تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢٤)

____________________________________

(إِنَّ هذا أَخِي) استئناف لبيان ما فيه الخصومة أى أخى فى الدين أو فى الصحبة والتعرض لذلك تمهيد لبيان كمال قبح ما فعل به صاحبه (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) هى الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة والكناية والتعريض أبلغ فى المقصود وقرىء تسع وتسعون بفتح التاء ونعجة بكسر النون وقرىء ولى نعجة بسكون الياء (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أى ملكنيها وحقيقته اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدى وقيل اجعلها كفلى أى نصيبى (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أى غلبنى فى مخاطبته إياى محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده أو فى مغالبته إياى فى الخطبة يقال خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبنى خطابا أى غالبنى فى الخطبة فغلبنى حيث زوجها دونى وقرىء وعازنى أى غالبنى وعزنى بتخفيف الزاى طالبا للخفة وهو تخفيف غريب كأنه قيس على ظلت ومست (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) جواب قسم محذوف قصد به عليه الصلاة والسلام المبالغة فى إنكار فعل صاحبه وتهجين طمعه فى نعجة من ليس له غيرها مع أن له قطيعا منها ولعله عليه الصلاة والسلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادعاه عليه أو بناه على تقدير صدق المدعى والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والضم (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أى الشركاء الذين خلطوا أموالهم (لَيَبْغِي) ليتعدى وقرىء بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة (بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) غير مراع لحق الصحبة والشركة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) منهم فإنهم يتحامون عن البغى والعدوان (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أى وهم قليل وما مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم والجملة اعتراض (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) * الظن مستعار للعلم الاستدلالى لما بينهما من المشابهة الظاهرة أى علم بما جرى فى مجلس الحكومة وقيل لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم عليه الصلاة والسلام أنه تعالى ابتلاه وليس المعنى على تخصيص الفتنة به عليه الصلاة والسلام دون غيره بتوجيه القصر المستفاد من كلمة إنما إلى المفعول بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الاستعمال الشائع الوارد على توجيه القصر إلى متعلقات الفعل وقيوده باعتبار النفى فيه والإثبات فيها كما فى مثل قولك إنما ضربت زيدا وإنما ضربته تأديبا بل على تخصيص حاله عليه الصلاة والسلام بالفتنة بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغايره من الأفعال لكن لا باعتبار النفى والإثبات معا فى خصوصية الفعل فإنه غير ممكن قطعا بل باعتبار النفى فيما فيه من معنى مطلق الفعل واعتبار الإثبات فيما يقارنه من المعنى المخصوص فإن كل فعل من الأفعال المخصوصة ينحل

٢٢١

عند التحقيق إلى معنى مطلق هو مدلول لفظ الفعل وإلى معنى مخصوص يقارنه ويقيده وهو أثره فى الحقيقة فإن معنى نصر مثلا فعل النصر يرشدك إلى ذلك قولهم معنى فلان يعطى ويمنع يفعل الإعطاء والمنع فمورد القصر فى الحقيقة ما يتعلق بالفعل باعتبار النفى فيه والإثبات فيما يتعلق به فالمعنى وعلم داود عليه‌السلام أنما فعلنا به الفتنة لا غير قيل ابتليناه بامرأة أوريا وقيل امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها لما قصد منها وإيثار طريق التمثيل لأنه أبلغ فى التوبيخ فإن التأمل فيه إذا أداه إلى الشعور بما هو الغرض كان أوقع فى نفسه وأعظم تأثيرا فى قلبه وأدعى إلى التنبه للخطأ مع ما فيه من مراعاة حرمته عليه الصلاة والسلام بترك المجاهرة والإشعار بأنه أمر يستحيى من التصريح به وتصويره بصورة التحاكم لإلجائه عليه الصلاة والسلام إلى التصريح بنسبة نفسه إلى الظلم وتنبيهه عليه الصلاة والسلام على أن أوريا بصدد الخصام* (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب (وَخَرَّ راكِعاً) أى ساجدا على تسمية السجود ركوعا* لأنه مبدؤه أوخر للسجود راكعا أى مصليا كأنه أحرم بركعتى الاستغفار (وَأَنابَ) أى رجع إلى الله تعالى بالتوبة. وأصل القصة أن داود عليه‌السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحيى أن يرده ففعل فتزوجها وهى أم سليمان عليه‌السلام وكان ذلك جائزا فى شريعته معتادا فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وقد كان الأنصار فى صدر الإسلام يواسون المهاجرين بمثل ذلك من غير نكير خلا أنه عليه الصلاة والسلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغى له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه أن يغالب هواه ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها دواد عليه‌السلام فآثره عليه‌السلام أهلها فكان ذنبه عليه الصلاة والسلام أن خطب على خطبة أخيه المسلم هذا وأما ما يذكر من أنه عليه الصلاة والسلام دخل ذات يوم محرابه وأغلق بابه وجعل يصلى ويقرأ الزبور فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان فى صورة حمامة من ذهب فمديده ليأخذها لابن صغير له فطارت فامتد إليها فطارت فوقعت فى كوة فتبعها فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها وهى امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد ففتح الله تعالى على يده وسلم فأمر برده مرة أخرى وثالثة حتى قتل وأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء وتزوج امرأته فإفك مبتدع مكروه ومكر مخترع بئسما مكروه تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع ويل لمن ابتدعه وأشاعه وتبا لمن اخترعه وأذاعه ولذلك قال على رضى الله عنه من حدث بحديث داود عليه‌السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم هذا وقد قيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه عليه الصلاة والسلام فتسوروا المحراب ودخلوا عليه فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم عليه الصلاة والسلام غرضهم فهم بأن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء له من الله عزوجل فاستغفر ربه مما هم به وأناب.

