تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

____________________________________

فِي الْأَرْضِ) الخ تفصيل لبعض ما يحيط به علمه من الأمور التى نيطت بها مصالحهم الدنيوية والدينية أى يعلم ما يدخل فيها من الغيث والكنوز والدفائن والأموات ونحوها (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالحيوان والنبات* وما العيون ونحوها (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والمقادير ونحوها وقرىء وما ننزل بالتشديد ونون العظمة (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والأدخنة (وَهُوَ الرَّحِيمُ) للحامدين على ما ذكر من نعمه (الْغَفُورُ) للمفرطين فى ذلك بلطفه وكرمه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط كما أرادوا بنفى إتيانها نفى وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحققها فى نفس الأمر وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها ولأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا يكون إلا بالإتيان والحضور وقيل هو استبطاء لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم متى هذا الوعد (قُلْ بَلى) رد لكلامهم وإثبات* لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها وقوله تعالى (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) تأكيد له على أنم الوجوه وأكملها وقرىء ليأتينكم على تأويل الساعة باليوم أو الوقت وقوله تعالى (عالِمِ الْغَيْبِ) الخ إمداد للتأكيد وتسديد* له إثر تسديد وكسر لسورة نكيرهم واستبعادهم فإن تعقيب القسم بحلائل نعوت المقسم به على الإطلاق يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة ثباته وصحته لما أن لك فى حكم الاستشهاد على الأمر ولا ريب فى أن المستشهد به كلما كان أجل وأعلا كانت الشهادة آكد وأقوى والمستشهد عليه أحق بالثبوت وأولى لا سيما إذا خص بالذكر من النعوت ما له تعلق خاص بالمقسم عليه كما نحن فيه فإن وصفه بعلم الغيب الذى أشهر أفراده وأدخلها فى الخفاء هو المقسم عليه تنبيه لهم على علة الحكم وكونه مما لا يحوم حوله شائبة ريب ما وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر ما أصلا فإنهم كانوا يعرفون أمانته ونزاهته عن وصمة الكذب فضلا عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه مكابرة وقرىء علام الغيب وعالم الغيب وعالم الغيوب بالرفع على المدح (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) أى لا يبعد وقرىء بكسر الزاى (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) مقدار أصغر* نملة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أى كائنة فيهما (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) أى من مثقال ذرة (وَلا أَكْبَرُ) أى منه ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) هو اللوح المحفوظ والجملة مؤكدة* لنفى العزوب وقرىء ولا أصغر ولا أكبر بفتح الراء على نفى الجنس ولا يجوز أن يعطف المرفوع على مثقال ولا المفتوح على ذرة بأنه فتح فى حيز الجر لامتناع الصرف لما أن الاستثناء يمنعه إلا أن يجعل الضمير فى عنه للغيب ويجعل المثبت فى اللوح خارجا عنه لبروزه للمطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شىء إلا مسطورا فى اللوح (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) علة لقوله تعالى (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وبيان لما

١٢١

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٧)

____________________________________

* يقتضى إتيانها (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما فى حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الفضل والشرف أى أولئك الموصوفون بالصفات الجليلة (لَهُمْ) بسبب ذلك (مَغْفِرَةٌ) لما فرط منهم من بعض فرطات قلما يخلو عنها البشر (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لا تعب فيه ولا من عليه (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بالقدح فيها وصد الناس عن التصديق بها (مُعاجِزِينَ) أى مسابقين كى بفوتونا وقرىء معجزين أى مثبطين عن الإيمان من أراده (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ) الكلام فيه كالذى مر آنفا ومن* فى قوله تعالى (مِنْ رِجْزٍ) للبيان قال قتادة رضى الله عنه الرجز سوء العذاب وقوله تعالى (أَلِيمٌ) بالرفع صفة عذاب أى أولئك الساعون لهم عذاب من جنس سوء العذاب شديد الإيلام وقرىء أليم بالجر صفة لرجز (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أى يعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يشايعهم من علماء الأمة أو من آمن من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما رضى الله عنهم* (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أى القرآن (هُوَ الْحَقَّ) بالنصب على أنه مفعول ثان ليرى والمفعول الأول هو الموصول الثانى وهو ضمير الفصل وقرىء بالرفع على الابتداء والخبر والجملة هو المفعول الثانى ليرى وقوله تعالى (وَيَرَى) الخ مستأنف مسوق للاستشهاد بأولى العلم على الجهلة الساعين فى الآيات وقيل منصوب عطفا على يجزى أى وليعلم أولو العلم عند مجىء الساعة معاينة أنه الحق حسبما علموه الآن برهانا ويحتجوا به على المكذبين وقد جوز أن يراد بأولى العلم من لم يؤمن من الأحبار أى ليعلموا يومئذ أنه* هو الحق فيزدادوا حسرة وغما (وَيَهْدِي) عطف على (الْحَقَ) عطف الفعل على الاسم لأنه فى تأويله كما فى قوله تعالى (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) أى وقابضات كأنه قيل ويرى الذين أوتوا العلم الذى أنزل إليك الحق وهاديا (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) الذى هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى وقيل مستأنف وقيل حال من الذى ٧ أنزل على إضمار مبتدأ أى وهو يهدى كما فى قول من قال [نجوت وأرهنهم مالكا] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هم كفار قريش قالوا مخاطبا بعضهم لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما قصدوا بالتنكير الطنز والسخرية قاتلهم الله تعالى (يُنَبِّئُكُمْ) أى يحدثكم بعجب عجاب وقرىء ينبئكم من الإنباء (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أى إذا متم ومزقت أجسادكم كل تمزيق وفرقت كل تفريق بحيث صرتم ترابا ورفاتا* (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أى مستقرون فيه عدل إليه عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث مثل تبعثون أو

١٢٢

(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩)

