زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

في أنفسهم وأموالهم افتتنوا ، قاله مجاهد.

(١٠٨٨) والثالث : نزلت في ناس من المنافقين بمكّة ، كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا أو أصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الشّرك ، قاله الضّحّاك.

(١٠٨٩) والرابع : أنها نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة ، كان أسلم ، فخاف على نفسه من أهله وقومه ، فخرج من مكّة هاربا إلى المدينة ، وذلك قبل قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، فجزعت أمّه فقالت لأخويه أبي جهل والحارث ابني هشام ـ وهما أخواه لأمّه ـ : والله لا آوي بيتا ولا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تأتياني به ، فخرجا في طلبه فظفرا به ، فلم يزالا به حتى تابعهما وجاءا به إليها ، فقيّدته ، وقالت : والله لا أحلّك من وثاقك حتى تكفر بمحمّد ، ثم أقبلت تجلده بالسياط وتعذّبه حتى كفر بمحمّد عليه‌السلام جزعا من الضّرب ، فنزلت فيه هذه الآية ، ثم هاجر بعد وحسن إسلامه ، هذا قول ابن السّائب ، ومقاتل. وفي رواية عن مقاتل أنّهما جلداه في الطريق مائتي جلدة ، فتبرّأ من دين محمّد ، فنزلت هذه الآية.

قوله تعالى : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي : ناله أذى أو عذاب بسبب إيمانه (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي : ما يصيبه من عذابهم في الدنيا (كَعَذابِ اللهِ) في الآخرة ؛ وإنما ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله تعالى لما يرجو من ثوابه (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) يعني : دولة للمؤمنين (لَيَقُولُنَ) يعني المنافقين للمؤمنين (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) على دينكم ، فكذّبهم الله تعالى وقال : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من الإيمان والنّفاق. وقد فسّرنا الآية التي تلي هذه في أوّل السّورة.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

قوله تعالى : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) يعنون : ديننا. قال مجاهد : هذا قول كفّار قريش لمن آمن من أهل مكّة ، قالوا لهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتّبعونا ، فإن كان عليكم شيء فهو علينا.

قوله تعالى : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) قال الزّجّاج : هو أمر في تأويل الشّرط والجزاء ، يعني إن اتّبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم. وقال الأخفش : كأنّهم أمروا أنفسهم بذلك. وقرأ الحسن : «ولنحمل» بكسر اللام. قال ابن قتيبة : الواو زائدة ، والمعنى : لنحمل خطاياكم.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي : فيما ضمنوا من حمل خطاياهم. قوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أي : أوزار أنفسهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي : أوزارا مع أوزارهم ، وهي أوزار الذين أضلّوهم ، وهذا كقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١)

____________________________________

(١٠٨٨) أخرجه الطبري ٢٧٧٠٤ عن الضحاك مرسلا ، فهو ضعيف.

(١٠٨٩) عزاه المصنف لمقاتل وهو ساقط الحديث ، ومثله ابن السائب ، كلاهما ممن يضع الحديث ، فالخبر لا شيء.

__________________

(١) النحل : ٢٥.

٤٠١

(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سؤال توبيخ وتقريع (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب على الله عزوجل ؛ وقال مقاتل : عن قولهم نحن الكفلاء بكلّ تبعة تصيبكم من الله تعالى.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وفي هذه القصة تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أعلم أنّ الأنبياء قد ابتلوا قبله ، وفيها وعيد شديد لمن أقام على الشّرك. فإنهم وإن أمهلوا ، فقد أمهل قوم نوح أكثر ثم أخذوا. قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) اختلفوا في عمر نوح على خمسة أقوال (١). أحدها : بعث بعد أربعين سنة ، وعاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم ، وعاش بعد الطّوفان ستين سنة ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس (٢). والثاني : أنّه لبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما ، وعاش بعد ذلك سبعين عاما ، فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين سنة ، قاله كعب الأحبار. والثالث : أنه بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة ، فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة ، قاله عون بن أبي شدّاد. والرابع : أنّه لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ، ودعاهم ثلاثمائة سنة ولبث بعد الطّوفان ثلاثمائة وخمسين سنة ، قاله قتادة. وقال وهب بن منبّه : بعث لخمسين سنة. والخامس : أنّ هذه الآية بيّنت مقدار عمره كلّه ، حكاه الماوردي. فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) ، فهلّا قال : تسعمائة وخمسين؟ فالجواب : أنّ المراد به تكثير العدد ، وذكر الألف أفخم في اللفظ ، وأعظم للعدد. وقال الزّجّاج : تأويل الاستثناء في كلام العرب : التّوكيد ، تقول : جاءني إخوتك إلّا زيدا ، فتؤكّد أنّ الجماعة جاءوا ، وتنقص زيدا. واستثناء نصف الشيء قبيح جدا لا تتكلّم به العرب ، وإنما يتكلّم بالاستثناء كما يتكلّم بالنّقصان ، تقول : عندي درهم ينقص قيراطا ، فلو قلت : ينقص نصفه ، كان الأولى أن تقول : عندي نصف درهم ، ولم يأت الاستثناء في كلام العرب إلّا قليل من كثير. قوله تعالى : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : الموت.

(١٠٩٠) روت عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) قال : «الموت». والثاني : المطر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة. قال ابن قتيبة : هو المطر الشديد. والثالث : الغرق ، قاله الضّحّاك. قال الزّجّاج : الطّوفان من كلّ شيء : ما كان كثيرا مطيفا بالجماعة كلّها ، فالغرق

____________________________________

(١٠٩٠) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٥٠٠٥ ، و ١٥٠٠٩ من حديث عائشة ، وإسناده ضعيف جدا فيه يحيى بن يمان عن منهال بن خليفة عن حجاج بن أرطأة ، وثلاثتهم ضعفاء. وزاد نسبته في «الدر» ٣ / ٢٠٣ إلى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه. وأخرجه الطبري من طرق متعددة عن مجاهد قوله ، وهو الصواب.

يلاحظ أن المصنف ذكر هذا الخبر عند هذه الآية ، وهو وهم ، لإجماعهم أن المراد بالطوفان هاهنا الغرق ، وإنما أخرجه الطبري وغيره في سياق قصة موسى مع ذكر الآيات الأخر ـ منها الجراد والقمل وغير ذلك.

__________________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ٥٠٢ ـ ٥٠٣ : وظاهر سياق الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما ، وقول عون بن أبي شداد رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وهذا قول غريب.

(٢) هذا القول متلقى عن أهل الكتاب ، فما ورد في القرآن هو الذي يجب التصديق به.

٤٠٢

الذي يشتمل على المدن الكثيرة : طوفان ، وكذلك القتل الذّريع ، والموت الجارف : طوفان. قوله تعالى : (وَهُمْ ظالِمُونَ) قال ابن عباس : كافرون.

