زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

والعشاء ، قاله أنس بن مالك.

والثالث : أنها نزلت في صلاة العشاء ، كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينامون حتى يصلّوها ، قاله ابن عباس. والرابع : أنها صلاة العشاء والصّبح في جماعة ، قاله أبو الدّرداء والضّحّاك.

ومعنى «تتجافى» : ترتفع. والمضاجع جمع مضجع ، وهو الموضع الذي يضطجع عليه. (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) من عذابه (وَطَمَعاً) في رحمته وثوابه (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في الواجب والتّطوّع. (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) وأسكن ياء «أخفي» حمزة ، ويعقوب. قال الزّجّاج : في هذه الآية دليل على أنّ المراد بالآية التي قبلها : الصلاة في جوف الليل ، لأنه عمل يستسرّ الإنسان به ، فجعل لفظ ما يجازى به «أخفي لهم» ، وإذا فتحت الياء من أخفي ، فعلى تأويل الفعل الماضي ، وإذا أسكنتها ، فالمعنى : ما أخفي أنا لهم ، إخبار عن الله تعالى ؛ وكذلك قال الحسن البصريّ : أخفي لهم ، بالخفية خفية ، وبالعلانية علانية.

(١١١٠) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله عزوجل : أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، اقرءوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ).

قوله تعالى : (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) وقرأ أبو الدّرداء ، وأبو هريرة ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، والشّعبيّ ، وقتادة : «من قرّات أعين» بألف على الجمع.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) في سبب نزولها قولان :

(١١١١) أحدهما : أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : أنا أحدّ

____________________________________

(١١١٠) صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٨٠ عن إسحاق بن نصر به. وأخرجه مسلم ٢٨٢٤ ح ٤ وابن ماجة ٤٣٢٨ وأحمد ٢ / ٤٦٦ و ٤٩٥ وابن أبي شيبة ١٣ / ١٠٩ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري ٣٢٤٤ و ٤٤٧٩ ومسلم ٢٨٢٤ والترمذي ٣١٩٧ والحميدي ١١٣٣ وابن حبان ٣٦٩ من طرق عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به. وأخرجه البخاري ٧٤٩٨ وعبد الرزاق ٢٠٨٧٤ وأحمد ٢ / ٣١٣ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٦٦ من طريق معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة به. وأخرجه أحمد ٢ / ٣١٣ والدارمي ٢ / ٣٣٥ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٦٨ من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. وله شاهد من حديث سهل بن سعد أخرجه مسلم ٢٨٢٥. ومن حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ٢ / ٢٦٢.

(١١١١) ضعيف منكر. أخرجه الواحدي ٦٨٧ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وأخرجه الطبري ٢٨٢٦٢ عن ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار مرسلا. وهو ضعيف ،

٤٤١

منك سنانا ، وأبسط منك لسانا ، وأملأ للكتيبة منك ، فقال له عليّ : اسكت فإنما أنت فاسق ، فنزلت هذه الآية ، فعنى بالمؤمن عليّا ، وبالفاسق الوليد ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عطاء بن يسار ، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى ، ومقاتل.

والثاني : أنها نزلت في عمر بن الخطّاب وأبي جهل ، قاله شريك.

قوله تعالى : (لا يَسْتَوُونَ) قال الزّجّاج : لا يستوي المؤمنون والكافرون ؛ ويجوز أن تكون لاثنين ، لأنّ معنى الاثنين جماعة ؛ وقد شهد الله عزوجل بهذا الكلام لعليّ عليه‌السلام بالإيمان وأنّه في الجنّة ، لقوله تعالى : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى). وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرّف : «جنة المأوى» على التّوحيد. قوله تعالى : (نُزُلاً) قرأ الحسن ، والنّخعيّ ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : «نزلا» بتسكين الزاي. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) وفيه ستة أقوال (١) : أحدها : أنه ما أصابهم يوم بدر ، رواه مسروق عن ابن مسعود ، وبه قال قتادة ، والسّدّيّ. والثاني : سنون أخذوا بها ، رواه أبو عبيدة عن ابن مسعود ، وبه قال النّخعيّ. وقال مقاتل : أخذوا بالجوع سبع سنين. والثالث : مصائب الدنيا ، قاله أبيّ بن كعب ، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة ، وأبو العالية ، والحسن ، وقتادة ، والضّحّاك. والرابع : الحدود ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والخامس : عذاب القبر ، قاله البراء. والسادس : القتل والجوع ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي : قبل العذاب الأكبر ؛ وفيه قولان :

أحدهما : أنه عذاب يوم القيامة ، قاله ابن مسعود. والثاني : أنه القتل ببدر. قاله مقاتل.

قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال أبو العالية : لعلّهم يتوبون. وقال ابن مسعود : لعلّ من بقي منهم يتوب. وقال مقاتل : لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) قد فسّرناه في الكهف (٢). قوله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) قال يزيد بن رفيع : هم أصحاب القدر. وقال مقاتل : هم كفّار مكّة انتقم الله منهم بالقتل ببدر ، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وعجّل أرواحهم إلى النار.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا

____________________________________

فمع إرساله فيه مجاهيل والصواب أن الآية عامة في كل مؤمن وفاسق. وكون الآية نزلت في ذلك لا يصح وهو من بدع التأويل كونها خاصة في علي وعقبة ، والمراد بالفاسق الكافر لا المؤمن العاصي. وانظر «تفسير القرطبي» ٤٩٧٤. و «أحكام القرآن» ٣ / ٥٣٥.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٠ / ٢٤٨ : وأولى الأقوال في ذلك أن يقال : إن الله وعد هؤلاء الفسقة المكذبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر ، والعذاب هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم ، إما شدة من مجاعة أو قتل ، أو مصائب يصابون بها ، فكل ذلك العذاب الأدنى ، ولم يخصص الله تعالى ذكره أن يعذبهم بنوع من ذلك دون نوع ، وقد عذبهم بكل ذلك في الدنيا بالجوع والشدائد والمصائب في الأموال فأوفى لهم بما وعدهم.

(٢) الكهف : ٥٧.

٤٤٢

مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التّوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) فيه أربعة أقوال : (١١١٢) أحدها : فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربّه ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : من لقاء موسى ليلة الإسراء ، قاله أبو العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن السّائب. والثالث : فلا تكن في شكّ من لقاء الأذى كما لقي موسى ، قال الحسن. والرابع : لا تكن في مرية من تلقّي موسى كتاب الله عزوجل بالرّضى والقبول ، قاله السّدّيّ.

قال الزّجّاج : وقد قيل : فلا تكن في شكّ من لقاء موسى الكتاب ، فتكون الهاء للكتاب. وقال أبو عليّ الفارسيّ : المعنى : من لقاء موسى الكتاب ، فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب ، وفي ذلك مدح على امتثاله ما أمر به ، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل. وفي قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُ هُدىً) قولان : أحدها : الكتاب ، قاله الحسن. والثاني : موسى ، قاله قتادة. (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) أي : من بني إسرائيل (أَئِمَّةً) أي : قادة في الخير (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي : يدعون الناس إلى طاعة الله (لَمَّا صَبَرُوا) وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «لمّا صبروا» بفتح اللام وتشديد الميم. وقرأ حمزة والكسائيّ : «لما» بكسر اللام خفيفة. وقرأ ابن مسعود : «بما» بباء مكان اللام ؛ والمراد : صبرهم على دينهم وأذى عدوّهم (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أنها من الله عزوجل ؛ وفيهم قولان : أحدهما : أنهم الأنبياء. والثاني : أنهم قوم صالحون سوى الأنبياء. وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إن أطعتم جعلت منكم أئمّة.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي : يقضي ويحكم ؛ وفي المشار إليهم قولان :

____________________________________

(١١١٢) الصواب موقوف. أخرجه الطبراني ١٢٧٥٨ من حديث ابن عباس وإسناده ضعيف ، لضعف محمد بن عثمان بن أبي شيبة. وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٢٧٠ : رجاله رجال الصحيح! كذا قال رحمه‌الله مع أن شيخ الطبراني وهو محمّد بن عثمان بن أبي شيبة. ذكره الذهبي في «الميزان» ٧٩٣٤ فقال : وثقة صالح جزرة ، وقال ابن عدي ، لم أر له حديثا منكرا ، وأما عبد الله بن أحمد ، فقال : كذاب. وقال ابن خراش : كان يصنع الحديث. وقال مطيّن : هو عصا موسى ، تلقف ما يأفكون. وقال ابن عقدة : سمعت عبد الله بن أسامة الكلبي ، وإبراهيم بن إسحاق الصواف ، وداود بن يحيى يقولون : محمد بن عثمان ، كذاب اه باختصار والأشبه في هذا ، الوقف فيه على ابن عباس. وانظر «تفسير ابن كثير» ٣ / ٥٧١ و «فتح القدير» ١٩٥١ بتخريجنا.