____________________________________

تخلقون خلقا جديدا للإشباع فى الاستبعاد والتعجب وكذلك تقديم الظرف والعامل فيه ما دل عليه المذكور لا نفسه لما أن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها وجديد فعيل بمعنى فاعل من جد فهو جديد وقل فهو قليل وقيل بمعنى مفعول من جد النساج الثوب إذا قطعه ثم شاع (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما قاله (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أى جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه والاستدلال بهذا الترديد على أن بين الصدق والكذب واسطة هو ما لا يكون من الأخبار عن بصيرة بين الفساد لظهور كون الافتراء أخص من الكذب (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) جواب من جهة الله تعالى عن ترديدهم الوارد على طريقة الاستفهام بالإضراب عن شقيه وإبطالهما وإثبات قسم ثالث كاشف عن حقيقة الحال ناع عليهم سوء حالهم وابتلاءهم بما قالوا فى حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل ليس الأمر كما زعموا بل هم فى كمال اختلال العقل وغاية الضلال عن الفهم والإدراك الذى هو الجنون حقيقة وفيما يؤدى إليه ذلك من العذاب ولذلك يقولون ما يقولون وتقديم العذاب على ما يوجبه ويستتبعه للمسارعة إلى بيان ما يسوؤهم ويفت فى أعضادهم والإشعار بغاية سرعة ترتبه عليه كأنه يسابقه فيسبقه ووصف الضلال بالبعد الذى هو وصف الضال للمبالغة ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه بما فى حيز الصلة على أن علة ما ارتكبوه واجترءوا عليه من الشناعة الفظيعة كفرهم بالآخرة وما فيها من فنون العقاب ولولاه لما فعلوا ذلك خوفا من غائلته وقوله تعالى (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) استئناف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله تعالى واستعظام ما قالوا فى حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه من العظائم الموجبة لنزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريث وتأخير والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى (إِنْ نَشَأْ) الخ بيان لما* ينبىء عنه ذكر إحاطتهما بهم من المحذور المتوقع من جهتهما وفيه تنبيه على أنه لم يبق من أسباب وقوعه إلا تعلق المشيئة به أى أفعلوا ما فعلوا من المنكر الهائل المستتبع للعقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا مفر لهم عنه ولا محيص إن نشأ جريا على موجب جناياتهم (نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) * كما خسفناها بقارون (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) أى قطعا (مِنَ السَّماءِ) كما أسقطناها على أصحاب الأيكة* لاستيجابهم ذلك بما ارتكبوه من الجرائم وقيل هو تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرته وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتهم البعث حتى جعلوه افتراء وهزءا وتهديد عليها والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقا أم هى وإن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات فتأمل وكن على الحق المبين وقرىء يخسف

١٢٣

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١)

____________________________________

* ويسقط بالياء لقوله تعالى (أَفْتَرى عَلَى اللهِ) وكسفا بسكون السين (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من السماء والأرض من حيث إحاطتهما بالناظر من جميع الجوانب أو فيما تلى من الوحى الناطق بما ذكر (لَآيَةً) واضحة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) شأنه الإنابة إلى ربه فإنه إذا تأمل فيهما أو فى الوحى المذكور ينزجر عن تعاطى القبائح وبنيب إليه تعالى وفيه حث بليغ على التوبة والإنابة وقد أكد ذلك بقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أى آتيناه لحسن إنابته وصحة توبته فضلا على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أى نوعا من الفضل وهو ما ذكر بعد فإنه معجزة خاصة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن فتنكيره للتفخيم ومنا لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما فى قوله تعالى (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ .... لَدُنَّا عِلْماً) وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه* التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة له فإذا وردها يتمكن عندها فضل تمكن (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) من التأويب أى رجعى معه التسبيح أو النوحة على الذنب وذلك إما بأن يخلق الله تعالى فيها صوتا مثل صوته كما خلق الكلام فى الشجرة أو بأن يتمثل له ذلك وقرىء أوبى من الأوب أى ارجعى معه فى التسبيح كلما رجع فيه وكان كلما سبح عليه الصلاة والسلام يسمع من الجبال ما يسمع من المسبح معجزة له عليه الصلاة والسلام وقيل كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها* والطير بأصواتها وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلا بإضمار قولنا (وَالطَّيْرَ) بالنصب عطفا على فضلا بمعنى وسخرنا له الطير لأن إيتاءها إياه عليه الصلاة والسلام تسخيرها له فلا حاجة إلى إضماره كما نقل عن الكسائى ولا إلى تقدير مضاف أى تسبيح الطير كما نقل عنه فى رواية وقيل عطفا على محل الجبال وفيه من التكلف لفظا ومعنى مالا يخفى وقرىء بالرفع عطفا على لفظها تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية وقد جوز انتصابه على أنه مفعول معه والأول هو الوجه وفى تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المطيعين لأمره تعالى المذعنين لحكمه المشعر بأنه ما من حيوان وجماد وصامت وناطق إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته من الفخامة المعربة عن غاية عظمة شأنه تعالى وكمال كبرياء* سلطانه مالا يخفى على أولى الألباب (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أى جعلناه لينا فى نفسه كالشمع يصرفه فى يده كيف يشاء من غير إحماء بنار ولا ضرب بمطرقة أو جعلناه بالنسبة إلى قوته التى آتيناها إياه لينا كالشمع بالنسبة إلى سائر القوى البشرية (أَنِ اعْمَلْ) أمرناه أن اعمل على أن أن مصدرية حذف عنها الباء وفى حملها على المفسرة تكلف لا يخفى (سابِغاتٍ) واسعات وقرىء صابغات وهى الدروع الواسعة الضافية وهو عليه الصلاة والسلام أول من اتخذها وكانت قبل صفائح قالوا كان عليه الصلاة والسلام حين ملك على بنى إسرائيل يخرج متنكرا فيسأل الناس ما تقولون فى داود فيثنون عليه فقيض الله تعالى له ملكا فى

١٢٤

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣)

____________________________________

صورة آدمى فسأله على عادته فقال نعم الرجل لو لا خصلة فيه فريع داود فسأله عنها فقال لو لا أنه يطعم عياله من بيت المال فعند ذلك سأل ربه أن يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال فعلمه تعالى صنعة الدروع وقيل كان يبيع الدروع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) * السرد نسج الدروع أى اقتصد فى نسجها بحيث تتناسب حلقها وقيل قدر فى مساميرها فلا تعملها دقاقا ولا غلاظا ورد بأن دروعه عليه الصلاة والسلام لم تكن مسمرة كما ينبىء عنه إلانة الحديد وقيل معنى قدر فى السرد لا تصرف جميع أوقاتك إليه بل مقدار ما يحصل به القوت وأما الباقى فاصرفه إلى العبادة وهو الأنسب بقوله تعالى (وَاعْمَلُوا صالِحاً) عمم الخطاب حسب عموم التكليف له عليه الصلاة والسلام* ولأهله (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أى وسخرنا له الريح وقرىء برفع الريح أى ولسليمان الريح مسخرة وقرىء الرياح (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أى جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشى كذلك والجملة إما مستأنفة أو حال من الريح وقرىء غدوتها وروحتها وعن الحسن رحمه‌الله كان يغدو أى من دمشق فيقيل باصطخر ثم بروح فيكون رواحه بكا بل وقيل كان يتغدى بالرى ويتعشى بسمرقند ويحكى أن بعضهم رأى مكتوبا فى منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان عليه‌السلام نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه غدونا من اصطخر فقلناه ونحن رائحون منه فبايتون بالشأم إن شاء الله تعالى (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أى النحاس المذاب أساله من معدنه كما ألان الحديد* لداود عليهما‌السلام فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سمى عينا وكان ذلك باليمن وقيل كان يسيل فى الشهر ثلاثة أيام وقوله تعالى (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) إما جملة من مبتدأ وخبر أو من يعمل* عطف على الريح ومن الجن حال متقدمة (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بأمره تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أى ومن يعدل منهم عما أمرناه به من طاعة سليمان وقرىء يزغ على البناء للمفعول من أزاغه (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أى عذاب النار فى الآخرة روى عن السدى رحمه‌الله كان معه ملك بيده سوط من نار كل من استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجنى (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) تفصيل لما ذكر من عملهم وقوله تعالى (مِنْ مَحارِيبَ) الخ بيان لما يشاء أى من قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بذلك لأنها يذب عنها ويحارب عليها وقيل هى المساجد (وَتَماثِيلَ) وصور الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام على* ما اعتادوه فإنها كانت تعمل حينئذ فى المساجد ليراها الناس ويعبدوا مثل عباداتهم وحرمة التصاوير شرع جديد وروى أنهم عملوا أسدين فى أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعيهما

١٢٥

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤)

____________________________________

* وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما (وَجِفانٍ) جمع جفنة وهى الصفحة (كَالْجَوابِ) كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية لاجتماع الماء فيها وهى من الصفات الغالبة كالدابة وقرىء بإثبات الياء قيل كان يقعد على* الجفنة ألف رجل (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ثابتات على الأثافى لا تنزل عنها لعظمها (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) حكاية لما قيل لهم وشكرا نصب على أنه مفعول له أو مصدر لا عملوا لأن العمل للمنعم شكر له أو لفعله* المحذوف أى اشكروا شكرا أو حال أى شاكرين أو مفعول به أى اعملوا شكرا (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أى المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفى حقه لأن التوفيق للشكر نعمة تستدعى شكرا آخر لا إلى نهاية ولذلك قيل الشكور من يرى عجزه عن الشكر وروى أنه عليه الصلاة والسلام جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتى ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلى (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أى على سليمان عليه‌السلام (ما دَلَّهُمْ) أى الجن أو آله (عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أى الأرضة أضيفت إلى فعلها وقرىء بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال أرضت الأرضة الخشبة أرضا فأرضت أرضا مثل أكلت القوارح أسنانه أكلا فأكلت أكلا (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أى عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها ما يطرد وقرىء منساته بألف ساكنة بدلا من الهمزة وبهمزة ساكنة وبإخراجها بين بين عند الوقف ومنساءته على مفعالة كميضاءة فى ميضأة ومن ساته أى من طرف عصاه من سأة القوس وفيه لغتان كما فى قحة بالكسر والفتح وقرىء أكلت منساته (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) من تبينت الشىء إذا علمته بعد التباسه عليك أى* علمت الجن علما بينا بعد التباس الأمر عليهم (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أى أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته عليه الصلاة والسلام حينما وقع فلم يلبثوا بعده حولا فى تسخيره إلى أن خر أو من تبين الشىء إذا ظهر وتجلى أى ظهرت الجن وأن مع ما فى حيزها بدل اشتمال من الجن أى ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب الخ وقرىء تبينت الجن على البناء للمفعول على أن المتبين فى الحقيقة هو أن مع ما فى حيزها لأنه بدل وقرىء تبينت الإنس والضمير فى كانوا للجن فى قوله تعالى (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ) وفى قراءة ابن مسعود رضى الله عنه تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب روى أن داود عليه‌السلام أسس بنيان بيت المقدس فى موضع فسطاط موسى فتوفى قبل تمامه فوصى به إلى سليمان عليهما‌السلام فاستعمل فيه الجن والشياطين فباشروه حتى إذا حان أجله وعلم به سأل ربه أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلى متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكىء عليها فبقى كذلك وهم فيما أمروا به من الأعمال حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتا وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه

١٢٦

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (١٦)

____________________________________

أينما صلى عليه الصلاة والسلام فلم يكن ينظر إليه شيطان فى صلاته إلا احترق فمر به يوما شيطان فنظر فإذا سليمان عليه‌السلام قد خر ميتا ففتحوا عنه فإذا عصاه قد أكلها الأرضة فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها فى يوم وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وبقى فى ملكه أربعين سنة وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) بيان لأخبار بعض الكافرين بنعم الله تعالى إثر بيان أحوال الشاكرين لها أى لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقرىء بمنع الصرف على أنه اسم القبيلة وقرىء بقلب الهمزة ألفا ولعله إخراج لها بين بين (فِي مَسْكَنِهِمْ) وقرىء بكسر الكاف كالمسجد* وقرىء بلفظ الجمع أى مواضع سكناهم وهى باليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال (آيَةٌ) دالة بملاحظة أحوالها السابقة واللاحقة على وجود الصانع المختار القادر على كل ما يشاء من الأمور* البديعة المجازى للمحسن والمسىء معاضدة للبرهان السابق كما فى قصتى داود وسليمان عليهما‌السلام (جَنَّتانِ) بدل من (آيَةٌ) أو خبر لمبتدأ محذوف أى هى جنتان وفيه معنى المدح ويؤيده قراءة النصب على المدح* والمراد بهما جماعتان من البساتين (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة من تينك الجماعتين فى تقاربهما وتضامهما كأنهما جنة واحدة أو بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) حكاية لما قيل لهم على لسان نبيهم تكميلا للنعمة وتذكيرا لحقوقها أو لما نطق به لسان الحال أو بيان لكونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) * استئناف مبين لما يوجب الشكر المأمور به أى بلدتكم بلدة طيبة وربكم الذى رزقكم ما فيها من الطيبات وطلب منكم الشكر رب غفور لفرطات من يشكره وقرىء الكل بالنصب على المدح قيل كان أطيب البلاد هواء وأحصبها وكانت المرأة تخرج وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير فيما بين الأشجار فيمتلىء المكتل مما يتساقط فيه من الثمار ولم يكن فيه من مؤذيات الهوام شىء (فَأَعْرَضُوا) عن الشكر بعد إبانة الآيات الداعية لهم إليه قيل أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم بنعمه وأنذروهم عقابه فكذبوهم (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) أى سيل الأمر العرم أى الصعب من عرم الرجل فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب أو المطر الشديد وقيل العرم جمع عرمة وهى الحجارة المركومة وقيل هو السكر الذى يحبس الماء وقيل هو اسم للبناء الذى يجعل سدا وقيل هو البناء الرصين الذى بنته الملكة بلقيس بين الجبلين بالصخر والقار وحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقا على ما يحتاجون إليه فى