٢٢٢

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢٧)

____________________________________

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أى ما استغفر منه وروى أنه عليه الصلاة والسلام بقى ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلا الصلاة مكتوبة أو لما لا بد منه ولا يرقا دمعه حتى نبت منه العشب إلى رأسه ولم يشرب ماء إلا ثلثاه دمع وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى فى العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له أيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بنى إسرائيل فلما غفر له حاربه فهزمه (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) لقرابة وكرامة بعد المغفرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) حسن مرجع فى الجنة (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) إما حكاية لما خوطب به عليه الصلاة والسلام مبينة لزلفاه عنده عزوجل وإما مقول قول مقدر هو معطوف على غفرنا أو حال من فاعله أى وقلنا له أو قائلين له يا داود الخ أى استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق وفيه دليل بين على أن حاله عليه الصلاة والسلام بعد التوبة كما كانت قبلها لم تتغير قط (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) بحكم الله تعالى فإن الخلافة بكلا معنييه مقتضية له حتما (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أى هوى النفس فى الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالنصب على أنه جواب النهى وقيل هو مجزوم بالعطف على النهى مفتوح لالتقاء الساكنين أى فيكون الهوى أو اتباعه سببا لضلالك عن دلائله التى نصها على الحق تكوينا وتشريعا وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار سبيل الله فى موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) * جملة من خبر ومبتدأ وقعت خبرا لأن أو الظرف خبر لأن وعذاب مرتفع على الفاعلية بما فيه من معنى الاستقرار (بِما نَسُوا) بسبب نسيانهم وقوله تعالى (يَوْمَ الْحِسابِ) إما مفعول لنسوا فيكون تعليلا* صريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الإشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه أعنى الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من أفراده أو ظرف لقوله تعالى (لَهُمْ) أى لهم عذاب شديد يوم القيامة بسبب نسيانهم الذى هو عبارة عن ضلالهم ومن ضرورته أن يكون مفعوله سبيل الله فيكون التعليل المصرح به حينئذ عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان ومن لم يتنبيه لهذا السر السرى قال بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن السبيل فإن تذكره يقتضى ملازمة الحق ومخالفة الهوى فتدبر (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) كلام مستأنف مقرر لما قبله

٢٢٣

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩)

____________________________________

من أمر البعث والحساب والجزاء أى وما خلقناهما وما بينهما من المخلوقات على هذا النظام البديع الذى تحار فى فهمه العقول خلقا باطلا أى خاليا عن الغاية الجليلة والحكمة الباهرة بل منطويا على الحق المبين والحكم البالغة حيث خلقنا من بين ما خلقنا نفوسا أو دعناها العقل والتمييز بين الحق والباطل والنافع والضار ومكناها من التصرفات العلمية والعملية فى استجلاب منافعها واستدفاع مضارها ونصبنا للحق دلائل آفافية وأنفسية ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف بل أرسلنا إليها رسلا وأنزلنا عليها كتابا بينا فيها كل دقيق وجليل وأزحنا عللها بالكلية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمة وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالها (ذلِكَ) إشارة إلى ما نفى من خلق ما ذكر باطلا (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى مظنونهم فإن جحودهم بأمر البعث والجزاء الذى عليه يدور فلك تكوين العالم قول منهم ببطلان خلق ما ذكر وخلوه عن الحكمة سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بما فى حيز الصلة بعلية كفرهم له ولا تنافى بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم ومن فى قوله تعالى (مِنَ النَّارِ) تعليلية كما فى قوله تعالى (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) ونظائره مفيدة لعلية النار لثبوت الويل لهم صريحا بعد الإشعار بعلية ما يؤدى إليها من ظنهم وكفرهم أى فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أم منقطعة وما فيها من بل للإضراب الانتقالى عن تقرير أمر البعث والحساب والجزاء بما مر من نفى خلق العالم خاليا عن الحكم والمصالح إلى تقريره وتحقيقه بما فى الهمزة من إنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده أى بل أتجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين فى أقطار الأرض كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين فى التمتع بالحياة الدنيا بل الكفرة أوفر حظا منها من المؤمنين لكن ذلك الجعل محال فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين* إلى أسفل سافلين وقوله تعالى (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) إضراب وانتقال عن إثبات ما ذكر بلزوم المحال الذى هو التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهو التسوية بين أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل فى إنكار التسوية من الوصفين الأولين وقيل قال كفار قريش للمؤمنين إنا نعطى فى الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف هو عبارة عن القرآن أو السورة وقوله تعالى (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) صفته

٢٢٤

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣٢)

____________________________________

وقوله تعالى (مُبارَكٌ) خبر ثان للمبتدأ أو صفة لكتاب عند من يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح وقرىء مباركا على أنه حال من مفعول أنزلنا ومعنى المبارك الكثير المنافع الدينية والدنيوية وقوله تعالى (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) متعلق بأنزلناه أى أنزلناه ليتفكروا فى آياته التى من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من المعانى الفائقة والتأويلات اللائقة وقرىء ليتدبروا على الأصلى ولتدبروا على الخطاب أى أنت وعلماء أمتك بحذف إحدى التاءين (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) * أى وليتعظ به ذوو العقول السليمة أو ليستحضروا ما هو كالمركوز فى عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته لما نصب عليه من الدلائل فإن الكتب الإلهية مبينة لما لا يعرف إلا بالشرع ومرشدة إلى ما لا سبيل للعقل إليه (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) وقرىء نعم العبد أى سليمان كما ينبىء عنه تأخيره عن داود مع كونه مفعولا صريحا لوهبنا ولأن قوله تعالى (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أى رجاع إلى الله تعالى بالتوبة أو إلى التسبيح مرجع له تعليل للمدح وهو من حاله لما أن الضمير المجرور فى قوله تعالى (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) راجع إليه عليه الصلاة والسلام قطعا وإذ منصوب باذكر أى اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه (بِالْعَشِيِّ) هو من الظهر إلى آخر النهار (الصَّافِناتُ) فإنه يشهد بأنه أواب وقيل ظرف لأواب وقيل لنعم وتأخير الصافنات عن الظرفين لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر والصافن من الخيل الذى يقوم على طرف سنبك يد أو رجل وهو من الصفات المحمودة فى الخيل لا يكاد يتفق إلا فى العراب الخلص وقيل هو الذى يجمع يديه ويسويهما وأما الذى يقف على سنبكه فهو المنخيم (الْجِيادُ) جمع جواد وجود وهو الذى يسرع فى جريه وقيل الذى يجود عند الركض وقيل وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية أى إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة فى مواقفها وإذا جرت كانت سراعا خفافا فى جريها وقيل هو جمع جيد روى أنه عليه الصلاة والسلام غزا أهل دمشق ونصيبين وأصحاب ألف فرس وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه وقيل خرجت من البحر لها أجنحة فقعد يوما بعد ما صلّى الظهر على كرسيه فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد كان له من الذكر وقتئذ وتهيبوه فلم يعلموه فاغتم لما فاته فاستردها فعقرها تقربا لله تعالى وبقى مائة فما فى أيدى الناس من الجياد فمن نسلها وقيل لما عقرها أبدله الله خيرا منها وهى الريح تجرى بأمره (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) قاله عليه الصلاة والسلام عند غروب الشمس اعترافا بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة وندما عليه وتمهيدا لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها والتعقيب باعتبار أواخر العرض المستمر دون ابتدائه