٤٤٣

أحدهما : أنهم الأنبياء وأممهم. والثاني : المؤمنون والمشركون.

ثم خوّف كفّار مكّة بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي : «نهد» بالنون. وقد سبق تفسيره (١). (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) يعني المطر والسّيل (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) وهي التي لا تنبت ـ وقد ذكرناها في أوّل الكهف (٢) ـ فإذا جاء الماء أنبت فيها ما يأكل الناس والأنعام. (وَيَقُولُونَ) يعني كفّار مكّة (مَتى هذَا الْفَتْحُ) وفيه أربعة أقوال (٣) : أحدها : أنه ما فتح يوم بدر ؛ روى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : يوم بدر فتح للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت. والثاني : أنه يوم القيامة ، وهو يوم الحكم بالثواب والعقاب ، قاله مجاهد. والثالث : أنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا ؛ قاله السّدّيّ. والرابع : فتح مكّة ، قاله ابن السّائب والفرّاء وابن قتيبة ؛ وقد اعترض على هذا القول ، فقيل : كيف لا ينفع الكفّار إيمانهم يوم الفتح وقد أسلم جماعة منهم وقبل إسلامهم يومئذ؟! ففيه جوابان : أحدهما : لا ينفع من قتل من الكفّار يومئذ إيمانهم بعد الموت ؛ وقد ذكرناه عن ابن عباس.

(١١١٣) وقد ذكر أهل السّير أنّ خالدا دخل يوم الفتح من غير الطريق التي دخل منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقيه صفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو في آخرين فقاتلوه ، فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم ، فقتل أربعة وعشرين من قريش ، وأربعة من هذيل ، وانهزموا ، فلمّا ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألم أنّه عن القتال»؟ فقيل : إنّ خالدا قوتل فقاتل.

والثاني : لا ينفع الكفّار ما أعطوا من الأمان ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(١١١٤) «من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

قال الزّجّاج : يقال : آمنت فلانا إيمانا ، فعلى هذا يكون المعنى : لا يدفع هذا الأمان عنهم عذاب

____________________________________

(١١١٣) يأتي في سورة الفتح. وانظر قصة فتح مكة في «دلائل النبوة» للبيهقي ٥ / ٥ ـ ٦٤ و «سيرة ابن هشام» ٤ / ٢٦ ـ ٤٢. و «المغازي» للواقدي ٢ / ٧٨٠ و «الطبقات لابن سعد» ٢ / ١٣٤. و «البداية والنهاية» ٤ / ٢٩٧.

(١١١٤) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٨٠ ح ٨٦ وأبو داود ٣٠٢٣ والبيهقي ٩ / ١١٨ من طريقين عن ثابت عن أنس.

ـ وأخرجه مسلم ١٧٨٠ ح ٨٤ و ٨٥ وأبو داود ١٨٧٢ والطيالسي ٢٤٢٤ وأحمد ٣ / ٥٣٨ وابن أبي شيبة ١٤ / ٤٧١ ـ ٤٧٣ والبيهقي ٩ / ١١٧ ـ ١١٨ وابن حبان ٤٧٦٠ من حديث أبي هريرة في أثناء خبر مطوّل.

وانظر «تفسير القرطبي» ٤٣٩٤ بتخريجنا.

__________________

(١) طه : ١٢٨.

(٢) الكهف : ٨.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٥٧٣ : إنما المراد بالفتح الذي هو القضاء والفصل ، كقوله تعالى : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وكقوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) فيقول الله تعالى مخبرا عن استعجال الكفار وقوع بأس الله بهم وحلول غضبه ونقمته عليهم ، استبعادا وتكذيبا وعنادا (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي : متى تنصر علينا يا محمد كما تزعم أن لك وقتا تدال علنا ، وينتقم لك منا فمتى يكون هذا؟ قال تعالى : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) أي : إذا حلّ بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الآخرة ، (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة فقد أبعد النّجعة ، وأخطأ فأفحش ، فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسلام الطلقاء وكانوا قريبا من ألفين.

٤٤٤

الله عزوجل. وهذا القول الذي قد دافعنا عنه ليس بالمختار ، وإنما بيّنّا وجهه لأنه قد قيل.

وقد خرج بما ذكرنا في الفتح قولان : أحدهما : أنه الحكم والقضاء ، وهو الذي نختاره. والثاني : فتح البلد.

قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ) أي : انتظر عذابهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) بك حوادث الدّهر. قال المفسّرون : وهذه الآية منسوخة بآية السّيف. والله أعلم بالصّواب.

٤٤٥

سورة الأحزاب

وهي مدنيّة بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ).

(١١١٥) سبب نزولها أنّ أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السّلمي ، قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموادعة التي كانت بينهم ، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ ، ومعتّب بن قشير ، والجدّ بن قيس ؛ فتكلّموا فيما بينهم ، وأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعوه إلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء كرهها ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(١١١٦) قال مقاتل : سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرفض ذكر اللات والعزّى ويقول : إنّ لها شفاعة ، فكره ذلك ، ونزلت الآية.

وقال ابن جرير : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) الذين يقولون : اطرد عنّا أتباعك من ضعفاء المسلمين (وَالْمُنفِقِينَ) فلا تقبل منهم رأيا. فإن قيل : ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى ، وهو سيّد المتّقين؟! فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ المراد بذلك استدامة ما هو عليه. والثاني : الإكثار ممّا هو فيه. والثالث : أنه خطاب ووجّه به ، والمراد أمّته. قال المفسّرون : وأراد بالكافرين في هذه الآية : أبا سفيان ، وعكرمة ، وأبا الأعور ، وبالمنافقين : عبد الله بن أبيّ ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن

____________________________________

(١١١٥) عزاه المصنف لابن عباس من طريق أبي صالح ، وأبو صالح وتلميذه الكلبي رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٨٨ بدون إسناد ، ولم أره مسندا ، فهو لا شيء ، وعزاه الحافظ في «الكشاف» ٣ / ٥١٩ للثعلبي والواحدي بدون إسناد.

(١١١٦) عزاه المصنف لمقاتل ، وهذا معضل ، وهو بدون إسناد ، ومقاتل ممن يضع الحديث ، فهذا لا شيء.

٤٤٦

أبيرق. وما بعد هذا قد سبق بيانه (١) إلى قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) وفي سبب نزولها قولان :

(١١١٧) أحدهما : أنّ المنافقين كانوا يقولون : لمحمّد قلبان ، قلب معنا ، وقلب مع أصحابه ، فأكذبهم الله تعالى ، ونزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(١١١٨) والثاني : أنها نزلت في جميل بن معمر الفهري ـ كذا نسبه جماعة من المفسّرين. وقال الفرّاء : جميل بن أسد ، ويكنّى : أبا معمر. وقال مقاتل : أبو معمر بن أنس الفهري ـ وكان لبيبا حافظا لما سمع ، فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلّا وله قلبان في جوفه ، وكان يقول : إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد ، فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر ، تلقّاه أبو سفيان وهو معلّق إحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : ما حال الناس؟ قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال : ما شعرت إلّا أنهما في رجليّ ، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده ؛ وهذا قول جماعة من المفسّرين. وقد قال الزّهري في هذا قولا عجيبا ، قال : بلغنا أنّ ذلك في زيد بن حارثة ضرب له مثل يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك.

