تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣٧)

____________________________________

اختلاف أهوائهم وفائدة الإبدال التحذير عن الانتماء إلى حزب من أحزاب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين وقرىء فارقوا أى تركوا دينهم الذى أمروا به (وَكانُوا شِيَعاً) أى فرقا تشايع كل* منها إمامها الذى أضلها (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) من الدين المعوج المؤسس على الرأى الزائغ والزعم الباطل (فَرِحُونَ) مسرورون ظنا منهم أنه حق وأنى له ذلك فالجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق* دينهم وكونهم شيعا وقد جوز أن يكون فرحون صفة لكل على أن الخبر هو الظرف المقدم أعنى من الذين فرقوا ولا يخفى بعده (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) أى شدة (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه من دعاء غيره (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) خلاصا من تلك الشدة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ) الذى كانوا دعوه منيبين إليه (يُشْرِكُونَ) أى فاجأ فريق منهم الإشراك وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا* كذلك كما فى قوله تعالى (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أى مقيم على الطريق القصد أو متوسط فى الكفر لانزجاره فى الجملة (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر التهديدى كقوله تعالى (فَتَمَتَّعُوا) غير أنه التفت فيه للمبالغة وقرىء وليتمتعوا (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة تمتعكم وقرىء بالياء على أن تمتعوا ماض والالتفات إلى الغيبة فى قوله تعالى (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ) للإيذان بالإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة (سُلْطاناً) أى حجة واضحة وقيل ذا سلطان أى ملكا معه برهان (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) تكلم دلالة كما فى قوله تعالى (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أو تكلم نطق (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) باشراكهم به تعالى أو بالأمر الذى بسببه يشركون (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أى نعمة من صحة وسعة (فَرِحُوا بِها) بطرا وأشرا لا حمدا وشكرا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بشؤم معاصيهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) فاجئوا القنوط من رحمته تعالى وقرىء بكسر النون (أَوَلَمْ يَرَوْا) أى ألم ينظروا ولم يشاهدوا (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا فى السراء والضراء كالمؤمنين (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيستدلون

٦١

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١)

____________________________________

بها على كمال القدرة والحكمة (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) من الصلة والصدقة وسائر المبرات (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ما يستحقانه والخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لمن بسط له كما تؤذن به الفاء (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ذاته أو جهته ويقصدون بمعروفهم إياه تعالى خالصا أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) زيادة خالية عن العوض عند المعاملة وقرىء أتيتم بالقصر أى غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ليزيد ويزكو فى أموالهم (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أى لا يبارك فيه وقرىء لتربوا أى لتزيدوا أو لتصيروا ذوى ربا* (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أى تبتغون به وجهه تعالى خالصا (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أى ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوى والموسر لذى القوة واليسار أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم بالبركة وقرىء بفتح العين وفى تغيير النظم الكريم والالتفات من الجزالة ما لا يخفى (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أثبت له تعالى لوازم الألوهية وخواصها ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار* على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق ثم استنتج منه تنزهه عن الشركاء بقوله تعالى (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقد جوز أن يكون الموصول صفة والخبر هل من شركائكم والرابط قوله تعالى (مِنْ ذلِكُمْ) لأنه بمعنى من أفعاله ومن الأولى والثانية تفيدان شيوع الحكم فى جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفى وكل منها مستقلة بالتأكيد وقرىء تشركون بصيغة الخطاب (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة* المضار أو الضلالة والظلم وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرى البحور (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياها وقيل ظهر الفساد فى البر بقتل قابيل أخاه هابيل وفى البحر بأن جلندى

٦٢

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٤٦)

____________________________________

كان يأخذ كل سفينة غصبا (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أى بعض جزائه فإن إتمامه فى الآخرة واللام للعلة أو للعاقبة وقرىء لنذيقهم بالنون (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما كانوا عليه (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) ليشاهدوا آثارهم (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) استئناف للدلالة على أن ما أصابهم لفشو الشرك فيما بينهم أو كان الشرك فى أكثرهم وما دونه من المعاصى فى قليل منهم (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) أى البليغ الاستقامة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) لا يقدر أحد على ارده (مِنَ اللهِ) متعلق بيأتى أو بمرد لأنه مصدر والمعنى لا يرده الله تعالى لتعلق إرادته القديمة بمجيئه (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أصله يتصدعون أى يتفرقون فريق فى الجنة وفريق فى السعير (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أى وبال كفره وهو النار المؤبدة (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أى يسوون منزلا فى الجنة وتقديم الظرف فى الموضعين للدلالة على الاختصاص (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) متعلق بيصدعون وقيل بيمهدون أى يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين ليجزى كلا منهما بحسب أعمالهم وحيث كان جزاء المؤمنين هو المقصود بالذات أبرز ذلك فى معرض الغاية وعبر عنه بالفضل لما أن الإثابة بطريق التفضل لا الوجوب وأشير إلى جزاء الفريق الآخر بقوله تعالى (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فإن عدم محبته تعالى كناية* عن بغضه الموجب لغضبه المستتبع للعقوبة لا محالة (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) أى الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا وقرىء الريح على إرادة الجنس (مُبَشِّراتٍ) بالمطر (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) وهى المنافع التابعة لها* وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذى هو مع هبوبها واللام متعلقة بيرسل والجملة معطوفة على مبشرات على المعنى كأنه قيل ليبشركم بها وليذيقكم أو بمحذوف يفهم من ذكر الإرسال تقديره وليذيقكم وليكون كذا وكذا يرسلها لا لأمر آخر لا تعلق له بمنافعكم (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) بسوقها* (بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بتجارة البحر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولتشكروا نعمة الله فيما ذكر من

