تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠)

____________________________________

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) معطوف حينئذ على الجملة المنفية داخل فى حيز الإنكار والتقبيح وأما على التقدير الأول فهو عطف على الجملة الفجائية والمعنى ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلا أى أورد فى شأننا قصة عجيبة فى نفس الأمر هى فى الغرابة والبعد عن العقول كالمثل وهى إنكار إحيائنا العظام أو قصة عجيبة فى زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل وأنكرها أشد الإنكار وهى إحياؤنا إياها وجعل لنا مثلا ونظيرا من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم ونفى الكل على العموم وقوله تعالى (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أى خلقنا إياه على* الوجه المذكور الدال على بطلان ما ضربه إما عطف على ضرب داخل فى حيز الإنكار والتعجيب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه وقوله تعالى (قالَ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية ضربه* المثل كأنه قيل أى مثل ضرب أو ماذا قال فقيل قال (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ) منكرا له أشد النكير مؤكدا له بقوله تعالى (وَهِيَ رَمِيمٌ) أى بالية أشد البلى بعيدة من الحياة غاية البعد فالمثل على الأول هو إنكار إحيائه* تعالى للعظام فإنه أمر عجيب فى نفس الأمر حقيق لغرابته وبعده من العقول بأن يعد مثلا ضرورة جزم العقول ببطلان الإنكار ووقوع المنكر لكونه كالإنشاء بل أهون منه فى قياس العقل وعلى الثانى هو إحياؤه تعالى لها فإنه أمر عجيب فى زعمه قد استبعده وعده من قبيل المثل وأنكره أشد الإنكار مع أنه فى نفس الأمر أقرب شىء من الوقوع لما سبق من كونه مثل الإنشاء أو أهون منه وأما على الثالث فلا فرق بين أن يكون المثل هو الإنكار أو المنكر وعدم تأنيث الرميم مع وقوعه خبرا للمؤنث لأنه اسم لما بلى من العظام غير صفة كالرفات وقد تمسك بظاهر الآية الكريمة من أثبت للعظم حياة وبنى عليه الحكم بنجاسة عظم الميتة وأما أصحابنا فلا يقولون بحياته كالشعر ويقولون المراد بإحياء العظام ردها إلى ما كانت عليه من الغضاضة والرطوبة فى بدن حى حساس (قُلْ) تبكيتا له بتذكير ما نسبه من فطرته الدالة على حقيقة الحال وإرشاده إلى طريقة الاستشهاد بها (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإن قدرته كما هى لاستحالة التغير فيها والمادة على حالها (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم بتفاصيل كيفيات الخلق والإيجاد إنشاء وإعادة محيط بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلا من ذلك على النمط السابق مع القوى التى كانت قبل والجملة إما اعتراض تذييلى مقرر لمضمون الجواب أو معطوفة على الصلة والعدول إلى الجملة الاسمية للتنبيه على أن علمه تعالى بما ذكر أمر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت وقوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف صلته على صلته

١٨١

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣)

____________________________________

للتأكيد ولتفاوتهما فى كيفية الدلالة أى خلق لأجلكم ومنفعتكم منه نارا على أن الجعل إبداعى والجاران متعلقان به قدما على مفعوله الصريح مع تأخيرهما عنه رتبة لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ووصف الشجر بالأخضر نظرا إلى اللفظ وقد قرىء الخضراء نظرا إلى المعنى وهو المرخ والعفار يقطع الرجل منهما عصيتين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى وذلك قوله تعالى (فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا فطرأ عليه اليبوسة والبلى وقوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الخ استئناف مسوق من جهته عزوجل لتحقيق مضمون الجواب الذى أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخاطبهم بذلك ويلزمهم الحجة والهمزة للإنكار والنفى والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى أليس الذى أنشأها أول مرة وليس الذى جعل لهم من الشجر الأخضر نارا وليس الذى خلق السموات والأرض مع كبر* جرمهما وعظم شأنهما (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فى الصغر والقماءة بالنسبة إليهما فإن بديهة العقل قاضية بأن من قدر على خلقهما فهو على خلق الأناسى أقدر كما قال تعالى (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) وقرىء يقدر وقوله تعالى (بَلى) جواب من جهته تعالى وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكارى من تقرير ما بعد النفى وإيذان بتعين الجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الإلزام وقوله تعالى (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) عطف على ما يفيده الإيجاب أى بلى هو قادر على ذلك وهو المبالغ فى الخلق والعلم كيفا وكما (إِنَّما أَمْرُهُ) أى شأنه (إِذا أَرادَ شَيْئاً) من الأشياء (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) أى أن يعلق به قدرته (فَيَكُونُ) فيحدث من غير توقف على شىء آخر أصلا وهذا تمثيل لأثير قدرته تعالى فيما أراده بأمر الآمر المطاع المأمور المطيع فى سرعة حصول المأمور به من غير توقف على شىء ما وقرىء فيكون بالنصب عطفا على يقول (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) تنزيه له عز وعلا عما وصفوه تعالى به وتعجيب مما قالوا فى شأنه تعالى وقد مر تحقيق معنى سبحان والفاء للإشارة إلى أن ما فصل من شئونه تعالى موجبة لتنزهه وتنزيهه أكمل إيجاب كما أن وصفه تعالى بالمالكية الكلية المطلقة للإشعار بأنها مقتضية لذلك أتم اقتضاء والملكوت مبالغة فى الملك كالرحموت والرهبوت وقرىء ملكة كل شىء* ومملكة كل شىء وملك كل شىء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لا إلى غيره وقرىء ترجعون بفتح التاء من الرجوع وفيه من الوعد والوعيد ما لا يخفى. عن ابن عباس رضى الله عنهما كنت لا أعلم ما روى فى فضائل يس

١٨٢

٣٧ ـ سورة الصافات

(مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣)

____________________________________

وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن لكل شىء قلبا وإن قلب القرآن يس من قرآها يريد بها وجه الله تعالى غفر الله له وأعطى من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة وأيما مسلم قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه وأيما مسلم قرأ يس وهو فى سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ويمكث فى قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن فى القرآن سورة تشفع لقارئها وتستغفر لمستمعها ألا وهى سورة يس.

