لَآيَةً) تدلّ على قدرة الله تعالى على بعثهم والخسف بهم (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي : راجع إلى طاعة الله ، متأمّل لما يرى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) وهو النّبوّة والزّبور وتسخير الجبال والطّير ، إلى غير ذلك ممّا أنعم الله به عليه (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) وروى الحلبيّ عن عبد الوارث : «أوبي» بضمّ الهمزة وتخفيف الواو. قال الزّجّاج : المعنى : وقلنا : يا جبال أوبي معه ، أي : ارجعي معه. والمعنى : سبّحي معه ورجعي التّسبيح. ومن قرأ : «أوبي» معناه : عودي في التّسبيح معه كلّما عاد. وقال ابن قتيبة : «أوّبي» أي : سبّحي ، وأصل التّأويب في السّير ، وهو أن يسير النهار كلّه ، وينزل ليلا ، فكأنه أراد : ادأبي النهار كلّه بالتّسبيح إلى الليل.

قوله تعالى : (وَالطَّيْرَ) وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو العالية ، وابن أبي عبلة : «والطّير» بالرفع. فأمّا قراءة النصب ، فقال أبو عمرو بن العلاء : هو عطف على قوله عزوجل : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً وَالطَّيْرَ) أي : وسخّرنا له الطّير. قال الزّجّاج : ويجوز أن يكون نصبا على النداء ، كأنه قال : دعونا الجبال والطّير ، فالطّير معطوف على موضع الجبال ، وكلّ منادى عند البصريين فهو في موضع نصب ؛ قال : وأمّا الرفع ، فمن جهتين : إحداهما : أن يكون نسقا على ما في «أوّبي» فالمعنى يا جبال رجّعي التّسبيح معه أنت والطّير. والثانية : على النداء ، المعنى : يا جبال ويا أيّها الطّير أوّبي معه. قال ابن عباس : كانت الطّير تسبّح معه إذا سبّح ، وكان إذا قرأ لم تبق دابّة إلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه. وقال وهب بن منبّه : كان يقول للجبال : سبّحي. وللطّير : أجيبي ، ثم يأخذ هو في تلاوة الزّبور بين ذلك بصوته الحسن ، فلا يرى الناس منظرا أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئا أطيب منه. قوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي : جعلناه لينا. قال قتادة : سخّر الله له الحديد بغير نار ، فكان يسوّيه بيده ، لا يدخله النار ، ولا يضربه بحديدة ، وكان أول من صنع الدّروع ، وكانت قبل ذلك صفائح.

قوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ) قال الزّجّاج : معناه : وقلنا له : اعمل ، ويكون في معنى «لأن يعمل» (سابِغاتٍ) أي : دروعا سابغات ، فذكر الصّفة لأنها تدلّ على الموصوف. قال المفسّرون : كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء ، فيعمل الدّروع في بعض يوم فيبيعه بمال كثير ، فيأكل ويتصدّق. والسّابغات : الدّروع الكوامل التي تغطّي لابسها حتى تفضل عنه فيجرّها على الأرض. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي : اجعله على قدر الحاجة. قال ابن قتيبة : السّرد : النّسج ، ومنه يقال لصانع الدّروع : سرّاد وزرّاد ، تبدل من السين الزاي ، كما يقال : سرّاط وزرّاط. وقال الزّجّاج : السّرد في اللغة : تقدمة الشيء إلى الشيء تأتي به متّسقا بعضه في إثر بعض متتابعا ، ومنه قولهم : سرد فلان الحديث. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : عدّل المسمار في الحلقة ولا تصغّره فيقلق ، ولا تعظّمه فتنفصم الحلقة ، قاله مجاهد. والثاني : لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها ، قاله قتادة. قوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) خطاب لداود وآله.

