تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩)

____________________________________

(الرَّحِيمُ) على عباده وهما خبران آخران وفيه إيماء إلى أنه تعالى متفضل فى جميع ما ذكر فاعل بالإحسان (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) خبر آخر أو نصب على المدح أى حسن كل مخلوق خلقه إذ ما من مخلوق خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة وأوجبته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وقيل علم كيف يخلقه من قوله قيمة المرء ما يحسن أى يحسن معرفته أى يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإيقان وقرىء خلقه على أنه بدل اشتمال من كل شىء والضمير للمبدل منه أى حسن خلق كل شىء وقيل بدل الكل على أن الضمير لله تعالى والخلق بمعنى المخلوق أى حسن كل مخلوقاته وقيل هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى أعطى أى أعطى كل شىء خلقه اللائق به بطريق الإحسان والتفضل وقيل هو مفعوله الأول وكل شىء مفعوله الثانى والخلق بمعنى المخلوق وضميره لله سبحانه على تضمين الإحسان معنى الإلهام والتعريف والمعنى ألهم خلقه كل شىء مما يحتاجون إليه وقال أبو البقاء عرف مخلوقاته كل شىء يحتاجون إليه فيؤول إلى معنى قوله تعالى (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) من بين جميع المخلوقات (مِنْ طِينٍ) على وجه بديع تحار* العقول فى فهمه حيث برأ آدم عليه‌السلام على فطرة عجيبة منطوية على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لخروج كل فرد منها من القوة إلى الفعل بحسب استعداداتها المتفاوتة قربا وبعدا كما ينبىء عنه قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) الخ أى ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) هو المنى الممتهن (ثُمَّ سَوَّاهُ) أى عدله بتكميل أعضائه فى الرحم وتصويرها على ما ينبغى (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضافه إليه تعالى تشريفا له وإيذانا بأنه خلق عجيب وصنع بديع وأن له شأنا له مناسبة إلى حضرة الربوبية وأن أقصى ما تنتهى إليه العقول البشرية من معرفته هذا القدر الذى يعبر عنه تارة بالإضافة إليه تعالى وأخرى بالنسبة إلى أمره تعالى كما فى قوله تعالى (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) * الجعل إبداعى واللام متعلقة به والتقديم على المفعول الصريح لما مر مرات من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم أى خلق لمنفعتكم تلك المشاعر لتعرفوا أنها مع كونها فى أنفسها نعما جليلة لا يقادر قدرها وسائل إلى التمتع بسائر النعم الدينية والدنيوية الفائضة عليكم وتشكروها بأن تصرفوا كلا منها إلى ما خلق هو له فتدركوا بسمعكم الآيات التنزيلية الناطقة بالتوحيد والبعث وبأبصاركم الآيات التكوينية الشاهدة بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيتهما وقوله تعالى (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض التذييلى على أن القلة بمعنى*

٨١

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢)

____________________________________

النفى كما ينبىء عنه ما بعده أى شكرا قليلا أو زمانا قليلا تشكرون وفى حكاية أحوال الإنسان من مبدأ فطرته إلى نفخ الروح فيه بطريق الغيبة وحكاية أحواله بعد ذلك بطريق الخطاب المنبىء عن استعداده للفهم وصلاحيته له من الجزالة مالا غاية وراءه (وَقالُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان أباطيلهم بطريق الالتفات إيذانا بأن ما ذكر من عدم شكرهم بتلك النعم موجب للإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم* بطريق المباثة (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أى صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه أو غبنا فيها بالدفن وقرىء ضللنا بكسر اللام من باب علم وصللنا بالصاد المهملة من صل اللحم إذا أنتن وقيل من الصلة وهى الأرض أى صرنا من جنس الصلة قيل القائل أبى بن خلف ولرضاهم بقوله أسند القول إلى الكل والعامل* فى إذا ما يدل عليه قوله تعالى (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو نبعث أو يجدد خلقنا والهمزة لتذكير الإنكار السابق وتأكيده وقرىء إنا على الخبر وأيا ما كان فالمعنى على تأكيد الإنكار لا إنكار التأكيد كما هو* المتبادر من تقدم الهمزة على إن فإنها مؤخرة عنها فى الاعتبار وإنما تقديمها عليها لاقتضائها الصدارة (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) إضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعا (قُلْ) بيانا للحق وردا على زعمهم الباطل (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) لا كما تزعمون أن الموت من الأحوال الطبيعية العارضة للحيوان بموجب الجبلة أى يقبض أرواحكم بحيث لا يدع فيكم شيئا أو لا يترك منكم أحدا على أشد ما يكون من الوجوه وأفظعها من ضرب وجوهكم وأدباركم (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أى بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) بالبعث للحساب والجزاء (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم القائلون أئذا ضللنا فى الأرض الآية أو جنس المجرمين وهم من جملتهم (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من الحياء والخزى عند ظهور قبائحهم التى اقترفوها فى الدنيا (رَبَّنا) أى يقولون ربنا (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أى صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عميا وصما لا ندرك* شيئا (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) حسبما تقتضيه تلك الآيات وقوله تعالى (إِنَّا مُوقِنُونَ) ادعاء منهم لصحة الأفئدة والاقتدار على فهم معانى الآيات والعمل بموجبها كما أن ما قبله ادعاء لصحة مشعرى البصر والسمع كأنهم قالوا وأيقنا وكنا من قبل لا نعقل شيئا أصلا وإنما عدلوا إلى الجملة الاسمية المؤكدة إظهارا لثباتهم على الإيقان وكمال رغبتهم فيه وكل ذلك للجد فى الاستدعاء طمعا فى الإجابة إلى ما سألوه

٨٢

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٣)