(سورة الصافات مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) إقسام من الله عزوجل بطوائف الملائكة الفاعلات للصفوف على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول أو الصافات أنفسها أى الناظمات لها فى سلك الصفوف بقيامها فى مقاماتها المعلومة حسبما ينطق به قوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وعلى هذين المعنيين مدار قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) وقيل الصافات أقدامها فى الصلاة وقيل أجنحتها فى الهواء (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) أى الفاعلات للزجر أو الزاجرت لما نيط بها زجره من الأجرام العلوبة والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصى وزجر الشياطين عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما سيأتى وصفا وزجرا مصدران مؤكدان لما قبلهما أى صفا بديعا وزجرا بليغا وأما ذكرا فى قوله تعالى (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) فمفعول التاليات أى التاليات ذكرا عظيم الشأن من آيات الله تعالى وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرها من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد وقيل هو أيضا مصدر مؤكد لما قبله فإن التلاوة من باب الذكر ثم إن هذه الصفات إن أجريت على الكل فعطفها بالفاء للدلالة على ترتبها فى الفضل إما بكون الفضل للصف ثم للزجر ثم

١٨٣

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٦)

____________________________________

للتلاوة أو على العكس وإن أجريت كل واحدة منهن على طوائف معينة فهو للدلالة على ترتب الموصوفات فى مراتب الفضل بمعنى أن طوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل والتاليات أبهر فضلا أو على العكس وقيل المراد بالمذكورات نفوس العلماء العمال الصافات أنفسها فى صفوف الجماعات وأقدامها فى الصلوات الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله تعالى الدارسات شرائعه وأحكامه وقيل طوائف الغزاة الصافات أنفسهم فى مواطن الحروب كأنهم بنيان مرصوص أو طوائف قوادهم الصافات لهم فيها الزاجرات الخيل للجهاد سوقا والعدو فى المعارك طردا التاليات آيات الله تعالى وذكره وتسبيحه فى تضاعيف ذلك والكلام فى العطف ودلالته على ترتب الصفات فى الفضل أو ترتب موصوفاتها فيه كالذى سلف وأما الدلالة على الترتب فى الوجود كما فى قوله[يا لهف زبانة للحرث ال * صابح فالغانم فالآيب] فغير ظاهرة فى شىء من الطوائف المذكورة فإنه لو سلم تقدم الصف على الزجر فى الملائكة والغزاة فتأخر التلاوة عن الزجر غير ظاهر وقيل الصافات الطير من قوله تعالى (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) والزاجرات كل ما يزجر عن المعاصى والتاليات كل من يتلو كتاب الله تعالى وقيل الزاجرات القوارع القرآنية وقرىء بإدغام التاء فى الصاد والزاى والذال (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) جواب القسم والجملة تحقيق للحق الذى هو التوحيد بما هو المألوف فى كلامهم من التأكيد القسمى وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به أعنى قوله تعالى (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وأعدل شواهد وحدته كما مر فى قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ورب خبر ثان لأن أو خبر مبتدأ محذوف أى مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ومربيها ومبلغها إلى كمالاتها والمراد بالمشارق مشارق الشمس وإعادة الرب فيها لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم فإنها ثلثمائة وستون مشرقا تشرق كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب وتغرب كل يوم فى مغرب منها وأما قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أى القربى منكم (بِزِينَةٍ) عجيبة بديعة (الْكَواكِبِ) بالجر بدل من زبنة على أن المراد بها الاسم أى ما يزن به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأى زينة وقرىء بالإضافة على أنها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كل ما بزان به فتقع الكواكب بيانا لها ويجوز أن يراد بزينة الكواكب ما زينت هى به وهو ضوؤها وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما بزينة الكواكب بضوء الكواكب هذا وأما على تقدير كون الزينة مصدرا فالمعنى على

١٨٤

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠)