قال الأخفش : «من» زائدة في قوله تعالى : «من قلبين». قال الزّجّاج : أكذب الله عزوجل هذا الرجل الذي قال : لي قلبان ، ثم قرّر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم ممّا لا حقيقة له ، فقال : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) فأعلم الله تعالى أنّ الزوجة لا تكون أمّا ، وكانت الجاهلية تطلق بهذا الكلام ، وهو أن يقول لها : أنت عليّ كظهر أمّي ، وكذلك قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي : ما جعل من تدعونه ابنا ـ وليس بولد في الحقيقة ـ ابنا (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي : نسب من لا حقيقة لنسبه قول بالفم لا حقيقة تحته (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) أي : لا يجعل غير الابن ابنا (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي : للسّبيل المستقيم. وذكر المفسّرون أنّ قوله تعالى : «وما جعل أزواجكم اللّائي تظاهرون منهنّ» نزلت في أوس بن الصّامت وامرأته خولة بنت ثعلبة. ومعنى الكلام : ما جعل أزواجكم اللّائي تظاهرون منهنّ كأمّهاتكم في التّحريم ، إنّما قولكم معصية ، وفيه كفّارة ، وأزواجكم حلال لكم ؛ وسنشرح هذا في سورة المجادلة إن شاء الله. وذكروا أنّ قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ).

____________________________________

(١١١٧) ضعيف. أخرجه الترمذي ٣١٩٩ وأحمد ١ / ١٦٨ والحاكم ٢ / ٤١٥ والطبري ٢٨٣١٨ من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس به ، وإسناده ضعيف لضعف قابوس. قال الترمذي : حديث حسن! وقال الحاكم : صحيح الإسناد! وتعقبه الذهبي بقوله : قابوس ضعيف. وانظر «فتح القدير» ١٩٥٦ و «أحكام القرآن» ١٧٥٠ بتخريجنا ، والله الموفق.

(١١١٨) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٨٩ بتمامه بدون إسناد. وورد بنحوه عند الطبري ٢٨٣٢١ وعبد الرزاق ٢٣١١ عن قتادة مرسلا. وورد أيضا من مرسل عكرمة عند الطبري ٢٨٣٢٣. وعن ابن عباس أخرجه الطبري ٢٨٣١٩ وفيه مجاهيل ، وفيه أيضا عطية العوفي ، وهو واه. الخلاصة : هو خبر ضعيف ، فهذه الروايات واهية لا تقوم بها حجة.

__________________

(١) النساء : ٨١.

٤٤٧

(١١١٩) نزل في زيد بن حارثة ، أعتقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبنّاه قبل الوحي ، فلمّا تزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون : تزوّج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها ، فنزلت هذه الآية.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

قوله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ). قال ابن عمر :

(١١٢٠) ما كنّا ندعو زيد بن حارثة إلّا زيد بن محمّد ، حتى نزلت «ادعوهم لآبائهم».

قوله تعالى : (هُوَ أَقْسَطُ) أي : أعدل ، (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) أي : إن لم تعرفوا آباءهم (فَإِخْوانُكُمْ) أي : فهم إخوانكم ، فليقل أحدكم : يا أخي ، (وَمَوالِيكُمْ) قال الزّجّاج : أي بنو عمّكم. ويجوز أن يكون «مواليكم» أولياءكم في الدّين. (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : فيما أخطأتم به قبل النّهي ، قاله مجاهد. والثاني : في دعائكم من تدعونه إلى غير أبيه وأنتم ترونه كذلك ، قاله قتادة. والثالث : فيما سهوتم فيه ، قاله حبيب بن أبي ثابت. فعلى الأول يكون معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أي : بعد النّهي. وعلى الثاني والثالث. ما تعمّدت في دعاء الرجل إلى غير أبيه.

قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : أحقّ ، فله أن يحكم فيهم بما يشاء ، قال ابن عباس : إذا دعاهم إلى شيء ، ودعتهم أنفسهم إلى شيء ، كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم ؛ وهذا صحيح ، فإنّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم ، والرسول عليه‌السلام يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. قوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي : في تحريم نكاحهنّ على التأبيد ، ووجوب إجلالهنّ وتعظيمهنّ ؛ ولا تجري عليهنّ أحكام الأمّهات في كلّ شيء ، إذ لو كان كذلك لما جاز لأحد أن يتزوّج بناتهنّ ، ولورثن المسلمين ، ولجازت الخلوة بهنّ. وقد روى مسروق عن عائشة أنّ امرأة قالت : يا أمّاه ، فقالت : لست لك بأمّ ؛ إنّما أنا أمّ رجالكم ؛ فبان بهذا الحديث أنّ معنى الأمومة تحريم نكاحهنّ فقط. وقال مجاهد : «وأزواجه أمّهاتهم» وهو أب لهم. وما بعد هذا مفسّر في آخر الأنفال إلى قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) والمعنى أنّ ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النّسخ (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) وهذا استثناء ليس من الأول ،

____________________________________

(١١١٩) لم أره بهذا التمام ، وكونه عليه الصلاة والسلام أعتق زيدا مشهور متواتر في كتب الحديث والسير ، وكونه تبناه فهذا مشهور ، وأما ذكر نزول الآية ، فلا يصح ، ولم أره مسندا.

(١١٢٠) صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٨٢ ومسلم ٢٤٢٥ والترمذي ٣٢٠٩ و ٣٨١٤ والنسائي في «التفسير» ٤١٦ وأحمد ٢ / ٧٧ وابن سعد ٣ / ٤٣ وابن حبان ٧٠٤٢ والطبراني ١٣١٧ والبيهقي ٧ / ١٦١ والواحدي في «الأسباب» ٦٩١ من طرق عن موسى بن عقبة به عن ابن عمر ...

٤٤٨

والمعنى : لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز ، وذلك أنّ الله تعالى لمّا نسخ التّوارث بالحلف والهجرة ، أباح الوصيّة للمعاقدين ، فللإنسان أن يوصي لمن يتولّاه بما أحبّ من ثلثه. فالمعروف ها هنا : الوصيّة. قوله تعالى : (كانَ ذلِكَ) يعني نسخ الميراث بالهجرة وردّه إلى ذوي الأرحام (فِي الْكِتابِ) يعني اللّوح المحفوظ (مَسْطُوراً) أي : مكتوبا.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا) المعنى : واذكر إذ أخذنا (مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي : عهدهم ؛ وفيه قولان : أحدهما : أخذ ميثاق النّبيّين : أن يصدّق بعضهم بعضا ، قاله قتادة. والثاني : أن يعبدوا الله تعالى ويدعوا إلى عبادته ، ويصدّق بعضهم بعضا ، وأن ينصحوا لقومهم ، قاله مقاتل. وهذا الميثاق أخذ منهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذّرّ. قال أبيّ بن كعب : لمّا أخذ ميثاق الخلق خصّ النّبيّين بميثاق آخر.

فإن قيل : لم خصّ الأنبياء الخمسة بالذّكر دون غيرهم من الأنبياء؟ فالجواب : أنه نبّه بذلك على فضلهم ، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع ؛ وقدّم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانا لفضله عليهم (١).

(١١٢١) قال قتادة : كان نبيّنا أوّل النّبيّين في الخلق.

