زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

 ثَمانِيَ حِجَجٍ) قال الفراء : تأجرني وتأجرني ، بضمّ الجيم وكسرها ، لغتان. قال الزّجّاج : والمعنى : تكون أجيرا لي ثماني سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي : فذلك تفضّل منك ، وليس بواجب عليك.

قوله تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أي : في العشر. (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : في حسن الصّحبة والوفاء بما قلت. (قالَ) له موسى (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي : ذلك الذي وصفت وشرطت عليّ فلك ، وما شرطت لي من تزويج إحداهما فلي ، فالأمر كذلك بيننا. وتمّ الكلام ها هنا. ثم قال : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) يعني : الثّماني والعشر. قال أبو عبيدة : «ما» زائدة. قوله تعالى : (قَضَيْتُ) أي : أتممت (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي : لا سبيل عليّ ؛ والمعنى : لا تعتد عليّ بأن تلزمني أكثر منه (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) قال الزّجّاج : أي : والله شاهدنا على ما عقد بعضنا على بعض. واختلف العلماء في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال (١) :

(١٠٧٥) أحدها : أنه شعيب نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى هذا أكثر أهل التفسير. وفيه أثر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدلّ عليه ، وبه قال وهب ، ومقاتل.

والثاني : أنه صاحب مدين ، واسمه يثربي ، قاله ابن عباس. والثالث : رجل من قوم شعيب ، قاله الحسن. والرابع : أنه يثرون ابن أخي شعيب ، رواه عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، وبه قال ابن السّائب. واختلفوا في التي تزوّجها موسى من الابنتين على قولين : أحدهما : الصّغرى ، روي عن ابن عباس. والثاني : الكبرى ، قاله مقاتل. وفي اسم التي تزوّجها ثلاثة أقوال : أحدها : صفوريا ، حكاه أبو عمران الجوني. والثاني : صفورة ، قاله شعيب الجبائي. الثالث : صبورا ، قاله مقاتل.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي

____________________________________

(١٠٧٥) واه. أخرجه البزار ٢٨٢٨ والطبراني ٦٣٦٤ من حديث سلمة بن سعد ، وإسناده واه.

ـ قال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٥١ : فيه من لم أعرفهم.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ١٠ / ٦١ : وهذا مما لا يدرك علمه إلا بخبر ، ولا خبر بذلك تجب حجته ، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جل ثناؤه (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ ... قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ). وقال ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ٤٧٦ : ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه القران ها هنا ، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى ، لم يصح إسنادها ، والموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه يثرون.

٣٨١

أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ).

(١٠٧٦) روى ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل : أيّ الأجلين قضى موسى ، قال : «أوفاهما وأطيبهما». قال مجاهد : مكث بعد قضاء الأجل عندهم عشرا أخر. وقال وهب بن منبّه : أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين ، وقد سبق تفسير هذه الآية (١) إلى قوله تعالى : (أَوْ جَذْوَةٍ) وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائيّ : «جذوة» بكسر الجيم. وقرأ عاصم بفتحها. وقرأ حمزة ، وخلف ، والوليد عن ابن عامر بضمّها ، وكلّها لغات. قال ابن عباس : الجذوة : قطعة حطب فيها نار ، وقال أبو عبيدة : قطعة غليظة من الحطب ليس فيها لهب ، وهي مثل الجذمة من أصل الشجر ، قال ابن مقبل :

باتت حواطب ليلى يلتمسن لها

جزل الجذا غير خوّار ولا دعر (٢)

والدّاعر : الذي قد نخر ، ومنه رجل داعر. أي : فاسد.

قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ) وهو : جانبه الأيمن وهو الذي عن يمين موسى (فِي

____________________________________

(١٠٧٦) حديث حسن أو يشبه الحسن. أخرجه الحاكم ٢ / ٤٠٨ ح ٣٥٣١ من حديث ابن عباس ، سكت عليه الحاكم ، وضعفه الذهبي بقوله : حفص ـ ابن عمر العدني ـ واه.

وتوبع حفص ، فقد أخرجه الحميدي ٥٣٥ وأبو يعلى ٢٤٠٨ والبزار ٢٢٤٥ «كشف» والطبري ٢٧٤٠٩ والحاكم ٢ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ح ٣٥٣٢ كلهم من حديث ابن عباس ، «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل : «أي الأجلين قضى موسى؟» قال : أتمهما» وإسناده ضعيف فيه إبراهيم بن يحيى ، وهو مجهول كما قال الذهبي في رده على الحاكم حيث صحح الحديث ، وكذا أعله الحافظ في «تخريجه» ٣ / ٤٠٧ بجهالة إبراهيم هذا ، وقد سقط إبراهيم هذا من إسناد أبي يعلى ، فجرى الهيثمي في «المجمع» ١١٢٥٠ على ظاهره ، فقال : رجاله رحال الصحيح غير الحكم بن أبان ، وهو ثقة! وكذا حسنه الشيخ حسين أسد محقق «مسند أبي يعلى» جريا على ظاهره ، وليس كذلك كما تقدم. لكن المرفوع ورد من وجوه أخر. فقد ورد من حديث أبي ذر ، أخرجه البزار ٢٢٤٤ «كشف» وإسناده ضعيف جدا لأجل إسحاق بن إدريس ، متروك ومثله شيخه عوبد بن أبي عمران ، وقد توبع إسحاق عند الطبراني في «الصغير» ٨١٥ و «الأوسط» كما في «المجمع» ١١٢٢٥٢. وقال الهيثمي : إسناده حسن ، كذا قال رحمه‌الله! مع أن فيه عوبد ، وهو متروك. وورد من حديث عتبة بن النّدر ، أخرجه ابن ماجة ٢٤٤٤ وإسناده ضعيف جدا فيه بقية بن الوليد ، مدلس ، وقد عنعن ، وفيه مسلمة بن علي الخشني ، وهو متروك. وورد من وجه آخر عن أبي لهيعة ، أخرجه البزار ٢٢٤٦ والطبراني ١٧ / ٣٤ ـ ١٣٥ ، وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٤٧٧ وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة ، وورد من مرسل مجاهد ، أخرجه الطبري ٢٧٤١٠. ومن مرسل محمد بن كعب القرظي ، أخرجه ٢٧٤٠٨ فلعل هذه الروايات بمجموعها تتأيد ويصير الحديث حسنا ، على أنه أخرجه الطبري من وجوه عن ابن عباس وغيره موقوفا ، غير مرفوع والله أعلم.

وانظر «تفسير الشوكاني» ١٨٥٦ و ١٨٥٧ و ١٨٥٨ و ١٨٥٩ و «تفسير ابن كثير» كلاهما بتخريجي.

__________________

(١) طه : ١٠.

(٢) الحواطب : الجواري يطلبن الحطب ، وفي «اللسان» : الجزل : الحطب اليابس الغليظ. والجذى : جمع جذوة ، وهو العود الغليظ الذي في رأسه نار أو لا. الخوّار : الضعف. الدعر : الفساد والسوس.

