تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠)

____________________________________

فخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر لهن الله ذلك فنزل لا يحل لك النساء من بعد واختلف فى أن هذا التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الاختيار أو لا فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما كان تخييرا لهن بين الارادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ينبىء عنه قوله تعالى (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَ) وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضا للطلاق إليهن حتى لو أنهن اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقا وكذا اختلف فى حكم التخيير فقال ابن عمر وابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم إذا خير رجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شىء أصلا ولو اختارت نفسها وقعت طلقة بائنة عندنا ورجعية عند الشافعى وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبى ليلى وسفيان وروى عن زيد بن ثابت أنها إن اختارت زوجها يقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها يقع ثلاث طلقات وهو قول الحسن ورواية عن مالك وروى عن على رضى الله عنه أنها إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروى عنه أيضا أنه إن اختارت زوجها لا يقع شىء أصلا وعليه إجماع فقهاء الأمصار وقد روى عن عن عائشة رضى الله عنها خيرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقا وتقديم التمتيع على التسريح من باب الكرم وفيه قطع لمعاذيرهن من أول الأمر والمتعة فى المطلقة التى لم يدخل بها ولم يفرض لها صداق عند العقد واجبة عندنا وفيما عداهن مستحبة وهى درع وخمار وملحفة بحسب السعة والاقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فحينئذ يجب لها الأقل منهما ولا ينقص عن خمسة دراهم (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى تردن رسوله وذكر الله عزوجل للإيذان بجلالة محله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنده تعالى (وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أى نعيمها الذى لا قدر عنده للدنيا وما فيها جميعا (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ) بمقابلة إحسانهن (أَجْراً عَظِيماً) لا يقادر قدره ولا يبلغ غايته ومن للتبيين لأن كلهن محسنات وتجريد الشرطية الأولى عن* الوعيد للمبالغة فى تحقيق معنى التخيير والاحتراز عن شائبة الإكراه وهو السر فيما ذكر من تقديم التمتيع على التسريح وفى وصف السراح بالجميل (يا نِساءَ النَّبِيِّ) تلوين للخطاب وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن ونداؤهن ههنا وفيما بعده بالإضافة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها التى يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) بكبيرة (مُبَيِّنَةٍ) ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين وقرىء بفتح الياء والمراد بها كل ما اقترفن من الكبائر وقيل هى عصيانهن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونشوزهن وطلبهن منه ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقرىء تأت بالفوقانية (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) أى يعذبن ضعفى عذاب غيرهن أى مثليه لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تابعة لزيادة فضل المذنب والنعمة عليه

١٠١

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣)

____________________________________

ولذلك جعل حد الحر ضعف حد الرقيق وعوتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لا يعاتب به الأمم وقرىء يضعف على البناء للمفعول ويضاعف ونضعف بنون العظمة على البناء للفاعل ونصب العذاب (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل يدعوه إليه لمراعاة حقه (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ) وقرىء بالتاء أى ومن يدم على الطاعة (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) مرة على الطاعة والتقوى وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة وقرىء يعمل بالياء حملا على لفظ من ويؤتها على أن فيه ضمير اسم الله تعالى (وَأَعْتَدْنا لَها) فى الجتة زيادة على أجرها المضاعف (رِزْقاً كَرِيماً) مرضيا (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أصل أحد وحد بمعنى الواحد ثم وضع فى النفى مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء فى الفضل والشرف (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله أو إن اتصفتن بالتقوى كما هو اللائق بحالكن (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) عند مخاطبة الناس أى لا تجبن بقولكن خاضعا لينا على سنن قول المريبات والمومسات (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أى فجور وريبة وقرىء بالجزم عطفا على محل فعل النهى على أنه نهى لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الإطماع بالقول الخاضع كأنه قيل فلا تخضعن بالقول فلا يطمع مريض القلب (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) بعيدا عن الريبة والإطماع بجد وخشونة من غير تخنيث أو قولا حسنا مع كونه خشنا (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أمر من قريقر من باب علم وأصله اقررن فحذفت الراء الأولى وألقيت فتحتها على ما قبلها كما فى قولك ظلن أو من قار يقار إذا اجتمع وقرىء بكسر القاف من وقر يقر وقارا إذا ثبت واستقر وأصله أوقرن ففعل به ما فعل بعدن من وعد أو من قريقر حذفت إحدى راءى اقررن ونقلت كسرتها إلى القاف كما تقول ظلن (وَلا تَبَرَّجْنَ) أى لا تتبخترن فى مشيكن (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أى تبرجا مثل تبرج النساء فى الجاهلية القديمة وهى ما بين آدم ونوح وقيل ما بين إدريس ونوح عليهما‌السلام وقيل الزمان الذى ولد فيه إبراهيم عليه‌السلام كانت المرأة تلبس درعها من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال وقيل زمن داود وسليمان عليهما‌السلام والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقيل الجاهلية الأولى جاهلية

١٠٢

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٣٥)

