تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٦٣)

____________________________________

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) أى وعدا بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود (فَهُوَ لاقِيهِ) أى مدركه لا محالة لاستحالة الخلف فى وعده تعالى ولذلك جىء بالجملة الاسمية المفيدة لتحققه البتة وعطفت بالفاء المنبئة عن معنى السببية (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الذى هو مشوب بالآلام منغص بالأكدار* مستتبع للتحسر على الانقطاع ومعنى الفاء الأولى ترتيب إنكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وبين ما عند الله تعالى أى أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين الفريقين وقوله تعالى (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) عطف على (مَتَّعْناهُ) داخل معه فى حين الصلة* مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له كأنه قيل كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم نحضره أو أحضرناه يوم القيامة النار أو العذاب وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على التحقق حتما وفى جعله من جملة المحضرين من التهويل ما لا يخفى وثم للتراخى فى الزمان أو فى الرتبة وقرىء ثم هو بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) منصوب بالعطف على (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لاختلافهما عنوانا وإن اتحدا ذاتا أو بإضمار اذكر (فَيَقُولُ) تفسير للنداء (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أى الذين كنتم تزعمونهم شركائى فحذف المفعولان معا ثقة بدلالة الكلام عليهما (قالَ) استئناف مبنى على حكاية السؤال كأنه قيل فماذا صدر عنهم حينئذ فقيل قال (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) وهم شركاؤهم من الشياطين أو رؤساؤهم الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بأن أطاعوهم فى كل ما أمروهم به ونهوا عنه ومعنى حق عليهم القول أنه ثبت مقتضاه وتحقق مؤداه وهو قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وغيره من آيات الوعيد وتخصيصهم بهذا الحكم مع شموله للأتباع أيضا لأصالتهم فى الكفر واستحقاق العذاب حسبما يشعر به قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة إما لتفطنهم أن السؤال عنهم لاستحضارهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا وإما لأن العبدة قد قالوه اعتذار أو هؤلاء إنما قالوا ما قالوا ردا لقولهم إلا أنه لم يحك قول العبدة إيجازا لظهوره (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أى هم الذين أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول ومرادهم بالإشارة بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده وقوله تعالى (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) هو الجواب حقيقة وما قبله تمهيد له أى

٢١

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٨)

____________________________________

ما أكرهناهم على الغى وإنما أغويناهم بطريق الوسوسة والتسويل لا بالقسر والإلجاء فغووا باختيارهم* غيا مثل غينا باختيارنا ويجوز أن يكون الذين صفة لاسم الإشارة وأغويناهم الخبر (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصى هوى منهم وهو تقرير لما قبله ولذلك لم يعطف عليه وكذا قوله تعالى (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أى ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وقيل ما مصدرية متصلة بقوله تعالى (تَبَرَّأْنا) أى تبرأنا من عبادتهم إيانا (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) إما تهكما بهم أو تبكيتا لهم (فَدَعَوْهُمْ) لفرط الحيرة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة (وَرَأَوُا الْعَذابَ) قد غشيهم (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب أو إلى الحق لما لقوا ما لقوا وقيل لو للتمنى أى تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) عطف على ما قبله سئلوا أولا عن إشراكهم وثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أى صارت كالعمى عنهم لا تهتدى إليهم وأصله فعموا عن الأنباء وقد عكس للمبالغة والتنبيه على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل إليه من خارج فإذا أخطأ لم يكن له حيلة إلى استحضاره وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء والاشتباه والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل أو جميع الأنباء وهى داخلة فيه دخولا أوليا وإذا كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام يفوضون العلم فى ذلك المقام الهائل إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غاية المسئول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء فى الجهل (فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أى جمع بين الإيمان والعمل الصالح (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أى الفائزين بالمطلوب عنده تعالى الناجين عن المهروب وعسى للتحقيق على عادة الكرام أو للترجى من قبل التائب بمعنى فليتوقع الإفلاح (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أن يخلقه (وَيَخْتارُ) ما يشاء اختياره من غير إيجاب عليه ولا منع له أصلا (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أى التخير كالطيرة بمعنى التطير والمراد نفى الاختيار المؤثر عنهم وذلك مما لا ريب فيه وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف ويؤيده ما روى أنه نزل فى قول الوليد بن المغيرة لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم والمعنى

٢٢

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣)

____________________________________

لا يبعث الله تعالى الرسل باختيار المرسل إليهم وقيل معناه ويختار الذى كان لهم فيه الخير والصلاح (سُبْحانَ اللهِ) أى تنزه بذاته تنزها خاصا به من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو عن مشاركة ما يشركونه به (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) كعداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقدهم عليه (وَما يُعْلِنُونَ) كالطعن فيه (وَهُوَ اللهُ) أى المستحق للعبادة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا أحد يستحقها إلا هو (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها على الخلق كافة يحمده المؤمنون فى الآخرة كما حمدوه فى الدنيا بقولهم الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن الحمد لله الذى صدقنا وعده ابتهاجا بفضله والتذاذا بحمده (وَلَهُ الْحُكْمُ) أى القضاء النافذ فى كل شىء من غير مشاركة فيه لغيره (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالبعث لا إلى غيره (قُلْ) تقريرا لما ذكر (أَرَأَيْتُمْ) أى أخبرونى (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) دائما من السرد وهو المتابعة والاطراد والميم مزيدة كما فى دلامص من الدلاص يقال درع دلاص أى ملساء لينة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) صفة لإله (يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) صفة أخرى له عليها يدور أمر التبكيت والإلزام كما فى قوله تعالى* (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقوله تعالى (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) ونظائرهما خلا أنه قصد بيان انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة ولم يقل هل إله الخ لإيراد التبكيت والإلزام على زعمهم وقرىء بضئاء بهمزتين (أَفَلا تَسْمَعُونَ) هذا الكلام الحق سماع تدبر واستبصار حتى تذعنوا له وتعملوا بموجبه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكانها فى وسط السماء أو بتحريكها على مدار فوق الأفق (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) استراحة من متاعب الأشغال ولعل تجريد الضياء عن ذكر منافعه لكونه مقصودا بذاته ظاهر الاستتباع لما نيط به من المنافع (أَفَلا تُبْصِرُونَ) هذه المنفعة الظاهرة التى لا تخفى على من له بصر (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أى فى الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ

٢٣

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (٧٦)

____________________________________

فَضْلِهِ) فى النهار بأنواع المكاسب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولكى تشكروا نعمته تعالى فعل ما فعل أو لكى تعرفوا نعمته تعالى وتشكروه عليها (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) منصوب باذكر (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تقريع إثر تقريع للإشعار بأنه لا شىء أجلب لغضب الله عزوجل من الإشراك كما لا شىء أدخل فى مرضاته من توحيده سبحانه وقوله تعالى (وَنَزَعْنا) عطف على (يُنادِيهِمْ) وصيغة الماضى الدلالة على التحقق أو حال من فاعله بإضمار قد والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال الاعتناء بشأن النزع وتهويله أى أخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (شَهِيداً) نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه كقوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ (فَقُلْنا) لكل أمة من تلك الأمم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما كنتم تدينون به (فَعَلِمُوا) يومئذ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) فى الإلهية لا يشاركه فيها أحد (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أى غاب عنهم غيبة الضائع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فى الدنيا من الباطل (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) كان ابن عمه يصهر بن قاهث ابن لاوى بن يعقوب عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام ابن عمران بن قاهث وقيل كان موسى عليه‌السلام ابن أخيه وكان يسمى المنور لحسن صورته وقيل كان أقرأ بنى إسرائيل للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامرى وقال إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان لهرون فما لى وروى أنه لما جاوز بهم موسى عليه‌السلام البحر وصارت الرسالة والحبورة والقربان لهرون وجد قارون فى نفسه وحسدهما فقال لموسى الأمر لكما ولست على شىء إلى متى أصبر قال موسى عليه‌السلام هذا صنع الله تعالى قال لا أصدقك حتى تأتى بآية فأمر رؤساء بنى إسرائيل أن يجىء كل واحد بعصاه فحزمها وألقاها فى القبة التى كان الوحى ينزل إليه فيها فكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا فإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر فقال قارون ما هو* بأعجب مما تصنع من السحر وذلك قوله تعالى (فَبَغى عَلَيْهِمْ) فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو ظلمهم قيل وذلك حين ملكه فرعون على بنى إسرائيل وقيل حسدهم وذلك ما ذكر منه فى حق موسى* وهرون عليهما‌السلام (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) أى الأموال المدخرة (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) أى مفاتح صناديقه وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح بالفتح (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) خبر إن والجملة صلة ما وهو ثانى مفعولى آتى وناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة وقرىء لينوء بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه كما مر فى قوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ

٢٤

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٧٨)

____________________________________

قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) منصوب بتنوء وقيل ببغى ورد بأن البغى ليس مقيدا بذلك الوقت* وقيل بآتيناه ورد بأن الإيتاء أيضا غير مقيد به وقيل بمضمر فقيل هو اذكر وقيل هو أظهر الفرح ويجوز أن يكون منصوبا بما بعده من قوله تعالى (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ) وتكون الجملة مقررة لبغيه (لا تَفْرَحْ) أى لا تبطر* والفرح فى الدنيا مذموم مطلقا لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتما ولذلك قال تعالى (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) وعلل النهى ههنا بكونه مانعا من محبته عز وعلا فقيل (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أى بزخارف الدنيا (وَابْتَغِ) وقرىء واتبع (فِيما آتاكَ اللهُ) من الغنى (الدَّارَ الْآخِرَةَ) أى ثواب الله تعالى فيها يصرفه إلى ما يكون وسيلة إليه (وَلا تَنْسَ) أى لا تترك ترك المنسى (نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) وهو أن تحصل بها آخرتك وتأخذ منها ما يكفيك (وَأَحْسِنْ) أى إلى عباد الله تعالى (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) فيما أنعم به عليك وقيل أحسن بالشكر والطاعة كما أحسن الله إليك بالإنعام (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) نهى عما كان عليه من الظلم والبغى (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) لسوء أفعالهم (قالَ) مجيبا لناصحيه (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) كأنه يريد به الرد على قولهم كما أحسن الله إليك لإنبائه عن أنه تعالى أنعم عليه بتلك الأموال والذخائر من غير سبب واستحقاق من قبله أى فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالمال والجاه وعلى علم فى موقع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها وقيل علم الكيمياء وقيل علم النجارة والدهقنة وسائر المكاسب وقيل علم فتح الكنوز والدفائن وعندى صفة له أو متعلق بأوتيته كقولك جاز هذا عندى أو فى ظنى ورأيى (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) توبيخ له من جهة الله تعالى على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك قراءة فى التوراة وتلقيا من موسى عليه‌السلام وسماعا من حفاظ التواريخ وتعجب منه فالمعنى ألم يقرأ التوراة ولم يعلم ما فعل الله تعالى بأضرابه من أهل القرون السابقة حتى لا يغتر بما اغتروا به أورد لادعائه العلم وتعظمه به بنفى هذا العلم منه فالمعنى أعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى يقى به نفسه مصارع الهالكين (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) سؤال استعلام بل يعذبون بها بغتة كأن قارون لما هدد* بذكر إهلاك من قبله ممن كان أقوى منه وأغنى أكد ذلك بأن بين أن ذلك لم يكن مما يخص أولئك المهلكين بل الله تعالى مطلع على ذنوب كافة المجرمين يعاقبهم عليها لا محالة.

