تفسير أبي السّعود - ج ٧

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٧

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٨

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (١٠٩)

____________________________________

وجعلها سالمة له وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه له تعالى وعن قتادة رضى الله عنه فى أسلما أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبى الجبهة وقيل* كبه على وجهه بإشارته كيلا يرى منه ما يورث رقة تحول بينه وبين أمر الله تعالى وكان ذلك عند الصخرة من منى وقيل فى الموضع المشرف على مسجد منى وقيل فى المنحر الذى ينحر اليوم فيه (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) بالعزم على الإتيان بالمأمور به وترتيب مقدماته وقد روى أنه أمر السكين بقوته على حلقه مرارا فلم يقطع ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين فعند ذلك وقع النداء جواب لما محذوف إيذانا بعدم وفاء التعبير بتفاصيله كأنه قيل كان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق أحد لمثله وإظهار فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لتفريج تلك الكربة* عنهما بإحسانهما واحتج به من جوز النسخ قبل وقوع المأمور به فإنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالذبح لقوله تعالى (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولم يحصل (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الابتلاء البين الذى يتميز فيه المخلص عن غيره أو المحنة البينة الصعوبة إذ لا شىء أصعب منها (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ) بما يذبح بدله فيتم به الفعل (عَظِيمٍ) أى عظيم الجثة سمين أو عظيم القدر لأنه يفدى به الله نبيا ابن نبى وأى نبى من نسله سيد المرسلين قيل كان ذلك كبشا من الجنة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه الكبش الذى قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى فى الجنة حتى فدى به إسمعيل عليه‌السلام وقيل فدى بوعل أهبط عليه من ثبير وروى أنه هرب من إبراهيم عليه‌السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقى سنة فى الرمى وروى أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده وروى أنه لما ذبحه قال جبريل عليه‌السلام الله أكبر الله أكبر فقال الذبيح لا إله إلا الله والله أكبر فقال إبراهيم الله أكبر ولله الحمد فبقى سنة والفادى فى الحقيقة هو إبراهيم وإنما قيل وفديناه لأنه تعالى هو المعطى له والآمر به على التجوز فى الفداء أو الإسناد (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) قد سلف بيانه فى خاتمة قصة نوح عليه‌السلام.

٢٠١

(كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (١١٦)

____________________________________

(كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما أشير إليه فيما سبق فلا تكرار وعدم تصدير الجملة بأنا للاكتفاء بما مر آنفا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الراسخين فى الإيمان على وجهه الايقان والاطمئنان (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أى مقضيا بنبوته مقدرا كونه من الصالحين وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة فإن وجود ذى الحال ليس بشرط وإنما الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار معنى الحال فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما مثل وبشرناه بوجود إسحاق أى بأن يوجد إسحاق نبيا من الصالحين ومع ذلك لا يصير نظير قوله تعالى (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) فإن الداخلين كانوا مقدرين خلودهم وقت الدخول وإسحاق عليه‌السلام لم يكن مقدرا نبوة نفسه وصلاحها حين ما يوجد ومن فسر الغلام بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوته عليه الصلاة والسلام وفى ذكر الصلاح بعد تعظيم لشأنه وإيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق (وَبارَكْنا عَلَيْهِ) على إبراهيم فى أولاده (وَعَلى إِسْحاقَ) بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بنى إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب عليهم‌السلام أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا وقرىء وبركنا (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) فى عمله أو لنفسه بالإيمان والطاعة (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصى (مُبِينٌ) ظاهر ظلمه وفيه تنبيه على أن النسب لا تأثير له فى الهداية والضلال وأن الظلم فى أعقابهما لا يعود عليهما بتقيصه ولا عيب (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أى أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من النعم الدينية والدنيوية (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) وهم بنو إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هو ملكة آل فرعون وتسلطهم عليهم بألوان الغشم والعذاب كما فى قوله تعالى (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) وقيل هو الغرق وهو بعيد لأنه لم يكن عليهم كربا ومشقة (وَنَصَرْناهُمْ) أى إياهما وقومهما على عدوهم (فَكانُوا) بسبب ذلك (هُمُ الْغالِبِينَ) عليهم غلبة لا غاية وراءها بعد أن كان قومهما فى أسرهم وقسرهم مقهورين تحت أيديهم العادية يسومونهم

٢٠٢

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) (١٢٥)

____________________________________

سوء العذاب وهذه التنجية وإن كانت بحسب الوجود مقارنة لما ذكر من النصر والغلبة لكنها لما كانت بحسب المفهوم عبارة عن التخليص من المكروه بدىء بها ثم بالنصر الذى يتحقق مدلوله بمحض تنجية المنصور من عدوه من غير تغليبه عليه ثم بالغلبة لتوفية مقام الامتنان حقه بإظهار أن كل مرتبة من هذه المراتب الثلاث نعمة جليلة على حيالها (وَآتَيْناهُمَا) بعد ذلك (الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أى البليغ فى البيان والتفصيل وهو التوراة (وَهَدَيْناهُمَا) بذلك (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أى أبقينا فيما بين الأمم الآخرين هذا الذكر الجميل والثناء الجزيل (إِنَّا كَذلِكَ) الجزاء الكامل (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الذين هما من جملتهم لا جزاء قاصرا عنه (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) سبق بيانه (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) هو إلياس بن ياسين من سبط هرون أخى موسى عليهم‌السلام بعث بعده وقيل إدريس لأنه قرىء مكانه إدريس وإدراس وقرىء إبليس وقرىء إلياس بحذف الهمزة (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) أى عذاب الله تعالى (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أتعبدونه وتطلبون الخير منه وهو اسم صنم كان لأهل بك من الشأم وهو البلد المعروف اليوم ببعلبك قيل كان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء فكان الشيطان يدخل جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وقيل البعل الرب بلغة اليمن أى أتعبدون بعض البعول (وَتَذَرُونَ

