تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٣)

____________________________________

وفضله عنه لما أن تقديمه يفرق القرائن وتأخير المردود يخل بالترتيب الوجودى لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة وهو لا يمنع تأثير قدرة الله تعالى فى فعل العبد ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت وتذكير الخطاب باعتبار المعنى وقرىء بالتأنيث (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه كاتخاذ الولد (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل والجملة حال قد اكتفى فيها بالضمير عن الواو على أن الرؤية بصرية أو مفعول ثان لها على أنها عرفانية (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) أى مقام (لِلْمُتَكَبِّرِينَ) عن الإيمان والطاعة وهو تقرير لما قبله من رؤيتهم كذلك (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصى أى من جهنم وقرىء ينجى من الإنجاء (بِمَفازَتِهِمْ) مصدر ميمى إما من فاز بالمطلوب أى ظفر به والباء متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول مفيدة لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب أى ينجيهم الله تعالى من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم الذى هو الجنة وقوله تعالى (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إما حال أخرى من الموصول أو* من ضمير مفازتهم مفيدة لكون نجاتهم أو فوزهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن وإما من فاز منه أى نجا منه والباء للملابسة وقوله تعالى (لا يَمَسُّهُمُ) إلى آخره تفسير وبيان لمفازتهم أى ينجيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتهم الخاصة بهم أى بنفى السوء والحزن عنهم أو للسببية إما على حذف المضاف أى ينجيهم بسبب مفازتهم التى هى تقواهم كما يشعر به إيراده فى حيز الصلة وإما على إطلاق المفازة على سببها الذى هو التقوى وليس المراد نفى دوام المساس والحزن بل دوام نفيهما كما مر مرارا (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من خير وشر وإيمان وكفر لكن لا بالجبر بل بمباشرة الكاسب لأسبابها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يتولى التصرف فيه كيفما يشاء (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره وهو عبارة عن قدرته تعالى وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها وهو جميع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته وقيل جمع أقليد معرب كليد على الشذوذ كالمذاكير وعن عثمان رضى الله عنه أنه سأل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المقاليد فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير والمعنى على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهى مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها أصابه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) متصل بما قبله والمعنى أن الله تعالى خالق لجميع الأشياء*

٢٦١

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧)

____________________________________

ومتصرف فيها كيفما يشاء بالإحياء والإماتة بيده مقاليد العالم العلوى والسفلى والذين كفروا بآياته التكوينية المنصوبة فى الآفاق والأنفس والتنزيلية التى من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بذلك هم الخاسرون خسرانا لا خسار وراءه هذا وقيل هو متصل بقوله تعالى (وَيُنَجِّي اللهُ) وما بينهما اعتراض فتدبر (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أى أبعد مشاهدة هذه الآيات غير الله أعبد وتأمرونى اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ويجوز أن ينتصب غير بما يدل عليه تأمرونى أعبد لأنه بمعنى تعبدوننى وتقولون لى اعبد على أن أصله تأمروننى أن أعبد فحذف أن ورفع ما بعدها كما فى قوله[ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى] ويؤيده قراءة أعبد بالنصب وقرىء تأمروننى بإظهار النونين على الأصل وبحذف الثانية (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) أى من الرسل عليهم‌السلام (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) كلام وارد على طريقة الفرض لتهييج الرسل وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره فكيف بمن عداه وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد واللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب وإطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم عند الإشراك لأن الإشراك منهم أشد وأقبح وأن يكون مقيدا بالموت كما صرح به فى قوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وعطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) رد لما أمروه به ولو لا دلالة التقديم على القصر لم يكن كذلك (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إنعامه عليك وفيه إشارة إلى ما يوجب الاختصاص ويقتضيه (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما قدروا عظمته تعالى فى أنفسهم حق عظمته حيث جعلوا له شريكا ووصفوه بما لا يليق* بشئونه الجليلة وقرىء بالتشديد (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) تنبيه على غاية عظمته وكمال قدرته وحقارة الأفعال العظام التى تتحير فيها الأوهام بالنسبة إلى قدرته تعالى ودلالة على أن تخريب العالم أهون شىء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا كقولهم شابت لمة الليل والقبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة وهى المقدار

٢٦٢

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧١)

____________________________________

المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة وقرىء بالنصب على الظرف تشبيها للموقت بالمبهم وتأكيد الأرض بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية والغائرة وقرىء مطويات على أنها حال والسموات معطوفة على الأرض منظومة فى حكمها (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ما أبعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم أو عما يشركونه من الشركاء (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هى النفخة الأولى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أى خروا أمواتا أو مغشيا عليهم (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل فإنهم لا يموتون بعد وقيل حملة العرش (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) نفخة أخرى هى النفخة الثانية وأخرى يحتمل النصب والرفع (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) قائمون من قبورهم أو متوقفون وقرىء بالنصب على أن الخبر (يَنْظُرُونَ) وهو حال من ضميره والمعنى يقلبون أبصارهم فى الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) بما أقام فيها من العدل استعير له النور لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما يسمى الظلم ظلمة وفى الحديث الظلم ظلمات يوم القيامة ولذلك أضيف الاسم الجليل إلى ضمير الأرض أو بنور خلقه فيها بلا توسط أجسام مضيئة ولذلك أضيف إلى الاسم الجليل (وَوُضِعَ الْكِتابُ) الحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه أو صحائف* الأعمال فى أيدى العمال واكتفى باسم الجنس عن الجمع وقيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين وقيل المستشهدون (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين العباد (بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ٧٠ أى جزاءه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فلا يفوته شىء من أفعالهم وقوله تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ) (زُمَراً) الخ تفصيل للتوفية وبيان لكيفيتها أى سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجا متفرقة بعضها فى إثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم فى الضلالة والشرارة والزمر جمع زمرة واشتقاقها من الزمر وهو

٢٦٣

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥)