٤٩١

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) قرأ الأكثرون بنصب الرّيح على معنى : وسخّرنا لسليمان الرّيح. وروى أبو بكر ، والمفضّل عن عاصم : «الرّيح» رفعا ، أي : له تسخير الرّيح. وقرأ أبو جعفر : «الرّياح» على الجمع. (غُدُوُّها شَهْرٌ) قال قتادة : تغدو مسيرة شهر إلى نصف النّهار ، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النّهار ، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن : لمّا شغلت نبيّ الله سليمان الخيل عن الصلاة فعقرها ، أبدله الله خيرا منها وأسرع وهي الرّيح ، فكان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ، ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل ، وبينهما مسيرة شهر للمسرع. قوله تعالى : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) قال الزّجّاج : القطر : النّحاس ، وهو الصّفر ، أذيب مذ ذاك ، وكان قبل سليمان لا يذوب. قال المفسّرون : أجرى الله تعالى : لسليمان عين الصّفر حتى صنع منها ما أراد من غير نار ، كما ألين لداود الحديد بغير نار ، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء ؛ وإنما يعمل الناس اليوم ممّا أعطي سليمان.

قوله تعالى : (وَمِنَ الْجِنِ) المعنى : وسخّرنا له من الجنّ (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي : بأمره ؛ سخّرهم الله له ، وأمرهم بطاعته ؛ والكلام يدلّ على أنّ منهم من لم يسخّر له (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) أي : يعدل (عَنْ أَمْرِنا) له بطاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) ؛ وهل هذا في الدنيا ، أم في الآخرة؟ فيه قولان : أحدهما : في الآخرة ، قاله الضّحّاك. والثاني : في الدنيا ، قاله مقاتل. وقيل : إنه كان مع سليمان ملك بيده سوط من نار ، فمن زاغ من الجنّ ضربه الملك بذلك السّوط. (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها المساجد ، قاله مجاهد ، وابن قتيبة. والثاني : القصور ، قاله عطيّة. والثالث : المساجد والقصور ، قاله قتادة. وأمّا التماثيل ، فهي الصّور ؛ قاله الحسن. ولم تكن يومئذ محرّمة ؛ ثم فيها قولان : أحدهما : أنها كانت كالطّواويس والعقبان والنّسور على كرسيّه ودرجات سريره لكي يهابها من أراد الدّنوّ منه ، قاله الضّحّاك. والثاني : أنها كانت صور النّبيّين والملائكة لكي يراهم الناس مصوّرين ، فيعبدوا مثل عبادتهم ويتشبّهوا بهم ، قاله ابن السّائب. وفي ما كانوا يعملونها منه قولان : أحدهما : من النّحاس ، قاله مجاهد. والثاني : من الرّخام والشّبه (١) ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) الجفان : جمع جفنة ، وهي القصعة الكبيرة ، والجوابي ؛ جمع جابية ، وهي الحوض الكبير يجبى فيه الماء ، أي : يجمع. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «كالجوابي» بياء ،

__________________

(١) في «اللسان» : الشّبه : النحاس يصبغ فيصفر.

٤٩٢

إلّا أنّ ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف ، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف. قال الزّجّاج : وأكثر القرّاء على الوقف بغير ياء ، وكان الأصل الوقف بالياء ، إلّا أنّ الكسرة تنوب عنها. قال المفسّرون : كانوا يصنعون له القصاع كحياض الإبل ، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. قوله تعالى : (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي : ثوابت ؛ يقال : رسا يرسو : إذا ثبت. وفي علّة ثبوتها في مكانها قولان : أحدهما : أنّ أثافيها (١) منها ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها لا تنزل لعظمها ، قاله ابن قتيبة. قال المفسّرون : وكانت القدور كالجبال لا تحرّك من أماكنها ، يأكل من القدر ألف رجل. قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) المعنى : وقلنا : اعملوا بطاعة الله تعالى ، شكرا له على ما آتاكم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) يعني على سليمان. قال المفسّرون : كانت الإنس تقول : إنّ الجنّ تعلم الغيب الذي يكون في غد ، فوقف سليمان في محرابه يصلّي متوكّئا على عصاه ، فمات ، فمكث كذلك حولا والجنّ تعمل تلك الأعمال الشّاقّة ولا تعلم بموته حتى أكلت الأرض عصا سليمان ، فخرّ فعلموا بموته ، وعلم الإنس أنّ الجنّ لا تعلم الغيب. وقيل : إنّ سليمان سأل الله تعالى أن يعمّي على الجنّ موته ، فأخفاه الله عنهم حولا. وفي سبب سؤاله قولان : أحدهما : لأنّ الجنّ كانوا يقولون للإنس : إنّنا نعلم الغيب ، فأراد تكذيبهم. والثاني : لأنه كان قد بقي من عمارة بيت المقدس بقيّة. فأما (دَابَّةُ الْأَرْضِ) فهي : الأرضة : وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري : «دابّة الأرض» بفتح الراء. والمنسأة : العصا. قال الزّجّاج : وإنما سمّيت منسأة ، لأنه ينسأ بها ، أي : يطرد ويزجر. قال الفرّاء : أهل الحجاز لا يهمزون المنسأة ، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها.