٣٨٢

 الْبُقْعَةِ) وهي القطعة من الأرض (الْمُبارَكَةِ) بتكليم الله موسى فيها (مِنَ الشَّجَرَةِ) أي : من ناحيتها. وفي تلك الشجرة قولان : أحدهما : أنها شجرة العنّاب ، قاله ابن عباس. والثاني : عوسجة ، قاله قتادة ، وابن السّائب ، ومقاتل. وما بعد هذا قد سبق بيانه (١) إلى قوله تعالى : (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي : من أن ينالك مكروه.

قوله تعالى : (اسْلُكْ يَدَكَ) أي : أدخلها ، (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) قد فسّرنا الجناح في طه (٢) إلّا أنّ بعض المفسّرين خالف بين تفسير اللفظين ، فشرحناه. وقال ابن زيد : جناحه : الذّراع والعضد والكفّ. وقال الزّجّاج : الجناح ها هنا : العضد ، ويقال لليد كلّها : جناح. وحكى ابن الأنباري عن الفرّاء أنه قال : الجناح : العصا. قال ابن الأنباري : الجناح للإنسان مشبّه بالجناح للطائر ، ففي حال تشبّه العرب رجلي الإنسان بجناحي الطائر ، فيقولون : قد مضى فلان طائرا في حاجته ، يعنون ساعيا على قدميه ، وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر ، كقوله : «واضمم يدك إلى جناحك» ، وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح ، لأنّ الإنسان يدفع بها عن نفسه كدفع الطائر عن نفسه بجناحه ، كقوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) ، وإنما يوقع الجناح على هذه الأشياء تشبيها واستعارة ، كما يقال : قد قصّ جناح الإنسان ، وقد قطعت يده ورجله : إذا وقعت به جائحة أبطلت تصرّفه ؛ ويقول الرجل للرجل : أنت يدي ورجلي ، أي : أنت من به أصل إلى محابي ، قال جرير :

سأشكر أن رددت إليّ ريشي

وأنبتّ القوادم في جناحي

وقالت امرأة من العرب ترثي زوجها الأغرّ :

يا عصمتي في النّائبات ويا

ركني الأغرّ ويا يدي اليمنى

لا صنت وجها كنت صائنه

أبدا ووجهك في الثّرى يبلى

وأما الرّهب ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «من الرّهب» بفتح الراء والهاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «من الرّهب» بضمّ الراء وسكون الهاء. وقرأ حفص وأبان عن عاصم : «من الرّهب» بفتح الراء وسكون الهاء. وهي قراءة ابن مسعود ، وابن السّميفع. وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن ، وقتادة : بضمّ الراء والهاء. قال الزّجّاج : الرّهب ، والرّهب بمعنى واحد ، مثل الرّشد ، والرّشد. وقال أبو عبيدة : الرّهب والرّهبة بمعنى الخوف والفرق. وقال ابن الأنباري : الرّهب ، والرّهب ، والرّهب ، مثل الشّغل ، والشّغل ، والشّغل ، والبخل ، والبخل ، والبخل ، وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفرق.

وللمفسّرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنّه لمّا هرب من الحيّة أمره الله تعالى أن يضمّ إليه جناحه ليذهب عنه الفزغ. قال ابن عباس : المعنى : اضمم يدك إلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك. وقال مجاهد : كلّ من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع. والثاني : أنّه لمّا هاله بياض يده وشعاعها ، أمر أن يدخلها في جيبه ، فعادت إلى حالتها الأولى. والثالث : أنّ معنى الكلام : سكن روعك ، وثبت جأشك. قال أبو عليّ : ليس يراد به الضّمّ بين الشيئين ، إنما أمر بالعزم على ما أمر به

__________________

(١) النمل : ١٠.

(٢) طه : ٢٢.

٣٨٣

والجدّ فيه ، ومثله : اشدد حيازيمك للموت.

قوله تعالى : (فَذانِكَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «فذانّك» بالتشديد. وقرأ الباقون : «فذانك» بالتّخفيف. قال الزّجّاج : التشديد تثنية «ذلك» ، والتخفيف تثنية «ذاك» ، فجعل اللام في «ذلك» بدلا من تشديد النون في «ذانّك» ، (بُرْهانانِ) أي : بيانان اثنان. قال المفسّرون : «فذانك» يعني العصا واليد ، حجّتان من الله تعالى لموسى على صدقه ، (إِلى فِرْعَوْنَ) أي : أرسلنا بهاتين الآيتين إلى فرعون. وقد سبق تفسير ما بعد هذا (١) إلى قوله تعالى : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) أي : أحسن بيانا ، لأنّ موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها ، (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) قرأ الأكثرون : «ردءا» بسكون الدال وبعدها همزة. وقرأ أبو جعفر : «ردا» بفتح الدال وألف بعدها من غير همز ولا تنوين ؛ وقرأ نافع كذلك إلّا أنه نوّن. قال الزّجّاج : الرّدء : العون ، يقال : ردأته أردؤه ردءا : إذا أعتنته. قوله تعالى : (يُصَدِّقُنِي) قرأ عاصم ، وحمزة : «يصدّقني» بضمّ القاف. وقرأ الباقون بسكون القاف. قال الزّجّاج : من جزم «يصدّقني» فعلى جواب المسألة : أرسله يصدّقني ؛ ومن رفع ، فالمعنى : ردءا مصدّقا لي. وأكثر المفسّرين على أنه أشار بقوله تعالى : (يُصَدِّقُنِي) إلى هارون ؛ وقال مقاتل بن سليمان : لكي يصدّقني فرعون.

قوله تعالى : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) قال الزّجّاج : المعنى : سنعينك بأخيك ، ولفظ العضد على جهة المثل ، لأنّ اليد قوامها عضدها ، وكلّ معين فهو عضد ، (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي : حجّة بينة. وقيل للزّيت : السّليط ، لأنه يستضاء به ؛ فالسّلطان : أبين الحجج.

قوله تعالى : (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي : بقتل ولا أذى. وفي قوله تعالى : (بِآياتِنا) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : تمتنعان منهم بآياتنا وحججنا فلا يصلون إليكما. والثاني : أنّه متعلّق بما بعده ، فالمعنى : بآياتنا أنتما ومن اتّبعكما الغالبون ، أي : تغلبون بآياتنا. والثالث : أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : ونجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧))

قوله تعالى : (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي : ما هذا الذي جئتنا به إلّا سحر افتريته من قبل نفسك ولم تبعث به (وَما سَمِعْنا بِهذا) الذي تدعونا إليه (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ، (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ) وقرأ ابن كثير : «قال موسى» بلا واو ، وكذلك هي في مصاحفهم (بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي : هو أعلم بالمحقّ منّا ، (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، والمفضّل : «يكون» بالياء ، والباقون بالتاء.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ

__________________

(١) الشعراء : ١٤.