٢٢٥

(رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٣٤)

____________________________________

والتأكيد للدلالة على أن اعترافه وندمه عن صميم القلب لا لتحقيق مضمون الخبر وأصل أحببت أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب أنبت عدى تعديته وحب الخير مفعوله كأنه قيل أنبت حب الخير عن ذكر ربى ووضعته موضعه وخير المال الكثير والمراد به الخيل التى شغلته عليه الصلاة والسلام ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخير معقود بنواصى الخيل إلى يوم القيامة وقرىء إنى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) متعلق بقوله (أَحْبَبْتُ) باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار العرض أى أنبت حب الخير عن ذكر ربى واستمر ذلك حتى توارت أى غربت الشمس تشبيها لغروبها فى مغربها بتوارى المخبأة بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشى عليها وقيل الضمير الصافنات أى حتى توارت بحجاب الليل أى بظلامه (رُدُّوها عَلَيَّ) من تمام مقالة سليمان عليه‌السلام ومرمى غرضه من تقديم ما قدمه ومن لم يتنبه له مع ظهوره توهم أنه متصل بمضمر هو جواب لمضمر آخر كأن سائلا قال فماذا قال سليمان عليه‌السلام فقيل قال ردوها فتأمل والفاء فى قوله تعالى (فَطَفِقَ مَسْحاً) فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية سرعة الامتثال بالأمر أى فردوها عليه فأخذ يمسح السيف مسحا (بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أى بسوقها وأعناقها يقطعها من قولهم مسح علاوته أى ضرب عنفه وقيل جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حبالها وإعجابا بها وليس بذاك وقرىء بالسؤق على همز الواو لضمتها كما فى أدؤر وقرىء بالسؤوق تنزيلا لضمة السين منزلة ضمة الواو وقرىء بالساق اكتفاء بالواحد عن الجمع لأمن الإلباس (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) أظهر ما قيل فى فتنته عليه الصلاة والسلام ما روى مرفوعا أنه قال لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتى كل واحدة بفارس يجاهد فى سبيل الله تعالى ولم يقل إن شاء الله تعالى فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل والذى نفسى بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فى سبيل الله فرسانا أجمعون وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك فكان يغذوه فى السحاب فما شعر به إلى أن ألقى على كرسيه ميتا فتنبه لخطئه حيث لم يتوكل على الله عز وعلا وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب بنتا له تسمى جرادة من أحسن الناس فاصطفاها لنفسه وأسلمت حبها وكان لا يرقا دمعها جزعا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتهن فى ملكه فأخبره آصف بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد فجلس عليه تائبا إلى الله تعالى باكيا متضرعا وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة يعطيها خاتمة وكان ملكه فيه فأعطاها يوما فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم فتختم به وجلس على كرسيه فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه فى كل شىء إلا فى نسائه وغير سليمان

٢٢٦

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣٨)

____________________________________

عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن فى بيته فأنكر آصف وعظماء بنى إسرائيل حكم الشيطان ثم طار اللعين وقذف الخاتم فى البحر فابتلعته سمكة فوقعت فى يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به وخر ساجدا وعاد إليه ملكه وجاب صخرة لصخر فجعله فيها وسد عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه فى البحر وعلى هذا فالجسد عبارة عن صخر سمى به وهو جسم لا روح فيه لأنه تمثل بما لم يكن كذلك والخطيئة تغافله عليه الصلاة والسلام عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل لم يكن محظورا حينئذ وسجود الصورة بغير علم منه لا يضره (قالَ) بدل من أناب وتفسير له (رَبِّ اغْفِرْ لِي) أى ما صدر عنى من الزلة (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لا يتسهل له ولا يكون ليكون معجزة لى مناسبة لحالى فإنه عليه الصلاة والسلام لما نشأ فى بيت الملك والنبوة وورثهما معا استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما أولا ينبغى لأحد أن يسلبه منى بعد هذه السلبة أولا يصح لأحد من بعدى لعظمته كقولك لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة وقيل كان ملكا عظيما فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله تعالى وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين جريا على سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصالحين وكون ذلك أدخل فى الإجابة وقرىء لى بفتح الياء (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة معا لا بالأخيرة فقط فإن المغفرة أيضا من أحكام وصف الوهابية قطعا (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) أى أى فذللناها لطاعته إجابة لدعوته فعاد أمره عليه الصلاة والسلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة وقرىء الرياح (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) بيان لتسخيرها له (رُخاءً) أى لينة من الرخاوة طيبة لا تزعزع وقيل طيعة لا تمتنع عليه كالمأمور المنقاد (حَيْثُ أَصابَ) أى حيث قصد وأراد حكى الأصمعى عن العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب (وَالشَّياطِينَ) عطف على الريح (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) بدل من الشياطين (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) عطف على كل بناء داخل فى حكم البدل كأنه عليه الصلاة والسلام فصل الشياطين إلى عملة استعملهم فى الأعمال الشافة من البناء والغوص ونحو ذلك وإلى مردة قرن بعضهم مع بعض فى السلاسل لكفهم عن الشر والفساد ولعل أجسامهم شفافة فلا ترى صلبة فيمكن تقييدها ويقدرون على

٢٢٧

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (٤١)