قوله تعالى : (وَجَعَلْناها) يعني السّفينة ، قال قتادة : أبقاها الله تعالى آية للناس بأعلى الجوديّ. قال أبو سليمان الدمشقي : وجاز أن يكون أراد : الفعلة التي فعلها بهم من الغرق (آيَةً) ، أي عبرة (لِلْعالَمِينَ) بعدهم.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ) قال الزّجّاج : هو معطوف على نوح ، والمعنى : أرسلنا إبراهيم.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ) يعني عبادة الله (خَيْرٌ لَكُمْ) من عبادة الأوثان (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما هو خير لكم ممّا هو شرّ لكم ؛ والمعنى : ولكنّكم لا تعلمون. (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) قال الفرّاء : «إنّما» في هذا الموضع حرف واحد ، وليست على معنى «الذي» ، وقوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) مردود على «إنّما» ، كقولك : إنما تفعلون كذا ، وإنما تفعلون كذا. وقال مقاتل : الأوثان : الأصنام. قال ابن قتيبة : واحدها وثن ، وهو ما كان من حجارة أو جصّ. قوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) وقرأ ابن السّميفع ، وأبو المتوكّل : «وتختلقون» بزيادة تاء. ثم فيه قولان : أحدهما : تختلقون كذبا في زعمكم أنّها آلهة. والثاني : تصنعون الأصنام ؛ فالمعنى : تعبدون أصناما أنتم تصنعونها. ثم بيّن عجزهم بقوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي : لا يقدرون على أن يرزقوكم (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي : فاطلبوا من الله تعالى ، فإنّه القادر على ذلك. قوله تعالى : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) هذا تهديد لقريش (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) والمعنى : فأهلكوا.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

(أَوَلَمْ يَرَوْا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «يروا» بالياء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : بالتاء. وعن عاصم كالقراءتين. وعنى بالكلام كفّار مكّة (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) أي : كيف يخلقهم ابتداء من نطفة ، ثم من مضغة إلى أن يتمّ الخلق (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : ثم هو يعيده في الآخرة عند البعث. وقال أبو عبيدة : مجازه : أولم يروا كيف استأنف الله الخلق الأوّل ثم يعيده. وفيه لغتان : أبدأ وأعاد ، وكان مبدئا ومعيدا ، وبدأ وعاد ، وكان بادئا وعائدا.

٤٠٣

قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعني الخلق الأوّل والخلق الثاني. قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : انظروا إلى المخلوقات التي في الأرض ، وابحثوا عنها هل تجدون لها خالقا غير الله عزوجل ، فإذا علموا أنه لا خالق لهم سواه ، لزمتهم الحجّة في الإعادة ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي : ثمّ الله تعالى ينشئهم عند البعث نشأة أخرى. وأكثر القرّاء قرءوا : «النّشأة» بتسكين الشين وترك المدّ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «النّشاءة» بالمدّ.

قوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) فيه قولان : أحدهما : أنّه في الآخرة بعد إنشائهم. والثاني : أنّه في الدنيا. ثم فيه خمسة أقوال حكاها الماوردي : أحدها : يعذّب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة. والثاني : يعذّب بسوء الخلق ، ويرحم بحسن الخلق. والثالث : يعذّب بمتابعة البدعة ، ويرحم بملازمة السّنّة. والرابع : يعذّب بالانقطاع إلى الدنيا ، ويرحم بالإعراض عنها. والخامس : يعذّب من يشاء ببغض الناس له ، ويرحم من يشاء بحبّ الناس له. قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي : تردّون. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فيه قولان حكاهما الزّجّاج : أحدهما : وما أنتم بمعجزين في الأرض ، ولا أهل السماء بمعجزين في السماء. والثاني : وما أنتم بمعجزين في الأرض ، ولا لو كنتم في السماء. وقال قطرب : هذا كقولك : ما يفوتني فلان لا ها هنا ولا بالبصرة ، أي : ولا بالبصرة لو صار إليها. قال مقاتل : والخطاب لكفّار مكّة ؛ والمعنى : لا تسبقون الله حتى يجزيكم بأعمالكم السيّئة ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي : قريب ينفعكم (وَلا نَصِيرٍ) يمنعكم من الله تعالى.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ) أي : بالقرآن والبعث (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) ؛ في الرّحمة قولان : أحدهما : الجنة ، قاله مقاتل. والثاني : العفو والمغفرة ، قاله أبو سليمان. قال ابن جرير : وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥))

ثم عاد الكلام إلى قصة إبراهيم ، وهو قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي : حين دعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن الأصنام (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) وهذا بيان لسفه أحلامهم حين قابلوا احتجاجه عليهم بهذا. قوله تعالى : (فَأَنْجاهُ اللهُ) المعنى : فحرّقوه فأنجاه الله (مِنَ النَّارِ). قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) يشير إلى إنجائه إبراهيم.

قوله تعالى : (وَقالَ) يعني إبراهيم (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «مودّة بينكم» بالرفع والإضافة. قال الزّجّاج : «مودّة» مرفوعة بإضمار «هي» كأنه قال : تلك مودّة بينكم ، أي : ألفتكم واجتماعكم على الأصنام مودّة بينكم ؛ والمعنى : إنّما اتّخذتم هذه الأوثان لتتوادّوا بها في الحياة الدنيا. ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي. وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، وعكرمة ، وابن أبي عبلة : «مودّة» بالرفع «بينكم» بالنصب. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «مودّة بينكم» قال أبو عليّ : المعنى : اتّخذتم الأصنام للمودّة ، و «بينكم» نصب على الظّرف ،

٤٠٤

والعامل فيه «المودّة». وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : «مودّة بينكم» بنصب «مودّة» مع الإضافة ، وهذا على الاتساع في جعل الظّرف اسما لما أضيف إليه. قال المفسّرون : معنى الكلام : إنّما اتّخذتموها لتتّصل المودّة بينكم واللقاء والاجتماع عندها ، وأنتم تعلمون أنها لا تضرّ ولا تنفع ، (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي : يتبرّأ القادة من الأتباع (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) يلعن الأتباع القادة لأنّهم زيّنوا لهم الكفر.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

قوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي : صدّق بإبراهيم (وَقالَ) يعني إبراهيم (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) فيه قولان : أحدهما : إلى رضى ربّي. والثاني : إلى حيث أمرني ربّي ، فهاجر من سواد العراق إلى الشّام وهجر قومه المشركين. (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) بعد إسماعيل (وَيَعْقُوبَ) من إسحاق (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وذلك أنّ الله تعالى لم يبعث نبيّا بعد إبراهيم إلّا من صلبه (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) فيه أربعة أقوال : أحدها : الذّكر الحسن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : الثناء الحسن والولد الصالح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : العافية والعمل الحسن والثناء ، فلست تلقى أحدا من أهل الملل إلّا يتولّاه ، قاله قتادة. والرابع : أنه أري مكانه من الجنّة ، قاله السّدّيّ. قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) قال ابن جرير : له هناك جزاء الصّالحين غير منقوص من الآخرة بما أعطي في الدنيا من الأجر. وما بعد هذا قد سبق بيانه (١) إلى قوله تعالى : (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم كانوا يعترضون من مرّ بهم لعملهم الخبيث ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنهم كانوا إذا جلسوا في مجالسهم يرمون ابن السّبيل بالحجارة ، فيقطعون سبيل المسافر ، قاله مقاتل. والثالث : أنه قطع النّسل للعدول عن النساء إلى الرجال ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال ابن قتيبة : النّادي : المجلس ، والمنكر يجمع الفواحش من القول والفعل. وللمفسّرين في المراد بهذا المنكر أربعة أقوال :

(١٠٩١) أحدها : أنهم كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم ، فذلك المنكر ، روته أمّ هانئ

____________________________________

(١٠٩١) ضعيف جدا ، والمتن منكر. أخرجه الترمذي ٣١٩٠ وأحمد ٦ / ٣٤١ و ٤٢٤ والطبري ٢٧٧٤٣ والحاكم ٢ / ٤٠٩ والطبراني ٢٤ / ١٠٠١ وابن أبي الدنيا في «الصمت» ٢٨٢ من طرق من حديث أم هانئ ، وقال الترمذي :

__________________

(١) سبق بيانه في سورة الأعراف : ٨٠.