٣٨٤

كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢))

قوله تعالى : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) قال ابن قتيبة : المعنى : اصنع لي الآجرّ (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) أي : قصرا عاليا. وقال الزّجّاج : الصّرح : كلّ بناء متّسع مرتفع. وجاء في التفسير أنّه لمّا أمر هامان ـ وهو وزيره ـ ببناء الصّرح ، جمع العمّال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع ، فرفعوه وشيّدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد قطّ ، فلمّا تمّ ارتقى فرعون فوقه ، وأمر بنشّابة فرمى بها نحو السماء ، فردّت وهي متلطّخة بالدّم ، فقال : قد قتلت إله موسى ، فبعث الله تعالى جبريل فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع ، فوقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، ووقعت أخرى في البحر ، وأخرى في المغرب (١).

قوله تعالى : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي : أصعد إليه وأشرف عليه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) يعني موسى (مِنَ الْكاذِبِينَ) في ادّعائه إلها غيري. وقال ابن جرير : المعنى : أظنّ موسى كاذبا في ادّعائه أنّ في السماء ربّا أرسله. (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) يعني أرض مصر (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : بالباطل والظّلم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) بالبعث للجزاء. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «يرجعون» برفع الياء ؛ وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ : بفتحها.

قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ) أي : في الدنيا (أَئِمَّةً) أي : قادة في الكفر يأتمّ بهم العتاة (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) لأنّ من أطاعهم دخلها ؛ و «ينصرون» بمعنى : يمنعون من العذاب. وما بعد هذا مفسّر في هود (٢). قوله تعالى : (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي : من المبعدين الملعونين ؛ قال أبو زيد : يقال : قبح الله فلانا ، أي : أبعده من كلّ خير. وقال ابن جريج : معنى الآية : وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة لعنة أخرى ، ثم استقبل الكلام ، فقال : هم من المقبوحين.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أي : ليتبصّروا به ويهتدوا.

__________________

(١) هذا الأثر من الإسرائيليات ولا حجة فيه ، ذكره البغوي ٣ / ٣٨٣ بقوله : قال أهل السير.

(٢) هود : ٦٠ ـ ٩٩.

٣٨٥

قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) قال الزّجّاج : أي : وما كنت بجانب الجبل الغربيّ.

قوله تعالى : (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أي : أحكمنا الأمر معه بإرساله إلى فرعون وقومه (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لذلك الأمر ؛ وفي هذا بيان لصحّة نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم يعلمون أنه لم يقرأ الكتب ، ولم يشاهد ما جرى ، فلولا أنّه أوحي إليه ذلك ، ما علم.

قوله تعالى : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أي : خلقنا أمما من بعد موسى (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي : طال إمهالهم فنسوا عهد الله وتركوا أمره ؛ وهذا يدلّ على أنه قد عهد إلى موسى وقومه عهود في أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمروا بالإيمان به ، فلمّا طال إمهالهم ، أعرضوا عن مراعاة العهود ، (وَما كُنْتَ ثاوِياً) أي : مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) فتعلم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكّة (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أرسلناك إلى أهل مكة وأخبرناك خبر المتقدّمين ، ولو لا ذلك ما علمته. (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) أي : بناحية الجبل الذي كلّم عليه موسى (إِذْ نادَيْنا) موسى وكلّمناه ، هذا قول الأكثرين ؛ وقال أبو هريرة : كان هذا النداء : يا أمّة محمّد ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وأستجيب لكم قبل أن تدعوني.

قوله تعالى : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قال الزّجّاج : المعنى : لم تشاهد قصص الأنبياء ، ولكنّا أوحيناها إليك وقصصناها عليك ، رحمة من ربّك. (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) جواب «لو لا» محذوف ، تقديره : لو لا أنهم يحتجّون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة ، وقيل : لو لا ذلك لم نحتج إلى إرسال الرسل ومؤاثرة الاحتجاج.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ) يعني أهل مكّة (الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وهو محمّد عليه‌السلام والقرآن (قالُوا لَوْ لا) أي : هلّا (أُوتِيَ) محمّد من الآيات (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) كالعصا واليد. قال المفسّرون : أمرت اليهود قريشا أن تسأل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما أوتي موسى ، فقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى) أي : فقد كفروا بآيات موسى ، و (قالُوا) في المشار إليهم قولان : أحدهما : اليهود. والثاني : قريش. (سِحْرانِ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «ساحران». (تَظاهَرا) أي : تعاونا. وروى العبّاس الأنصاري عن أبي عمرو : «تظّاهرا» بتشديد الظاء. وفيمن عنوا ثلاثة أقوال : أحدها : موسى ومحمّد ، قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ؛ فعلى هذا هو من قول مشركي العرب.

٣٨٦

والثاني : موسى وهارون ، قاله مجاهد : فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرّسالة. والثالث : محمّد وعيسى عليهما‌السلام ، قاله قتادة ؛ فعلى هذا هو من قول اليهود الذين لم يؤمنوا بنبيّنا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ : «سحران» وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : التّوراة والفرقان ، قاله ابن عباس والسّدّيّ. والثاني : الإنجيل والقرآن ، قاله قتادة. والثالث : التّوراة والإنجيل ، قاله أبو مجلز وإسماعيل بن أبي خالد. ومعنى الكلام : كلّ سحر منهما يقوّي الآخر ، فنسب التظاهر إلى السّحرين توسّعا في الكلام ، (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) يعنون ما تقدّم ذكره على اختلاف الأقوال ، فقال الله تعالى لنبيّه (قُلْ) لكفّار مكّة (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) أي : من التّوراة والقرآن (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّهما ساحران. (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي : فإن لم يأتوا بمثل التّوراة والقرآن ، (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي : أنّ ما ركبوه من الكفر لم يحملهم عليه حجّة ، وإنما آثروا فيه الهوى (وَمَنْ أَضَلُ) أي : ولا أحد أضلّ (مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً) أي : بغير رشد ولا بيان جاء (مِنَ اللهِ). (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) وقرأ الحسن وأبو المتوكّل وابن يعمر : «وصلنا» بتخفيف الصاد. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم قريش ، قاله الأكثرون ، منهم مجاهد. والثاني : اليهود ، قاله رفاعة القرظي. والمعنى :أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضا ، ويخبر عن الأمم الخالية كيف عذّبوا لعلّهم يتّعظون. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وفيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم مؤمنوا أهل الكتاب ، رواه العوفيّ عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والثاني : مسلمو أهل الإنجيل.

(١٠٧٧) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشهدوا معه أحدا ، فنزلت فيهم هذه الآية.

والثالث : مسلمو اليهود ؛ كعبد الله بن سلام وغيره ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل القرآن (هُمْ بِهِ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّ ذكره كان مكتوبا عندهم في كتبهم فآمنوا به. والثاني : إلى القرآن.

قوله تعالى : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) يعني القرآن (قالُوا آمَنَّا بِهِ) ، (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل نزول القرآن (مُسْلِمِينَ) أي مخلصين لله تعالى مصدّقين بمحمّد ، وذلك لأنّ ذكره كان في كتبهم فآمنوا به (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنّهم مؤمنو أهل الكتاب ، وهذا قول الجمهور ، وهو الظّاهر ، وفيما صبروا عليه قولان : أحدهما : أنهم صبروا على الكتاب الأوّل وصبروا على اتّباعهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله قتادة وابن زيد. والثاني : أنهم صبروا على الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ثم على اتّباعه حين بعث ، قاله الضّحّاك. والقول الثاني : أنهم قوم من المشركين أسلموا فكان قومهم يؤذونهم فصبروا على الأذى ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) فيه أقوال قد شرحناها في الرّعد.

قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : الأذى والسّبّ ، قاله مجاهد. والثاني : الشّرك ، قاله الضّحّاك. والثالث : أنهم قوم من اليهود آمنوا ، فكانوا يسمعون ما غيّر اليهود من

____________________________________

(١٠٧٧) ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الأوسط» برقم ٧٦٥٨ من حديث ابن عباس بأتم منه ، وإسناده ضعيف جدا. فيه مجاهيل. قال السيوطي في «الأسباب» ١٠٧٣ : فيه من لا يعرف.

٣٨٧

صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكرهون ذلك ويعرضون عنه ، قاله ابن زيد. وهل هذا منسوخ ، أم لا؟ فيه قولان. وفي قوله تعالى : (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) قولان : أحدهما : لنا ديننا ولكم دينكم. والثاني : لنا حلمنا ولكم سفهكم. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قال الزّجّاج : لم يريدوا التّحيّة ، وإنّما أرادوا : بيننا وبينكم المتاركة ، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال. وذكر أهل التّفسير ، أنّ هذا منسوخ بآية السّيف. وفي قوله تعالى : (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : لا نبتغي دين الجاهلين. والثاني : لا نطلب مجاورتهم. والثالث : لا نريد أن نكون جهّالا ؛ والله أعلم

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨))

قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (١).

(١٠٧٨) وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاريّ من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمّه : «قل : لا إله إلّا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة» ، فقال : لو لا أن تعيّرني نساء قريش ، يقلن : إنّما حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك ، فأنزل الله عزوجل : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ). قال الزّجّاج : أجمع المفسّرون أنها نزلت في أبي طالب.

وفي قوله تعالى : (مَنْ أَحْبَبْتَ) قولان : أحدهما : من أحببت هدايته. والثاني : من أحببته لقرابته. (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي : يرشد لدينه من يشاء (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : بمن قدّر له الهدى.

قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ) قال ابن عباس في رواية العوفيّ : هم ناس من قريش قالوا ذلك. وقال في رواية ابن أبي مليكة : إنّ الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك.

(١٠٧٩) وذكر مقاتل أنّ الحارث بن عامر قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا لنعلم أنّ الذي تقول حقّ ، ولكن يمنعنا أن نتّبع الهدى معك مخافة أن تتخطّفنا العرب من أرضنا ، يعنون مكة.

____________________________________

(١٠٧٨) صحيح. أخرجه مسلم ٤١ ، ٤٢ والترمذي ٣١٨٨ وأحمد ٢ / ٤٣٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٦٦٢ من حديث أبي هريرة دون كلمة «نساء» وقد انفرد مسلم بروايته بهذا اللفظ مختصرا.

ـ وقد مضى تخريجه بأطول منه في سورة التوبة عند الآية ١١٣. متفق عليه.

(١٠٧٩) ضعيف. عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متهم ، لكن ورد من وجه آخر. أخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٣٨٥ من طريق عمرو بن شعيب عن ابن عباس ، وهو منقطع ، قال النسائي : ولم يسمعه منه ، أي لم يسمع عمرو من ابن عباس. فالإسناد ضعيف ، ولا يصح هذا الخبر.

__________________

(١) التوبة : ١١٣.

٣٨٨

ومعنى الآية : إن اتبعناك على دينك خفنا العرب لمخالفتنا إيّاها. والتّخطّف : الانتزاع بسرعة ؛ فردّ الله عليهم قولهم ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً) أي : أولم نسكنهم حرما ونجعله مكانا لهم ، ومعنى (آمِناً) : ذو أمن يأمن فيه الناس ، وذلك أنّ العرب كانت يغير بعضها على بعض ، وأهل مكّة آمنون في الحرم من القتل والسّبي والغارة ، أي : فكيف يخافون إذا أسلموا وهم في حرم آمن؟! (يُجْبى) قرأ نافع : «تجبى» بالتاء ، أي : تجمع إليه وتحمل من كلّ النّواحي الثّمرات ، (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي : من عندنا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) يعني أهل مكّة (لا يَعْلَمُونَ) أنّ الله تعالى هو الذي فعل بهم ذلك فيشكرونه. ومعنى الآية : إذا كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون غيري ، فكيف تخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي؟! ثم خوّفهم عذاب الأمم الخالية فقال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) قال الزّجّاج : «معيشتها» منصوبة بإسقاط «في» ، والمعنى : بطرت في معيشتها ، والبطر : الطّغيان في النّعمة. قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. قوله تعالى : (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) قال ابن عباس : لم يسكنها إلّا المسافرون ومارّ الطريق يوما أو ساعة ، والمعنى : لم تسكن من بعدهم إلّا سكنى قليلة (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أي : لم يخلفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم ، فبقيت خرابا غير مسكونة.

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) يعني القرى الكافر أهلها (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي : في أعظمها (رَسُولاً) ، وإنما خصّ الأعظم ببعثة الرّسول ، لأنّ الرّسول إنّما يبعث إلى الأشراف ، وأشراف القوم ملوكهم ، وإنما يسكنون المواضع التي هي أمّ ما حولها. وقال قتادة : أمّ القرى : مكّة ، والرسول : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله تعالى : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) قال مقاتل : يخبرهم الرّسول أنّ العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا. قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي : بظلمهم أهلكهم. وظلمهم : شركهم. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : ما أعطيتم من مال وخير (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) تتمتّعون به أيام حياتكم ثم يفنى وينقضي ، (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثّواب (خَيْرٌ وَأَبْقى) أفضل وأدوم لأهله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنّ الباقي أفضل من الفاني؟!

قوله تعالى : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) اختلف فيمن نزلت على أربعة أقوال : أحدها : أنها نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل. والثاني : في عليّ وحمزة رضي الله عنهما ، وأبي جهل. والقولان مرويّان عن مجاهد. والثالث : في المؤمن والكافر ، قاله قتادة. والرابع : في عمّار والوليد بن المغيرة ، قاله السّدّيّ. وفي الوعد الحسن قولان : أحدهما : الجنّة. والثاني : النّصر.

قوله تعالى : (فَهُوَ لاقِيهِ) أي : مصيبه ومدركه (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : كمن هو ممتّع بشيء يفنى ويزول عن قريب (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) فيه قولان :

٣٨٩

أحدهما : من المحضرين في عذاب الله تعالى ، قاله قتادة.