____________________________________

* الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) ليدخلوها وحتى هى التى تحكى بعدها الجملة وقرىء بالتشديد (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) تقريعا وتوبيخا (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) من جنسكم وقرىء* نذر منكم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أى وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب* (قالُوا بَلى) قد أتونا وأندرونا (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) حيث قال الله تعالى لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقد كنا ممن اتبعه وكذبنا الرسل وقلنا ما نزل الله من شىء إن أنتم إلا تكذبون (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أى مقدرا خلودكم فيها وإبهام القائل لتهويل المقول (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) اللام للجنس والمخصوص بالذم محذوف ثقة بذكره آنفا أى فبئس مثواهم جهنم ولا يقدح ما فيه من الإشعار بأن كون مثواهم جهنم لتكبرهم عن الحق فى أن دخولهم النار لسبق كلمة العذاب عليهم فإنها إنما حقت عليهم بناء على تكبرهم وكفرهم وقد مر تحقيقه فى سورة الم السجدة (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ) مساق إعزاز وتشريف للإسراع بهم إلى دار الكرامة وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين (زُمَراً) متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم فى الفضل وعلو الطبقة (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) وقرىء بالتشديد وجواب إذا محذوف للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحدق به نطاق العبارات كأنه قيل حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) من جميع المكاره والآلام (طِبْتُمْ) طهرتم من دنس المعاصى أو طبتم نفسا بما أتيح لكم من النعيم (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) كان ما كان مما يقصر عنه البيان (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بالبعث والثواب (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) يريدون المكان الذى استقروا فيه على الاستعارة وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أى نتبوأ كل واحد منا فى أى مكان أراده من جنته الواسعة على أن فيها مقامات معنوية لا يتمانع واردوها (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الجنة (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) محدقين (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أى حوله

٢٦٤

٤٠ ـ سورة غافر

(مكية وآياتها خمس وثمانون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

____________________________________

ومن مزيدة أو لابتداء الحفوف (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أى ينزهونه تعالى عما لا يليق به متلبسين بحمده* والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى والمعنى ذاكرين له تعالى بوصفى جلاله وإكرامه تلذذا به وفيه إشعار بأن أقصى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق فى شئونه عزوجل (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أى* بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة أو بين الملائكة بإقامتهم فى منازلهم على حسب تفاضلهم (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى على ما قضى بيننا بالحق وأنزل كلامنا منزلته التى هى حقه والقائلون هم* المؤمنون ممن قضى بينهم أو الملائكة وطى ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله تعالى رجاءه يوم القيامة وأعطاه ثواب الخائفين وعن عائشة رضى الله عنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر.

(سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (حم) بتفخيم الألف وتسكين الميم وقرىء بإمالة الألف وبإخراجها بين بين وبفتح الميم لالتقاء الساكنين أو نصبها بإضمار اقرأ ونحوه ومنع الصرف للتعريف وكونها على زنة قابيل وهابيل وبقية الكلام فيه وفى قوله تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) كالذى سلف فى الم السجدة وقوله تعالى (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) كما فى مطلع سورة الزمر فى الوجوه كلها ووجه التعرض لنعتى العزة والعلم ما ذكر هناك (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) إما صفات أخر لتحقيق ما فيها من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود والإضافة فيها حقيقية على أنه لم يرد بها زمان مخصوص وأريد بشديد العقاب مشدده أو الشديد عقابه بحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس أو إبدال وجعله وحده بدلا كما فعله الزجاج مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر مع بقاء الذنب وذلك لمن لم يتب فإن النائب من الذنب كمن لا ذنب له والتوب مصدر كالتوبة وقيل هو جمعها والطول الفضل بترك العقاب المستحق وفى توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل سبقها

٢٦٥

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦)

____________________________________

ورجحانها (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيجب الإقبال الكلى على طاعته فى أوامره ونواهيه (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فحسب لا إلى غيره لا استقلالا ولا اشتراكا فيجزى كلامن المطيع والعاصى (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) أى بالطعن فيها واستعمال المقدمات الباطلة لإدحاض الحق كقوله تعالى (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بها وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها فضلا عن الطعن فيها وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها وكشف معضلاتها واستنباط حفائقها الكلية وتوضيح مناهج الحق فى مضايق الأفهام ومزالق الأقدام وإبطال شبه أهل الزيغ والضلال فمن أعظم الطاعات ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن جدالا فى* القرآن كفر بالتنكير للفرق بين جدال وجدال والفاء فى قوله تعالى (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) لترتيب النهى أو وجوب الانتهاء على ما قبلها من التسجيل عليهم بالكفر الذى لا شىء أمقت منه عند الله تعالى ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة فإن من تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لهم من حظوظ الدنيا ٥ وزخارفها فإنهم مأخوذون عما قليل أخذ من قبلهم من الأمم حسبما ينطق به قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أى الذين تحزنوا على الرسل وناصبوهم بعد قوم نوح مثل عاد وثمود* وأضرابهم (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) من تلك الأمم العاتية (بِرَسُولِهِمْ) وقرىء برسولها (لِيَأْخُذُوهُ) ليتمكنوا منه فيصيبوا به ما أرادوا من تعذيب أو قتل من الأخذ بمعنى الأسر (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) الذى لا أصل ولا حقيقة له أصلا (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) الذى لا محيد عنه كما فعل هؤلاء (فَأَخَذْتُهُمْ) بسبب ذلك أخذ عزيز مقتدر (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) الذى عاقبتهم به فإن آثار دمارهم عبرة للناظرين ولآخذن هؤلاء أيضا لاتحادهم فى الطريقة واشتراكهم فى الجريرة كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أى كما وجب وثبت حكمه تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذبة المتحزبة على رسلهم* المجادلة بالباطل لإدحاض الحق به وجب أيضا (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أى كفروا بك وتحزنوا عليك وهموا بما لم ينالوا كما ينبىء عنه إضافة اسم الرب إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ذلك للإشعار بأن وجوب كلمة العذاب عليهم من أحكام تربيته التى من جملتها نصرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعذيب أعدائه وذلك إنما يتحقق بكون الموصول* عبارة عن كفار قومه لا عن الأمم المهلكة وقوله تعالى (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) فى حيز النصب بحذف لام التعليل أى لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها التى هى عذاب النار وملازموها أبدا لكونهم كفارا معاندين متحزبين على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة فهم لسائر فنون العقوبات أشد استحقاقا وأحق استيجابا وقيل هو فى محل الرفع على أنه بدل من كلمة ربك والمعنى مثل ذلك