____________________________________

من الرجعة وأنى لهم ذلك ويجوز أن يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه فإنهم حينئذ يشاهدون الكفر والمعاصى على صور منكرة هائلة ويخبرهم الملائكة بأن مصيرهم إلى النار لا محالة فالمعنى أبصرنا قبح أعمالنا وكنا نراها فى الدنيا حسنة وسمعنا أن مردنا إلى النار وهو الأنسب لما بعده من الوعد بالعمل الصالح هذا وقد قيل المعنى وسمعنا منك تصديق رسلك وأنت خبير بأن تصديقه تعالى لهم حينئذ يكون بإظهار مدلول ما أخبروا به من الوعد والوعيد لا بالإخبار بأنهم صادقون حتى يسمعوه وقيل وسمعنا قول الرسل أى سمعناه سمع طاعة وإذعان ولا يقدر لترى مفعول إذ المعنى لو تكون منك رؤية فى ذلك الوقت أو يقدر ما ينبىء عنه صلة إذ والمضى فيها وفى لو باعتبار أن الثابت فى علم الله تعالى بمنزلة الواقع وجواب لو محذوف أى لرأيت أمرا فظيعا لا يقادر قدره والخطاب لكل أحد ممن يصلح له كائنا من كان إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها واستفظاعها براء دون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهى الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعتها هذا ومن علل عموم الخطاب بالقصد إلى بيان أن حالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا تختص رؤية راء دون راء بل كل من يتأتى منه الرؤية فله مدخل فى هذا الخطاب فقد نأى عن تحقيق الحق لأن المقصود بيان كمال فظاعة حالهم كما يفصح عنه الجواب المحذوف لا بيان كمال ظهورها فإنه مسوق مساق المسلمات فتدبر (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) مقدر بقول معطوف على ما قدر قبل قوله تعالى (رَبَّنا أَبْصَرْنا) الخ أى ونقول لو شئنا أى لو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليا بأن نعطى كل نفس من النفوس البرة والفاجرة ما تهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح لأعطيناها إياه فى الدنيا التى هى دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أى* سبقت كلمتى حيث قلت لإبليس عند قوله (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وهو المعنى بقوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم بل منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم اختياركم إلى الغى بإغوائه ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها فلما لم تختاروا الهدى واخترتم الضلالة لم نشأ إعطاءه لكم وإنما أعطيناه الذين اختاروه من النفوس البرة وهم المعنيون بما سيأتى من قوله تعالى (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) الآية فيكون مناط عدم مشيئة إعطاء الهدى فى الحقيقة سوء اختيارهم لا تحقق القول وإنما قيدنا المشيئة بما مر من التعليق الفعلى بأفعال العباد عند حدوثها لأن المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم إجمالا متقدمة على تحقق كلمة العذاب فلا يكون عدمها منوطا بتحققها وإنما مناطه علمه تعالى أزلا بصرف

٨٣

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١٦)

____________________________________

اختيارهم فيما سيأتى إلى الغى وإيثارهم له على الهدى فلو أريدت هى من تلك الحيثية لاستدرك بعدمها ونيط ذلك بما ذكر من المناط على منهاج قوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) فمن توهم أن المعنى ولو شئنا لأعطينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذى لو كان منهم اختياره لاهتدوا ولكن لم نعطهم لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره فقد اشتبه عليه الشئون والفاء فى قوله تعالى (فَذُوقُوا) لترتيب الأمر بالذوق على ما يعرب عنه ما قبله من نفى الرجع إلى الدنيا أو على الوعيد المحكى والباء فى قوله تعالى (بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) للإيذان بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق الوعيد به فقط بل هو وسبق الوعيد أيضا بسبب موجب له من قبلهم كأنه قيل لا رجع لكم إلى الدنيا أو حق وعيدى فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه والاستعداد له بالكلية (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أى تركناكم فى العذاب ترك المنسى بالمرة* وقوله تعالى (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المطوى للذوق والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصى التى كانوا مستمرين عليها فى الدنيا وعدم نظم الكل فى سلك واحد للتنبيه على استقلال كل منها فى استيجاب العذاب وفى إبهام المذوق أولا وبيانه ثانيا بتكرير الأمر وتوسيط الاستئناف المنبىء عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد فى الانتقام منهم مالا يخفى وقوله تعالى (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل إنكم لا تؤمنون بآياتنا ولا تعملون بموجبها عملا صالحا ولو رجعناكم إلى الدنيا كما تدعون* حسبما ينطق به قوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) وإنما يؤمن بها (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) أى وعظوا (خَرُّوا سُجَّداً) آثر ذى أثير من غير تردد ولا تلعثم فضلا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد* والوعيد أى سقطوا على وجوههم (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أى ونزهوه عند ذلك عن كل مالا يليق به من الأمور التى من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه التى أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق للاهتداء بها والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد وبأنهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أى والحال أنهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عما فعلوا من الخرور والتسبيح والتحميد (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) أى تنبو وتتنحى (عَنِ الْمَضاجِعِ) أى الفرش ومواضع المنام والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم وهم المتهجدون بالليل قال أنس رضى الله عنه نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلى المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلى

٨٤

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٩)

____________________________________

العشاء مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أنس أيضا رضى الله عنه أنه قال نزلت فى أناس من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهى صلاة الأوابين وهو قول أبى حازم ومحمد بن المنكدر وهو مروى عن ابن عباس رضى الله عنهما وقال عطاء هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة والفجر فى جماعة والمشهور أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعى وجماعة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تفسيرها قيام العبد من الليل وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادى بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادى ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادى ليقم الذين كانوا يحمدون الله فى السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس وقوله تعالى (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) حال من ضمير جنوبهم أى داعين له تعالى على الاستمرار (خَوْفاً) من سخطه وعذابه وعدم قبول عبادته (وَطَمَعاً) فى رحمته (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من المال (يُنْفِقُونَ) فى وجوه البر والحسنات (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) من النفوس لا ملك مقرب ولا نبى مرسل فضلا عمن عداهم (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) أى لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) مما تقربه أعينهم وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله عزوجل أعددت لعبادى الصالحين مالا عين* رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعتم عليه اقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين وقرىء ما أخفى لهم وما نخفى لهم وما أخفيت لهم على صيغة المتكلم وما أخفى لهم على البناء للفاعل وهو الله سبحانه وقرىء قرات أعين لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة وما موصولة أو استفهامية علق عنها الفعل (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى جزوا جزاء أو أخفى لهم للجزاء بما كانوا يعملونه فى الدنيا من الأعمال الصالحة قيل هؤلاء القوم أخفوا أعمالهم فأخفى الله تعالى ثوابهم (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) أى أبعد ظهور ما بينهما من التباين البين يتوهم كون المؤمن الذى حكيت أوصافه الفاضلة كالفاسق الذى ذكرت أحواله (لا يَسْتَوُونَ) التصريح به مع إفادة الإنكار لنفى المشابهة بالمرة على أبلغ وجه* وآكده لبناء التفصيل الآتى عليه والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها وقوله تعالى (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) تفصيل لمراتب الفريقين فى الآخرة بعد ذكر أحوالهما فى الدنيا وأضيفت الجنة إلى المأوى لأنها المأوى الحقيقى وإنما الدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة وقيل المأوى جنة من الجنات وأيا ما كان فلا يبعد أن يكون فيه رمز إلى ما ذكر من تجافيهم عن مضاجعهم