والثاني : من المحضرين للجزاء ، حكاه الماوردي.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : ينادي الله تعالى المشركين يوم القيامة (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) هذا على وجه حكاية قولهم ؛ والمعنى : أين شركائي في قولكم؟! (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : وجب عليهم العذاب ، وهم رؤساء الضّلالة ، وفيهم قولان : أحدهما : أنهم رؤوس المشركين. والثاني : أنهم الشياطين (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) يعنون الأتباع (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي : أضللناهم كما ضللنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) أي : تبرّأنا منهم إليك ؛ والمعنى أنهم يتبرّأ بعضهم من بعض ويصيرون أعداء. (وَقِيلَ) لكفّار بني آدم (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي : استغيثوا بآلهتكم لتخلّصكم من العذاب (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي : فلم يجيبوهم إلى نصرهم (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) قال الزّجّاج : جواب «لو» محذوف ؛ والمعنى : لو أنهم كانوا يهتدون لما اتّبعوهم ولما رأوا العذاب. قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : ينادي الله الكفّار ويسألهم (فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ). (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) وقرأ أبو رزين العقيلي ، وقتادة ، وأبو العالية ، وأبو المتوكّل ، وعاصم الجحدري : «فعمّيت» برفع العين وتشديد الميم. قال المفسّرون : خفيت عليهم الحجج ، وسمّيت أنباء ، لأنها أخبار يخبر بها. قال ابن قتيبة : المعنى : عموا عنها ـ من شدّة الهول ـ فلم يجيبوا ، و «الأنباء» الحجج.

قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) فيه ثلاثة أقوال. أحدها : لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجّة ، قاله الضّحّاك. والثاني : أنّ المعنى : سكتوا فلا يتساءلون في تلك الساعة ، قاله الفرّاء. والثالث : لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل عنه شيئا من ذنوبه ، حكاه الماوردي.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشّرك (وَآمَنَ) أي : صدّق بتوحيد الله عزوجل (وَعَمِلَ صالِحاً) أدّى الفرائض (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) و «عسى» من الله عزوجل واجب.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) روى العوفيّ عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) قال : كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهليّة.

٣٩٠

(١٠٨٠) وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١).

والمعنى أنّه لا تبعث الرّسل باختيارهم. قال الزّجّاج : والوقف الجيد على قوله تعالى : «ويختار» وتكون «ما» نفيا ؛ والمعنى : ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى ؛ ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى : ويختار الذي لهم فيه الخيرة ممّا يتعبّدهم به ويدعوهم إليه ؛ قال الفرّاء : والعرب تقول لما تختاره : أعطني الخيرة والخيرة والخيرة ، قال ثعلب : كلّها لغات.

قوله تعالى : (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي : ما تخفي من الكفر والعداوة (وَما يُعْلِنُونَ) بألسنتهم. قوله تعالى : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي : يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الجنّة (وَلَهُ الْحُكْمُ) وهو الفصل بين الخلائق. والسّرمد : الدّائم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

قوله تعالى : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي : سماع فهم وقبول فتستدلّوا بذلك على وحدانيّة الله تعالى؟! ومعنى (تَسْكُنُونَ فِيهِ) : تستريحون من الحركة والنّصب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ما أنتم عليه من الخطأ والضّلالة؟! ثم أخبر أنّ اللّيل والنّهار رحمة منه. وقوله تعالى : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) يعني في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي : لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الذي أنعم عليكم بهما. قوله تعالى : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي : أخرجنا من كلّ أمّة رسولها الذي يشهد عليها بالتّبليغ (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : حجّتكم على ما كنتم تعبدون من دوني (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي : علموا أنّه لا إله إلّا هو (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي : بطل في الآخرة (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) في الدنيا من الشّركاء.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧))

____________________________________

(١٠٨٠) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٦٥ بدون إسناد ، بقوله : قال أهل التفسير.

__________________

(١) الزخرف : ٣١.

٣٩١

قوله تعالى : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي : من عشيرته ؛ وفي نسبه إلى موسى ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه كان ابن عمّه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عبد الله بن الحارث ، وإبراهيم ، وابن جريج. والثاني : ابن خالته ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : أنه كان عمّ موسى ، قاله ابن إسحاق. قال الزّجّاج : «قارون» اسم أعجميّ لا ينصرف ، ولو كان «فاعولا» من العربية من «قرنت الشيء» لانصرف.

قوله تعالى : (فَبَغى عَلَيْهِمْ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه جعل لبغيّ جعلا على أن تقذف موسى بنفسها ، ففعلت ، فاستحلفها موسى على ما قالت ، فأخبرته بقصّتها ، فكان هذا بغيه ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه بغى بالكفر بالله تعالى ، قاله الضّحّاك. والثالث : بالكبر ، قاله قتادة. والرابع : أنه زاد في طول ثيابه شبرا ، قاله عطاء الخراساني ، وشهر بن حوشب. والخامس : أنه كان يخدم فرعون فتعدّى على بني إسرائيل وظلمهم ، حكاه الماوردي.

وفي المراد بمفاتحه قولان : أحدهما : أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب ، قاله مجاهد ، وقتادة. وروى الأعمش عن خيثمة قال : كانت مفاتيح قارون وقر ستين بغلا ، وكانت من جلود ، كلّ مفتاح مثل الأصبع. والثاني : أنها خزائنه ، قاله السّدّيّ ، وأبو صالح ، والضّحّاك. قال الزّجّاج : وهذا الأشبه أن تكون مفاتحه خزائن ماله ؛ وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة. قال أبو صالح : كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلا.

قوله تعالى : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أي : تثقلهم وتميلهم. ومعنى الكلام : لتنيء العصبة ، فلمّا دخلت الباء في «العصبة» انفتحت التاء ، كما تقول : هذا يذهب بالأبصار ، وهذا يذهب الأبصار ، وهذا اختيار الفرّاء وابن قتيبة والزّجّاج في آخرين. وقال بعضهم : هذا من المقلوب ، وتقديره : ما إنّ العصبة لتنوء بمفاتحه ، كما يقال : إنها لتنوء بها عجيزتها ، أي : هي تنوء بعجيزتها ، وأنشدوا :

فديت بنفسه نفسي ومالي

وما آلوك إلّا ما أطيق

أي : فديت بنفسي وبمالي نفسه ، وهذا اختيار أبي عبيدة ، والأخفش. وقد بيّنا معنى العصبة في سورة يوسف (٢) ، وفي المراد بها ها هنا ستة أقوال : أحدها : أربعون رجلا ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : خمسة عشر ، قاله مجاهد. والرابع : فوق العشرة إلى الأربعين ، قاله قتادة. والخامس : سبعون رجلا ، قاله أبو صالح. والسادس : ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين ، حكاه الزّجّاج.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) في القائل له قولان : أحدهما : أنهم المؤمنون من قومه ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنه قول موسى له ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (لا تَفْرَحْ) قال ابن قتيبة : المعنى : لا تأشر ولا تبطر ، قال الشاعر :

ولست بمفراح إذا الدّهر سرّني

ولا جازع من صرفه المتحوّل (٣)

__________________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ٤٩٢ : قال ابن جرير : وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه.

(٢) يوسف : ٨.

(٣) البيت لهدبة بن خشرم العذري ، وهو في «حماسة البحتري» ١٢٠.

٣٩٢

أي : لست بأشر ، فأمّا السرور ، فليس بمكروه. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة ، وعاصم الجحدري ، وابن أبي عبلة : «الفارحين» بألف.