قوله تعالى : (فَلَمَّا خَرَّ) أي : سقط (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي : ظهرت وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب ، ولو علموا (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي : ما عملوا مسخّرين وهو ميت وهم يظنّونه حيّا. وقيل : تبيّنت الجنّ ، أي علمت ، لأنّها كانت تتوهّم باستراقها السّمع أنها تعلم الغيب ، فعلمت حينئذ خطأها في ظنّها. وروى رويس عن يعقوب : «تبيّنت» برفع التاء والباء وكسر الياء.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

__________________

(١) في «اللسان» : الأثف : الحجر الذي توضع عليه القدر ، وجمعها أثافي.

٤٩٣

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «في مساكنهم». وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : «مسكنهم» بفتح الكاف من غير ألف. وقرأ الكسائيّ ، وخلف : «مسكنهم» بكسر الكاف ، وهي لغة.

قال المفسّرون : المراد بسبإ ها هنا : القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ؛ وقد ذكرنا في سورة النّمل (١) الخلاف في هذا ، وأنّ قوما يقولون : هو اسم بلد ، وليس باسم رجل. وذكر الزّجّاج في هذا المكان أنّ من قرأ : «لسبأ» بالفتح وترك الصّرف ، جعله اسما للقبيلة ، ومن صرف وكسر ونوّن ، جعله اسما للحيّ واسما لرجل ؛ وكلّ جائز حسن. و (آيَةٌ) رفع ، اسم «كان» و (جَنَّتانِ) رفع على نوعين. أحدهما : أنه بدل من «آية». والثاني : على إضمار ، كأنّه لمّا قيل : «آية» قيل : الآية جنّتان.

الإشارة إلى قصتهم

ذكر العلماء بالتفسير والسّير أنّ بلقيس لمّا ملكت قومها جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم ، فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها ، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصرها فنزلته ، فلمّا كثر الشّرّ بينهم وندموا ، أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها ، فأبت ، فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنّك ، فقالت : إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول ، فقالوا : فإنّا نطيعك ، فجاءت إلى واديهم ـ وكانوا إذا مطروا أتاه السّيل من مسيرة أيّام ـ فأمرت به ، فسدّ ما بين الجبلين بمسنّاة (٢) ، وحبست الماء من وراء السّدّ ، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدّة أنهارهم ، فكان الماء يخرج بينهم بالسّويّة ، إلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذكره (٣) ، وبقوا بعدها على حالهم ، وقيل : إنما بنوا ذلك البنيان لئلا يغشى السّيل أموالهم فيهلكها ، فكانوا يفتحون من أبواب السّدّ ما يريدون ، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه ، وكانت لهم جنّتان عن يمين واديهم وعن شماله ، فأخصبت أرضهم ، وكثرت فواكههم ، وإن كانت المرأة لتمرّ بين الجنّتين والمكتل على رأسها ، فترجع وقد امتلأ من الثّمر ولا تمسّ بيدها شيئا منه ، ولم يكن يرى في بلدهم حيّة ولا عقرب ، ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ، ويمرّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القمل ، فيموت القمل لطيب هوائها. وقيل لهم : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي : هذه بلدة طيّبة ، أو بلدتكم بلدة طيّبة ، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي : والله ربّ غفور ، وكانت ثلاث عشرة قرية ، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيّا (٤) ، فكذّبوا الرّسل ، ولم يقرّوا بنعم الله ، فذلك قوله تعالى : (فَأَعْرَضُوا) أي : عن الحقّ ، وكذّبوا أنبياءهم (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : أنّ العرم : الشديد ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال ابن الأعرابي : العرم : السّيل الذي لا يطاق. والثاني : أنه اسم الوادي ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضّحّاك ، ومقاتل. والثالث : أنه المسنّاة ، قاله مجاهد ، وأبو ميسرة ، والفرّاء ، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة : العرم : جمع عرمة ، وهي : السّكر (٥) والمسنّاة. والرابع : أنّ العرم : الجرذ