____________________________________

تقدير إضافتها إلى الفاعل بأن زانت الكواكب إياها وأصله بزينة الكواكب وعلى تقدير إضافتها إلى المفعول بأن زان الله الكواكب وحسنها وأصله بزينة الكواكب والمراد هو التزيين فى رأى العين فإن جميع الكواكب من الثوابت والسيارات تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة فى سطح سماء الدنيا بصور بديعة وأشكال رائعة ولا يقدح فى ذلك ارتكاز الثوابت فى الفلك الثامن وما عدا القمر فى الستة المتوسطة إن ثبت ذلك (وَحِفْظاً) منصوب إما بعطفه على زينة باعتبار المعنى كأنه قيل إنا خلقنا الكواكب ٧ زينة للسماء وحفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أى خارج عن الطاعة برمى الشهب وإما بإضمار فعله وإما بتقدير فعل مؤخر معلل به كأنه قيل وحفظا من كل شيطان مارد زيناها بالكواكب كقوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) وقوله تعالى (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) كلام مبتدأ مسوق لبيان حالهم بعد بيان حفظ السماء عنهم مع التنبيه على كيفية الحفظ وما يعتريهم فى أثناء ذلك من العذاب ولا سبيل إلى جعله صفة لكل شيطان ولا جوابا عن سؤال مقدر لعدم استقامة المعنى ولا علة للحفظ على أن يكون الأصل لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت من قولك جئتك أن تكرمنى فبقى أن لا يسمعوا ثم يحذف أن ويهدر عملها كما فى قول من قال [ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى] لما أن كل واحد من ذينك الحذفين غير منكر بانفراده فأما اجتماعهما فمن أنكر المنكرات التى يجب تنزيه ساحة التنزيل الجليل عن أمثالها وأصل يسمعون يتسمعون والملأ الأعلى الملائكة وعن ابن عباس رضى الله عنهما هم الكتبة وعنه أشراف الملائكة عليهم الصلاة والسلام أى لا يتطلبون السماع والإصغاء إليهم وقرىء يسمعون بالتخفيف (وَيُقْذَفُونَ) يرمون (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها (دُحُوراً) علة للقذف أى للدحور أو حال بمعنى مدحورين أو مصدر مؤكد له لأنهما من واد واحد وقرىء دحورا بفتح الدال أى قذفا دحورا مبالغا فى الطرد وقد جوز أن يكون مصدرا كالقبول والولوع (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أى ولهم فى الآخرة غير ما فى الدنيا من عذاب الرجم بالشهب عذاب شديد دائم غير منقطع كقوله تعالى (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من واو يسمعون ومن بدل منه والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة وقرىء بكسر الخاء والطاء المشددة وبفتح الخاء وكسر الطاء

١٨٥

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ(١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (١٦)

____________________________________

وتشديدها وأصلهما اختطف (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) أى تبعه ولحقه وقرىء فاتبعه والشهاب ما يرى منقضا من السماء (ثاقِبٌ) مضىء فى الغاية كأنه يثقب الجو بضوئه يرجم به الشياطين إذا صعدوا لاستراق السمع فيقتلهم أو يحرقهم أو يخبلهم قالوا وإنما يعود من يسلم منهم حيا طمعا فى السلامة ونيل المراد كراكب السفينة (فَاسْتَفْتِهِمْ) فاستخبر مشركى مكة (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أى أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقا وأشق إيجاد (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب ومن لتغليب العقلاء على غيرهم ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك لا سيما قراءة من قرأ أم من* عددنا وقوله تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم من الأمم كعاد وثمود ولأن المراد إثبات المعاد ورد استحالتهم والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء وقرىء لازم ولاتب (بَلْ عَجِبْتَ) أى من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم للبعث (وَيَسْخَرُونَ) من تعجيبك وتقريرك للبعث وقرىء بضم التاء على معنى أنه بلغ كمال قدرتى وكثرة مخلوقاتى إلى حيث عجبت منها وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفاعيله ويسخروا ممن يجوزه والعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم له فإنه روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشىء وقيل إنه مقدر بالقول أى قل يا محمد بل عجبت (وَإِذا ذُكِّرُوا) أى ودأبهم المستمر أنهم إذا وعظوا بشىء من المواعظ (لا يَذْكُرُونَ) لا يتعظون وإذا ذكر لهم ما يدل على صحة البعث لا ينتفعون به لغاية بلادتهم وقصور فكرهم (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أى معجزة تدل على صدق القائل به (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون فى السخرية ويقولون إنه سحر أو يستدعى بعضهم من بعض أن يسخر منها (وَقالُوا إِنْ هذا) أى ما يرونه من الآيات الباهرة (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر سحريته (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أى كان بعض أجزائنا ترابا وبعضها عظاما وتقديم التراب لأنه منقلب من الأجزاء البادية والعامل فى إذا ما دل عليه مبعوثون فى قوله تعالى (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أى نبعث لا نفسه لأن دونه خطوبا

١٨٦

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢٢)

____________________________________

لو تفرد واحد منها لكفى فى المنع وتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة وكذا تكرير الهمزة فى أثنا للمبالغة والتشديد فى ذلك وكذا تحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما فى مثل قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على رأى الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الإنكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور وقرىء بطرح الهمزة الأولى وبطرح الثانية فقط (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) رفع على الابتداء وخبره محذوف عند سيبويه أى وآباؤنا الأولون أيضا مبعثون وقيل عطف على محل إن واسمها وقيل على الضمير فى مبعوثون للفصل بهمزة الإنكار الجارية مجرى حرف النفى فى قوله تعالى (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) وأيا ما كان فمرادهم زيادة الاستبعاد بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على زعمهم وقرىء أو آباؤنا (قُلْ) تبكيتا لهم (نَعَمْ) والخطاب فى قوله تعالى (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) لهم ولآبائهم بطريق التغليب والجملة حال من فاعل ما دل عليه نعم أى كلكم مبعوثون والحال أنكم صاغرون أذلاء وقرىء نعم بكسر العين وهى لغة فيه (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) هى إما ضمير مبهم يفسره خبره أو ضمير البعثة والجملة جواب شرط مضمر أو تعليل لنهى مقدر أى إذا كان كذلك فإنما هى الخ أو لا تستصعبوه فإنما هى الخ والزجرة الصيحة من زجر الراعى غنمه إذا صاح عليها وهى النفخة الثانية (فَإِذا هُمْ) قائمون من مراقدهم أحياء (يَنْظُرُونَ) يبصرون كما كانوا أو ينتظرون ما يفعل بهم (وَقالُوا) أى المبعوثون وصيغة الماضى للدلالة على التحقق والتقرر (يا وَيْلَنا) أى هلاكنا أحضر فهذا أوان حضورك وقوله تعالى (هذا يَوْمُ الدِّينِ) تعليل لدعائهم الويل بطريق الاستئناف أى اليوم الذى نجازى فيه بأعمالنا وإنما علموا ذلك لأنهم كانوا يسمعون فى الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضا وقوله تعالى (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ والتقريع وقيل هو أيضا من كلام بعضهم لبعض والفصل القضاء أو الفرق بين فرق الهدى والصلال وقوله تعالى (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) خطاب من الله عزوجل للملائكة