٢٠٣

(اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ(١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) (١٣٦)

____________________________________

أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) أى وتتركون عبادته وقد أشير إلى المقتضى للإنكار المعنى بالهمزة ثم صرح به بقوله تعالى (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين وقرىء بالرفع على الابتداء والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم لتأكيد إنكار تركهم عبادته تعالى والإشعار ببطلان آراء آبائهم أيضا (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ) بسبب تكذيبهم ذلك (لَمُحْضَرُونَ) أى العذاب والإطلاق للاكتفاء بالقرائن على أن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفا (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء من ضمير محضرون (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) هو لغة فى إلياس كسيناء فى سينين وقيل هو جمع له أريد به هو وأتباعه كالمهلبين والخبيبين وفيه أن العلم إذا جمع يجب تعريفه كالمثالين وقرىء بإضافة آل إلى ياسين لأنهما فى المصحف مفصولان فيكون ياسين أبا إلياس (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) مر تفسيره (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ) أى اذكر وقت تنجيتنا إياه (وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أى الباقين فى العذاب أو الماضين الهالكين (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) فإن فى ذلك شواهد على جلية أمره وكونه من جملة المرسلين.

٢٠٤

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (١٤٥)

____________________________________

(وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) على منازلهم فى متاجركم إلى الشأم وتشاهدون آثار هلاكهم فإن سدوم فى طريق الشأم (مُصْبِحِينَ) داخلين فى الصباح (وَبِاللَّيْلِ) أى ومساء أو نهارا وليلا ولعلها وقعت بقرب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد له مساء (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وقرىء بكسر النون (إِذْ أَبَقَ) أى هرب وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أى المملوء (فَساهَمَ) فقارع أهله (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق عن مقام الظفر روى أنه عليه الصلاة والسلام لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى به فركب السفينة فوقفت فقالوا فيها عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه فقال أنا الآبق ورمى بنفسه فى الماء (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) فابتلعه من اللقمة (وَهُوَ مُلِيمٌ) داخل فى الملامة أو آت بما يلام عليه أو مليم نفسه وقرىء مليم بالفتح مبنيا من ليم كمشيب فى مشوب (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح مدة عمره أو فى بطن الحوت وهو قوله (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقيل من المصلين فإنه عليه الصلاة والسلام كان كثير الصلاة فى الرخاء (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) حيا وقيل ميتا وفيه حث على اكثار الذكر وتعظيم لشأنه ومن أقبل عليه فى السراء أخذ بيده عند الضراء (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) بأن حملنا الحوت على لفظه بالمكان الخالى عما يغطيه من شجر أو نبت روى

٢٠٥

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) (١٤٩)

____________________________________

أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسا يتنفس فيه يونس عليه‌السلام ويسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه سالما لم يتغير منه شىء فأسلموا وروى أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل واختلف فى مقدار لبثه فقيل أربعون يوما وقيل عشرون وقيل سبعة وقيل ثلاثة وقيل لم يلبث إلا قليلا ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذى التقم فيه روى عطاء أنه حين ابتلعه أوحى الله تعالى إلى الحوت إنى جعلت بطنك له سجنا ولم أجعله لك طعاما (وَهُوَ سَقِيمٌ) مما ناله قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) أى فوقه مظلة عليه (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) وهو كل ما ينبسط على الأرض ولا يقوم على ساق كشجر البطيخ والقثاء والحنظل وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به والأكثرون على أنه الدباء غطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليه ويدل عليه أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك تحب القرع قال أجل هى شجرة أخى يونس وقيل هى التين وقيل الموز تغطى بورقه واستظل بأغصانه وأفطر على ثماره وقيل كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) هم قومه الذين هرب منهم وهم أهل نينوى والمراد به إرساله السابق أخبر أولا بأنه من المرسلين على الإطلاق ثم أخبر بأنه قد أرسل إلى أمة جمة وكأن توسيط تذكير وقت هربه إلى الفلك وما بعده بينهما لتذكير سببه وهو ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه من إنذاره إياهم عذاب الله تعالى وتعيينه لوقت حلوله وتعللهم وتعليقهم لإيمانهم بظهور أماراته كما مر تفصيله فى سورة يونس ليعلم أن إيمانهم الذى سيحكى بعد لم يكن عقيب الإرسال كما هو المتبادر من ترتيب الإيمان عليه بالفاء بل بعد اللتيا والتى وقيل هو إرسال آخر إليهم وقيل إلى غيرهم وليس بظاهر (أَوْ يَزِيدُونَ) أى فى مرأى الناظر فإنه إذا نظر إليهم قال إنهم مائة ألف أو يزيدون والمراد هو الوصف بالكثرة وقرىء بالواو (فَآمَنُوا) أى بعد ما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانا خالصا (فَمَتَّعْناهُمْ) أى بالحياة الدنيا (إِلى حِينٍ) قدره الله سبحانه لهم قيل ولعل عدم ختم هذه القصة وقصة لوط بما ختم به سائر القصص للتفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع وأولى العزم من الرسل أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين فى آخر السورة (فَاسْتَفْتِهِمْ) أمر الله عزوجل فى صدر السورة الكريمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم فى إنكار البعث بطريق الاستفتاء وساق البراهين القاطعة الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل ما لهم من النعيم المقيم ثم ذكر أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين

٢٠٦

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (١٥٣)

____________________________________

وأنه تعالى أرسل إليهم منذرين على وجه الإجمال ثم أورد قصص كل واحد منهم على وجه التفصيل مبينا فى كل قصة منها أنهم من عباده تعالى واصفا لهم تارة بالإخلاص وأخرى بالإيمان ثم أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ههنا بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن وجه أمر منكر خارج عن العقول بالكلية وهى القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الاعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة وبنى سلمة وخزاعة وبنى مليح الملائكة بنات الله والفاء لترتيب الأمر على ما سبق من كون أولئك الرسل الذين هم أعلام الخلق عليهم الصلاة والسلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد ثم تبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الاستهانة بالملائكة بجعلهم إناثا ثم أبطل أصل كفرهم المنطوى على هذين الكفرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ولم ينظمه فى سلك التبكيت لمشاركتهم النصارى فى ذلك أى فاستخبرهم (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) اللاتى هن أوضع الجنسين (وَلَهُمُ الْبَنُونَ) الذين هم أرفعهما فإن ذلك مما لا يقول به من له أدنى شىء من العقل وقوله تعالى (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً) إضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا كما أشير إليه أى بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأبعدهم من صفات الأجسام ورذائل الطبائع إناثا والأنوثة من أخس صفات الحيوان وقوله تعالى (وَهُمْ شاهِدُونَ) استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) وقوله تعالى (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهدا عند خلقهم والجملة إما حال من فاعل خلقنا أى بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ أو عطف على خلقنا أى بل أهم شاهدون وقوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) استئناف من جهته غير داخل تحت الأمر بالاستفتاء مسوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان أن مبناه ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة قطعا (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فى قولهم ذلك كذبا بينا لا ريب فيه وقرىء ولد الله على أنه خبر مبتدأ محذوف أى الملائكة ولده تعالى عن ذلك علوا كبيرا فإن الولد فعل بمعنى مفعول يستوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) إثبات لإفكهم وتقرير لكذبهم فيما قالوا ببيان استلزامه لأمر بين الاستحالة هو اصطفاؤه تعالى البنات على البنين والاصطفاء أخذ صفوة الشىء لنفسه وقرىء بكسر الهمزة على حذف حرف الاستفهام

٢٠٧

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨)

____________________________________

ثقة بدلالة القرائن عليه وجعله بدلا من ولد الله ضعيف وتقدير القول أى لكاذبون فى قولهم أصطفى الخ تعسف بعيد (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بهذا الحكم الذى يقضى ببطلانه بديهة العقل (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بحذف إحدى التاءين من تتذكرون وقرىء تذكرون من ذكر والفاء للعطف على مقدر أى ألا تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز فى عقل كل ذكى وغبى (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر إلى تبكيتهم بتكليفهم مالا يدخل تحت الوجود أصلا أى بل ألكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بدله من سند حسى أو عقلى وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلى (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الناطق بصحة دعواكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيها وفى هذه الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجيب من جهلهم ما لا يخفى على من تأمل فيها وقوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم وتحكى جناياتهم لآخرين والمراد بالجنة الملائكة قالوا الجنس واحد ولكن من خبث من الجن ومردوكان شرا كله فهو شيطان ومن طهر منهم ونسك وكان خيرا كله فهو ملك وإنما عبر عنهم بذلك الاسم وضعا منهم وتقصيرا بهم مع عظم شأنهم فيما بين الخلق أن يبلغوا منزلة المناسبة التى أضافوها إليهم فجعلهم هذا عبارة عن قولهم الملائكة بنات* الله وإنما أعيد ذكره تمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أى وبالله لقد علمت الجنة التى عظموها بأن جعلوا بينها وبينه تعالى نسبا وهم الملائكة أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم فى قولهم ذلك والمراد به المبالغة فى التكذيب ببيان أن الذين يدعى هؤلاء لهم تلك النسبة ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم فى ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا وقيل إن قوما من الزنادقة يقولون الله تعالى وإبليس إخوان فالله هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قال الإمام الرازى وهذا القول عندى أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان واهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة وقال مجاهد قالت قريش

٢٠٨

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١٦٤)

____________________________________

الملائكة بنات الله فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه فمن أمهاتهم تبكيتا لهم فقالوا سروات الجن وقيل معنى جعلوا بينه وبين الجنة نسبا جعلوا بينهما مناسبة حيث أشركوا به تعالى الجن فى استحقاق العبادة فعلى هذه الأقاويل يجوز أن يكون الضمير فى إنهم لمحضرون للجنة فالمعنى لقد علمت الشياطين أن الله تعالى يحضرهم النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى أو شركاء فى استحقاق العبادة لما عذبهم والوجه هو الأول فإن قوله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) حكاية لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم فى ذلك بتقدير قول معطوف على علمت وقوله تعالى (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئهم منه بحكم اندراجهم فى زمرة المخلصين على أبلغ وجه وآكده على أنه استثناء منقطع من واو يصفون كأنه قيل ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفونه به لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برءاء من ذلك الوصف وقوله تعالى (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين مما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون عبارة عن الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبرئهم عنهم وعن عبادتهم كقولهم بل كانوا يعبدون الجن وما نافية وأنتم خطاب لهم ولمعبوديهم تغليبا وعلى متعلقة بفاتنين يقال فتن فلان على فلان امرأته أى أفسدها عليه والمعنى فانكم ومعبوديكم أيها المشركون لستم بفاتنين عليه تعالى بإفساد عباده وإضلالهم (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) منهم أى داخلها لعلمه تعالى بأنه يصير على الكفر بسوء اختياره ويصير من أهل النار لا محالة وأما المخلصون منهم فأنتم بمعزل من إفسادهم وإضلالهم فهم لا جرم برءاء من أن يفتتنوا بكم ويسلكوا مسلككم فى وصفه تعالى بما وصفتموه به وقرىء صال بضم اللام على أنه جمع محمول على معنى من قد سقط واوه لالتقاء الساكنين وقوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) تبيين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم فى موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك

٢٠٩

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (١٧٢)

____________________________________

وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وقماءتهم أى وما منا إلا له مقام معلوم فى العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزيل عنه خضوعا لعظمته وخشوعا لهيبته وتواضعا لجلاله كما روى فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه قال ابن عباس رضى الله عنهما ما فى السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلى أو يسبح وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أطت السماء وحق لها أن تئط والذى نفسى بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته ساجد لله تعالى وقال السدى إلا له مقام معلوم فى القربة والمشاهدة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) فى مواقف الطاعة ومواطن الخدمة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) المقدسون لله سبحانه عن كل مالا يليق بجناب كبريائه وتحلية كلامهم بفنون التأكيد لإبراز أن صدوره عنهم بكمال الرغبة والنشاط هذا هو الذى تقتضيه جزالة التنزيل وقد ذكر فى تفسير الآيات الكريمة وإعرابها وجوه أخر فتأمل والله الموفق (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) إن هى المخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف واللام هى الفارقة أى إن الشأن كانت قريش تقول (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أى كتابا من كتب الأولين من التوراة والإنجيل (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أى لأخلصا العبادة لله تعالى ولما خالفنا كما خالفوا وهذا كقولهم لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم والفاء فى قوله تعالى (فَكَفَرُوا بِهِ) فصيحة كما فى قوله تعالى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أى فجاءهم ذكر وأى ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأسفار فكفروا به (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أى عاقبة كفرهم وغائلته (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه أى وبالله لقد سبق وعدنا لهم بالنصرة والغلبا هو قوله تعالى (إِنَّهُمْ

٢١٠

(وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٩)

____________________________________

لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا) وهم أتباع المرسلين (لَهُمُ الْغالِبُونَ) على أعدائهم فى الدنيا والآخرة ولا يقدح فى ذلك انهزامهم فى بعض المشاهد فإن قاعدة أمرهم وأساسه الظفر والنصرة وإن وقع فى تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة والحكم للغالب وعن ابن عباس رضى الله عنهما إن لم ينصروا فى الدنيا نصروا فى الآخرة وقرىء على عبدنا بتضمين سبقت معنى حقت وتسميتها كلمة مع أنها كلمات لانتظامها فى معنى واحد وقرىء كلماتنا (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عنهم واصبر (حَتَّى حِينٍ) إلى مدة يسيرة وهى مدة الكف عن القتال وقيل يوم بدر وقيل يوم الفتح (وَأَبْصِرْهُمْ) على أسوأ حال وأفظع نكال حل بهم من القتل والأسر والمراد بالأمر بابصارهم الإيذان بغاية قربه كأنه بين يديه (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ما يقع حينئذ من الأمور وسوف للوعيد دون التبعيد (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) روى أنه لما نزل فسوف يبصرون قالوا متى هذا فنزل (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أى فإذا نزل العذاب الموعود بفنائهم كأنه جيش قد هجمهم فأناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم بالمرة وقيل المراد نزول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح وقرىء نزل بساحتهم على إسناده إلى الجار والمجرور وقرىء نزل مبنيا للمفعول من التنزيل أى نزل العذاب (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) * فبئس صباح المنذرين صباحهم واللام للجنس والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب ولما كثرت منهم الغارة فى الصباح سموها صباحا وإن وقعت ليلا روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أتى خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحى قالوا محمد والخميس ورجعهم إلى حصنهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما فى إطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان بأن ما يبصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ من فنون المسار وما يبصرونه من أنواع المضار لا يحيط به الوصف والبيان وقيل أريد بالأول عذاب الدنيا وبالثانى عذاب الآخرة.

٢١١

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

____________________________________

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) تنزيه لله سبحانه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما ذكر فى السورة الكريمة وما لم يذكر من الأمور التى من جملتها ترك إنجاز الموعود على موجب كلمته السابقة لا سيما فى حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا وإلى العزة ثانيا كأنه قيل سبحان من هو مربيك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التى منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب وقوله تعالى (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) تشريف لهم عليهم‌السلام بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وإيذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بجميع المآرب وقوله تعالى (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إشارة إلى وصفه عزوجل بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه تعالى بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الجميلة التى من جملتها إفاضته عليهم من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه عليهم وعلى من تبعهم صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النصرة والغلبة قد تحققت والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه تعالى وتحميده والتسليم على رسله الذين هم وسايط بينهم وبينه عز وعلا فى فيضان الكمالات الدينية والدنيوية عليهم ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الإشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم عليهم من جملة نعمه الموجبة للحمد. عن على رضى الله عنه من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ والصافات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل جنى وشيطان وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرىء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين.