٦٣

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥٠)

____________________________________

الغايات الجليلة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) كما أرسلناك إلى قومك (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى جاء كل رسول قومه بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك والفاء فى قوله تعالى (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) فصيحة أى فكذبوهم فانتقمنا منهم وإنما وضع موضع ضميرهم الموصول للتنبيه على مكان* المحذوف والإشعار بكونه علة للانتقام وفى قوله تعالى (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الانتقام من الكفرة لأجله وقد يوقف على حقا على أنه متعلق بالانتقام ولعل توسيط الآية الكريمة بطريق الاعتراض بين ما سبق وما لحق من أحوال الرياح وأحكامها لإنذار الكفرة وتحذيرهم عن الإخلال بمواجب الشكر المطلوب بقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بمقابلة النعم المعدودة المنوطة بإرسالها كيلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك الأمم من الانتقام (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) استئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سبق من أحوال الرياح (فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ) متصلا تارة (فِي السَّماءِ) فى جوها (كَيْفَ يَشاءُ) سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) تارة أخرى أى قطعا وقرىء بسكون السين على أنه مخفف جمع كسفة أو مصدر وصف به (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) فى التارتين (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أى بلادهم وأراضيهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) فاجئوا الاستبشار بمجىء الخصب (وَإِنْ كانُوا) إن مخففة من إن وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف أى وإن الشأن كانوا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أى المطر (مِنْ قَبْلِهِ) تكرير للتأكيد والإيذان بطول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم منه وقيل الضمير للمطر أو السحاب أو الإرسال وقيل للكسف على القراءة بالسكون وليس بواضح وأقرب من ذلك أن يكون الضمير للاستبشار ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعة تقلب قلوبهم من اليأس إلى الاستبشار بالإشارة إلى غاية تقارب زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالتنزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية (لَمُبْلِسِينَ) خبر كانوا واللام فارقة أى آيسين (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) المترتبة على تنزيل المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه وقرىء أثر

٦٤

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٥٣)

____________________________________

بالتوحيد وقوله تعالى (كَيْفَ يُحْيِ) أى الله تعالى (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فى حيز النصب بنزع الخافض وكيف* معلق لانظر أى فانظر إلى إحيائه البديع للأرض بعد موتها وقيل على الحالية بالتأويل وأيا ما كان فالمراد بالأمر بالنظر التنبيه على عظم قدرته تعالى وسعة رحمته مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث وقرىء تحيى بالتأنيث على الإسناد إلى ضمير الرحمة (إِنَّ ذلِكَ) العظيم الشأن الذى ذكر بعض شئونه (لَمُحْيِ الْمَوْتى) * لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان فى مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية أو لمحييهم البتة وقوله تعالى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل* مقرر لمضمون ما قبله أى مبالغ فى القدرة على جميع الأشياء التى من جملتها إحياؤهم لما أن نسبة قدرته إلى الكل سواء (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ) أى الأثر المدلول عليه بالآثار أو النبات المعبر عنه بالآثار فإنه اسم جنس يعم القليل والكثير (مُصْفَرًّا) بعد خضرته وقد جوز أن يكون الضمير للسحاب لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر ولا يخفى بعده واللام فى لئن موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط والفاء فى فرأوه فصيحة واللام فى قوله تعالى (لَظَلُّوا) لام جواب القسم ساد مسد الجوابين أى وبالله لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفرا ليظلن (مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) من غير تلعثم وفيه من ذمهم بعد* تثبيتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفى الإفراط والتفريط مالا يخفى حيث كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله تعالى فى كل حال ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم القطر ولا ييأسوا من روح الله تعالى ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولا يفرطوا فى الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه فعكسوا الأمر وأبوا ما يجديهم وأتوا بما يرديهم (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) لما أنهم مثلهم لانسداد مشاعرهم عن الحق (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) * تقييد الحكم بما ذكر لبيان كمال سوء حال الكفرة والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتى السوء نبو أسماعهم عن الحق وإعراضهم عن الإصغاء إليه ولو كان فيهم إحداهما لكفاهم ذلك فكيف وقد جمعوهما فإن الأصم المقبل إلى المتكلم ربما يفطن من أوضاعه وحركاته لشىء من كلامه وإن لم يسمعه أصلا وأما إذا كان معرضا عنه فلا يكاد يفهم منه شيئا وقرىء بالياء المفتوحة ورفع الصم (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) سموا عميا إما لفقدهم المقصود الحقيقى من الإبصار أو لعمى قلوبهم وقرىء تهدى العمى (إِنْ تُسْمِعُ) أى ما تسمع (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) فإن إيمانهم يدعوهم إلى التدبر فيها وتلقيها بالقبول أو إلا من يشارف الإيمان بها ويقبل عليها إقبالا لائقا (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون لما تأمرهم به من الحق

٦٥

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧)