١٢٧

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (١٨)

____________________________________

سقيهم وقيل العرم الجرذ الذى نقب عليهم ذلك السد وهو الفأر الأعمى الذى يقال له الخلد سلطه الله تعالى على سدهم فنقبه فغرق بلادهم وقيل العرم اسم الوادى وقرىء العرم بسكون الراء قالوا كان ذلك فى الفترة التى كانت بين عيسى والنبى عليهما الصلاة والسلام (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) أى أذهبنا جنتيهم وآتيناهم بدلهما (جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أى ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله وقيل هو الحامض والمر من كل شىء وقيل هو ثمرة شجرة يقال لها فسوة الضبع على صورة الخشخاش لا ينتفع بها وقيل هو الأراك أو كل شجر ذى شوك والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقرىء أكل خمط بالإضافة وبتخفيف أكل (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) معطوفان على أكل لا على خمط فإن الأثل هو الطرفاء وقيل شجر يشبهه أعظم منه ولا ثمر له وقرىء وأثلا وشيئا عطفا على جنتين قيل وصف السدر بالقلة لما أن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس فى البساتين والصحيح أن السدر صنفان صنف يؤكل من ثمره وينتفع بورقه لغسل اليد وصنف له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا ولا ينتفع بورقه وهو الضال والمراد ههنا هو الثانى حتما وقال قتادة كان شجرهم خير الشجر فصيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم وتسمية البدل جنتين للمشاكلة والتهكم (ذلِكَ) إشارة إلى مصدر قوله تعالى (جَزَيْناهُمْ) أو إلى ما ذكر من التبديل وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعدر تبته فى الفظاعة ومحله على الأول النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور وعلى الثانى النصب على أنه مفعول ثان له أى ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لاجزاء آخر أو ذلك التبديل جزيناهم لا غيره (بِما كَفَرُوا) بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها أو بسبب كفرهم بالرسل (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أى وما نجزى هذا الجزاء إلا المبالغ فى الكفران أو الكفر وقرىء يجازى على البناء للفاعل وهو الله عزوجل وهل يجازى على البناء للمفعول ورفع الكفور وهل يجزى على البناء للمفعول أيضا وهذا بيان ما أوتوا من النعم الحاضرة فى مساكنهم وما فعلوا بها من الكفران وما فعل بهم من الجزاء وقوله تعالى (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) حكاية لما أوتوا من النعم البادية فى مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك تكملة لقصتهم وبيانا لعاقبتهم وإنما لم يذكر الكل معا لما فى التثنية والتكرير من زيادة تنبيه وتذكير وهو عطف على (كانَ لِسَبَإٍ) لا على ما بعده من الجمل الناطقة بأفعالهم أو بأجزيتها أى وجعلنا مع ما آتيناهم فى مساكنهم من فنون النعم بينهم أى بين بلادهم وبين القرى الشامية التى باركنا فيها للعالمين (قُرىً ظاهِرَةً) متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها فهى ظاهرة لأعين أهلها أو راكبة متن الطريق ظاهرة للسابلة غير بعيدة عن مسالكهم حتى تخفى عليهم (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أى جعلناها فى نسبة بعضها

١٢٨

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (١٩)

____________________________________

إلى بعض على مقدار معين يليق بحال أبناء السبيل قيل كان الغادى من قرية يقيل فى أخرى والرائح منها يبيت فى أخرى إلى أن يبلغ الشام كل ذلك كان تكميلا لما أوتوا من أنواع النعماء وتوفيرا لها فى الحضر والسفر (سِيرُوا فِيها) على إرادة القول أى وقلنا لهم سيروا فى تلك القرى (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) أى متى شئنم* من الليالى والأيام (آمِنِينَ) من كل ما تكرهونه لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات أو سيروا* فيها آمنين وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت ليالى وأياما كثيرة أو سيروا فيها ليالى أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السير المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) وقرىء يا ربنا بطروا النعمة وسئموا أطيب العيش وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل الثوم والبصل مكان المن والسلوى وقالوا لو كان جنى جناننا أبعد لكان أجدر أن نشتهيه وسألوا أن يجعل الله تعالى بينهم وبين الشام مفاوز وقفارا ليركبوا فيها الرواحل ويتزودوا الأزواد ويتطاولوا فيها على الفقراء فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب وقرىء بعد وربنا بعد بين أسفارنا وبعد بين أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به كما يقال سير فرسخان وبوعد بين أسفارنا وقرىء ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرنا وبعد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعاد مسايرهم مع قصرها أو دنوها وسهولة سلوكها لفرط تنعمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنهم يتشاجون على الله تعالى ويتحازنون عليه (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث عرضوها للسخط* والعذاب حين بطروا النعمة أو غمطوها (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أى جعلناهم بحيث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أى فرقناهم كل تفريق على أن الممزق مصدرا وكل مطرح ومكان تفريق على أنه اسم مكان وفى عبارة التمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرفه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام مالا يخفى أى مزقناهم تمزيقا لا غاية وراءه بحيث يضرب به الأمثال فى كل فرقة ليس بعدها وصال حتى لحق غسان بالشأم وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان وأصل قصتهم على ما رواه الكلبى عن أبى صالح أن عمرو بن عامر من أولاد سبأ وبينهما اثنى عشر أبا وهو الذى يقال له مزيقيا بن ماء السماء أخبرته طريفة الكاهنة بخراب سد مأرب وتفريق سيل العرم الجنتين وعن أبى زيد الأنصارى أن عمرا رأى جرزا يفر السد فعلم أنه لا بقاء له بعد وقيل إنه كان كاهنا وقد علمه بكهانته فباع أملاكه وسار بقومه وهم ألوف من بلد إلى بلد حتى انتهى إلى مكة المعظمة وأهلها جرهم وكانوا قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بنى إسمعيل عليه‌السلام وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبة بن عمرو ابن عامر يسألهم المقام معهم إلى أن يرجع إليه رواده الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعا

١٢٩

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١)