____________________________________

الكفر والجاهلية الأخرى الفسوق فى الإسلام ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى الدرداء إن فيك جاهلية قال جاهلية كفر أو جاهلية إسلام قال بل جاهلية كفر (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ) أمرن بهما لإنافتهما* على غيرهما وكونهما أصلى الطاعات البدنية والمالية (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى فى كل ما تأتن وما تذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أى الذنب المدنس لعرضكم وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ولذلك عمم الحكم بتعميم الخطاب لغيرهن وصرح بالمقصود حيث قيل بطريق النداء أو المدح (أَهْلَ الْبَيْتِ) مرادا بهم من حواهم بيت النبوة (وَيُطَهِّرَكُمْ) من أوضار الأوزار والمعاصى (تَطْهِيراً) بليغا واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير لمزيد التنفير عنها وهذه* كما ترى آية بينة وحجة نيرة على كون نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل بيته قاضية ببطلان رأى الشيعة فى تخصيصهم أهل البيت بفاطمة وعلى وابنيهما رضوان الله عليهم وأما ما تمسكوا به من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود وجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء على فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت فإنما يدل على كونهم من أهل البيت لا على أن من عداهم ليسوا كذلك ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها لكونها فى مقابلة النص (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ) أى اذكرن للناس بطريق العظة والتذكير ما يتلى فى بيوتكن (مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله البينة الدالة على صدق النبوة بنظمه المعجز وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع وهو تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحى وما شاهدن من برحاء الوحى مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة حثا على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه والتعرض للتلاوة فى البيوت دون النزول فيها مع أنه الأنسب لكونها مهبط الوحى لعمومها لجميع الآيات ووقوعها فى كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول وعدم تعيين التالى لتعم تلاوة جبريل وتلاوة النبى عليهما الصلاة والسلام وتلاوتهن وتلاوة غيرهن تعليما وتعلما (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) يعلم ويدبر ما يصلح فى الدين ولذلك فعل ما فعل من الأمر والنهى أو يعلم من يصلح للنبوة ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) أى الداخلين فى السلم المنقادين لحكم الله تعالى من الذكور والإناث (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) المصدقين بما يجب أن يصدق

١٠٣

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧)

____________________________________

به من الفريقين (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) المداومين على الطاعة القائمين بها (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) فى القول والعمل (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) على الطاعات وعن المعاصى (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) بما وجب فى مالهم (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) الصوم المفروض (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) عن الحرام (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) بقلوبهم وألسنتهم (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة (مَغْفِرَةً) لما اقترفوا من الصغائر لأنهن* مكفرات بما عملوا من الأعمال الصالحة (وَأَجْراً عَظِيماً) على ما صدر عنهم من الطاعات والآيات وعدلهن ولأمثالهن على الطاعة والتدرع بهذه الخصال الحميدة روى أن أزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضى عنهن قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال فى القرآن بخير فما فينا خير نذكر به إنا نخاف أن لا تقبل مناطاعة فنزلت وقيل السائلة أم سلمة وروى أنه لما نزل فى نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نزل قال نساء المؤمنين فما نزل فينا شىء فنزلت وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين وهو ضرورى وأما عطف الزوجين على الزوجين فلتغاير الوصفين فلا يكون ضروريا ولذلك ترك فى قوله تعالى (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) وفائدته الدلالة على أن مدار إعداد ما أعد لهم جمعهم بين هذه النعوت الجميلة (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) أى ما صح وما استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين والمؤمنات (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) أى إذا قضى رسول الله وذكر الله تعالى لتعظيم أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو للإشعار بأن قضاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضاء الله عزوجل لأنه نزل فى زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد بن حارثة فأبت هى وأخوها عبد الله وقيل فى أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط وهبت نفسها للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجها من زيد فسخطت هى وأخوها وقالا إنما أردنا الله ورسول الله فزوجنا عبده (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا بل يجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختيارهم تلوا لاختياره وجمع الضميرين لعموم مؤمن ومؤمنة لوقوعهما فى سياق النفى وقيل الضمير الثانى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجمع للتعظيم وقرىء تكون بالتاء (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فى أمر من الأمور ويعمل فيه برأيه (فَقَدْ ضَلَّ) طريق الحق (ضَلالاً مُبِيناً) أى بين الانحراف عن سنن الصواب (وَإِذْ تَقُولُ) أى واذكر وقت قولك (لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بتوفيقه

١٠٤

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٣٨)

____________________________________

للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته ومراعاته (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعمل بما وفقك الله له من فنون الإحسان* التى من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة وإيراده بالعنوان المذكور لبيان منافاة حاله لما صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إظهار خلاف ما فى ضميره إذ هو إنما يقع عند الاستحياء أو الاحتشام وكلاهما مما لا يتصور فى حق زيد (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) أى زينب وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت فى نفسه حالة* جبلية لا يكاد يسلم منها البشر فقال سبحان الله مقلب القلوب وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن لذلك ووقع فى نفسه كراهة صحبتها فأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال أريد أن أفارق صاحبتى فقال ما لك أرابك منها شىء قال لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها لشرفها تتعظم على فقال له أمسك عليك زوجك (وَاتَّقِ اللهَ) فى أمرها فلا تطلقها إضرارا وتعللا بتكبرها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وهو نكاحها إن طلقها أو إرادة طلاقها (وَتَخْشَى النَّاسَ) تعييرهم إياك به (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) إن كان فيه ما يخشى والواو للحال وليست المعاتبة على الإخفاء وحده بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافى إضماره فإن الأولى فى أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) بحيث لم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لى فيك (زَوَّجْناكَها) وقرىء* زوجتكها والمراد الأمر بتزويجها منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل جعلها زوجته بلا واسطة عقد ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله تعالى تولى نكاحى وأنتن زوجكن أولياؤكن وقيل كان زيد السفير فى خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد عدل بقوة إيمانه (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) ضيق ومشقة (فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) أى فى حق تزوجهن (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) فإن لهم فى رسول الله أسوة حسنة وفيه دلالة على أن حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكم الأمة سواء إلا ما خصه الدليل (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أى ما يرتد تكوينه من الأمور أو مأموره الخاص بكن (مَفْعُولاً) مكونا لا محالة اعتراض تذييلى مقرر لما قبله (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) أى ما صح وما استقام فى الحكمة أن يكون له ضيق (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أى قسم له وقدر من قولهم فرض له فى الديوان كذا ومنه فروض العساكر لأعطياتهم (سُنَّةَ اللهِ) اسم موضوع موضع المصدر كقولهم ترابا وجندلا مؤكد لما قبله من نفى الحرج أى سن الله ذلك سنة (فِي الَّذِينَ خَلَوْا) مضوا (مِنْ قَبْلُ) من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وسع عليهم فى باب النكاح وغيره ولقد كانت لداود عليه‌السلام مائة امرأة وثلثمائة سرية ولسليمان عليه‌السلام ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية وقوله تعالى (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أى قضاء مقضيا وحكما مبتوتا اعتراض وسط بين الموصولين الجاريين مجرى الواحد للمسارعة إلى تقرير نفى الحرج وتحقيقه.