____________________________________

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) مبتدأ وخبر أى ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أى خلقكم من أصل ضعيف هو النطفة (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بأبدانكم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) إذا أخذ منكم السن وقرىء بضم الضاد فى الكل وهو أقوى لقول ابن عمر رضى الله عنهما قرأتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقرأنى من ضعف وهما لغتان كالفقر والفقر والتنكير مع التكرير لأن المتقدم غير المتأخر (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الأشياء التى من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) المبالغ فى العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأطوار المختلفة من أوضح دلائل العلم والقدرة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أى القيامة سميت بها لأنها تقوم فى آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما لها كالنجم للثريا والكوكب للزهرة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) أى فى القبور أو فى الدنيا والأول هو الأظهر لأن لبثهم مغيا بيوم البعث كما سيأتى وليس لبثهم فى الدنيا كذلك وقيل فيما بين فناء الدنيا والبعث وانقطاع عذابهم وفى الحديث ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام وقيل لا يعلم أهى أربعون سنة أو أربعون ألف سنة (غَيْرَ ساعَةٍ) استقلوا مدة لبثهم نسيانا أو كذبا أو تخمينا (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون فى الدنيا عن الحق والصدق (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) فى الدنيا من الملائكة والإنس (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) فى علمه أو قضائه أو ما كتبه وعينه أو فى اللوح أو* القرآن وهو قوله تعالى (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) ردوا بذلك ما قالوه وأيدوه باليمين كأنهم من فرط حيرتهم لم يدروا أن ذلك هو البعث الموعود الذى كانوا ينكرونه وكانوا يسمعون أنه يكون بعد فناء الخلق كافة ويقدرون لذلك زمانا مديدا وإن لم يعتقدوا تحققه فرد العالمون مقالتهم ونبهوهم على أنهم لبثوا إلى غاية بعيدة كانوا يسمعونها وينكرونها وبكتوهم بالإخبار بوقوعها حيث قالوا (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذى كنتم توعدون فى الدنيا (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق فتستعجلون به استهزاء والفاء جواب شرط محذوف كما فى قول من قال [قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا * ثم القفول فقد جئنا خراسانا] (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) أى عذرهم وقرىء تنفع بالتاء محافظة على ظاهر اللفظ وإن توسط

٦٦

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠)

____________________________________

بينهما فاصل (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يدعون إلى ما يقتضى إعتابهم أى إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إليه فى الدنيا من قولهم استعتبنى فلان فأعتبته أى استرضانى فأرضيته (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أى وبالله لقد بينا لهم كل حال ووصفنا لهم كل صفة كأنها فى غرابتها مثل وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم وما يقولون وما يقال لهم ويفعل بهم من رد اعتذارهم (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) من آيات القرآن الناطقة بأمثال ذلك (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) لفرط عتوهم وعنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أى مزورون (كَذلِكَ) مثل ذلك الطبع الفظيع (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق (فَاصْبِرْ) على ما تشاهد منهم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) وقد وعدك بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولا بد من إنجازه والوفاء به لا محالة (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) لا يحملنك على الخفة والقلق (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباطيلهم التى من جملتها قولهم إن أنتم إلا مبطلون فإنهم شاكون ضالون ولا يستبعد منهم أمثال ذلك وقرىء بالنون المخففة وقرىء ولا يستحقنك من الاستحقاق أى لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين وأيا ما كان فظاهر النظم الكريم وإن كان نهيا للكفرة عن استخفافه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستحقاقه لكنه فى الحقيقة نهى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التأثر من استخفافهم والافتتان بفتنتهم على طريق الكناية كما فى قوله تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا). عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك يسبح الله تعالى بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع فى يومه وليلته.

٦٧

٣١ ـ سورة لقمان

مكية وهى أربع وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦)

____________________________________

(سورة القمان)

(مكية وقيل إلا (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فإن وجوبهما بالمدينة وهو ضعيف لأنه ينافى شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثا من قوله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) وهى أربع وثلاثون آية) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) سلف بيانه فى نظائره (الْحَكِيمِ) أى ذى الحكمة لاشتماله عليها أو هو وصف له بنعته تعالى أو أصله الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستكن فى الصفة المشبهة وقيل الحكيم فعيل بمعنى مفعل كما قالوا أعقدت اللبن ٣ فهو عقيد أى معقد وهو قليل وقيل بمعنى فاعل (هُدىً وَرَحْمَةً) بالنصب على الحالية من الآيات والعامل فيهما معنى الإشارة وقرئا بالرفع على أنهما خبران آخران لاسم الإشارة أو لمبتدأ محذوف (لِلْمُحْسِنِينَ) ٤ أى العاملين للحسنات فإن أريد بها مشاهيرها المعهودة فى الدين فقوله تعالى (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بيان لما عملوها من الحسنات على طريقة قوله[الألمعى الذى يظن بك ال * ظن كأن قد رأى وقد سمعا] وإن أريد بها جميع الحسنات فهو تخصيص لهذه الثلاث بالذكر من بين سائر شعبها لإظهار فضلها وإنافتها على غيرها وتخصيص الوجه الأول بصورة كون الموصول صفة ٥ للمحسنين والوجه الأخير بصورة كونه مبتدأ مما لا وجه له (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بكل مطلوب والناجون من كل مهروب لحيازتهم قطرى العلم والعمل وقد مر ما فيه ٦ من المقال فى مطلع سورة البقرة بما لا مزيدة عليه (وَمِنَ النَّاسِ) محله الرفع على الابتداء باعتبار مضمونه

٦٨

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) (٨)

