تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤)

____________________________________

استئناف مقرر لما قبله من الأمر بإخلاص الدين له تعالى ووجوب الامتثال به وعلى القراءة الأخيرة مؤكد لاختصاص الدين به تعالى أى ألا هو الذى يجب أن يخص بإخلاص الطاعة له لأنه المتفرد بصفات الألوهية التى من جملها الاطلاع على السرائر والضمائر وقوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) * تحقيق لحقية ما ذكر من إخلاص الدين الذى هو عبارة عن التوحيد ببيان بطلان الشرك الذى هو عبارة عن ترك إخلاصه والموصول عبارة عن المشركين ومحله الرفع على الابتداء خبره ما سيأتى من الجملة المصدرة بإن والأولياء عن الملائكة وعيسى عليهم‌السلام والأصنام وقوله تعالى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) حال بتقدير القول من واو اتخذوا مبينة لكيفية إشراكهم وعدم خلوص دينهم والاستثناء مفرغ من أعم العلل وزلفى مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر ملاق له فى المعنى أى والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشىء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريبا (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أى وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وقد حذف لدلالة الحال عليه كما فى قوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) على أحد الوجهين أى بين أحد منهم وبين غيره وعليه قول النابغة[فما كان بين لخير لو جاء سالما * أبو حجر إلا ليال قلائل] أى بين الخير وبينى وقيل ضمير بينهم للفريقين جميعا (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الدين الذى اختلفوا فيه بالتوحيد والإشراك وادعى كل فريق منهم صحة ما انتحله وحكمه تعالى فى ذلك إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار فالضمير للفريقين هذا هو الذى يستدعيه مساق النظم الكريم وأما تجويز أن يكون الموصول عبارة عن المعبودين على حذف العائد إليه وإضمار المشركين من غير ذكر تعويلا على دلالة المساق عليهم ويكون التقدير والذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله إن الله يحكم بينهم أى بين العبدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون حيث يرجو العبدة شفاعتهم وهم يلعنونهم فبعد الإغضاء عما فيه من التعسفات بمعزل من السداد كيف لا وليس فيما ذكر من طلب الشفاعة واللعن مادة يختلف فيها الفريقان اختلافا محوجا إلى الحكم والفصل وإنما ذاك ما بين فريقى الموحدين والمشركين فى الدنيا من الاختلاف فى الدين الباقى إلى يوم القيامة وقرىء قالوا ما نعبدهم فهو بدل من الصلة لا خبر للموصول كما قيل إذ ليس فى الإخبار بذلك مزيد مزية وقرىء ما نعبدكم إلا لتقربونا حكاية لما خاطبوا به آلهتهم وقرىء نعبدهم إتباعا للباء (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أى لا يوفق للاهتداء* إلى الحق الذى هو طريق النجاة عن المكروه والفوز بالمطلوب (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أى راسخ فى* الكذب مبالغ فى الكفر كما يعرب عنه قراءة كذاب وكذوب فإنهما فافدان للبصيرة غير قابلين للاهتداء لتغيير هما الفطرة الأصلية بالتمرن فى الضلالة والتمادى فى الغى والجملة تعليل لما ذكر من حكمه تعالى (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) الخ استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله وعيسى ابنه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ببيان استحالة اتخاذ الولد فى حقه تعالى على الإطلاق ليندرج فيه استحالة

٢٤١

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٥)

____________________________________

ما قيل اندراجا أوليا أى لو أراد الله أن يتخذ ولدا (لَاصْطَفى) أى لاتخذ (مِمَّا يَخْلُقُ) أى من جملة ما يخلقه أو من جنس ما يخلقه (ما يَشاءُ) أن يتخذه إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له تعالى لا متناع تعدد الواجب ووجوب استناد جميع ما عداه إليه ومن البين أن اتخاذ الولد منوط بالمماثلة بين المتخذ والمتخذ وأن المخلوق لا يماثل خالقه حتى يمكن اتخاذه ولدا فما فرضناه اتخاذ ولد لم يكن اتخاذ ولد بل اصطفاء عبدو إليه أشير حيث وضع الاصطفاء موضع الاتخاذ الذى تقتضيه الشرطية تنبيها على استحالة مقدمها لاستلزام فرض وقوعه بل فرض إراد وقوعه انتفاءه أى لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولدا لفعل شيئا ليس هو من اتخاذ الولد فى شىء أصلا بل ة إنما هو اصطفاء عبد ولا ريب فى أن ما يستلزم فرض وقوعه انتفاءه فهو ممتنع قطعا فكأنه قيل لو أراد الله أن يتخذ ولدا لامتنع ولم يصح لكن لا على أن الامتناع منوط بتحقق الإرادة بل على أنه متحقق* عند عدمها بطريق الأولوية على منوال لو لم يخف الله لم يعصه وقوله تعالى (سُبْحانَهُ) تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد فى حقه تعالى وتأكيد له ببيان تنزهه تعالى عنه أى تنزه بالذات عن ذلك تنزهه الخاص به على أن السبحان مصدر من سبح إذا بعد أو أسبحه تسبيحا لاثقا به على أنه علم للتسبيح مقول على ألسنة* العباد أو سبحوه تسبيحا حقيقا بشأنه وقوله تعالى (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) استئناف مبين لتنزهه تعالى بحسب الصفات إثر بيان تنزهه تعالى عنه بحسب الذات فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال النافية لسمات النقصان والوحدة الذاتية الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق مما يقضى بتنزهه تعالى عما قالوا قضاء متقنا وكذا وصف القهارية لما أن اتخاذ الولد شأن من يكون تحت ملكوت الغير عرضة للفناء ليقوم ولده مقامه عند فنائه ومن هو مستحيل الفناء قهار لكل الكائنات كيف يتصور أن يتخذ من الأشياء الفانية ما يقوم مقامه وقوله تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) تفصيل لبعض أفعاله تعالى الدالة على تفرده بما ذكر من الصفات الجليلة أى خلقهما وما بينهما من الموجودات* ملتبسة بالحق والصواب مشتملة على الحكم والمصالح وقوله تعالى (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) بيان لكيفية تصرفه تعالى فيهما بعد بيان خلقهما فإن حدوث الليل والنهار فى الأرض منوط بتحريك السموات أى يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس على اللابس أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة أو يجعله كارا عليه كرورا متتابعا تتابع أكوار العمامة وصيغة المضارع* للدلالة على التجدد (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) جعلهما منقادين لأمره تعالى وقوله تعالى (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) بيان لكيفية تسخيرهما أى كل منهما يجرى لمنتهى دورته أو منقطع حركته وقد مر تفصيله* غير مرة (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على كل شىء من الأشياء التى من جملتها عقاب العصاة (الْغَفَّارُ) المبالغ فى المغفرة ولذلك لا يعاجل بالعقوبة وسلب ما فى هذه الصنائع البديعة من آثار الرحمة وتصدير