١٠٥

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢)

____________________________________

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) صفة للذين خلوا أو مدح لهم بالنصب أو بالرفع وقرىء رسالة الله (وَيَخْشَوْنَهُ) فى كل ما يأتون ويذرون لا سيما فى أمر تبليغ الرسالة حيث لا يخرمون منها حرفا ولا تأخذهم فى ذلك لومة لاثم (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) فى وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعالى تعريض بما صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الاحتراز عن لائمة الخلق بعد التصريح فى قوله تعالى (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) كافيا للمخاوف فينبغى أن لا يخشى غيره أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة فيجب أن يكون حق الخشية منه تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أى على الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ولا ينتقض عمومه بكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا الطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا الحلم ولو بلغوا لكانوا رجالاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لالهم (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) أى كان رسولا لله وكل رسول أبو أمته لكن لا حقيقة بل بمعنى أنه شفيق ناصح لهم وسبب لحياتهم الأبدية وما زيد إلا واحد من رجالكم الذين لا ولادة بينهم وبينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكمه حكمهم وليس للتبنى والادعاء حكم سوى التقريب والاختصاص (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أى كان آخرهم الذى ختموا به وقرىء بكسر التاء أى كان خاتمهم ويؤيده قراءة ابن مسعود ولكن نبيا ختم النبيين وأيا ما كان فلو كان له ابن بالغ لكان نبيا ولم يكن هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين كما يروى أنه قال فى إبراهيم حين توفى لو عاش لكان نبيا ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده عليهما‌السلام لأن معنى كونه خاتم النبيين أنه لا ينبأ أحد بعده وعيسى ممن نبىء قبله وحين ينزل إنما ينزل عملا على شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصليا إلى قبلته كأنه بعض أمته (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومن جملته هذه الأحكام والحكم التى بينها لكم وكنتم منها فى شك مريب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) بما هو أهله من التهليل والتحميد والتمجيد والتقديس (ذِكْراً كَثِيراً) يعم الأوقات والأحوال (وَسَبِّحُوهُ) ونزهوه عما لا يليق به (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أى أول النهار وآخره على أن تخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر الأوقات بل لإبانة فضلهما على سائر الأوقات لكونهما مشهودين كأفراد التسبيح من بين الأذكار مع اندراجه فيها لكونه العمدة فيها وقيل كلا الفعلين متوجه إليهما كقولك صم وصل يوم الجمعة وقيل المراد بالتسبيح الصلاة.

١٠٦

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٤٥)

____________________________________

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) الخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين فإن صلاته تعالى عليهم مع عدم استحقافهم لها وغناه عن العالمين مما يوجب عليهم المداومة على ما يستوجبه تعالى عليهم من ذكره تعالى وتسييحه وقوله تعالى (وَمَلائِكَتُهُ) عطف على المستكن فى يصلى لمكان الفصل المغنى عن التأكيد* بالمنفصل لكن لا على أن يراد بالصلاة الرحمة أولا والاستغفار ثانيا فإن استعمال اللفظ الواحد فى معنيين متغايرين مما لا مساغ له بل على أن يراد بهما معنى مجازى عام يكون كلا المعنيين فردا حقيقيا له وهو الاعتناء بما فيه خيرهم وصلاح أمرهم فإن كلا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقى له أو الترحم والانعطاف المعنوى المأخوذ من الصلاة المشتملة على الانعطاف الصورى الذى هو الركوع والسجود ولا ريب فى أن استغفار الملائكة ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم وأما أن ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابى الدعوة كما قيل فاعتباره ينزع إلى الجمع بين المعنيين المتغايرين فتدبر (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) متعلق بيصلى أى يعتنى بأموركم* هو وملائكته ليخرجكم بذلك من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة وقوله تعالى (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) * اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أى كان بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتم رحيما ولذلك يفعل بكم ما يفعل من الاعتناء بإصلاحكم بالذات وبالواسطة ويهديكم إلى الإيمان والطاعة أو كان بكم رحيما على أن المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحا لهم وإشعارا بعلة الرحمة وقوله تعالى (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) بيان للأحكام الآجلة لرحمة الله تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة التى هى الاعتناء بأمرهم وهدايتهم إلى الطاعة أى ما يحيون به على أنه مصدر أضيف إلى مفعوله يوم لقائه عند الموت أو عند البعث من القبور أو عند دخول الجنة تسليم عليهم من الله عزوجل تعظيما لهم أو من الملائكة بشارة لهم بالجنة أو تكرمة لهم كما فى قوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أو إخبار بالسلامة عن كل مكروه وآفة وقوله تعالى (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) بيان لآثار رحمته الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك ولعل إيثار الجملة الفعلية على الاسمية المناسبة لما قبلها بأن يقال مثلا وأجرهم أجر كريم أو ولهم أجر كريم للمبالغة فى الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان أن الأجر الذى هو المقصد الأقصى من بيان سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم وتتحمل منهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولا

١٠٧

(وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٤٩)