٢٦٦

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧)

____________________________________

الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار أى كما وجب إهلاكهم فى الدنيا بعذاب الاستئصال كذلك وجب تعذيبهم بعذاب النار فى الآخرة ومحل الكاف على التقديرين النصب على أنه نعت لمصدر محذوف (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) وهم أعلى طبقات الملائكة عليهم‌السلام وأولهم وجودا وحملهم إياه وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له وكناية عن زلفاهم من ذى العرش جل جلالة ومكانتهم عنده ومحل الموصول الرفع على الابتداء خبره (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) والجملة استئناف* مسوق لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن أشراف الملائكة عليهم‌السلام مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم فى الدارين أى ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل ملتبسين بحمده على نعمائه التى لا تتناهى (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إيمانا حقيقا بحالهم والتصريح به مع الغنى عن ذكره* رأسا لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فإن المشاركة فى الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وأدعى الدواعى إلى النصح* والشفقة وفى نظم استغفارهم لهم فى سلك وظائفهم المفروضة عليهم من تسبيحهم وتحميدهم وإيمانهم إيذان بكمال اعتنائهم به وإشعار بوقوعه عند الله تعالى فى موقع القبول. روى أن حملة العرش أرجلهم فى الأرض السفلى ورءوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تتفكروا فى عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه فى الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وفى الحديث أن الله أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائرهم وقيل خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام وقيل حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا أيمانهم على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر (رَبَّنا) على إرادة القول أى يقولون ربنا على أنه إما بيان لاستغفارهم أو حال* (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أى وسعت رحمتك وعلمك فأزيل عن أصله للإغراق فى وصفه تعالى بالرحمة والعلم والمبالغة فى عمومهما وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ههنا والفاء فى قوله تعالى (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أى الذين علمت منهم التوبة واتباع سبيل الحق لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) واحفظهم عنه وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد.

٢٦٧

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (١٠)

____________________________________

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ) عطف على قهم وتوسيط النداء بينهما للمبالغة فى الجؤار (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) أى وعدتهم إياها وقرىء جنة عدن (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أى صلاحا مصححا لدخول الجنة فى الجملة وإن كان دون صلاح أصولهم وهو عطف على الضمير الأول أى وأدخلها معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعف ابتهاجهم أو على الثانى لكن لا بناء على الوعد العام للكل كما قيل إذ لا يبقى حينئذ للعطف وجه بل بناء على الوعد الخاص بهم بقوله تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) بأن يكونوا أعلى درجة من ذريتهم قال سعيد بن جبير يدخل المؤمن الجنة فيقول أين أبى أين ولدى أين زوجى فيقال إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول إنى كنت أعمل لى ولهم فيقال أدخلوهم الجنة وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعى حصول الموعود بلا توسط شفاعة واستغفار وعليه مبنى قول من قال فائدة الاستغفار زيادة الكرامة والثواب والأول هو الأولى لأن الدعاء بالإدخال فيه صريح وفى الثانى ضمنى وقرىء* صلح بالضم وذريتهم بالإفراد (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أى الغالب الذى لا يمتنع عليه مقدور (الْحَكِيمُ) أى الذى لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التى من جملتها إنجاز الوعد فالجملة تعليل لما قبلها (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أى العقوبات لأن جزاء السيئة سيئة مثلها أو جزاء السيئات على حذف المضاف وهو تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالأتباع أو المعاصى فى الدنيا فمعنى قوله تعالى (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) ومن تقه المعاصى فى الدنيا فقد رحمته فى الآخرة كأنهم طلبوا لهم السبب بعد ما سألوا المسبب (وَذلِكَ) إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إليها وإلى الوقاية وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من الإشعار ببعد درجة المشار إليه (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا مطمع وراءه لطامع (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) شروع فى بيان أحوال الكفرة بعد دخول النار بعد ما بين فيما سبق أنهم أصحاب النار (يُنادَوْنَ) أى من مكان بعيد وهم فى النار وقد مقتوا أنفسهم الأمارة بالسوء التى وقعوا فيما وقعوا باتباع هواها أو مقت بعضهم بعضا من الأحباب كقوله تعالى (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أى أبغضوها* أشد البغض وأنكروها أبلغ الإنكار وأظهروا ذلك على رءوس الأشهاد فيقال لهم عند ذلك (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أى لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء أو مقته إياكم فى الدنيا (إِذْ تُدْعَوْنَ) من* جهة الأنبياء (إِلَى الْإِيمانِ) فتأبون قبوله (فَتَكْفُرُونَ) اتباعا لأنفسكم الأمارة ومسارعة إلى هواها أو اقتداء بأخلائكم المضلين واستحبابا لآرائهم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة أو من مقت بعضكم بعضا

٢٦٨

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (١٢)