٢٥

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) (٨١)

____________________________________

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ) عطف على (قالَ) وما بينهما اعتراض وقوله تعالى (فِي زِينَتِهِ) إما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أى فخرج عليهم كائنا فى زينته قيل خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه وقيل عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعن يمينه ثلثمائة غلام وعن يساره ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلى والديباج وقيل فى تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول* يوم رئى فيه المعصفر (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) من المؤمنين جريا على سنن الجبلة البشرية من الرغبة فى السعة واليسار (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) وعن قتادة أنهم تمنوه ليتقربوا به إلى الله تعالى وينفقوه فى سبل الخير وقيل كان المتمنون قوما كفارا (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) تعليل لتمنيهم وتأكيد له (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أى بأحوال الدنيا والآخرة كما ينبغى وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيها على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضى الإعراض عن الأولى والإقبال على الثانية حتما وأن تمنى المتمنين ليس* إلا لعدم علمهم بهما كما ينبغى (وَيْلَكُمْ) دعاء بالهلاك شاع استعماله فى الزجر عما لا يرتضى (ثَوابُ اللهِ) فى الآخرة (خَيْرٌ) مما تتمنونه (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه تعالى (وَلا يُلَقَّاها) أى هذه الكلمة التى تكلم بها العلماء أو الثواب فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو الإيمان والعمل الصالح فإنهما فى معنى السيرة والطريقة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) أى على الطاعات وعن الشهوات (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) روى أنه كان يؤذى موسى عليه‌السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره فعمد إلى أن يفضح موسى عليه‌السلام بين بنى إسرائيل فجعل لبغى من بغايا بني إسرائيل ألف دينار وقيل طشتا من ذهب مملوءة ذهبا فلما كان يوم عيد قام موسى عليه‌السلام خطيبا فقال من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه فقال قارون ولو كنت قال ولو كنت قال إن بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت فناشدها عليه‌السلام أن تصدق فقالت جعل لى قارون جعلا على أن أرميك بنفسى فخر موسى ساجدا لربه يبكى ويقول يا رب إن كنت رسولك فاغضب لى فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك فقال يا بنى إسرائيل إن الله بعثنى إلى قارون كما بعثنى إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معى فليعتزل

٢٦

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤)

____________________________________

عنه فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وهم يناشدونه عليه الصلاة والسلام بالله تعالى وبالرحم وهو لا يلتفت إليهم لشدة غيظه ثم قال خذيهم فانطبقت عليهم فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم إنما دعا عليه موسى عليه الصلاة والسلام ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) جماعة مشفقة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) بدفع العذاب عنه (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أى الممتنعين منه بوجه من الوجوه يقال نصره من عدوه فانتصر أى منعه فامتنع (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ) منزلته (بِالْأَمْسِ) منذ زمان قريب (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أى يفعل كل واحد من البسط والقدر بمحض مشيئته لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يقتضى القبض وويكأن عند البصريين مركب من وى للتعجيب وكأن للتشبيه والمعنى ما أشبه الأمر أن الله يبسط الخ وعند الكوفيين من ويك بمعنى ويلك وأن وتقديره ويك أعلم أن الله وإنما يستعمل عند التنبه على الخطأ والتندم والمعنى أنهم قد تنبهوا على خطئهم فى تمنيهم وتندموا على ذلك (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بعدم إعطائه* إيانا ما تمنيناه وإعطائنا مثل ما أعطاه إياه وقرىء لو لا من الله علينا (لَخَسَفَ بِنا) كما خسف به وقرىء لخسف بنا على البناء للمفعول وبنا هو القائم مقام الفاعل وقرىء لا نخسف بنا كقولك انقطع به وقرىء لتخسف بنا (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمة الله تعالى أو المكذبون برسله وبما وعدوا من ثواب الآخرة (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) إشارة تعظيم وتفخيم كأنه قيل تلك التى سمعت خبرها وبلغك وصفها (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أى غلبة وتسلطا (وَلا فَساداً) أى ظلما وعدوانا على العباد كدأب فرعون وقارون وفى تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما وعن على رضى الله عنه إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها (وَالْعاقِبَةُ) الحميدة (لِلْمُتَّقِينَ) أى الذين يتقون مالا يرضاه الله تعالى من الأفعال والأقوال (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ) بمقابلتها (خَيْرٌ مِنْها) ذاتا ووصفا وقدرا (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) وضع فيه الموصول والظاهر موضع الضمير لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم مقامه ما كانوا يعملون مبالغة فى المماثلة.

