زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

١
٢

٣
٤

فهرس الموضوعات

الموضوع

 الصفحة

١٧ ـ تفسير سورة الإسراء ......................................................... ٧

١٨ ـ تفسير سورة الكهف...................................................... ٦٣

١٩ ـ تفسير سورة مريم......................................................... ١١٦

٢٠ ـ تفسير سورة طه.......................................................... ١٥٠

٢١ ـ تفسير سورة الانبياء...................................................... ١٨٤

٢٢ ـ تفسير سورة الحج........................................................ ٢٢٠

٢٣ ـ تفسير سورة المؤمنون...................................................... ٢٥٤

٢٤ ـ تفسير سورة النور........................................................ ٢٧٥

٢٥ ـ تفسير سورة الفرقان...................................................... ٣١١

٢٦ ـ تفسير سورة الشعراء...................................................... ٣٣٤

٢٧ ـ تفسير سورة النمل ....................................................... ٣٥٢

٢٨ ـ تفسير سورة القصص..................................................... ٣٧٤

٢٩ ـ تفسير سورة العنكبوت ................................................... ٣٩٨

٣٠ ـ تفسير سورة الروم........................................................ ٤١٥

٣١ ـ تفسير سورة لقمان....................................................... ٤٢٩

٣٢ ـ تفسير سورة السجدة..................................................... ٤٣٧

٣٣ ـ تفسير سورة الأحزاب..................................................... ٤٤٦

٣٤ ـ تفسير سورة سبأ......................................................... ٤٨٩

٣٥ ـ تفسير سورة فاطر........................................................ ٥٠٥

٣٦ ـ تفسير سورة يس......................................................... ٥١٦

٣٧ ـ تفسير سورة الصافات.................................................... ٥٣٥

٣٨ ـ تفسير سورة ص......................................................... ٥٥٧

٥
٦

سورة الإسراء

فصل في نزولها : هي مكيّة في قول الجماعة ، إلّا أنّ بعضهم يقول : فيها مدنيّ ، فروي عن ابن عباس أنه قال : هي مكيّة إلّا ثمان آيات : من قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إلى قوله تعالى : (نَصِيراً) (١) ، وهذا قول قتادة. وقال مقاتل : فيها من المدنيّ : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) (٢) وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) (٣) وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) (٤) وقوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) (٥) وقوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) (٦) وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) والتي تليها (٧).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

قوله تعالى : (سُبْحانَ).

(٨٨٩) روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن تفسير «سبحان الله» ، فقال : «تنزيه الله عن كلّ سوء» ، وقد ذكرنا هذا المعنى في سورة البقرة (٨).

قال الزّجّاج : و «أسرى» : بمعنى : «سيّر عبده» ، يقال : أسريت وسريت : إذا سرت ليلا. وقد جاءت اللغتان في القرآن ، قال الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)) (٩).

وفي معنى التّسبيح ها هنا قولان : أحدهما : أنّ العرب تسبّح عند الأمر المعجب ، فكأنّ الله تعالى عجّب العباد ممّا أسدى إلى رسوله من النّعمة. والثاني : أن يكون خرّج الرّدّ عليهم ، لأنه لمّا حدّثهم

____________________________________

(٨٨٩) ضعيف جدا. أخرجه البزار ٣٠٨٢ والحاكم ١ / ٥٠٢ من طريق عبد الرحمن بن حماد عن حفص بن سليمان عن طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير ... الحديث. صححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي بقوله : بل لم يصح ، فإن طلحة منكر الحديث ، قاله البخاري ، وحفص واه وعبد الرحمن ، قال أبو حاتم : منكر الحديث. قلت : فهو إسناد ضعيف جدا ، مسلسل بالضعفاء.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٣ ، ٧٥.

(٢) سورة الإسراء : ٨٠.

(٣) سورة الإسراء : ١٧.

(٤) سورة الإسراء : ٦٠.

(٥) سورة الإسراء : ٧٣.

(٦) سورة الإسراء : ٧٦.

(٧) سورة الإسراء : ٧٤ و ٧٥.

(٨) سورة البقرة : ٣٢.

(٩) سورة الفجر : ٤.

٧

بالاسراء ، كذّبوه ، فيكون المعنى : تنزّه الله أن يتّخذ رسولا كذّابا. ولا خلاف أنّ المراد بعبده هاهنا : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي قوله تعالى : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قولان : أحدهما : أنه أسري به من نفس المسجد ، قاله الحسن ، وقتادة. ويسنده حديث مالك بن صعصعة ، وهو في (الصحيحين) :

(٨٩٠) «بينما أنا في الحطيم» وربما قال بعض الرّواة : في «الحجر» (١).

والثاني : أنه أسري به من بيت أمّ هانئ (٢) ، وهو قول أكثر المفسّرين (٣) ، فعلى هذا يعني بالمسجد الحرام : الحرم. والحرم كلّه مسجد ، ذكره القاضي أبو يعلى وغيره.

فأمّا (الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) فهو بيت المقدس ، وقيل له : الأقصى ، لبعد المسافة بين المسجدين. ومعنى (بارَكْنا حَوْلَهُ) : أنّ الله أجرى حوله الأنهار ، وأنبت الثّمار. وقيل : لأنه مقرّ الأنبياء ، ومهبط الملائكة. واختلف العلماء ، هل دخل بيت المقدس ، أم لا؟

(٨٩١) فروى أبو هريرة أنه دخل بيت المقدس ، وصلّى فيه بالأنبياء ، ثم عرج به إلى السماء. وقال حذيفة بن اليمان : لم يدخل بيت المقدس ولم يصلّ فيه ، ولا نزل عن البراق حتى عرج به (٤). فإن

____________________________________

(٨٩٠) صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٧ و ٣٣٩٣ و ٣٤٣٠ و ٣٨٨٧ ، وابن حبان ٤٨ ، والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٣٨٧ من طرق عن أنس عن مالك بن صعصعة.