__________________

(١) النمل : ٢٢.

(٢) في «اللسان» سننت التراب : صببته على وجه الأرض صبا حتى صار كالمسنّاة.

(٣) النمل : ٢٩ ـ ٤٤.

(٤) هذا الأثر من إسرائيليات وهب بن منبه.

٤٩٤

الذي نقب عليهم السّكر ، حكاه الزّجّاج.

وفي صفة إرسال هذا السّيل عليهم قولان : أحدهما : أنّ الله تعالى بعث على سكرهم دابّة من الأرض فنقبت فيه نقبا ، فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وقال قتادة والضّحّاك في آخرين : بعث الله عليهم جرذا يسمّى الخلد ـ والخلد : الفأر الأعمى ـ فنقبه من أسفله ، فأغرق الله به جنّاتهم ، وخرّب به أرضهم. والثاني : أنه أرسل عليهم ماء أحمر ، أرسله في السّدّ فنسفه وهدمه وحفر الوادي ، ولم يكن الماء أحمر من السّدّ ، وإنما كان سيلا أرسل عليهم ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) يعني اللتين تطعمان الفواكه (جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «أكل» بالتنوين. وقرأ أبو عمرو : «أكل» بالإضافة. وخفّف الكاف ابن كثير ونافع ، وثقّلها الباقون. أمّا الأكل ، فهو الثّمر.

وفي المراد بالخمط ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الأراك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور ؛ فعلى هذا ، أكله : ثمره ؛ ويسمّى ثمر الأراك : البرير. والثاني : أنه كلّ شجرة ذات شوك ، قاله أبو عبيدة. والثالث : أنه كلّ نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله ، قاله المبرّد والزّجّاج. فعلى هذا القول ، الخمط : اسم للمأكول ، فيحسن على هذا قراءة من نوّن الأكل ؛ وعلى ما قبله ، هو اسم شجرة ، والأكل ثمرها ، فيحسن قراءة من أضاف.

فأمّا الأثل ، ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الطّرفاء (١) ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه السّمر ، حكاه ابن جرير. والثالث : أنه شجر يشبه الطّرفاء إلّا أنّه أعظم منه.

قوله تعالى : (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) ففيه تقديم ، تقديره : وشيء قليل من السّدر وهو شجر النبق. والمعنى : أنه كان الخمط والأثل في جنتيهم أكثر من السدر. قال قتادة : بينما شجرهم من خير الشجر ، إذ صيّره الله تعالى من شرّ الشجر.

قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ) أي : ذلك التّبديل جزيناهم (بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ). فإن قيل : قد يجازى المؤمن والكافر ، فما معنى هذا التّخصيص؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنّ المؤمن يجزى ولا يجازى ، فيقال في أفصح اللغة : جزى الله المؤمن ، ولا يقال : جازاه ، لأنّ جازاه بمعنى كافأه ، فالكافر يجازى بسيّئته مثلها ، مكافأة له ، والمؤمن يزاد في الثواب ويتفضّل عليه ، هذا قول الفرّاء. والثاني : أنّ الكافر ليست له حسنة تكفّر ذنوبه ، فهو يجازى بجميع الذّنوب ، والمؤمن قد أحبطت حسناته سيّئاته ، هذا قول الزّجّاج. وقال طاوس : الكافر يجازى ولا يغفر له ، والمؤمن لا يناقش الحساب.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) هذا معطوف على قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) ؛ والمعنى : كان من قصصهم أنّا جعلنا بينهم (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي : قرى الشام ؛ وقد سبق بيان معنى البركة

__________________

(١) السّكر بالسكون : ما سد به النهر.