٢٧

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

____________________________________

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أى معاد معاد تمتد إليه أعناق الهمم وترنو إليه أحداق الأمم وهو المقام المحمود الذى وعدك أن يبعثك فيه وقيل هو مكة المعظمة على أنه تعالى قد وعده وهو بمكة فى أذية وشدة من أهلها أنه يهاجر به منها ثم يعيده إليها بعز ظاهر وسلطان قاهر وقيل نزلت عليه حين بلغ الجحفة فى مهاجره وقد اشتقاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم عليه‌السلام فنزل جبريل عليه‌السلام فقال له أتشتاق إلى مكة قال نعم فأوحاها إليه* (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يدل عليه أعلم أى يعلم وقيل بأعلم على أنه بمعنى عالم (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وما استحقه من العذاب والإذلال يعنى بذلك نفسه والمشركين وهو تقرير للوعيد السابق وكذا قوله تعالى (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أى سيردك إلى معادك كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ولكن ألفاه إليك رحمة منه ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى كأنه قيل وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة ٨٧ أى لأجل الترحم (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) بمداراتهم والتحمل عنهم والإجابة إلى طلبتهم (وَلا يَصُدُّنَّكَ) أى الكافرون (عَنْ آياتِ اللهِ) أى عن قراءتها والعمل بها (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) وفرضت عليك وقرىء يصدنك من أصد المنقول من صد اللازم (وَادْعُ) الناس (إِلى رَبِّكَ) إلى عبادته وتوحيده (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بمساعدتهم فى الأمور (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) هذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته عليه الصلاة والسلام لهم وإظهار أن المنهى عنه فى القبح والشرية بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدروه عنه أصلا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) إلا ذاته فإن ما عداه كائنا ما كان ممكن فى حد ذاته عرضة للهلاك والعدم (لَهُ الْحُكْمُ) أى القضاء النافذ فى الخلق (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عند البعث للجزاء بالحق والعدل. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذب ولم يبق ملك فى السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا.

٢٨

٢٩ ـ سورة العنكبوت

(مكية وهى تسع وستون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣)

____________________________________

(سورة العنكبوت)

مكية وهى تسع وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الم) الكلام فيه كالذى مر مرارا فى نظائره من الفواتح الكريمة خلا أن ما بعده لا يحتمل أن يتعلق به تعلقا إعرابيا (أَحَسِبَ النَّاسُ) الحسبان ونظائره لا يتعلق بمعانى المفردات بل بمضامين الجمل المفيدة لثبوت شىء لشىء أو انتفاء شىء عن شىء بحيث يتحصل منها مفعولاه إما بالفعل كما فى عامة المواقع وإما بنوع تصرف فيها كما فى الجمل المصدرة بأن والواقعة صلة للموصول الاسمى أو الحرفى فإن كلا منها صالحة لأن يسبك منها مفعولاه لأن قوله تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فى قوة أن يقال أحسبوا أنفسهم متروكين بلا فتنة بمجرد أن يقولوا آمنا أو أن يقال أحسبوا تركهم غير مفتونين بقولهم آمنا حاصلا متحققا والمعنى إنكار الحسبان المذكور واستبعاده وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض ما تشتهيه النفس ووظائف الطاعات وفنون المصائب فى الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ فى الدين من المتزلزل فيه ويجازيهم بحسب مراتب أعمالهم فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضى غير الخلاص من الخلود فى النار روى أنها نزلت فى ناس من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين جزعوا من أذية المشركين وقيل فى عمار قد عذب فى الله وقيل فى مهجع مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنهما رماه عامر بن الحضرمى بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته وهو أول من استشهد يومئذ من المسلمين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) متصل بقوله تعالى (أَحَسِبَ) أو بقوله تعالى (لا يُفْتَنُونَ) والمعنى أن ذلك سنة قديمة مبنية على الحكم البالغة جارية فيما بين الأمم كلها فلا ينبغى أن يتوقع خلافها والمعنى أن الأمم الماضية قد أصابهم من ضروب الفتن والمجن ما هو أشد مما أصاب هؤلاء فصبروا كما يعرب عنه قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) الآيات وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار

٢٩

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٦)

____________________________________

على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب* ما يصرفه ذلك عن دينه (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) أى فى قولهم آمنا (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فى ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفصح عنه ما قبلها من وقوع الامتحان واللام جواب القسم والالتفات إلى الاسم الجليل لإدخال الروعة وتربية المهابة وتكرير الجواب لزيادة التأكيد والتقرير أى فو الله ليتعلقن علمه بالامتحان تعلقا حاليا يتميز به الذين صدقوا فى الإيمان الذى أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب ويترتب عليه أجزيتهم من الثواب والعقاب ولذلك قيل المعنى ليميزن أو ليجازين وقرىء وليعلمن من الأعلام أى وليعرفنهم الناس أو ليسمنهم بسمة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أى يفوتونا فلا نقدر على مجازاتهم بمساوى أعمالهم وهو ساد مسد مفعولى حسب لاشتماله على مسند ومسند إليه وأم منقطعة وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال عن التوبيخ بإنكار حسبانهم متروكين غير مفتونين إلى التوبيخ بإنكار ما هو أبطل من الحسبان الأول وهو حسبانهم أن لا يجازوا بسيئاتهم وهم وإن لم يحسبوا أنهم يفوتونه تعالى ولم يحدثوا نفوسهم بذلك لكنهم حيث أصروا على المعاصى ولم يتفكروا فى العاقبة نزلوا منزلة من يطمع فى ذلك كما فى قوله تعالى (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أى بئس الذى يحكمونه حكمهم ذلك أو بئس حكما يحكمونه حكمهم ذلك (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أى يتوقع ملاقاة جزائه ثوابا أو عقابا أو ملاقاة حكمه يوم القيامة وقيل يرجو لقاء الله عزوجل فى الجنة وقيل يرجو ثوابه وقيل يخاف عقابه وقيل لقاؤه تعالى عبارة عن الوصول إلى العاقبة من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء على تمثيل تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد علم مولاه بجميع ما كان يأتى ويذر فإما أن يلقاه ببشر وكرامة لما رضى من أفعاله* أو بضده لما سخطه (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) الأجل عبارة عن غاية زمان ممتد عينت لأمر من الأمور وقد يطلق* على كل ذلك الزمان والأول هو الأشهر فى الاستعمال أى فإن الوقت الذى عينه تعالى لذلك (لَآتٍ) لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لأن أجزاء الزمان على التقضى والتصرم دائما فلا بد من إتيان ذلك الجزاء أيضا البتة وإتيان وقته موجب لإتيان اللقاء حتما والجواب محذوف أى فليختر من الأعمال ما يؤدى إلى حسن الثواب وليحذر ما يسوقه إلى سوء العذاب كما فى قوله تعالى (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) وفيه من الوعد والوعيد مالا يخفى وقيل فليبادر إلى* ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو ما يوجب القربة والزلفى (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد (الْعَلِيمُ) بأحوالهم من الأعمال الظاهرة والعقائد (وَمَنْ جاهَدَ) فى طاعة الله عزوجل (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لعود منفعتها