____________________________________

اليوم فإذا ظرف للمقت الأول وإن توسط بينهما الخبر لما فى الظروف من الاتساع وقيل لمصدر آخر مقدر أى مقته إياكم إذ تدعون وقيل مفعول لا ذكروا والأول هو الوجه وقيل كلا المقتين فى الآخرة وإذ تدعون تعليل لما بين الظرف والسبب من علاقة اللزوم والمعنى لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقتكم أنفسكم لما كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون وتخصيص هذا الوجه بصورة كون المراد بأنفسهم أضرابهم مما لا داعى إليه (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) صفتان لمصدرى الفعلين المذكورين أى إماتتين وإحياءتين أو موتتين وحياتين على أنهما مصدران لهما أيضا بحذف الزوائد أو لفعلين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتما كأنه قيل أمتنا فمتنا موتتين اثنتين وأحييتنا فحيينا حياتين اثنتين على طريقة قول من قال[وعضة دهريا ابن مروان لم تدع * من المال إلا مسحت أو بحلف؟؟؟] أى لم تدع فلم يبق إلا مسحت الخ قيل أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم على أن الإماتة جعل الشىء عادم الحياة أعم من أن يكون بإنشائه كذلك كما فى قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أو بجعله كذلك بعد الحياة وبالإحياءين الإحياء الأول وإحياء البعث وقيل أرادوا بالإماتة الأولى ما بعد حياة الدنيا وبالثانية ما بعد حياة القبر وبالإحياءين ما فى القبر وما عند البعث وهو الأنسب بحالهم وأما حديث لزوم الزيادة على النص ضرورة تحقق حياة الدنيا فمدفوع لكن لا بما قيل من عدم اعتدادهم بها لزوالها وانقضائها وانقطاع آثارها وأحكامها بل بأن مقصودهم إحداث الاعتراف مما كانوا ينكرونه فى الدنيا كما ينطق به قولهم (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) والتزام العمل بموجب ذلك الاعتراف ليتوسلوا* بذلك إلى ما علقوا به أطماعهم الفارغة من الرجع إلى الدنيا كما قد صرحوا به حيث قالوا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون وهو الذى أرادوه بقولهم (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) مع نوع استبعاد له واستشعار* يأس منه لا أنهم قالوه بطريق القنوط البحت كما قيل ولا ريب فى أن الذى كان ينكرونه ويفرعون عليه فنون الكفر والمعاصى ليس إلا الإحياء بعد الموت وأما الإحياء الأول فلم يكونوا ينكرونه لينظموه فى سلك ما اعترفوا به وزعموا أن الاعتراف يجديهم نفعا وإنما ذكروا الموتة الأولى مع كونهم معترفين بها فى الدنيا لتوقف حياة القبر عليها وكذا حال الموتة فى القبر فإن مقصدهم الأصلى هو الاعتراف بالإحياءين وإنما ذكروا الإماتتين لترتيبهما عليهما ذكرا حسب ترتيبهما عليهما وجودا وتنكير سبيل للإبهام أى من سبيل ما كيفما كان وقوله تعالى (ذلِكُمْ) الخ جواب لهم باستحالة حصول ما يرجونه ببيان ما يوجبها من أعمالهم السيئة أى ذلكم الذى أنتم فيه من العذاب مطلقا لا مقيدا بالخلود كما قيل (بِأَنَّهُ) أى بسبب أن الشأن (إِذا دُعِيَ اللهُ) فى الدنيا أى عبد (وَحْدَهُ) أى منفردا (كَفَرْتُمْ) أى بتوحيده (وَإِنْ

٢٦٩

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥)

____________________________________

يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أى بالإشراك به وتسارعوا فيه وفى إيراد إذا وصيغة الماضى فى الشرطية الأولى وإن* وصيغة المضارع فى الثانية ما لا يخفى من الدلالة على كمال سوء حالهم وحيث كان حالكم كذلك (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) الذى لا يحكم إلا بالحق ولا يقضى إلا بما تقتضيه الحكمة (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) الذى ليس كمثله شىء فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه وقد حكم بأنه لا مغفرة للمشرك ولا نهاية لعقوبته كما لا نهاية لشناعته فلا سبيل لكم إلى الخروج أبدا (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) الدالة على شئونه العظيمة الموجبة لتفرده بالألوهية لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبها فتوحدوه* تعالى وتخصوه بالعبادة (وَيُنَزِّلُ) بالتشديد وقرىء بالتخفيف من الإنزال (لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أى سبب رزق وهو المطر وإفراده بالذكر مع كونه من جملة الآيات الدالة على كمال قدرته تعالى لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته وجلائل نعمته الموجبة للشكر وصيغة المضارع فى الفعلين الدلالة على* تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما وتقديم الجار والمجرور على المفعول لما مر غير مرة (وَما يَتَذَكَّرُ) بتلك الآيات الباهرة ولا يعمل بمقتضاها (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) إلى الله تعالى ويتفكر فيما أودعه فى تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ونعمته الشاملة الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى ومن ليس كذلك فهو بمعزل من التذكر والاتعاظ (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أى إذا كان الأمر كما ذكر من اختصاص التذكر بمن ينيب فاعبدوه أيها المؤمنون مخلصين له دينكم بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم به (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ذلك وغاظهم إخلاصكم (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) نحو بديع السموات على أنه صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم كما هو المشهور وتفسيره بالرافع ليكون من إضافة اسم الفاعل إلى* المفعول بعيد فى الاستعمال أى رفيع درجات ملائكته أى معارجهم ومصاعدهم إلى العرش (ذُو الْعَرْشِ) أى مالكه وهما خبران آخران لقوله تعالى هو أخبر عنه بهما إيذانا بعلو شأنه تعالى وعظم سلطانه الموجبين لتخصيص العبادة به وإخلاص الدين له إما بطريق الاستشهاد بهما عليهما فإن ارتفاع معارج ملائكته إلى العرش وكون العرش العظيم المحيط بأكناف العالم العلوى والسفلى تحت ملكوته وقبضة قدرته مما يقضى بكون علو شأنه وعظم سلطانه فى غاية لا غاية وراءها وإما بجعلهما عبارة عنهما* بطريق المجاز المتفرع على الكناية كالاستواء على العرش وتمهيدا لما يعقبهما من قوله تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) فإنه خبر آخر لما ذكر منبىء عن إنزال الرزق الروحانى الذى هو الوحى بعد بيان إنزال الرزق الجسمانى الذى هو المطر أى ينزل الوحى الجارى من القلوب منزلة الروح من الأجساد وقوله