____________________________________

الأعمال الصعبة وقد جوز أن يكون الإقران فى الأصفاد عبارة عن كفهم عن الشرور بطريق التمثيل والصفد القيد وسمى به العطاء لأنه يرتبط بالمنعم عليه وفرقوا بين فعليهما فقالوا صفده قيده وأصفده أعطاه على عكس وعد وأوعده وقوله تعالى (هذا) الخ إما حكاية لما خوطب به سليمان عليه‌السلام مبينة لعظم شأن ما أوتى من الملك وأنه مفوض إليه تفويضا كليا وإما مقول مقدر هو معطوف على سخرنا أو حال من فاعله كما مر فى خاتمة قصة داود عليه‌السلام أى وقلنا له أو قائلين له هذا الأمر الذى أعطيناكه من الملك العظيم والبسطة والتسلط على ما لم يسلط عليه غيرك (عَطاؤُنا) الخاص بك (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) فأعط من شئت وامنع من شئت (بِغَيْرِ حِسابٍ) حال من المستكن فى الأمر أى غير محاسب على شىء منه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق أو من العطاء أى هذا عطاؤنا ملتبسا بغير حساب لغاية كثرته أو صلة له وما بينهما اعتراض على التقديرين وقيل الإشارة إلى تسخير الشياطين والمراد بالمن والإمساك الإطلاق والتقييد (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) فى الآخرة مع ماله من الملك العظيم فى الدنيا (وَحُسْنَ مَآبٍ) هو الجنة قيل فتن سليمان عليه‌السلام بعد ما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة وذكر الفقيه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينورى فى تاريخه أن سليمان عليه‌السلام ورث ملك أبيه فى عصر كيخسرو بن سياوش وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره كيخسرو فهرب إلى خراسان فلم يلبث حتى هلك ثم سار سليمان عليه‌السلام إلى مرو ثم إلى بلاد الترك فوغل فيها ثم جاز بلاد الصين ثم عطف إلى أن وافى بلاد فارس فنزلها أياما ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس فلما فرغ منه سار إلى تهامة ثم إلى صنعاء وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر الله تعالى وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما والله تعالى أعلم (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) عطف على اذكر عبدنا داود وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما‌السلام وأيوب هو ابن عيص بن إسحاق* عليه‌السلام (إِذْ نادى رَبَّهُ) بدل اشتمال من عبدنا وأيوب عطف بيان له (أَنِّي) بأنى (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) بفتح ياء مسنى وقرىء بإسكانها وإسقاطها (بِنُصْبٍ) أى تعب وقرىء بفتح النون وبفتحتين وبضمتين* للتثقيل (وَعَذابٍ) أى ألم ووصب يريد مرضه وما كان يقاسيه من فنون الشدائد وهو المراد بالضر فى قوله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) وهو حكاية لكلامه الذى ناداه به بعبارته وإلا لقيل إنه مسه الخ والإسناد إلى الشيطان إما لأنه تعالى مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثه مظلوم فلم يغثه أو كانت مواشيه فى ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه أو لامتحان صبره فيكون اعترافا بالذنب أو

٢٢٨

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤)

____________________________________

مراعاة للأدب أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم أو لأن المراد بالنصب ما كان يوسوس به إليه فى مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع فالتجأ إلى الله تعالى فى أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل وليس هذا تمام دعائه عليه الصلاة والسلام بل من جملته قوله (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فاكتفى ههنا عن ذكره بما فى سورة الأنبياء كما ترك هناك ذكر الشيطان ثقة بما ذكر ههنا وقوله تعالى (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) الخ إما حكاية لما قيل له أو مقول لقول مقدر معطوف على نادى أى فقلنا له اركض برجلك أى اضرب بها الأرض وكذا قوله تعالى (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) فإنه أيضا إما حكاية لما قيل له بعد امتثاله بالأمر ونبوع الماء أو مقول لقول مقدر معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل فضربها فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل تغتسل به وتشرب منه فيبرأ ظاهرك وباطنك وقيل نبعت عينان حارة للاغتسال وباردة للشرب ويأباه ظاهر النظم الكريم وقوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) معطوف على مقدر مترتب على مقدر آخر يقتضيه القول المقدر آنفا كأنه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضركما فى سورة الأنبياء ووهبنا له أهله إما بإحيائهم بعد هلاكهم وهو المروى عن الحسن أو بجمعهم بعد تفرقهم كما قيل (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) عطف على أهله فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل (رَحْمَةً مِنَّا) أى لرحمة عظيمة عليه من قبلنا (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ولتذكيرهم بذلك ليصبروا على الشدائد كما صبر ويلجأوا إلى الله عزوجل فيما يحيق بهم كما لجأ ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) معطوف على اركض أو على وهبنا بتقدير قلنا أى وقلنا خذ بيدك الخ والأول أقرب لفظا وهذا أنسب معنى فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة فإن امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف وقيل ليا بنت يعقوب وقيل ماصر بنت ميشا بن يوسف عليه‌السلام ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برىء ليضربنها مائة ضربة فأمره الله تعالى بأخذ الضغث والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه وعن ابن عباس رضى الله عنهما قبضة من الشجر وقال (فَاضْرِبْ بِهِ) أى بذلك الضغث (وَلا تَحْنَثْ) فى يمينك فإن البر يتحقق به ولقد شرع الله سبحانه هذه الرخصة رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها وهى باقية ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) فيما أصابه فى النفس والأهل والمال وليس فى شكواه إلى الله تعالى إخلال بذلك فإنه لا يسمى جزعا كتمنى العافية وطلب الشفاء على أنه قال ذلك خيفة الفتنة فى الدين حيث كان الشيطان يوسوس إلى قومه

٢٢٩

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨)

____________________________________

بأنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلى به وإرادة القوة على الطاعة فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان ويروى أنه عليه الصلاة والسلام قال فى مناجاته إلهى قد علمت أنه لم يخالف لسانى قلبى ولم يتبع قلبى بصرى ولم يهبنى ما ملكت يمينى ولم آكل إلا ومعى يتيم ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه (نِعْمَ الْعَبْدُ) أى أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) تعليل لمدحه أى رجاع إلى الله تعالى (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) عطف بيان لعبادنا وقرىء عبدنا إما على أن إبراهيم وحده لمزيد شرفه عطف بيان وقيل بدل وقيل نصب بإضمار أعنى والباقيان عطف على عبدنا وإما على* أن عبدنا اسم جنس وضع موضع الجمع (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أولى القوة فى الطاعة والبصيرة فى الدين أو أولى الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة فعبر بالأيدى عن الأعمال لأن أكثرها تباشر بها وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها وفيه تعريض بالجهلة البطالين أنهم كالزمنى والعماة وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكنهم منهما وقرىء أولى الأيد بطرح الياء والاكتفاء بالكسر وقرىء أولى الأيادى على جمع الجمع (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية وعلو الرتبة فى العلم والعمل أى جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة عظيمة الشأن كما ينبىء عنه التنكير التفخيمى وقوله تعالى (ذِكْرَى الدَّارِ) بيان للخالصة بعد إبهامها للتفخيم أى تذكر للدار الآخرة دائما فإن خلوصهم فى الطاعة بسبب تذكرهم لها وذلك لأن مطمح أنظارهم ومطرح أفكارهم فى كل ما يأتون وما يذرون جوار الله عزوجل والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا فى الآخرة وقيل أخلصناهم بتوفيقهم لها واللطف بهم فى اختيارها ويعضد الأول قراءة من قرأ بخالصتهم وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار فى الحقيقة وإنما الدنيا معبر وقرىء بإضافة خالصة إلى ذكرى أى بما خلص من ذكرى الدار على معنى أنهم لا يشوبون ذكراها بهم آخر أصلا أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها وتزهيدهم فى الدنيا كما هو شأن الأنبياء عليهم الصلاة ٤٧ والسلام وقيل ذكرى الدار الثناء الجميل فى الدنيا ولسان الصدق الذى ليس لغيرهم (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم فى الخير والأخيار جمع خير كشر وأشرار وقيل جمع خير أو خير مخفف منه كأموات فى جمع ميت وميت (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ) فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه للإشعار بعراقته فى الصبر الذى هو المقصود بالتذكير (وَالْيَسَعَ) هو ابن خطوب بن العجوز استخلفه إلياس على بنى إسرائيل ثم استنبىء واللام فيه حرف تعريف دخل على يسع كما فى قول من