____________________________________

يسعه ومن معه من قومه فأبوا فاقتتلوا ثلاثة أيام فانهزمت جرهم ولم يفلت منهم إلا الشريد وأقام ثعلبة بمكة وما حولها فى قومه وعساكره حولا فأصابتهم الحمى فاضطروا إلى الخروج وقد رجع إليه رواده فافترقوا فرقتين فرقة توجهت نحو عمان وهم الأزد وكندة وحمير ومن يتلوهم وسار ثعلبة نحو الشأم فنزل الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بالمدينة وهم الأنصار ومضت غسان فنزلوا بالشأم وانخزعت خزاعة بمكة فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحى فولى أمر مكة وحجابة البيت ثم جاءهم أولاد إسمعيل عليه‌السلام فسألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم فى ذلك وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن فروة بن مسيك الغطيفى سأل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبأ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو رجل كان له عشرة أولاد ستة منهم سكنوا اليمن وهم مذحج وكندة والأزد والأشعريون وحمير وأنمار منهم بجيلة وخثعم وأربعة منهم سكنوا الشأم وهم لخم وجذام وعاملة وغسان لما هلكت أموالهم وخربت بلادهم تفرقوا أيدى سبأ شذر مذر فنزلت طوائف منهم بالحجاز فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكة ونزلت الأوس والخزرج بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزل عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة والنضير فحالفوا الأوس والخزرج وأقاموا عندهم ونزلت طوائف أخر منهم بالشأم وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غسان وعاملة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم وسبأ تجمع هذه القبائل كلها والجمهور على أن جميع العرب قسمان قحطانية وعدنانية والقحطانية شعبان سبأ وحضرموت والعدنانية شعبان ربيعة ومضر وأما قضاعة* فمختلف فيها بعضهم ينسبونها إلى قحطان وبعضهم إلى عدنان والله تعالى أعلم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من قصتهم (لَآياتٍ) عظيمة (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أى شأنه الصبر عن الشهوات ودواعى الهوى وعلى مشاق الطاعات والشكر على النعم وتخصيص هؤلاء بذلك لأنهم المنتفعون بها (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أى حقق عليهم ظنه أو وجده صادقا وقرىء بالتخفيف أى صدق فى ظنه أو صدق بظن ظنه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنه نوع من القول وقرىء بنصب إبليس ورفع الظن مع التشديد بمعنى وجده ظنه صادقا ومع التخفيف بمعنى قال له الصدق حين خيل له إغواءهم وبرفعهما والتخفيف على الإبدال وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم فى الشهوات أو ببنى آدم حين شاهد آدم عليه‌السلام قد أصغى إلى وسوسته قال إن ذريته أضعف منه عزما وقيل ظن ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقال لأضلنهم ولأغوينهم (فَاتَّبَعُوهُ) أى أهل سبأ أو الناس (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه على أن من بيانية وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه وهم المخلصون (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أى تسلط

١٣٠

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣)

____________________________________

واستيلاء بالوسوسة والاستواء وقوله تعالى (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) استثناء* مفرغ من أعلم العلل ومن موصولة أى وما كان تسلطه عليهم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هو فى شك منها تعلقا حاليا يترتب عليه الجزاء أو إلا ليتميز المؤمن من الشاك أو إلا ليؤمن من قدر إيمانه ويشك من قدر ضلاله والمراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أى محافظ عليه فإن فعيلا ومفاعلا صيغتان متآخيتان (قُلِ) أى للمشركين إظهارا لبطلان ما هم عليه وتبكيتا لهم (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أى زعمتموهم آلهة وهما مفعولا زعم ثم حذف الأول تخفيفا لطول الموصول بصلته والثانى لقيام صفته أعنى قوله تعالى (مِنْ دُونِ اللهِ) مقامه ولا سبيل إلى جعله مفعولا ثانيا لأنه لا يلتئم مع الضمير* كلاما وكذا لا يملكون لأنهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعارا بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير وشر ونفع وضر (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أى فى أمر ما من* الأمور وذكرهما للتعميم عرفا أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية والجملة استئناف لبيان حالهم (وَما لَهُمْ) * أى لآلهتهم (فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أى شركة لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا (وَما لَهُ) أى لله تعالى (مِنْهُمْ) من آلهتهم (مِنْ ظَهِيرٍ) يعينه فى تدبير أمرهما (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ) أى لا توجد رأسا كما فى قوله [ولا ترى الضب بها ينجحر] لقوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وإنما علق النفى بنفعها لا بوقوعها تصريحا بنفى ما هو غرضهم من وقوعها وقوله تعالى (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أى* لا تقع الشفاعة فى حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له فى الشفاعة من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة فتبين حرمان الكفرة منها بالكلية أما من جهة أصنامهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورة استحالة الإذن فى الشفاعة لجماد لا يعقل ولا ينطق وأما من جهة من يعبدونه من الملائكة فلأن إذنهم مقصور على الشفاعة للمستحقين لها لقوله تعالى (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) ومن البين أن الشفاعة للكفرة بمعزل من الصواب أو لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها فى حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أى لأجله وفى شأنه من المستحقين للشفاعة وأما من عداهم من غير المستحقين لها فلا تنفعهم اصلا وإن فرض وقوعها وصدورها عن الشفعاء إذ لم يؤذن لهم فى شفاعتهم بل فى شفاعة غيرهم فعلى هذا يثبت حرمانهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النص ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حيث

١٣١

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤)

____________________________________

حرموها من جهة القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها فلأن يحرموها من جهة العجزة عنها أولى* وقرىء أذن له مبنيا للمفعول (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أى قلوب الشفعاء والمشفوع لهم من المؤمنين وأما الكفرة فهم من موقف الاستشفاع بمعزل وعن التفزيع عن قلوبهم بألف منزل والتفزيع إزالة الفزع ثم ترك ذكر الفزع وأسند الفعل إلى الجار والمجرور وحتى غاية لما ينبىء عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع الإذن لمن أذن له فإنه مسبوق بالاستئذان المستدعى للترقب والانتظار للجواب كأنه سئل كيف يؤذن لهم فقيل يتربصون فى موقف الاستئذان والاستدعاء ويتوقفون على وجل وفزع مليا حتى إذا* أزيل الفزع عن قلوبهم بعد اللتا والتى وظهرت لهم تباشير الإجابة (قالُوا) أى المشفوع لهم إذ هم المحتاجون إلى الإذن والمهتمون بأمره (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) أى فى شأن الإذن (قالُوا) أى الشفعاء لأنهم المباشرون للاستئذان بالذات المتوسطون بينهم وبينه عزوجل بالشفاعة (الْحَقَّ) أى قال ربنا القول الحق وهو* الإذن فى الشفاعة للمستحقين لها وقرىء الحق مرفوعا أى ما قاله الحق (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) من تمام كلام الشفعاء قالوه اعترافا بغاية عظمة جناب العزة عزوجل وقصور شأن كل من سواه أى هو المتفرد بالعلو والكبرياء ليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلم إلا بإذنه وقرىء فزع مخففا بمعنى فزع وقرىء فزع على البناء للفاعل وهو الله وحده وقرىء فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة أى نفى الوجل عنها وأفنى من فرغ الزاد إذا لم يبق منه شىء وهو من الإسناد المجازى لأن الفراغ وهو الخلو حال ظرفه عند نفاده فأسند إليه على عكس قولهم جرى النهر وعن الحسن تخفيف الراء وأصله فرغ الرجل عنها أى انتفى عنها وفنى ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور وبه يعرف حال التفريغ وقرىء ارتفع عن قلوبهم بمعنى انكشف عنها (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما وأن الرازق هو الله تعالى فإنهم لا ينكرونه كما ينطق به قوله تعالى (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ) وحيث كانوا يتلعثمون أحيانا فى الجواب مخافة* الإلزام قيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلِ اللهُ) إذ لا جواب سواه عندهم أيضا (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أى وإن أحد الفريقين من الذين يوحدون المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية ويخصونه بالعبادة والذين يشركون به فى العبادة الجماد النازل فى أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين وهذا بعد ما سبق من التقرير البليغ الناطق بتعيين من هو على الهدى ومن هو فى الضلال أبلغ من التصريح بذلك لجريانه على سنن الإنصاف المسكت للخصم الألد وقرىء وإنا أو إياكم إما على هدى أو فى ضلال مبين واختلاف الجارين للإيذان بأن الهادى كمن استعلى منارا ينظر الأشياء ويتطلع