٢١٢

٣٨ ـ سورة ص

(مكية وآياتها ثمان وثمانون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (٢)

____________________________________

(سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (ص) بالسكون على الوقف وقرىء بالكسر والفتح لالتقاء الساكنين ويجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم فى موضع الجر كقولهم الله لأفعلين بالجر وأن يكون ذلك نصبا بإضمار اذكر أو اقرأ لا فتحا كما مر فى فاتحة سورة البقرة وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث لأنها علم للسورة وقد صرفها من قرأ صاد بالتنوين على أنه اسم الكتاب أو التنزيل وقيل هو فى قراءة الكسر أمر من المصاداة وهى المعارضة والمقابلة ومنها الصدى الذى ينعكس من الأجسام الصلبة بمقابلة الصوت ومعناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه وتخلق بأخلاقه ثم إن جعل اسما للحرف مسرودا على منهاج التحدى أو الرمز إلى كلام مثل صدق الله أو صدق محمد كما نقل عن أكابر السلف أو اسما للسورة خبرا لمبتدأ محذوف أو نصبا على اضمار اذكر أو اقرأ أو امرا من المصاداة فالوا وفى قوله تعالى (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) للقسم وإن جعل مقسما به فهى للعطف عليه فإن أريد بالقرآن كله فالمغايرة بينهما حقيقية وإن أريد عين السورة فهى اعتبارية كما فى قولك مررت بالرجل الكريم وبالنسبة المباركة وأيا ما كان ففى التكرير مزيد تأكيد لمضمون الجملة المقسم عليها والذكر الشرف والنباهة كما فى قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أو الذكرى والموعظة أو ذكر ما يحتاج إليه فى أمر الدين من الشرائع والأحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد وجواب القسم على الوجه الأول والرابع والخامس محذوف هو ما ينبىء عنه التحدى والأمر والإقسام به من كون المتحدى به معجزا وكون المأمور به واجبا وكون المقسم به حقيقا بالإعظام أى أقسم بالقرآن أو بصاد وبه إنه لمعجز أو لواجب العمل به أو لحقيق بالإعظام وأما على الوجهين الباقيين فهو الكلام المرموز إليه ونفس الجملة المذكورة قبل القسم فإن التسمية تنويه بشأن المسمى وتنبيه على عظم خطره أى إنه لصادق والقرآن ذى الذكر أو هذه السورة عظيمة الشأن والقرآن الخ على طريقة قولهم هذا حاتم والله ولما كان كل واحد من هذه الأجوبة منبئا عن انتفاء الريب عن مضمونه بالكلية إنباء بينا كان قوله تعالى (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) إضرابا عن ذلك كأنه قيل لا ريب فيه قطعا وليس عدم إذعان الكفرة له لشائبة ريب ما فيه بل هم فى استكبار وحمية شديدة وشقاق بعيد لله تعالى ولرسوله ولذلك لا يذعنون له

٢١٣

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥)

____________________________________

وقيل الجواب ما دل عليه الجملة الإضرابية أى ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه بل الذين كفروا الخ وقرىء فى غرة أى فى غفلة عما يجب عليهم التنبه له من مبادى الإيمان ودواعيه (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب من قبلهم من المستكبرين وكم مفعول أهلكنا ومن قرن تمييز والمعنى وقرنا كثيرا أهلكنا من القرون الخالية (فَنادَوْا) عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة وتوبة لينجوا من ذلك وقوله تعالى (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) حال من ضمير نادوا أى نادوا واستغاثوا طلبا للنجاة والحال أن ليس الحين حين مناص أى فوت ونجاة من ناصه أى فاته لا من ناص بمعنى تأخر ولا هى المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم وخصت بنفى الأحيان ولم يبرز إلا أحد معموليها والأكثر حذف اسمها وقيل هى النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفى الأحيان وحين مناص منصوب على أنه اسمها أى ولا حين مناص لهم أو بفعل مضمر أى ولا أرى حين مناص وقرىء بالرفع فهو على الأول اسمها والخبر محذف وأى وليس حين مناص حاصلا لهم وعلى الثانى مبتدأ محذوف الخبر أى ولا حين مناص كائن لهم وقرىء بالكسر كما فى قوله[طلبوا صلحنا ولات أوان * فأجبنا أن لات حين بقاء] إما لأن لات تجر الأحيان كما أن لو لا تجر الضمائر فى نحو قوله [لولاك هذا العام لم أحج] أو لأن أوان شبه بإذ فى قوله[نهيتك عن طلابك أم عمرو * بعافية وأنت إذ صحيح] فى أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين لأن أصله أوان صلح ثم حمل عليه حين مناص تنزيلا لقطع المضاف إليه من مناص إذ أصله حين مناصهم منزلة قطعه من حين لما بين المضافين من الاتحاد ثم بنى الحين لإضافته إلى غير متمكن وقرىء لات بالكسر كجير ويقف الكوفيون عليها بالهاء كالأسماء والبصريون بالتاء كالأفعال وما قيل من أن التاء مزيدة على حين لا تصالها به فى الإمام مما لا وجه له فإن خط المصحف خارج عن القياس (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكى من استكبارهم وشقاقهم أى عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم بل أدون منهم فى الرياسة الدنيوية والمال على معنى أنهم عدوا ذلك امرا عجيبا خارجا عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه (وَقالَ الْكافِرُونَ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وإيذانا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولونه إلا المتوغلون فى الكفر والفسوق (هذا ساحِرٌ) فيما يظهره من الخوارق (كَذَّابٌ) فيما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) بليغ فى العجب وذلك لأنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على ألوهيتهم