____________________________________

أو بتقدير الموصوف ومن فى قوله تعالى (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) موصولة أو موصوفة محلها الرفع على* الخبرية والمعنى وبعض الناس أو وبعض من الناس الذى يشترى أو فريق يشترى على أن مناط الإفادة والمقصود بالإصالة هو اتصافهم بما فى حيز الصلة أو الصفة لا كونهم ذوات أولئك المذكورين كما مر فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآيات و (لَهْوَ الْحَدِيثِ) ما يلهى عما يعنى من المهمات كالأحاديث التى لا أصل لها والأساطير التى لا اعتداد بها والمضاحك وسائر ما لا خير فيه من فضول الكلام والإضافة بمعنى من التبيينة إن أريد بالحديث المنكر وبمعنى التبعيضية إن أريد به الأعم من ذلك وقيل نزلت الآية فى النضر بن الحرث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشا ويقول إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة وقيل كان يشترى القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ومنعه عنه (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى دينه الحق الموصل إليه تعالى أو عن قراءة كتابه* الهادى إليه تعالى وقرىء ليضل بفتح الياء أى ليثبت ويستمر على ضلاله أو ليزداد فيه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل الشر البحت بالخير المحض (وَيَتَّخِذَها) بالنصب عطفا على يضل والضمير للسبيل فإنه مما يذكر ويؤنث وهو دين الإسلام أو القرآن أى ويتخذها (هُزُواً) مهزوا به وقرىء ويتخذها بالرفع عطفا على يشترى وقوله تعالى (أُولئِكَ) إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها* كما أن الإفراد فى الفعلين باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بذكر المشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم فى الشرارة أى أولئك الموصوفون بما ذكر من الاشتراء للإضلال (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لما اتصفوا به من إهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه وترغيب الناس فيه (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ) أى على المشترى ٧ أفرد الضمير فيه وفيما بعده كالضمائر الثلاثة الأول باعتبار لفظة من بعد ما جمع فيما بينهما باعتبار معناها (آياتُنا) التى هى آيات الكتاب الحكيم وهدى ورحمة للمحسنين (وَلَّى) أعرض عنها غير معتد بها (مُسْتَكْبِراً) مبالغا فى التكبر (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) حال من ضمير ولى أو من ضمير مستكبرا والأصل* كأنه فحذف ضمير الشأن وخففت المثقلة أى مشبها حاله حال من لم يسمعها وهو سامع وفيه رمز إلى أن من سمعها لا يتصور منه التولية والاستكبار لما فيها من الأمور الموجبة للإقبال عليها والخضوع لها على طريقة قول من قال [كأنك لم تجزع على ابن طريف] (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) حال من ضمير (لَمْ يَسْمَعْها) * أى مشبها حاله حال من فى أذنيه ثقل مانع من السماع ويجوز أن يكونا استئنافين وقرىء فى أذنيه بسكون الذال (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أى فأعلمه بأن العذاب المفرط فى الإيلام لا حق به لا محالة وذكر البشارة للتهكم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان لحال المؤمنين بآياته تعالى إثر بيان حال الكافرين بها أى الذين آمنوا بآياته تعالى وعملوا بموجبها (لَهُمْ) بمقابلة ما ذكر من إيمانهم وأعمالهم (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) أى

٦٩

(خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١)

____________________________________

نعيم جنات فعكس للمبالغة والجملة خبر إن والأحسن أن يجعل لهم هو الخبر لأن وجنات النعيم مرتفعا به على الفاعلية وقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها) حال من الضمير فى (لَهُمْ) أو من (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) لاشتماله على ضميريهما والعامل ما تعلق به اللام (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان الأول لنفسه والثانى لغيره لأن قوله تعالى (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) فى معنى وعدهم الله جنات النعيم فأكد معنى الوعد بالوعد وأما حقا فدال على معنى الثبات أكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنات النعيم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذى لا يغلبه شىء ليمنعه من إنجاز وعده أو تحقيق وعيده (الْحَكِيمُ) الذى لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) الخ استئناف مسوق للاستشهاد بما فصل فيه على عزته تعالى التى هى كمال القدرة وحكمته التى هى كمال العلم وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال أمر الإشراك وتبكيت أهله والعمد جمع عماد كأهب جمع إهاب وهو ما يعمد به أى يسند يقال عمدت الحائط إذا دعمته أى بغير دعائم على أن الجمع* لتعدد السموات وقوله تعالى (تَرَوْنَها) استئناف جىء به للاستشهاد على ما ذكر من خلقه تعالى لها غير معهودة بمشاهدتهم لها كذلك أو صفة لعمد أى خلقها بغير عمد مرئية على أن التقييد للرمز إلى أنه تعالى* عمدها بعمد لا ترونها هى عمد القدرة (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) بيان لصنعه البديع فى قرار الأرض إثر بيان صنعه الحكيم فى قرار السموات أى ألقى فيها جبالا ثوابت وقد مر ما فيه من الكلام فى سورة* الرعد (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميل بكم فإن بساطة أجزائها تقتضى تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشىء من لوازمه بحيز معين ووضع مخصوص (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) من كل نوع من أنواعها (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها) بسبب ذلك الماء (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) من كل صنف كثير المنافع والالتفات إلى نون العظمة فى الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بأمرها (هذا) أى ما ذكر من السموات والأرض وما تعلق بهما من الأمور المعدودة (خَلْقُ اللهِ) أى مخلوقه (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه فى العبادة حتى استحقوا به المعبودية وماذا نصب* بخلق أو ما مرتفع بالابتداء وخبره ذا بصلته وأرونى متعلق به وقوله تعالى (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إضراب عن تبكيتهم بما ذكر إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعى للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة لاستحالة أن يفهموا منها شيئا فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه ووضع الظاهر موضع ضميرهم للدلالة على أنهم بإشراكهم