قوله تعالى : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) أي : اطلب فيما أعطاك الله من الأموال (١). وقرأ أبو المتوكّل ، وابن السّميفع : «واتّبع» بتشديد التاء وكسر الباء وعين ساكنة غير معجمة (الدَّارَ الْآخِرَةَ) وهي : الجنّة ؛ وذلك يكون بإنفاقه في رضى الله تعالى وشكر المنعم به (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن يعمل في الدنيا للآخرة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور. والثاني : أن يقدّم الفضل ويمسك ما يغنيه ، قاله الحسن. والثالث : أن يستغني بالحلال عن الحرام ، قاله قتادة. وفي معنى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أعط فضل مالك كما زادك على قدر حاجتك. والثاني : أحسن فيما افترض عليك كما أحسن في إنعامه إليك. والثالث : أحسن في طلب الحلال كما أحسن إليك في الإحلال. قوله تعالى : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) فتعمل فيها بالمعاصي.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))

قوله تعالى : (إِنَّما أُوتِيتُهُ) يعني المال (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فيه خمسة أقوال (٢) : أحدها : على علم عندي بصنعة الذهب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ؛ قال الزّجّاج : وهذا لا أصل له ، لأنّ الكيمياء باطل لا حقيقة له. والثاني : برضى الله عني ، قاله ابن زيد. والثالث : على خير علمه الله تعالى عندي ، قاله مقاتل. والرابع : إنما أعطيته لفضل علمي ، قاله الفرّاء. قال الزّجّاج : ادّعى أنه أعطي المال لعلمه بالتّوراة. والخامس : على علم عندي بوجوه المكاسب ، حكاه الماوردي. قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) يعنى قارون (أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ) بالعذاب (مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) في الدّنيا حين كذّبوا رسلهم (مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للأموال. وفي قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : لا يسألون ليعلم ذلك من قبلهم وإن سئلوا سؤال توبيخ ، قاله الحسن. والثاني : أنّ الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسألهم عن ذنوبهم ، قاله مجاهد. والثالث : يدخلون النار بغير حساب ، قاله قتادة. وقال السّدّيّ : يعذّبون ولا يسألون عن ذنوبهم.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله ٣ / ٤٩٣ : استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرّب إليه بشتى أنواع القربات التي تحصّل لك الثواب في الدار الآخرة (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ما أباح الله لك من المآكل والمشارب والملابس والمساكن ، فإن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ، فآت كل ذي حق حقه. (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي : أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك ولا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض ، وتسيء إلى خلق الله. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٤٩٤ : وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد ، فإنه قال : لو لا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال ، وقرأ : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ).

٣٩٣

 لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠))

قوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) قال الحسن : في ثياب حمر وصفر ؛ وقال عكرمة : في ثياب معصفرة. وقال وهب بن منبّه : خرج على بغلة شهباء عليها سرج أحمر من أرجوان ، ومعه أربعة آلاف مقاتل ، وثلاثمائة وصيفة عليهنّ الحليّ والزّينة على بغال بيض. قال الزّجّاج : الأرجوان في اللغة : صبغ أحمر. قوله تعالى : (لَذُو حَظٍّ) أي : لذو نصيب وافر من الدنيا. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قال ابن عباس : يعني الأحبار من بني إسرائيل. وقال مقاتل : الذين أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة قالوا للذين تمنّوا ما أوتي قارون (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ) أي : ما عنده من الجزاء (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ) ممّا أعطي قارون. قوله تعالى : (وَلا يُلَقَّاها) قال أبو عبيدة : لا يوفّق لها ويرزقها. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن أبي عبلة : «ولا يلقاها» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. وفي المشار إليها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الأعمال الصّالحة ، قاله مقاتل. والثاني : أنها الجنّة ، والمعنى : لا يعطاها في الآخرة إلّا الصّابرون على أمر الله تعالى ، قاله ابن السّائب. والثالث : أنها الكلمة التي قالوها ، وهي قولهم : «ثواب الله خير» ، قاله الفرّاء.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

قوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) لمّا أمر قارون البغيّ بقذف موسى على ما سبق شرحه غضب موسى فدعا عليه ، فأوحى الله تعالى إليه : إنّي قد أمرت الأرض أن تطيعك فمرها ؛ فقال موسى : يا أرض خذيه ، فأخذته حتى غيّبت سريره ، فلمّا رأى ذلك ناشده بالرّحم ، فقال : يا أرض خذيه ، فأخذته حتى غيّبت قدميه ؛ فما زال يقول : خذيه ، حتى غيّبته ، فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى ما أفظّك ، وعزّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته. قال ابن عباس : فخسفت به الأرض إلى الأرض السّفلى. وقال سمرة بن جندب : إنّه يخسف به كلّ يوم قامة ، فتبلغ به الأرض السّفلى يوم القيامة. قال مقاتل : فلمّا هلك قارون قال بنو إسرائيل : إنّما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره ، فخسف الله تعالى بداره وماله بعده بثلاثة أيام (١).

قوله تعالى : (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : يمنعونه من الله تعالى (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي : من الممتنعين ممّا نزل به. ثم أعلمنا أنّ المتمنّين مكانه ندموا على ذلك التّمنّي بالآية التي تلي هذه. وقوله تعالى : (لَخَسَفَ بِنا) الأكثرون على ضمّ الخاء وكسر السين. وقرأ يعقوب ، والوليد عن ابن عامر ، وحفص ، وأبان عن عاصم : بفتح الخاء والسين. فأما قوله تعالى : «ويك» فقال ابن عباس : معناه : ألم تر ، وكذلك قال أبو عبيدة ، والكسائيّ. وقال الفرّاء : «ويك أن» في كلام العرب تقرير ، كقول الرجل :

__________________

(١) هذا الأثر مصدره كتب الأقدمين لا حجة فيه.

٣٩٤

أما ترى إلى صنع الله تعالى وإحسانه ، أنشدني بعضهم :

ويك أن من يكن له نشب يحبب

ومن يفتقر يعش عيش ضر

وقال ابن الأنباري : في قوله : (وَيْكَأَنَّهُ) ثلاثة أوجه (١) : الأول : إن شئت قلت : «ويك» حرف ، و «أنّه» حرف ؛ والمعنى : ألم تر أنّه ، والدليل على هذا قول الشاعر :

سالتاني الطّلاق أن رأتاني

قلّ مالي قد جئتماني بنكر

ويك أن من يكن له نشب يحبب

ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (٢)

والثاني : أن يكون «ويك» حرفا ، «وأنّه» حرفا. والمعنى : ويلك اعلم أنّه ، فحذفت اللام ، كما قالوا : قم لا أباك ، يريدون : لا أبالك ، وأنشدوا :

أبالموت الذي لا بدّ أنّي

ملاق لا أباك تخوّفيني (٣)

أراد : لا أبالك ، فحذف اللام. والثالث : أن يكون «وي» حرفا ، و «كأنّه» حرفا ، فيكون المعنى «وي» التعجّب ، كما تقول : وي لم فعلت كذا وكذا ، ويكون معنى «كأنّه» : أظنّه وأعلمه ، كما تقول في الكلام : كأنّك بالفرج قد أقبل ؛ فمعناه : أظنّ الفرج مقبلا. وإنما وصلوا الياء بالكاف في قوله تعالى : (وَيْكَأَنَّهُ) لأنّ الكلام بهما يكثر ، كما جعلوا «يا ابن أمّ» (٤) في المصحف حرفا واحدا ، وهما حرفان. وكان جماعة منهم يعقوب ، يقفون على «ويك» في الحرفين ، ويبتدئون «أنّ» و «أنّه» في الموضعين. وذكر الزجّاج عن الخليل أنه قال : «وي» مفصولة من «كأنّ» ، وذلك أنّ القوم تندّموا فقالوا : «وي» متندّمين على ما سلف منهم ، وكلّ من ندم فأظهر ندامته قال : وي. وحكى ابن قتيبة عن بعض العلماء أنّه قال : معنى «ويكأنّ» : رحمة لك ، بلغة حمير. قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي : بالرّحمة والمعافاة والإيمان (لَخَسَفَ بِنا).