٢٤٢

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٦)

____________________________________

الجملة بحرف التنبيه لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) بيان لبعض آخر من أفعاله الدالة على ما ذكر وترك عطفه على خلق السموات للإيذان باستقلاله فى الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلى والبداءة بخلق الإنسان لعراقته فى الدلالة لما فيه من تعاجيب آثار القدرة وأسرار الحكمة وأصالته فى المعرفة فإن الإنسان بحال نفسه أعرف والمراد بالنفس نفس آدم عليه‌السلام وقوله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) * عطف على محذوف هو صفة لنفس أى من نفس خلقها ثم جعل منها زوجها أو على معنى واحدة أى من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها أو على خلقكم لتفاوت ما بينهما فى الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما ذكر لكن الأولى لاستمرارها صارت معتادة وأما الثانية فحيث لم تكن معتادة خارجة عن قياس الأولى كما يشعر به التعبير عنها بالجعل دون الخلق كانت أدخل فى كونها آية وأجلب للتعجب من السامع فعطفت على الأولى بثم دلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهو من التراخى فى الحال والمنزلة وقيل أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق منه حواء ففيه ثلاث آيات مترتبة خلق آدم عليه والسلام بلا أب وأم وخلق حواء من قصيراه ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما وقوله تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) بيان لبعض آخر من أفعاله الدالة على ما ذكر أى قضى أو* قسم لكم فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث تكتب فى اللوح المحفوظ أو أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء كالأمطار وأشعة الكواكب (مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ذكرا وأنثى هى الإبل* والبقر والضأن والمعز وقيل خلقها فى الجنة ثم أنزلها وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن كون الإنزال لمنافعهم وكونه من الجهة العالية من الأمور المهمة المشوفة إلى ما أنزل لا محالة وقوله تعالى (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) استئناف مسوق لبيان كيفية* خلقهم وأطواره المختلفة الدالة على القدرة الباهرة وصيغة المضارع للدلالة على التدرج والتجدد وقوله تعالى (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) مصدر مؤكد أى يخلقكم فيها خلقا كائنا من بعد خلق أى خلقا مدرجا حيوانا* سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ مخلقة من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) متعلق بيخلقكم وهى ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة أو* ظلمة الصلب والبطن والرحم (ذلِكُمُ) إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته تعالى فى العظمة والكبرياء ومحله الرفع على الابتداء أى ذلكم العظيم الشأن الذى عددت أفعاله (اللهُ) وقوله تعالى (رَبُّكُمْ) خبر آخر أى مر بكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به (لَهُ الْمُلْكُ) على الإطلاق فى الدنيا والآخرة ليس لغيره شركة فى ذلك بوجه

٢٤٣

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٨)

____________________________________

* من الوجوه والجملة خبر آخر وكذا قوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والفاء فى قوله تعالى (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) لترتيب ما بعدها على ما ذكر من شئونه تعالى أى فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره من غير داع إليها مع كثرة الصوارف عنها (إِنْ تَكْفُرُوا) به تعالى بعد مشاهدة ما ذكر من فنون نعمائه ومعرفة شئونه العظيمة الموجبة للإيمان والشكر* (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أى فاعلموا أنه تعالى غنى عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أى عدم رضاه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم رحمة عليهم لا لتضرره تعالى به (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أى يرض الشكر لأجلكم ومنفعتكم لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين لا لانتفاعه* تعالى به وإنما قيل لعباده لا لكم لتعميم الحكم وتعليله بكونهم عباده تعالى وقرىء بإسكان الهاء (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلا أى لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) بالبعث بعد الموت (فَيُنَبِّئُكُمْ) عند ذلك (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) أى كنتم تعملونه فى الدنيا من أعمال الكفر والإيمان أى يجازيكم بذلك ثوابا وعقابا (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أى بمضمرات ٨ القلوب فكيف بالأعمال الظاهرة وهو تعليل للتننبئة (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) من مرض وغيره (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) راجعا إليه مما كان يدعوه فى حالة الرخاء لعلمه بأنه بمعزل من القدرة على كشف ضره وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) أى أعطاه نعمة عظيمة من جنابه تعالى من التخول وهو التعهد أى جعله خائل مال من قولهم فلان خائل مال إذا كان متعهدا له حسن القيام به أو من الخول وهو الافتخار أى جعله يخول أى يختال ويفتخر (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) أى نسى الضر الذى كان يدعو الله تعالى فيما سبق إلى كشفه (مِنْ قَبْلُ) أى من قبل التخويل أو نسى ربه الذى كان يدعوه ويتضرع إليه إما بناء على أن ما بمعنى من كما فى قوله تعالى (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وقوله تعالى (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وإما إيذانا بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلا عن أن يعرفه من هو كما مر فى قوله تعالى (عَمَّا أَرْضَعَتْ (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) شركاء فى العبادة (لِيُضِلَّ) الناس بذلك (عَنْ سَبِيلِهِ) الذى هو التوحيد وقرىء ليضل بفتح الياء أى يزداد ضلالا أو يثبت عليه وإلا فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور واللام لام العاقبة كما فى قوله تعالى

٢٤٤

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩)