____________________________________

فيما لهم وما عليهم وهو حال مقدرة (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكافرين بالنار (وَداعِياً إِلَى اللهِ) أى إلى الإقرار به وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله (بِإِذْنِهِ) أى بتيسيره أطلق عليه مجازا لما أنه من أسبابه وقيد به الدعوة إيذانا بأنها أمر صعب المنال وخطب فى غاية الإعضال لا يتأتى إلا بإمداد من جنات قدسه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل المعبودة وإدخال الأعناق فى قلادة غير معهودة (وَسِراجاً مُنِيراً) يستضاء به فى ظلمات الجهل والغواية ويهتدى بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين منهم (بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) أى على مؤمنى سائر الأمم فى الرتبة والشرف أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) نهى عن مداراتهم فى أمر الدعوة واستعمال لين الجانب فى التبليغ والمسامحة فى الإنذار كنى عن ذلك بالنهى عن طاعتهم مبالغة فى الزجر والتنفير عن المنهى عنه بنظمه فى سلكها وتصويره بصورتها ومن حمل النهى على التهييج والإلهاب فقد أبعد عن التحقيق بمراحل (وَدَعْ أَذاهُمْ) أى لا تبال بأذيتهم لك بسبب تصلبك فى الدعوة والإنذار (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فى كل ما تأتى وما تذر من الشئون التى من جملتها هذا الشأن فإنه* تعالى يكفيكهم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) موكولا إليه الأمور فى كل الأحوال وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلى ولما وصف صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعوت خمسة قوبل كل منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر مقابل الشاهد صريحا وهو الأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة مقابل المبشر عليه وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفا وقوبل النذير بالنهى عن مداراة الكفار والمنافقين والمسامحة فى إنذارهم كما تحققته وقوبل الداعى إلى الله بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث إنه عبارة عن الاستمداد منه تعالى والاستعانة به وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهانا نيرا يهدى الخلق من ظلمات الغى إلى نور الرشاد حقيقى بأن يكتفى به عن كل ما سواه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) أى تجامعوهن وقرىء تماسوهن بضم التاء (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) بأيام يتربصن فيها بأنفسهن (تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها من عددت الدراهم فاعتدها وحقيقته عدها لنفسه وكذلك كلته فاكتاله والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق

١٠٨

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥٠)

____________________________________

الأزواج كما أشعر به قوله تعالى (فَما لَكُمْ) وقرىء تعتدونها على إبدال إحدى الدالين بالتاء أو على أنه من الاعتداء بمعنى تعتدون فيها والخلوة الصحيحة فى حكم المس وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن من شأنه أن يتخير لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة وفائدة ثم إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخى الطلاق ريثما تمكن الإصابة يؤثر فى العدة كما يؤثر فى النسب (فَمَتِّعُوهُنَّ) أى إن لم يكن* مفروضا لها فى العقد فإن الواجب للمفروض لها نصف المفروض دون المتعة فإنها مستحبة عندنا فى رواية وفى أخرى غير مستحبة (وَسَرِّحُوهُنَّ) أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة (سَراحاً جَمِيلاً) من غير ضرار ولا منع حق ولا مساغ لتفسيره بالطلاق السنى لأنه إنما يتسنى فى المدخول بهن (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) أى مهورهن فإنها أجور الأبضاع وإيتاؤها إما إعطاؤها معجلة أو تسميتها فى العقد وأيا ما كان فتقييد الإحلال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ليس لتوقف الحل عليه ضرورة أنه يصح العقد بلا تسمية ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديرى الدخول وعدمه بل لإيثار الأفضل والأولى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية فى قوله تعالى (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها وكتقييد القرائب بكونهن مهاجرات معه فى قوله تعالى (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ويحتمل* تقييد الحل بذلك فى حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ويعضده قول أم هانىء بنت أبى طالب خطبنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذرت إليه فعذرنى ثم أنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأنى لم أهاجر معه كنت من الطلقاء (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) بالنصب عطفا على مفعول أحللنا إذ ليس معناه إنشاء الإحلال الناجز بل إعلام مطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أى أحللناها لك أيضا (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ) أى ملكته بضعها بأى عبارة كانت بلا مهر إن اتفق ذلك كما ينبىء عنه تنكيرها لكن لا مطلقا بل عند إرادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم استنكاحها كما نطق به قوله عزوجل (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) أى أن يتملك بضعها* كذلك أى بلا مهر فإن ذلك جار منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجرى القبول وحيث لم يكن هذا نصا فى كون تمليكها بلفظ الهبة لم يصلح أن يكون مناطا للخلاف فى انعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجابا أو سلبا واختلف فى اتفاق هذا العقد فعن ابن عباس رضى الله عنهما لم يكن عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد منهن بالهبة وقيل الموهوبات أربع ميمونة بنت الحرث وزينب بنت خزيمة الأنصارية وأم شريك بنت جابر وخولة بنت حكيم وإيراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الموضعين

١٠٩

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) (٥١)