١٨٧

(مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (٢٨)

____________________________________

أو من بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف وقيل من الموقف إلى الجحيم (وَأَزْواجَهُمْ) أى أشباههم ونظراءهم من العصاة عابد الصم مع عبدته وعابد الكواكب مع عبدته كقوله تعالى (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) وقيل قرناءهم من الشياطين وقيل نساءهم اللاتى على دينهم (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام ونحوها زيادة فى تحسيرهم وتخجيلهم قيل هو عام مخصوص بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية الكريمة وأنت خبير بأن الموصول عبارة عن المشركين خاصة جىء به لتعليل الحكم بما فى حيز صلته فلا عموم ولا تخصيص (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أى عرفوهم طريقها ووجهوهم إليها وفيه تهكم بهم (وَقِفُوهُمْ) احبسوهم فى الموقف كأن الملائكة سارعوا إلى ما أمروا به من حشرهم إلى الجحيم فأمروا بذلك وعلل بقوله تعالى (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) إيذانا من أول الأمر بأن ذلك ليس للعفو عنهم ولا ليستريحوا بتأخير العذاب فى الجملة بل ليسألوا لكن لا عن عقائدهم وأعمالهم كما قيل فإن ذلك قد وقع قبل الأمر بهم إلى الجحيم بل عما ينطق به قوله تعالى (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) بطريق التوبيخ والتقريع والتهكم أى لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تزعمون فى فى الدنيا وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء عنها بالكلية فالتوبيخ والتقريع حينئذ أشد وقعا وتأثيرا وقرىء لا تتناصرون ولا تناصرون بالإدغام (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون خاضعون لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم أو أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز فكلهم مستسلم غير منتصر (وَأَقْبَلَ) حينئذ (بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) هم الأتباع والرؤساء أو الكفرة والقرناء (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال (قالُوا) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية تساؤلهم كأنه قيل كيف تساءلون فقيل قالوا أى الأتباع للرؤساء أو الكل للقرناء (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا) فى الدنيا (عَنِ الْيَمِينِ) عن أقوى الوجوه وأمتنها أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السانح فتبعناكم فهلكنا مستعار من يمين الإنسان الذى هو أشرف الجانبين وأقواهما وأنفعهما ولذلك سمى يمينا ويتيمن بالسانح أو عن القوة والقسر فتقسروننا على الغى وهو الأوفق للجواب أو عن الحلف حيث كانوا يحلفون أنهم على الحق.

١٨٨

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) (٣٨)

____________________________________

(قالُوا) استئناف كما سبق أى قال الرؤساء أو القرناء (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أى لم نمنعكم من الإيمان بل لم نؤمنوا باختياركم وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه وآثرتم الكفر عليه (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) مختارين للطغيان مصرين عليه (فَحَقَّ عَلَيْنا) أى لزمنا وثبت علينا (قَوْلُ رَبِّنا) وهو قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (إِنَّا لَذائِقُونَ) أى العذاب الذى ورد به الوعيد (فَأَغْوَيْناكُمْ) فدعوناكم إلى الغى دعوة غير ملجئة فاستجبتم لنا باختياركم واستحبابكم الغى على الرشد (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) فلا عتب علينا فى تعرضنا لإغوائكم بتلك المرتبة من الدعوة لتكونوا أمثالنا فى الغواية (فَإِنَّهُمْ) أى الأتباع والمتبوعين (يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) حسبما كانوا مشتركين فى الغواية (إِنَّا كَذلِكَ) أى مثل ذلك الفعل البديع الذى تقتضيه الحكمة التشريعية (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) المتناهين فى الإجرام وهم المشركون كما يعرب عنه التعليل بقوله تعالى (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ) بطريق الدعوة والتلقين (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) عن القبول (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) رد عليهم وتكذيب لهم ببيان أن ما جاء به من التوحيد هو الحق الذى قام به البرهان وأجمع عليه كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام فأين الشعر والجنون من ساحته الرفيعة (إِنَّكُمْ) بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستكبار (لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ)

١٨٩

(وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٤٣)