٨٥

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٣)

____________________________________

التى هى مأواهم فى الدنيا (نُزُلاً) أى ثوابا وهو فى الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب وانتصابه على الحالية (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فى الدنيا من الأعمال الصالحة أو بأعمالهم (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أى خرجوا عن الطاعة (فَمَأْواهُمُ) أى ملجؤهم ومنزلهم (النَّارُ) مكان جنات المأوى للمؤمنين (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) استئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم يروى أنه يضربهم لهب النار فيرتفعون إلى طبقاتها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم أبدا وكلمة فى للدلالة على أنهم مستقرون فيها وإنما الإعادة من بعض طبقاتها إلى بعض (وَقِيلَ لَهُمْ) تشديدا عليهم وزيادة فى غيظهم (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ) أى بعذاب النار (تُكَذِّبُونَ) على الاستمرار فى الدنيا (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أى عذاب الدنيا وهو ما محنوا به من السنة سبع سنين والقتل والأسر (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) الذى هو عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ) لعل الذين يشاهدونه وهم فى الحياة (يَرْجِعُونَ) يتوبون عن الكفر روى أن الوليد بن عقبة فاخر عليا رضى الله عنه يوم بدر فنزلت هذه الآيات (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) بيان إجمالى لحال من قابل آيات الله تعالى بالإعراض بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد وكلمة ثم لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادة الدارين كما فى بيت الحماسة[ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة * يرى غمرات الموت ثم يزورها] أى هو أظلم من كل ظالم وإن كان سبك التركيب على نفى الأظلم من غير تعرض لنفى المساوى وقد مر مرارا (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أى من كل من اتصف بالإجرام وإن هانت جريمته (مُنْتَقِمُونَ) فكيف ممن هو أظلم من كل ظالم وأشد جرما من كل مجرم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أى التوراة عبر عنها باسم الجنس لتحقيق المجانسة بينها وبين الفرقان والتنبيه على أن إيتاءه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم* كإبتائها لموسى عليه‌السلام (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) من لقاء الكتاب الذى هو الفرقان كقوله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) والمعنى إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه من الوحى مثل ما لقيناك من الوحى فلا تكن فى شك من أنك لقيت مثله ونظيره وقيل من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيت ليلة أسرى بى موسى رجلا آدم طوالا وجعدا كأنه من رجال شنوأة (وَجَعَلْناهُ) أى

٨٦

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٢٧)

____________________________________

الكتاب الذى آتيناه موسى (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) قيل لم يتعبد بما فى التوراة ولد إسمعيل (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) بقيتهم بما فى تضاعيف الكتاب من الحكم والأحكام إلى طريق الحق أو يهدونهم إلى ما فيه من دين الله وشرائعه (بِأَمْرِنا) إياهم بذلك أو بتوفيقنا له (لَمَّا صَبَرُوا) هى لما التى فيها معنى الجزاء نحو* أحسنت إليك لما جئتنى والضمير للأئمة تقديره لما صبروا جعلناهم أئمة أو هى ظرف بمعنى الحين أى جعلناهم أئمة حين صبروا والمراد صبرهم على مشاق الطاعات ومقاسات الشدائد فى نصرة الدين أو صبرهم عن الدنيا وقرىء لما صبروا أى لصبرهم (وَكانُوا بِآياتِنا) التى فى تضاعيف الكتاب (يُوقِنُونَ) لإمعانهم فيها النظر والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذى آتيناكه هدى لأمتك ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ) أى يقضى (بَيْنَهُمْ) قيل بين الأنبياء وأممهم وقيل بين المؤمنين والمشركين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيميز بين المحق والمباطل (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) الهمزة للإنكار والواو للعطف على منوى يقتضيه المقام وفعل الهداية إما من قبيل فلان يعطى فى أن المراد إيقاع نفس الفعل بلا ملاحظة المفعول وإما بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل مادل عليه قوله تعالى (كَمْ أَهْلَكْنا) أى أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أو ولم يبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) مثل عاد وثمود وقوم لوط وقرىء نهد لهم بنون العظمة وقد جوز أن يكون الفاعل على القراءة الأولى أيضا ضميره تعالى فيكون قوله تعالى (كَمْ أَهْلَكْنا) الخ استئنافا مبينا لكيفية هدايته تعالى (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أى يمرون فى متاجرهم على ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم والجملة حال من ضمير لهم وقرىء يمشون للتكثير (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من كثرة إهلاكنا للأمم الخالية العاتية أو فى مساكنهم (لَآياتٍ) عظيمة فى أنفسها كثيرة فى عددها (أَفَلا يَسْمَعُونَ) هذه الآيات سماع تدبر واتعاظ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أى التى جرز نباتها أى قطع وأزيل بالمرة وقيل هو اسم موضع باليمن (فَنُخْرِجُ بِهِ) من تلك الأرض (زَرْعاً تَأْكُلُ) أى من ذلك الزرع (أَنْعامُهُمْ) كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها وقرىء يأكل بالياء (وَأَنْفُسُهُمْ) كالحبوب التى يقتاتها الإنسان والثمار (أَفَلا يُبْصِرُونَ)

٨٧

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠)