____________________________________

بعنوان النبوة بطريق الالتفات للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسب* اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى (خالِصَةً لَكَ) أى خلص لك إحلالها خالصة أى خلوصا فإن الفاعلة فى المصادر غير عزيز كالعافية والكاذبة أو خلص لك إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود* المذكورة خالصة ومعنى قوله تعالى (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) على الأول أن الإحلال المذكور فى المادة المعهودة غير متحقق فى حقهم وإنما المتحقق هناك الإحلال بمهر المثل وعلى الثانى أن إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق حقهم بل المتحقق فيه إحلال البعض المعدود على الوجه المعهود وقرىء خالصة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى ذلك خلوص لك وخصوص أو هى أى تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز* المؤمنين حيث لا تحل لهم بغير مهر ولا تصح الهبة بل يجب مهر المثل وقوله تعالى (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) * أى على المؤمنين (فِي أَزْواجِهِمْ) أى فى حقهن اعتراض مقرر لما قبله من خلوص الإحلال المذكور لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم تجاوزه للمؤمنين ببيان أنه قد فرض عليهم من شرائط العقد وحقوقه ما لم يفرض* عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكرمة له وتوسعة عليه أى قد علمنا ما ينبغى أن يفرض عليهم فى حق أزواجهم (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) وعلى أى حد وأى صفة يحق أن يفرض عليهم ففرضنا ما فرضنا على ذلك الوجه وخصصناك* ببعض الخصائص (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أى ضيق واللام متعلقة بخالصة باعتبار ما فيها من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا باعتبار اختصاصه به صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثانى الذى هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما يعسر التحرز عنه (رَحِيماً) ولذلك وسع الأمر فى مواقع الحرج (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ) أى تؤخرها وتترك مضاجعتها (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها أو تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء وقرىء ترجىء* بالهمزة والمعنى واحد (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) أى طلبت (مِمَّنْ عَزَلْتَ) طلقت بالرجعية (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) فى شىء مما ذكر وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض لأنه إما أن يطلق أو يمسك فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق فإما أن يخلى المعزولة أو يبتغيها وروى أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء وكانت مما آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وأرجى خمسا وآوى أربعا وروى أنه كان يسوى بينهن مع ما أطلق له وخير إلا سودة فإنها وهبت ليلتها* لعائشة رضى الله عنهن وقالت لا تطلقنى حتى أحشر فى زمرة نسائك (ذلِكَ) أى ما ذكر من تفويض الأمر إلى مشيئتك (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أى أقرب إلى قرة عيونهن ورضاهن جميعا لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن

١١٠

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (٥٢)

____________________________________

أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن وقرىء تقر بضم التاء ونصب أعينهن وتقر على البناء للمفعول وكلهن تأكيد لنون يرضين وقرىء بالنصب على أنه تأكيد لهن (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الضمائر والخواطر فاجتهدوا فى إحسانها (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) مبالغا فى العلم فيعلم كل ما تبدونه وتخفونه (حَلِيماً) لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بتأخيرها فإنه إمهال لا إهمال (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقى ولوجود الفصل وقرىء بالتاء (مِنْ بَعْدُ) أى من بعد التسع وهو فى حقه كالأربع فى حقنا وقال ابن عباس وقتادة من بعد هؤلاء التسع اللاتى خيرتهن فاخترنك وقيل من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) أى تتبدل بحذف إحدى التاءين (بِهِنَّ) أى بهؤلاء التسع (مِنْ أَزْواجٍ) بأن تطلق واحدة منهن وتنكح مكانها أخرى ومن مزيدة لتأكيد الاستغراق* أراد الله تعالى لهن كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين فقصر رسوله عليهن وهن التسع اللاتى توفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهن وهن عائشة بنت أبى بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبى سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبى أمية وصفية بنت حيى الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحرث المصطلقية وقال عكرمة المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتى أحللناهن لك بالصفة التى تقدم ذكرها من الأعرابيات والغرائب أو من الكتابيات أو من الإماء بالنكاح ويأباه قوله تعالى (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) فإن معنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال نكاحهن فلا بد أن يكون معنى التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور بالنسخ الذى ليس من الوظائف البشرية (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) أى حسن الأزواج المستبدلة* وهو حال من فاعل تبدل لا من مفعوله وهو من أزواج لنوغله فى التنكير قيل تقديره مفروضا أعجابك بهن وقد مر تحقيقه فى قوله تعالى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) وقيل هى أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبى طالب أى هى ممن أعجبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسنهن واختلف فى أن الآية محكمة أو منسوخة قيل بقوله تعالى (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) وقيل بقوله تعالى (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف وقيل بالسنة وعن عائشة رضى الله عنها مامات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل له النساء وقال أنس رضى الله عنه مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التحريم (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء وقيل منقطع (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) * حافظا مهيمنا فاحذروا مجاوزة حدوده وتخطى حلاله إلى حرامه.

١١١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (٥٣)

____________________________________

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) شروع فى بيان ما يجب مراعاته على الناس من حقوق نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر بيان ما يجب مراعاته عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحقوق المتعلقة بهن وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أى لا تدخلوها فى حال من الأحوال إلا حال كونكم مأوذنا لكم وقيل من أعم الأوقات أى لا تدخلوها فى وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم ورد عليه بأن النحاة نصوا على أن الوقوع موقع الظرف مختص بالمصدر الصريح دون المؤول لا يقال آتيك أن يصيح الديك* وإنما يقال آتيك صياح الديك وقوله تعالى (إِلى طَعامٍ) متعلق بيؤذن بتضمين معنى الدعاء للإشعار بأنه* لا ينبغى أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة وإن تحقق الإذن كما يشعر به قوله تعالى (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أى غير منتظرين وقته أو إدراكه وهو حال من فاعل لا تدخلوا على أن الاستثناء واقع على الوقت والحال معا عند من يجوزه أو من المجرور فى لكم وقرىء بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له* بلا إبراز الضمير ولا مساغ له عند البصريين وقرىء بالإمالة لأنه مصدر أنى الطعام أى أدرك (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) استداراك من النهى عن الدخول بغير إذن وفيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى* الطعام هو الدعوة إليه (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) فتفرقوا ولا تلبثوا لأنه خطاب لقوم كان يتحينون طعام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته* صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لأمرمهم (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أى لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على ناظرين أو مقدر بفعل أى ولا تدخلوا أولا تمكثوا مستأنسين الخ (إِنَّ ذلِكُمْ) أى الاستئناس الذى كنتم تفعلونه من قبل (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإيجابه للاشتغال بما لا يعنيه وصده عن الاشتغال بما يعنيه (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أى من إخراجكم لقوله تعالى* (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) فإنه يستدعى أن يكون المستحيى منه أمرا حقا متعلقا بهم لا أنفسهم وما ذاك إلا إخراجهم فينبغى أن لا يترك حياء ولذلك لم يتركه تعالى وأمركم بالخروج والتعبير عنه بعدم الاستحياء* للمشاكلة وقرىء لا يستحى بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها إلى ما قبلها (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ) الضمير لنساء النبى المدلول عليهن بذكر بيوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مَتاعاً) أى شيئا يتمتع به من الماعون وغيره (فَسْئَلُوهُنَّ) أى المتاع* (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أى ستر وروى أن عمر رضى الله عنه قال يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت وقيل إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد

١١٢

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥٦)

____________________________________

عائشة رضى الله عنها فكره النبى ذلك فنزلت (ذلِكُمْ) أى ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم* الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أى أكثر تطهيرا من الخواطر الشيطانية (وَما كانَ لَكُمْ) أى وما صح وما استفام لكم (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أى أن تفعلوا فى حياته فعلا يكرهه ويتأذى به (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) أى من بعد وفاته أو فراقه (إِنَّ ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من إيذائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونكاح أزواجه من بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته فى الشر والفساد (كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) أى أمرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره* وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا مالا يخفى ولذلك بالغ تعالى فى الوعيد حيث قال (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) مما لا خير فيه كنكاحهن على ألسنتكم (أَوْ تُخْفُوهُ) فى صدوركم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصى البادية والخافية لا محالة وفى هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل وتشديد ومبالغة فى الوعيد (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ) استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب عنهم روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء الحجاب فنزلت وإنما لم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين ولذلك سمى العم أبا فى قوله تعالى (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الأخوة وأبناء الأخوات فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤولة لما أنهن عمات لأبناء الأخوة وخالات لأبناء الأخوات وقيل لأنه كره ترك الاحتجاب منهما مخافة أن يصفاهن لأبنائهما (وَلا نِسائِهِنَّ) أى نساء المؤمنات (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة وقد مر فى سورة النور (وَاتَّقِينَ اللهَ) فى كل ما تأتن وما تذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لا تخفى عليه خافية ولا تتفاوت فى علمه الأحوال (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ) وقرىء وملائكته بالرفع عطفا على محل إن واسمها عند الكوفيين وحملا على حذف الخبر ثقة بدلالة ما بعده عليه على رأى البصريين (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) قيل الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار وقال ابن عباس رضى* الله عنهما أراد أن الله يرحمه والملائكة يدعون له وعنه أيضا يصلون يبركون وقال أبو العالية صلاة الله

١١٣

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٥٨)

____________________________________

تعالى عليه ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاتهم دعاؤهم له فينبغى أن يراد بها فى يصلون معنى يجازى عام يكون كل واحد من المعانى المذكورة فردا حقيقيا له أى يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره ويهتمون* بإظهار شرفه وتعظيم شأنه وذلك من الله سبحانه بالرحمة ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) اعتنوا أنتم أيضا بذلك فإنكم أولى به (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قائلين اللهم صل على محمد وسلم أو نحو ذلك وقيل المراد بالتسليم انقياد أمره والآية دليل على وجوب الصلاة والسلام عليه مطلقا من غير تعرض لوجوب التكرار وعدمه وقيل يجب ذلك كلما جرى ذكره لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذكرت عنده فلم يصل على فدخل النار فأبعده الله ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وكل الله تعالى بى ملكين فلا أذكر عند مسلم فيصلى على إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله تعالى (وَمَلائِكَتَهُ) جوابا لذينك الملكين آمين ولا أذكر عند مسلم فلا يصلى على إلا قال دانك ملكان لا غفر الله لك وقال الله تعالى (وَمَلائِكَتَهُ) جوابا لذينك الملكين آمين ومنهم من قال يجب فى كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قيل فى آية السجدة وتشميت العاطس وكذلك فى كل دعاء فى أوله وآخره ومنهم من قال بالوجوب فى العمر مرة وكذا قال فى إظهار الشهادتين والذى يقتضيه الاحتياط ويستدعيه معرفة علو شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلى عليه كلما جرى ذكره الرفيع وأما الصلاة عليه فى الصلاة بأن يقال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد فليست بشرط فى جواز الصلاة عندنا وعن إبراهيم النخعى رحمة الله أن الصحابة كانوا يكتفون عن ذلك بما فى التشهد وهو السلام عليك أيها النبى وأما الشافعى رحمه‌الله فقد جعلها شرطا وأما الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتجوز تبعا وتكره استقلالا لأنه فى العرف شعار ذكر الرسل ولذلك كره أن يقال محمد عزوجل مع كونه عزيزا جليلا (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أريد بالإيذاء إما فعل ما يكرهانه من الكفر والمعاصى مجازا لاستحالة حقيقة التأذى فى حقه تعالى وقيل فى إيذائه تعالى هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقيل قول الذين يلحدون فى آياته وفى إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو قولهم شاعر ساحر كاهن مجنون وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الكريم يوم أحد وقيل طعنهم فى نكاح صفية والحق هو العموم فيهما وإما إيذاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة بطريق الحقيقة وذكر الله عزوجل لتعظيمه* والإيذان بجلالة مقداره عنده تعالى وإيذاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيذاء له سبحانه (لَعَنَهُمُ اللهُ) طردهم وأبعدهم من رحمته (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها (وَأَعَدَّ لَهُمْ) مع ذلك (عَذاباً مُهِيناً) يصيبهم فى الآخرة خاصة (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل وتقييده