____________________________________

والالتفات لإظهار كمال الغضب عليهم وقرىء بنصب العذاب على تقدير النون كقوله [ولا ذاكر الله إلا قليلا] وقرىء لذائقون العذاب على الأصل (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى إلا جزاء ما كنتم تعملونه من السيئات أو إلا بما كنتم تعملونه منها (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراض جىء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا وجعله استثناء من ضمير تجزون على معنى أن الكفرة لا يجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المخلصين فإنهم يجزون أضعافا مضاعفة مما لا وجه له أصلا لا سيما جعله استثناء متصلا بتعميم الخطاب فى تجزون لجميع المكلفين فإنه ليس فى حيز الاحتمال فالمعنى إنكم لذائقون العذاب الأليم لكن عباد الله المخلصين الموحدين ليسوا كذلك وقوله تعالى (أُولئِكَ) إشارة إليهم للإيذان بأنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص فى عبادة الله تعالى عمن عداهم امتيازا بالغا منتظمون بسببه فى سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم فى الفضل وهو مبتدأ وقوله* تعالى (لَهُمْ) إما خبر له وقوله تعالى (رِزْقٌ) مرتفع على الفاعلية بما فيه من الاستقرار أو مبتدأ ولهم خبر مقدم والجملة خبر لأولئك والجملة الكبرى استئناف مبين لما أفاده الاستثناء إجمالا بيانا تفصيليا وقيل هى* خبر للاستثناء المنقطع على أنه متأول بالمبتدأ وقوله تعالى (مَعْلُومٌ) أى معلوم الخصائص من حسن المنظر ولذة الطعم وطيب الرائحة ونحوها من نعوت الكمال وقيل معلوم الوقت كقوله تعالى (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) وقوله تعالى (فَواكِهُ) إما بدل من رزق أو خبر مبتدأ مضمر أى ذلك الرزق فواكه وتخصيصها بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه أى ما يؤكل لمجرد التلذذدون الاقتيات لأنهم مستغنون عن القوت لكون خلقتهم محكمة محفوظة من التحلل المحوج إلى البدل وقيل لأن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة فذكرها مغن عن ذكرها (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) عند الله عزوجل لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم وقيل مكرمون فى نيله حيث يصل إليهم بغير تعب وسؤال كما هو شأن أرزاق الدنيا وقرىء مكرمون بالتشديد (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أى فى جنات ليس فيها إلا النعيم وهو ظرف أو حال من المستكن فى مكرمون أو خبر ثان لأولئك.

١٩٠

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٥٠)

____________________________________

وقوله تعالى (عَلى سُرُرٍ) محتمل للحالية والخبرية فقوله تعالى (مُتَقابِلِينَ) حال من المستكن فيه أو فى مكرمون وقوله تعالى (يُطافُ عَلَيْهِمْ) إما استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية تكامن مجالس أنسهم أو حال من الضمير فى متقابلين أو فى أحد الجارين وقد جوز كونه صفة لمكرمون (بِكَأْسٍ) بإناء فيه خمر أو بخمر فإن الكأس تطلق على نفس الخمر كما فى قول من قال[وكأس شربت على لذة * وأخرى تدوايت منهابها] (مِنْ مَعِينٍ) متعلق بمضمر هو صفة لكأس أى كائنة من شراب معين أو من نهر معين وهو الجارى على وجه الأرض الظاهر للعيون أو الخارج من العيون من عان الماء إذا نبع وصف به الخمر وهو للماء لأنها تجرى فى الجنة فى أنهار كما يجرى الماء قال تعالى (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) صفتان أيضا لكأس ووصفها بلذة إما للمبالغة كأنها نفس اللذة أو لأنها تأنيث اللذ بمعنى اللذيذ ووزنه فعل قال[ولذ كطعم الصر خدى تركته * بأرض العدا من خيفة الحدثان] يريد به النوم (لا فِيها غَوْلٌ) أى غائلة كما فى خمور الدنيا من غاله إذا أفسده وأهلكه ومنه الغول (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله ويقال للمطعون نزف فمات إذا خرج دمه كله أفرد هذا بالنفى مع اندراجه فيما قبله من نفى الغول عنها لما أنه من معظم مفاسد الخمر كأنه جنس برأسه والمعنى لا فيها نوع من أنواع الفساد من مغص أو صداع أو خمار أو عربدة أو لغو أو تأثيم ولا هم يسكرون وقرىء ينزفون بكسر الزاى من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه وقرىء ينزفون بضم الزاى من نزف ينزف بضم الزاى فيهما (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم (عِينٌ) نجل العيون جمع عيناء والنجل سعة العين (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شبهن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه فى الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) معطوف على يطاف أى يشربون فيتحادثون على الشراب كما هو عادة الشرب قال [وما

١٩١

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (٥٥) (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) (٥٦)

____________________________________

بقيت من اللذات إلا فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن الفضائل والمعاف وعما جرى لهم وعليهم فى الدنيا فالتعبير عنه بصيغة الماضى للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع حتما (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) فى تضاعيف محاوراتهم (إِنِّي كانَ لِي) فى الدنيا (قَرِينٌ) مصاحب (يَقُولُ) لى على طريقة التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أى بالبعث وقرىء بتشديد الصاد من التصدق والأول هو الأوفق لقوله تعالى (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أى لمبعوثون ومجزيون من الدين بمعنى الجزاء أو لمسوسون يقال دانه أى ساسه ومنه الحديث العاقل من دان نفسه وقيل كان رجل تصدق بماله لوجه الله تعالى فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه فقال أين مالك قال تصدقت به ليعوضنى الله تعالى فى الآخرة خيرا منه فقال أئنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب والله لا أعطيك شيئا فيكون التعرض لذكر موتهم وكونهم ترابا وعظاما حينئذ لتأكيد إنكار الجزاء المبنى على إنكار البعث (قالَ) أى ذلك القائل بعد ما حكى لجلسائه مقالة قرينه فى الدنيا (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أى إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه وقيل القائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة يقول لهم هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار (فَاطَّلَعَ) أى عليهم (فَرَآهُ) أى قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أى فى وسطها وقرىء فأطلع على لفظ المضارع المنصوب وقرىء مطلعون فأطلع وفأطلع بالتخفيف على لفظ الماضى والمضارع المنصوب يقال طلع علينا فلان واطلع واطلع بمعنى واحد والمعنى هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضا أو عرض عليهم الاطلاع فقبلوا ما عرضه فاطلع هو بعد ذلك وإن جعل الاطلاع متعديا فالمعنى أنه لما شرط فى إطلاعه إطلاعهم كما هو ديدن الجلساء فكأنهم مطلعوه وقيل الخطاب على هذا للملائكة وقرىء مطلعون بكسر النون أراد مطلعون إياى فوضع المتصل موضع المنفصل كقولهم [هم الفاعلون الخير والآمرونه] أو شبه اسم الفاعل بالمضارع لما بينهما من التآخى (قالَ) أى القائل مخاطبا لقرينه (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أى لتهلكنى بالإغواء وقرىء