____________________________________

أى ألا ينظرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى وفضله (وَيَقُولُونَ) كان المسلمون يقولون الله سيفتح لنا على المشركين أو يفصل بيننا وبينهم وكان أهل مكة إذا سمعوه يقولون بطريق الاستعجال تكذيبا واستهزاء (مَتى هذَا الْفَتْحُ) أى النصر أو الفصل بالحكومة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى أن الله تعالى ينصركم أو يفصل بيننا وبينكم (قُلْ) تبكيتا لهم وتحقيقا للحق (يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يوم الفتح يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ويوم نصرهم عليهم وقيل هو يوم بدر وعن مجاهد والحسن يوم فتح مكة والعدول عن تطبيق الجواب على ظاهر سؤالهم للتنبيه على أنه ليس مما ينبغى أن يسأل عنه لكونه أمرا بينا غنيا عن الإخبار به وكذا إيمانهم واستنظارهم يومئذ وإنما المحتاج إلى البيان عدم نفع ذلك الإيمان وعدم الإنظار كأنه قيل لا تستعجلوا فكأنى بكم قد آمنتم فلم ينفعكم واستنظرتم فلم تنظروا وهذا على الوجه الأول ظاهر وأما على الأخيرين فالموصول عبارة عن المقتولين يومئذ لا عن كافة الكفرة كما فى الوجه الأول كيف لا وقد نفع الإيمان الطلقاء يوم الفتح وناسا آمنوا يوم بدر (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تبال بتكذيبهم (وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم وهلاكهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) قيل أى الغلبة عليكم كقوله تعالى (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) والأظهر أن يقال إنهم منتظرون هلاكهم كما فى قوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) الآية ويقرب منه ما قيل وانتظر عذابنا إنهم منتظروه فإن استعجالهم المذكور وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصى فى حكم انتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة وقرىء على صيغة المفعول على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أو فإن الملائكة ينتظرونه. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ الم تنزيل وتبارك الذى بيده الملك أعطى من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ الم تنزيل فى بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام.

٨٨

٣٣ ـ سورة الأحزاب

(مدنية وهى ثلاث وسبعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٢)

____________________________________

(سورة الأحزاب مدنية وهى ثلاث وسبعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) فى ندائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان النبوة تنويه بشأنه وتنبيه على سمو مكانه والمراد بالتقوى المأمور به الثبات عليه والازدياد منه فإن له بابا واسعا وعرضا عريضا لا ينال مداه (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أى المجاهرين بالكفر (وَالْمُنافِقِينَ) المضمرين له أى فيما يعود بوهن فى الدين* وإعطاء دنية فيما بين المسلمين روى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الموادعة التى كانت بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم وقام معهم عبد الله بن أبى ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك فشق ذلك على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وهموا بقتلهم فنزلت أى اتق الله فى نقض العهد ونبذ الموادعة ولا تساعد الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) مبالغا فى العلم والحكمة فيعلم* جميع الأشياء من المصالح والمفاسد فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلا عما فيه مفسدة ولا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة البالغة فالجملة تعليل للأمر والنهى مؤكد لوجوب الامتثال بهما (وَاتَّبِعْ) أى فى كل ما تأتى وتذر من أمور الدين (ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من الآيات التى من جملتها هذه الآية الآمرة بتقوى الله الناهية عن مساعدة الكفرة والمنافقين والتعرض لعنوان الربوبية لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قيل الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجمع للتعظيم وقيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم* وللمؤمنين وقيل للغائبين بطريق الالتفات ولا يخفى بعده نعم يجوز أن يكون للكل على ضرب من التغليب وأيا ما كان فالجملة تعليل للأمر وتأكيد لموجبه أما على الوجهين الأولين فبطريق الترغيب والترهيب كأنه قيل إن الله خبير بما تعملونه من الامتثال وتركه فيرتب على كل منهما جزاءه ثوابا وعقابا وأما على الوجه الأخير فبطريق الترغيب فقط كأنه قيل إن الله خبير بما يعمله كلا الفريقين فيرشدك إلى ما فيه صلاح حالك وانتظام أمرك ويطلعك على ما يعملونه من المكايد والمفاسد ويأمرك بما ينبغى لك أن تعمله فى دفعها وردها فلا بد من اتباع الوحى والعمل بمقتضاه حتما.

٨٩

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥)

____________________________________

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أى فوض جميع أمورك إليه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) حافظا موكولا إليه كل الأمور (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) شروع فى إلقاء الوحى الذى أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباعه وهذا مثل ضربه الله* تعالى تمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) وتنبيها على أن كون المظاهر منها أما وكون الدعى ابنا أى بمنزلة الأم والابن فى الآثار والأحكام المعهودة فيما بينهم فى الاستحالة بمنزلة اجتماع قلبين فى جوف واحد وقيل هو رد لما كانت العرب تزعم من أن اللبيب الأريب له قلبان ولذلك قيل لأبى معمر أو لجميل بن سيد الفهرى ذو القلبين أى ما جمع الله تعالى قلبين فى رجل وذكر الجوف لزيادة التقرير كما فى قوله تعالى (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ولا زوجية ولا أمومة فى امراة ولا دعوة وبنوة فى شخص لكن لا بمعنى نفى الجمع بين حقيقة الزوجية والأمومة ونفى الجمع بين حقيقة الدعوة والبنوة كما فى القلب ولا بمعنى نفى الجمع بين أحكام الزوجية وأحكام الأمومة ونفى الجمع بين أحكام الدعوة وأحكام البنوة على الإطلاق بل بمعنى نفى الجمع بين حقيقة الزوجية وأحكام الأمومة ونفى الجمع بين حقيقة الدعوة وأحكام البنوة لإبطال ما كانوا عليه من إجراء أحكام الأمومة على المظاهر منها وإجراء أحكام البنوة على الدعى ومعنى الظهار أن يقول لزوجته أنت على كظهر أى مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا فى الجاهلية وهو فى الإسلام يقتضى الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدى آلى بها وهو بمعنى حلف وذكر الظهار للكناية عن البطن الذى هو عموده فإن ذكره قريب من ذكر الفرج أو للتغليظ فى التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان الزوجة وظهرها إلى السماء وقرىء اللاء وقرىء تظاهرون بحذف إحدى التاءين من تتظاهرون وتظاهرون بإدغام التاء الثانية فى الظاء وتظهرون من أظهر بمعنى تظهر وتظهرون من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد وتظهرون من ظهر ظهورا وادعياء جمع دعى وهو الذى يدعى ولدا على الشذوذ لاختصاص أفعلاء بفعيل بمعنى فاعل كتقى وأتقياء كأنه شبه به فى اللفظ فجمع جمعه* كقتلاء وأسراء (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما يفهم مما ذكر من الظهار والدعاء أو إلى الأخير الذى هو المقصود من مساق الكلام أى دعاءكم بقولكم هذا ابنى (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة فى الأعيان فإذن هو بمعزل من استتباع أحكام البنوة كما زعمتم (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ) المطابق للواقع (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أى سبيل الحق لا غير فدعوا أقوالكم وخذوا بقوله عزوجل (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أى انسبوهم