١٣٢

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠)

____________________________________

عليها والضال كأنه منغمس فى ظلام لا يرى شيئا أو محبوس فى مطمورة لا يستطيع الخروج منها (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهذا أبلغ فى الإنصاف وأبعد من الجدل والاعتساف حيث أسند فيه الإجرام وإن أريد به الزلة وترك الأولى إلى أنفسهم ومطلق العمل إلى المخاطبين مع أن أعمالهم أكبر الكبائر (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة عند الحشر والحساب (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ) أى يحكم بيننا ويفصل بعد ظهور حال كل منا ومنكم بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) الحاكم الفيصل فى القضايا المنغلقة (الْعَلِيمُ) بما ينبغى أن يقضى به (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ) أى ألحقتموهم (بِهِ شُرَكاءَ) أريد بأمرهم بإراءة الأصنام مع كونها بمرأى منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إظهار خطئهم العظيم وإطلاعهم على بطلان رأيهم أى أرونيها لأنظر بأى صفة ألحقتموها بالله الذى ليس كمثله شىء فى استحقاق العبادة وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم (كَلَّا) ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أى الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة فأين شركاؤكم التى هى أخس الأشياء وأذلها من هذه الرتبة العالية والضمير إما لله عز وعلا أو للشأن كما فى قل هو الله أحد (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أى إلا إرسالة عامة لهم فإنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم أو إلا جامعا لهم فى الإبلاغ فهى حال من الكاف والتاء للمبالغة ولا سبيل إلى جعلها حالا من الناس لاستحالة تقدم الحال على صاحبها المجرور (بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيحملهم جهلهم على ما هم عليه من الغى والضلال (وَيَقُولُونَ) من فرط جهلهم وغاية غيهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) بطريق الاستهزاء يعنون به المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله تعالى (يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) مخاطبين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين به (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) أى وعد يوم أو زمان وعد والإضافة للتبيين وقرىء ميعاد يوم منونين على البدل ويوما بإضمار أعنى للتعظيم (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ) عند مفاجأته (ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) صفة لميعاد وفى هذا الجواب من المبالغة فى التهديد ما لا يخفى حيث جعل الاستئخار فى الاستحالة كالاستقدام الممتنع عقلا وقد مر بيانه مرارا ويجوز أن يكون نفى الاستئجار والاستقدام غير مقيد بالمفاجأة فيكون وصف الميعاد بذلك لتحقيقه

١٣٣

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣)

____________________________________

وتقريره (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أى من الكتب القديمة الدالة على البعث وقيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروهم أنهم يجدون نعته فى كتبهم* فغضبوا فقالوا ذلك وقيل الذى بين يديه القيامة (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) المنكرون للبعث (مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى فى موقف المحاسبة (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أى يتحاورون ويتراجعون القول (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بدل من يرجع الخ أى يقول الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) فى الدنيا واستتبعوهم فى الغى والضلال (لَوْ لا أَنْتُمْ) أى لو لا إضلالكم وصدكم لنا عن الإيمان (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال الذين استكبروا فى الجواب فقيل قالوا (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) منكرين لكونهم هم الصادين لهم عن الإيمان مثبتين أنهم هم الصادون بأنفسهم بسبب كونهم راسخين فى الإجرام (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) إضرابا عن إضرابهم وإبطالا له (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى بل صدنا مكركم بنا بالليل والنهار فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف اتساعا أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازى وقرىء بل مكر الليل والنهار بالتنوين ونصب الظرفين أى بل صدنا مكركم فى الليل والنهار على أن التنوين عوض عن المضاف إليه أو مكر عظيم على أنه للتفخيم وقرىء بل مكر الليل والنهار بالرفع والنصب أى تكرون الإغواء مكرا دائبا لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أى بل صدنا مكركم الإغواء فى الليل والنهار على ما سبق من الاتساع فى الظرف بإقامته مقام المضاف إليه* والنصب على المصدرية أى بل تكرون الإغواء مكر الليل والنهار أى مكرا دائما وقوله تعالى (إِذْ تَأْمُرُونَنا) ظرف للمكر أى بل مكركم الدائم وقت أمركم لنا (أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) على أن المراد بمكرهم إما نفس أمرهم بما ذكر كما فى قوله تعالى (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ

١٣٤

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (٣٧)