١١٤

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١)

____________________________________

بقوله تعالى (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أى بغير جناية يستحقون بها الأذية بعد إطلاقه فيما قبله للإيذان بأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق وأما أذى هؤلاء فمنه ومنه (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أى ظاهرا* بينا قيل إنها نزلت فى منافقين كانوا يؤذون عليا رضى الله عنه ويسمعونه ما لا خير فيه وقيل فى أهل الإفك وقال الضحاك والكلبى فى زناة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما كان يقع منهما التعرض للحرائر أيضا جهلا أو تجاهلا لا تحاد الكل فى الزى واللباس والظاهر عمومه لكل ما ذكر ولما سيأتى من أراجيف المرجفين (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) بعد ما بين سوء حال المؤذين زجرا لهم عن الإيذاء أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأمر بعض المتأذنين منهم بما يدفع إيذاءهم فى الجملة من الستر والتميز عن مواقع الإيذاء فقيل (قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الجلباب ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رسها وتبقى منه ما نرسله على صدرها وقيل هى الملحفة وكل ما يتستر به أى يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعى ومن للتبعيض لما مر من أن المعهود التلفع ببعضها وإرخاء بعضها وعن السدى تغطى إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين (ذلِكَ) أى ما ذكر من التغطى* (أَدْنى) أقرب (أَنْ يُعْرَفْنَ) ويميزن عن الإماء والقينات اللاتى هن مواقع تعرضهم وإيذائهم (فَلا يُؤْذَيْنَ) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف منهن من التفريط (رَحِيماً) بعباده حيث يراعى من مصالحهم أمثال هاتيك الجزئيات (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عما هم عليه من النفاق وأحكامه الموجبة للإيذاء ٦٠ (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عما هم عليه من النزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) من الفريقين عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة المستتبعة للأذية وأصل الإرجاف التحريك من الرجفة التى هى الزلزلة وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم أو بما يضطرهم إلى الجلاء ولنحرضنك على ذلك (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ) عطف على جواب القسم وثم للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم ما يصيبهم (فِيها) أى فى المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه (مَلْعُونِينَ) نصب على الشتم أو الحال على أن الاستثناء وارد عليه أيضا على رأى من يجوزه كما مر فى قوله تعالى غير ناظرين إناه ولا سبيل إلى انتصابه عن قوله تعالى (أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً)

١١٥

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (٦٧)

____________________________________

لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أى سن الله ذلك فى الأمم الماضية سنة وهى أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وسعوا فى توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أصلا لا بتنائها على أساس الحكمة التى عليها يدور فلك التشريع (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أى عن وقت قيامها كان المشركون يسألونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء واليهود امتحانا لما أن الله تعالى عمى وقتها فى التوراة وسائر الكتب (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) * لا يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وقوله تعالى (وَما يُدْرِيكَ) خطاب مستقل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير داخل تحت الأمر مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة للخلق مرجوة المجىء عن قريب أى أى شىء يعلمك* بوقت قيامها أى لا يعلمك به شىء أصلا (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أى شيئا قريبا أو تكون الساعة فى وقت قريب وانتصابه على الظرفية ويجوز أن يكون التذكير باعتبار أن الساعة فى معنى اليوم أو الوقت وفيه تهديد للمستعجلين وتبكيت للمتعنتين والإظهار فى حيز الإضمار للتهويل وزيادة التقرير وتأكيد استقلال الجملة كما أشير إليه (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) على الإطلاق أى طردهم وأبعدهم من رحمته العاجلة والآجلة (وَأَعَدَّ لَهُمْ) مع ذلك (سَعِيراً) نارا شديدة الاتقاد يقاسونها فى الآخرة (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحفظهم (وَلا نَصِيراً) يخلصهم منها (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ظرف لعدم الوجدان وقيل لخالدين وقيل لنصيرا وقيل مفعول لا ذكر أى يوم تصرف وجوههم فيها من جهة إلى جهة كلحم يشوى فى النار أو يطبخ فى القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو من حال إلى حال أو يطرحون فيها مقلوبين منكوسين وقرىء تقلب بحذف إحدى التاءين من تتقلب ونقلب بإسناد الفعل إلى نون العظمة ونصب وجوههم وتقلب بإسناده إلى السعير وتخصيص الوجوه بالذكر لما أنها أكرم الأعضاء ففيه مزيد تفظيع للأمر وتهويل للخطب ويجوز أن* تكون عبارة عن كل الجسد فقوله تعالى (يَقُولُونَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية حالهم الفظيعة كأنه قيل فماذا يصنعون عند ذلك فقيل يقولون متحسرين على ما فانهم (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فلا نبتلى بهذا العذاب أو حال من ضمير وجوههم أو من نفسها أو هو العامل فى يوم (وَقالُوا)

١١٦

(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١)