٩٠

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٧)

____________________________________

إليهم وخصوهم بهم وقوله تعالى (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) تعليل له والضمير لمصدر ادعوا كما فى قوله تعالى* (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وأقسط أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل أى الدعاء لآبائهم بالغ فى العدل والصدق فى حكم الله تعالى وقضائه (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) فتنسبوهم إليهم (فَإِخْوانُكُمْ) * فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) وأولياؤكم فيه أى فادعوهم بالأخوة الدينية والمولوية (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أى إثم (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أى فيما فعلتموه من ذلك مخطئين بالسهو أو النسيان أو سبق اللسان (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أى ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم بعد النهى أو ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) لعفوه عن المخطىء وحكم التبنى بقوله هو ابنى إذا كان عبدا للفائل* العتق على كل حال ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب وكان بحيث يولد مثله لمثل المتبنى ولم يقر قبله بنسبه من غيره (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى فى كل أمر من أمور الدين والدنيا كما يشهد به الإطلاق فيجب عليه أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب إليهم من أنفسهم وحكمه أنفذ عليهم من حكمها وحقه آثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت وقرىء وهو أب لهم أى فى الدين فإن كل نبى أب لأمته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون أخوة (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أى منزلات منزلة الأمهات* فى التحريم واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك فهن كالأجنبيات ولذلك قالت عائشة رضى الله عنها لسنا أمهات النساء (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أى ذو القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) فى التوارث وهو نسخ لما كان* فى صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة فى الدين (فِي كِتابِ اللهِ) فى اللوح أو فيما أنزله وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيما فرض الله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) بيان لأولى الأرحام أوصلة لأولى أى أولوا الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) استثناء من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أى كان ما ذكر من الآيتين ثابتا فى اللوح أو القرآن وقيل فى التوراة (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أى اذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين الحق (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وتخصيصهم بالذكر مع

٩١

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٩)

____________________________________

اندارجهم فى النبيين اندارجا بينا للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع* وأساطين أولى العزم من الرسل وتقديم نبينا عليهم عليهم الصلاة والسلام لإبانة خطره الجليل (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أى عهدا عظيم الشأن أو مؤكدا باليمين وهذا هو الميثاق الأول بعينه وأخذه هو أخذه والعطف مبنى على تنزيل التغاير العنوانى منزلة التغاير الذاتى تفخيما لشأنه كما فى قوله تعالى (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) إثر قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وقوله تعالى (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) متعلق بمضمر مستأنف مسوق لبيان ما هو داع إلى ما ذكر من أخذ الميثاق وغاية له لا بأخذنا فإن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان الغرض منه بيانا قصديا كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة أى فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء ووضع الصادقين موضع ضميرهم للإيذان من أول الأمر بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه وإنما السؤال لحكمة تقتضيه أى ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم أو عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم كما فى قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق وتصديقه صدق وأما ما قيل من أن المعنى ليسأل المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم فيأباه مقام تذكير ميثاق النبيين* وقوله تعالى (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) عطف على ما ذكر من المضمر لا على أخذنا كما قيل والتوجيه بأن بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين أو بأن المعنى أن الله تعالى أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين تعسف ظاهر مع أنه مفض إلى كون بيان إعداد العذاب الأليم للكافرين غير مقصود بالذات نعم يجوز عطفه على ما دل عليه قوله تعالى (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) كأنه قيل فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) إن جعل النعمة مصدرا فالجار متعلق بها وإلا فهو متعلق بمحذوف هو حال منها أى كائنة عليكم (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم وقيل منصوب باذكروا على أنه بدل اشتمال من نعمة الله والمراد بالجنود الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوا زهاء اثنى عشر ألفا فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإشارة سلمان الفارسى ثم خرج فى ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذرارى والنساء فرفعوا فى الآطام واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق فى المنافقين حتى قال معتب بن قشير كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبى جهل وهبيرة بن أبى وهب ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بنى محارب قد ركبوا

٩٢

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١٠)

____________________________________

خيولهم وتيمموا من الخندق مكانا مضيقا فضربوا خيولهم فاقتحموا فجالت بهم فى السبخة بين الخندق وسلع فخرج على بن أبى طالب رضى الله عنه فى نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التى اقتحموا منها فأقبلت الفرسان نحوهم وكان عمرو معلما ليرى مكانه فقال له على رضى الله عنه يا عمرو إنى أدعوك إلى الله ورسوله والإسلام قال لا حاجة لى إليه قال فإنى أدعوك إلى النزال قال يا ابن أخى والله لا أحب أن أقتلك قال على لكنى والله أحب أن أقتلك فحمى عمرو عند ذلك وكان غيورا مشهورا بالشجاعة واقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه ثم أقبل على على فتناولا وتجاولا فضربه على رضى الله عنه ضربة ذهبت فيها نفسه فلما قتله انهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو رجلين منبه بن عثمان ابن عبد الدار ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى قتله أيضا على رضى الله عنه وقيل لم يكن بينهم إلا الترامى بالنبل والحجارة حتى أنزل الله تعالى النصر وذلك قوله تعالى (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) عطف على* (جاءَتْكُمْ) مسوق لبيان النعمة إجمالا وسيأتى بقيتها فى آخر القصة (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة عليهم* السلام وكانوا ألفا بعث الله عليهم صبا باردة فى ليلة شاتية فأخصرتهم وسفت التراب فى وجوههم وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها فى بعض وقذف فى قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة فى جوانب عسكرهم فقال طليحة بن خويلد الأسدى أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من حفر الخندق* وترتيب مبادى الحرب وقيل من التجائكم إليه ورجائكم من فضله وقرىء بالياء أى بما يعمله الكفار أى من التحرز والمحاربة أو من الكفر والمعاصى (بَصِيراً) ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم والجملة اعتراض مقرر لما قبله (إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من إذ جاءتكم (مِنْ فَوْقِكُمْ) من أعلى الوادى من جهة المشرق وهم بنو غطفان ومن تابعهم من أهل نجد قائدهم عيينة بن حصن وعامر بن الطفيل فى هوازن وضامتهم اليهود من قريظة والنضير (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أى من أسفل الوادى من قبل المغرب وهم قريش ومن شايعهم من* الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان وكانوا عشرة آلاف (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) عطف على ما قبله داخل معه فى حكم التذكير أى حين مالت عن سننها وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا وقيل عدلت عن كل شىء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الروع (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) * لأن الرئة تنتفخ من شدة الفزع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهى منتهى الحلقوم وقيل هو مثل فى اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة والخطاب فى قوله تعالى (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) لمن يظهر الإيمان على الإطلاق أى تظنون بالله تعالى أنواع الظنون المختلفة حيث ظن المخلصون الثبت القلوب أن الله تعالى ينجز وعده فى إعلاء دينه كما يعرب عنه ما سيحكى عنهم من قولهم (هذا ما وَعَدَنَا