٧٠

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤)

____________________________________

واضعون للشىء فى غير موضعه ومتعدون عن الحدود وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك وهو لقمان بن باعوراء من أولاد آزر ابن أخت أيوب عليه‌السلام أو خالته وعاش حتى أدرك داود عليه‌السلام وأخذ عنه العلم وكان يفتى قبل مبعثه وقيل كان قاضيا فى بنى إسرائيل والجمهور على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا والحكمة فى عرف العلماء استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها ومن حكمته أنه صحب داود عليه‌السلام شهورا وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال نعم لبوس الحرب أنت فقال الصمت حكمة وقليل فاعله فقال له داود عليه‌السلام بحق ما سميت حكيما وأن داود عليه‌السلام قال له يوما كيف أصبحت فقال أصبحت فى يدى غيرى فتفكر داود فيه فصعق صعقة وأنه أمره مولاه بأن يذبح شاة ويأتى بأطيب مضغنين منها فأتى باللسان والقلب ثم بعد أيام أمره بأن يأتى بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال هما أطيب شىء إذا طابا وأخبث شىء إذا خبثا ومعنى (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أى اشكر له تعالى على أن أن مفسرة فإن إيتاء الحكمة فى معنى القول* وقوله تعالى (وَمَنْ يَشْكُرْ) الخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للامتثال بالأمر أى ومن يشكر له تعالى (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن منفعته التى هى ارتباط العتيد واستجلاب المزيد مقصورة عليها (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ) عن كل شىء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر (حَمِيدٌ) حقيق بالحمد وإن* لم يحمده أحد أو محمود بالفعل ينطق بحمده جميع المخلوقات بلسان الحال وعدم التعرض لكونه تعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) أنعم وقيل أشكم وقيل ماثان (وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ) تصغير إشفاق وقرىء يا بنى بإسكان الياء وبكسرها (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قيل كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى أسلم ومن وقف على لا تشرك جعل بالله قسما (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) تعليل للنهى أو للانتهاء عن الشرك (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) الخ كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد فى أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهى عن الشرك وقوله تعالى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) إلى قوله (فِي عامَيْنِ) اعتراض بين المفسر والمفسر وقوله تعالى (وَهْناً) حال من أمه أى ذات وهن أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال أى تهن وهنا

٧١

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور) (١٧)

____________________________________

وقوله تعالى (عَلى وَهْنٍ) صفة للمصدر أى كائنا على وهن أى تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال* يتضاعف ضعفها وقرىء وهنا على وهن بالتحريك يقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أى فطامه فى تمام عامين وهى مدة الرضاع عند الشافعى وعند أبى حنيفة رحمهما‌الله تعالى هى* ثلاثون شهرا وقد بين وجهه فى موضعه وقرىء وفصله (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) تفسير لوصينا وما بينهما اعتراض مؤكد للوصية فى حقها خاصة ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن قال له من أبر : أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك ثم أباك (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) تعليل لوجوب الامتثال أى إلى الرجوع لا إلى غيرى فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ) أى بشركته له تعالى فى استحقاق العبادة (عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) فى ذلك (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أى صحابا معروفا يرتضيه الشرع وتقتضيه المروءة (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) بالتوحيد والإخلاص فى الطاعة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أى مرجعك ومرجعهما ومرجع من أناب إلى (فَأُنَبِّئُكُمْ) عند رجوعكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أجازى كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر وقوله تعالى (يا بُنَيَّ) الخ شروع فى حكاية بقية وصايا لقمان إثر تقرير ما فى مطلعها من النهى عن الشرك وتأكيده بالاعتراض (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أى إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان إن تك مثلا فى الصغر كحبة الخردل وقرىء برفع مثقال على أن الضمير للقصة وكان تامة والتأنيث لإضافة المثقال إلى الحبة كما فى قول من قال [كما شرقت صدر القناة من الدم] أو لأن المراد به الحسنة أو السيئة (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أى فتكن مع كونها فى أقصى غايات الصغر والقماءة فى أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت فى العالم* العلوى أو السفلى (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أى يحضرها ويحاسب عليها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه إلى كل خفى (خَبِيرٌ) بكنهه وبعد ما أمره بالتوحيد الذى هو أول ما يجب على الإنسان فى ضمن النهى عن الشرك ونبهه على كمال علم الله تعالى وقدرته أمره بالصلاة التى هى أكمل العبادات تكميلا له من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد فقال مستميلا له (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) تكميلا لنفسك (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) تكميلا لغيرك (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الشدائد والمحن لا سيما فيما أمرت به (إِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى

٧٢

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٢٠)