٢٧٠

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧)

____________________________________

تعالى (مِنْ أَمْرِهِ) بيان للروح الذى أريد به الوحى فإنه أمر بالخير أو حال منه أى حال كونه ناشئا ومبتدأ من أمره أو صفة له على رأى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أى الروح الكائن من أمره أو متعلق بيلقى ومن للسببية كالباء مثل ما فى قوله تعالى (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أى يلقى الوحى بسبب أمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهو الذى اصطفاه لرسالته وتبليغ أحكامه إليهم (لِيُنْذِرَ) أى الله تعالى أو الملقى* عليه أو الروح وقرىء لتنذر على أن الفاعل هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الروح لأنها قد تؤنث (يَوْمَ التَّلاقِ) * إما ظرف للمفعول الثانى أى لينذر الناس العذاب يوم التلاق وهو يوم القيامة لأنه يتلاقى فيه الأرواح والأجسام وأهل السموات والأرض أو هو المفعول الثانى اتساعا أو أصالة فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار أصالة وقرىء لينذر على البناء للمفعول ورفع اليوم (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) بدل من يوم التلاق أى خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شىء من جبل أو أكمة أو بناء لكون الأرض يومئذ قاعا صفصفا ولا عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء فى الحديث يحشرون عراة حفاة غر لا وقيل ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشى الأبدان أو أعمالهم وسرائرهم (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) استئناف* لبيان بروزهم وتقرير له وإزاحة لما كان يتوهمه المتوهمون فى الدنيا من الاستتار توهما باطلا أو خبر ثان وقيل حال من ضمير بارزون أى لا يخفى عليه شىء ما من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حكاية لما يقع حينئذ من السؤال والجواب بتقدير قول* معطوف على ما قبله من الجملة المنفية المستأنفة أو مستأنف يقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية بروزهم وظهور أحوالهم كأنه قيل فما ذا يكون حينئذ فقيل يقال الخ أى ينادى مناد لمن الملك اليوم فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار وقيل المجيب هو السائل بعينه لما روى أنه يجمع الله الخلائق يوم القيامة فى صعيد واحد فى أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط فأول ما يتكلم به أن ينادى مناد لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وقيل حكاية لما ينطق به لسان الحال من تقطع أسباب التصرفات المجازية واختصاص جميع الأفاعيل بقبضة القدرة الإلهية (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) الخ إما من تتمة الجواب لبيان حكم اختصاص الملك به تعالى ونتيجته التى هى الحكم السوى والقضاء الحق أو حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقيب السؤال والجواب أى (تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس البرة والفاجرة بما كسبت من خير أو شر (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص ثواب أو زيادة عذاب (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أى سريع حسابه تماما إذ* لا يشغله تعالى شأن عن شأن فيحاسب الخلائق قاطبة فى أقرب زمان كما نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه تعالى إذا أخذ فى حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها فيكون تعليلا لقوله تعالى اليوم (تُجْزى) الخ فإن كون ذلك اليوم بعينه يوم التلاقى ويوم البروز ربما يوهم استبعاد وقوع الكل

٢٧١

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٢١)

____________________________________

فيه أو سريع مجيئا فيكون تعليلا للإنذار (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أى القيامة سميت بها لأزوفها وهو القرب غير أن فيه إشعارا بضيق الوقت وقيل الخطة الآزفة وهى مشارفة أهل النار دخولها وقيل وقت حضور الموت* كما فى قوله تعالى (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) وقوله (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) وقوله تعالى (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) بدل من يوم الآزفة فإنها ترتفع من أماكنها فتلتصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا بالموت (كاظِمِينَ) على الغم حال من أصحاب القلوب على المعنى إذ الأصل قلوبهم أو من ضميرها فى الظرف وجمع السلامة باعتبار أن الكظم من أحوال العقلاء كقوله تعالى (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أو من مفعول أنذرهم على أنها حال مقدرة أى أنذرهم مقدرا كظمهم أو مشارفين الكظم (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أى قريب مشفق* (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أى لا شفيع مشفع على معنى نفى الشفاعة والطاعة معا على طريقة قوله [على لا حب لا يهتدى بمناره] والضمائر إن عادت إلى الكفار وهو الظاهر فوضع الظالمين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) النظرة الخائنة كالنظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر إليه أو خيانة الأعين على أنها مصدر كالعافية (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من الضمائر والأسرار والجملة خبر آخر مثل يلقى الروح الدلالة على أنه ما من خفى إلا وهو متعلق العلم والجزاء (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) لأنه المالك الحاكم على الإطلاق فلا يقضى بشىء إلا وهو حق وعدل (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) يعبدونهم (مِنْ دُونِهِ) تعالى (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) تهكم بهم لأن الجماد لا يقال فى حقه يقضى أولا يقضى وقرىء تدعون على الخطاب التفاتا أو على إضمار قل (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) أى مآل حال من قبلهم من الأمم* المكذبة لرسلهم كعاد وثمود وأضرابهم (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة وتمكنا من التصرفات وإنما جىء بضمير الفصل مع أن حقه التوسط بين معرفتين لمضاهاة أفعل من للمعرفة فى امتناع دخول اللام* عليه وقرىء أشد منكم بالكاف (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) مثل القلاع الحصينة والمدائن المنينة وقيل المعنى وأكثر آثارا كقوله [متقلدا سيفا ورمحا] (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أخذا وبيلا (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ

٢٧٢

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٢٦)