٤٠٥

بنت أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عكرمة والسّدّيّ : كانوا يحذفون كلّ من مرّ بهم.

والثاني : لفّ القميص على اليد ، وجرّ الإزار ، وحلّ الأزرار ، والحذف والرّمي بالبندق ، ولعب الحمام ، والصّفير ، في خصال أخر رواها ميمون بن مهران عن ابن عباس.

والثالث : أنه الضّراط ، رواه عروة عن عائشة ، وكذلك فسّره القاسم بن محمّد.

والرابع : أنه إتيان الرّجال في مجالسهم ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد.

وهذه الآية تدلّ على أنه لا ينبغي للمجتمعين أن يتعاشروا إلّا على ما يقرّب من الله عزوجل ، ولا ينبغي أن يجتمعوا على الهزء واللّعب.

قوله تعالى : (رَبِّ انْصُرْنِي) أي : بتصديق قولي في العذاب.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) يعنون قرية لوط. قوله تعالى : (لَنُنَجِّيَنَّهُ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «لننجينّه» و «إنّا منجّوك» بتشديد الحرفين ، وخفّفهما حمزة ، والكسائيّ. وروى أبو بكر عن عاصم : «لننجّينّه» مشددة ، و «إنّا منجوك» مخففة ساكنة النون. وقد سبق شرح ما أخللنا بذكره (١) إلى قوله تعالى : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) وهو الحصب والخسف. قوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) في المكنيّ عنها قولان : أحدهما : أنها الفعلة التي فعل بهم ؛ فعلى هذا في الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الحجارة التي أدركت أوائل هذه الأمّة ، قاله قتادة. والثاني : الماء الأسود على وجه الأرض ، قاله مجاهد. والثالث : الخبر عمّا صنع بهم. والثاني : أنها القرية ؛ فعلى هذا في المراد بالآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها آثار منازلهم الخربة ، قاله ابن عباس.

____________________________________

هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث حاتم عن سماك. وإسناده ضعيف جدا ، سماك بن حرب تغير حفظه بآخره لذا ضعفه غير واحد ، وأبو صالح ـ واسمه باذام ، ويقال باذان ـ ضعفه غير واحد ، وتركه آخرون ، وهو ضعيف جدا ، روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.

ـ وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٤١٨ من طريق بشر بن معاد بهذا الإسناد. وأخرجه الطيالسي ١٦١٧ والطبراني ٢٤ / ١٠٠٢ من طريق قيس بن الربيع عن سماك به.

ـ وأخرجه الطبري ٢٧٧٤٥ والطبراني ٢٤ / ١٠٠٠ من طريق أبي يونس القشيري عن سماك به.

الخلاصة : الإسناد ضعيف جدا ، والمتن منكر ، فإن المنكر المراد في الآية أعظم من حذف المارة والسخرية منهم ، بل يشمل اللواط وغيره.

__________________

(١) هود : ٧٧.

٤٠٦

والثاني : أنّ الآية في قريتهم إلى الآن أنّ أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها ، أسفلها ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي.

والثالث : أنّ المعنى : تركناها آية ، تقول : إنّ في السماء لآية ، تريد أنها هي الآية ، قاله الفرّاء.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧))

قوله تعالى : (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) قال المفسّرون : اخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

قوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ) قال الزّجّاج : وأهلكنا عادا وثمودا ، لأنّ قبل هذا (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ). قوله تعالى : (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي : ظهر لكم يا أهل مكّة من منازلهم بالحجاز واليمن آية في هلاكهم ، (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) قال الفرّاء : أي : ذوي بصائر. وقال الزّجّاج : أتوا ما أتوه وقد تبيّن لهم أنّ عاقبته عذابهم. وقال غيره : كانوا عند أنفسهم مستبصرين يظنّون أنهم على حقّ.

قوله تعالى : (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي : ما كانوا يفوتون الله تعالى أن يفعل بهم ما يريد.

قوله تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي : عاقبنا بتكذيبه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) يعني قوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) يعني ثمودا وقوم شعيب (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) يعني قارون وأصحابه (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) يعني قوم نوح وفرعون (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) فيعذّبهم على غير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالإقامة على المعاصي.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣))

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يعني الأصنام يتّخذها المشركون أولياء يرجون نفعها ونصرها ، فمثلهم في ضعف احتيالهم (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) قال ثعلب : والعنكبوت أنثى ، وقد يذكرها بعض العرب ، قال الشاعر :

كأنّ العنكبوت هو ابتناها (١)

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : هو عالم بما عبدوه من دونه ، لا

__________________

(١) هو عجز بيت وصدره : على هطّالهم منهم بيوت ، والبيت غير منسوب في «اللسان» ـ عنكب ـ.

٤٠٧

يخفى عليه ذلك ؛ والمعنى أنه يجازيهم على كفرهم. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) يعني أمثال القرآن التي شبّه بها أحوال الكفّار ، وقيل : إنّ «تلك» بمعنى «هذه» ، و (الْعالِمُونَ) الذين يعقلون عن الله عزوجل.

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : للحقّ ، ولإظهار الحقّ.

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) في المراد بالصّلاة قولان :

أحدهما : أنها الصلاة المعروفة ، قاله الأكثرون.

(١٠٩٢) وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد من الله إلّا بعدا».