٢١٤

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ) (٧)

____________________________________

وواظبوا على عبادتهم كابرا عن كابر فإن هذا مدار كل ما يأتون وما يذرون من أمور دينهم هو التقليد والاعتياد فيعدون ما يخالف ما اعتادوه عجيبا بل محالا وأما جعل مدار تعجبهم عدم وفاء علم الواحد وقدرته بالأشياء الكثيرة فلا وجه له لما أنهم لا يدعون أن لآلهتهم علما وقدرة ومدخلا فى حدوث شىء من الأشياء حتى يلزم من نفى ألوهيتهم بقاء الآثار بلا مؤثر وقرىء عجاب بالتشديد وهو أبلغ ككرام وكرام روى أنه لما أسلم عمر رضى الله عنه شق ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون من صناديدهم فأتوا أبا طالب فقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وقد جئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك فاستحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال يا أبن أخى هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماذا تسألوننى قالوا رفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطى أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم قالوا نعم وعشرا فقال قولوا لا إله إلا الله فقاموا وقالوا ذلك (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أى وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبى طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجواب العتيد وشاهدوا تصلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الدين وعزيمته على أن يظهره على الدين كله ويئسوا مما كانوا يرجونه بتوسط أبى طالب من المصالحة على الوجه المذكور (أَنِ امْشُوا) أى قائلين بعضهم لبعض على وجه النصيحة امشوا (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أى واثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه فى حقها من القدح وأن هى المفسرة لأن الانطلاق عن مجلس التقاول لا يخلو عن القول وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع فى القول وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية للتفاؤل أى اجتمعوا وكثروا وقرىء امشوا بغير أن على إضمار القول وقرىء يمشون أن اصبروا (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الامتثال به أى هذا الذى شاهدناه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر التوحيد ونفى آلهتنا وإبطال أمرها لشىء يراد أى من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله من رأيه بوساطة أبى طالب وشفاعته وحسبكم أن لا تمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية فاصبروا عليها وتحملوا ما تسمعونه فى حقها من القدح وسوء القالة وقيل إن هذا الأمر لشىء يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه وما أراد الله كونه فلا مرد له ولا ينفع فيه إلا الصبر وقيل إن هذا الأمر لشىء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه وقيل إن دينكم لشىء يراد أى يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه وقيل إن هذا الذى يدعيه من التوحيد أو يقصده من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشىء يتمنى ويريده كل أحد فتأمل فى هذه الأقاويل واختر منها ما يساعده النظم الجليل (ما سَمِعْنا بِهذا) الذى يقوله (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أى الملة النصرانية التى هى آخر الملل فإنهم مثلثة أو فى الملة التى

٢١٥

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١)

____________________________________

أدركنا عليها آباءنا ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا من هذا أى ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهان كائنا فى الملة المترقبة ولقد كذبوا فى ذلك أقبح كذب فإن حديث البعثة والتوحيد كان أشهر الأمور قبل الظهور (إِنْ هذا) أى ما هذا (إِلَّا اخْتِلاقٌ) أى كذب اختلقه (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أى القرآن (مِنْ بَيْنِنا) ونحن رؤساء الناس وأشرافهم كقولهم لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ومرادهم إنكار كونه ذكرا منزلا من عند الله عزوجل كقولهم لو كان خيرا ما سبقونا إليه وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد وقصر النظر على الحطام الدنيوى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أى من القرآن أو الوحى لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن النظر فى الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس فى عقيدتهم ما يبتون به فهم مذبذبون بين الأوهام ينسبونه تارة إلى السحر وأخرى إلى الاختلاق (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أى بل لم يذوقوا بعد عذابى فإذا ذاقوه تبين لهم حقيقة الحال وفى لما دلالة على أن ذوقهم على شرف الوقوع والمعنى أنهم لا يصدقون به حتى يمسهم العذاب وقيل لم يذوقوا عذابى الموعود فى القرآن ولذلك شكوا فيه (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) بل أعندهم خزائن رحمته تعالى يتصرفون فيها حسبما يشاءون حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم والمعنى أن النبوة عطية من الله عزوجل يتفضل بها على من يشاء من عباده المصطفين لا مانع له فإنه العزيز أى الغالب الذى لا يغالب الوهاب الذى له أن يهب كل ما يشاء لكل من يشاء وفى إضافة اسم الرب المنبىء عن التربية والتبليغ إلى الكمال إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تشريفه واللطف به ما لا يخفى وقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ترشيح لما سبق أى بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا فى الأمور الربانية ويتحكموا فى التدابير الإلهية التى يستأثر بها رب العزة والكبرياء وقوله تعالى (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) جواب شرط محذوف أى إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا فى المعارج والمناهج التى يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وينزلوا الوحى إلى من يختارون ويستصوبون وفيه من التهكم بهم ما لا غاية وراءه والسبب فى الأصل هو الوصلة وقيل المراد بالأسباب السموات لأنها أسباب الحوادث السفلية وقيل أبوابها (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أى هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون وما مزيدة للتقليل والتحقير

٢١٦

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) (١٤)