٣٠

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩)

____________________________________

إليها (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فلا حاجة له إلى طاعتهم وإنما أمرهم بها تعريضا لهم للثواب بموجب رحمته (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الكفر بالإيمان والمعاصى بما يتبعها من الطاعات (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أى أحسن جزاء أعمالهم لا جزاء أحسر أعمالهم فقط (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أى بإيتاء والديه وإيلائهما فعلا ذا حسن أو ما هو فى حد ذاته حسن لفرط حسنه كقوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ووصى يجرى مجرى أمر معنى وتصرفا غير أنه يستعمل فيما كان فى المأمور به نفع عائد إلى المأمور أو غيره وقيل هو بمعنى قال فالمعنى وقلنا أحسن بوالديك حسنا وقيل انتصاب حسنا بمضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أى وقلنا أولهما أو افعل بهما حسنا وهو أوفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على بوالديه وقرىء حسنا وإحسانا (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أى بالهيته عبر عن نفيها بنفى العلم بها للإيذان بأن مالا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم بطلانه (فَلا تُطِعْهُما) فى ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ولا بد من إضمار* القول إن لم يضمر فيما قبل وفى تعليق النهى عن طاعتهما بمجاهدتهما فى التكاليف إشعار بأن موجب النهى فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أى مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أجازى كلا منكم بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر* والآية نزلت فى سعد بن أبى وقاص رضى الله تعالى عنه عند إسلامه حيث حلفت أمه حمنة بنت أبى سفيان ابن أمية أن لا تنتقل من الضح إلى الظل ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد فلبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا التى فى سورة لقمان وسورة الأحقاف وقيل نزلت فى عياش بن أبى ربيعة المخزومى وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل والحرث أخواه لأمه أسماء فنزلا بعياش وقالا له إن من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوى بيتا حتى تراك فاخرج معنا وفتلا منه فى الذروة والغارب واستشار عمر رضى الله عنه فقال هما يخدعانك ولك على أن أقسم مالى بينى وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر رضى الله عنه فقال عمر رضى الله عنه أما إذا عصيتنى فخذ ناقتى فليس فى الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهما ريب فارجع فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل إن ناقتى قد كلت فاحملنى معك فنزل ليوطىء لنفسه وله فأخذاه فشداه وثاقا وجلده كل واحد مائة جلدة وذهبا به إلى أمه فقالت لا تزال فى عذاب حتى ترجع عن دين محمد (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

٣١

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٢)

____________________________________

الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أى فى زمرة الراسخين فى الصلاح والكمال فى الصلاح منتهى درجات المؤمنين وغاية مأمول أنبياء الله المرسلين قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه‌السلام (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) وقال فى حق إبراهيم عليه‌السلام (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أو فى مدخل الصالحين وهو الجنة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أى فى شأنه تعالى بأن عذبهم الكفرة على الإيمان (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أى ما يصيبه من أذيتهم (كَعَذابِ اللهِ) فى الشدة والهول فيرتد عن الدين مع أنه لا قدر لها عند نفحة من عذابه تعالى أصلا (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) أى فتح وغنيمة (لَيَقُولُنَّ) بضم اللام نظرا إلى معنى من كما أن الإفراد فيما سبق بالنظر إلى لفظها وقرىء بالفتح (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أى مشايعين لكم فى الدين فأشركونا فى المغنم وهم ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار* وافقوهم وكانوا يكتمونه من المسلمين فرد عليهم ذلك بقوله تعالى (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أى بأعلم منهم بما فى صدورهم من الإخلاص والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء عن المسلمين وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة وهذا هو الأوفق لما سبق ولما لحق من قوله تعالى (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أى بالإخلاص (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) سواء كان كفرهم بأذية الكفرة أو لا أى ليجزينهم بمالهم من الإيمان والنفاق (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) بيان لحملهم للمؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملهم لهم عليه بالأذية والوعيد وصفهم بالكفر ههنا دون ما سبق لما أن مساق الكلام لبيان* جناياتهم وفيما سبق لبيان جناية من أضلوه واللام للتبليغ أى قالوا مخاطبين لهم (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أى اسلكوا طريقتنا التى نسلكها فى الدين عبر عن ذلك بالاتباع الذى هو المشى خلف ماش آخر تنزيلا* للمسلك منزلة السالك فيه أو اتبعونا فى طريقتنا (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أى إن كان ذلك خطيئة يؤاخذ عليها بالبعث كما تقولون وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين له على أمرهم بالاتباع للمبالغة فى تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم إن كان ثمة وزر فرد عليهم بقوله تعالى (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) وقرىء من خطيآتهم أى وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم التى التزموا أن يحملوا كلها* على أن من الأولى للتبيين والثانية مزيدة للاستغراق والجملة اعتراض أو حال (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) حيث أخبروا فى ضمن وعدهم بالحمل بأنهم قادرون على إنجاز ما وعدوا فإن الكذب كما يتطرق إلى الكلام باعتبار

٣٢

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٦)