(٨٩١) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٢ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٨٤ ، وابن مندة في «الإيمان» ٧٤٠ من طريق حجين بن المثنى به. وأخرجه أبو عوانة ١ / ١٣١ ، وابن مندة ٧٤٠ من طريق أحمد بن خالد الوهبي به وأربعتهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به ، من حديث أبي هريرة ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد رأيتني في الحجر. وقريش تسألني عن مسراي. فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها. فكربت كربة ما كربت مثله قط. قال : فرفعه الله لي أنظر إليه. ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به. وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء. فإذا موسى قائم يصلي. فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة. وإذا عيسى ابن مريم عليه‌السلام قائم يصلي. أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي. وإذا إبراهيم عليه‌السلام قائم يصلي. أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأممتهم. فلما فرغت من الصلاة قال قائل : يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه. فالتفت إليه فبدأني بالسلام». واللفظ لمسلم.

__________________

(١) هو عند مسلم ١٧٢ من حديث أبي هريرة ، وانظر الآتي.

(٢) ورد من وجوه متعددة بأسانيد بعضها ضعيف ، وبعضها حسن ، انظر «الدر المنثور». وانظر التعليق الآتي.

(٣) قال الحافظ في «الفتح» ٧ / ٢٠٤ : هو شك من قتادة كما بينه أحمد ، عن عفان عن همام ولفظه «بينا أنا نائم في الحطيم ، وربما قال قتادة : في الحجر» والمراد بالحطيم هنا الحجر ، وأبعد من قال : المراد به ما بين الركن والمقام ، أو بين زمزم والحجر ، وهو وإن كان مختلفا في الحطيم هل هو الحجر أم لا ، لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع فيها ذلك ، ومعلوم أنها لم تتعدد ، لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها. وجاء في رواية : «بينا أنا عند البيت» وهو أعم ، وفي رواية أخرى : «فرج سقف بيتي وأنا بمكة» وفي رواية غيرها أنه أسري به من شعب أبي طالب ، ففرج سقف بيته ـ وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه ـ فنزل منه الملك ، فأخرجه من البيت إلى المسجد ، فكأن به مضطجعا وبه أثر النعاس ، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد ، فأركبه البراق. وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد ، فأركبه البراق ، وهو يؤيد هذا الجمع.

(٤) أخرجه الطبري ٢٢٠٣٠ عن حذيفة به ، وإسناده حسن لأجل عاصم بن بهدلة ، فإنه صدوق يخطئ ، وباقي الإسناد على شرطهما. ومع ذلك المتن غريب ، والصحيح خلاف ما ذهب إليه حذيفة. وجاء في «الفتح» ١ /

٨

قيل : ما معنى قوله تعالى : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وأنتم تقولون : صعد إلى السماء؟ فالجواب : أنّ الإسراء كان إلى هنالك ، والمعراج كان من هنالك. وقيل : إنّ الحكمة في ذكر ذلك ، أنه لو أخبر بصعوده إلى السماء في بدء الحديث ، لاشتدّ إنكارهم ، فلمّا أخبر ببيت المقدس ، وبان لهم صدقه فيما أخبرهم به من العلامات الصّادقة ، أخبر بمعراجه.

قوله تعالى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) يعني : ما رأى تلك الليلة من العجائب التي أخبر بها الناس. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لمقالة قريش ، (الْبَصِيرُ) بها. وقد ذكرنا في كتابنا المسمّى ب «الحدائق» أحاديث المعراج ، وكرهنا الإطالة ها هنا.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) لمّا ذكر في الآية الأولى إكرام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر في هذه كرامة موسى. و (الْكِتابَ) : التّوراة. (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي : دللناهم به على الهدى. (أَلَّا تَتَّخِذُوا) قرأ أبو عمرو : «يتخذوا» بالياء ، والمعنى : هديناهم لئلّا يتّخذوا ، وقرأ الباقون بالتاء ، قال أبو عليّ : وهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغيبة ، مثل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثم قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). قوله تعالى : (وَكِيلاً) قال مجاهد : شريكا. وقال الزّجاج : ربّا. قال ابن الأنباري : وإنما قيل للرّبّ : وكيل ، لكفايته وقيامه بشأن عباده ، من أجل أنّ الوكيل عند الناس قد علم أنه يقوم بشئون أصحابه ، وتفقّد أمورهم ، فكان الرّبّ وكيلا من هذه الجهة ، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكّل وانحطاط أمر الوكيل.

قوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) قال مجاهد : هو نداء : يا ذرّيّة من حملنا. قال ابن الأنباري : من قرأ : «ألّا تتخذوا» بالتاء ، فإنه يقول : بعد الذّريّة مضمر حذف اعتمادا على دلالة ما سبق ، تلخيصه : يا ذريّة من حملنا مع نوح لا تتّخذوا وكيلا ، ويجوز أن يستغنى عن الإضمار بقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) لأنه بمعنى : اشكروني كشكره. ومن قرأ : «ألّا يتّخذوا» بالياء ، جعل النداء متصلا بالخطاب ، و «الذّريّة» تنتصب بالنداء ، ويجوز نصبها بالاتّخاذ على أنها مفعول ثان ، تلخيص الكلام : ألّا يتخذوا ذريّة من حملنا مع نوح وكيلا. قال قتادة : الناس كلّهم ذريّة من أنجى الله في تلك السفينة. قال العلماء : ووجه الإنعام على الخلق بهذا القول ، أنهم كانوا في صلب من نجا. قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) قال سلمان الفارسي : كان إذا أكل قال : «الحمد لله» وإذا شرب قال : «الحمد لله». وقال غيره : كان إذا لبس ثوبا قال : «الحمد لله» فسمّاه الله «عبدا شكورا».

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦))

__________________

٤٦٥ : فائدة : ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد. وذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي.

٩

قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) فيه قولان (١) : أحدهما : أخبرناهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : قضينا عليهم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وبه قال قتادة ، فعلى الأوّل : تكون (إِلى) على أصلها ، ويكون الكتاب : التّوراة ، وعلى الثاني : تكون (إِلى) بمعنى «على» ، ويكون «الكتاب» : الذّكر الأوّل.