____________________________________

كل ما ذكر وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من الإشعار ببعد منزلته فى الفضل (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أى مما عزمه الله تعالى وقطعه على عباده من الأمور لمزيد مزيتها مصدر أطلق على* المفعول وقد جوز أن يكون بمعنى الفاعل من قوله تعالى (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أى جد والجملة تعليل لوجوب الامتثال بما سبق من الأمر والنهى وإيذان بأن ما بعدها ليس بمثابته (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أى لا تمله ولا تولهم صفحة وجهك كما هو ديدن المتكبرين من الصعر وهو الصيد وهو داء يصيب البعير فيلوى منه عنقه وقرىء ولا تصاعر وقرىء ولا تصعر من الإفعال والكل بمعنى مثل علاه وعالاه وأعلاه (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أى فرحا مصدر وقع موقع الحال أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال أى* تمرح مرحا أو لأجل المرح والبطر (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) تعليل للنهى أو موجبه وتأخير الفخور مع كونه بمقابلة المصعر خده عن المختال وهو بمقابلة الماشى مرحا لرعاية الفواصل (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) بعد الاجتناب عن المرح فيه أى توسط بين الدبيب والإسراع وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرعة المشى تذهب بهاء المؤمن وقول عائشة فى عمر رضى الله عنهما كان إذا مشى أسرع فالمراد به ما فوق دبيب المنماوت وقرىء بقطع الهمزة من أقصد الرامى إذا سدد سهمه نحو الرمية (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه واقصر (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أى أوحشها (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) تعليل للأمر على أبلغ وجه وآكده مبنى على* تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالهاق وإفراط فى التحذير عن رفع الصوت والتنفير عنه وإفراد الصوت مع إضافته إلى الجمع لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل بيان حال صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد والمراد بالتسخير إما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من أن يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله حسبما يريد كعامة ما فى الأرض من الأشياء المسخرة للإنسان المستعملة له من الجماد والحيوان أولا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير أن يكون له دخل فى استعماله كجميع ما فى السموات من الأشياء التى نيطت بها مصالح العباد معاشا ومعادا وما جعله منقادا للأمر مذللا على أن معنى لكم

٧٣

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٢٤)

____________________________________

لأجلكم فإن جميع ما فى السموات والأرض من الكائنات مسخر لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق وما يستعمله الإنسان حسبما يشاء وإن كان مسخرا له بحسب الظاهر فهو فى الحقيقة مسخر لله تعالى* (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) محسوسة ومعقولة معروفة لكم وغير معروفة وقد مر شرح النعمة وتفصيلها فى الفاتحة وقرىء أصيغ بالصاد وهو جار فى كل سين قارنت الغين أو الخاء أو القاف كما تقول فى سلخ صلخ وفى سقر صقر وفى سالغ صالغ وقرىء نعمة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) فى توحيده وصفاته (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مستفاد من دليل (وَلا هُدىً) من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أنزله الله سبحانه بل بمجرد التقليد (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أى لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يريدون به عبادة الأصنام (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أى آباءهم لا أنفسهم كما قيل فإن مدار إنكار الاتباع واستبعاده كون المتبوعين تابعين للشيطان لا كون* أنفسهم كذلك أى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) فهم متوجهون إليه حسب دعوته والجملة فى حيز النصب على الحالية وقد مر تحقيقه فى قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) من سورة البقرة بما لا مزيد عليه (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) بأن فوض إليه مجامع أموره وأقبل عليه بكليته وحيث عدى باللام قصد معنى الاختصاص وقرىء بالتشديد* (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أى فى أعماله آت بها جامعة بين الحسن الذاتى والوصفى وقد مر فى آخر سورة النحل (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أى تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهو تمثيل لحال المتوكل المشتغل بالطاعة بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلى منه (وَإِلَى اللهِ) لا إلى أحد غيره (عاقِبَةُ الْأُمُورِ) فيجازيه أحسن الجزاء (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) فإنه لا يضرك فى الدنيا ولا فى الآخرة وقرىء فلا يحزنك من أحزن المنقول من حزن بكسر الزاى وليس بمستفيض (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) لا إلى غيرنا (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) فى الدنيا من الكفر والمعاصى بالعذاب والعقاب والجمع فى الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الإفراد فى الأول باعتبار لفظها (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل للتنبئة المعبر بها عن التعذيب (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) تمتيعا أو زمانا قليلا فإن ما يزول وإن كان بعد أمد

٧٤

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٩)

____________________________________

طويل بالنسبة إلى ما يدوم قليل (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإحراق الضغط والتضييق (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لغاية وضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضا (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) شيئا من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم وقيل لا يعلمون أن ذلك يلزمهم (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يستحق العبادة فيهما غيره (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ) عن العالمين (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد وإن لم يحمده أحد أو المحمود بالفعل يحمده كل مخلوق بلسان الحال (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) أى لو أن الأشجار أقلام وتوحيد الشجرة لما أن المراد تفصيل الآحاد (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد نفاده (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) أى والحال أن البحر المحيط بسعته يمده الأبحر السبعة مدا لا ينقطع أبدا وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ونفدت تلك الأقلام* والمداد كما فى قوله تعالى (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) وقرىء يمده من الإمداد بالياء والتاء وإسناد المد إلى الأبحر السبعة دون البحر المحيط مع كونه أعظم منها وأطم لأنها هى المجاورة للجبال ومنابع المياه الجارية وإليها تنصب الأنهار العظام أولا ومنها ينصب إلى البحر المحيط ثانيا وإيثار جمع القلة فى الكلمات للإيذان بأن ما ذكر لا يفى بالقليل منها فكيف بالكثير (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شىء (حَكِيمٌ) لا يخرج عن علمه وحكمته أمر فلا تنفد كلماته المؤسسة عليهما (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أى إلا كخلقها وبعثها فى سهولة التأتى إذ لا يشغله شأن عن شأن لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية حسبما يفصح عنه قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع كل مسموع (بَصِيرٌ) يبصر كل مبصر لا يشغله علم بعضها عن علم بعض فكذلك الخلق والبعث (أَلَمْ تَرَ) قيل الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل عام لكل أحد ممن يصلح للخطاب وهو الأوفق لما سبق وما لحق أى ألم تعلم علما