(٢) في «اللسان» : الطرفاء : قال أبو حنيفة : الطرفاء من العضاه وهدبه مثل هدب الأثل ، وليس له خشب وإنما يخرج عصيا سمحة في السماء.

٤٩٥

فيها (١) ، هذا قول الجمهور. وحكى ابن السّائب أنّ الله تعالى لمّا أهلك جنّتيهم قالوا للرّسل : قد عرفنا نعمة الله علينا ، فلئن ردّ إلينا ما كنّا عليه لنعبدنّه عبادة شديدة ، فردّ عليهم النّعمة ، وجعل لهم قرى ظاهرة ، فعادوا إلى الفساد وقالوا : باعد بين أسفارنا ؛ فمزّقوا.

قوله تعالى : (قُرىً ظاهِرَةً) أي : متواصلة ينظر بعضها إلى بعض (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) فيه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يغدون فيقيلون في قرية ، ويروحون فيبيتون في قرية ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : أنه جعل ما بين القرية والقرية مقدارا واحدا ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (سِيرُوا فِيها) والمعنى : وقلنا لهم : سيروا فيها (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) أي : ليلا ونهارا (آمِنِينَ) من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سبع أو تعب. وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان ، فبطروا النّعمة وملّوها كما ملّ بنو إسرائيل المنّ والسّلوى (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «بعد» بتشديد العين وكسرها. وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة : «باعد» بألف وكسر العين. وعن ابن عباس كالقراءتين. قال ابن عباس : إنهم قالوا : لو كانت جنّاتنا أبعد ممّا هي ، كان أجدر أن يشتهى جناها. قال أبو سليمان الدّمشقي : لمّا ذكّرتهم الرّسل نعم الله ، أنكروا أن يكون ما هم فيه نعمة ، وسألوا الله أن يباعد بين أسفارهم. وقرأ يعقوب : «ربّنا» برفع الباء «باعد» بفتح العين والدال ، جعله فعلا ماضيا على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله عزوجل بهم. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو رجاء ، وابن السّميفع ، وابن أبي عبلة : «بعد» برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف ، على طريق الشّكاية إلى الله عزوجل. وقرأ عاصم الجحدري ؛ وأبو عمران الجوني : «بوعد» برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين. قوله تعالى : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) فيه قولان : أحدهما : بالكفر وتكذيب الرّسل. والثاني : بقولهم : «بعد بين أسفارنا». (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لمن بعدهم يتحدّثون بما فعل بهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي : فرّقناهم في كلّ وجه من البلاد كلّ التّفريق ، لأنّ الله لمّا غرّق مكانهم وأذهب جنّتيهم تبدّدوا في البلاد ، فصارت العرب تتمثّل في الفرقة بسبإ (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما فعل بهم (لَآياتٍ) أي : لعبرا (لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن معاصي الله (شَكُورٍ) لنعمه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) «عليهم» بمعنى «فيهم» ، وصدقه في ظنّه أنّه ظنّ بهم أنّهم يتّبعونه إذ أغواهم ، فوجدهم كذلك. وإنما قال : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) بالظّنّ ، لا بالعلم ، فمن قرأ : «صدّق» بتشديد الدال ، فالمعنى : حقّق ما ظنّه فيهم بما فعل بهم ؛ ومن قرأ بالتخفيف ، فالمعنى : صدق عليهم في ظنّه بهم. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم أهل سبأ. والثاني : سائر المطيعين لإبليس. قوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) قد شرحناه في قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٢). قال الحسن : والله ما ضربهم بعصا ولا قهرهم على شيء ، إلّا أنه دعاهم إلى الأماني والغرور. قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي : ما كان تسليطنا إيّاه إلّا لنعلم المؤمنين من الشّاكّين. وقرأ الزّهري : «إلّا ليعلم» بياء مرفوعة على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ ابن يعمر : «ليعلم» بفتح الياء. وفي المراد بعلمه ها هنا ثلاثة أقوال : قد شرحناها في أوّل العنكبوت (٣). (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الشّكّ والإيمان (حَفِيظٌ) ، وقال ابن قتيبة : والحفيظ بمعنى الحافظ. قال الخطّابيّ : وهو فعيل بمعنى فاعل ، كالقدير ،

__________________

(١) الأنبياء : ٧١.