قوله تعالى : (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) يعني : أرض مصر (مَرَّتَيْنِ) بالمعاصي ومخالفة التّوراة. وفي من قتلوه من الأنبياء في الفساد الأوّل قولان : أحدهما : زكريّا ، قاله السّديّ عن أشياخه. والثاني : شعيا ، قاله ابن إسحاق. فأمّا المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني : فهو يحيى بن زكريّا. قال مقاتل : كان بين الفسادين مائتا سنة وعشر سنين. فأمّا السّبب في قتلهم زكريّا ، فأنهم اتّهموه بمريم ، وقالوا : منه حملت ، فهرب منهم ، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه هدب ، فجاءهم الشّيطان فدلّهم عليه ، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها. وأما السبب في قتلهم «شعيا» ، فهو أنه قام فيهم برسالة من الله ينهاهم عن المعاصي. وقيل : هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار ، وأنّ زكريّا مات حتف أنفه. فأمّا السبب في قتلهم يحيى بن زكريّا ، ففيه قولان : أحدهما : أنّ ملكهم أراد نكاح امرأة لا تحلّ له ، فنهاه عنها يحيى. ثم فيها أربعة أقوال : أحدها : أنها ابنة أخيه ، قاله ابن عباس. والثاني : ابنته ، قاله عبد الله بن الزّبير. والثالث : أنها امرأة أخيه ، وكان ذلك لا يصلح عندهم ، قاله الحسين بن عليّ عليهما‌السلام. والرابع : ابنة امرأته ، قاله السّديّ عن أشياخه ، وذكر أنّ السبب في ذلك : أنّ ملك بني إسرائيل هوي بنت امرأته ، فسأل يحيى عن نكاحها ، فنهاه ، فحنقت أمّها على يحيى حين نهاه أن يتزوّج ابنتها ، وعمدت إلى ابنتها فزيّنتها وأرسلتها إلى الملك حين جلس على شرابه ، وأمرتها أن تسقيه ، وأن تعرض له ، فإن أرادها على نفسها ، أبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريّا في طست ، ففعلت ذلك ، فقال : ويحك سليني غير هذا ، فقالت : ما أريد إلّا هذا ، فأمر ، فأتي برأسه والرأس يتكلّم ويقول : لا تحلّ لك ، لا تحلّ لك. والقول الثاني : أنّ امرأة الملك رأت يحيى عليه‌السلام وكان قد أعطي حسنا وجمالا ، فأرادته على نفسه ، فأبى ، فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى ، فأعطاها ما سألت ، قاله الرّبيع بن أنس. قال العلماء بالسّير : ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إسرائيل سبعون ألفا ، فسكن ، وقيل : لم يسكن حتى جاء قاتله ، فقال : أنا قتلته ، فقتل ، فسكن.

قوله تعالى : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي : لتعظمنّ عن الطّاعة ولتبغنّ.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي : عقوبة أولى المرّتين (بَعَثْنا) أي : أرسلنا (عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) وفيهم خمسة أقوال : أحدها : أنهم جالوت وجنوده ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : «بختنصّر» ، قاله سعيد بن المسيّب ، واختاره الفرّاء ، والزّجّاج. والثالث : العمالقة ، وكانوا كفّارا ، قاله الحسن. والرابع : سنحاريب ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : قوم من أهل فارس ، قاله مجاهد. وقال ابن زيد :

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٣٤ : يقول الله تعالى : إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي تقدّم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم : أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا ، أي يتجبرون ويطغون على الناس. كما قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) ، أي تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه.

١٠

سلّط الله عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس.

قوله تعالى : (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : ذوي عدد وقوة في القتال.

وفي قوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) ثلاثة أقوال : أحدها : مشوا بين منازلهم ، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد : يتجسسون أخبارهم ولم يكن قتال. وقال الزّجّاج : طافوا خلال الدّيار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ و «الجوس» : طلب الشيء باستقصاء. والثاني : قتلوهم بين بيوتهم ، قاله الفرّاء ، وأبو عبيدة. والثالث : عاثوا وأفسدوا ، يقال : جاسوا وحاسوا ، فهم يجوسون ويحوسون إذا فعلوا ذلك ، قاله ابن قتيبة. فأمّا الخلال : فهي جمع خلل ، وهو الانفراج بين الشيئين. وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وابن جبير ، وأبو المتوكّل : «خلل الديار» بفتح الخاء واللام من غير ألف. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي : لا بدّ من كونه.

قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي : أظفرناكم بهم. والكرّة ، معناها : الرّجعة والدّولة ، وذلك حين قتل داود جالوت وعاد ملكهم إليهم. وحكى الفرّاء أنّ رجلا دعا على «بختنصّر» ؛ فقتله الله ، وعاد ملكهم إليهم. وقيل : غزوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى. قوله تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي : أكثر عددا وأنصارا منهم. قال ابن قتيبة : النّفير والنّافر واحد ، كما يقال : قدير وقادر ، وأصله : من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته.

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) أي : وقلنا لكم إن أحسنتم فأطعتم الله (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي : عاقبة الطاعة لكم (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) بالفساد والمعاصي (فَلَها) وفيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى : فإليها. والثاني : فعليها. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) جواب «فإذا» محذوف ، تقديره : فإذا جاء وعد عقوبة المرّة الآخرة من إفسادكم ، بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، وهذا الفساد الثاني ، هو قتلهم يحيى بن زكريّا ، وقصدهم قتل «عيسى» فرفع ، وسلّط الله عليهم ملوك فارس والرّوم فقتلوهم وسبوهم ، فذلك قوله تعالى : (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ). قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «ليسوؤوا» بالياء على الجميع والهمز بين الواوين ، والإشارة إلى المبعوثين. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «ليسوء وجوهكم» على التّوحيد ؛ قال أبو عليّ : فيه وجهان. أحدهما : ليسوء الله عزوجل. والثاني : ليسوء البعث. وقرأ الكسائيّ : «لنسوء» بالنون ، وذلك راجع إلى الله تعالى. وفيمن بعث عليهم في المرّة الثانية قولان : أحدهما : بختنصّر ، قاله مجاهد ، وقتادة. وكثير من الرّواة يأبى هذا القول ، ويقولون : كان بين تخريب «بختنصّر» بيت المقدس ، وبين مولد يحيى بن زكريّا زمان طويل. والثاني : أنطياخوس الرّوميّ ، قاله مقاتل. ومعنى (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي : ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم ، وخصّت المساءة بالوجوه ، والمراد : أصحاب الوجوه ، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة.