____________________________________

عطف على (يَقُولُونَ) والعدول إلى صيغة الماضى للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربا من التشفى بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم فى تلك الورطة وإن علموا عدم قبوله فى حق خلاصهم منها (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر* وقرىء ساداتنا للدلالة على الكثرة والتعبير عنهم بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلا فهم فى مقام التحقير والإهانة (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) بما زينوا لنا من الأباطيل والألف للإطلاق كما فى وأطعنا الرسولا (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أى مثلى العذاب الذى آتيناه لأنهم ضلوا وأضلوا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أى شديدا عظيما وقرىء كثيرا وتصدير الدعاء بالنداء مكررا للمبالغة فى الجؤار واستدعاء الإجابة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) قيل نزلت فى شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة الناس (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) أى فأظهر براته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما قالوا فى حقه أى من مضمونه ومؤداه الذى هو الأمر المعيب وذلك أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه الصلاة والسلام بنفسها بأن دفع إليها مالا عظيما فأظهر الله تعالى نزاهته عليه الصلاة والسلام عن ذلك بأن أقرت المومسة بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل بقارون ما فعل كما فصل فى سورة القصص وقيل اتهمه ناس بقتل هرون عند خروجه معه إلى الطور فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به حتى رأوه غير مقتول وقيل أحياه الله تعالى فأخبرهم ببراءته وقيل قذفوه بعيب فى بدنه من برص أو أدرة لفرط تستره حياء فأطلعهم الله تعالى على براءته بأن فر الحجر بثوبه حين وضعه عليه عند اغتساله والقصة مشهورة (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ذا قربة ووجاهة* وقرىء وكان عبد الله وجيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أى فى كل ما تأتون وما تذرون لا سيما فى ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقُولُوا) فى كل شأن من الشئون (قَوْلاً سَدِيداً) قاصدا إلى الحق من سد يسد سدادا يقال سدد السهم نحو الرمية إذا لم يعدل به عن سمتها والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب الجائر عن العدل والقصد (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) يوفقكم للأعمال الصالحة أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ويجعلها مكفرة باستقامتكم فى القول والعمل (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فى الأوامر والنواهى التى من جملتها هذه التكليفات (فَقَدْ فازَ) فى الدارين (فَوْزاً عَظِيماً) * لا يقادر قدره ولا يبلغ غايته.

١١٧

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٣)

____________________________________

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) لما بين عظم شأن طاعة الله ورسوله ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام وعبر عنها بالأمانة تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشىء من حقوقها وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السموات وغيرها بالعرض عليها لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة فى قبولهن لها وعن عدم استعدادهن لقبولها بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التى يستعمل فيها القوى الجسمانية التى أشدها وأعظمها ما فيهن من القوة والشدة والمعنى أن تلك الأمانة فى عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التى هى مثل فى القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وأشفقن منها ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق روما لزيادة تحقيق المعنى المقصود* بالتمثيل وتوضيحه (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أى عند عرضها عليه إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أى تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة وهو إما عبارة عن قبوله* لها بموجب استعداده الفطرى أو عن اعترافه بقوله بلى وقوله تعالى (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله أى إنه كان مفرطا فى الظلم مبالغا فى الجهل أى بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلا وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أى حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا له من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها أبرز فى معرض الغرض أى كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية* وإلى الفريق الثانى أشير بقوله تعالى (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أى كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أى يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما

١١٨

فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة والإظهار فى موقع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامى الوعيد والوعد حقه والله تعالى أعلم وجعل الأمانة التى شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التى هى من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل من التقريب وحمل الكلام على تقرير الوعد الكريم الذى ينبىء عنه قوله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاها فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين يأباه وصفه بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا وقيل المراد بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعى والاختيارى وبعرضها استدعاؤها الذى يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها فيكون الإباء امتناعا عن الخيانة وإتيانا بالمراد فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتها وأتين بما أمرهن به كقوله تعالى (أَتَيْنا طائِعِينَ) وخانها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا وقيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما وقال لها إنى فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعنى فيها ونارا لمن عصانى فقلن نحن مسخرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبغى ثوابا ولا عقابا ولما خلق آدم عليه‌السلام عرض عليه مثل ذلك فحمله وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعى الذى هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية هذا قريب من التحقيق فتأمل والله الموفق وقرىء ويتوب الله على الاستئناف (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) مبالغا فى المغفرة والرحمة حيث تاب عليهم وغفر* لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطى الأمان من عذاب القبر والله أعلم.

١١٩

٣٤ ـ سورة سبا

(مكية وآياتها أربع وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (٢)

____________________________________

(سورة سبأ مكية وقيل إلا (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية وهى أربع وخمسون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى له تعالى خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإمانة جميع ما وجد فيهما داخلا فى حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فكأنه قيل له جميع المخلوقات كما مر فى آية الكرسى ووصفه تعالى بذلك لتقرير ما أفاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة بالاسم الجليل من اختصاص جميع أفراده به تعالى على ما بين فى فاتحة الكتاب ببيان تفرده تعالى واستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه من الموجودات التى من جملتها الإنسان تحت ملكوته تعالى ليس لها فى حد ذاتها استحقاق الوجود فضلا عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عزوجل فما هذا شأنه فهو بمعزل من استحقاق الحمد الذى مداره الجميل* الصادر عن القادر بالاختيار فظهر اختصاص جميع أفراده به تعالى وقوله تعالى (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) بيان لاختصاص الحمد الأخروى به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوى به على أن الجار متعلق إما بنفس الحمد أو بما تعلق به الخبر من الاستقرار وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للاكتفاء بذكر كونه فى الآخرة عن التعيين كما اكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه فى الدنيا عن ذكر كون الحمد أيضا فيها بل ليعم النعم الأخروية كما فى قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ) وقوله تعالى (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) الآية وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما فى قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أى لما جزاؤه هذا من الإيمان والعمل الصالح والفرق بين الحمدين مع كون نعمتى الدنيا والآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثانى على وجه التلذذ والاغتباط وقد ورد فى الخبر أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذى أحكم أمور الدين والدنيا ودبرها حسبما تقتضيه الحكمة (الْخَبِيرُ) ببواطن الأشياء ومكنوناتها وقوله تعالى (يَعْلَمُ ما يَلِجُ

١٢٠