____________________________________

منطوقه يتطرق إليه باعتبار ما يلزم مدلوله كما مر فى قوله تعالى (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) بيان لما يستتبعه قولهم ذلك فى الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلا والتعبير عن الخطايا بالأثقال للإيذان بغاية ثقلها وكونها قادحة واللام جواب قسم مضمر أى وبالله ليحملن أثقال أنفسهم كاملة (وَأَثْقالاً) أخر (مَعَ أَثْقالِهِمْ) لما تسببوا بالإضلال والحمل على الكفر والمعاصى من غير أن ينتقص من أثقال من أضلوه شىء ما أصلا (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سؤال تقريع وتبكيت (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أى يختلقونه فى الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التى من جملتها كذبهم هذا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) شروع فى بيان افتتان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصبر هؤلاء أولى وأحرى قالوا كان عمر نوح عليه‌السلام ألفا وخمسين عاما بعث على رأس أربعين سنة ودعا قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة وعن وهب أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة ولعل ما عليه النظم الكريم للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما فى ذكر الألف من تخييل طول المدة فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأى الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء واختلاف المميز لما فى التكرير من نوع بشاعة (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أى عقب تمام المدة المذكورة والطوفان يطلق على كل ما يطوف بالشىء على كثرة وشدة* من السيل والريح والظلام وقد غلب على طوفان الماء (وَهُمْ ظالِمُونَ) أى والحال أنهم مستمرون على الظلم لم* يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه‌السلام من الآيات ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصى هذه المدة المتمادية (فَأَنْجَيْناهُ) أى نوحا عليه‌السلام (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أى ومن ركب فيها معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة وقيل ثمانية نصفهم ذكور ونصفهم إناث (وَجَعَلْناها) أى السفينة أو الحادثة والقصة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) يتعظون بها (وَإِبْراهِيمَ) نصب بالعطف على (نُوحاً) وقيل

٣٣

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١٩)

____________________________________

* بإضمار اذكر وقرىء بالرفع على تقدير ومن المرسلين إبراهيم (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) على الأول ظرف للإرسال أى أرسلناه حين تكامل عقله وقدر على النظر والاستدلال وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل* حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق وعلى الثانى بدل اشتمال من إبراهيم (اعْبُدُوا اللهَ) أى وحده (وَاتَّقُوهُ) أن تشركوا به شيئا (ذلِكُمْ) أى ما ذكر من العبادة والتقوى (خَيْرٌ لَكُمْ) أى مما أنتم عليه* ومعنى التفضيل مع أنه لا خيرية فيه قطعا باعتبار زعمهم الباطل (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر أو إن كنتم تعلمون شيئا من الأشياء بوجه من الوجوه فإن ذلك كاف فى الحكم بخيرية ما ذكره من العبادة والتقوى (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) بيان لبطلان دينهم وشريته فى نفسه بعد بيان شريته بالنسبة إلى الدين الحق أى إنما تعبدون من دونه تعالى أوثانا هى فى نفسها تماثيل* مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أى وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله تعالى أو تعملونها وتنحتونها للإفك وقرىء تخلقون بالتشديد للتكثير فى الخلق بمعنى الكذب والافتراء وتخلقون بحذف إحدى التاءين من تخلق بمعنى تكذب وتخرص وقرىء* أفكا على أنه مصدر كالكذب واللعب أو نعت بمعنى خلقا ذا إفك (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بيان لشرية ما يعبدونه من حيث إنه لا يكاد يجديهم نفعا (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أى لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) كله فإنه هو الرزاق ذو القوة المتين (وَاعْبُدُوهُ) وحده (وَاشْكُرُوا لَهُ) على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين بالشكر للعتيد ومستجلبين للمزيد (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أى بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره فافعلوا ما أمرتكم به وقرىء ترجعون من رجع رجوعا (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) أى تكذبونى فيما أخبرتكم به من أنكم إليه ترجعون بالبعث (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) تعليل للجواب أى فلا تضروننى بتكذيبكم فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلى من الرسل وهم شيث وإدريس ونوح عليهم‌السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئا وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أى التبليغ الذى لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرنى تكذيبكم بعد ذلك أصلا (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله وسنوح سبيله والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها والواو للعطف على مقدر أى ألم ينظروا

٣٤

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٢٢)

____________________________________

ولم يعلموا علما جاريا مجرى الرؤية فى الجلاء والظهور كيفية خلق الله تعالى الخلق ابتداء من مادة ومن غير مادة أى قد علموا ذلك وقرىء بصيغة الخطاب لتشديد الإنكار وتأكيده وقرىء يبدأ وقوله تعالى (ثُمَّ يُعِيدُهُ) عطف على (أَوَلَمْ يَرَوْا) لا على (يُبْدِئُ) لعدم وقوع الرؤية عليه فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق* قياسا على الإبداء وقد جوز العطف على يبدىء بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه فى السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه من غير ريب (إِنَّ ذلِكَ) أى ما ذكر من الإعادة (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إذ لا يفتقر فعله إلى شىء أصلا (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أمر لإبراهيم عليه‌السلام أن يقول لهم ذلك أى سيروا فيها (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) أى كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى فإن ترتيب النظر على السير فى الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين فى أقطارها (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) بعد النشأة الأولى التى* شاهدتموها والتعبير عن الإعادة التى هى محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شؤون الله تعالى حقيقة واسما من حيث إن كلا منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ولا فرق بينهما إلا بالأولية والآخرية وقرىء النشاءة بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أى ينشىء فينشأون النشأة الآخرة كما فى قوله تعالى (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) والجملة معطوفة على جملة (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) داخلة معها فى حيز القول وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره فى بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم وتكرير الإسناد وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) * تعليل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته تعالى على جميع الأشياء التى من جملتها الإعادة لا يتصور أن يتردد فى قدرته عليها ولا فى وقوعها بعد ما أخبر به (يُعَذِّبُ) أى بعد النشأة الآخرة (مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه وهم المنكرون لها حتما (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أن يرحمه وهم المصدقون بها والجملة تكملة لما قبلها وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) عند ذلك لا إلى غيره فيفعل بكم ما يشاء من التعذيب والرحمة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أى بالتوارى فى الأرض أو الهبوط فى مهاويها ولا بالتحصن فى السماء التى هى أفسح منها لو استطعتم الرقى فيها كما فى قوله تعالى (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أو