١١

قوله تعالى : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) يعنى : بيت المقدس (كَما دَخَلُوهُ) في المرّة الأولى (وَلِيُتَبِّرُوا) أي : ليدمروا ويخربوا. قال الزّجاج : يقال لكلّ شيء ينكسر من الزّجاج والحديد والذّهب : تبر. ومعنى (ما عَلَوْا) أي : ليدمروا في حال علوّهم عليكم.

قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) هذا ممّا وعدوا به في التّوراة ، و «عسى» من الله واجبة ، فرحمهم‌الله بعد انتقامه منهم ، وعمر بلادهم ، وأعاد نعمهم بعد سبعين سنة. (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى معصيتنا (عُدْنا) إلى عقوبتكم. قال المفسّرون : ثم إنهم عادوا إلى المعصية ، فبعث الله عليهم ملوكا من ملوك فارس والرّوم. قال قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم في عذاب إلى يوم القيامة ، فيعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) فيه قولان : أحدهما : سجنا ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، وقتادة. وقال مجاهد : يحصرون فيها. وقال أبو عبيدة ، وابن قتيبة : محبسا ، وقال الزّجّاج : «حصيرا» : حبسا ، أخذ من قولك : حصرت الرجل ، إذا حبسته ، فهو محصور ، وهذا حصيره ، أي : محبسه ، والحصير : المنسوج. سمّي حصيرا ، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض ، ويقال للجنب : حصير ، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض. وقال ابن الأنباري : حصيرا : بمعنى : حاصرة ، فصرف من حاصرة إلى حصير ، كما صرف «مؤلم» إلى أليم. والثاني : فراشا ومهادا ، قاله الحسن. قال أبو عبيدة : ويجوز أن تكون جهنّم لهم مهادا بمنزلة الحصير ، والحصير : البساط الصغير.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠))

قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) قال ابن الأنباري : «التي» وصف للجمع ، والمعنى : يهدي إلى الخصال التي هي أقوم الخصال. قال المفسّرون : وهي توحيد الله والإيمان به وبرسله والعمل بطاعته ، (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) أي : بأنّ لهم (أَجْراً) وهو الجنّة ، (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي : ويبشّرهم بالعذاب ، لأعدائهم ، وذلك أنّ المؤمنين كانوا في أذى من المشركين ، فعجّل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

قوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) وذلك أنّ الإنسان يدعو في حال الضّجر والغضب على نفسه وأهله بما لا يحبّ أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير. (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يعجّل بالدّعاء بالشرّ عند الغضب والضّجر عجلته بالدّعاء بالخير.

وفي المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اسم جنس يراد به الناس ، قاله الزّجّاج وغيره. والثاني : آدم ، فاكتفى بذكره من ذكر ولده ، ذكره ابن الأنباري. والثالث : أنه النّضر بن الحارث حين قال : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (١) ، قاله مقاتل. وقال سلمان الفارسي : أول ما خلق

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٢.

١٢

الله من آدم رأسه ، فجعل ينظر إلى جسده كيف يخلق ، قال : فبقيت رجلاه ، فقال : يا ربّ عجل ، فذلك قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١).

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي : علامتين يدلّان على قدرة خالقهما. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ آية الليل : القمر ، ومحوها : ما في بعض القمر من الاسوداد. وإلى هذا المعنى ذهب عليّ رضي الله عنه ، وابن عباس في آخرين. والثاني : آية الليل محيت بالظّلمة التي جعلت ملازمة للّيل ؛ فنسب المحو إلى الظّلمة إذ كانت تمحو الأنوار وتبطلها ، ذكره ابن الأنباري. ويروى أنّ الشمس والقمر كانا في النّور والضّوء سواء ، فأرسل الله جبريل فأمرّ جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضّوء.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) يعني : الشمس (مُبْصِرَةً) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : منيرة ، قاله قتادة. قال ابن الأنباري : وإنما صلح وصف الآية بالإبصار على جهة المجاز ، كما يقال : لعب الدّهر ببني فلان. والثاني : أنّ معنى (مُبْصِرَةً) : مبصرا بها ، قاله ابن قتيبة. والثالث : أنّ معنى (مُبْصِرَةً) مبصّرة ، فجرى «مفعل» ، مجرى «مفعّل» ، والمعنى : أنها تبصّر الناس ، أي : تريهم الأشياء ، قاله ابن الأنباري. ومعاني الأقوال تتقارب.

قوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي : لتبصروا كيف تتصرّفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) بمحو آية الليل ، ولو لا ذلك ، لم يعرف الليل من النّهار ، ولم يتبيّن العدد. (وَكُلَّ شَيْءٍ) أي : ما يحتاج إليه ، (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) بيّنّاه تبيينا لا يلتبس معه بغيره.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤))

قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ) وقرأ ابن أبي عبلة «وكلّ» برفع وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ ، والحسن «ألزمناه طيره» بياء ساكنة من غير ألف. وفي الطّائر أربعة أقوال : أحدها : شقاوته وسعادته ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد : ما من مولود يولد إلّا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقيّ ، أو سعيد. والثاني : عمله ، قاله الفرّاء ، وعن الحسن كالقولين. والثالث : أنه ما يصيبه ، قاله خصيف. وقال أبو عبيدة : حظّه. قال ابن قتيبة : والمعنى فيما أرى ـ والله أعلم ـ : أنّ لكلّ امرئ حظّا من الخير والشرّ قد قضاه الله عليه ، فهو لازم عنقه ، والعرب تقول لكلّ ما لزم الإنسان : قد لزم عنقه ، وهذا لك عليّ وفي عنقي حتى أخرج منه ، وإنما قيل للحظّ من الخير والشرّ : «طائر» ، لقول العرب : جرى له الطّائر بكذا من الخير ، وجرى له الطّائر بكذا من الشرّ ، على طريق الفأل والطّيرة ، فخاطبهم الله بما يستعملون ،

__________________

(١) منكر. أخرجه الطبري ٢٢١١٦ عن سلمان الفارسي موقوفا ، وإسناده ضعيف ، إبراهيم النخعي عن سلمان منقطع ، والمتن منكر ، والأشبه أنه متلقى عن كتب الأقدمين.