____________________________________

(١١٢١) باطل ، أخرجه الطبري ٢٨٣٥٣ عن أبي هلال عن قتادة من قوله وهذا باطل. وأخرجه الطبري ٢٨٣٥٢ وابن سعد في «الطبقات» ١ / ١١٩ عن قتادة ، مرسلا والمرسل من قسم الضعيف ، وله علة ثانية : سعيد بن أبي عروبة ، تغير بأخرة. وعلة ثالثة : فيه عطاء بن عبد الوهّاب الخفاف وثقه قوم وضعفه أحمد بقوله : ضعيف مضطرب الحديث.

وورد من حديث أبي هريرة مرفوعا. أخرجه الديلمي ٤٨٥٠ وأبو نعيم في «الدلائل» ٣ من حديث أبي هريرة ، وإسناده ضعيف جدا ، فيه سعيد بن بشير ، وهو ضعيف منكر الحديث ، وساق الذهبي هذا الحديث في ترجمته في «الميزان» ٣١٤٣ على أنه من منكراته. وله علة ثانية : وهي أن الحس لم يسمع من أبي هريرة ، فالإسناد ضعيف جدا ، لا شيء. وأما المتن فباطل. بل أول من خلق من البشر ، آدم عليه‌السلام ، هذا وقد خلط بعضهم هذا الحديث بحديث «كنت نبيا ، وآدم بين الروح والجسد». وهذا الحديث الأخير صحيح. أخرجه أحمد ٥ / ٥٩ والحاكم ٢ / ٦٠٩ والطبراني ٢ / ٣٥٣ والآجري في «الشريعة» ٩٥٦ من طرق عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، ورجاله رجال مسلم. وقال الهيثمي في «المجمع» ٨ / ٢٢٢ : رجاله رجال الصحيح. ولهذا الحديث شواهد كثيرة ، لكنه لا يثبت أولية الخلق إنما فيه إثبات ، أنه مكتوب في اللوح المحفوظ وفي علم الله تعالى ، فتنبّه ، فإن هذا الحديث الأخير ، يخالف الأول ويفارقه ، وإنما خلق وولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ولدته أمه آمنة كما هو معلوم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٥٧٩ : يقول تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء : أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله وإبلاغ رسالته ، والتعاون والتناصر والاتفاق ، فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم ، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة ، وهم أولو العزم ، وهو من باب عطف الخاص على العام ، وقد صرح بذكرهم نصا في هذه الآية ، وبدأ في هذه الآية بالخاتم ، لشرفه ـ صلوات الله عليه ـ ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم.

٤٤٩

وقوله تعالى : (مِيثاقاً غَلِيظاً) أي : شديدا على الوفاء بما حمّلوا. وذكر المفسّرون أنّ ذلك العهد الشديد : اليمين بالله عزوجل (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) يقول : أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين ، وهم الأنبياء (عَنْ صِدْقِهِمْ) في تبليغهم. ومعنى سؤال الأنبياء ـ وهو يعلم صدقهم ـ تبكيت مكذّبيهم. وها هنا تمّ الكلام. ثم أخبر بعد ذلك عمّا أعدّ للكافرين بالرّسل.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) وهم الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيام الخندق.

الإشارة إلى القصّة

(١١٢٢) ذكر أهل العلم بالسّيرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أجلى بني النّضير ، ساروا إلى خيبر ، فخرج نفر من أشرافهم إلى مكّة فألّبوا قريشا ودعوهم إلى الخروج لقتاله ، ثم خرجوا من عندهم فأتوا غطفان وسليم ، ففارقوهم على مثل ذلك. وتجهّزت قريش ومن تبعهم من العرب ، فكانوا أربعة آلاف ، وخرجوا يقودهم أبو سفيان ، ووافتهم بنو سليم ب «مرّ الظّهران» ، وخرجت بنو أسد ، وفزارة ، وأشجع ، وبنو مرّة ، فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف ، وهم الأحزاب ؛ فلمّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خروجهم من مكّة ، أخبر الناس خبرهم ، وشاورهم ، فأشار سلمان بالخندق ، فأعجب ذلك المسلمين ، وعسكر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سفح «سلع» ، وجعل سلعا خلف ظهره ؛ ودسّ أبو سفيان بن حرب حييّ بن أخطب إلى بني قريظة يسألهم أن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكونوا معهم عليه ، فأجابوا ، واشتدّ الخوف ، وعظم البلاء ، ثم جرت بينهم مناوشة وقتال ، وحصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إليهم (١) الكرب ، وكان نعيم بن مسعود الأشجعيّ قد أسلم ، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذّل بينهم ، فاستوحش كلّ منهم من صاحبه ، واعتلّت قريظة بالسّبت فقالوا : لا نقاتل فيه ، وهبّت ليلة السبت ريح شديدة ، فقال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله لستم بدار مقام ، لقد هلك الخفّ والحافر ، وأجدب الجناب (٢) ، وأخلفتنا قريظة ، ولقينا من الرّيح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ؛ فأصبحت العساكر قد أقشعت (٣) كلّها. قال مجاهد : والريح التي أرسلت عليهم هي الصّبا ، حتى أكفأت (٤) قدورهم ، ونزعت فساطيطهم (٥). والجنود : الملائكة ،.

____________________________________

الخلاصة : إسناده ضعيف جدا كما تقدم ، والمتن باطل ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر النبيين في الخلق والبعث. والله أعلم.

وانظر «فتح القدير» ١٩٦٦ و «تفسير ابن كثير» ٣ / ٥٧٩ و «المقاصد الحسنة» ٨٣٧ للسخاوي و «الشريعة» ٤٢٨ ـ ٤٣٠ للآجري بتخريجنا والله الموفق.

(١١٢٢) جزء من حديث. أخرجه الطبري ٢٨٣٦٩ عن ابن إسحاق عن عروة والزهري وغيرهما. وانظر خبر غزوة الخندق في «سيرة ابن هشام» ٣ / ١٤١ ـ ١٤٥ نقلا عن ابن إسحاق و «دلائل النبوة» للبيهقي ٣ / ٤٠٨ ، و «تفسير الطبري» ٢٨٣٦٤ و «تفسير ابن كثير» ٣ / ٥٨٠ ـ ٥٨١

__________________

(١) في «اللسان» خلص : وصل وبلغ.

(٢) الجناب والجانب : الناحية والفناء وما قرب من محلّة القوم.

(٣) أقشع القوم : تفرّقوا.

(٤) أكفأ الشيء : أماله ، وكفأت الإناء : كببته.

(٥) الفسطاط : بيت من شعر.

٤٥٠

ولم تقاتل يومئذ. وقيل : إنّ الملائكة جعلت تقلع أوتادهم وتطفئ نيرانهم وتكبّر في جوانب عسكرهم ، فاشتدّت عليهم ، فانهزموا من غير قتال.

قوله تعالى : (لَمْ تَرَوْها) وقرأ النّخعيّ ، والجحدري ، والجوني ، وابن السّميفع : «لم يروها» بالياء (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) وقرأ أبو عمرو : «يعملون» بالياء.

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢))

قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي : من فوق الوادي ومن أسفله (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي : مالت وعدلت ، فلم تنظر إلى شيء إلّا إلى عدوّها مقبلا من كلّ جانب (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) وهي جمع حنجرة. والحنجرة : جوف الحلقوم. قال قتادة : شخصت عن مكانها ، فلو لا أنّه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت. قال غيره : المعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم ؛ وسبيل الجبان إذا اشتدّ خوفه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إلى الحنجرة ، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس والفرّاء. وذهب ابن قتيبة إلى أنّ المعنى : كادت القلوب تبلغ الحلوق من الخوف. وقال ابن الأنباري : «كاد» لا يضمر ولا يعرف معناه إذا لم ينطق به. قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) قال الحسن : اختلفت ظنونهم ، فظنّ المنافقون أنّ محمّدا عليه‌السلام وأصحابه يستأصلون ، وظنّ المؤمنون أنه ينصر. قرأ ابن كثير ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «الظّنونا» و «الرّسولا» (١) و «السّبيلا» (٢) بألف إذا وقفوا عليهنّ ، وبطرحها في الوصل. وقال هبيرة عن حفص عن عاصم : وصل أو وقف بألف. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : بالألف فيهنّ وصلا ووقفا. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : بغير ألف في وصل ولا وقف. قال الزّجّاج : والذي عليه حذّاق النّحويين والمتّبعون السّنّة من قرّائهم أن يقرءوا : «الظّنونا» ويقفون على الألف ولا يصلون ؛ وإنما فعلوا ذلك ، لأنّ أواخر الآيات عندهم فواصل يثبتون في آخرها الألف في الوقف.