٢٣٠

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) (٥٣)

____________________________________

قال [رأيت الوليد بن اليزيد مباركا] وقرىء واليسع كأن أصله ليسع فيعل من اللسع دخل عليه حرف التعريف وقيل هو على القراءتين علم أعجمى دخل عليه اللام وقيل هو يوشع (وَذَا الْكِفْلِ) هو ابن عم يسع أو بشر بن أيوب واختلف فى نبوته ولقبه فقيل فر إليه مائة نبى من بنى إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم وقيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلى كل يوم مائة صلاة (وَكُلٌّ) أى وكلهم (مِنَ الْأَخْيارِ) المشهور بن بالخبرية (هذا) إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم (ذِكْرٌ) أى شرف لهم وذكر جميل يذكرون به أبدا أو نوع من الذكر الذى هو القرآن وباب منه مشتمل على أنباء الأنبياء عليهم‌السلام وعن ابن عباس رضى الله عنهما هذا ذكر من مضى من الأنبياء وقوله تعالى (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) شروع فى بيان أجرهم الجزيل فى الآجل بعد بيان ذكرهم الجميل فى العاجل وهو باب آخر من أبواب التنزيل والمراد بالمتقين إما الجنس وهم داخلون فى الحكم دخولا أوليا وإما نفس المذكورين عبر عنهم بذلك مدحا لهم بالتقوى التى هى الغاية القاصية من الكمال (جَنَّاتِ عَدْنٍ) عطف بيان لحسن مآب عند من يجوز تخالفهما تعريفا وتنكيرا فإن عدنا معرفة لقوله تعالى (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ) أو بدل منه أو نصب على المدح وقوله تعالى (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) حال من جنات عدن والعامل فيها ما فى للمتقين* من معنى الفعل والأبواب مرتفعة باسم المفعول والرابط بين الحال وصاحبها إما ضمير مقدر كما هو رأى البصريين أى الأبواب منها أو الألف واللام القائمة مقامه كما هو رأى الكوفيين إذ الأصل أبوابها وقرئتا مرفوعتين على الابتداء والخبر أو على أنهما خبران لمحذوف أى هى جنات عدن هى مفتحة (مُتَّكِئِينَ فِيها) حال من ضمير لهم والعامل فيها مفتحة وقوله تعالى (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) استئناف لبيان حالهم فيها وقيل هو أيضا حال مما ذكر أو من ضمير متكئين والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذى فإنه لتحصيل بدل المتحلل ولا تحلل ثمة (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أى على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم (أَتْرابٌ) لدات لهم فإن التحاب بين الأقران أرسخ أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن ولا صبية واشتقاقه من التراب فإنه يمسهم فى وقت واحد (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أى لأجله فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء وقرىء بالياء ليوافق ما قبله

٢٣١

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) (٥٩)

____________________________________

والالتفات أليق بمقام الامتنان والتكريم (إِنَّ هذا) أى ما ذكر من ألوان النعم والكرامات (لَرِزْقُنا) أعطينا كموه (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) انقطاع أبدا (هذا) أى الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو هذا ذكر وقوله تعالى (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) شروع فى بيان أضداد الفريق السابق (جَهَنَّمَ) إعرابه كما سلف (يَصْلَوْنَها) أى يدخلونها حال من جهنم (فَبِئْسَ الْمِهادُ) وهو المهد والمفرش مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف وهو جهنم لقوله تعالى (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) (هذا فَلْيَذُوقُوهُ) أى ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله تعالى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أو العذاب هذا فليذوقوه أو هذا مبتدأ خبره (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) وما بينهما اعتراض وهو على الأولين خبر مبتدأ محذوف أى هو حميم والغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها وقيل الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده وقيل لو قطرت منه قطرة فى المشرق لنتنت أهل المغرب ولو قطرت قطرة فى المغرب لنتنت أهل المشرق وقيل الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى وقرىء بتخفيف السين (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) أى ومذوق آخر أو عذاب آخر من مثل هذا المذوق أو العذاب فى الشدة والفظاعة وقرىء وأخر أى ومذوقات أخر أو أنواع عذاب أخر وتوحيد ضمير شكله بتأويل ما ذكر أو الشراب الشامل للحميم والغساق أو هو راجع إلى الغساق (أَزْواجٌ) أى أجناس وهو خبر لآخر لأنه يجوز أن يكون ضروبا أو صفة له أو للثلاثة أو مرتفع بالجار والخبر محذوف مثل لهم (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) حكاية ما يقال من جهة الخزنة لرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم فى الكفر والضلالة والاقتحام الدخول فى الشىء بشدة قال الراغب الاقتحام توسط شدة مخيفة وقوله تعالى (لا مَرْحَباً بِهِمْ) من إتمام كلام الخزنة بطريق الدعاء على الفوج أو صفة للفوج أو حال منه أى مقول أو مقولا فى حقهم لا مرحبا بهم أى لا أتوا مرحبا أو لا رحبت بهم الدار مرحبا (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) تعليل من جهة الخزنة لاستحقاقهم الدعاء عليهم أو وصفهم بما ذكر وقيل لا مرحبا بهم إلى هنا كلام الرؤساء فى حق أتباعهم عند خطاب الخزنة لهم باقتحام الفوج معهم تضجرا من مقارنتهم