١٣

وأعلمهم أنّ ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطّائر ، هو الذي يلزمه أعناقهم. وقال الأزهريّ : الأصل في هذا أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم ، علم المطيع من ذريّته ، والعاصي ، فكتب ما علمه منهم أجمعين ، وقضى سعادة من علمه مطيعا ، وشقاوة من علمه عاصيا ، فصار لكلّ منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه ، فذلك قوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ). والرابع : أنه ما يتطيّر من مثله من شيء عمله ، وذكر العنق عبارة عن اللزوم له ، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس ، هذا قول الزّجّاج. وقال ابن الأنباري : الأصل في تسميتهم العمل طائرا ، أنهم كانوا يتطيّرون من بعض الأعمال.

قوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ) قرأ أبو جعفر : «ويخرج» بياء مضمومة وفتح الراء. وقرأ يعقوب. وعبد الوارث : بالياء مفتوحة وضمّ الراء. وقرأ قتادة ، وأبو المتوكل : «ويخرج» بياء مرفوعة وكسر الراء. وقرأ أبو الجوزاء ، والأعرج : «وتخرج» بتاء مفتوحة ورفع الراء ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، والضّحّاك : «كتاب» بالرفع ، يلقاه وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر «يلقّاه» بضمّ الياء وتشديد القاف. وأمال حمزة ، والكسائيّ القاف. قال المفسّرون : هذا كتابه الذي فيه ما عمل. وكان أبو السّوّار العدوي إذا قرأ هذه الآية قال : نشرتان وطيّة ، أمّا ما حييت يا ابن آدم ، فصحيفتك منشورة ، فأمل فيها شئت ، فإذا متّ ، طويت ، ثم إذا بعثت ، نشرت.

قوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ) ، وقرأ أبو جعفر : «اقرأ» بتخفيف الهمزة وفيه إضمار تقديره ، فيقال له اقرأ كتابك. قال الحسن : يقرؤه أميّا كان أو غير أمّيّ ، ولقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. وفي معنى (حَسِيباً) ثلاثة أقوال : أحدها : محاسبا. والثاني : شاهدا. والثالث : كافيا ، والمعنى : أنّ الإنسان يفوّض إليه حسابه ، ليعلم عدل الله بين العباد ، ويرى وجوب حجّة الله عليه ، واستحقاقه العقوبة ، ويعلم أنه إن دخل الجنّة ، فبفضل الله ، لا بعمله ، وإن دخل النار ، فبذنبه. قال ابن الأنباري : وإنّما قال : (حَسِيباً) والنّفس مؤنّثة ، لأنه يعني بالنّفس : الشّخص ، أو لأنه لا علامة للتّأنيث في لفظ النّفس ، فشبّهت بالسماء والأرض ، قال الله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (١) ، قال الشاعر :

ولا أرض أبقل إبقالها (٢)

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))

قوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي : له ثواب اهتدائه ، وعليه عقاب ضلاله.

قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي : نفس وازرة (وِزْرَ أُخْرى) قال ابن عباس : إنّ الوليد بن المغيرة قال : اتّبعوني وأنا أحمل أوزاركم ، فقال الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، قال أبو عبيدة : والمعنى : ولا تأثم آثمة إثم أخرى. قال الزّجاج : يقال : وزر ، يزر ، فهو وازر ، وزرا ، ووزرا ، ووزرة ، ومعناه : أثم إثما. وفي تأويل هذه الآية وجهان : أحدهما : أنّ الآثم لا يؤخذ بذنب غيره. والثاني : أنه

__________________

(١) سورة المزمل : ١٨.

(٢) هو عجز بيت لعامر بن جوين وصدره : «فلا مزنة ودقت ودقها». كما في «الكتاب» ١ / ٢٠٥. وفي «اللسان» المزنة : السحابة ، والودق : المطر.

١٤

لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم ، لأنّ غيره عمله ، كما قال الكفّار : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١) ومعنى (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) أي : حتى نبيّن ما به نعذّب ، وما من أجله ندخل الجنّة.

فصل : قال القاضي أبو يعلى : في هذا دليل على أنّ معرفة الله لا تجب عقلا ، وإنما تجب بالشّرع ، وهو بعثة الرّسل ، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك ، لم يقطع عليه بالنار (٢). قال : وقيل معناه : أنه لا يعذب في ما طريقه السّمع إلّا بقيام حجّة السّمع من جهة الرّسول ، ولهذا قالوا : لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصّلاة والزّكاة ونحوها ، لم يلزمه قضاء شيء منها ، لأنها لم تلزمه إلّا بعد قيام حجّة السّمع ، والأصل فيه قصّة أهل قباء حين استداروا إلى الكعبة ولم يستأنفوا (٣) ، ولو أسلم في دار الإسلام ولم يعلم بفرض الصّلاة ، فالواجب عليه القضاء ، لأنه قد رأى الناس يصلّون في المساجد بأذان وإقامة ، وذلك دعاء إليها.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ

__________________

(١) سورة الزخرف : ٢٢.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله ١٠ / ٢٠٣ : قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) أي : لم نترك الخلق سدى ، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر ، والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة : هذا عام في الدنيا والآخرة ، لقوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا) الملك : ٨. قال ابن عطية : والذي يعطيه النظر أنّ بعثه آدم عليه‌السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله ، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه‌السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات. فمن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل. وأما ما روي أن الله يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال ، فحديث لم يصح ، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. وقد احتج من قال ذلك بحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ـ ثم تلا ـ (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها ـ قال ـ فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله تبارك وتعالى : «إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم». قلت : ضعيف. أخرجه الطبري ٢٤٤٦٦ من حديث أبي سعيد وفيه عطية العوفي ضعيف ولو صح مثل هذا لارتفع الخلاف في المولود وأهل الفترة ونحوهم. وروي عن أبي سعيد موقوفا ، وفيه نظر. والله أعلم.