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) يعني الجنّة (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنّه البغيّ ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : الشّرف والعزّ ، قاله الحسن. والثالث : الظّلم ، قاله الضّحّاك. والرابع : الشّرك ، قاله يحيى بن سلام. والخامس : الاستكبار عن الإيمان ، قاله مقاتل.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ١٠ / ١١٣ : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة من أن معناه : ألم تر ، ألم تعلم.

وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٤٩٦ : وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى : (وَيْكَأَنَّهُ) فقال بعضهم : معناها «ويلك اعلم أن» ولكن خففت فقيل : «ويك» ودل فتح «أن» على حذف اعلم وهذا القول ضعفه ابن جرير. والظاهر أنه قوي ، ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة «ويكأن».

والكتابة أمر وضعي اصطلاحي ، والمرجع إلى اللفظ العربي ، والله أعلم.

(٢) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي ، كما في «مجاز القرآن» ٢ / ١١٢ و «سيبويه» ١ / ٢٩٠.

(٣) البيت لأبي حية النّميري ، وهو في «اللسان» ـ أبى ـ.

(٤) طه : ٩٤.

٣٩٥

قوله تعالى : (وَلا فَساداً) فيه قولان : أحدهما : العمل بالمعاصي ، قاله عكرمة. والثاني : الدّعاء إلى غير عبادة الله تعالى ، قاله ابن السّائب. قوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي : العاقبة المحمودة لهم. قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) قد فسّرناه في سورة النّمل (١). قوله تعالى : (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) قال ابن عباس : يريد الذين أشركوا (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : إلّا جزاء عملهم من الشّرك ، وجزاؤه النّار.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ).

(١٠٨١) قال مقاتل : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغار ليلا ، فمضى من وجهه إلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطّلب ؛ فلمّا أمن رجع إلى الطريق فنزل الجحفة بين مكّة والمدينة ، فعرف الطريق إلى مكّة ، فاشتاق إليها ، وذكر مولده ، فأتاه جبريل فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال : نعم ؛ قال : فإنّ الله تعالى يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ، فنزلت هذه الآية بالجحفة.

وفي معنى (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ثلاثة أقوال : أحدها : فرض عليك العمل بالقرآن ، قاله عطاء بن أبي رباح ، وابن قتيبة. والثاني : أعطاك القرآن ، قاله مجاهد. والثالث : أنزل عليك القرآن ، قاله مقاتل والفرّاء وأبو عبيدة. وفي قوله تعالى : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أربعة أقوال (٢) :

أحدها : إلى مكّة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في رواية ، والضّحّاك. قال ابن قتيبة : معاد الرّجل : بلده ، لأنه يتصرّف في البلاد ويضرب في الأرض ثم يعود إلى بلده.

والثاني : إلى معادك من الجنّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والزّهري. فإن اعترض على هذا فقيل : الرّدّ يقتضي أنه قد كان فيما ردّ إليه ؛ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّه لمّا كان أبوه آدم في الجنّة ثم أخرج ، كان كأنّ ولده أخرج منها ، فإذا دخلها فكأنه أعيد. والثاني : أنّه دخلها ليلة

____________________________________

(١٠٨١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهذا معضل ، وهو بدون إسناد ، ومقاتل ساقط الرواية ، فهذا خبر لا شيء.

__________________

(١) النمل : ٨٩.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٠ / ١١٨ : والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال : لرادك إلى عادتك من الموت ، أو إلى عادتك حيث ولدت اه.

وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٤٩٧ : ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسّر تارة برجوعه إلى مكة ، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما فسر سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : أنه أجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعي إليه ووافقه عمر بن الخطاب ، وتارة أخرى فسّر ابن عباس قوله تعالى : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) بالموت ، وتارة بعد الموت الذي هو يوم القيامة.

٣٩٦

المعراج ، فإذا دخلها يوم القيامة كان ردّا ، ذكرهما ابن جرير. والثالث : أنّ العرب تقول : رجع الأمر إلى كذا ، وإن لم يكن له كون فيه قطّ ، وأنشدوا :

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (١)

وقد شرحنا هذا في قوله (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدريّ. الثالث : لرادك إلى الموت ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال أبو سعيد الخدري. والرابع : لرادّك إلى القيامة بالبعث ، قاله الحسن والزّهري ومجاهد في رواية والزّجّاج.

ثم ابتدأ كلاما يردّ به على الكفار حين نسبوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الضّلال ، فقال : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) ؛ والمعنى : قد علم أنّي جئت بالهدى ، وأنّكم في ضلال مبين. ثم ذكره نعمه ، فقال : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي : أن تكون نبيّا وأن يوحى إليك القرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قال الفرّاء : هذا استثناء منقطع ، والمعنى : إلّا أنّ ربّك رحمك فأنزله عليك (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي : عونا لهم على دينهم ، وذلك أنّهم دعوه إلى دين آبائه فأمر بالاحتراز منهم ؛ والخطاب بهذا وأمثاله له ، والمراد أهل دينه لئلّا يظاهروا الكفّار ولا يوافقوهم.

قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فيه قولان : أحدهما : إلا ما أريد به وجهه ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الثّوري. والثاني : إلّا هو ، قاله الضّحّاك وأبو عبيدة. قوله تعالى : (لَهُ الْحُكْمُ) أي الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرة.

__________________

(١) هو عجز بيت للبيد بن ربيعة العامري وصدره : وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ، كما في «ديوانه» ١٦٩ ، و «اللسان» ـ حور ـ.

٣٩٧

سورة العنكبوت

فصل في نزولها : روى العوفيّ عن ابن عباس أنّها مكّيّة ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، وجابر بن زيد ، ومقاتل. وفي رواية عن ابن عباس أنها مدنيّة. وقال هبة الله بن سلامة المفسّر : نزلت من أوّلها إلى رأس العشر بمكّة ، وباقيها بالمدينة. وقال غيره عكس هذا : نزلت العشر بالمدينة ، وباقيها بمكّة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤))

قوله تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٠٨٢) أحدها : أنّه لمّا أمر بالهجرة ، كتب المسلمون إلى إخوانهم بمكّة أنّه لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا ، فخرجوا نحو المدينة فأدركهم المشركون فردّوهم ، فأنزل الله تعالى من أوّل هذه السّورة عشر آيات ، فكتبوا إليهم يخبرونهم بما نزل فيهم ، فقالوا : نخرج ، فإن اتّبعنا أحد قاتلناه ، فخرجوا فاتّبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ، فأنزل الله تعالى فيهم : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) (١) ، هذا قول الحسن والشّعبيّ.