١٩٢

(وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (٦٢)

____________________________________

لتغوين والتاء فيه معنى التعجب وإن هى المخففة من إن وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف واللام فارقة أى تالله إن الشأن كدت لتردين (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) بالهداية والعصمة (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أى من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأضرابك وقوله تعالى (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه تبجحا وابتهاجا بما أتاح الله عزوجل لهم من الفضل العظيم والنعيم المقيم والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام أى أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أى بمن شأنه الموت وقرىء بمائتين (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التى كانت فى الدنيا وهى متناولة لما فى القبر بعد الإحياء للسؤال قاله تصديقا لقوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) وقيل إن أهل الجنة أول ما دخلوا الجنة لا يعلمون أنهم لا يموتون فإذا جىء بالموت على صورة كبش أملح فذبح ونودى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت يعلمونه فيقولون ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى واغتباطا بها (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) كالكفار فإن النجاة من العذاب أيضا نعمة جليلة مستوجبة للتحدث بها (إِنَّ هذا) أى الأمر العظيم الذى نحن فيه (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وقيل هو من قول الله عزوجل تقريرا لقولهم وتصديقا له وقرىء لهو الرزق العظيم وهو ما رزقوه من السعادة العظمى (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أى لنيل هذا المرام الجليل يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام المشوبة بفنون الآلام وهذا أيضا يحتمل أن يكون من كلام رب العزة (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) أصل النزل الفضل والريع فاستعير للحاصل من الشىء فانتصابه على التمييز أى أذلك الرزق المعلوم الذى حاصله اللذة والسرور خير نزلا أم شجرة الزقوم التى حاصلها الألم والغم ويقال النزل لما يقام ويهيأ من الطعام الحاضر للنازل فانتصابه على الحالية والمعنى أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم فأيهما خير فى كونه نزلا والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق دفرة مرة كريهة الرائحة تكون فى تهامة سميت به الشجرة الموصوفة.

١٩٣

(لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (٤٣) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ) (٤٥)

____________________________________

جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل وقرىء عربا بسكون الراء (أتراباً) مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا ازواجهن واللام في قوله تعالى (لأصحاب اليمين) متعلقة بأنشانا أو جعلنا أو با ترابا كقولك هذا تلاب لهذا أي مساو له في السن وقيل بمحذوف هو صفة لأبكار أي كائنات لأصحاب اليمني أو خبر مبتدأ محذوف أي هن لأصحاب اليمين وقيل خبر لقوله تعالى (ثله من الأولين) (وثلثة من الآخرين) وهو بعيد بل هو خبر مبتدأ محذوف ختمت به قصة أصحاب اليمين أي هم أمة من الأولين وأمة من الآخرين وقد مر الكلام فيهما وعن ابي العالية ومجاهد وعطاء والضحاك ثلة من الأولين أي من سابقي هذه الأمة وثلة من الآخرين من هذه الأمة في آخر الزمان وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم جميعا من أمتي (وأصحاب الشمال) شروع في تفصيل أحوالهم التي أشير عند التنويع إلى هولها وفظاعتها بعد تفصيل حسن حال أصحاب اليمين والكلام في قوله تعالى (ما أصحاب الشمال) عين ما فصل في نظيره وكذا في قوله تعالى (في سموم وحميم) والسموم حر نار ينفذ في المسام والحميم الماء المتناهي في الحرارة (وظل من يحموم) من دخان أسود بهيم (لابارد) كسائر الظلال (ولا كريم) فيه خير ما في الجملة سمى ذلك ظلا ثم نفى عنه وصفاه البرد والكرم الذي عبر به عن دفع أذى الحر لتحقيق أنه ليس بظل وقرىء لا بارد ولا كريم بالرفع أي لاهو بارد ولا كريم وقوله تعالى (إنهم كانو قبل ذلك مترفين) تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب أي أنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المأكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا

١٩٤

(فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٧٦)