(٣) حديث أهل قباء تقدّم في سورة البقرة : ١٤٢. وقد خرّج البخاري ٧٢٥٢ و ٣٩٩ و ٤٤٩٢ ومسلم ٥٢٥ والترمذي ٣٤٠ و ٢٩٦٢ والنسائي ٢ / ٦٠ وابن ماجة ١٠١٠ وابن حبان ١٧١٦ كلهم من حديث البراء : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وإنه صلى أول صلاة صلّاها العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان يصلي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله ، لقد صليت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البيت ، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله عزوجل (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

١٥

الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) في سبب إرادته لذلك قولان : أحدهما : ما سبق لهم في قضائه من الشّقاء. والثاني : عنادهم الأنبياء وتكذيبهم إيّاهم.

قوله تعالى : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) قرأ الأكثرون : «أمرنا» مخفّفة ، على وزن «فعلنا» ، وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه من الأمر ، وفي الكلام إضمار ، تقديره : أمرنا مترفيها بالطّاعة ، ففسقوا ، هذا مذهب سعيد بن جبير. قال الزّجّاج : ومثله في الكلام : أمرتك فعصيتني ، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر. والثاني : كثرنا ، يقال : أمرت الشيء وأمرته ، أي : كثرته ، ومنه قولهم : مهرة مأمورة ، أي : كثيرة النتاج ، يقال : أمر بنو فلان يأمرون أمرا : إذا كثروا ، هذا قول أبي عبيدة ، وابن قتيبة. والثالث : أنّ معنى «أمرنا» : أمرنا ، يقال : أمرت الرّجل ، بمعنى : أمرته ، والمعنى : سلّطنا مترفيها بالإمارة ، ذكره ابن الأنباري. وروى خارجة عن نافع : «أمرنا» ممدودة ، مثل «آمنّا» ، وكذلك روى حمّاد بن سلمة عن ابن كثير ، وهي قراءة ابن عباس ، وأبي الدّرداء ، وأبي رزين ، والحسن ، والضّحّاك ، ويعقوب. قال ابن قتيبة : وهي اللغة العالية المشهورة ، ومعناه : كثرنا ، أيضا. وروى ابن مجاهد أنّ أبا عمرو قرأ : «أمرنا» مشددة الميم ، وهي رواية أبان عن عاصم ، وهي قراءة أبي العالية ، والنّخعيّ ، والجحدريّ. قال ابن قتيبة : المعنى : جعلناهم أمراء ، وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وابن يعمر : «أمرنا» بفتح الهمزة مكسورة الميم مخفّفة. فأمّا المترفون ، فهم المتنعّمون الذين أبطرتهم النّعمة وسعة العيش ، والمفسّرون يقولون : هم الجبّارون والمسلّطون والملوك ، وإنما خصّ المترفين بالذّكر ، لأنهم الرّؤساء ، ومن عداهم تبع لهم.

قوله تعالى : (فَفَسَقُوا فِيها) أي : تمرّدوا في كفرهم ، لأنّ الفسق في الكفر : الخروج إلى أفحشه. وقد شرحنا معنى «الفسق» في البقرة (١). قوله تعالى : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) قال مقاتل : وجب عليها العذاب. وقد ذكرنا معنى «التّدمير» في الأعراف (٢). قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) وهو جمع قرن. وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في الأنعام (٣) وشرحنا معنى الخبير والبصير في سورة البقرة (٤) قال مقاتل : وهذه الآية تخويف لكفّار مكّة.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩))

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) يعني : من كان يريد بعمله الدّنيا ، فعبّر بالنّعت عن الاسم ، (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) من عرض الدنيا ، وقيل : من البسط والتّقتير ، (لِمَنْ نُرِيدُ) فيه قولان : أحدهما : لمن نريد هلكته ، قاله أبو إسحاق الفزاري. والثاني : لمن نريد أن نعجل له شيئا وفي هذا ذمّ لمن أراد بعمله الدّنيا ، وبيان أنه لا ينال ما يقصده منها إلّا ما قدر له ، ثم يدخل النار في الآخرة. وقال ابن جرير :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦ ، ١٩٧.

(٢) سورة الأعراف : ١٣٧.

(٣) سورة الأنعام : ٦.

(٤) سورة البقرة : ٢٣٤ وعند الآية : ٩٦.

١٦

هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد. وقد ذكرنا معنى «جهنّم» في سورة البقرة (١) ، ومعنى (يَصْلاها) في سورة النساء (٢) ، ومعنى (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) في الأعراف (٣).

قوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) يعني : الجنّة (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي : عمل لها العمل الذي يصلح لها ، وإنّما قال : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لأنّ الإيمان شرط في صحة الأعمال ، (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي : مقبولا. وشكر الله عزوجل لهم : ثوابه إيّاهم ، وثناؤه عليهم.

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))

قوله تعالى : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ) قال الزّجّاج : «كلّا» منصوب ب «نمدّ» ، «هؤلاء» بدل من «كل» والمعنى : نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك ، قال المفسّرون : كلّا نعطي من الدنيا ، البرّ والفاجر ، والعطاء ها هنا : الرّزق ، والمحظور : الممنوع ، والمعنى : أنّ الرزق يعمّ المؤمن والكافر ، والآخرة للمتّقين خاصّة. (انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) وفيما فضّلوا فيه قولان : أحدهما : الرّزق ، منهم مقلّ ، ومنهم مكثر. والثاني : الرّزق والعمل ، فمنهم موفّق لعمل صالح ، ومنهم ممنوع من ذلك. قوله تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى عامّ لجميع المكلّفين. والمخذول : الذي لا ناصر له ، والخذلان : ترك العون. قال مقاتل : نزلت حين دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملّة آبائه.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))

قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : أمر ربّك. ونقل عنه الضّحّاك أنه قال : إنّما هي «ووصى ربك» فالتصقت إحدى الواوين ب «الصّاد» ، وكذلك قرأ أبيّ بن كعب ، وأبو المتوكّل ، وسعيد بن جبير : «ووصى» ، وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإجماع ، فلا يلتفت إليه. وقرأ أبو عمران ، وعاصم الجحدريّ ، ومعاذ القارئ : «وقضاء ربك» بقاف وضاد بالمدّ والهمز والرّفع وخفض اسم الرّب. قال ابن الأنباري : هذا القضاء ليس من باب الحتم والوجوب ، لكنه من باب الأمر والفرض ، وأصل القضاء في اللغة : قطع الشيء بإحكام وإتقان ، قال الشاعر يرثي عمر :

قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها

بوائق في أكمامها لم تفتّق (٤)

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٠٦.