قوله تعالى : (هُنالِكَ) أي : عند ذلك (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي : اختبروا بالقتال والحصر ليتبيّن المخلص من المنافق (وَزُلْزِلُوا) أي : أزعجوا وحرّكوا بالخوف ، فلم يوجدوا إلّا صابرين. وقال الفرّاء : حرّكوا إلى الفتنة تحريكا ، فعصموا.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الشّرك ، قاله الحسن. والثاني : النّفاق ، قاله قتادة ، (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) قال المفسّرون : قالوا يومئذ : إنّ محمّدا يعدنا أن نفتح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله! هذا والله الغرور. وزعم ابن السّائب أنّ القائل هذا معتّب بن قشير.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا

__________________

(١) الأحزاب : ٦٦.

(٢) الأحزاب : ٦٧.

٤٥١

 عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) يعني من المنافقين. وفي القائلين لهذا منهم قولان : أحدهما : عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، قاله السّدّيّ. والثاني : بنو سالم من المنافقين ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) قال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ، ومدينة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ناحية منها. قوله تعالى : (لا مُقامَ لَكُمْ) وقرأ حفص عن عاصم : (لا مُقامَ) بضمّ الميم. قال الزّجّاج : من ضمّ الميم ، فالمعنى : لا إقامة لكم ؛ ومن فتحها ، فالمعنى : لا مكان لكم تقيمون فيه. وهؤلاء كانوا يثبّطون المؤمنين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله تعالى : (فَارْجِعُوا) أي : إلى المدينة.

(١١٢٣) وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج بالمسلمين حتى عسكروا ب «سلع» ، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم ، فقال المنافقون للناس : ليس لكم ها هنا مقام ، لكثرة العدوّ ، هذا قول الجمهور. وحكى الماوردي قولين آخرين :

أحدهما : لا مقام لكم على دين محمّد فارجعوا إلى دين مشركي العرب ، قاله الحسن.

والثاني : لا مقام لكم على القتال ، فارجعوا إلى طلب الأمان ، قاله الكلبي.

قوله تعالى : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) فيه قولان : أحدهما : أنهم بنو حارثة ، قاله ابن عباس. وقال مجاهد : بنو حارثة بن الحارث بن الخزرج. وقال السّدّيّ : إنما استأذنه رجلان من بني حارثة. والثاني : بنو حارثة ، وبنو سلمة بن جشم ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) قال ابن قتيبة : أي : خالية ، فقد أمكن من أراد دخولها ، وأصل العورة : ما ذهب عنه السّتر والحفظ ، فكأنّ الرجال ستر وحفظ للبيوت ، فإذا ذهبوا أعورت البيوت ، تقول العرب : أعور منزلي : إذا ذهب ستره ، أو سقط جداره ، وأعور الفارس : إذا بان منه موضع خلل للضّرب والطّعن ، يقول الله تعالى (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) لأنّ الله تعالى يحفظها ، ولكن يريدون الفرار. وقال الحسن ، ومجاهد قالوا : بيوتنا ضائعة نخشى عليها السّرّاق. وقال قتادة : قالوا : بيوتنا ممّا يلي العدوّ ، ولا نأمن على أهلنا ، فكذّبهم الله تعالى وأعلم أنّ قصدهم الفرار.

قوله تعالى : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) يعني المدينة ؛ والأقطار : النّواحي والجوانب ، واحدها : قطر ، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، والضّحّاك ، والزّهري ، وأبو عمران وأبو جعفر ، وشيبة : «ثم سيلوا» برفع السين وكسر الياء من غير همز. وقرأ أبيّ بن كعب ، ومجاهد وأبو الجوزاء : «ثم سوئلوا» برفع السين ومدّ الواو بهمزة مكسورة بعدها. وقرأ الحسن ، وأبو

____________________________________

(١١٢٣) ذكره الطبري ١٠ / ٢٧٠ عند تفسير هذه الآية فقال : وهو قول أوس بن قيظي ومن كان على ذلك من رأيه ذكر ذلك في حديث ابن إسحاق أخرجه برقم ٢٨٣٨٠.

٤٥٢

الأشهب : «ثم سولوا» برفع السين وسكون الواو من غير مدّ ولا همز. وقرأ الأعمش ، وعاصم الجحدري : «ثم سيلوا» بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو. ومعنى : «سئلوا الفتنة» ، سئلوا فعلها ؛ والفتنة : الشّرك ، (لَآتَوْها) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «لأتوها» بالقصر ، أي : لقصدوها ، ولفعلوها. وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «لآتوها» أي بالمدّ ، لأعطوها. قال ابن عباس في معنى الآية : لو أنّ الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشّرك لأشركوا. قوله تعالى : (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) فيه قولان : أحدهما : وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلّا قليلا ، قاله قتادة. والثاني : وما تلبّثوا بالمدينة بعد الإجابة إلّا يسيرا حتى يعذّبوا ، قاله السّدّيّ. وحكى أبو سليمان الدّمشقي في الآية قولا عجيبا ، وهو أنّ الفتنة ها هنا : الحرب ، والمعنى : ولو دخلت المدينة على أهلها من أقطارها ثم سئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادرين ، وما تلبّثوا ـ يعني الجيوش الدّاخلة عليهم بها ـ إلّا قليلا حتى يخرجوهم منها ؛ وإنما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشّكّ في دينك ؛ قال : وهذا المعنى حفظته من كتاب الواقدي.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال :

أحدها : أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر ، فلمّا علموا ما أعطى الله عزوجل أهل بدر من الكرامة قالوا : لئن شهدنا قتالا لنقاتلن ، قاله قتادة. والثاني : أنهم أهل العقبة ، وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طاعة الله تعالى ونصرة رسوله ، قاله مقاتل (١). والثالث : أنه لمّا نزل بالمسلمين يوم أحد ما نزل ، عاهد الله تعالى معتّب بن قشير وثعلبة بن حاطب : لا نولّي دبرا قطّ ، فلمّا كان يوم الأحزاب نافقا ، قاله الواقدي ، واختاره أبو سليمان الدّمشقي ، وهو أليق ممّا قبله. وإذا كان الكلام في حقّ المنافقين ، فكيف يطلق القول على أهل العقبة كلّهم!

قوله تعالى : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أي : يسألون عنه في الآخرة.

ثم أخبر أنّ الفرار لا يزيد في آجالهم ، فقال : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ) بعد الفرار في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) وهو باقي آجالكم.

ثم أخبر أنّ ما قدّره عليهم لا يدفع ، بقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي : يجيركم ويمنعكم منه (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) وهو الإهلاك والهزيمة والبلاء (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) وهي النّصر والعافية والسّلامة (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي : لا يجدون مواليا ولا ناصرا يمنعهم من مراد الله عزوجل فيهم.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ

__________________

(١) المشهور عن أصحاب بيعة العقبة أنهم استقاموا على الإسلام ؛ ومقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير.

٤٥٣

يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢))

قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) في سبب نزولها قولان :

(١١٢٤) أحدهما : أنّ رجلا انصرف من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب ، فوجد أخاه لأبيه وأمّه وعنده شواء ونبيذ ، فقال له : أنت ها هنا ورسول الله بين الرّماح والسيوف؟! فقال : هلمّ إليّ ، لقد أحيط بك وبصاحبك ؛ والذي يحلف به لا يستقبلها محمّد أبدا ؛ فقال له : كذبت ، والذي يحلف به ، أما والله لأخبرنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمرك ، فذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخبره ، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله تعالى : (يَسِيراً) ، هذا قول ابن زيد.