____________________________________

(١٠٩٢) المرفوع واه ليس بشيء ، أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٤٢١ من حديث أنس ، وفيه عمر بن شاكر وهو منكر الحديث. وله شاهد من حديث ابن عباس. أخرجه الطبراني ١١٠٢٥ والقضاعي في «الشهاب» ٥٠٩ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٥١١ من طريق ليث عن طاوس عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ضعيف ، ليث هو ابن أبي سليم. قال عنه الحافظ في «التقريب» : صدوق ، اختلط أخيرا ، ولم يتميز حديثه فترك. وبه أعله الهيثمي في «المجمع» ١ / ١٣٤. وله شاهد من حديث عمران بن حصين ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٥١١ من طريق عمر بن أبي عثمان عن الحسن عن عمران به. وإسناده ضعيف جدا ، وله علتان : عمر هذا لم أجد له ترجمة ، والحسن لم يلق عمران ، وهو مدلس ، وقد عنعن. وله شاهد من حديث ابن مسعود ، أخرجه الطبري ٢٧٧٨٤ والواحدي ٣ / ٤٢١ من طريق جويبر عن الضحاك عنه. وهذا إسناد ساقط ، جويبر متروك ، والضحاك لم يلق ابن مسعود. وورد من مرسل الحسن ، أخرجه الطبري ٢٧٧٨٥ من طريق إسماعيل بن مسلم عنه. ومع إرساله إسماعيل هذا متروك. وأخرجه القضاعي ٥٠٨ من وجه آخر عن مقدام بن داود عن علي بن معبد عن هشيم عن يونس عن الحسن مرسلا. ورجاله ثقات سوى مقدام بن داود ، فإنه ليس بثقة ، قاله النسائي. ولعله توبع ، فقد قال العراقي في «تخريج الإحياء» ١ / ١٤٣ : أخرجه علي بن معبد في كتاب «الطاعة والمعصية» من حديث الحسن بإسناد صحيح. قلت : ومع ذلك مراسيل الحسن واهية لأنه يحدث عن كل أحد. كما هو مقرر في كتب التراجم. وقد خولف علي بن معبد فيه ، فقد أخرجه الطبري ٢٧٧٨٦ عن يعقوب ثنا ابن علية عن يونس عن الحسن. قوله ، لم يرفعه. وهذا إسناد رجاله ثقات مشاهير.

وأخرجه الطبري ٢٧٧٨٧ من طريق بشر عن يزيد عن سعيد هو ابن أبي عروبة ـ عن قتادة والحسن قالا ...

فذكره موقوفا عليهما. وهو الصحيح عن الحسن وغيره. وحديث ابن مسعود المتقدم ، مع سقوط إسناده ، هو معلول بالوقف ، كذا أخرجه الطبري ٢٧٧٨٣ ورجاله ثقات. وحديث ابن عباس ، معلول أيضا بالوقف ، كذا أخرجه الطبري ٢٧٧٨١ لكن فيه من لم يسم. وقال الحافظ ابن كثير ٣ / ٥١٢ : والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم. الخلاصة : المرفوع ضعيف ليس بشيء ، والصحيح وقفه على من ذكر من الصحابة والتابعين ، والله أعلم. والمتن مع ذلك منكر ، فقد صح ما يخالفه ، وهو ما أخرجه أحمد ٢ / ٤٤٧ والبزار ٧٢٠ وابن حبان ٢٥٦٠ من حديث أبي هريرة بسند صحيح «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ، فقال : إنه سينهاه ما تقول». انظر «تفسير الشوكاني» ١٨٨٧ أو ١٨٨٨ و «أحكام القرآن» ١٧٣٣.

٤٠٨

والثاني : أنّ المراد بالصّلاة : القران ، قاله ابن عمر ، ويدلّ على هذا قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) (١) وقد شرحنا معنى الفحشاء والمنكر فيما سبق (٢).

وفي معنى هذه الآية للعلماء ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الإنسان إذا أدّى الصلاة كما ينبغي وتدبّر ما يتلو فيها ، نهته عن الفحشاء والمنكر ، هذا مقتضاها وموجبها. والثاني : أنها تنهاه ما دام فيها. والثالث : أنّ المعنى : ينبغي أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر.

قوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فيه أربعة أقوال :

(١٠٩٣) أحدها : ولذكر الله إيّاكم أكبر من ذكركم إيّاه ، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد في آخرين.

والثاني : ولذكر الله تعالى أفضل من كلّ شيء سواه ، وهذا مذهب أبي الدّرداء ، وسلمان ، وقتادة. والثالث : ولذكر الله تعالى في الصّلاة أكبر ممّا نهاك عنه من الفحشاء والمنكر ، قاله عبد الله بن عون. والرابع : ولذكر الله تعالى العبد ـ ما كان في صلاته ـ أكبر من ذكر العبد لله تعالى ، قاله ابن قتيبة.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦))

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) في التي هي أحسن ثلاثة أقوال : أحدها : أنها لا إله إلّا الله ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنها الكفّ عنهم إذا بذلوا الجزية ، فإن أبوا قوتلوا ، قاله مجاهد. والثالث : أنها القرآن والدّعاء إلى الله تعالى بالآيات والحجج. قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم الذين نصبوا الحرب وأبوا أن يؤدّوا الجزية ، فجادلوا هؤلاء بالسّيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (وَقُولُوا) لمن أدّى الجزية منهم إذا أخبركم بشيء ممّا في كتبهم (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية.

(١٠٩٤) وقد روى أبو هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التّوراة بالعبرانيّة ، ويفسّرونها بالعربية

____________________________________

(١٠٩٣) المرفوع ضعيف جدا ، والصحيح موقوف. أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» ٤ / ١٦٥ من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن موسى بن عقبة به عن ابن عمر. وإسناده ضعيف جدا ، إسماعيل ضعفه غير واحد ، وعنه مجاهيل ، والصحيح موقوف على ابن عمر وابن عباس وغيرهما.

ـ وأثر ابن عباس ، أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٢٢٥٦ وابن أبي شيبة ٣٥٦٤٠ والطبري ٢٧٧٩١ و ٢٧٧٩٢ و ٢٧٧٩٣ و ٢٧٧٩٤ و ٢٧٧٩٧ و ٢٧٧٩٩ من طرق متعددة عنه موقوفا ، وهو الصحيح.

(١٠٩٤) صحيح. أخرجه البخاري ٤٤٨٥ و ٧٣٦٢ و ٧٥٤٢ والنسائي في «التفسير» ٤٠٧ والبغوي ١٢٥ من حديث أبي هريرة. ويشهد له حديث أبي نملة. أخرجه عبد الرزاق ٢٠٠٥٩ وأحمد ٤ / ١٣٦ وأبو داود ٣٦٤٤ وابن حبان ٦٢٥٧ والطبراني ٢٢ / ٨٧٤ و ٨٧٥ كلهم من حديث أبي نملة الأنصاري ، ورجاله رجال الشيخين ، سوى نملة بن أبي نملة ، وهو ثقة. فقد وثقه ابن حبان ، وروى عنه جمع منهم الزهري وعاصم ويعقوب ابنا عمر بن قتادة ، وضمرة بن سعيد ، ومروان بن أبي سعيد ، وعلى هذا تزول جهالته حيث روى عنه أكثر من واحد ، وقال عنه الحافظ في «التقريب» مقبول.

__________________

(١) الإسراء : ١١٠.

(٢) البقرة : ١٦٨ ـ النحل : ٩٠.

٤٠٩

لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ)» الآية.

فصل : واختلف في نسخ هذه الآية على قولين : أحدهما : أنها نسخت بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إلى قوله تعالى : (وَهُمْ صاغِرُونَ) (١) ، قاله قتادة والكلبيّ. والثاني : أنها ثابتة الحكم ، وهو مذهب ابن زيد.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي : وكما أنزلنا الكتاب عليهم (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني مؤمني أهل الكتاب (وَمِنْ هؤُلاءِ) يعني أهل مكّة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) وهم الذين أسلموا (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) قال قتادة : إنّما يكون الجحد بعد المعرفة. قال مقاتل : وهم اليهود.

قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) قال أبو عبيدة : مجازه : ما كنت تقرأ قبله كتابا ، و «من» زائدة. فأمّا الهاء في «قبله» فهي عائدة إلى القرآن. والمعنى : ما كنت قارئا قبل الوحي ولا كاتبا ، وهكذا كانت صفته في التّوراة والإنجيل أنّه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب ، وهذا يدلّ على أنّ الذي جاء به ، من عند الله تعالى. قوله تعالى : (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي : لو كنت قارئا كاتبا لشكّ اليهود فيك ولقالوا : ليست هذه صفته في كتابنا. والمبطلون : الذين يأتون الباطل ، وفيهم ها هنا قولان : أحدهما : كفّار قريش ، قاله مجاهد. والثاني : كفّار اليهود ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) في المكنّى عنه قولان : أحدهما : أنه النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنّ المعنى : بل وجدان أهل الكتاب في كتبهم أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكتب ولا يقرأ ، وأنه أمّيّ ، آيات بيّنات في صدورهم ، وهذا مذهب ابن عباس ، والضّحّاك ، وابن جريج. والثاني : أنّ المعنى : بل محمّد عليه‌السلام ذو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب ، لأنّهم يجدونه بنعته وصفته ، قاله قتادة. والثاني : أنه القرآن ، والذين أوتوا العلم : المؤمنون الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمّلوه بعده. وإنما أعطي الحفظ هذه الأمّة ، وكان من قبلهم لا يقرءون كتابهم إلّا نظرا ، فإذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه سوى الأنبياء ، وهذا قول الحسن. وفي المراد بالظالمين ها هنا قولان : أحدهما : المشركون ، قاله ابن عباس. والثاني : كفّار اليهود ، قاله مقاتل.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)

__________________

(١) التوبة : ٢٩.

٤١٠

قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

قوله تعالى : (وَقالُوا) يعني كفّار مكّة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «آيات» على الجمع. وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «آية» على التّوحيد. وإنما أرادوا : كآيات الأنبياء (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي : هو القادر على إرسالها ، وليست بيدي. وزعم بعض علماء التفسير أنّ قوله تعالى : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) منسوخ بآية السّيف. ثم بيّن الله عزوجل أنّ القرآن يكفي من الآيات التي سألوها بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ)؟!

(١٠٩٥) وذكر يحيى بن جعدة أنّ ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكتب قد كتبوها ، فيها بعض ما يقول اليهود ، فلمّا نظر إليها ألقاها وقال : «كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى قوم غيرهم» فنزلت : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) إلى آخر الآية.

قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ) قال المفسّرون : لمّا كذّبوا بالقرآن نزلت : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) يشهد لي أنّي رسوله ، ويشهد عليكم بالتّكذيب ، وشهادة الله له : إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) قال ابن عباس : بغير الله تعالى. وقال مقاتل : بعبادة الشيطان.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) قال مقاتل : نزلت في النّضر بن الحارث حين قال : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (١). وفي الأجل المسمّى أربعة أقوال. أحدها : أنه يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : أجل الحياة إلى حين الموت ، وأجل الموت إلى حين البعث ، قاله قتادة. والثالث : مدّة أعمارهم ، قاله الضّحّاك. والرابع : يوم بدر ، حكاه الثّعلبي.

قوله تعالى : (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) يعني العذاب. وقرأ معاذ القارئ ، وأبو نهيك ، وابن أبي عبلة : «ولتأتينّهم» بالتاء (بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه. قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي :

____________________________________

(١٠٩٥) مرسل. أخرجه الطبري ٢٧٨٣٨ عن يحيى بن جعدة بهذا اللفظ ، وهذا مرسل.

ـ وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» ٥ / ٢٨٣ كلهم عن يحيى بن جعدة. بدون لفظ «فلما أن نظر فيها ألقاها» إنما ـ فقال : «كفى بها حماقة أو ضلالة قوم ، أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم ، إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قوم غيرهم» فنزلت : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ...) الآية ـ ولمعناه شواهد.

__________________

(١) الأنفال : ٣٢.

٤١١

جامعة لهم. قوله تعالى : (وَيَقُولُ ذُوقُوا) قرأ ابن كثير : بالنون. وقرأ نافع : بالياء. فمن قرأ بالياء ، أراد الملك الموكّل بعذابهم ، ومن قرأ بالنون ، فلأنّ ذلك لمّا كان بأمر الله تعالى جاز أن ينسب إليه. ومعنى (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : جزاء ما عملتم من الكفر والتّكذيب.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر : (يا عِبادِيَ) بتحريك الياء. وقرأ أبو عمرو ، والكسائيّ : بإسكانها.

قوله تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) وقرأ ابن عامر وحده : «أرضي» بفتح الياء ، وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه خطاب لمن آمن من أهل مكّة ، قيل لهم : «إن أرضي» يعني المدينة «واسعة» ، فلا تجاوروا الظّلمة في أرض مكّة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ؛ وكذلك قال مقاتل : نزلت في ضعفاء مسلمي مكّة ، أي : إن كنتم في ضيق بمكّة منّ إظهار الإيمان ، فأرض المدينة واسعة. والثاني : أنّ المعنى : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرجوا منها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عطاء. والثالث : إنّ رزقي لكم واسع ، قاله مطرّف بن عبد الله.

قوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أثبت فيها الياء يعقوب في الحالين ، وحذفها الباقون. قال الزّجّاج : أمرهم بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله إلى حيث تتهيّأ لهم العبادة ؛ ثم خوّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة ، فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) المعنى : فلا تقيموا في دار الشّرك خوفا من الموت (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم ، والأكثرون قرءوا : «ترجعون» بالتاء على الخطاب ؛ وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء.

قوله تعالى : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «لنبوئنّهم» بالباء ، أي : لننزلنّهم. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «لنثوينّهم» بالثاء ، وهو من : ثويت بالمكان : إذا أقمت به. قال الزّجّاج : يقال : ثوى الرجل : إذا أقام ، وأثويته : إذا أنزلته منزلا يقيم فيه. قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا). قال ابن عباس :

(١٠٩٦) لمّا أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج إلى المدينة ، قالوا : يا رسول الله ، نخرج إلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال؟! فمن يؤوينا ويطعمنا؟ فنزلت هذه الآية.

قال ابن قتيبة : ومعنى الآية : كم من دابّة لا ترفع شيئا لغد ، قال ابن عيينة : ليس شيء يخبأ إلّا الإنسان والفأرة والنّملة. قال المفسّرون وقوله : (اللهُ يَرْزُقُها) أي : حيث ما توجّهت (وَإِيَّاكُمْ) أي :

____________________________________

(١٠٩٦) لم أقف عليه مسندا. وذكر الواحدي في الوسيط ٤٢٤ نحوه عن مقاتل بدون إسناد ، فهو لا شيء ، ومقاتل إن كان ابن حيان ، فقد روى مناكير ، وإن كان ابن سليمان فهو كذاب.