(٢) الحجر : ٤٢.

(٣) العنكبوت : ٣.

٤٩٦

والعليم ، فهو يحفظ السّموات والأرض بما فيها لتبقى مدّة بقائها ، ويحفظ عباده من المهالك ، ويحفظ عليهم أعمالهم ، ويعلم نيّاتهم ، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذّنوب ، ويحرسهم من مكايد الشيطان.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣))

قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) المعنى : قل للكفّار : ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لينعموا عليكم بنعمة ، أو يكشفوا عنكم بليّة. ثم أخبر عنهم فقال : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي : من خير وشرّ ونفع وضرّ (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) لم يشاركونا في شيء من خلقهما ، (وَما لَهُ) أي : وما لله (مِنْهُمْ) أي : من الآلهة (مِنْ ظَهِيرٍ) أي : من معين على شيء. (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «أذن له» بفتح الألف. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، «أذن له» برفع الألف ، وعن عاصم كالقراءتين. أي : لا تنفع شفاعة ملك ولا نبيّ حتى يؤذن له في الشفاعة ، وقيل : حتى يؤذن له فيمن يشفع. وفي هذا ردّ عليهم حين قالوا : إنّ هذه الآلهة تشفع لنا. (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قرأ الأكثرون : «فزّع» بضمّ الفاء وكسر الزاي ، قال ابن قتيبة : خفّف عنها الفزع. وقال الزّجّاج : معناه : كشف الفزع عن قلوبهم. وقرأ ابن عامر ، ويعقوب ، وأبان : «فزع» بفتح الفاء والزاي ، والفعل لله عزوجل. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وابن يعمر : «فرغ» بالراء غير معجمة ، وبالغين معجمة ، وهو بمعنى الأول ، لأنها فرغت من الفزع. وقال غيره بل فرغت من الشّكّ والشّرك. وفي المشار إليهم قولان (١) :

أحدهما : أنّهم الملائكة وقد دل الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله ولم يذكره في الآية ، لأن إخراج الفزع يدل على حصوله وفي سبب فزعهم قولان : أحدهما : أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى. وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(١١٨٣) «إذا تكلّم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجرّ السّلسلة على الصّفا ، فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ، فإذا جاءهم جبريل فزّع عن قلوبهم ، فيقولون : يا جبريل ، ماذا

____________________________________

(١١٨٣) حسن بشواهده. أخرجه أبو داود ٤٧٣٨ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٤٥ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٣٤ وابن حبان ٣٧ ، ورجاله ثقات معروفون. وأخرجه موقوفا ابن خزيمة في التوحيد ص ١٤٦ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٣٢ كلاهما عن أبي معاوية به. وأخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» ص ٩٢ ، ٩٣ والخطيب في «تاريخ بغداد» ١١ / ٣٩٣ وعبد الله بن أحمد في «السنة» ص ٧١ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٤٦ ـ ١٤٧ من طرق عن الأعمش به موقوفا على عبد الله. وعلقه البخاري عن مسروق عن ابن مسعود موقوفا كما في «الفتح» ١٣ / ٤٥٢. ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي ، ويشهد لأصله ما بعده.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٠ / ٣٧٥ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة : الحق. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٦٥٩ : وقد اختار ابن جرير القول الأول : أن الضمير عائد على الملائكة ، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه.

٤٩٧

قال ربّك؟ قال : فيقول : الحقّ ، فينادون : الحقّ الحقّ».

(١١٨٤) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا قضى الله عزوجل الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربّكم ، قالوا للذي قال : الحقّ وهو العليّ الكبير».