____________________________________

الأمر ليس لهم ما يصلح شبهة فضلا عن صلاحية الدليل (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أولا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يزعجون ويحثون حثا على الإسراع على آثارهم وقيل هو إسراع فيه شبه رعدة (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) أى قبل قومك قريش (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) من الأمم السالفة وهو جواب قسم محذوف وكذا قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أى أنبياء أولى عدد كثير وذوى شأن خطير بينوا لهم بطلان ما هم عليه وأنذروهم عاقبته الوخيمة وتكرير القسم لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمون كل من الجملتين (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) من الهول والفظاعة لما لم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يرفعوا له رأسا والخطاب إما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يتمكن من مشاهدة آثارهم وحيث كان المعنى أنهم أهلكوا هلاكا فظيعا استثنى منهم المخلصون بقوله تعالى (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أى الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل بموجب الإنذار وقرىء المخلصين بكسر اللام أى الذين أخلصوا دينهم لله تعالى (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) نوع تفصيل لما أجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسن عاقبتهم متضمن لبيان سوء عاقبة بعض المنذرين حسبما أشير إليه بقوله تعالى (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) كقوم نوح وآل فرعون وقوم لوط وقوم إلياس ولبيان حسن عاقبة بعضهم الذين أخلصهم الله تعالى ووفقهم للإيمان كما أشار إليه الاستثناء كقوم يونس عليه‌السلام ووجه تقديم قصة نوح على سائر القصص غنى عن البيان واللام جواب قسم محذوف وكذا ما فى قوله تعالى (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أى وبالله لقد دعانا نوح حين يئس من إيمان قومه بعد ما دعاهم إليه أحقابا ودهورا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ونفورا فأجبناه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه والجمع دليل العظمة والكبرياء (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أى من الغرق وقيل من أذية قومه.

١٩٥

(لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) (٥٧)

____________________________________

(لآکلون) بعد البعث والجمع جهنم (من شجرة من زقوم) من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسره أي مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم وقيل من الثانية متعلقة بمضمر هو وصف لشجر أي كائن من زقوم (فمالئون منها البطون) أي بطونكم من شدة الجوع (فشاربون عليه) عقيب ذلك بلا ريث (من الحميم) أي الماء الحار في الغاية وتأنيث ضمير الشجر أولا وتذكيره ثانيا باعتبار المعنى واللفظ وقرىء من شجرة فضمير عليه حينئذ للزقوم وقيل للأكل وقوله تعالى (فشاربون شرب الهيم) كالتفسير لما قبله على طريقة قوله تعالى فكذبوا عبدنا أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم وهي الإبل التي بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى جمع أهيم وهيماء وقيل الهيم الرمال على أنه جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل التي لا يتماسك جمع على فعل كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع والتهاب النار في أحشائهم ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا؟ بطونهم وهو في غاية الحرارة والمرارة سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربون شرب الهيم وقرىء شرب الهيم بالفتح وهو أيضا مصدر وقرىء بالكسر على أنه اسم المشروب (هذا) الذي ذكر من أنواع العذاب (نزلهم يوم الدين) أي يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يعد للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعد ما استقرلهم القرار واطمأنت بهم الدار في النار وفيه من التهكم بهم مالا يخفى وقريء نزلهم بسكون الزاي تخفيفا والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول وقوله تعالى (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق فإن مالا يحققه العمل ولا يساعده بل يبنىء عن خلافه ليس من التصديق في شيء وقيل بالبعث استدلالا عليه بالإنشاء فإن من قدر عليه قدر على الأعادة حتما والأول هو الوجه كما ستحيط به خبرا.

١٩٦

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (٩٠)

____________________________________

كان بينهما إلا نبيان هود وصالح عليهم‌السلام وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة (إِذْ جاءَ رَبَّهُ) منصوب باذكر أو متعلق بما فى الشيعة من معنى المشايعة (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أى من آفات القلوب أو من العلائق الشاغلة عن التبتل إلى الله عزوجل ومعنى المجىء به ربه إخلاصه له كأنه جاء به متحفا إياه بطريق التمثيل (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) بدل من الأولى أو ظرف لجاء أو لسليم أى أى شىء تعبدونه (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أى أتريدون آلهة من دون الله إفكا أى للإفك فقدم المفعول على الفعل للعناية ثم المفعول له على المفعول به لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على إفك وباطل فى شركهم ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به بمعنى أتريدون إفكا ثم يفسر الإفك بقوله آلهة من دون الله دلالة على أنها إفك فى نفسها للمبالغة أو يراد بها عبادتها بحذف المضاف ويجوز أن يكون حالا بمعنى آفكين (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أى بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته خاصة وأشركتم به أخس مخلوقاته أو فما ظنكم به أى شىء هو من الأشياء حتى جعلتم الأصنام له أندادا أو فما ظنكم به ما ذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم بعد ما فعلتم ما فعلتم من الإشراك به (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) قيل كانت له عليه الصلاة والسلام حمى لها نوبة معينة فى بعض ساعات الليل فنظر ليعرف هل هى تلك الساعة فإذا هى قد حضرت (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) وكان صادقا فى ذلك فجعله عذرا فى تخلفه عن عيدهم وقيل أراد إنى سقيم القلب لكفركم وقيل نظر فى علمها أو فى كتبها أو فى أحكامها ولا منع من ذلك حيث كان قصده عليه الصلاة والسلام إيهامهم حين أرادوا أن يخرجوا به عليه الصلاة والسلام إلى معيدهم ليتركوه فإن القوم كانوا نجامين فأوهمهم أنه قد استدل بأمارة فى النجوم على أنه سقيم أى مشارف للسقم وهو الطاعون وكان أغلب الأسقام عليهم وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه فهربوا منه إلى معبدهم وتركوه فى بيت الأصنام وذلك قوله تعالى (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أى هاربين مخافة العدوى.