٤١٢

ويرزقكم إن هاجرتم إلى المدينة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم : لا نجد ما ننفق بالمدينة (الْعَلِيمُ) بما في قلوبكم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) يعني كفّار مكّة ، وكانوا يقرّون بأنه الخالق والرّازق ؛ وإنّما أمره أن يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إقرارهم ، لأنّ ذلك يلزمهم الحجّة فيوجب عليهم التّوحيد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) توحيد الله مع إقرارهم بأنه الخالق. والمراد بالأكثر : الجميع.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦))

قوله تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) والمعنى : وما الحياة في هذه الدنيا إلّا غرور ينقضي عن قليل (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ) يعني الجنّة (لَهِيَ الْحَيَوانُ) قال أبو عبيدة : اللام في «لهي» زائدة للتّوكيد ، والحيوان والحياة واحد ؛ والمعنى : لهي دار الحياة التي لا موت فيها ، ولا تنغيص يشوبها كما يشوب الحياة في الدّنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي : لو علموا لرغبوا عن الفاني في الباقي ، ولكنهم لا يعلمون. قوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) يعني المشركين (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : أفردوه بالدّعاء. قال مقاتل : والدّين بمعنى التّوحيد ؛ والمعنى أنهم لا يدعون من يدعونه شريكا له ، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) أي : خلّصهم من أهوال البحر ، وأفضوا (إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) في البرّ ، وهذا إخبار عن عنادهم (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) هذه لام الأمر ، ومعناه التّهديد والوعيد ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) والمعنى : ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إيّاهم (وَلِيَتَمَتَّعُوا) قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ بإسكان اللام على معنى الأمر ؛ والمعنى : ليتمتّعوا بباقي أعمارهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم. وقرأ الباقون بكسر اللام في «ليتمتّعوا» ، فجعلوا اللّامين بمعنى «كي» ، فتقديره : لكي يكفروا ، ولكي يتمتّعوا ، فيكون معنى الكلام : إذا هم يشركون ليكفروا وليتمتّعوا ، أي : لا فائدة لهم في الإشراك إلّا الكفر والتّمتّع بما يتمتّعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

__________________

(١) فصلت : ٤٠.

٤١٣

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعني كفّار مكّة (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) يعني مكّة ، وقد شرحنا هذا المعنى في سورة القصص (١) (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي : أنّ العرب يسبي بعضهم بعضا وأهل مكّة آمنون (أَفَبِالْباطِلِ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : الشّرك ، قاله قتادة. والثاني : الأصنام ، قاله ابن السّائب. والثالث : الشيطان ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وعاصم الجحدري : «تؤمنون وبنعمة الله تكفرون» بالتاء فيهما. قوله تعالى : (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) يعني : محمّدا والإسلام ، وقيل : بإنعام الله عليهم حين أطعمهم وآمنهم (يَكْفُرُونَ) ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : زعم أنّ له شريكا وأنه أمر بالفواحش (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) يعني محمّدا والقرآن (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)؟! وهذا استفهام بمعنى التّقرير ، كقول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا (٢)

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) أي : قاتلوا أعداءنا لأجلنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي : لنوفقنّهم لإصابة الطريق المستقيمة ؛ وقيل : لنزيدنّهم هداية (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنّصرة والعون. قال ابن عباس : يريد بالمحسنين : الموحّدين ؛ وقال غيره : يريد المجاهدين. وقال ابن المبارك : من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل الثّغور عنها ، لقوله تعالى : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).

والله أعلم بالصّواب

__________________

(١) القصص : ٥٧.

(٢) هو صدر بيت لجرير كما في ديوانه : ٩٨. وعجزه : وأندى العالمين بطون راح.

٤١٤

سورة الرّوم

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥))

قوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ).

(١٠٩٧) ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والرّوم حرب فغلبت فارس الرّوم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فشقّ ذلك عليهم ، وفرح المشركون بذلك ، لأنّ فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبدون الأصنام ، والرّوم أصحاب كتاب ، فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّكم أهل كتاب ، والنّصارى أهل كتاب ، ونحن أمّيّون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الرّوم ، فإن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم ، فنزلت هذه الآية ، فخرج بها أبو بكر الصّديق إلى المشركين ، فقالوا : هذا كلام صاحبك؟ فقال : الله أنزل هذا ، فقالوا لأبي بكر : نراهنك على أنّ الرّوم لا تغلب فارس ، فقال أبو بكر : البضع ما بين الثلاث إلى التّسع ، فقالوا : الوسط من ذلك ستّ ، فوضعوا الرّهان ، وذلك قبل أن يحرّم الرّهان ، فرجع أبو بكر إلى أصحابه فأخبرهم ، فلاموه وقالوا : هلّا أقررتها كما أقرّها الله تعالى؟! لو شاء أن يقول : ستا ، لقال! فلمّا كانت سنة ستّ ، لم تظهر الرّوم على فارس ، فأخذوا الرّهان ، فلمّا كانت سنة سبع ظهرت الرّوم على فارس.

(١٠٩٨) وروى ابن عباس قال : لمّا نزلت : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ) ناحب أبو بكر قريشا ، فقال له

____________________________________

(١٠٩٧) حديث صحيح بشواهده ، دون بعض ألفاظ سأذكرها منكرة ليس لها شواهد. أخرجه الترمذي ٣١٩٤ من طريق إسماعيل بن أويس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم به.

وإسناده لين ، إسماعيل بن أبي أويس ، وثقه قوم وضعفه آخرون. وقد تفرد في هذا الحديث بألفاظ منها «فأخذ المشركون رهن أبي بكر» غريب ، فعامة الروايات تذكر الخطر ، من غير بيان أنه أبو بكر أو أخذه المشركون.

على أنه ورد من حديث البراء أن أبا بكر هو أخذ الرهن. وقد ذكر الألباني هذا الحديث في «صحيح الترمذي» ٢٥٥٢ فحسنة من غير تفصيل وبيان لما فيه من ألفاظ غريبة أو منكرة ، والله الموفق. وانظر «فتح القدير» ١٩٠٢ و «تفسير القرطبي» ٤٨٩٠ و «أحكام القرآن» ١٧٣٨ بتخريجنا ، والله أعلم.

(١٠٩٨) صحيح. أخرجه الترمذي ٣١٩١ والطبري ٧٨٦٦ عن ابن عباس ، وهو مختصر ، وإسناده غير قوي لأجل