والثاني : أنهم يفزعون من قيام الساعة. وفي السبب الذي ظنّوه بدنوّ الساعة ففزعوا ، قولان :

(١١٨٥) أحدهما : أنه لمّا كانت الفترة التي بين عيسى ومحمّد صلّى الله عليهما وسلّم ، ثم بعث الله محمّدا ، أنزل الله جبريل بالوحي ، فلمّا نزل ظنّت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة ، فصعقوا لذلك ، فجعل جبريل يمرّ بكلّ سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ، قاله قتادة ، ومقاتل ، وابن السّائب. وقيل : لمّا علموا بالإيحاء إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فزعوا ، لعلمهم أنّ ظهوره من أشراط الساعة.

(١١٨٦) والثاني : أنّ الملائكة المعقّبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا ، يسمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فيخرّون سجّدا ، ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة ، وهذا كلّما مرّوا عليهم ، رواه الضّحّاك عن ابن مسعود.

والقول الثاني : أنّ الذي أشير إليهم المشركون ؛ ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنّ المعنى : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت ـ إقامة للحجّة عليهم ـ قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربّكم في الدنيا؟ قالوا : الحقّ ، فأقرّوا حين لم ينفعهم الإقرار ، قاله الحسن ، وابن زيد. والثاني : حتى إذا كشف الغطاء عن قلوبهم يوم القيامة ، قيل لهم : ماذا قال ربّكم؟ قاله مجاهد.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ) يعني المطر (وَالْأَرْضِ) يعني النّبات والثّمر. وإنما

____________________________________

(١١٨٤) صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٠١ و ٧٤٨١ و ٤٨٠٠ وأبو داود ٣٩٨٩ والترمذي ٣٢٢٣ وابن ماجة ١٩٤ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٤٧ وابن حبان ٣٦ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦ وابن مندة في «الإيمان» ٧٠٠ والحميدي ١١٥١ من طرق عن سفيان به.

(١١٨٥) لا أصل له ، عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ومقاتل ، وكلاهما يضع الحديث. وأخرجه الطبري ٢٨٨٥٤ عن قتادة قال : يوحي الله إلى جبرائيل ، فتفرّق الملائكة ، أو تفزع مخافة يكون شيء من أمر الساعة ، فإذا جلي عن قلوبهم ، وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

وهذا من كلام قتادة ، ليس بمرفوع ، فالخبر ليس له أصل في المرفوع.

(١١٨٦) موقوف ضعيف. أخرجه الطبري ٢٨٨٥٥ عن الضحاك عن ابن مسعود قوله ، وإسناده ضعيف ، شيخ الطبري لم يسمّ ، والضحاك لم يلق ابن مسعود.