____________________________________

نحو قولك أكلت شيئا ما وقيل للتعظيم على الهزء وهنالك إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم وقوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) الخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة الذين هؤلاء جند ما من جنودهم مما فعلوا من التكذيب وفعل بهم من العقاب وذو الأوتاد معناه ذو الملك الثابت أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاد فاستعير لثبات الملك ورسوخ السلطنة واستقامة الأمر قال الأسود بن يعفر[ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة * فى ظل ملك ثابت الأوتاد] أو ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا كالوتد يشد البناء وقيل نصب أربع سوار وكان يمد يدى المعذب ورجليه إليها ويضرب عليها أوتادا ويتركه حتى يموت وقيل كان يمده بين أربعة أوتاد فى الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات وقيل كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أصحاب الغيضة من قوم شعيب عليه‌السلام وقوله تعالى (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) إما بدل من الطوائف المذكورة كما أن ذلك الكتاب بدل من الم على أحد الوجوه وفيه فضل تأكيد وتنبيه على أنهم الذين جعل الجند المهزوم منهم وقوله تعالى (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) استئناف جىء به تقريرا لتكذيبهم وبيانا لكيفيته وتمهيدا لما يعقبه أى ما كل أحد من آحاد أولئك الأحزاب أو ما كل حز بمنهم كذب الرسل لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لهم جميعا لاتفاق الكل على الحق وقيل ما كل حزب إلا كذب رسوله على نهج مقابلة الجمع بالجمع وأيا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم العلل فى خبر المبتدأ أى ما كل أحد منهم محكوما عليه بحكم إلا محكوم عليه بأنه كذب الرسل وقيل ما كل واحد منهم مخبرا عنه بخبر إلا مخبر عنه بأنه كذب الرسل وفى إسناد التكذيب إلى الطوائف المذكورة على وجه الإبهام أولا والإيذان بأن كلا منهم حزب على حياله تحزب على رسوله ثانيا وتبيين كيفية تكذيبهم بالجملة الاستثنائية ثالثا فنون من المبالغة مسجلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأفظعه ولذلك رتب عليه قوله تعالى (فَحَقَّ عِقابِ) أى ثبت ووقع على كل منهم عقابى الذى كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات المفصلة فى مواقعها وإما بالمبتدأ وقوله تعالى (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) خبره بحذف العائد أى إن كل منهم الخ والجملة استئناف مقرر لما قبله مؤكد لمضمرنه مع ما فيه من بيان كيفية تكذيبهم والتنبيه على أنهم الذين جعل الجند المهزوم منهم كما ذكر وقيل هو مبتدأ وخبر والمعنى أن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم وأنهم الذين وجد منهم التكذيب فتدبر وأما ما قيل من أنه خبر والمبتدأ قوله تعالى (وَعادٌ) الخ أو قوله (وَقَوْمُ لُوطٍ) الخ فمما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله.

٢١٧

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧)

____________________________________

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) شروع فى بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب أضرابهم من الأحزاب الذين أخبر فيما سبق بأنهم جند حقير منهم مهزوم عن قريب فإن ذلك مما يوجب انتظار السامع وترقبه إلى بيانه قطعا وفى الإشارة إليهم بهؤلاء تحقير لشأنهم وتهوين لأمرهم وأما جعله إشارة إلى الأحزاب باعتبار حضورهم بحسب الذكر أو حضورهم فى علم الله عزوجل فليس فى حيز الاحتمال أصلا كيف لا والانتظار سواء كان حقيقة أو استهزاء إنما يتصور فى حق من لم يترتب على أعماله نتائجها بعد وبعد ما بين عقاب الأحزاب واستئصالهم بالمرة لم يبق مما أريد بيانه من عقوباتهم أمر منتظر وإنما الذين فى مرصد الانتظار كفار مكة حيث ارتكبوا من عظائم الجرائم وكبائر الجرائر الموجبة لأشد العقوبات مثل ما ارتكب الأحزاب أو أشد منه ولما يلاقوا بعد شيئا من* غوائلها أى وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة فى الكفر والتكذيب (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هى النفخة الثانية لا بمعنى أن عقابهم نفسها بما فيها من الشدة والهول فإنها داهية يعم هو لها جميع الأمم برها وفاجرها بل بمعنى أنه ليس بينهم وبين حلول ما أعدلهم من العقاب الفظيع إلا هى حيث أخرت عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وأما ما قيل من أنها النفخة الأولى فمما لا وجه له أصلا لما أنه لا يشاهد هو لها ولا يصعق بها إلا من كان حيا عند وقوعها وليس عقابهم الموعود واقعا عقيبها ولا العذاب المطلق مؤخر إليها بل يحل بهم من حين موتهم (ما لَها مِنْ فَواقٍ) أى من توقف مقدار فواق وهو ما بين الحلبتين وقرىء بضم الفاء وهما لغتان وقوله تعالى (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) حكاية لما قالوه عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة أى قالوا بطريق الاستهزاء والسخرية عجل لنا قطنا من العذاب الذى توعدنا به ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذى مبدؤه الصيحة المذكورة والقط القطعة من الشىء من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس وقد فسربها أى عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها وقيل ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعد الله تعالى المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء به عجل لنا نصيبنا منها وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان فى الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من أمثال هذه المقالات الباطلة (وَاذْكُرْ) لهم (عَبْدَنا داوُدَ) أى قصته تهويلا لأمر المعصية فى أعينهم وتنبيها لهم على كمال قبح ما اجترءوا عليه من المعاصى فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علو شأنه واختصاصه بعظائم النعم والكرامات لما ألم بصغيرة نزل عن منزلته ووبخته الملائكة بالتمثيل والتعريض حتى تفطن فاستغفر ربه وأناب ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائب وغمه الواصب وندمه الدائم فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلين

٢١٨

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠)