٤١٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا احتطت ، فإنّ البضع ما بين السّبع والتسع». وذكر بعضهم أنهم ضربوا الأجل خمس سنين ، وقال بعضهم : ثلاث سنين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما البضع ما بين الثلاث إلى التّسع» فخرج أبو بكر فقال لهم : أزايدكم في الخطر وأمدّ في الأجل إلى تسع سنين ، ففعلوا ، فقهرهم أبو بكر ، وأخذ رهانهم. وفي الذي تولّى وضع الرّهان من المشركين قولان : أحدهما : أبيّ بن خلف ، قاله قتادة. والثاني : أبو سفيان بن حرب ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) وقرأ أبيّ بن كعب ، والضّحّاك ، وأبو رجاء ، وابن السّميفع : «في أداني الأرض» بألف مفتوحة الدال ؛ أي : أقرب الأرض أرض الرّوم إلى فارس. قال ابن عباس : وهي طرف الشّام. وفي اسم هذا المكان ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الجزيرة ، وهي أقرب أرض الرّوم إلى فارس ، قاله مجاهد. والثاني : أذرعات وكسكر ، قاله عكرمة. والثالث : الأردن وفلسطين ، قاله السّدّيّ. قوله تعالى : (وَهُمْ) يعني الرّوم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) وقرأ أبو الدّرداء ، وأبو رجاء ، وعكرمة ، والأعمش : «غلبهم» بتسكين اللام ؛ أي : من بعد غلبة فارس إيّاهم ، والغلب والغلبة لغتان ، (سَيَغْلِبُونَ) فارس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، في البضع تسعة أقوال قد ذكرناها في يوسف (١). قال المفسّرون : وهي ها هنا سبع سنين ، وهذا من علم الغيب الذي يدلّ على أنّ القرآن حقّ ، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي : من قبل أن تغلب الرّوم ومن بعد ما غلبت ؛ والمعنى أنّ غلبة الغالب وخذلان المغلوب ، بأمر الله عزوجل وقضائه (وَيَوْمَئِذٍ) يعني يوم غلبت الرّوم فارس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ) للرّوم. وكان التقاء الفريقين في السّنة السابعة من غلبة فارس إيّاهم ، فغلبتهم الرّوم ، وجاء

____________________________________

عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي. ولحديث ابن عباس طريق آخر ، أخرجه الترمذي ٣١٩٣ والنسائي في «الكبرى» ١١٣٨٩ وفي «التفسير» ٤٠٩ وأحمد ١ / ٢٧٦ ـ ٣٠٤ والحاكم ٢ / ٤١٠ والطبراني ١٢ / ١٢٣٧٧ والطبري ٢٧٨٦٥ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ من طرق عن أبي إسحاق الفزاري عن الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، أبو إسحاق هو إبراهيم بن محمد الحارث روى له الشيخان ، ومن دونه توبعوا ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وهذا المتن أصح شيء في الباب ، ولأصله شواهد كثيرة منها الآتي لكن في بعض ألفاظها نكارة وغرابة أحيانا. وله طريق آخر ، أخرجه الطبري ٢٧٨٦٧ ، وفي الإسناد مجاهيل ، وفيه أيضا عطية العوفي ، وهو واه. وله شاهد عن ابن مسعود ، أخرجه الطبري ٢٧٨٧٦ ، وفيه إرسال بين الشعبي وابن مسعود ، ورجال الإسناد ثقات. وله شاهد عن البراء بن عازب ، أخرجه أبو يعلى كما في «المطالب العالية» ٣٦٩٨ ، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٥٢٢ وإسناده ضعيف ، فيه مؤمل بن إسماعيل ، وضعفه غير واحد لسوء حفظه. وفي الباب مراسيل تشهد لأصله منها : مرسل عكرمة : أخرجه الطبري ٢٧٨٧٢ وكرره ٢٧٨٧٣. مرسل قتادة : أخرجه الطبري ٢٧٨٧٤. مرسل ابن زيد : أخرجه الطبري ٢٧٨٧٨.

ـ الخلاصة هو حديث صحيح ، له شواهد وطرق كما ترى ، وفي بعض ألفاظ تلك الشواهد والطرق نكارة أحيانا وغرابة أحيانا أخرى ، لكن مع ذلك تشهد لأصل هذا الحديث : وتدل على ثبوته ، والله أعلم.

ـ وانظر «تفسير القرطبي» ٤٨٨٩ و ٤٨٠ و ٤٨٩١ و «فتح القدير» ١٩٠٠ و ١٩٠١ و ١٩٠٢ و ١٩٠٣ و «أحكام القرآن» ١٧٣٧ وهي جميعا بتخريجنا ، والله الموفق.

__________________

(١) يوسف : ٤٢.

٤١٦

جبريل يخبر بنصر الرّوم على فارس ، فوافق ذلك يوم بدر ، وقيل : يوم الحديبية (١).

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))

قوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ) أي : وعد الله ذلك وعدا (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أنّ الرّوم يظهرون على فارس (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) يعني كفّار مكّة (لا يَعْلَمُونَ) أنّ الله تعالى لا يخلف وعده في ذلك. ثم وصف كفّار مكّة ، فقال : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قال عكرمة : هي المعايش. وقال الضّحّاك : يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها. وقال الحسن : يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم ، ولقد بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدّرهم بظفره فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلّي. قوله تعالى : (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) لأنهم لا يؤمنون بها. قال الزّجّاج : وذكرهم ثانية يجري مجرى التّوكيد ، كما تقول : زيد هو عالم ، وهو أوكد من قولك : زيد عالم. قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) قال الزّجّاج : معناه : أو لم يتفكّروا فيعلموا فحذف «فيعلموا» لأنّ في الكلام دليلا عليه. ومعنى (إِلَّا بِالْحَقِ) : إلّا للحقّ ، أي : لإقامة الحقّ (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت الجزاء (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) المعنى : لكافرون بلقاء ربّهم ، فقدّمت الباء ، لأنها متّصلة ب «كافرون» ؛ وما اتّصل بخبر «إنّ» جاز أن يقدّم قبل اللام ، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر من غير خلاف بين النّحويين ، لا يجوز أن تقول : إنّ زيدا كافر لبالله ، لأنّ اللام حقّها أن تدخل على الابتداء والخبر أو بين الابتداء والخبر ، لأنها تؤكّد الجملة. وقال مقاتل في قوله تعالى : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) : للسّماوات والأرض أجل ينتهيان إليه ، وهو يوم القيامة (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) يعني كفّار مكّة (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي : بالبعث (لَكافِرُونَ).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١))

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : أو لم يسافروا فينظروا مصارع الأمم قبلهم كيف أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا.

قوله تعالى : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي : قلبوها للزراعة ، ومنه قيل للبقرة : مثيرة. وقرأ أبيّ بن كعب ، ومعاذ القارئ ، وأبو حيوة : «وآثروا الأرض» بمدّ الهمزة وفتح الثاء مرفوعة الراء ، (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي : أكثر من عمارة أهل مكّة ، لطول أعمار أولئك وشدّة قوّتهم (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ

__________________

(١) هذا منكر فإن السورة مكية جميعا باتفاق.

٤١٧

بِالْبَيِّناتِ) أي : بالدّلالات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بتعذيبهم على غير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والتّكذيب ؛ ودلّ هذا على أنهم لم يؤمنوا فأهلكوا.

ثم أخبر عن عاقبتهم فقال : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) يعني الخلّة السيّئة ؛ وفيها قولان : أحدهما : أنها العذاب ، قاله الحسن. والثاني : جهنّم ، قاله السّدّيّ. قوله تعالى : (أَنْ كَذَّبُوا) قال الفرّاء : لأن كذّبوا ، فلمّا ألقيت اللام كان نصبا ، وقال الزّجّاج : لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم. وقيل : السّوأى مصدر بمنزلة الإساءة ؛ فالمعنى : ثم كان التّكذيب آخر أمرهم ، أي : ماتوا على ذلك ، كأنّ الله تعالى جازاهم على إساءتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب عقوبة لهم. وقال مكّيّ بن أبي طالب النّحوي : «عاقبة» اسم كان ، و «السّوأى» خبرها ، و «أن كذّبوا» مفعول من أجله ؛ ويجوز أن يكون «السّوأى» مفعولة ب «أساؤوا» ، و «أن كذّبوا» خبر كان ، ومن نصب «عاقبة» جعلها خبر «كان» ، و «السّوأى» اسمها ، ويجوز أن تكون «أن كذّبوا» اسمها. وقرأ الأعمش : «أساؤوا السّوء» برفع السّوء».