٤٩٨

أمر أن يسأل الكفّار عن هذا ، احتجاجا عليهم بأنّ الذي يرزق هو المستحقّ للعبادة ، وهم لا يثبتون رازقا سواه ، ولهذا قيل له : (قُلِ اللهُ) لأنهم لا يجيبون بغير هذا ؛ وها هنا تمّ الكلام. ثم أمره أن يقول لهم : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مذهب المفسّرين أنّ «أو» ها هنا بمعنى الواو. وقال أبو عبيدة : معنى الكلام : وإنّا (لَعَلى هُدىً) ، وإنّكم لفي ضلال مبين. وقال الفرّاء : معنى «أو» عند المفسّرين معنى الواو ، وكذلك هو في المعنى ، غير أنّ العربيّة على غير ذلك ، لا تكون «أو» بمنزلة الواو ، ولكنها تكون في الأمر المفوّض ، كما تقول : إن شئت فخذ درهما أو اثنين ، فله أن يأخذ واحدا أو اثنين ، وليس له أن يأخذ ثلاثة ، وإنما معنى الآية : وإنّا لضالّون أو مهتدون ، وإنكم أيضا لضالّون أو مهتدون ، وهو يعلم أنّ رسوله المهتدي ، وأنّ غيره الضّالّ ، كما تقول للرجل تكذّبه : والله إنّ أحدنا لكاذب ـ وأنت تعنيه ـ فكذّبته تكذيبا غير مكشوف ؛ ويقول الرجل : والله لقد قدم فلان ، فيقول له من يعلم كذبه : قل : إن شاء الله ، فيكذّبه بأحسن من تصريح التكذيب ؛ ومن كلام العرب أن يقولوا : قاتله الله ، ثم يستقبحونها ، فيقول : قاتعه الله ، ويقول بعضهم : كاتعه الله ؛ ويقولون : جوعا ، دعاء على الرجل ، ثم يستقبحونها فيقولن : جودا ، وبعضهم يقول : جوسا ؛ ومن ذلك قولهم : ويحك وويسك ، وإنما هي في معنى «ويلك» إلّا أنها دونها. قوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) أي : لا تؤاخذون به (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الكفر والتّكذيب ؛ والمعنى إظهار التّبرّي منهم. وهذه الآية عند أكثر المفسّرين منسوخة بآية السيف ، ولا وجه لذلك. قوله تعالى : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يعني عند البعث في الآخرة (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) أي : يقضي (بِالْحَقِ) أي : بالعدل (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) القاضي (الْعَلِيمُ) بما يقضي (قُلْ) للكفّار (أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي : أعلموني من أيّ وجه ألحقتموهم وهم لا يخلقون ولا يرزقون (كَلَّا) ردع وتنبيه ؛ والمعنى : ارتدعوا عن هذا القول ، وتنبّهوا عن ضلالتكم ، فليس الأمر على ما أنتم عليه.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أي : عامّة لجميع الخلائق. وفي الكلام تقديم ، تقديره : وما أرسلناك إلّا للناس كافّة. وقيل : معنى «كافة للناس» : تكفّهم عمّا هم عليه من الكفر ، والهاء فيه للمبالغة. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعنون العذاب الذي يعدهم به في يوم القيامة ؛ وإنما قالوا هذا لأنّهم ينكرون البعث (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) وفيه قولان : أحدهما : أنه يوم الموت عند النّزع والسّياق ، قاله الضّحّاك. والثاني : يوم القيامة ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ

٤٩٩

مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني مشركي مكّة (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعنون التّوراة والإنجيل ، وذلك أنّ مؤمني أهل الكتاب قالوا : إنّ صفة محمّد في كتابنا ، فكفر أهل مكّة بكتابهم. ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) يعني مشركي مكّة (مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الآخرة (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي : يردّ بعضهم على بعض في الجدال واللّوم (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم الأشراف والقادة : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي : مصدّقين بتوحيد الله ؛ والمعنى : أنتم منعتمونا عن الإيمان ؛ فأجابهم المتبوعون فقالوا : أنحن صددنكم عن الهدى أي : منعناكم عن الإيمان (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) به الرّسول؟ (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) بترك الإيمان ـ وفي هذا تنبيه للكفّار على أنّ طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سببا للعداوة في الآخرة ـ فردّ عليهم الأتباع فقالوا : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : بل مكركم بنا في الليل والنّهار. قال الفرّاء : وهذا ممّا تتوسّع فيه العرب لوضوح معناه ، كما يقولون : ليله قائم ، ونهاره صائم ، فتضيف الفعل إلى غير الآدميين ، والمعنى لهم. وقال الأخفش : وهذا كقوله تعالى : (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) (١) ، قال جرير :

لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت وما ليل المطيّ بنائم (٢)

وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري : «بل مكر» بفتح الكاف والرّاء «الليل والنهار» برفعهما. وقرأ ابن يعمر : «بل مكر» بإسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها ، «الليل والنهار» بنصبهما.

قوله تعالى : (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) وذلك أنهم كانوا يقولون لهم : إنّ ديننا حقّ ومحمّد كذّاب ، (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) وقد سبق بيانه في يونس (٣).

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذا دخلوا جهنّم غلّت أيديهم إلى أعناقهم ، وقالت لهم خزنة جهنّم : هل تجزون إلّا ما كنتم تعملون في الدنيا. قال أبو عبيدة : مجاز «هل» ها هنا مجاز الإيجاب ، وليس باستفهام ؛ والمعنى : ما تجزون إلّا ما كنتم تعملون.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ

__________________

(١) محمد : ١٣.

(٢) في «اللسان» : السّرى : سير الليل عامته.

(٣) يونس : ٥٤.

٥٠٠