(١٠٨٣) والثاني : أنها نزلت في عمّار بن ياسر إذ كان يعذّب في الله عزوجل ، قاله عبد الله بن عبيد بن عمير.

(١٠٨٤) والثالث : أنّها نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطّاب حين قتل ببدر ، فجزع عليه أبواه وامرأته ، فأنزل الله تعالى في أبويه وامرأته هذه الآية.

____________________________________

(١٠٨٢) أخرجه الطبري ٢٧٦٩٣ وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٦٦ عن الشعبي مرسلا ، فهو ضعيف.

(١٠٨٣) أخرجه الطبري ٢٧٦٩٢ عن عبد الله بن عبيد بن عمير.

(١٠٨٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٦٧ عن مقاتل بدون إسناد ، ومقاتل ساقط الرواية ، فخبره واه.

__________________

(١) النحل : ١١٠.

٣٩٨

قوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ) قال ابن عباس : يريد بالناس : الذين آمنوا بمكّة كعيّاش بن أبي ربيعة وعمّار بن ياسر وسلمة بن هشام وغيرهم. قال الزّجّاج : لفظ الآية استخبار ومعناها معنى التّقرير والتّوبيخ ؛ والمعنى : أحسب النّاس أن يتركوا بأن يقولوا : آمنّا ، ولأنّ يقولوا : آمنّا ، أي أحسبوا أن يقنع منهم بأن يقولوا : إنّا مؤمنون ، فقط ، ولا يمتحنون بما يبيّن حقيقة إيمانهم (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي : لا يختبرون بما يعلم به صدق إيمانهم من كذبه. وللمفسّرين فيه قولان : أحدهما : لا يفتنون في أنفسهم بالقتل والتّعذيب ، قاله مجاهد. والثاني : لا يبتلون بالأوامر والنّواهي. قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : ابتليناهم واختبرناهم (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : فليرينّ الله عزوجل الذين صدقوا في إيمانهم عند البلاء إذا صبروا لقضائه ، وليرينّ الكاذبين في إيمانهم إذا شكّوا عند البلاء ، قاله مقاتل. والثاني : فليميّزنّ ، لأنّه قد علم ذلك من قبل ، قاله أبو عبيدة. والثالث : فليظهرنّ ذلك حتى يوجد معلوما ، حكاه الثّعلبي. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وجعفر بن محمّد : «فليعلمنّ الله» «وليعلمنّ الكاذبين» «وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين» (١) بضمّ الياء وكسر اللام.

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ) أي : أحسب (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) يعني الشّرك (أَنْ يَسْبِقُونا) أي : يفوتونا ويعجزونا (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي : بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنّوا ذلك. قال ابن عباس : عنى بهم الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل ، والعاص بن هشام ، وغيرهم.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) قد شرحناه في آخر الكهف (٢) (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) يعني الأجل المضروب للبعث ؛ والمعنى : فليعمل لذلك اليوم (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقول (الْعَلِيمُ) بما يعمل. (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي : إنّ ثوابه إليه يرجع. قوله تعالى : (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : لنبطلنّها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : بأحسن أعمالهم ، وهو الطّاعة ، ولا نجزيهم بمساوئ أعمالهم.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩))

قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو مجلز ، وعاصم الجحدري : «إحسانا» بألف. وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء : «حسنا» بفتح الحاء والسين.

(١٠٨٥) وروى أبو عثمان النّهدي عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : فيّ أنزلت هذه الآية ، كنت

____________________________________

(١٠٨٥) أصله صحيح. أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٤١٤ من طريق مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي عثمان

__________________

(١) العنكبوت : ١١.

(٢) الكهف : ١١٠.

٣٩٩

رجلا برّا بأمّي ، فلمّا أسلمت قالت : يا سعد! ما هذا الدّين الذي قد أحدثت ، لتدعنّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيّر بي فيقال : يا قاتل أمّه ، قلت : لا تفعلي يا أمّاه ، إنّي لا أدع ديني هذا لشيء ، قال : فمكثت يوما وليلة لا تأكل ، فأصبحت قد جهدت ، ثم مكثت يوما آخر وليلة لا تأكل ، فلمّا رأيت ذلك قلت : تعلمين والله يا أمّاه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء ، فكلي ، وإن شئت لا تأكلي ، فلمّا رأت ذلك أكلت فأنزلت هذه الآية. وقيل : إنّها نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة ، وقد جرى له مع أمّه نحو هذا. وذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ، التي في لقمان (١) وفي الأحقاف (٢) : نزلن في قصّة سعد.

قال الزّجّاج : من قرأ : «حسنا» فمعناه : ووصّينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن ، ومن قرأ : «إحسانا» فمعناه : ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه ، وكان «حسنا» أعمّ في البرّ.

(وَإِنْ جاهَداكَ) قال أبو عبيدة : مجاز هذا الكلام مجاز المختصر الذي فيه ضمير ، والمعنى : وقلنا له : وإن جاهداك. قوله تعالى : (لِتُشْرِكَ بِي) معناه : لتشرك بي شريكا لا تعلمه لي وليس لأحد بذلك علم ، (فَلا تُطِعْهُما). قوله تعالى : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي : في زمرة الصّالحين في الجنّة. وقال مقاتل : «في» بمعنى «مع».

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(١٠٨٦) أحدها : أنّها نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدّوا ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

(١٠٨٧) والثاني : نزلت في قوم كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله تعالى أو مصيبة

____________________________________

النهدي أن سعد بن مالك قال : نزلت فيّ هذه الآية (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) قال : كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت : يا سعد ما هذا الدين الذي قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيّر بي فيقال : يا قاتل أمه ...» فذكره بتمامه. وأخرجه مسلم ص ١٨٧٧ ح ١٧٤٨ والترمذي ٣١٨٩ وأبو يعلى ٧٨٢ من حديث سعد قال : «وحلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه ، ولا تأكل ، ولا تشرب قالت : زعمت أن الله وصاك بوالديك ، وأنا أمك آمرك بهذا قال : مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد ، فقال ابن لها يقال له عمارة : نسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عزوجل في القرآن هذه الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ...)» وله تتمة عند مسلم.

(١٠٨٦) أخرجه الطبري ٢٧٧٠٦ بأتم منه ، وإسناده لا بأس به لأجل محمد بن شريك ، وباقي الإسناد ثقات.

(١٠٨٧) أخرجه الطبري ٢٧٧٠٣ عن مجاهد مرسلا ، وعزاه السيوطي في «الدر» ٥ / ٢٧٠ إلى ابن أبي شيبة والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

__________________

(١) لقمان : ١٥.

(٢) الأحقاف : ١٥.

٤٠٠