____________________________________

وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) فإن الجعلين المذكورين نعمة من الله تعالى وأى نعمة وأما أمور أخر مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من الترغيب والترهيب وغير ذلك (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أى أضمر* الفريقان الندامة على ما فعلا من الضلال والإضلال وأخفاها كل منهما عن الآخر مخافة التعيير أو أظهروها فإنه من الأضداد وهو المناسب لحالهم (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى فى أعناقهم والإظهار* فى موضع الإضمار للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب أغلالهم (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى لا يجزون إلا جزاء ما كانوا يعملون أو إلا بما كانوا يعملونه على نزع الجار (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) من القرى (مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد والمفاخرة بحظوظ الدنيا وزخارفها والتكبر بذلك على المؤمنين والاستهانة بهم من أجله وقولهم أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا بأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قال مترفوهم مثل ما قال مترفو أهل مكة فى حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكادوا به نحو ما كادوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاسوا أمور الآخرة الموهومة والمفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا أنهم لو لم يكرموا على الله تعالى لما رزقهم طيبات الدنيا ولو لا أن المؤمنين هانوا عليه تعالى لما حرمهموها وعلى ذلك الرأى الركيك بنوا أحكامهم (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) إما بناء على انتفاء العذاب الأخروى رأسا أو على اعتقاد أنه تعالى أكرمهم فى الدنيا فلا يهينهم فى الآخرة على تقدير وقوعها (قُلْ) ردا عليهم وحسبما لمادة طمعهم الفارغ وتحقيقا للحق الذى عليه يدور أمر التكوين (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه له (وَيَقْدِرُ) على من يشاء أن يقدره عليه من غير أن يكون لأحد من الفريقين داع إلى ما فعل به من البسط والقدر فربما يوسع على العاصى ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معا وقد يضيق عليهما وقد يوسع على شخص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل كلا من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة فلا يقاس على ذلك امر الثواب والعذاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها وقرىء ويقدر بالتشديد (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيزعمون أن* مدار البسط هو الشرف والكرامة ومدار القدر هو الهوان ولا يدرون أن الأول كثيرا ما يكون بطريق الاستدراج والثانى بطريق الابتلاء ورفع الدرجات (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ

١٣٥

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٤٠)

____________________________________

عِنْدَنا زُلْفى) كلام مستأنف من جهته عز وعلا خوطب به الناس بطريق التلوين والالتفات مبالغة فى تحقيق الحق وتقرير ما سبق أى وما جماعة أموالكم وأولادكم بالجماعة التى تقربكم عندنا قربة فإن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء فى حكم التأنيث أو بالخصلة التى تقربكم وقرىء بالذى أى بالشىء الذى* (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) استثناء من مفعول تقربكم أى وما الأموال والأولاد تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذى أنفق أمواله فى سبيل الله تعالى وعلم أولاده الخير ورباهم على الصلاح ورشحهم للطاعة* وقيل من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف أى إلا أموال من الخ (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فى الفعلين باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه* للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم فى الفضل أى فأولئك المنعوتون بالإيمان والعمل الصالح (لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) أى ثابت لهم ذلك على أن الجار والمجرور خبر لما بعده والجملة خبر لأولئك وفيه تأكيد لتكرر الإسناد أو يثبت لهم ذلك على أن الجار والمجرور خبر لأولئك وما بعده مرتفع على الفاعلية وإضافة الجزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف ومعناه أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشرا فما فوقها وقرىء جزاء الضعف على فأولئك لهم الضعف جزاء وجزاء الضعف على أن يجازوا الضعف وجزاء الضعف بالرفع على أن الضعف بدل من جزاء (بِما عَمِلُوا) من الصالحات (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) أى غرفات الجنة آمِنُونَ) من جميع المكاره وقرىء بفتح الراء وسكونها وقرىء فى الغرفة على إرادة الجنس (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) بالرد والطعن فيها (مُعاجِزِينَ) سابقين لأنبيائنا أو زاعمين أنهم يفوتوننا (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) لا يجديهم ما عولوا عليه نفعا (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أى يوسعه عليه تارة (وَيَقْدِرُ لَهُ) أى يضيقه عليه تارة أخرى فلا تخشوا الفقر وأنفقوا فى سبيل الله وتعرضوا لنفحاته تعالى (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) عوضا إما عاجلا وإما آجلا (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإن غيره واسطة فى إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أى المستكبرين والمستضعفين وما كانوا يعبدون من دون الله ويوم ظرف لمضمر متأخر سيأتى تقديره أو مفعول لمضمر مقدم نحو اذكر* (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) تقريعا للمشركين وتبكيتا لهم على نهج قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) الخ وإفناطا لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعتهم وتخصيص الملائكة

١٣٦

(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (٤٣)

____________________________________

لأنهم أشرف شركائهم والصالحون للخطاب منهم ولأن عبادتهم مبدأ الشرك فبظهور قصورهم عن رتبة المعبودية وتنزههم عن عبادتهم يظهر حال سائر شركائهم بطريق الأولوية وقرىء الفعلان بالنون (قالُوا) استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل فماذا يقول الملائكة حينئذ فقيل يقولون متنزهين عن ذلك (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) والعدول إلى صيغة الماضى الدلالة على التحقق أى أنت الذى نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) أى الشياطين حيث أطاعوهم فى عبادة غير الله سبحانه وتعالى وقيل كانوا يتمثلون لهم ويخيلون لهم أنهم الملائكة فيعبدونهم وقيل يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) الضمير الأول للإنس أو للمشركين والأكثر بمعنى الكل والثانى للجن (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزه والتبرؤ عما نسب إليهم الكفرة يخاطبون بذلك على رءوس الأشهاد إظهارا لعجزهم وقصورهم عند عبدتهم وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية والفاء ليست لترتيب ما بعدها من الحكم على جواب الملائكة فإنه محقق أجابوا بذلك أم لا بل لترتيب الإخبار به عليه ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذى هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه فى سلك عدم نفع العبدة لهم كأن نفع الملائكة لعبدتهم فى الاستحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم والتعرض لعدم الضر مع أنه لا بحث عنه أصلا إما لتعميم العجز أو لحمل عدم النفع على تقدير العبادة وعدم الضر على تقدير تركها أو لأن المراد دفع الضر على حذف المضاف وتقييد هذا الحكم بذلك اليوم مع ثبوته على الإطلاق لانعقاد رجائهم على تحقق النفع يومئذ وقوله عزوجل (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على نقول* للملائكة لا على لا يملك كما فيل فإنه مما يقال يوم القيامة خطابا للملائكة مترتبا على جوابهم المحكى وهذا حكاية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سيقال للعبدة يومئذ إثر حكاية ما سيقال للملائكة أى يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقول للمشركين (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) يكون من الأهوال والأحوال مالا يحيط به نطاق المقال وقوله تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا

١٣٧

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦)