٧٥

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٣٠)

____________________________________

* قويا جاريا مجرى الرؤية (أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أى يدخل كل واحد منهما فى الآخر ويضيفه إليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف على يولج والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين فى الآخر متجدد فى كل حين وأما تسخير النيرين فأمر* لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد فى آثاره وقد أشير إلى ذلك حيث قيل (كُلٌّ يَجْرِي) أى بحسب حركته الخاصة وحركته القسرية على المدارات اليومية المتخالفة المتعددة حسب تعدد الأيام جريا مستمرا* (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قدره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامة كما روى عن الحسن رحمه‌الله فإنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذ والجملة على تقدير عموم الخطاب اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد وعلى تقدير اختصاصه به صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجوز أن يكون حالا من الشمس والقمر فإن جريانهما إلى يوم القيامة من جملة ما فى حيز رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وقد جعل جريانهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما فى فلكهما والأجل المسمى عن منتهى دورتهما وجعل مدة الجريان للشمس سنة وللقمر شهرا فالجملة حينئد بيان لحكم تسخيرهما وتنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين فى الآخر وكون ذلك بحسب اختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجها إلى سمت الرأس تزداد القوس التى هى فوق الأرض كبرا فيزداد النهار طولا بانضمام بعض أجزاء الليل إليه إلى أن يبلغ المدار الذى هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى رأس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسى التى هى فوق الأرض تزداد صغرا فيزداد النهار قصرا بانضمام بعض أجزائه إلى الليل إلى أن يبلغ المدار الذى هو أبعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها برج الجدى* وقوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عطف على (أَنَّ اللهَ يُولِجُ) الخ داخل معه فى حيز الرؤية على تقديرى خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير الفائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عزوجل محيطا بجلائل أعماله ودقائقها (ذلِكَ) إشارة إلى ما تلى من الآيات الكريمة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها فى الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) أى بسبب* بيان أنه تعالى هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) أى ولأجل بيان بطلان إلهية ما يدعونه من دونه تعالى لكونها شاهدة بذلك شهادة بينة لا ريب فيها وقرىء بالتاء والتصريح بذلك مع أن الدلالة على اختصاص حقية الإلهية به تعالى مستتبعة للدلالة على بطلان إلهية ما عداه لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد وللإيذان بأن الدلالة على بطلان ما ذكر* ليست بطريق الاستتباع فقط بل بطريق الاستقلال أيضا (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أى وبيان أنه تعالى هو المترفع عن كل شىء المتسلط عليه فإن ما فى تضاعيف الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به تعالى أن بيان هذا وقيل ذلك أى ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص البارى تعالى به بسبب أنه الثابت فى ذاته الواجب من جميع جهاته أو الثابت إلهيته وأنت

٧٦

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣٣)

____________________________________

خبير بأن حقيته تعالى وعلوه وكبرياءه وإن كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الأحكام المعدودة لكن بطلان إلهية الأصنام لا دخل له فى المناطية قطعا فلا مساغ لنظمه فى سلك الأسباب بل هو تعكيس للأمر ضرورة أن الأحكام المذكورة هى المقتضية لبطلانها لا أن بطلانها يقتضيها. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) بإحسانه فى تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وغاية حكمته وشمول إنعامه والباء إما متعلقة بتجرى أو بمقدر هو حال من فاعله أى ملتبسة بنعمته تعالى وقرىء الفلك بضم اللام وبنعمات الله وعين فعلات يجوز فيه الكسر والفتح والسكون (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أى بعض دلائل وحدته وعلمه وقدرته وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) تعليل لما* قبله أى إن فيما ذكر لآيات عظيمة فى ذاتها كثيرة فى عددها لكل من يبالغ فى الصبر على المشاق فيتعب نفسه فى التفكر فى الأنفس والآفاق ويبالغ فى الشكر على نعمائه وهما صفتا المؤمن فكأنه قيل لكل مؤمن (وَإِذا غَشِيَهُمْ) أى علاهم وأحاط بهم (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما وقرىء كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الدواهى والشدائد (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أى مقيم على القصد السوى الذى هو التوحيد أو متوسط فى الكفر لانزجاره فى الجملة (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) غدار فإنه نقض للعهد الفطرى أو رفض لما كان فى البحر والختر أشد الغدر وأقبحه (كَفُورٍ) مبالغ فى كفران نعم الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أى لا يقضى عنه وقرىء لا يجزى من أجزأ إذا أغنى والعائد إلى الموصوف محذوف أى لا يجزى فيه (وَلا مَوْلُودٌ) عطف على (والِدٌ) أو هو مبتدأ خبره (هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزى وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر فى الآخرة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالثواب والعقاب (حَقٌّ) لا يمكن إخلافه أصلا (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أى الشيطان المبالغ فى الغرور بأن يحملكم على المعاصى

٧٧

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤)