____________________________________

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) خلا أن هذا أقرب إلى الحقيقة لأن الجاعل ههنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال وإن لم يعرف لجهله أنهما إضلال وضلال وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلا (قُلْ) تهديدا لذلك الضال المضل وبيانا لحاله ومآله (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) أى تمتعا قليلا أو زمانا قليلا (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أى من ملازميها والمعذبين فيها على الدوام وهو تعليل لقلة التمتع وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى كأنه قيل إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) الخ من تمام الكلام المأمور به وأم إما متصلة قد حذف معاد لها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به أأنت أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بمواجب الطاعات ودائم على أداء وظائف العبادات فى ساعات الليل حالتى السراء والضراء لا عند مساس الضر فقط كدابك حال كونه (ساجِداً وَقائِماً) أى* جامعا بين الوصفين المحمودين وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل فى معنى العبادة وقرىء كلاهما بالرفع على أنه خبر بعد خبر (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) حال أخرى على الترادف أو التداخل أو استئناف وقع* جوابا عما نشأ من حكاية حاله من القنوت والسجود والقيام كأنه قيل ما باله يفعل ذلك فقيل يحذر عذاب الآخرة (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) فينجو بذلك مما يحذره ويفوز بما يرجوه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان* الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجى لا أنه يحذر ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط وإما منقطعة وما فيها من الإضراب للانتقال من التهديد إلى التبكيت بتكليف الجواب الملجىء إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل بل أم من هو قانت الخ أفضل أم من هو كافر مثلك كما هو المعنى على قراءة التخفيف (قُلْ) بيانا للحق وتنبيها على شرف العلم والعمل (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) حقائق الأحوال فيعملون بموجب علمهم كالقانت المذكور (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أى ما ذكر أو شيئا* فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كدأبك والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين فى أعلى معارج الخير وكون الآخرين فى أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر وقيل هو وارد على سبيل التشبيه أى كما لا يستوى العالمون والجاهلون لا يستوى القانتون والعاصون وقوله تعالى (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) كلام مستقل غير داخل فى الكلام المأمور به وارد من جهته تعالى بعد* الأمر بما ذكر من القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصى لبيان عدم تأثيرها فى قلوب الكفرة لا ختلال عقولهم كما فى قول من قال[عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار* ماذا تحيون من نوى وأحجار] أى إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وهؤلاء بمعزل من ذلك وقرىء إنما يذكر بالإدغام.

٢٤٥

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (١٢)

____________________________________

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتذكير المؤمنين وحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب إيذانا بأنهم هم كما سيصرح به أى قل لهم قولى هذا بعينه وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به فإن نقل عين أمر الله أدخل* فى إيجاب الامتثال به وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به وإيراد الإحسان فى حيز الصلة دون التقوى للإيذان بأنه من باب الإحسان وأنهما متلازمان وكذا الصبر كما مر فى قوله تعالى (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وفى قوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وقوله تعالى (فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلق بأحسنوا أى عملوا الأعمال الحسنة فى هذه الدنيا على وجه الإخلاص وهو الذى عبر عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل عن الإحسان بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن* تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (حَسَنَةٌ) أى حسنة عظيمة لا يكتنه كنهها وهى الجنة وقيل هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها أو حال من ضميرها فى الظرف فالمراد بها حينئذ الصحة والعافية* (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) فمن تعسر عليه التوفر على التقوى والإحسان فى وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن* فيه من ذلك كما هو سنة الأنبياء والصالحين فإنه لا عذر له فى التفريط أصلا وقوله تعالى (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) الخ ترغيب فى التقوى المأمور بها وإيثار الصابرين على المتقين للإيذان بأنهم حائزون لفضيلة الصبر كحيازتهم لفضيلة الإحسان لما أشير إليه من استلزام التقوى لهما مع ما فيه من زيادة حث على المصابرة والمجاهدة فى تحمل مشاق المهاجرة ومتاعبها أى إنما يوفى الذين صبروا على دينهم وحافظوا على حدوده ولم يفرطوا فى مراعاة حقوقه لما اعتراهم فى ذلك من فنون الآلام والبلايا التى من جملتها* مهاجرة الأهل ومفارقة الأوطان (أَجْرَهُمْ) بمقابلة ما كابدوا من الصبر (بِغَيْرِ حِسابٍ) أى بحيث لا يحصى ولا يحصر عن ابن عباس رضى الله عنهما لا يهتدى إليه حساب الحساب ولا يعرف وفى الحديث أنه تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيؤتون بها أجورهم ولا تنصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صبا حتى يتمنى أهل العافية فى الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أى من كل ما ينافيه من الشرك والرياء وغير ذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان ما أمر به نفسه من الإخلاص فى عبادة الله الذى هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة فى حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيدا لما يعقبه مما خوطب به المشركون (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أى وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم

٢٤٦

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦)

____________________________________

فى الدنيا والآخرة لان إحراز قصب السبق فى الدين بالإخلاص فيه والعطف لمغايرة الثانى الأول بتقيده بالعلة والإشعار بأن العبادة المذكورة كما تقتضى الأمر بها لذاتها تقتضيه لما يلزمها من السبق فى الدين ويجوز أن تجعل اللام مزيدة كما فى أردت لأن أقوم بدليل قوله تعالى (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) فالمعنى وأمرت أن أكون أول من أسلم من أهل زمانى أو من قومى أو أكون أول من دعا غيره إلى ما دعا إليه نفسه (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) يترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة وصف بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهى والأهوال (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) من كل شوب أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا ببيان كونه مأمورا بعبادة الله تعالى وإخلاص الدين له ثم بالإخبار بخوفه من العذاب على تقدير العصيان ثم بالإخبار بامتثاله بالأمر على أبلغ وجه وآكده إظهارا لتصلبه فى الدين وحسبما لأطماعهم الفارغة وتمهيدا لتهديدهم بقوله تعالى (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ) أن تعبدوه (مِنْ دُونِهِ) تعالى وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كى يحل بهم العقاب (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) أى الكاملين فى الخسران الذى هو عبارة عن إضاعة ما يهمه وإتلاف ما لا بد منه (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) باختيارهم الكفر لهما أى أضاعوهما وأتلفوهما (يَوْمَ الْقِيامَةِ) حين يدخلون النار حيث عرضوهما للعذاب السرمدى* وأوقعوهما فى هلكة لا هلكة وراءها وقيل خسروا أهليهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا إياب بعده وفيه أن المحذور ذهاب مالو آب لا نتفع به الخاسر وذلك غير متصور فى الشق الأخير وقيل خسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم فى أهل الجنة وخسروا أهليهم الذين كانوا يتمتعون بهم لو آمنوا وأياما كان فليس المراد مجرد تعريف الكاملين فى الخسران بما نذكر بل بيان أنهم هم إما بجعل الموصول عبارة عنهم أو عما هم مندرجون فيه اندراجا أوليا وما فى قوله تعالى (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) من استئناف الجملة وتصديرها بحرف* التنبيه والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار إليه فى الشر وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هو له وفظاعته وأنه لا خسران وراءه ما لا يخفى وقوله تعالى (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ

٢٤٧

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١٩)

____________________________________

ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) الخ نوع بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام على أن لهم خبر لظلل ومن فوقهم متعلق بمحذوف قيل هو حال من ظلل والأظهر أنه حال من الضمير فى الظرف المقدم ومن النار صفة لظلل* أى لهم كائنة من فوقهم ظلل كثيرة متراكبة بعضها فوق بعض كائنة من النار (وَمِنْ تَحْتِهِمْ) أيضا (ظُلَلٌ) أى أطباق كثيرة بعضها تحت بعض ظلل لآخرين بل لهم أيضا عند ترديهم فى دركانها (ذلِكَ) العذاب* الفظيع هو الذى (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ويحذرهم إياه بآيات الوعيد ليجتنبوا ما يوقعهم فيه (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى وهذه عظة من الله تعالى بالغة منطوية على غاية اللطف والمرحمة وقرىء يا عبادى (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) أى البالغ أقصى غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بنى للمبالغة فى المصدر كالرحموت والعظموت ثم وصف به للمبالغة فى النعت والمراد به هو الشيطان (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل اشتمال منه فإن عبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) وأقبلوا إليه معرضين عما سواه إقبالا كليا (لَهُمُ الْبُشْرى) بالثواب على ألسنة الرسل أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون وبعد ذلك (فَبَشِّرْ عِبادِ) (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) هم الموصوفون بالاجتناب والإنابة بأعيانهم لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر تشريفا لهم بالإضافة ودلالة على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نقادا فى الدين يميزون الحق من الباطل* ويؤثرون الأفضل فالأفضل (أُولئِكَ) إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم فى الفضل ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده من* الموصول أى أولئك المنعوتون بالمحاسن الجميلة (الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) للدين الحق (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أى هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم وفيه دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) بيان لأحوال أضداد المذكورين على طريقة الإجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعو خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بها قوله تعالى لإبليس (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله تعالى (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) وأصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه على أنها شرطية دخل عليها الهمزة لإنكار مضمونها ثم الفاء لعطفها على جملة مستتبعة لها مقدرة بعد الهمزة ليتعلق الإنكار والنفى بمضمونيهما

٢٤٨

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢١)

____________________________________

معا أى أأنت مالك أمر الناس فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ثم كررت الهمزة فى الجزاء لتأكيد الإنكار وتذكيره لما طال الكلام ثم وضع موضع الضمير من فى النار لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع فى النار وأن اجتهاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دعائهم إلى الإيمان سعى فى إنقاذهم من النار ويجوز أن يكون الجزاء محذوفا وقوله تعالى (أَفَأَنْتَ) الخ جملة مستقلة مسوقة لتقرير مضمون الجملة السابقة وتعيين ما حذف منها وتشديد الإنكار بتنزيل من استحق العذاب منزلة من دخل النار وتصوير الاجتهاد فى دعائه إلى الإيمان بصورة الإنقاذ من النار كأنه قيل أولا أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه منه ثم شدد النكير فقيل أفأنت تنقذ من فى النار وفيه تلويح بأنه تعالى هو الذى يقدر على الإنقاذ لا غيره وحيث كان المراد بمن فى النار الذين قيل فى حقهم لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل استدرك منهم بقوله تعالى (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) وهم الذين خوطبوا بقوله تعالى (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ووصفوا بما عدد من الصفات الفاضلة وهم المخاطبون أيضا فيما سبق بقوله تعالى (يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) الآية وبين أن لهم درجات عالية فى جنات النعيم بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة فى الجحيم أى لهم علالى بعضها فوق بعض (مَبْنِيَّةٌ) بناء المنازل المبنية المؤسسة على الأرض فى الرصانة والإحكام (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت تلك الغرف (الْأَنْهارُ) من غير تفاوت بين العلو والسفل (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لقوله تعالى (لَهُمْ غُرَفٌ) الخ فإنه وعد وأى وعد (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) لاستحالته عليه سبحانه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) استئناف وارد إما لتمثيل الحياة الدنيا فى سرعة الزوال وقرب الاضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع ترغيبا عن زخارفها وزينتها وتحذيرا من الاغترار بزهرتها كما فى نظائر قوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية أو للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى وأحكام حكمته ورحمته والمراد بالماء المطر وقيل كل ماء فى الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع (فَسَلَكَهُ) فأدخله ونظمه (يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أى عيونا* ومجارى كالعروق فى الأجساد وقيل مياها نابعة فيها فإن الينبوع يطلق على المنبع والنابع فنصبها على الحال وعلى الأول بنزع الجار أى فى ينابيع (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أصنافه من بر وشعير وغيرهما أو* كيفاته من الألوان والطعوم وغيرهما وكلمة ثم للتراخى فى الرتبة أو الزمان وصيغة المضارع لاستحضار

٢٤٩

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٢)