٣٥

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥)

____________________________________

* القلاع الذاهبة فيها وقيل فى السماء صفة لمحذوف معطوف على أنتم أى ولا من فى السماء (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يحرسكم مما يصيبكم من بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أى بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله فيدخل فيها النشأة الأولى الدالة على تحقق البعث والآيات الناطقة به دخولا أوليا وتخصيصها بدلائل وحدانيته* تعالى لا يناسب المقام (وَلِقائِهِ) الذى تنطق به تلك الآيات (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أى ييأسون منها يوم القيامة وصيغة الماضى للدلالة على تحققه أو يئسوا منها* فى الدنيا لإنكارهم البعث والجزاء (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وفى تكرير اسم الإشارة وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالأليم من الدلالة على كمال فظاعة حالهم مالا يخفى أى أولئك الموصوفون بالكفر بآيات الله تعالى ولقائه وباليأس من رحمته الممتازون بذلك عن سائر الكفرة لهم بسبب تلك الأوصاف القبيحة عذاب لا يقادر قدره فى الشدة والإيلام (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) وقرىء بالرفع على العكس وقد مر ما فيه فى نظائره وليس المراد أنه لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حجج إبراهيم عليه‌السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم بل إن ذلك هو الذى استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتى فى المرة* الأخيرة وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) الفاء فصيحة أى فألقوه فى النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها عليه عليه الصلاة والسلام بردا وسلاما حسبما بين فى مواضع أخر وقد مر فى سورة الأنبياء بيان كيفية إلقائه عليه الصلاة والسلام فيها وإنجائه تعالى إياه* تفصيلا قيل لم ينتفع يومئذ بالنار فى موضع أصلا (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فى إنجائه منها (لَآياتٍ) بينة عجيبة هى حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها فى زمان يسير وإنشاء روض فى مكانها (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وأما من عداهم فهم عن اجتلائها غافلون ومن الفوز بمغانم آثارها محرومون (وَقالَ) أى إبراهيم عليه‌السلام مخاطبا لهم (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أى لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها وائتلافكم وثانى مفعولى اتخذتم محذوف أى أوثانا آلهة ويجوز أن يكون مودة هو المفعول بتقدير المضاف أو بتأويلها بالمودودة أو بجعلها نفس المودة مبالغة أى اتخذتم أوثانا سبب المودة

٣٦

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٨)

____________________________________

بينكم أو مودودة أو نفس المودة وقرىء مودة منونة منصوبة ناصبة الظرف وقرئت بالرفع والإضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أى هى مودودة أو نفس المودة أو سبب مودة بينكم والجملة صفة أوثانا أو خبر إن على أن ما مصدرية أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح بينكم كما قرىء لقد تقطع بينكم على أحد الوجهين وقرىء إنما مودة بينكم والمعنى أن اتخاذكم إياها مودة بينكم ليس إلا فى الحياة وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتم بى ما فعلتم لأجل مودتكم لها انتصارا منى كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تنقلب الأمور ويتبدل التواد تباغضا والتلاطف تلاعنا حيث (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ) وهم* العبدة (بِبَعْضٍ) وهم الأوثان (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أى يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق الآخر (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أى هى منزلكم الذى تأوون إليه ولا ترجعون منه أبدا (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم منها كما خلصنى ربى من النار التى ألقيتمونى فيها وجمع الناصر لوقوعه فى مقابلة الجمع أى ما لأحد منكم من ناصر أصلا (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أى صدقه فى جميع مقالاته لا فى نبوته وما دعا إليه من التوحيد فقط فإنه كان منزها عن الكفر وما قيل إنه آمن له حين رأى النار لم تحرقه ينبغى أن يحمل على ما ذكرنا أو على أن يراد بالإيمان الرتبة العالية منها وهى التى لا يرتقى إليها إلا همم الأفراد الكمل ولوط هو ابن أخيه عليهما‌السلام (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) أى من قومى (إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرنى ربى (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره فيمنعنى من أعدائى (الْحَكِيمُ) الذى لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة فلا* يأمرنى إلا بما فيه صلاحى روى أنه هاجر من كوثى سواد الكوفة مع لوط وسارة ابنه عمه إلى حران ثم منها إلى الشأم فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ولدا ونافلة حين أيس من عجوز عافر (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ) فكثر منهم الأنبياء (وَالْكِتابَ) أى جنس الكتاب المتناول للكتب الأربعة (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ) بمقابلة هجرته إلينا (فِي الدُّنْيا) بإعطاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أى الكاملين فى الصلاح (وَلُوطاً) منصوب إما بالعطف على نوحا أو على إبراهيم والكلام فى قوله تعالى (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) كالذى مر فى قصة إبراهيم عليه‌السلام (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أى الفعلة المتناهية فى القبح وقرىء أئنكم (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) استئناف مقرر لكمال قبحها فإن إجماع جميع افراد العالمين على التحاشى عنها ليس إلا لكونها مما تشمئز منه الطباع وتنفر منه النفوس.