____________________________________

بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) علم وقت قيامها لما روى أن الحرث بن عمر وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال متى الساعة وإنى قد ألقيت حباتى فى الأرض فمتى السماء تمطر وحمل امرأتى* ذكر أم أنثى وما أعمل غدا وأين أموت فنزلت وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فى إبانه الذى قدره وإلى محله الذى عينه فى علمه وقرىء ينزل من الإنزال (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى تام أو ناقص (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) من النفوس (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر* وربما تعزم على شىء منهما فتفعل خلافه (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كما لا تدرى فى أى وقت تموت. روى أن ملك الموت مر على سليمان عليهما‌السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل من هذا قال ملك الموت فقال كأنه يريدنى فمر الريح أن تحملنى وتلقينى ببلاد الهند ففعل ثم قال الملك لسليمان عليهما‌السلام كان دوام نظرى إليه تعجبا منه حيث كنت أمرت بأن أقبض روحه بالهند وهو عندك ونسبة العلم إلى الله تعالى والدراية إلى العبد للإيذان بأنه إن أعمل حيله وبذل فى التعرف وسعه لم يعرف ما هو لا حق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه وقرىء بأية أرض وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل فى كلتهن (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم فلا يعزب عن علمه شىء من* الأشياء التى من جملتها ما ذكر (خَبِيرٌ) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة وأعطى من الحسنات عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر.

٧٨

٣٢ ـ سورة السجدة

(مكية وآياتها ثلاثون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣)

____________________________________

(سورة السجدة مكية وهى ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الم) إما اسم للسورة فمحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هذا مسمى بالم والإشارة إليها قبل جريان ذكرها قد عرفت سرها وإما مسرود على نمط التعديد فلا محل له من الإعراب وقوله تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) على الأول خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الثانى خبر لمبتدأ محذوف أى المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب وقيل خبر ل الم أى المسمى به تنزيل الكتاب وقد مر مرارا أن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية قبل فحقها الإخبار بها وقوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) خبر ثالث على* الوجه الأول وثان على الأخيرين وقيل خبر لتنزيل الكتاب فقوله تعالى (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلق بمضمر* هو حال من الضمير المجرور أى كائنا منه تعالى لا بتنزيل لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر والأوجه حينئذ أنه الخبر ولا ريب فيه حال من الكتاب أو اعتراض والضمير فى فيه راجع إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريب فى ذلك أى فى كونه منزلا من رب العالمين ويؤيده قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) فإن قولهم هذا إنكار منهم لكونه من رب العالمين فلا بد أن يكون مورده حكما مقصود الإفادة لا قيدا للحكم بنفى الريب عنه وقد رد عليهم ذلك وأبطل حيث جىء بأم المنقطعة إنكارا له وتعجيبا منه لغاية ظهور بطلانه واستحالة كونه مفترى ثم أضرب عنه إلى بيان حقية ما أنكروه حيث قيل (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) * بإضافة اسم الرب إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أيد ذلك ببيان غايته حيث قيل (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) فإن بيان غاية الشىء وحكمته لا سيما عند* كونها غاية حميدة مستتبعة لمنافع جليلة فى وقت شدة الحاجة إليها مما يقرر وجود الشىء ويؤكده لا محالة ولقد كانت قريش أضل الناس وأحوجهم إلى الهداية بإرسال الرسول وتنزيل الكتاب حيث لم يبعث إليهم

٧٩

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦)

____________________________________

من رسول قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى ما أتاهم من نذير من قبل إنذارك أو من قبل زمانك والترجى معتبر من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى لتنذرهم راجيا لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم واعلم أن ما ذكر من التأييد إنما يتسنى على ما ذكر من كون تنزيل الكتاب مبتدأ وأما على سائر الوجوه فلا تأييد أصلا لأن قوله تعالى (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر رابع على الوجه الأول وخبر ثالث على الوجهين الأخيرين وأياما كان فكونه (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) حكم مقصود الإفادة لا قيد لحكم آخر فتدبر (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) مر بيانه فيما سلف (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أى مالكم إذا جاوزتم رضاه تعالى أحد ينصركم ويشفع لكم ويجيركم من بأسه أى ما لكم سواه ولى ولا شفيع بل هو الذى يتولى مصالحكم وينصركم فى مواطن النصر على أن الشفيع عبارة عن الناصر مجازا فإذا خذلكم لم يبق لكم ولى ولا نصير (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أى ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها فالإنكار على الأول متوجه إلى عدم السماع وعدم التذكر معا وعلى الثانى على عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) قيل يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أى يثبت فى علمه موجودا بالفعل (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أى فى برهة من الزمان متطاولة والمراد بيان طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان وقيل يدبر أمر الحوادث اليومية بإثباتها فى اللوح المحفوظ فينزل بها الملائكة ثم تعرج إليه فى زمان هو كألف سنة مما تعدون فإن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وقيل يقضى قضاء ألف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر وقيل يدبر أمر الدنيا جميعا إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه الأمر كله عند قيامها وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحى ثم لا يعرج إليه خالصا إلا فى مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص وأنت خبير بأن قلة الأعمال الخالصة لا تقتضى بطء عروجها إلى السماء بل قلته وقرىء يعدون بالياء (ذلِكَ) إشارة إلى الله عزوجل باعتبار اتصافه بما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش وإنحصار الولاية والنصرة فيه وتدبير أمر الكائنات على ما ذكر من الوجه البديع وهو مبتدأ خبره ما بعده أى ذلك العظيم الشأن (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فيدبر أمرهما حسبما تقتضيه الحكمة (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره

٨٠