____________________________________

* الصورة (ثُمَّ يَهِيجُ) أى يتم جفافه ويشرف على أن يثور من منابته (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) من بعد خضرته ونضرته وقرىء مصفارا (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فتاتا متكسرة كأن لم يغن بالأمس ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر تفصيلا وما فيه من معنى البعد* للإيذان ببعد منزلته فى الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه (لَذِكْرى) لتذكيرا عظيما (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيها لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا فى سرعة التقضى والانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام فلا يغترون ببهجتها ولا يفتتنون بفتنتها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء وإجرائه فى ينابيع الأرض قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف هذا وأما ما قيل إن فى ذلك لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد من صانع حكيم وأنه كائن عن تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال فبمعزل من تفسير الآية الكريمة وإنما يليق ذلك بما لو ذكر ما ذكر من الآثار الجليلة والأفعال الجميلة من غير إسناد لها إلى مؤثر ما فحيث ذكرت مسندة إلى الله عزوجل تعين أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شئونه تعالى أو شئون آثاره حسبما بين لا وجوده تعالى وقوله تعالى (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) الخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولى الألباب وشرح الصدر للإسلام عبارة عن تكميل الاستعداد له فإنه محل للقلب الذى هو منبع للروح التى تتعلق بها النفس القابلة للإسلام فانشراحه مستدع لا تساع القلب واستضاءته بنوره فإنه روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح فقيل فما علامة ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإنابة إلى دار الخلود والتجافى عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله والكلام فى الهمزة والفاء كالذى مر فى قوله تعالى (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) وخبر من محذوف لدلالة ما بعده عليه والتقدير أكل الناس سواء فمن شرح الله صدره أى خلقه متسع الصدر مستعدا للإسلام فبقى على الفطرة الأصلية ولم يتغير بالعوارض* المكتسبة الفادحة فيها (فَهُوَ) بموجب ذلك مستقر (عَلى نُورٍ) عظيم (مِنْ رَبِّهِ) وهو اللطف الإلهى الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية والتوفيق للاهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بسبب تبديل فطرة الله بسوء اختباره واستولى عليه ظلمات الغى والضلالة فأعرض عن* تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أى من أجل ذكره الذى حقه أن تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب أى إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته اشمأزوا من أجله وازدادت قلوبهم قساوة كقوله تعالى (فَزادَتْهُمْ رِجْساً) وقرىء عن ذكر الله أى عن قبوله* (أُولئِكَ) البعداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب (فِي ضَلالٍ) بعد عن الحق (مُبِينٍ) ظاهر كونه ضلالا لكل أحد قيل نزلت الآية فى حمزة وعلى رضى الله عنهما وأبى لهب وولده وقيل فى عمار بن

٢٥٠

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣)

____________________________________

ياسر رضى الله عنه وأبى جهل وذويه (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) هو القرآن الكريم روى أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملوا ملة فقالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا حديثا وعن ابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم قالوا لو حدثتنا فنزلت والمعنى أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث وفى إيقاع الاسم الجليل مبتدأ وبناء نزل عليه من تفخيم أحسن الحديث ورفع محله والاستشهاد على حسنه وتأكيد استباده إليه تعالى وأنه من عنده لا يمكن صدوره عن غيره والتنبيه على أنه وحى معجز ما لا يخفى (كِتاباً) بدل من أحسن الحديث* أو حال منه سواء اكتسب من المضاف إليه تعريفا أو لا فإن مساغ مجىء الحال من النكرة المضافة اتفاقى ووقوعه حالا مع كونه اسما لا صفة إما لا تصافه بقوله تعالى (مُتَشابِهاً) أو لكونه فى قوة مكتوبا ومعنى* كونه متشابها تشابه معانيه فى الصحة والإحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق فى المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه فى الفصاحة وتجاوب نظمه فى الإعجاز (مَثانِيَ) صفة أخرى لكتابا أو* حال أخرى منه وهو جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه وقيل لأنه يثنى فى التلاوة وقيل هو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما فى قوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أى كرة بعد كرة ووقوعه صفة لكتابا باعتبار تفاصيله كما يقال القرآن سور وآيات ويجوز أن ينتصب على التمييز من متشابها كما يقال رأيت رجلا حسنا شمائل أى شمائله والمعنى متشابهة مثانيه (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) قيل صفة لكتابا أو حال منه لتخصصه* بالصفة والإظهر أنه استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة فى سامعيه بعد بيان أو صافه فى نفسه ولتقرير كونه أحسن الحديث والاقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من القشع وهو الأديم اليابس قد ضم إليه الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال اقشعر جلده وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من منكر هائل دهمه بغتة والمراد إما بيان إفراط خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منها جلودهم وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة وذلك قوله تعالى (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أى ساكنة مطمئنة إلى* ذكر رحمته تعالى وإنما لم يصرح بها إيذانا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى (ذلِكَ) أى الكتاب الذى شرح أحواله (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أن يهديه بصرف مقدوره إلى الاهتداء بتأمله فيما فى تضاعيفه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عند الله تعالى (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أى يخلق فيه الضلالة* بصرف قدرته إلى مباديها وإعراضه عما يرشده إلى الحق بالكلية وعدم تأثره بوعيده ووعده أصلا أو

٢٥١

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٩)

____________________________________

* ومن يخذل (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يخلصه من ورطة الضلال وقيل ذلك الذى ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه تعالى يهدى بذلك الأثر من يشاء من عباده ومن يضلل أى ومن لم يؤثر فيه لطفه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره فماله من هاد من مؤثر فيه بشىء قط (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) الخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تباين حالى المهتدى والضال والكلام فى الهمزة والفاء وحذف الخبر كالذى مر فى نظيريه والتقدير* أكل الناس سواء فمن شأنه أنه بقى نفسه بوجهه الذى هو أشرف أعضائه (سُوءَ الْعَذابِ) أى العذاب السىء الشديد (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لكون يده التى بها كان يتقى المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن* لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه وقيل نزلت فى أبى جهل (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) عطف على يتقى أى ويقال لهم من جهة خزنة النار وصيغة الماضى للدلالة على التحقق والتقرر وقيل هو حال من ضمير يتقى بإضمار قد ووضع المظهر فى مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر فى قوله تعالى (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أى وبال ما كنتم تكسبونه فى الدنيا على الدوام من الكفر والمعاصى (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوى إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروى أى كذب الذين من قبلهم من الأمم السالفة (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) المقدر لكل أمة منهم (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من الجهة التى لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيان الشر منها (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) أى الذل والصغار (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كالمسخ والخسف والقتل والسى والإجلاء ونحو ذلك من فنون النكال (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) المعد لهم (أَكْبَرُ) لشدته وسرمديته (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أى لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتاج إليه الناظر فى أمور دينه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) كى بتذكروا به ويتعظوا (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال مؤكدة من هذا على أن مدار التأكيد هو الوصف كقولك جاءنى زيد رجلا صالحا أو مدح له (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه فهو أبلغ من المستقيم وأخص بالمعانى وقيل المراد بالعوج الشك (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) علة أخرى مترتبة على الأولى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ)