(٢) سورة النساء : عند الآية ١٠.

(٣) سورة الأعراف : ١٨.

(٤) البيت للشمّاخ كما في «حماسة أبي تمام» ٣ / ١٠٩. ويروى أيضا للمزرد بن ضرار كما في «البيان والتبيين» ٣ / ٣٦٤. وقيل إن هذا الشعر للجنّ قالته قبل أن يقتل عمر بثلاث ، فكان ذلك نعيا قبل أن يقتل. وفي «اللسان» : البوائق : جمع بائقة وهي الداهية والبلية.

١٧

أراد : قطعتها محكما لها.

قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : وأمر بالوالدين إحسانا وهو البرّ والإكرام ، وقد ذكرنا هذا في البقرة (١). قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو وعاصم ، وابن عامر : «يبلغنّ» على التّوحيد. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «يبلغان» على التّثنية. قال الفرّاء : جعلت «يبلغن» فعلا لأحدهما وكرّت عليهما «كلاهما» ومن قرأ «يبلغان» فإنه ثنّى لأنّ الوالدين قد ذكرا قبل هذا ، فصار الفعل على عددهما ، ثم قال : (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) على الاستئناف ، كقوله تعالى : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) (٢) ثم استأنف فقال : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ).

قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «أفّ» بالكسر من غير تنوين ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويعقوب ، والمفضّل : «أفّ» بالفتح من غير تنوين. وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم : (أُفٍ) بالكسر والتنوين. وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : «أفّ» بالرفع والتنوين وتشديد الفاء. وقرأ معاذ القارئ ، وعاصم ، الجحدريّ ، وحميد بن قيس : «أفا» مثل «تعسا». وقرأ أبو عمران الجوني ، وأبو السّمّال العدويّ : «أفّ» بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء ، وهي رواية الأصمعيّ عن أبي عمرو. وقال عكرمة ، وأبو المتوكّل ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء : «أف» بإسكان الفاء وتخفيفها ؛ قال الأخفش : وهذا لأن بعض العرب يقول : أف لك ، على الحكاية ، والرّفع قبيح ، لأنه لم يجئ بعده بلام. وقرأ أبو العالية ، وأبو حصين الأسديّ : «أفّي» بتشديد الفاء وبياء وروى ابن الأنباري أنّ بعضهم قرأها : «أف» بكسر الهمزة. وقال الزّجّاج : فيها سبع لغات : الكسر بلا تنوين ، وبتنوين والضّمّ بلا تنوين ، وبتنوين ، والفتح بلا تنوين ، وبتنوين ، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة : «أفي» بالياء ، هكذا قال الزّجّاج. وقال ابن الأنباري : في «أفّ» عشرة أوجه : «أفّ» بفتح الفاء ، و «أفّ» بكسرها ، و «أفّ» ، و «أفّا» لك بالنّصب والتنوين على مذهب الدّعاء كما تقول : «ويلا» للكافرين ، و «أفّ» لك ، بالرّفع والتنوين ، وهو رفع باللام ، كقوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (٣) و «أفه» لك ، بالخفض والتنوين ، تشبيها بالأصوات ، كقولك : «صه» و «مه» ، و «أفها» لك ، على مذهب الدّعاء أيضا ، و «أفّي» لك ، على الإضافة إلى النّفس ، و «أف» لك ، بسكون الفاء تشبيها بالأدوات ، مثل : «كم» و «هل» و «بل» ، و «إف» لك ، بكسر الألف ، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : وتقول : «أف» منه ، و «أف» ، و «أف» ، و «أف» ، و «أفا» ، و «أفّ» ، و «أفّي» مضاف ، و «أفها» و «أفا» بالألف ، ولا تقل : «أفي» بالياء فإنه خطأ.

فأما معنى (أُفٍ) ففيه خمسة أقوال : أحدها : أنه وسخ الظّفر ، قاله الخليل. والثاني : وسخ الأذن ، قاله الأصمعيّ. والثالث : قلامة الظّفر ، قاله ثعلب. والرابع : أن «الأفّ» الاحتقار والاستصغار ، من «الأفف» ، والأفف عند العرب : القلّة ، ذكره ابن الأنباري. والخامس : أن «الأفّ» ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة ، حكاه ابن فارس اللغوي. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال : معنى «الأفّ» : النّتن ، والتّضجّر ، وأصلها : نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد ، وللمكان تريد إماطة الأذى عنه ، فقيلت لكلّ مستثقل ، قلت : وأما قولهم : «تف» ، فقد جعلها قوم بمعنى «أف» ، فروي عن

__________________

(١) سورة البقرة عند الآية : ٨٣.

(٢) سورة المائدة : ٧١.

(٣) سورة المطففين : ١.

١٨

أبي عبيد أنه قال : أصل «الأفّ» و «التفّ» : الوسخ على الأصابع إذا فتلته. وحكى ابن الأنباري فرقا ، فقال : قال اللغويون : أصل «الأفّ» في اللغة : وسخ الأذن ، و «التّفّ» : وسخ الأظفار ، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذر ويضجر منه. وحكى الزّجّاج فرقا آخر ، فقال : قد قيل : إنّ «أف» : وسخ الأظفار ، و «التفّ» : الشيء الحقير ، ونحو وسخ الأذن ، أو الشّظيّة تؤخذ من الأرض ، ومعنى «أف» : النّتن ، ومعنى الآية : لا تقل لهما كلاما تتبرّم فيه بهما إذا كبرا وأسنّا ، فينبغي أن تتولّى من خدمتهما مثل الذي تولّيا من القيام بشأنك وخدمتك ، (وَلا تَنْهَرْهُما) أي : لا تكلّمهما ضجرا صائحا في وجوههما. وقال عطاء بن أبي رباح : لا تنقض يدك عليهما ، يقال : نهرته أنهره نهرا ، وانتهرته انتهارا ، بمعنى واحد ، وقال ابن فارس : نهرت الرجل وانتهرته مثل : زجرته. قال المفسّرون : وإنما نهى عن أذاهما في الكبر ، وإن كان منهيا عنه على كلّ حال ، لأنّ حالة الكبر يظهر فيها منهما ما يضجر ويؤذي ، وتكثر خدمتهما.