____________________________________

مِنْ واقٍ) أى من واق يقيهم عذاب الله (ذلِكَ) أى ما ذكر من الأخذ (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى بالمعجزات أو بالأحكام الظاهرة (فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ) متمكن مما يريد غاية التمكن (شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يؤبه عند عقابه بعقاب (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) وهى معجزاته (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أى وحجة قاهرة وهى إما عين الآيات والعطف لتغاير العنوانين وإما بعض مشاهيرها كالعصا أفردت بالذكر مع اندارجها تحت الآيات لا نافها إفراد جبريل وميكال به مع دخولهما فى الملائكة عليهم‌السلام (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أى فيما أظهره من المعجزات وفيما ادعاه من رسالة رب العالمين (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) وهو ما ظهر على يده من المعجزات القاهرة (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) كما قال فرعون سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم أى أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه أولا وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحس بأنه قد وقع ما وقع أعاده عليهم غيظا وحنقا وزعما منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرته ظنا منهم أنه المولود الذى حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكهم على يده (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أى فى ضياع وبطلان لا يغنى عنهم* شيئا وينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور والقضاء المحتوم واللام إما للعهد والإظهار فى موقع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم أو للجنس وهم داخلون فيه دخول أولياء والجملة اعتراض جىء به فى تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد واضمحلاله بالمرة (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) كان ملؤه إذا هم بقتله عليه الصلاة والسلام كفوه بقولهم ليس هذا بالذى تخافه فإنه أقل من ذلك وأضعف وما هو إلا بعض السحرة وبقولهم إذا قتلته أدخلت على الناس شبهة واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة وعدلت إلى المقارعة بالسيف والظاهر من دهاء اللعين ونكارته أنه كان قد استيقن أنه نبى وأن ما جاء به آيات باهرة وما هو بسحر ولكن كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك وكان قوله هذا تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الكافرون له عن قتله

٢٧٣

(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢٨)

____________________________________

ولو لا هم لقتله وما كان الذى يكفه إلا ما فى نفسه من الفزع الهائل وقوله (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) تجلد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه ولكنه أخوف ما يخافه (إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أن يغير ما أنتم* عليه من الدين الذى هو عبارة عن عبادته وعبادة الأصنام لتقربهم إليه (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية وقرىء بالواو الجامعة وقرىء بفتح الياء والهاء ورفع الفساد وقرى بظهر بتشديد الظاء والهاء من تظهر بمعنى تظاهر أى تتابع وتعاون (وَقالَ مُوسى) أى لقومه حين سمع بما تقوله اللعين من حديث قتله عليه الصلاة والسلام (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) صدر عليه الصلاة والسلام كلامه بأن تأكيدا له وإظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه وفرط الرغبة فيه وخص اسم الرب المنبىء عن الحفظ والتربية لأنهما الذى يستدعيه وأضافه إليه وإليهم حثا لهم على موافقته فى العياذ به تعالى والتوكل عليه فإن فى تظاهر النفوس تأثيرا قويا فى استجلاب الإجابة ولم يسم فرعون بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة لتعميم الاستعاذة والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى وقرىء عدت بالإدغام (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) قيل كان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا وقيل كان إسرائيليا أو غريبا* موحدا (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) أى من فرعون وملئه (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) أتقصدون قتله (أَنْ يَقُولَ) لأن يقول أو كراهة أن يقول (رَبِّيَ اللهُ) أى وحده من غير روية وتأمل فى أمره (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الظاهرة التى شاهدتموها وعهدتموها (مِنْ رَبِّكُمْ) أضافه إليهم بعد ذكر البينات احتجاجا عليهم واستنزالا لهم عن رتبة المكابرة ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج فى دفعه إلى قتله (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أى إن لم يصبكم كله فلا أقل من إصابة بعضه لا سيما إن تعرضتم له بسوء وهذا كلام صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب ولذلك قدم من شقى الترديد كونه كاذبا أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض ما يعدهم كأنه خوفهم بما أظهر احتمالا عندهم وتفسير البعض بالكل مستدلا بقول لبيد*[تراك أمكنة إذا لم أرضها * أو يرتبط بعض النفوس حمامها] مردود لما أن مراده بالبعض نفسه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) احتجاج آخر ذو وجهين أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما أيده بتلك المعجزات وثانيهما إن كان كذلك خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله ولعله أراهم المعنى الثانى وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم وقد عرض به لفرعون بأنه

٢٧٤

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣)

____________________________________

مسرف كذاب لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج النجاة (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) غالبين عالين على بنى إسرائيل (فِي الْأَرْضِ) أى أرض مصر لا يقاومكم أحد فى هذا الوقت (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ) من أخذه وعذابه (إِنْ جاءَنا) أى فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور فى الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه فى سلكهم فيما يسوؤهم من مجىء بأس الله تعالى تطييبا لقلوبهم وإيذانا بأنه مناصح لهم ساع فى تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه فى حق نفسه ليتأثروا بنصحه (قالَ فِرْعَوْنُ) بعد ما سمع نصحه (ما أُرِيكُمْ) أى ما أشير عليكم (إِلَّا ما أَرى) وأستصوبه من قتله (وَما أَهْدِيكُمْ) بهذا الرأى (إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أى الصواب أولا أعلمكم* إلا ما أعلم ولا أسر عنكم خلاف ما أظهره ولقد كذب حيث كان مستشعرا للخوف الشديد ولكنه كان يتجلد ولولاه لما استشار أحدا أبدا وقرىء بتشديد الشين للمبالغة من رشد كعلام أو من رشد كعباد لا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصور على السماع أو للنسبة إلى الرشد كعواج وبتات غير منظور فيه إلى فعل (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) مخاطبا لقومه (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) فى تكذيبه والتعرض له بالسوء (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) مثل أيام الأمم الماضية يعنى وقائعهم وجمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) أى مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر وإيذاء الرسل (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم لوط (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا يعاقبهم بغير ذنب ولا يخلى الظالم منهم بغير انتقام وهو أبلغ من قوله تعالى (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لما أن المنفى فيه إرادة ظلم ما ينتفى الظلم بطريق الأولوية (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) خوفهم بالعذاب الأخروى بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوى ويوم التناد يوم القيامة لأنه ينادى فيه بعضهم للاستغاثة أو يتصايحون بالويل والثبور أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار حسبما حكى فى سورة الأعراف وقرىء بتشديد الدال وهو أن يند بعضهم من بعض كقوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) وعن الضحاك إذا سمعوا زفير النار ندوا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فبيناهم بموج بعضهم فى بعض إذ سمعوا مناديا أقبلوا إلى الحساب (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) بدل من يوم التناد أى منصرفين عن الموقف إلى النار أو فارين منها حسبما نقل آنفا