٢٥٢

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (٣١)

____________________________________

لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان أن الحكمة فى ضربها هو التذكر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى والمراد بضرب المثل ههنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها كما مر فى سورة يس ومثلا مفعول ثان لضرب ورجلا مفعوله له الأول أخر عن الثانى للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمته التى هى العمدة فى التمثيل وفيه ليس بصلة لشركاء كما قيل بل هو خبر له وبيان أنه فى الأصل كذلك مما لا حاجة إليه والجملة فى حيز النصب على أنه وصف لرجلا أو الوصف هو الجار والمجرور وشركاء مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على الموصوف فالمعنى جعل الله تعالى مثلا للمشرك حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل معبوديه عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورونه فى مهماتهم المتباينة فى تحيره وتوزع قلبه (وَرَجُلاً) أى وجعل للموحد مثلا رجلا (سَلَماً) أى خالصا (لِرَجُلٍ) فرد ليس لغيره عليه سبيل أصلا وقرىء سلما بفتح السين وكسرها مع سكون اللام والكل مصادر من سلم له كذا أى خلص نعت بها مبالغة أو حذف منها ذو وقرىء سالما وسالم أى وهناك رجل سالم وتخصيص الرجل لأنه أفطن لما يجرى عليه من الضر والنفع (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) إنكار واستبعاد لاستوائهما ونفى له على أبلغ وجه وآكده وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما أو يتلعثم فى الحكم بتباينهما ضرورة أن أحدهما فى أعلى عليين والآخر فى أسفل سافلين وهو السر فى إبهام الفاضل والمفضول وانتصاب مثلا على التمييز أى هل يستوى حالاهما وصفتاهما والاقتصار فى التمييز على الواحد لبيان الجنس وقرىء مثلين كقوله تعالى (أَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) للإشعار باختلاف النوع أو لأن المراد هل يستويان فى الوصفين على أن الضمير للمثلين لأن التقدير مثل رجل فيه الخ ومثل رجل الخ وقوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تقرير لما قبله من نفى الاستواء بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى وأنها نعمة جليلة موجبة عليهم أن يداموا على حمده وعبادته أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عزوجل مستوجب لحمده وعبادته وقوله تعالى (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره فيبقون فى ورطة الشرك والضلال وقوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة وقرىء مائت ومائتون وقيل كانوا يتربصون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موته أى إنكم جميعا بصدد الموت (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أى مالك أموركم (تَخْتَصِمُونَ) فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التى من جملتها ما فى تضاعيف هذه الآيات واجتهدت فى الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد وهم قد لجوا فى المكابرة والعناد وقيل المراد به الاختصام العام الجارى فى الدنيا بين الأنام والأول هو الأظهر الأنسب بقوله

٢٥٣

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٥)

____________________________________

تعالى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) فإنه إلى آخره مسوق لبيان حال كل من طرفى الاختصام الجارى فى شأن الكفر والإيمان لا غير أى أظلم من كل ظالم من افترى على الله سبحانه وتعالى بأن أضاف إليه الشريك والولد (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أى بالأمر الذى هو عين الحق ونفس الصدق وهو ما جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم* (إِذْ جاءَهُ) أى فى أول مجيئه من غير تدبر فيه ولا تأمل (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أى لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه وسارعوا إلى التكذيب بالصدق من أول الأمر والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فى الضمائر السابقة باعتبار لفظها أو لجنس الكفرة وهم داخلون فى الحكم دخولا أوليا (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) الموصول عبارة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن تبعه كما أن المراد فى قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) هو عليه الصلاة والسلام وقومه وقيل عن الجنس المتناول المرسل والمؤمنين بهم ويؤيده قراءة ابن مسعود رضى الله عنه والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به وقيل* هو صفة لموصوف محذوف هو الفوج أو الفريق (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من المجىء بالصدق والتصديق به (هُمُ الْمُتَّقُونَ) المنعوتون بالتقوى التى هى أجل الرغائب وقرىء وصدق به بالتخفيف أى صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل عليه من غير تغيير وقيل وصار صادقا به أى بسببه لأن ما جاء به من القرآن معجزة دالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء صدق به على البناء للمفعول (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بيان لما لهم فى الآخرة من حسن المآب بعد بيان ما لهم فى الدنيا من محاسن الأعمال أى لهم كل ما يشاءون من جلب المنافع ودفع المضار فى الآخرة لا فى الجنة فقط لما أن بعض ما يشاءونه من تكفير السيئات والأمن من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة (ذلِكَ) الذى ذكر من حصول كل ما يشاءونه (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أى الذين أحسنوا أعمالهم وقد مر تفسير الإحسان غير مرة وقوله تعالى (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) الخ متعلق بقوله تعالى (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) لكن لا باعتبار منطوقه ضرورة أن التفكير المذكور لا يتصور كونه غاية لثبوت ما يشاءون لهم فى الآخرة كيف لا وهو بعض ما سيثبت لهم فيها بل باعتبار فحواه فإنه حيث لم يكن إخبارا بما ثبت لهم فيما مضى بل بما سيثبت لهم فيما سيأتى كان فى معنى الوعد به كما مر فى قوله تعالى (وَعْدَ اللهِ) فإنه مصدر مؤكد لما قبله من قوله تعالى (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) فإنه فى معنى وعدهم الله غرفا فانتصب به وعد الله كأنه قيل

٢٥٤

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) (٣٧)