قوله تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : يخلقهم أوّلا ، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا ، (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «ترجعون» بالتاء ؛ فعلى هذا يكون الكلام عائدا من الخبر إلى الخطاب ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : بالياء ، لأنّ المتقدّم ذكره غيبة ، والمراد بذكر الرّجوع : الجزاء على الأعمال ، والخلق بمعنى المخلوقين ، وإنما قال : «يعيده» على لفظ الخلق.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

قوله تعالى : (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) قد شرحنا الإبلاس في سورة الأنعام (١). قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) أي : من أوثانهم التي عبدوها (شُفَعاءُ) في القيامة (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) يتبرّؤون منها وتتبرّأ منهم. قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) وذلك بعد الحساب ينصرف قوم إلى الجنّة ، وقوم إلى النّار. قوله تعالى : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) الرّوضة : المكان المخضرّ من الأرض ؛ وإنّما خصّ الرّوضة ، لأنها كانت أعجب الأشياء إلى العرب ؛ قال أبو عبيدة : ليس شيء عند العرب أحسن من الرّياض المعشبة ولا أطيب ريحا ، قال الأعشى :

ما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل

يوما بأطيب منها نشر رائحة

ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل (٢)

قال المفسّرون : والمراد بالرّوضة : رياض الجنّة. وفي معنى «يحبرون» أربعة أقوال : أحدها :

__________________

(١) الأنعام : ٤٤.

(٢) في «اللسان» : السّبل : المطر ، وقيل : المطر السبل. وقد أسبلت السماء ، وأسبل المطر.

٤١٨

يكرمون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : ينعمون ، قاله مجاهد ، وقتادة. وقال الزّجّاج : والحبرة في اللغة : كلّ نغمة حسنة. والثالث : يفرحون ، قاله السّدّيّ. وقال ابن قتيبة : «يحبرون» يسرّون ، والحبرة ؛ السّرور. والرابع : أنّ الحبر : السّماع في الجنّة ، فإذ أخذ أهل الجنّة في السّماع ، لم تبق شجرة إلّا وردّت ، قاله يحيى بن أبي كثير. وسئل يحيى بن معاذ : أيّ الأصوات أحسن؟ فقال : مزامير أنس ، في مقاصير قدس ، بألحان تحميد ، في رياض تمجيد (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (١).

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي : هم حاضرون العذاب أبدا لا يخفّف عنهم.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

ثم ذكر ما تدرك به الجنّة ويتباعد به من النّار فقال : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) قال المفسّرون : المعنى : فصلّوا لله عزوجل حين تمسون ، أي : حين تدخلون في المساء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي : تدخلون في الصّباح ، و (تُظْهِرُونَ) تدخلون في الظّهيرة ، وهي وقت الزّوال ، (وَعَشِيًّا) أي : وسبّحوه عشيّا. وهذه الآية قد جمعت الصّلوات الخمس ، فقوله تعالى : «حين تمسون» يعني به صلاة المغرب والعشاء ، «وحين تصبحون» يعني به صلاة الفجر ، «وعشيّا» العصر ، و «حين تظهرون» الظّهر. قوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن عباس : يحمده أهل السّموات وأهل الأرض ويصلّون له. قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فيه أقوال قد ذكرناها في سورة آل عمران (٢). قوله تعالى : (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي : يجعلها منبتة بعد أن كانت لا تنبت ، وتلك حياتها (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تخرجون» بضمّ التاء ، وفتحها حمزة والكسائيّ ؛ والمراد : تخرجون يوم القيامة من الأرض ، أي : كما أحيا الأرض بالنّبات يحييكم بالبعث.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ

__________________

(١) القمر : ٥٥.

(٢) آل عمران : ٢٧.

٤١٩

كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) أي : من دلائل قدرته (أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) يعني آدم لأنه أصل البشر (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ) من لحم ودم ، يعني ذرّيته (تَنْتَشِرُونَ) يعني تنبسطون في الأرض.

قوله تعالى : (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) فيه قولان : أحدهما : أنه يعني بذلك آدم ، خلق حوّاء من ضلعه ، وهو معنى قول قتادة. والثاني : أنّ المعنى : جعل لكم آدميّات مثلكم ولم يجعلهنّ من غير جنسكم ، قاله الكلبي. قوله تعالى : (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي : لتأووا إلى الأزواج (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) وذلك أنّ الزوجين يتوادّان ويتراحمان من غير رحم بينهما (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكره من صنعه (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في قدرة الله عزوجل وعظمته. قوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) يعني اللغات من العربية والعجمية وغير ذلك (وَأَلْوانِكُمْ) لأنّ الخلق بين أسود وأبيض وأحمر ، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة. وقيل : المراد باختلاف الألسنة : اختلاف النّغمات والأصوات ، حتى إنه لا يشتبه صوت أخوين من أب وأمّ. والمراد باختلاف الألوان : اختلاف الصّور ، فلا تشتبه صورتان مع التّشاكل (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «للعالمين» بفتح اللام. وقرأ حفص عن عاصم : «للعالمين» بكسر اللام.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ) أي : نومكم. قال أبو عبيدة : المنام من مصادر النّوم ، بمنزلة قام يقوم قياما ومقاما ، وقال يقول مقالا ، قال المفسّرون : وتقدير الآية : منامكم بالليل (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) وهو طلب الرّزق بالنهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع اعتبار وتذكّر وتدبّر (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) قال اللغويون : إنّما حذف «أن» لدلالة الكلام عليه ، وأنشدوا :

وما الدّهر إلّا تارتان فتارة

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (١)

ومعناه : فتارة أموت فيها ، وقال طرفة :

ألا أيّهذا الزّاجري أحصر الوغى (٢)

أراد : أن أحضر. وقد شرحنا معنى الخوف والطّمع في رؤية البرق في سورة الرّعد (٣).

قوله تعالى : (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) أي : تدوما قائمتين (بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً) وهي نفخة إسرافيل الأخيرة في الصّور بأمر الله عزوجل (مِنَ الْأَرْضِ) أي : من قبوركم (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) منها ، وما بعد هذا قد سبق بيانه (٤) إلى قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : أنّ الإعادة أهون عليه من البداية ، وكلّ هين عليه ، قاله مجاهد ، وأبو العالية. والثاني : أنّ «أهون» بمعنى «هين» عليه ، فالمعنى : وهو هين عليه ، وقد يوضع «أفعل» في موضع «فاعل» ، ومثله قولهم في الأذان : الله أكبر ، أي : الله كبير ، قال الفرزدق :

__________________

(١) البيت لتميم بن مقبل.

(٢) هو صدر بيت لطرفة بن العبد من معلقته وعجزه : وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي.

(٣) الرعد : ١٢.

(٤) البقرة : ١١٦ والعنكبوت : ١٩.

٤٢٠