٢٧٥

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ) (٣٧)

____________________________________

(ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعصمكم من عذابه والجملة حال أخرى من ضمير تولون (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه إلى طريق النجاة (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) هو يوسف بن يعقوب عليهما‌السلام على أن فرعونه فرعون موسى أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وقيل سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق* (مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الواضحة (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من الدين (حَتَّى إِذا هَلَكَ) بالموت (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) ضما إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده أو جزما بأن لا يبعث بعده رسول مع الشك فى رسالته وقرىء ألن يبعث الله على أن بعضهم يقرر بعضا بنفى البعث (كَذلِكَ) مثل ذلك الإضلال الفظيع (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) فى عصيانه (مُرْتابٌ) ٣٥ فى دينه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك فى التقليد (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) بدل من الموصول الأول أو بيان له أو صفة باعتبار معناه كأنه قيل كل مسرف مرتاب أو المسرفين المرتابين (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) متعلق بيجادلون أى بغير حجة صالحة للتمسك بها فى الجملة (أَتاهُمْ) صفة سلطان (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) فيه ضرب من التعجب والاستعظام وفى كبر ضمير يعود إلى من وتذكيره باعتبار* اللفظ وقيل إلى الجدال المستفاد من يجادلون (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الطبع الفظيع (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بالباطل وقرىء بتنوين قلب ووصفه بالتكبر والتجبر لأنه منعهما (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) أى بناء مكشوفا عاليا من صرح الشىء إذا ظهر (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) أى الطرق (أَسْبابَ السَّماواتِ) بيان لها وفى إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) بالنصب على جواب الترجى وقرىء بالرفع عطفا على أبلغ ولعله أراد أن يبنى له رصدا فى موضع عال ليرصد منه أحوال الكواكب التى هى أسباب سماوية تدل على إرسال الله تعالى إياه أو ان يرى فساد قوله عليه الصلاة والسلام بأن إخباره من إله السماء يتوقف على إطلاعه عليه ووصوله إليه وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما

٢٧٦

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (٤٢)

____________________________________

لا يقوى عليه الإنسان وما ذاك إلا لجهله بالله سبحانه وكيفية استنبائه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) فيما يدعيه من* الرسالة أى ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) فانهمك فيه أنهما كالا يرعوى عنه بحال (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أى سبيل الرشاد والفاعل فى الحقيقة هو الله تعالى ويؤيده قراءة زين بالفتح وبالتوسط* لشيطان وقرىء وصد على أن فرعون صد الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشهات ويؤيده قوله تعالى (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أى خسار وهلاك أو على أنه من صد صدودا أى أعرض* وقرىء بكسر الصاد على نقل حركة الدال إليه وقرىء وصد على أنه عطف على سوء عمله وقرىء وصدوا أى هو وقومه (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) أى مؤمن آل فرعون وقيل موسى عليه‌السلام (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) فيما دللتكم عليه (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أى سبيلا يصل سالكه إلى المقصود وفيه تعريض بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغى والضلال (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) أى تمتع يسير لسرعة زوالها أجمل لهم أولا ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها لأن الإخلاد إليها رأس كل شر ومنه تتشعب فنون ما يؤدى إلى سخط الله تعالى ثم ثنى بتعظيم الآخرة فقال (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) لخلودها ودوام ما فيها (مَنْ عَمِلَ) فى الدنيا (سَيِّئَةً فَلا يُجْزى) فى الآخرة (إِلَّا مِثْلَها) عدلا من الله سبحانه وفيه دليل على أن الجنايات تغرم بأمثالها (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ) الذين عملوا ذلك (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أى بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة فضلا* من الله عزوجل ورحمة وجعل العمل عمدة والإيمان حالا للإيذان بأنه لا عبرة بالعمل بدونه وأن ثوابه أعلى من ذلك (يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) كرر نداءهم إيقاظا لهم عن حالة؟؟؟ الغفلة واعتناء بالمنادى له ومبالغة فى توبيخهم على ما يقائلون به نصحه ومدار التعجب الذى يلوح فى؟؟؟ الاستفهام دعوتهم إياه إلى النار ودعوته إياهم إلى النجاة كأنه قيل أخبرونى كيف هذه الحال أدعوكم إلى الخير وتدعوننى إلى الشر وقد جعله بعضهم من قبيل مالى أراك حزينا وقوله تعالى (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) بدل أو بيان فيه تعليل والدعاء كالهداية فى التعدية بإلى واللام (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ) بشركته له تعالى فى المعبودية وقيل بربوبيته (عِلْمٌ) والمراد نفى المعلوم والإشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب

٢٧٧

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦)