٢٣٢

(قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) (٦٣)

____________________________________

وتنفرا من مصاحبتهم وقيل كل ذلك كلام الرؤساء بعضهم مع بعض فى حق الأتباع (قالُوا) أى الأتباع عند سماعهم ما قيل فى حقهم ووجه خطابهم الرؤساء فى قولهم (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) الخ على الوجهين الأخيرين ظاهر وأما على الوجه الأول فلعلهم إنما خاطبوهم مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى الخزنة بل هم لا مرحبا بهم الخ قصدا منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاطبة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة طمعا فى قضائهم بتخفيف عذابهم أو تضعيف عذاب خصمائهم أى بل أنتم أحق بما قيل لنا أو قلتم وقوله تعالى (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) تعليل لأحقيتهم بذلك أى أنتم قدمتم العذاب أو الصلى لنا وأو قعتمونا فيه بتقديم ما يؤدى إليه من العقائد الزائغة والأعمال السيئة وتزيينها فى أعيينا وإغرائنا عليها لا أنا باشرناها من تلقاء أنفسنا (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أى فبئس المقر جهنم قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم (قالُوا) أى الأتباع أيضا وتوسيطه بين كلاميهم لما بينهما من التباين البين ذاتا وخطابا أى قالوا معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله تعالى (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) كقولهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار أى عذابا مضاعفا أى ذا ضعف وذلك بأن يزيد عليه مثله ويكون ضعفين كقوله (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أو قيل المراد بالضعف الحيات والأفاعى (وَقالُوا) أى الطاغون (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) يعنون فقراء المسلمين الذين كانوا يستر ذلونهم ويسخرون منهم (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) بهمزة استفهام سقطت لأجعلها همزة الوصل والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب قالوه إنكارا على أنفسهم وتأنيبا لها فى الاستسخار منهم (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) متصل بأتخذناهم على أن أم متصلة والمعنى أى الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الازدراء بهم وتحقيرهم وإن أبصارنا كانت تزيغ عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار كل واحد من الفعلين على أنفسهم توبيخا لها أو على أنها منقطعة والمعنى أتخذناهم سخريا بل أزاغت عنهم أبصارنا كقولك أزيد عندك أم عندك عمرو على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار ثم الإضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير وقرىء اتخذناهم بغير همزة على أنه صفة أخرى لرجالا فقوله تعالى (أَمْ زاغَتْ) متصل بقوله (ما لَنا لا نَرى) والمعنى ما لنا لا نراهم فى النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم أم زاغت عنهم أبصارنا وهم فيها وقد جوز أن تكون الهمزة مقدرة على هذه القراءة وقرىء سخريا بضم السين.

٢٣٣

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٦٩)

____________________________________

(إِنَّ ذلِكَ) أى الذى حكى من أحوالهم (لَحَقٌّ) لا بد من وقوعه البتة وقوله تعالى (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) خبر مبتدأ محذوف والجملة بيان لذلك وفى الإبهام أولا والتبيين ثانيا مزيد تقرير له وقيل بدل من محل ذلك وقيل بدل من حق أو عطف بيان له وقرىء بالنصب على أنه بدل من ذلك وما قيل من أنه صفة له فقد قيل عليه إن اسم الإشارة لا يوصف إلا بالمعرف باللام يقال بهذا الرجل ولا يقال بهذا غلام الرجل (قُلْ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للمشركين (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) من جهته تعالى أنذركم عذابه (وَما مِنْ إِلهٍ) فى الوجود (إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) الذى لا يقبل الشركة والكثرة أصلا (الْقَهَّارُ) لكل شىء سواه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) من المخلوقات فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها (الْعَزِيزُ) الذى لا يغلب فى أمر من أموره (الْغَفَّارُ) المبالغ فى المغفرة يغفر ما يشاء لمن يشاء وفى هذه النعوت من تقرير التوحيد والوعد للموحدين والوعيد للمشركين ما لا يخفى وتثنية ما يشعر بالوعيد من وصفى القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة لتوفية مقام الإنذار حقه (قُلْ) تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير لا بد من الاعتناء به أمرا وائتمارا (هُوَ) أى ما أنبأتكم به من أنى منذر من جهته تعالى وأنه تعالى واحد لا شريك له وأنه متصف بما ذكر من الصفات الجليلة والأظهر أنه القرآن وما ذكر داخل فيه دخولا أوليا كما يشهد به آخر السورة الكريمة وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة (نَبَأٌ عَظِيمٌ) وارد من جهته تعالى وقوله تعالى (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) استئناف ناع عليهم سوء صنيعهم به ببيان أنهم لا يقدرون قدره الجليل حيث يعرضون عنه مع عظمته وكونه موجبا للإقبال الكلى عليه وتلقيه بحسن القبول وقيل صفة أخرى لنبأ وقوله تعالى (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) الخ استئناف مسوق لتحقيق أنه نبأ عظيم وارد من جهته تعالى بذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة فإن ذلك حجة بينة دالة على أن ذلك بطريق الوحى من عند الله تعالى وأن سائر أنبائه أيضا كذلك والملأ الأعلى هم الملائكة وآدم عليهم‌السلام وإبليس عليه اللعنة وقوله تعالى (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) متعلق بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفى علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم

٢٣٤

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٧١)