____________________________________

وعدهم الله جميع ما يشاءونه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد اسوأ الذى عملوا دفعا لمضارهم (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) إعطاء لمنافعهم وإظهار الاسم الجليل* فى موقع الإضمار لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام وإضافة الأسوأ والأحسن إلى ما بعدهما ليست من قبيل إضافة المفضل إلى المفضل عليه بل من إضافة الشىء إلى بعضه للقصد إلى التحقيق والتوضيح من غير اعتبار تفضيله عليه وإنما المعتبر فيهما مطلق الفضل والزيادة لا على المضاف إليه المعين بخصوصه كما فى قولهم الناقص والأشج أعدلاننى مر وان خلا أن الزيادة المعتبرة فيهما ليست بطريق الحقيقة بل هى فى الأول بالنظر إلى ما يليق بحالهم من استعظام سيئاتهم وإن قلت واستصغار حسناتهم وإن جلت والثانى بالنظر إلى لطف أكرم الأكرمين من استكثار الحسنة اليسيرة ومقابلتها بالمثوبات الكثيرة وحمل الزيادة على الحقيقة وإن أمكن فى الأول بناء على أن تخصيص الأسوأ بالذكر لبيان تكفير ما دونه بطريق الأولوية ضرورة استلزام تكفير الأسوأ لتكفير السيىء لكن لما لم يكن ذلك فى الأحسن كان الأحسن نظمهما فى سلك واحد من الاعتبار والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل فى صلة الموصول الثانى دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) إنكار ونفى لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه وآكده كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم فى الجواب بوجودها والمراد بالعبد إما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الجنس المنتظم له عليه‌السلام انتظاما أوليا ويؤيده قراءة من قرأ عباده وفسر بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكذا قراءة من قرأ بكافى عباده على الإضافة ويكافىء عباده صيغة المغالبة إما من الكفاية لإفادة المبالغة فيها وإما من المكافأة بمعنى المجازاة وهذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما قالت له قريش إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا ويصيبك مضرتها لعيبك إياها وفى رواية قالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون كما قال قوم هود إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتا بسوء وذلك قوله تعالى (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أى الأوثان التى اتخذوها آلهة* من دونه تعالى والجملة استئناف وقيل حال (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) حتى غفل عن كفايته تعالى وعصمته له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخوفه بما لا ينفع ولا يضر أصلا (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه إلى خير ما (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ولا معارض لإرادته كما ينطق به قوله تعالى (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع (ذِي انْتِقامٍ) ينتقم من أعدائه* لأوليائه وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة.

٢٥٥

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٢)

____________________________________

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لوضوح الدليل وسنوح السبيل (قُلْ) تبكيتا لهم (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) أى بعد ما تحققتم أن خالق العالم العلوى والسفلى هو الله عزوجل فأخبرونى أن آلهتكم إن أرادنى الله بضر هل يكشفن عنى ذلك* الضر (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) أى أو أرادنى بنفع (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) فيمنعنها عنى وقرىء كاشفات ضره وممسكات رحمته بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه عليه الصلاة والسلام للرد فى نحورهم حيث كانوا خوفوه معرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة* (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أى فى جميع أمورى من إصابة الخير ودفع الشر روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سألهم سكتوا فنزل ذلك (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) لا على غيره أصلا لعلمهم بأن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالتكم التى أنتم عليها من العداوة التى تمكنتم فيها فإن المكانة تستعار من العين* للمعنى كما تستعار هنا وحيث للزمان مع كونهما للمكان وقرىء على مكاناتكم (إِنِّي عامِلٌ) أى على مكانتى فحذف للاختصار والمبالغة فى الوعيد والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة بنصر الله عزوجل وتأييده ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم فى الدارين بقوله تعالى (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) فإن خزى أعدائه دليل غلبته عليه الصلاة والسلام وقد عذبهم الله تعالى وأخزاهم يوم بدر (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أى دائم هو عذاب النار (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) لأجلهم فإنه مناط مصالحهم فى المعاش والمعاد (بِالْحَقِّ) حال من فاعل أنزلنا أو من مفعوله (فَمَنِ اهْتَدى) بأن عمل بما فيه (فَلِنَفْسِهِ) أى إنما نفع به نفسه (وَمَنْ ضَلَّ) بأن لم يعمل بموجبه (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لما أن وبال ضلاله مقصور عليها (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) لتجبرهم على الهدى وما وظيفتك إلا البلاغ وقد بلغت أى بلاغ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أى يقبضها من الأبدان

٢٥٦

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥)

____________________________________

بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهرا وباطنا كما عند الموت أو ظاهرا فقط كما عند النوم (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ولا يردها إلى البدن وقرىء قضى على البناء للمفعول ورفع الموت (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أى النائمة إلى بدنها عند التيقظ (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الوقت المضروب لموته وهو غاية لجنس الإرسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه فإن ذلك مما لا امتداد فيه ولا كمية وما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما إن فى ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هى التى بها العقل والتمييز والروح هى التى بها النفس والتحرك فتتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم قريب مما ذكر (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من التوفى على الوجهين والإمساك فى أحدهما والإرسال فى الآخر* (لَآياتٍ) عجيبة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فى كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية كما عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها (أَمِ اتَّخَذُوا) أى بل اتخذ قريش (مِنْ دُونِ اللهِ) من دون إذنه تعالى (شُفَعاءَ) تشفع لهم عنده تعالى (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه أى قل أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء ولا يعقلونه فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى أو هى لإنكار الوقوع ونفيه على أن المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الشفعاء فى شىء لأنه فرع كون الأوثان شفعاء وذلك أظهر المحالات فالمقدر حينئذ غير ما قدر أولا وعلى أى تقدير كان قالوا وللعطف على شرطية قد حذفت لدلالة المذكورة عليها أى أيشفعون لو كانوا يملكون شيئا ولو كانوا لا يملكون الخ وجواب لو محذوف لدلالة المذكور عليه وقد مر تحقيقه مرارا (قُلْ) بعد تبكيتهم وتجهيلهم بما ذكر تحقيقا للحق (لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أى هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع له مرتضى والشفيع مأذونا له وكلاهما مفقود ههنا وقوله تعالى (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقرير له وتأكيد أى له ملكهما* وما فيهما من المخلوقات لا يملك أحد أن يتكلم فى أمر من أموره بدون إذنه ورضاه (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة لا إلى أحد سواه لا استقلالا ولا اشتراكا فيفعل يومئذ ما يريد (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) دون آلهتهم (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أى انقبضت ونفرت كما فى قوله تعالى (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) فرادى أو مع ذكر الله تعالى (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله تعالى ولقد بولغ فى بيان حاليهم القبيحتين حيث

٢٥٧

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٩)