٩٣

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً) (١٣)

____________________________________

اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية أو يمتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكى عنهم مما لا خير فيه والجملة معطوفة على زاغت وصيغة المضارع لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار وقرىء الظنون بغير ألف وهو القياس وزيادتها لمراعاة الفواصل كما تزاد فى القوافى (هُنالِكَ) ظرف زمان أو ظرف مكان لما بعده أى فى ذلك الزمان الهائل أو المكان الدحض (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أى عوملوا معاملة من يختبر فظهر المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزل (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) من الهول والفزع وقرىء بفتح الزاى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) عطف على (إِذْ زاغَتِ) وصيغة المضارع لما مر من الدلالة على استمرار القول واستحضار صورته (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) * أى ضعف اعتقاد (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من إعلاء الدين والظفر (إِلَّا غُرُوراً) أى وعد غرور وقيل قولا باطلا والقائل معتب بن قشير وأضرابه راضون به قال يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا ما هذا إلا وعد غرور (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) هم أوس بن قيظى وأتباعه وقيل عبد الله بن أبى وأشياعه (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) هو اسم المدينة المطهرة وقيل اسم بقعة وقعت المدينة فى ناحية منها وقد نهى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تسمى بها كراهة لها وقال هى طيبة أو طابة كأنهم ذكروها بذلك الاسم مخالفة* له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونداؤهم إياهم بعنوان أهليتهم لها ترشيح لما بعده من الأمر بالرجوع إليها (لا مُقامَ لَكُمْ) لا موضع إقامة لكم أو لا إقامة لكم ههنا يريدون المعسكر وقرىء بفتح الميم أى لا قيام أولا موضع* قيام لكم (فَارْجِعُوا) أى إلى منازلكم بالمدينة مرادهم الأمر بالفرار لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجا لمقالهم وإيذانا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم وقيل المعنى لا قيام لكم فى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك أو فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه إلى أعدائه أولا مقام لكم فى يثرب* فارجعوا كفارا ليتسنى لكم المقام بها والأول هو الأنسب لما بعده فإن قوله تعالى (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ) معطوف على (قالَتْ) وصيغة المضارع لما مر من استحضار الصورة وهم بنو حارثة وبنو سلمة* استأذنوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الرجوع ممتثلين بأمرهم وقوله تعالى (يَقُولُونَ) بدل من (يَسْتَأْذِنُ) أو حال من فاعله أو استئناف مبنى على السؤال عن كيفية الاستئذان (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أى غير حصينة معرضة للعدو والسراق فأذن لنا حتى نحصنها ثم نرجع إلى العسكر والعورة فى الأصل الخلل أطلقت على المختل مبالغة وقد جوز أن تكون تخفيف عورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرىء بها والأول هو الأنسب بمقام الاعتذار كما يفصح عنه تصدير مقالهم بحرف التحقيق (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) والحال أنها ليست كذلك

٩٤

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧)

____________________________________

(إِنْ يُرِيدُونَ) ما يريدون بالاستئذان (إِلَّا فِراراً) من القتال (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) أسند الدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما أن المراد فرض دخولها وهم فيها لا فرض دخولها مطلقا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور ولا فرض الدخول عليهم مطلقا كما هو المفهوم لو أسند إلى الجار والمجرور (مِنْ أَقْطارِها) أى من جميع جوانبها لا من بعضها دون بعض فالمعنى لو كانت بيوتهم مختلة بالكلية* ودخلها كل من أراد من أهل الدعارة والفساد (ثُمَّ سُئِلُوا) من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة والرجفة الهائلة (الْفِتْنَةَ) أى الردة والرجعة إلى الكفر مكان ما سئلوا الآن من الإيمان والطاعة (لَآتَوْها) لأعطوها غير مبالين بما دهاهم من الداهية الدهياء والغارة الشعواء وقرىء لأتوها بالقصر أى لفعلوها وجاءوها (وَما تَلَبَّثُوا بِها) بالفتنة أى ما ألبثوها وما أخروها (إِلَّا يَسِيراً) ريثما يسع* السؤال والجواب من الزمان فضلا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها كما فعلوا الآن وقيل ما لبثوا بالمدينة بعد الارتداد إلا يسيرا والأول هو اللائق بالمقام هذا وأما تخصيص فرض الدخول بتلك العساكر المتحزبة فمع منافاته للعموم المستفاد من تجريد الدخول عن الفاعل ففيه ضرب من فساد الوضع لما عرفت من أن مساق النظم الكريم لبيان أنهم إذا دعوا إلى الحق تعللوا بشىء يسيروان دعوا إلى الباطل سارعوا إليه آثر ذى أثير من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم ففرض الدخول عليهم من جهة العساكر المذكورة وإسناد سؤال الفتنة والدعوة إلى الكفر إلى طائفة أخرى مع أن العساكرهم المعروفون بعداوة الدين المباشرون لقتال المؤمنين المصرون على الإعراض عن الحق المجدون فى الدعاء إلى الكفر والضلال بمعزل من التقريب (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) فإن بنى حارثة عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حين فشلوا أن لا يعودوا لمثله وقيل هم قوم غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) مطلوبا مقتضى حتى يوفى به وقيل مسئولا عن الوفاء به ومجازى عليه (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنف أو قتل سيف فى وقت معين سبق به القضاء وجرى عليه القلم (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أى وإن نفعكم الفرار مثلا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ

٩٥

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً) (٢٠)

____________________________________

رَحْمَةً) أى أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام أو حمل الثانى على الأول لما فى العصمة من معنى المنع (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) ينفعهم (وَلا نَصِيراً) يدفع عنهم الضرر (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أى المثبطين للناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم المنافقون (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) من منافقى المدينة (هَلُمَّ إِلَيْنا) وهو صوت سمى به فعل متعد نحوا حضر أو قرب ويستوى فيه الواحد والجماعة على لغة أهل الحجاز وأما بنو تميم فيقولون هلم يا رجل وهلموا يا رجال أى قربوا أنفسكم إلينا وهذا يدل على أنهم عند هذا القول خارجون من* المعسكر متوجهون نحو المدينة (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أى الحراب والقتال (إِلَّا قَلِيلاً) أى إتيانا أو زمانا أو بأسا قليلا فإنهم يعتذرون ويثبطون ما أمكن لهم ويخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم ولا تراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه كقوله تعالى (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) وقيل إنه من تتمة كلامهم معناه ولا يأتى أصحاب محمد حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلا قليلا (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أى بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة فى سبيل الله أو الظفر والغنيمة جمع شحيح ونصبه على الحالية من فاعل يأتون أو* من المعوقين أو على الذم (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) فى أحداقهم (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) صفة لمصدر ينظرون أو حال من فاعله أو لمصدر تدور أو حال من أعينهم أى ينظرون نظرا كائنا كنظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا ولواذا بك أو ينظرون* كائنين كالذى الخ أو تدور أعينهم دورانا كائنا كدوران عينه أو تدور أعينهم كائنة كعينه (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وحيزت الغنائم (سَلَقُوكُمْ) ضربوكم (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) وقالوا وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبمكاننا غلبتم عدوكم وبنا نصرتم عليه والسلق البسط بقهر باليد أو باللسان وقرىء صلقوكم (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) نصب على الحالية أو الذم ويؤيده القراءة بالرفع (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من صفات السوء (لَمْ يُؤْمِنُوا) بالإخلاص (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أى أظهر بطلانها إذ لم يثبت لهم أعمال* فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هينا وتخصيص يسره بالذكر مع أن كل شىء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم حقيقة بأن يظهر حبوطها لكمال تعاضد الدواعى وعدم الصوارف بالكلية (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أى هؤلاء

٩٦

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٢٢)

____________________________________

لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ففروا إلى داخل المدينة (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة ثانية (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب وقرىء بدى جمع باد كغاز وغزى (يَسْئَلُونَ) كل قادم من جانب المدينة وقرىء يساءلون أى يتساءلون ومعناه يقول بعضهم لبعض ما ذا سمعت ما ذا بلغك أو يتساءلون الأعراب كما يقال رأيت الهلال وتراءيناه فإن صيغة التفاعل قد تجرد عن معنى كون ما أسندت إليه فاعلا من وجه ومفعولا من وجه ويكتفى بتعدد الفاعل كما فى المثال المذكورة ونظائره (عَنْ أَنْبائِكُمْ) عما جرى عليكم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) رياء وخوفا من التعيير (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) خصلة حسنة حقها أن يؤتسى بها كالثبات فى الحرب ومقاساة الشدائد أو هو فى نفسه قدوة يحق التأسى به كقولك فى البيضة عشرون منا حديدا أى هى فى نفسها هذا القدر من الحديد وقرىء بكسر الهمزة وهى لغة فيها (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أى ثواب الله أو لقاءه أو أيام الله واليوم الآخر خصوصا وقيل هو مثل قولك أرجو زيدا وفضله فإن اليوم الآخر من أيام الله تعالى ولمن كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدل من لكم والأكثرون على أن ضمير المخاطب لا يبدل منه (وَذَكَرَ اللهَ) أى وقرن بالرجاء ذكر الله (كَثِيراً) أى ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا فإن المثابرة على ذكره تعالى تؤدى إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الائتساء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) بيان لما صدر عن خلص المؤمنين عند اشتباه الشئون واختلاف الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم أى لما شاهدوهم حسبما وصفوا لهم (قالُوا هذا) مشيرين إلى ما شاهدوه من حيث هو من غير أن يخطر ببالهم لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ كما مر فى قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) وجعله إشارة إلى الخطب أو البلاء من نتائج النظر الجليل فتدبر نعم يجوز التذكير باعتبار الخبر الذى هو (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) فإن ذلك العنوان أول ما يخطر ببالهم عند المشاهدة ومرادهم بذلك ما وعدوه بقوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) إلى قوله تعالى (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر وقرىء بكسر الراء وفتح الهمزة (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أى ظهر صدق خبر الله تعالى ورسوله أو صدقا فى النصرة والثواب كما صدقا فى البلاء وإظهار الاسم للتعظيم (وَما زادَهُمْ) أى ما رأوه (إِلَّا إِيماناً) بالله تعالى وبمواعيده

٩٧

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢٣)