قوله تعالى : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي : لينا لطيفا أحسن ما تجد. وقال سعيد بن المسيّب : قول العبد المذنب للسيّد الفظ. قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي : ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إيّاهما. وخفض الجناح قد شرحناه في الحجر (١). قال عطاء : جناحك : يداك ، فلا ترفعهما على والديك. والجمهور يضمّون الذال من «الذّلّ» وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعاصم الجحدريّ ، وابن أبي عبلة : بكسر الذال. قال الفراء : الذلّ : أن تتذلّل لهما ، من الذّل ، والذّل : أن تتذلّل ولست بذليل في الخدمة (٢) والذلّ والذّلّة : مصدر الذّليل ، والذّلّ بالكسر : مصدر الذّلول ، مثل الدّابّة والأرض. قال ابن الأنباري : من قرأ «الذّل» ، بكسر الذّال ، جعله بمعنى الذّل ، بضم الذّال ، والذي عليه كبراء أهل اللغة أن الذّلّ من الرجل الذّليل ، والذّلّ من الدابّة الذّلول.

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي : مثل رحمتها إيّاي في صغري حتى ربّياني ، وقد ذهب قوم إلى أنّ هذا الدّعاء المطلق نسخ منه الدّعاء لأهل الشّرك بقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (٣) ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومقاتل. قال المصنف : ولا أرى هذا نسخا عند الفقهاء ، لأنه عامّ دخله التّخصيص ، وقد ذكر قريبا ممّا قلته ابن جرير. قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي : بما تضمرون من البرّ والعقوق ، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر العقوق ، غفر له ذلك ، وهو قوله تعالى : (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي : طائعين لله ، وقيل بارين ، وقيل : توّابين ، (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) في الأوّاب عشرة أقوال (٤) : أحدها : أنه المسلم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنه التّوّاب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضّحّاك ، وأبو عبيدة ، وقال ابن قتيبة : هو التّائب مرّة بعد مرّة. وقال الزّجّاج : هو التّوّاب المقلع عن جميع ما نهاه الله عنه ، يقال : قد آب يؤوب أوبا : إذا رجع.

__________________

(١) الحجر عند الآية : ٨٨.

(٢) في نسخة «الخلق».

(٣) سورة التوبة : ١١٣.

(٤) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٨ / ٦٦ : وأولى الأقوال بالصواب : قول من قال : الأوّاب : هو التائب من الذنب الراجع عن معصية الله إلى طاعته ، ومما يكرهه إلى ما يرضاه.

١٩

والثالث : أنه المسبّح ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع : أنه المطيع لله تعالى ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والخامس : أنه الذي يذكر ذنبه في الخلاء ، فيستغفر الله منه ، قاله عبيد بن عمير. والسادس : أنه المقبل إلى الله تعالى بقلبه وعمله ، قاله الحسن. والسابع : المصلّي ، قاله قتادة. والثامن : هو الذي يصلّي بين المغرب والعشاء ، قاله ابن المنكدر. والتاسع : الذي يصلّي صلاة الضّحى ، قاله عون العقيليّ. والعاشر : أنّه الذي يذنب سرا ويتوب سرا ، قاله السّديّ.

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨))

قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) فيه قولان (١) : أحدهما : أنه قرابة الرجل من قبل أبيه وأمّه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، فعلى هذا في حقّهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المراد به : برّهم وصلتهم. والثاني : النّفقة الواجبة لهم وقت الحاجة. والثالث : الوصيّة لهم عند الوفاة.

والثاني : أنهم قرابة الرّسول ، قاله عليّ بن الحسين عليهما‌السلام والسّديّ. فعلى هذا ، يكون حقّهم : إعطاؤهم من الخمس ، ويكون الخطاب للولاة.

قوله تعالى : (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) قال القاضي أبو يعلى : يجوز أن يكون المراد : الصّدقات الواجبة ، يعني ، الزّكاة ، ويجوز أن يكون الحقّ الذي يلزمه إعطاؤه عند الضرورة إليه. وقيل : حقّ المسكين ، من الصّدقة ، وابن السّبيل ، من الضّيافة.

قوله تعالى : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) في التّبذير قولان : أحدهما : أنه إنفاق المال في غير حقّ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس. وقال مجاهد : لو أنفق الرجل ماله كلّه في حقّ ، ما كان مبذّرا ، وأنفق مدّا في غير حقّ ، كان مبذرا. قال الزّجّاج : التّبذير : النّفقة في غير طاعة الله ، وكانت الجاهلية تنحر الإبل وتبذر الأموال تطلب بذلك الفخر والسّمعة ، فأمر الله عزوجل بالنّفقة في وجهها فيما يقرب منه. والثاني : أنه الإسراف المتلف للمال ، ذكره الماوردي. وقال أبو عبيدة : المبذر : هو المسرف المفسد العائث. قوله تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إليه ، ويشاكلونهم في معصية الله تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي : جاحدا لنعمه. وهذا يتضمّن أنّ المسرف كفور للنّعم.

قوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) في المشار إليهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم الذين تقدّم ذكرهم من الأقارب والمساكين وأبناء السّبيل ، قاله الأكثرون ، فعلى هذا في علّة هذا الإعراض قولان : أحدهما : الإعسار ، قاله الجمهور. والثاني : خوف إنفاقهم ذلك في معصية الله ، قاله ابن زيد. وعلى هذا في الرّحمة قولان : أحدهما : الرّزق ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه الصّلاح والتّوبة. هذا على قول ابن زيد. والثاني : أنهم المشركون ، فالمعنى : وإمّا تعرضنّ عنهم لتكذيبهم ، قاله سعيد بن جبير. فتحتمل إذا الرّحمة وجهين : أحدهما : انتظار النّصر عليهم. والثاني : الهداية لهم.

__________________

(١) قال الإمام الطبري رحمه‌الله ٨ / ٦٧ : وأولى التأولين عندي بالصواب تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قبل آبائهم وأمهاتهم.

٢٠