____________________________________

لا بذوانهم والتقدير ما كان لى فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملأ الأعلى وقت اختصامهم وتقدير الكلام كما اختاره الجمهور تحجير للواسع فإن علمه عليه الصلاة والسلام غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضا من سجود الملائكة واستكبار إبليس وكفره حسبما ينطق به الوحى فلا بد من اعتبار العموم فى نفيه أيضا لا محالة وقوله تعالى (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريرا لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعيينا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئا عن ثبوته الآن ومن البين عدم ملابسته عليه الصلاة والسلام بشىء من مباديه المعهودة تعين أنه ليس إلا بطريق الوحى حتما فجعل ذلك أمرا مسلم الثبوت غنيا عن الإخبار به قصدا وجعل مصب الفائدة والمقصود إخبار ما هو داع إلى الوحى ومصحح له تحقيقا لقوله تعالى (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) فى ضمن تحقيق علمه عليه الصلاة والسلام بقصة الملأ الأعلى فالقائم مقام الفاعل ليوحى إما ضمير عائد إلى الحال المقدر أو ما يعمه وغيره فالمعنى ما يوحى إلى حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى ما يوحى من الأمور الغيبية التى من جملتها حالهم إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعى الوحى إليه ومن موجباته حتما وأما أن القائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور أو هو إنما أنا نذير مبين بلا تقدير الجار وأن المعنى ما يوحى إلى إلا للإنذار أو ما يوحى إلى إلا أن أنذر وأبلغ ولا أفرط فى ذلك كما قيل فمع ما فيه من الاضطرار إلى التكلف فى توجيه قصر الوحى على كونه للإنذار فى الأول وقصره على الإنذار فى الثانى فلا يساعده سباق النظم الكريم وسياقه كيف لا والاعتراض حينئذ يكون أجنبيا مما توسط بينهما من إجمال الاختصام وتفصيله فتأمل والله المرشد وقرىء إنما بالكسر على الحكاية وقوله تعالى (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) شروع فى تفصيل ما أجمل من الاختصام الذى هو ما جرى بينهم من التقاول وحيث كان تكليمه تعالى إياهم بواسطة الملك صح إسناد الاختصام إلى الملائكة وإذ بدل من إذ الأولى وليس من ضرورة البدلية دخولها على نفس الاختصام بل يكفى اشتمال ما فى حيزها عليه فإن القصة ناطقة بذلك تفصيلا والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه والإيذان بأن وحى هذا النبأ إليه تربية وتأييد له عليه الصلاة والسلام والكاف وارد باعتبار حال الآمر لكونه أدل على كونه وحيا منزلا من عنده تعالى كما فى قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الخ دون حال المأمور وإلا لقيل ربى لأنه داخل فى حيز الأمر (إِنِّي خالِقٌ) أى فيما سيأتى وفيه ما ليس فى صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل* له البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه (بَشَراً) قيل أى جسما كثيفا يلاقى ويباشر وقيل خلقا بادى* البشرة بلا صوف ولا شعر ولعل ما جرى عند وقوع المحكى ليس هذا الاسم الذى لم يخلق مسماه حينئذ فضلا عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية (مِنْ طِينٍ) لم يتعرض

٢٣٥

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (٧٥)

____________________________________

لأوصافه من التغير والاسوداد والمسنونية اكتفاء بما ذكر فى مواقع أخر (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أى صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية أو سوبت أجزاء بدنه بتعديل طائعه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النفخ إجراء الريح إلى تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها وليس ثمة نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها أى فإذا كملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح التى هى من أمرى (فَقَعُوا لَهُ) أمر من وقع وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد الانحناء كما قيل أى اسقطوا له (ساجِدِينَ) تحية له وتكريما (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) أى فخلفه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد له الملائكة (كُلُّهُمْ) بحيث لم يبق منهم أحد إلا سجد (أَجْمَعُونَ) أى بطريق المعية بحيث لم يتأخر فى ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيد التأكيد أيضا وقيل أكد بتأكيدين مبالغة فى التعمم هذا وأما أن سجودهم هذا هل ترتب على ما حكى من الأمر التعليقى كما تقتضيه هذه الآية الكريمة والتى فى سورة الحجر فإن ظاهر هما يستدعى ترتبه عليه من غير أن يتوسط بينهما شىء غير ما يفصح عنه الفاء الفصيحة من الخلق والتسوية ونفخ الروح أو على الأمر التنجيزى كما يقتضيه ما فى سورة البقرة وما فى سورة الأعراف وما فى سورة بنى إسرائيل وما فى سورة الكهف وما فى سورة طه من الآيات الكريمة فقد مر تحقيقه بتوفيق الله عزوجل فى سورة البقرة وسورة الأعراف (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل لما أنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة موصوفا بصفاتهم فغلبوا عليه ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لأن الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم أو منقطع وقوله تعالى (اسْتَكْبَرَ) على الأول استئناف مبين لكيفية ترك السجود المفهوم من الاستثناء فإن تركه يحتمل أن يكون للتأمل والتروى وبه يتحقق أنه للإباء والاستكبار وعلى الثانى يجوز اتصاله بما قبله أى لكن إبليس استكبر (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أى وصار منهم بمخالفته للأمر واستكباره عن الطاعة أو كان منهم فى علم الله تعالى عزوجل (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أى خلقته بالذات من غير توسط أب وأم والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه الصلاة والسلام المستدعى لإجلاله وإعظامه قصدا إلى تأكيدا لإنكار وتشديد التوبيخ (أَسْتَكْبَرْتَ) بهمزة الإنكار وطرح همزة الوصل أى أتكبرت من غير استحقاق (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) المستحقين للتفوق وقيل أستكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين وقرىء بحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة أم عليها.

٢٣٦

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (٨٠)

____________________________________

وقوله تعالى (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ادعاء منه لشىء مستلزم لمنعه من السجود على زعمه وإشعار بأنه لا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول كما يعرب عنه قوله (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقوله تعالى (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) تعليل لما ادعاه من فضله عليه عليه الصلاة والسلام ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر وزل عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وما من جهة الصورة كما نبه عليه قوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وما من جهة الغاية وهو ملاك الأمر ولذلك أمر الملائكة بسجوده عليهم‌السلام حين ظهر لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة فى الأرض وأن له خواص ليست لغيره (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) الفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للأمر الجليل وتعليلها بالأباطيل أى فاخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة وهو المراد بالأمر بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه‌السلام بعد هذا الطرد وقد بين كيفية وسوسته فى سورة البقرة وقيل اخرج من الخلقة التى كنت فيها وانسلخ منها فإنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا وقوله تعالى (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) تعليل للأمر بالخروج أى مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) أى إبعادى عن الرحمة وتقييدها بالإضافة مع إطلاقها فى قوله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضا من جهته تعالى وأنهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وإبعاده من الرحمة (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أى يوم الجزاء والعقوبة وفيه إيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لجنايته بل هى أنموذج لما سيلقاه مستمرا إلى ذلك اليوم لكن لا على أنها تنقطع يومئذ كما يوهمه ظاهر التوقيت بل على أنه سيلقى يومئذ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما ينسى عنده اللعنة وتصير كالزائل ألا يرى إلى قوله تعالى (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وقوله تعالى (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أى أمهلنى وأخرنى والفاء متعلقة بمحذوف ينسحب عليه الكلام أى إذا جعلتنى رجيما فأمهلنى ولا تمتنى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أى آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت بالكلية إذ لا موت بعد يوم البعث (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يشعر