____________________________________

(وَتَسْلِيماً) لأوامره ومقاديره (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أى المؤمنين بالإخلاص مطلقا لا الذين حكيت محاسنهم خاصة (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) من الثبات مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقاتلة لأعداء الدين وهم رجال من الصحابة رضى الله عنهم نذروا أنهم إذا لقو حربا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وحمزة ومصعب ابن عمير وأنس بن النضر وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومعنى صدقوا أتوا بالصدق من صدقنى إذا قال لك الصدق ومحل ما عاهدوا النصب إما بطرح الخافض عنه وإيصال الفعل إليه كما فى قولهم صدقنى سن بكره أى فى سنه وإما بجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز كأنهم خاطبوه خطاب من قال لكرمائه [نحرتنى الأعداء إن لم تنحرى] وقالوا له سنفى بك وحيث وفوا به فقد صدقوه ولو كانوا نكثوه* لكذبوه ولكان مكذوبا (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) تفصيل لحال الصادقين وتقسيم لهم إلى قسمين والحب النذر وهو أن يلتزم الإنسان شيئا من أعماله ويوجبه على نفسه وقضاؤه الفراغ منه والوفاء به ومحل الجار والمجرور الرفع على الابتداء على أحد الوجهين المذكورين فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الآية أى فبعضهم أو فبعض منهم من خرج عن العهدة كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر عم أنس ابن مالك وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فإنهم قد قضوا نذورهم سواء كان النذر على حقيقته بأن يكون ما نذروه أفعالهم الاختيارية التى هى المقاتلة المغياة بما ليس منها ولا يدخل تحت النذر* وهو الموت شهيدا أو كان مستعارا لالتزامه على ما سيأتى (وَمِنْهُمْ) أى وبعضهم أو وبعض منهم (مَنْ يَنْتَظِرُ) أى قضاء نحبه لكونه موقتا كعثمان وطلحة وغيرهما ممن استشهد بعد ذلك رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فإنهم مستمرون على نذورهم قد قضوا بعضها وهو الثبات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقتال إلى حين نزول الآية الكريمة ومنتظرون لقضاء بعضها الباقى وهو القتال إلى الموت شهيدا هذا ويجوز أن يكون النحب مستعارا لالتزام الموت شهيدا إما بتنزيل النزام أسبابه التى هى أفعال اختيارية للناذر منزلة الالتزام نفسه وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه وإيراد الالتزام عليه وهو الأنسب بمقام المدح وأيا ما كان ففى وصفهم بالانتظار المنبىء عن الرغبة فى المنتظر شهادة حقة بكمال اشتياقهم إلى الشهادة وأما ما قيل من أن النحب استعير للموت لأنه كنذر لازم فى رقبة كل حيوان فمسخ للاستعارة* وذهاب برونقها وإخراج للنظم الكريم عن مقتضى المقام بالكلية (وَما بَدَّلُوا) عطف على صدقوا وفاعله* فاعله أى وما بدلوا عهدهم وما غيروه (تَبْدِيلاً) أى تبديلا مالا أصلا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون أما الذين قضوا فظاهر وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق شهادة وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثانى لهم فى الحكم

٩٨

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) (٢٥)

____________________________________

ويجوز أن يكون ضمير بدلوا للمنتظرين خاصة بناء على أن المحتاج إلى البيان حالهم وقد روى أن طلحة رضى الله عنه ثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوجب طلحة الجنة وفى رواية أوجب طلحة وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى رواية جابر رضى الله عنه من سره أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله وفى رواية عائشة رضى الله عنها من سره أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة وهذا يشير إلى أنه من الأولين حكما (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) متعلق بمضمر مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكى من الأحوال والأقوال على التفصيل وغاية له كما مر فى قوله تعالى (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) كأنه قيل وقع جميع ما وقع ليجزى الله الصادقين بما صدر عنهم من الصدق والوفاء قولا وفعلا (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية (إِنْ شاءَ) تعذيبهم (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إن تابوا وقيل متعلق بما قبله من نفى التبديل المنطوق وإثباته المعرض به كأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى وقيل تعليل لصدقوا وقيل لما يفهم من قوله تعالى (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) وقيل لما يستفاد من قوله تعالى (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) كأنه قيل ابتلاهم الله تعالى برؤية ذلك الخطب ليجزى الآية فتأمل وبالله التوفيق (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أى لمن تاب وهو اعتراض فيه بعث إلى التوبة وقوله تعالى (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل تتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله تعالى (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) معطوف إما على المضمر المقدر قبل قوله تعالى (لِيَجْزِيَ اللهُ) كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الخ وإما على أرسلنا وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت بها العقول والأفهام وداهية تامة تحاكت منها الركب وزلت الأقدام وتفصيل ما صدر عن فريقى أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الذين كفروا والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى (بِغَيْظِهِمْ) حال من الموصول أى ملتبسين به وكذا قوله تعالى (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) بتداخل أو تعاقب أى غير ظافرين بخير أو الثانية بيان للأولى أو استئناف (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بما ذكر من إرسال الريح والجنود (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على إحداث كل ما يريد (عَزِيزاً)

٩٩

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٢٨)

____________________________________

غالبا على كل شىء (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أى عاونوا الأحزاب المردودة (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم بنو قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) من حصونهم جميع صيصية وهى ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبى وشوكة الديك (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف الشديد بحيث أسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم* للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلا عن المخالفة والاستعصاء روى أن جبريل عليه‌السلام أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صبيحة الليلة التى انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا السلاح فقال أتنزع لأمتك والملائكة ما وضعوا السلاح إن الله يأمرك أن تسير إلى بنى قريظة وأنا عامد إليهم فأذن فى الناس أن لا يصلوا العصر إلا ببنى قريظة فحاصروهم إحدى وعشرين أو خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم تنزلون على حكمى فأبوا فقال على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم ونسائهم فكبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فقتل منهم ستمائة مقاتل وقيل من ثمانمائة إلى تسعمائة وأسر سبعمائة وقرىء تأسرون بضم السين كما قرىء الرعب بضم العين ولعل تأخير المفعول فى الجملة الثانية مع أن مساق الكلام لتفصيله وتقسيمه كما فى قوله تعالى (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وقوله تعالى (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) لمراعاة الفواصل (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) أى حصونهم (وَأَمْوالَهُمْ) نقودهم وأثاثهم ومواشيهم روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار فى ذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنكم فى منازلكم فقال عمر رضى الله عنه أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إنما جعلت هذه لى طعمة دون الناس قالوا رضينا بما صنع الله ورسوله (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أى أورثكم فى علمه وتقديره أرضا لم تقبضوها بعد كفارس والروم وقيل كل أرض تفتح إلى يوم القيامة وقيل خيبر (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) فقد شاهدتم بعض مقدوراته من إيراث الأراضى التى تسلمتموها فقيسوا عليها ما عداها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أى السعة والتنعم فيها (وَزِينَتَها) وزخافها (فَتَعالَيْنَ) أى أقبلن بارادتكن واختيار كن لأحدى الخصلتين كما يقال أقبل يخاصمنى وذهب يكلمنى وقام يهددنى (أُمَتِّعْكُنَّ) بالجزم جوابا للأمر وكذا (وَأُسَرِّحْكُنَّ) أى أعطكن المتعة وأطلقكن (سَراحاً جَمِيلاً) طلاقا من غير ضرار وقرىء بالرفع على الاستئناف روى أنهن سألنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت فبدأ بعائشة

١٠٠