١٩٧

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (٧٢)

____________________________________

(فظالمتم) بسبب ذلك) (تفكهون) تتعجبون من سوء حاله أثر مشاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال أو تندمون على ما تعبتم فيه وأنفقتم عليه أو على ما اقترقتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث وقرىء تفكنون أي تتندمون وقرىء فظلتم بالكسر وفظلتم على الأصل (إنا لمغرمون) أي الملزمون غرامة ما أنقنا أو مهلكون بهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك وقريء أننا على الاستفهام والجملة على القراءتين مقدرة بقول هو في خين النصب على الحالية من فاعل تفكهون أي قائلين أو تقولون إنا لمغرمون (بل نحن محرومون) حرمنا رزقنا أو محارفون محدودون لاحظ لنا ولا بخت لا مجدودون (أفرأيتم الماء الذي تشربون) عذبا فراتا وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعة لأن الشرب أثم المقاصد المنوطة به (أأتم أنزلتموه من المزن) أي من السحاب واحده مزنة وقيل هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب (أم نحن المنزلون) له بقدرتنا (لو نشاء جعلناه أجاجا) ملحا زعاقا لا يمكم شربه وحذف اللام ههنا مع إثباتها في الشرطية الأولى للتعويل على علم السامع أو الفرق بين المطعوم والمشروب في الأهمية وصعوبة الفقد والشرطيتان مستأنفتان مسوقتان لبيان أن عصمته تعالى للزرع والماء عما يخل بالتمتع بهما نعمة أخرى بعد نعمة الإنبات والإنزال مستوجبة للشكر فقوله تعالى (فلولا تشكرون) تحضيض على شكر الكل (أفرأيتم النار التي تورون) أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد (أأنتم أنشأتم شجرتها) التي منها الزناد وهي المرخ والعفار (أم نحن المنشئون) لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبيء عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الشجر التي لا تخلو عن النار حتى قيل في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى ثم أنشأناه خلقا آخر لذلك.

١٩٨

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢)

____________________________________

أوليا مع ما فيه من تحقيق الحق ببيان أن جميع ما يعملونه كائنا ما كان مخلوق له سبحانه وقيل ما مصدرية أى عملكم على أنه بمعنى المفعول وقيل بمعناه فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) أى فى النار الشديدة الاتقاد من الجحمة وهى شدة التأجج واللام عوض من المضاف إليه أى جحيم ذلك البنيان وقد ذكر كيفية بنائهم له فى سورة الأنبياء (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) فإنه عليه الصلاة والسلام لما قهرهم بالحجة والقمهم الحجر قصدوا ما قصدوا لئلا يظهر للعامة عجزهم (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانا نيرا على علو شأنه عليه الصلاة والسلام بجعل النار عليه بردا وسلاما (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أى مهاجر إلى حيث أمرنى ربى كما قال إنى مهاجر إلى ربى وهو الشام أو إلى حيث أتجرد فيه لعبادته تعالى (سَيَهْدِينِ) أى إلى ما فيه صلاح دينى أو إلى مقصدى وبت القول بذلك لسبق الوعد أو لفرط توكله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه‌السلام حيث قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل ولذلك أتى بصيغة التوقع (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أى بعض الصالحين يعيننى على الدعوة والطاعة ويؤنسنى فى الغربة يعنى الولد لأن لفظ الهبة على الإطلاق خاص به وإن كان قد ورد مقيدا بالأخوة فى قوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ولقوله تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) فإنه صريح فى أن المبشر به عين ما استوهبه عليه الصلاة والسلام ولقد جمع فيه بشارات ثلاث بشارة أنه غلام وأنه يبلع أوان الحلم وأنه يكون حليما وأى حلم يعادل حلمه عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال يأبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين وقيل ما نعت الله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأقل ممانعتهم بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه فإنه تعالى نعتهما به وحالهما المحكية بعد أعدل بينة بذلك والفاء فى قوله تعالى (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فصيحة معربة عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح

١٩٩

فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (٧٨) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣)

____________________________________

أي كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد أو حسن مرضة أو كريم عند الله تعالى وبقوله تعالى لو تعلمون بين الموصوف وصفته وجواب لو إما متروك أريد به نفى علمهم او محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتوه أو لعملتم بموجبه (في كتاب مكنون) أي مصون من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم وهو اللوح (لا يمسه إلا المطهرون) إما صفة أخرى للكتاب فالمراد بالمطهرين الملائكة المنزهون عن الكدورات الجسمانية وأوضار الأوزار أو القرآن فالمراد بهم المطهرون من الأحداث فيكون نفيا بمعنى النهى أي لا ينبغى أن يمسه إلا من كان على طهارة من الناس على طريقة قوله عليه الصلاة السلام المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه أي لا ينبغى له أن يظلمه وقيل لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر وفرىء المتطهرون والمطهرون بالإدغام والمطهرون من أطهره بمعنى طهره والمطهرون أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار أو غيره (تنزيل من رب العالمين) صفة أخرى للقرآن وهو مصدر نعت به حتى جرى مجرى اسمه وقريء تنزيلا (أفبهذا الحديث) الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله وهو القرآن الكريم (أتم مدهنون) أي متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به (وتجعلون رزقكم) أي شكر رزقكم (أنكم تكذبون) أي تصنعون التكذيب موضع الشكر وقريء وتجعلون شكركم أنكم تكذبون أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به وقيل الرزق المطر والمعنى وتجعلون شكر ما يرزقكم الله تعالى من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء والأول هو الأوفق لسباق النظم الكريم وسياقة فإن قوله عزوجل (فلولا إذا بلغت الحلقوم) الخ تبكيت مبنى على تكذيبهم بالقرآن فيما نطق به قوله تعالى نحن خلقناكم إلى هنا من القوارع الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم كما ستقف عليه ولولا للتحضيض لإظهار عجزهم وإذا ظرفية أي فهلا إذا بلغت النفس أي الروح وقيل

٢٠٠