٢٣٧

(إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٥)

____________________________________

بكون السائل تبعا لهم فى ذلك دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليوم إلى الدين أى إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الذى قدره الله وعينه لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذى هو المسئول فالفاء ليست لربط نفس الإنظار بالاستنظار بل لربط الإخبار المذكور به كما فى قول من قال [فإن ترحم فأنت لذاك أهل] فإنه لا إمكان لجعل الفاء فيه لربط ماله تعالى من الأهلية القديمة للرحمة بوقوع الرحمة الحادثة بل هى لربط الإخبار بتلك الأهلية للرحمة بوقوعها هذا وقد ترك التوقيت فى سورة الأعراف كما ترك النداء والفاء فى الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر ههنا وفى سورة الحجر وإن خطر ببالك أن كل وجه من وجوه النظم الكريم لا بد أن يكون له مقام يقتضيه مغاير لمقام غيره وأن ما حكى من اللعين إنما صدر عنه مرة وكذا جوابه لم يقع إلا دفعة فمقام الاستنظار والإنظار إن اقتضى أحد الوجوه المحكية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة ودرجة الإعجاز وأما ما عداه من الوجوه فهو بمعزل من بلوغ طبقة البلاغة فضلا عن العروج إلى معارج الإعجاز فقد سلف تحقيقه فى سورة الأعراف بفضل الله تعالى وتوفيقه (قالَ فَبِعِزَّتِكَ) الباء للقسم والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار ولا ينافيه قوله تعالى (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) وقوله (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) فإن إغواءه تعالى إياه أثر من آثار قدرته تعالى وعزته وحكم من أحكام قهره وسلطنته فمآل الإقسام بهما واحد ولعل اللعين أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر أى فأقسم بعزتك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أى ذرية آدم بتزيين المعاصى لهم (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم من الغواية وقرىء المخلصين على صيغة الفاعل أى الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله تعالى (قالَ) أى الله عزوجل (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) برفع الأول على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ ونصب الثانى على أنه مفعول لما بعده قدم عليه للقصر أى لا اقول إلا الحق والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أى فالحق قسمى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) على أن الحق إما اسمه تعالى

٢٣٨

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

____________________________________

أو نقيض الباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به أو فأنا الحق أو فقولى الحق وقوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الخ حينئذ جواب لقسم محذوف أى والله لأملأن الخ وقوله تعالى (وَالْحَقَّ أَقُولُ) على كل تقدير اعتراض مقرر على الوجهين الأولين لمضمون الجملة القسمية وعلى الوجه الثالث لمضمون الجملة المتقدمة أعنى فقولى الحق وقرئا منصوبين على أن الأول مقسم به كقولك الله لأفعلن وجوابه لأملأن وما بينهما اعتراض وقرئا مجرورين على أن الأول مقسم به قد أضمر حرف قسمه كقولك الله لأفعلن والحق أقول على حكاية لفظ المقسم به على تقدير كونه نقيض الباطل ومعناه التأكيد والتشديد وقرىء بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثانى على المفعولية (مِنْكَ) أى من جنسك من الشياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) فى الغواية والإضلال* (مِنْهُمْ) من ذرية آدم (أَجْمَعِينَ) تأكيد للكاف وما عطف عليه أى لأملأنها من المتبوعين والأتباع أجمعين* كقوله تعالى (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) وهذا القول هو المراد بقوله تعالى (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وحيث كان مناط الحكم ههنا أتباع الشيطان اتضح أن مدار عدم المشيئة فى قوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) اتباع الكفرة للشيطان بسوء اختيارهم لا تحقق القول فليس فى ذلك شائبة الجبر فتدبر (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على القرآن أو على تبليغ ما يوحى إلى (مِنْ أَجْرٍ) دنيوى (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أى المتصنعين مما ليسوا من أهله حتى أنتحل النبوة وأتقول القرآن (إِنْ هُوَ) أى ما هو (إِلَّا ذِكْرٌ) من الله عزوجل (لِلْعالَمِينَ) أى للثقلين كافة (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أى ، ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو صحة خبره وأنه الحق والصدق (بَعْدَ حِينٍ) بعد الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وفشوه وقيل من بقى علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا ومن مات علمه بعد الموت وفيه من التهديد ما لا يخفى* عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات وعصم أن يصر على ذنب صغير أو كبير وقال أبو أمامة عصمه الله تعالى من كل ذنب صغير أو كبير والله أعلم.

٢٣٩

٣٩ ـ سورة الزمر

(مكية وآياتها خمس وسبعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣)

____________________________________

(سورة الزمر مكية إلا قوله (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية وآياتها خمس وسبعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبر لمبتدأ محذوف هو اسم إشارة أشير به إلى السورة تنزيلا لها منزلة الحاضر المشار إليه لكونها على شرف الذكروا لحضور كما مر مرارا وقد قيل هو ضمير عائد* إلى الذكر فى قوله تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وقوله تعالى (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) صلة للتنزيل أو خبر ثان أو حال من التنزيل عاملها معنى الإشارة أو من الكتاب الذى هو مفعول معنى عاملها المضاف وقيل هو خبر لتنزيل الكتاب والوجه الأول أو فى بمقتضى المقام الذى هو بيان أن السورة أو القرآن تنزيل الكتاب من الله تعالى لا بيان أن تنزيل الكتاب منه تعالى لا من غيره كما يفيده الوجه الأخير وقرىء تنزيل الكتاب بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم والتعرض لوصفى العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما فى الكتاب بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا مانع وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) شروع فى بيان شأن المنزل إليه وما يجب عليه أثر بيان شأن المنزل وكونه من عند الله تعالى والمراد بالكتاب هو القرآن وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول أيضا لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه والباء إما متعلقة بالإنزال أى بسبب الحق وإثباته وإظهاره أو بداعية الحق واقتضائه للإنزال وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة أو من الكتاب أى أنزلناه إليك محقين فى ذلك أو أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب أى كل ما فيه حق لا ريب فيه موجب للعمل به حتما* والفاء فى قوله تعالى (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) لترتيب الأمر بالعبادة على إنزال الكتاب إليه عليه الصلاة والسلام بالحق أى فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء حسبما بين فى تضاعيف ما أنزل إليك وقرىء برفع الدين على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم عليه لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام والجملة استئناف وقع تعليلا للأمر بإخلاص العبادة وقوله تعالى (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)

٢٤٠