(١١٢٥) والثاني : أنّ عبد الله بن أبيّ ومعتّب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إلى المدينة ، كانوا إذا جاءهم منافق قالوا له : ويحك اجلس فلا تخرج ، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنّا ننتظركم ـ يثبّطونهم عن القتال ـ وكانوا لا يأتون العسكر إلّا أن لا يجدوا بدّا ، فيأتون ليرى الناس وجوههم ، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السّائب.

والمعوّق : المثبّط ؛ تقول : عاقني فلان ، واعتاقني ، وعوّقني : إذا منعك عن الوجه الذي تريده. وكان المنافقون يعوّقون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصّاره.

قوله تعالى : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد. والثاني : أنهم اليهود دعوا إخوانهم من المنافقين إلى ترك القتال ، قاله مقاتل. والثالث : أنهم المنافقون دعوا المسلمين إليهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حكاه الماوردي. قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي : لا يحضرون القتال في سبيل الله عزوجل (إِلَّا قَلِيلاً) للرّياء والسّمعة من غير احتساب ، ولو كان ذلك القليل لله عزوجل لكان كثيرا.

قوله تعالى : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) قال الزّجّاج : هو منصوب على الحال. المعنى : لا يأتون الحرب إلّا تعذيرا ، بخلا عليكم. وللمفسّرين فيما شحّوا به أربعة أقوال : أحدها : أشحّة بالخير ، قاله مجاهد. والثاني : بالنّفقة في سبيل الله عزوجل. والثالث : بالغنيمة ، رويا عن قتادة. وقال الزّجّاج : بالظّفر والغنيمة. والرابع : بالقتال معكم ، حكاه الماوردي.

ثم أخبر عن جبنهم فقال : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) أي : إذا حضر القتال (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي : كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت ، وهو الذي دنا موته

____________________________________

(١١٢٤) ضعيف. هذا مرسل ، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم تابعي أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٥ / ٣٦٠.

وانظر «تفسير القرطبي» ١٤ / ١٣٦.

(١١٢٥) عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي ، وتقدم مرارا أنه ممن يضع الحديث ، فخبره لا شيء.

٤٥٤

وغشيته أسبابه ، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يطرف ، فكذلك هؤلاء ، لأنهم يخافون القتل. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ) قال الفرّاء : يقول آذوكم بالكلام في الأمن (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) سليطة ذربة ، والعرب تقول : صلقوكم ، بالصاد ، ولا يجوز في القراءة ؛ هذا قول الفرّاء. وقد قرأ بالصاد أبيّ بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران الجوني ، وابن أبي عبلة في آخرين. وقال الزّجّاج : معنى «سلقوكم» : خاطبوكم أشدّ مخاطبة وأبلغها في الغنيمة ، يقال : خطيب مسلاق : إذا كان بليغا في خطبته (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي : خاطبوكم وهم أشحّة على المال والغنيمة. قال قتادة : إذا كان وقت قسمة الغنيمة ، بسطوا ألسنتهم فيكم ، يقولون : أعطونا فلستم أحقّ بها منّا ؛ فأمّا عند البأس ، فأجبن قوم وأخذله للحقّ ، وأمّا عند الغنيمة ، فأشحّ قوم. وفي المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الغنيمة. والثاني : على المال أن ينفقوه في سبيل الله تعالى. والثالث : على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظفره.

قوله تعالى : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي : هم وإن أظهروا الإيمان فليسوا بمؤمنين ، لنفاقهم (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) قال مقاتل أي : أبطل جهادهم ، لأنه لم يكن في إيمان (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط (عَلَى اللهِ يَسِيراً). ثم أخبر عنهم بما يدلّ على جبنهم ، فقال : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي : يحسب المنافقون من شدّة خوفهم وجبنهم أنّ الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا ، (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أي : يرجعوا إليهم كرّة ثانية للقتال (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي : يتمنّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم ، (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي : ودّوا لو أنّهم بالبعد منكم يسألون عن أخباركم ، فيقولون : ما فعل محمّد وأصحابه ، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة ، فرقا وجبنا ؛ وقيل : بل يسألون شماتة بالمسلمين وفرحا بنكباتهم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) أي : لو كانوا يشهدون القتال معكم (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) فيه قولان : أحدهما : إلّا رميا بالحجارة ، قاله ابن السّائب. والثاني : إلّا رياء من غير احتساب ، قاله مقاتل.

ثم عاب من تخلّف بالمدينة بقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي : قدوة صالحة. والمعنى : لقد كان لكم به اقتداء لو اقتديتم به في الصّبر معه كما صبر يوم أحد حتى كسرت رباعيّته وشجّ جبينه وقتل عمّه ، وواساكم مع ذلك بنفسه. وقرأ عاصم : «أسوة» بضمّ الألف ؛ والباقون بكسر الألف ؛ وهما لغتان. قال الفرّاء : أهل الحجاز وأسد يقولون : «إسوة» بالكسر ، وتميم وبعض قيس يقولون : «أسوة» بالضمّ. وخصّ الله تعالى بهذه الأسوة المؤمنين ، فقال : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) والمعنى أنّ الأسوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كانت لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وفيه قولان : أحدهما : يرجو ما عنده من الثواب والنّعيم ، قاله ابن عباس. والثاني : يخشى الله عزوجل ويخشى البعث ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي : ذكرا كثيرا ، لأنّ ذاكر الله تعالى متّبع لأوامره ، بخلاف الغافل عنه. ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب ، فقال : (لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) وفي ذلك الوعد قولان : أحدهما : أنه قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) الآية : فلمّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله ، قاله ابن

__________________

(١) البقرة : ٢١٤.

٤٥٥

عباس ، وقتادة في آخرين. والثاني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدهم بالنّصر والظّهور على مدائن كسرى وقصور الحيرة ، ذكره الماوردي وغيره.

قوله تعالى : (وَما زادَهُمْ) يعني ما رأوه (إِلَّا إِيماناً) بوعد الله تعالى (وَتَسْلِيماً) لأمره.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في أنس بن النّضر ، قاله أنس بن مالك.

(١١٢٦) وقد أخرج البخاريّ ومسلم من حديث أنس بن مالك قال : غاب عمّي أنس بن النّضر عن قتال بدر ، فلمّا قدم قال : غبت عن أوّل قتال قاتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين ، لئن أشهدني الله عزوجل قتالا ليرينّ الله ما أصنع ، فلمّا كان يوم أحد انكشف الناس ، فقال : اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء ، يعني المشركين ، وأعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ؛ ثم مشى بسيفه ، فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أي سعد ، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنّة دون أحد ، واها لريح الجنّة. قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ؛ قال أنس : فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة ، من ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، قد مثّلوا به ؛ قال : فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه ؛ قال أنس : فكنّا نقول : أنزلت هذه الآية «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فيه وفي أصحابه.

(١١٢٧) والثاني : أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله. روى النزّال بن سبرة عن عليّ عليه‌السلام

____________________________________

(١١٢٦) صحيح. أخرجه البخاري ٢٨٠٥ و ٤٠٤٨ ومسلم ١٩٠٣ والترمذي ٣٢٠٠ والنسائي في «التفسير» ٤٢٢ و ٤٢٣ من حديث أنس ، وليس فيه سبب النزول.