____________________________________

العلم بها (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) الجامع لجميع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران (لا جَرَمَ) لا رد لما دعوه إليه وجرم فعل ماض بمعنى حق وفاعله قوله تعالى (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أى حق ووجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا أو عدم دعوة مستجابة دعوة لها وقيل جرم بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه أى كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته وقيل جرم فعل من الجرم وهو القطع كما أن بدأ من لا بد فعل من التبديد أى التفريق والمعنى لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام أى لا ينقطع فى وقت ما فينقلب حقا ويؤيده قولهم* لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء وفعل وفعل أخوان كرشد ورشد (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) أى بالموت عطف على أن ما تدعوننى داخل فى حكمه وكذا قوله تعالى (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) أى فى الضلال والطغيان كالإشراك وسفك الدماء (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أى ملازموها (فَسَتَذْكُرُونَ) وقرىء فستذكرون أى فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصائح (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) قاله لما أنهم كانوا توعدوه (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيحرس من يلوذ به من المكاره (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم قيل نجامع موسى عليه‌السلام* (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ) أى بفرعون وقومه وعدم التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك وقيل بطلبة المؤمن من قومه لما أنه فر إلى جبل فاتبعه طائفة ليأخذوه فوجدوه يصلى والوحوش صفوف حوله فرجعوا رعبا فقتلهم (سُوءُ الْعَذابِ) الغرق والقتل والنار (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) جملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية سوء العذاب أو النار خبر مبتدأ محذوف كأن قائلا قال ما سوء العذاب فقيل هو النار ويعرضون استئناف للبيان أو بدل من سوء العذاب ويعرضون حال منها أو من الآل ولا يشترط فى الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه حتى يرد أن آل فرعون لم يهموا بتعذيبه بالنار ليكون ابتلاؤهم بها من قبيل رجوع ما هموا به عليهم بل يكفى فى ذلك أن يكون مما يطلق عليه اسم السوء وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره يعرضون مثل يصلون فإن عرضهم على النار بإحراقهم بها من قولهم عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به وذلك لأرواحهم

٢٧٨

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (٥٠)

____________________________________

كما روى ابن مسعود رضى الله عنه أن أرواحهم فى أجواف طير سود تعرض على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة وذكر الوقتين إما للتخصيص وأما فيما بينهما فالله تعالى أعلم بحالهم وإما للتأييد هذا ما دامت الدنيا (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) يقال للملائكة (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أى عذاب جهنم فإنه أشد* مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض وقرىء ادخلوا من الدخول أى يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) أى واذكر لقومك وقت تخاصمهم فيها (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) منهم (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم رؤساؤهم (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أتباعا كخدم فى جمع خادم أو ذوى تبع أى اتباع على إضمار المضاف أو تبعا على الوصف بالمصدر مبالغة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) بالدفع أو بالحمل ونصيبا منصوب بمضمر يدل عليه مغنون أى دافعون عنا نصيبا الخ أو بمغنون على تضمينه معنى الحمل أى مغنون عنا حاملين نصيبا الخ أو نصب على المصدرية كشيئا فى قوله تعالى (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فإنه فى موقع غناء فكذلك نصيبا (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أى نحن وأنتم فكيف نغنى عنكم ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا وقرىء كلا على التأكيد لاسم إن بمعنى كلنا وتنويه عوض عن المضاف إليه ولا مساغ لجعله حالا من المستكن فى الظرف فإنه لا يعمل فى الحال المتقدمة كما يعمل فى الظرف المتقدم فإنك تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول جديدا لك ثوب (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) وقضى قضاء متقنا لا مرد له ولا معقب لحكمه (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) من الضعفاء والمستكبرين جميعا لما ضاقت حيلهم وعيت بهم عللهم (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) أى للقوام بتعذيب أهل النار ووضع جهنم موضع الضمير للتهويل والتفظيع أو لبيان محلهم فيها بأن تكون جهنم أبعد دركات النار وفيها أعنى الكفرة وأطغاهم أو لكون الملائكة الموكلين بعذاب أهلها أقدر على الشفاعة لمزيد قربهم من الله تعالى (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً) أى مقدار يوم أو فى يوم ما من الأيام* على أنه ظرف لا معيار شيئا (مِنَ الْعَذابِ) واقتصارهم فى الاستدعاء على ما ذكر من تخفيف قدر يسير من العذاب فى مقدار قصير من الزمان دون رفعه رأسا أو تخفيف قدر كثير منه فى زمان مديد لأن ذلك عندهم مما ليس فى حيز الإمكان ولا يكاد يدخل تحت أمانيهم (قالُوا) أى الخزنة (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ

٢٧٩

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥)

____________________________________

بِالْبَيِّناتِ) أى ألم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم فى الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصى كما فى قوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء وتعطيل أسباب* الإجابة (قالُوا بَلى) أى أتونا بها فكذبناهم كما نطق به قوله تعالى (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) والفاء فى قوله تعالى (قالُوا فَادْعُوا) فصيحة كما فى قول من قال [فقد جئنا خراسانا] أى إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإن الدعاء لمن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره عنا وتعليل امتناعهم عن الدعاء بعدم الإذن فيه مع عرائه عن بيان أن سببه من قبلهم كما تفصح عنه الفاء ربما يوهم أن الإذن فى حيز الإمكان وأنهم لو أذن لهم فيه لفعلوا ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء إطماعهم فى الإجابة بل إقناطهم منها وإظهار خيبتهم حسبما صرحوا فى قولهم (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أى ضياع وبطلان وقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى لبيان أن ما صاب الكفرة من العذاب المحكى من فروع حكم كلى تقتضيه الحكمة وهو أن شأننا المستمر* أنا ننصر رسلنا وأتباعهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبى وغير ذلك من العقوبات ولا يقدح فى ذلك ما قد يتفق لهم من صورة الغلبة امتحانا إذ* العبرة إنما هى بالعواقب وغالب الأمر (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أى يوم القيامة عبر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة وأنها تكون عند جميع الأولين والآخرين بشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ وعلى الكفرة بالتكذيب (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) بدل من الأول وعدم نفع المعذرة لأنها باطلة وقرىء لا تنفع بالتاء (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أى البعد عن الرحمة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أى جهنم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) وتركنا عليهم من بعده التوراة (هُدىً وَذِكْرى) هداية وتذكرة أو هاديا ومذكرا (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوى العقول السليمة العاملين بما فى تضاعيفه (فَاصْبِرْ) على ما نالك من أذية المشركين (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) أى وعده الذى ينطق به قوله تعالى (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أو وعده الخاص بك أو* جميع مواعيده التى من جملتها ذلك (حَقٌّ) لا يحتمل الإخلاف أصلا واستشهد بحال موسى وفرعون

٢٨٠