____________________________________

من كل ذليل المرتكبين لأكبر الكبائر المصرين على أعظم المعاصى أو تذكر قصته عليه الصلاة والسلام وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذيتهم كيلا يلقاك ما لقيه من المعاتبة (ذَا الْأَيْدِ) أى ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وآد بمعنى وأياد كل شىء ما يتقوى به (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجاع إلى مرضاة الله تعالى وهو تعليل لكونه ذا الأيد ودليل على أن المراد به القوة فى الدين فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ويقوم نصف الليل (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) استئناف مسوق لتعليل قوته فى الدين وأو ابيته إلى مرضاته تعالى ومع متعلقة بالتسخير وإيثارها على اللام لما أشير إليه فى سورة الأنبياء من أن تسخير الجبال له عليه الصلاة والسلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلى فيها إليه عليه الصلاة والسلام كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه‌السلام بل بطريق التبعية له عليه الصلاة والسلام والاقتداء به فى عبادة الله تعالى وقيل متعلقة بما بعدها وهو أقرب بالنسبة إلى ما فى سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (يُسَبِّحْنَ) أى يقدسن الله عزوجل بصوت يتمثل له أو بخلق الله تعالى فيها الكلام أو بلسان الحال وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال من الجبال وضع موضع مسبحات الدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال واستئناف مبين لكيفية التسخير (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أى ووقت الإشراق وهو حين تشرق أى تضىء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى وأما شروقها فطلوعها يقال شرقت الشمس ولما تشرق وعن أم هانىء رضى الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الضحى وقال هذه صلاة الإشراق وعن ابن عباس رضى الله عنهما ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية (وَالطَّيْرَ) عطف على الجبال (مَحْشُورَةً) حال من الطير والعامل سخرنا أى وسخرنا الطير حال كونها محشورة عن ابن عباس رضى الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت وذلك حشرها وقرىء والطير محشورة بالرفع على الابتداء والخبرية (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله مصرح بما فهم منه إجمالا من تسبيح الطير أى كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح ووضع الأواب موضع المسبح إما لأنها كانت ترجع التسبيح والمرجع رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإما لأن الأواب هو التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى ومن دأبه إكثار الذكر وإدامة التسبيح والتقديس وقيل الضمير لله عزوجل أى كل من داود والجبال والطير لله أواب أى مسبح مرجع للتسبيح (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود وقرىء بالتشديد للمبالغة قيل كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم وقيل ادعى رجل على آخر بقرة وعجز عن إقامة البينة فأوحى الله تعالى إليه فى المنام أن اقتل المدعى عليه فتأخر فأعيد الوحى فى اليقظة فأعلمه الرجل فقال إن الله تعالى لم يأخذنى

٢١٩

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٢٢)

____________________________________

بهذا الذنب ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة فقال الناس إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله تعالى عليه فقتله فهابوه وعظمت هيبته فى القلوب (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) النبوة وكمال العلم وإتقان العمل وقيل الزبور وعلم الشرائع وقيل كل كلام وافق الحق فهو حكمة (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أى فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل أو الكلام الملخص الذى ينبه المخاطب على المرام من غير التباس لما قد روعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإظهار والإضمار والحذف والتكرار وإنما سمى به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق تمهيدا له كالحمد والصلاة وقيل هو الخطاب الفصل الذى ليس فيه إيجاز مخل ولا اطناب ممل كما جاء فى نعت كلام النبوة فصل لا نزر ولا هذر (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) استفهام معناه التعجيب والتشويق إلى استماع ما فى حيزه لإيذانه بأنه من الأنباء البديعة التى حقها أن تشيع فيما بين كل حاضر وباد والخصم فى الأصل مصدر ولذلك يطلق على الواحد وما فوقه كالضيف ومعنى خصمان فريقان (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) إذ تصعدوا سوره ونزلوا إليه والسور الحائط المرتفع ونظيره تسنمه إذا علا سنامه وتذراه إذا علا ذروته وإذ متعلقة بمحذوف أى نبأتحاكم الخصم إذ تسوروا أو بالنبأ على أن المراد به الواقع فى عهد داود عليه‌السلام وأن إسناده الإتيان إليه على حذف مضاف أى قصة نبأ الخصم أو بالخصم لما فيه من معنى الخصومة لا بأتى لأن إتيانه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن حينئذ وقوله تعالى (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ) بدل مما قبله أو ظرف لتسوروا (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) روى أنه تعالى بعث إليه ملكين فى صورة إنسانين قيل هما جبريل وميكائيل عليهما‌السلام فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه فى يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب بمن معهما من الملائكة فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق على خلاف العادة والحرس حوله فى غير يوم الحكومة والقضاء قال ابن عباس رضى الله عنهما إن داود عليه‌السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للاشتغال بخاصة نفسه ويوما للوعظ والتذكير (قالُوا) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية فزعه عليه الصلاة والسلام كأنه قيل فماذا قالت الملائكة عند مشاهدتهم لفزعه فقيل قالوا ازالة لفزعه (لا تَخَفْ خَصْمانِ) أى نحن فوجان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصما (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) هو على الفرض وقصد التعرض فلا كذب فيه (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) أى لا تجر فى الحكومة وقرىء ولا تشطط أى لا تبعد عن الحق وقرىء ولا تشاطط وكلها من معنى الشطط وهو مجاوزة الحد وتخطى الحق (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) إلى وسط طريق الحق بزجر الباغى عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل.

٢٢٠