(١١٢٧) حسن بشواهده. أخرجه أبو الشيخ وابن عساكر كما في «الدر» ٥ / ٣٦٦ ، ولم أقف على إسناده ، وللحديث شواهد مرفوعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ «طلحة ممن قضى نحبه» وبألفاظ متقاربة منها : حديث جابر بن عبد الله أخرجه الترمذي ٣٧٣٩ والحاكم ٣ / ٣٧٦ من طرق عن الصلت بن دينار به. قال الحاكم : تفرّد به الصلت ، وليس من شرط هذا الكتاب. وقال الذهبي : الصلت واه. وحديث معاوية بن أبي سفيان أخرجه الترمذي ٣٢٠٢ و ٣٧٤٠ وابن سعد في «الطبقات» ٣ / ١٦٤ وابن ماجة ١٢٦ و ١٢٧ والطبري ٢٨٤٣١ من طريقين عن إسحاق بن يحيى الطلحي عن موسى بن طلحة عن معاوية مرفوعا. وإسناده واه لأجل إسحاق بن يحيى ، قال أحمد والنسائي : متروك. وقال يحيى : لا يكتب حديثه. وحديث عائشة أخرجه ابن سعد ٣ / ١٦٣ ـ ١٦٤ وأبو يعلى ٤٨٩٨ وأبو نعيم ١ / ٨٨ ومداره على صالح بن موسى ، وهو متروك ، وكذا قال الهيثمي في «المجمع» ٩ / ٤٨. وحديث عائشة أخرجه الحاكم ٣ / ٣٧٦ من وجه آخر عنها وفيه إسحاق بن يحيى متروك ليس بشيء. وحديث طلحة بن عبيد الله أخرجه الترمذي ٣٢٠٣ و ٣٧٤٢ وأبو يعلى ٣٦٣ والطبري ٢٨٤٣٠

٤٥٦

أنهم قالوا له : حدّثنا عن طلحة ، قال : ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى : «فمنهم من قضى نحبه» لا حساب عليه فيما يستقبل. وقد جعل بعض المفسّرين هذا القدر من الآية في طلحة ، وأوّلها في أنس.

قال ابن جرير : ومعنى الآية : وفوا الله بما عاهدوه عليه. وفي ذلك أربعة أقوال. أحدها : أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإسلام والنّصرة. والثاني : أنهم قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا الله عزوجل أن لا يتأخّروا بعدها. والثالث : أنهم عاهدوا أن لا يفرّوا إذا لاقوا ، فصدقوا. والرابع : أنهم عاهدوا على البأساء والضّرّاء وحين البأس.

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : فمنهم من مات ، ومنهم من ينتظر الموت ، قاله ابن عباس. والثاني : فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش ، ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء ، قاله مجاهد. والثالث : فمنهم من قضى نذره الذي كان نذر ، قاله أبو عبيدة. فيكون النّحب على القول الأول : الأجل ؛ وعلى الثاني : العهد ؛ وعلى الثالث : النّذر. وقال ابن قتيبة : «قضى نحبه» أي : قتل ، وأصل النّحب : النّذر ، كأنّ قوما نذروا أنهم إن لقوا العدوّ قاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله عليهم ، فقتلوا ، فقيل : فلان قضى نحبه ، أي : قتل ، فاستعير النّحب مكان الأجل ، لأنّ الأجل وقع بالنّحب ، وكان النّحب سببا له ، ومنه قيل : للعطيّة : «منّ» ، لأنّ من أعطى فقد منّ. قال ابن عباس : ممّن قضى نحبه : حمزة بن عبد المطّلب ، وأنس بن النّضر وأصحابه. وقال ابن إسحاق : «فمنهم من قضى نحبه» من استشهد يوم بدر وأحد ، «ومنهم من ينتظر» ما وعد الله من نصره ، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه (وَما بَدَّلُوا) أي : ما غيّروا العهد الذي عاهدوا ربّهم عليه كما غيّر المنافقون.

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا الله تعالى عليه (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) بنقض العهد (إِنْ شاءَ) وهو أن يميتهم على نفاقهم (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) في الدنيا ، فيخرجهم من النّفاق إلى الإيمان ، فيغفر لهم.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني الأحزاب ، صدّهم ومنعهم عن الظّفر بالمسلمين (بِغَيْظِهِمْ) أي : لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي : لم يظفروا بالمسلمين ، وكان ذلك عندهم خيرا ، فخوطبوا على استعمالهم (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالرّيح والملائكة ، (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أي : عاونوا الأحزاب ، وهم بنو قريظة ، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العهد ، وصاروا مع المشركين يدا واحدة.

____________________________________

من طريق موسى وعيسى ابني طلحة عنه. قال الترمذي : حسن غريب ، وسمعت البخاري يحدث بهذا الحديث عن أبي كريب ، ووضعه في كتاب «الفوائد». ورجاله رجال مسلم ولكن طلحة بن يحيى ، وإن روى له مسلم ، ووثقه غير واحد فقد قال يحيى القطان : لم يكن بالقوي. وقال البخاري : منكر الحديث. وقال أبو زرعة : صالح الحديث. وله شاهد مرسل أخرجه ابن سعد ٣ / ١٦٤ من طريق حصين عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وهذا مرسل صحيح ، رجاله رجال البخاري ومسلم ، ليس له علة إلا الإرسال فهذا شاهد لما تقدم. الخلاصة : هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده ، ومع ذلك في المتن غرابة وانظر «أحكام القرآن» ١٧٦٦ بتخريجنا وانظر «الصحيحة» ١٢٦.

٤٥٧

وهذه الإشارة إلى قصّتهم

(١١٢٨) ذكر أهل العلم بالسّيرة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا انصرف من الخندق وضع عنه اللامة واغتسل ، فتبدّى له جبريل ، فقال : ألا أراك وضعت اللأمة ، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة؟! إنّ الله عزوجل يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم ، فدعا عليّا رضي الله عنه فدفع لواءه إليه ، وبعث بلالا فنادى في الناس :

(١١٢٩) إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمركم أن لا تصلّوا العصر إلّا ببني قريظة ، ثم سار إليهم فحاصرهم خمسة عشر يوما أشدّ الحصار ، وقيل : عشرين ليلة.

(١١٣٠) فأرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر ، فأرسله إليهم ، فشاوروه في أمرهم ، فأشار إليهم بيده : إنه الذّبح ، ثمّ ندم فقال : خنت الله تعالى ورسوله ، فانصرف فارتبط في المسجد حتى أنزل الله تعالى توبته ، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمّر بهم رسول الله محمّد بن مسلمة ، فكتفوا ، ونحّوا ناحية ، وجعل النساء والذّرّية ناحية. وكلّمت الأوس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهبهم لهم ، وكانوا حلفاءهم ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ ؛ هكذا ذكر محمّد بن سعد.

(١١٣١) وحكى غيره : أنهم. نزلوا أوّلا على حكم سعد بن معاذ ، وكان بينهم وبين قومه حلف ، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة ، فحكم فيهم أن يقتل كلّ من جرت عليه المواسي (١) ، وتسبى النساء

____________________________________

(١١٢٨) صحيح. أخرجه البخاري ٤١٢٢ ومسلم ١٧٦٩ وأبو داود ٣١٠١ والنسائي ٢ / ٤٥ وابن سعد ٣ / ٤٢٥ كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : «أصيب سعد يوم الخندق ، فضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب ، فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل ، فأتاه جبريل عليه‌السلام ، وهو ينفض رأسه من الغبار ، فقال : وقد وضعت السلاح ، والله ما وضعته ، اخرج إليهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأين ، فأشار إلى بني قريظة ...» الحديث راجع «المجمع» ١٠١٥٦ وما بعده وانظر «أحكام القرآن» ١٧٦٢ بتخريجنا.

(١١٢٩) صحيح. أخرجه البخاري ٩٤٦ و ٤١١٩ و ١٧٧٠ و ٣٧٩٨ والبغوي ٣٧٩٨ والطبراني ١٩ / ١٦٠ وابن حبان ١٤٦٢ من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لنا لما رجع من الأحزاب : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي ، ولم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يعنف واحدا منهم. لفظ البخاري.