٣٧

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢)

____________________________________

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) وتتعرضون السابلة اى بالفاحشة حيث روى أنهم كانوا كثيرا ما يفعلونها بالغرباء وقيل تقطعون سبيل النساء بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث وقيل* تقطعون السبيل بالقتل واخذ المال (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) أى تفعلون فى مجلسكم الجامع لأصحابكم (الْمُنْكَرَ) كالجماع والضراط وحل الإزار وغيرها مما لا خير فيه من الأفاعيل المنكرة وعن ابن عباس رضى الله عنهما هو الحذف بالحصى والرمى بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الإزار* والسباب والفحش فى المزاح وقيل السخرية بمن مر بهم وقيل المجاهرة فى ناديهم بذلك العمل (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أى فما كان جوابا من جهتهم شىء من الأشياء إلا هذه الكلمة الشنيعة أى لم يصدر عنهم فى هذه المرة من مرات مواعظ لوط عليه‌السلام وقد كان أوعدهم فيها بالعذاب وأما ما فى سورة الأعراف من قوله تعالى (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) الآية وما فى سورة النمل من قوله تعالى (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) الآية فهو الذى صدر عنهم بعده هذه المرة وهى المرة الأخيرة من مرات المقاولات الجارية بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وقد مر تحقيقه فى سورة الأعراف (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) أى بإنزال العذاب الموعود (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بابتداع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم والإصرار عليها واستعجال العذاب بطريق الاستهزاء وإنما وصفهم بذلك مبالغة فى استنزال العذاب عليهم (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أى بالبشارة بالولد والنافلة (قالُوا) أى لإبراهيم عليه‌السلام فى تضاعيف الكلام حسبما فصل فى سورة هود وسورة الحجر (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أى قرية سدوم والإضافة لفظية لأن المعنى على الاستقبال (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) تعليل للإهلاك بإصرارهم على الظلم وتماديهم فى فنون الفساد وأنواع المعاصى (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) فكيف تهلكونها (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) أرادوا أنهم غير غافلين عن مكان لوط عليه‌السلام فيها بل عمن لم يتعرض له إبراهيم عليه‌السلام من أتباعه المؤمنين وأنهم معتنون بشأنهم أتم اعتناء حسبما ينبىء عنه تصدير الوعد بالتنجية بالقسم أى والله لننجينه وأهله (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أى الباقين فى العذاب أو القرية.

٣٨

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٣٧)

____________________________________

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا) المذكورون بعد مفارقتهم لإبراهيم عليه‌السلام (لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) اعتراه المساءة بسبهم مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء وكلمة أن صلة لتأكيد ما بين الفعلين من الاتصال (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أى ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أى طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه وحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا به قادرا عليه وذلك أن طويل الذراع ينال مالا يناله قصير الذراع (وَقالُوا) حيثما شاهدوا* فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه قد عجز عن مدافعة قومه بعد اللتيا والتى حتى آلت به الحال إلى أن قال (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (لا تَخَفْ) أى من قومك علينا (وَلا تَحْزَنْ) أى على شىء وقيل بإهلاكنا إياهم (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) مما يصيبهم من العذاب (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) * وقرىء لننجينك ومنجوك من الإنجاء وأياما كان فمحل الكاف الجر على المختار ونصب أهلك بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) استئناف مسوق لبيان ما أشير إليه بوعد التنجية من نزول العذاب عليهم والرجز العذاب الذى يقلق المعذب أى يزعجه من قولهم ارتجز إذا ارتجس واضطرب وقرىء منزلون بالتشديد (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم المستمر (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أى من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) هى قصتها العجيبة وآثار ديارها الخربة وقيل الحجارة الممطورة فإنها كانت باقية بعدها وقيل الماء الأسود على وجه الأرض (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم فى الاستبصار والاعتبار وهو متعلق إما بتركنا أو بينة (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) متعلق بمضمر معطوف على أرسلنا فى قصة نوح عليه‌السلام أى وأرسلنا إلى مدين شعيبا (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أى توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون غائلته وقيل وارجوا ثوابه بطريق إقامة المسبب مقام السبب وقيل الرجاء بمعنى الخوف (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أى الزلزلة الشديدة وفى سورة هود وأخذت الذين ظلموا الصيحة أى صيحة جبريل عليه‌السلام فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من

٣٩

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١)

____________________________________

الأرض (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أى بلدهم أو منازلهم والإفراد لأمن اللبس (جاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين (وَعاداً وَثَمُودَ) منصوبان بإضمار فعل ينبىء عنه ما قبله أى أهلكنا وقرىء ثمودا بتأويل الحى (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أى وقد ظهر لكم إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهابا إلى الشام وإيابا منه (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) من فنون الكفر والمعاصى (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) السوى الموصل إلى الحق (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) متمكنين من النظر والاستدلال ولكنهم لم يفعلوا ذلك أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا مالقوا (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) معطوف على (عاداً) قيل تقديم قارون لشرف نسبه (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) مفلتين فائتين من قولهم سبق طالبه إذا فانه ولم يدركه ولقد أدركهم أمر الله عزوجل أى إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك (فَكُلًّا) تفسير لما ينبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام أى فكل واحد من المذكورين (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أى عاقبناه بجنايته لا بعضه دون بعض كما يشعر به تقديم المفعول (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) تفصيل للأخذ أى ريحا عاصفا فيها حصباء وقيل ملكا رماهم بهاؤهم قوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كمدين وثمود (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بما فعل بهم فإن ذلك محال من جهته تعالى (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من أنواع الكفر والمعاصى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أى فيما اتخذوه متعمدا ومتكلا (مَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) فيما نسجته فى الوهن والخور بل ذلك أوهن من هذا لأن له حقيقة وانتفاعا فى الجملة أو مثلهم بالإضافة إلى الموحد كمثله بالإضافة إلى رجل بنى بيتا من حجر وجص والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والغالب فى الاستعمال التأنيث وتاؤه

٤٠