____________________________________

بَيِّناتٍ) بيان لبعض آخر من كفرانهم أى إذا تتلى عليهم بلسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم آياتنا الناطقة بحقية* التوحيد وبطلان الشرك (قالُوا ما هذا) يعنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) فيستتبعكم بما يستدعيه من غير أن يكون هناك دين إلهى وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم* لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة فى تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد (وَقالُوا ما هذا) يعنون* القرآن الكريم (إِلَّا إِفْكٌ) أى كلام مصروف عن وجهه لا مصداق له فى الواقع (مُفْتَرىً) بإسناده إلى الله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) أى لأمر النبوة أو الإسلام أو القرآن على أن العطف لاختلاف العنوان* بأن يراد بالأول معناه وبالثانى نظمه المعجز (لَمَّا جاءَهُمْ) من غير تدبر ولا تأمل فيه (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر سحريته وفى تكرير الفعل والتصريح بذكر الكفرة وما فى اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما فى لما من المسارعة إلى البت بهذا القول الباطل إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) فيها دليل على صحة الإشراك كما فى قوله تعالى (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) وقوله تعالى (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) وقرىء يدرسونها ويدرسونها* بتشديد الدال يفتعلون من الدرس (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) يدعوهم إليه وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا وقدبان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ وهذا غاية تجهيل لهم وتسفيه لرأيهم ثم هددهم بقوله تعالى (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المتقدمة والقرون الخالية كما كذبوا (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أى ما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) عطف على (كَذَّبَ الَّذِينَ) الخ بطريق التفصيل والتفسير كقوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) الخ (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أى إنكارى لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أى ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هى ما دل عليه قوله تعالى (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) على أنه بدل منها أو بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أى هى أن تقوموا من مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تنتصبوا للأمر خالصا لوجه الله تعالى معرضا عن المماراة والتقليد (مَثْنى وَفُرادى) أى متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا فإن الازدحام يشوش الأفهام ويخلط الأفكار بالأوهام وفى تقديم مثنى إيذان بأنه أوثق وأقرب إلى الاطمئنان (ثُمَ

١٣٨

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (٥٠)

____________________________________

تَتَفَكَّرُوا) فى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به لتعلموا حقيقته وحقيته وقوله تعالى (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) استئناف* مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذى تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لا دعائه إلا مجنون لا يبالى بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند الله مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرجح العالمين عقلا وأصدقهم قولا وأنزههم نفسا وأفضلهم علما وأحسنهم عملا وأجمعهم للكمالات البشرية وجب أن تصدقوه فى دعواه فكيف وقد انضم إلى ذلك معجزات تخر لها صم الجبال ويجوز أن يتعلق بما قبله على معنى ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة وقد جوز أن تكون ما استفهامية على معنى ثم تتفكروا أى شىء به من آثار الجنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) هو عذاب الآخرة فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث فى نسم الساعة (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أى أى شىء سألتكم من أجر على الرسالة (فَهُوَ لَكُمْ) والمراد نفى السؤال رأسا كقول من قال لمن لم يعطه شيئا إن أعطيتنى شيئا فخذه وقيل ما موصولة أريد بها ما سألهم بقوله تعالى (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) وقوله تعالى (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) واتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى وقرباه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرباهم (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مطلع يعلم صدقى وخلوص نيتى وقرىء إن أجرى بسكون الياء (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) أى يلقيه وينزله على من يجتبيه من عباده أو يرمى به الباطل فيدمغه أو يرمى به فى أقطار الآفاق فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإعلاء كلمة الحق (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) صفة محمولة على محل إن واسمها أو بدل من المستكن فى يقذف أو خبر ثان لإن أو خبر مبتدأ محذوف وقرىء بالنصب صفة لربى أو مقدرا بأعنى وقرىء بكسر الغين وبالفتح كصبور مبالغة غائب (قُلْ جاءَ الْحَقُّ) أى الإسلام والتوحيد (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أى زهق الشرك بحيث لم يبق أثره أصلا مأخوذ من هلاك الحى فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعل مثلا فى الهلاك بالمرة ومنه قول عبيد[أقفر من أهله عبيد * فليس يبدى ولا يعيد] وقيل الباطل إبليس أو الصنم والمعنى لا ينشىء خلقا ولا يعيد أو لا يبدىء خيرا لأهله ولا يعيد وقيل ما استفهامية منصوبة بما بعدها (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ) عن الطريق الحق (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) فإن وبال ضلالى عليها لأنه بسببها إذهى الجاهلة بالذات والأمارة بالسوء وبهذا الاعتبار قوبل الشرطية بقوله تعالى (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) لأن الاهتداء بهدايته وتوفيقه وقرىء ربى بفتح الياء (إِنَّهُ سَمِيعٌ

١٣٩

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤)

____________________________________

قَرِيبٌ) يعلم قول كل من المهتدى والضال وفعله وإن بالغ فى إخفائهما (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) عند الموت أو البعث أو يوم بدر وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها فإذا دخلوا* البيداء خسف بهم وجواب لو محذوف أى لرأيت أمرا هائلا (فَلا فَوْتَ) فلا يفوتون الله عزوجل* يهرب أو تحصن (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من ظهر الأرض أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى قليبها أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم والجملة معطوفة على فزعوا وقيل على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا ويؤيده أنه قرىء وأخذ بالعطف على محله أى فلا فوت هنا وهناك أخذ (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) أى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد مر ذكره فى قوله تعالى (ما بِصاحِبِكُمْ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) التناوش التناول السهل أى ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فإنه فى حيز التكليف وهم منه بمعزل بعيد وهو تمثيل حالهم فى الاستخلاص بالإيمان بعد مافات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشىء من غلوة تناوله من ذراع فى الاستحالة وقرىء بالهمز على قلب الواو لضمها وهو من نأشت الشىء إذا طلبته وعن أبى عمرو التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم نأشت إذا أبطأت وتأخرت ومنه قول من قال[تمنى نئيشا أن يكون أطاعنى * وقد حدثت بعد الأمور أمور] (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) أى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بالعذاب الشديد الذى أنذرهم إياه (مِنْ قَبْلُ) أى من قبل ذلك فى أوان التكليف (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) ويرجمون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر لهم فى حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المطاعن أو فى العذاب المذكور* من بت القول بنفيه (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) من جهة بعيدة من حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث ينسبونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الشعر والسحر والكذب وإن أبعد شىء مما جاء به الشعر والسحر وأبعد شىء من عادته المعروفة فيما بين الدانى والقاصى الكذب ولعله تمثيل لحالهم فى ذلك بحال من يرمى شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم فى لحوقه وقرىء ويقذفون على أن الشيطان يلقى إليهم ويلقنهم ذلك وهو معطوف على قد كفروا به على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف فى تحصيل ما ضيعوه من الإيمان فى الدنيا (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان والنجاة من النار وقرىء بإشمام الضم للحاء (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أى بأشباههم* من كفرة الأمم الدارجة (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أى موقع فى الريبة أو ذى ريبة والأول منقول ممن يصح أن يكون مريبا من الأعيان إلى المعنى والثانى من صاحب الشك إلى الشك كما يقال شعر شاعر والله أعلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبى إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا.

١٤٠