(١١٣٠) أخرجه الطبري ٢٨٤٤٦ من طريق محمد بن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري مرسلا ، لكن لأصله شواهد.

(١١٣١) صحيح. أخرجه البخاري ٣٠٤٣ و ٣٨٠٤ و ٤١٢١ و ٦٢٦٢ ومسلم ١٧٦٨ ح ٦٤ وأبو داود ٥٢١٥ و ٥٢١٦ والنسائي في «الفضائل» ١١٨ وابن سعد ٣ / ٤٢٤ وأحمد ٣ / ٢٢ والطبراني ٥٣٢٣ والبيهقي ٦ / ٥٧ ـ ٥٨ و ٩ / ٦٣ وابن حبان ٧٠٢٦ والبغوي ٢٧١٨ من طرق عن شعبة به.

ـ وأخرجه مسلم ١٧٦٨ وأبو يعلى ١١٨٨ وابن حبان ٧٠٢٦ عن أبي خيثمة زهير بن حرب به.

ـ وأخرجه أحمد ٣ / ٢٢ عن عبد الرحمن بن مهدي به ، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد بعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان قريبا منه ـ فجاء على حمار ، فلما دنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا إلى سيدكم» فجاء فجلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «إن هؤلاء نزلوا على حكمك» قال : فإني أحكم أن تقتل المقاتلة ، وأن تسبى الذرية. قال : «لقد حكمت فيهم بحكم الملك».

__________________

(١) أراد أن تقتل الرجال.

٤٥٨

والذّراري ، وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة» ؛ وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر بهم فأدخلوا المدينة ، وحفر لهم أخدود في السّوق ، وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أصحابه ، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم ، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة.

قوله تعالى : (مِنْ صَياصِيهِمْ) قال ابن عباس وقتادة : من حصونهم ؛ قال ابن قتيبة : وأصل الصّياصي : قرون البقر ، لأنها تمتنع بها ، وتدفع عن أنفسها ؛ فقيل للحصون : الصّياصي ، لأنها تمنع ، وقال الزّجّاج : كلّ قرن صيصية ، وصيصية الدّيك : شوكة يتحصّن بها.

قوله تعالى : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي : ألقى فيها الخوف (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم المقاتلة (وَتَأْسِرُونَ) وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «وتأسرون» برفع السين (فَرِيقاً) وهم النساء والذّراري ، (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) يعني عقارهم ومنازلهم ونخيلهم (وَأَمْوالَهُمْ) من الذهب والفضّة والحليّ والعبيد والإماء (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي : لم تطئوها بأقدامكم بعد ، وهي مما سنفتحها عليكم ؛ وفيها أربعة أقوال (١) : أحدها : أنها فارس والرّوم ، قاله الحسن. والثاني : ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة ، قاله عكرمة. والثالث : مكّة ، قاله قتادة. والرابع : خيبر ، قاله ابن زيد ، وابن السّائب ، وابن إسحاق ، ومقاتل.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) ... الآية.

(١١٣٢) ذكر أهل التفسير أنّ أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة في

____________________________________

(١١٣٢) صحيح. أخرجه مسلم ١٤٧٩ وأبو يعلى ١٦٤ من طريق سماك بن حرب عن ابن عباس عن عمر مطوّلا مع اختلاف في ألفاظه. وأخرجه البخاري ٨٩ ومسلم ١٤٧٩ والترمذي ٣٣٢٥ وأحمد ١ / ٣٣ والنسائي ٤ / ١٣٧

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٠ / ٢٨٨ : والصواب من القول أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرض بني قريظة وديارهم وأموالهم ، وأرضا لم يطئوها يومئذ ولم تكن مكة ولا خيبر ولا أرض فارس والروم ولا اليمن.

٤٥٩

النّفقة ، وآذينه بغيرة بعضهنّ على بعض ، فآلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهرا ، وصعد إلى غرفة له فمكث فيها ، فنزلت هذه الآية ،

(١١٣٣) وكنّ أزواجه يومئذ تسعا : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة ، وسودة ، وأمّ سلمة ، وصفيّة الخيبريّة ، وميمونة الهلاليّة ؛ وزينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث ،

(١١٣٤) فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرض الآية عليهنّ ، فبدأ بعائشة ، فاختارت الله ورسوله ، ثم قالت : يا رسول الله لا تخبر أزواجك أنّي اخترتك ؛ فقال ؛ «إنّ الله بعثني مبلّغا ولم يبعثني متعنّتا». وقد ذكرت حديث التّخيير في كتاب «الحدائق» وفي «المغني» بطوله.

وفي ما خيّرهنّ فيه قولان (١) : أحدهما : أنه خيّرهنّ بين الطّلاق والمقام معه ، هذا قول عائشة رضي الله عنها. والثاني : أنه خيّرهنّ بين اختيار الدنيا فيفارقهنّ ، أو اختيار الآخرة فيمسكهنّ ، ولم يخيرهنّ في الطّلاق ، قاله الحسن ، وقتادة.

وفي سبب تخييره إيّاهنّ ثلاثة أقوال. أحدها : أنهنّ سألنه زيادة النّفقة. والثاني : أنّهنّ آذينه بالغيرة. والقولان مشهوران في التفسير. والثالث : أنه لمّا خيّر بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة ، أمر بتخيير نسائه ليكنّ على مثل حاله ، حكاه أبو القاسم الصّيمري.

والمراد بقوله تعالى : (أُمَتِّعْكُنَ) : متعة الطلاق. والمراد بالسّراح : الطّلاق ، وقد ذكرنا ذلك في البقرة (٢). والمراد بالدّار الآخرة. الجنّة. والمحسنات : المؤثرات للآخرة.

قال المفسّرون : فلمّا اخترنه أثابهنّ الله عزوجل ثلاثة أشياء : أحدها : التّفضيل على سائر النساء بقوله تعالى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ). والثاني : أن جعلهنّ أمّهات المؤمنين. والثالث : أن حظر عليه طلاقهنّ والاستبدال بهنّ بقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) (٣). وهل أبيح له بعد ذلك

____________________________________

من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس عن عمر بنحوه.

(١١٣٣) أخرجه الطبري ٨٤٦١ عن قتادة مرسلا ، وله شواهد.

(١١٣٤) صحيح. أخرجه مسلم ١٤٧٨ وأحمد ٣ / ٣٢٨ وأبو يعلى ٢٢٥٣ والبيهقي ٧ / ٣٨ من حديث جابر مطولا.

__________________

(١) قال الحافظ في «الفتح» ٨ / ٥٢١ : قال الماوردي : اختلف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة ، أو بين الطلاق والإقامة عنده؟ على قولين للعلماء أشبههما بقول الشافعي الثاني ، ثم قال : إنه الصحيح ، وكذا قال القرطبي : اختلف في التخيير. قال الحافظ : والذي يظهر الجمع بين القولين ، لأن أحد الأمرين ملزوم الآخر ، وكأنهنّ خيرن بين الدنيا فيطلقهنّ ، وبين الآخرة فيمسكهن ، وهو مقتضى سياق الآية.

ـ وقال القرطبي رحمه‌الله في «التفسير» ١٢ / ١٧٠ : اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجه على قولين : الأول : أنه خيرهن في البقاء على الزوجية أو الطلاق ، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي والزهري وربيعة. والثاني : أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة ، ذكره الحسن وقتادة ، ومن الصحابة علي. والأول أصح لقول عائشة لما سئلت عن الرجل يخير امرأته ، فقالت : قد خيّرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أفكان طلاقا. ولم يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق اه ملخصا.

ـ والذي ذهب إليه القرطبي هو الصواب إن شاء الله تعالى ، وحديث عائشة أخرجه البخاري ٥٢٦٢ و ٥٢٦٣ ومسلم ١٤٧٧ ح ٢٥ و ٢٦.

(٢) البقرة : ٢٣١.

(٣) الأحزاب : ٥٢.

٤٦٠