____________________________________

بين الغاية فيهما فإن الاستبشار هو أن يمتلىء القلب سرورا حتى ينبسط له بشرة الوجه والاشمئزاز أن يمتلىء غيظا وغما ينقبض منه أديم الوجه والعامل فى إذا الأولى اشمأزت وفى الثانية ما هو العامل فى إذا المفاجأة تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أى التجىء إليه تعالى بالدعاء لما تحيرت فى أمر الدعوة وضجرت من شدة شكيمتهم* فى المكابرة والعناد فإنه القادر على الأشياء بجملتها والعالم بالأحوال برمتها (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أى حكما يسلمه كل مكابر معاند ويخضع له كل عات مارد وهو العذاب الدنيوى أو الأخروى وقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الخ كلام مستأنف مسوق لبيان آثار الحكم الذى استدعاه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغاية شدته وفظاعته أى لو أن لهم جميع ما فى الدنيا من الأموال والذخائر (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أى لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب* الشديد وهيهات ولات حين مناص وهذا كما ترى وعيد شديد وإقناط كلما لهم من الخلاص (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أى ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن فى حسابهم وهذه غاية من الوعيد لا غاية وراءها ونظيره فى الوعد قوله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض عليهم صحائفهم (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أى أحاط بهم جزاؤه (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) إخبار عن الجنس بما يفعله غالب أفراده والفاء لترتيب ما بعدها من المناقضة والتعكيس على مامر من حالتيهم القبيحتين وما بينهما اعتراض مؤكد للإنكار عليهم أى إنهم يشمئزون عن ذكر الله تعالى وحده ويستبشرون بذكر الآلهة فإذا مسهم ضر* دعوا من اشمأزوا عن ذكره دون من استبشروا بذكره (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أعطيناه إياها تفصلا فإن التخويل مخص به لا يطلق على ما أعطى جزاء (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أى على علم منى بوجوه كسبه أو بأبى أعطاه لما لى من الاستحقاق أو على علم من الله تعالى بى وباستحقاقى والهاء لما إن جعلت موصولة وإلا فلنعمة والتذكير لما أن المراد شىء؟؟؟ بنعمة (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أى محنة وابتلاء له أيشكر

٢٥٨

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣)

____________________________________

أم يكفر وهو رد لما قاله وتغيير السبك للمبالغة فيه والإيذان بأن ذلك ليس من باب الإيتاء المنبىء عن الكرامة وإنما هو أمر مباين له بالكلية وتأنيث الضمير باعتبار لفظ النعمة أو باعتبار الخبر وقرىء بالتذكير (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كذلك وفيه دلالة على أن المراد بالإنسان هو الجنس (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهاء لقوله (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) لأنها كلمة أو جملة وقرىء بالتذكير والموصول ٥٠ عبارة عن قارون وقومه حيث قال إنما أوتيته على علم عندى وهم راضون به (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من متاع الدنيا ويجمعون منه (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) جزاء سيئات أعمالهم أو أجزية ما كسبوا وتسميتها سيئات لأنها فى مقابلة سيئاتهم وجزاء سيئة سيئة مثلها (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) المشركين ومن للبيان أو للتبعيض أى أفرطوا فى الظلم والعتو (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) من الكفر والمعاصى كما أصاب أولئك والسين للتأكيد وقد أصابهم أى إصابة حيث قحطوا سبع سنين وقتل صناديدهم يوم بدر (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أى فائتين (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا) أى أقالوا ذلك ولم يعلموا أو أغفلوا ولم يعلموا (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه له (وَيَقْدِرُ) لمن يشاء أن يقدره له من غير أن يكون لأحد مدخل ما فى ذلك حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسطه لهم سبعا (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذى ذكر (لَآياتٍ) دالة على أن الحوادث كافة من الله عزوجل (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أى أفرطوا فى الجناية عليها بالإسراف فى المعاصى وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن الكريم (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) أى لا تيأسوا من مغفرته أولا ولا تفضله* ثانيا (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) عفوا لمن يشاء ولو بعد حين بتعذيب فى الجملة وبغيره حسبما يشاء وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ظاهر فى الإطلاق فيما عدا الشرك ومما يدل عليه التعليل بقوله تعالى (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) على* المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة وتقديم ما يستدعى عموم المغفرة مما فى عبادى من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهى عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب ووضع الاسم الجليل موضع

٢٥٩

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩)

____________________________________

الضمير لدلالته على أنه المستغنى والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع وما روى من أسباب النزول الدالة على ورود الآية فيمن تاب لا يقتضى اختصاص الحكم بهم ووجوب حمل المطلق على المقيد فى كلام واحد مثل أكرم الفضلاء أكرم الكاملين غير مسلم فكيف فيما هو بمنزلة كلام واحد ولا يخل بذلك الأمر بالتوبة والإخلاص فى قوله تعالى (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) إذ ليس المدعى أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغنى عن الأمر بهما وتنافى الوعيد بالعذاب (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أى القرآن أو المأمور به دون المنهى عنه أو العزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ ولعله ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) بمجيئه لتتداركوا وتتأهبوا له (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) أى كراهة أن تقول والتنكير للتكثير كما فى قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) فإنه مسلك ربما يسلك عند إرادة التكثير والتعميم وقد مر تحقيقه فى مطلع سورة الحجر (يا حَسْرَتى) بالألف بدلا من ياء الإضافة وقرىء يا حسرتاه بهاء السكت وقفا وقرىء يا حسرتاى بالجمع بين العوضين وقرىء يا حسرتى على الأصل أى احضرى فهذا أوان حضورك (عَلى ما فَرَّطْتُ) أى على تفريطى وتقصيرى (فِي جَنْبِ اللهِ) أى جانبه وفى حقه وطاعته وعليه قول من قال[أما تتقين الله فى جنب وامق * له كبد حرى وعين ترقرق] وهو كناية فيها مبالغة وقيل فى ذات الله على تقدير مضاف كالطاعة وقيل فى قربه من قوله تعالى (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) وقرىء فى ذكر الله (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أى المستهزئين بدين الله تعالى وأهله ومحل الجملة النصب على الحال أى فرطت وأنا ساخر (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) بالإرشاد إلى الحق (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) الشرك والمعاصى (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فى العقيدة والعمل وأو للدلالة على أنها لا تخلو عن هذه الأقوال تحسرا وتحيرا وتعللا بما لا طائل تحته وقوله تعالى (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) رد من الله تعالى عليه لما تضمنه قوله (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) من معنى النفى

٢٦٠