تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩٦)

____________________________________

مبتدأ محذوف والجملة صفة ثانية لجزاء كما أشير إليه وقوله تعالى (طَعامُ مَساكِينَ) عطف بيان لكفارة* عند من لا يخصصه بالمعارف أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أى هى طعام مساكين وقوله تعالى (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) عطف على طعام الخ كأنه قيل فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام أيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدى والطعام والصيام أما الأولان فبلا واسطة وأما الثالث فبواسطة الثانى فيختار الجانى كلا منها بدلا من الآخرين هذا وقد قيل إن قوله تعالى أو كفارة عطف على جزاء فلا يبقى حينئذ فى النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام والالتجاء إلى إلى القيلس على الهدى تعسف لا يخفى هذا على قراءة جزاء بالرفع وعلى سائر القراءات فقوله تعالى (أَوْ كَفَّارَةٌ) خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة هو من النعم وقرىء أو كفارة طعام مساكين بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرىء طعام مسكين على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرىء أو عدل بكسر العين والفرق بينهما أن عدل الشىء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به فى المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام وصياما تمييز للعدل والخيار فى ذلك للجانى عند أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما‌الله وللحكمين عند محمد رحمه‌الله (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) متعلق بالاستقرار فى الجار والمجرور أى فعليه جزاء ليذوق الخ وقيل بفعل يدل عليه الكلام كأنه قيل شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أى سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال فى الأصل المكروه والضرر الذى ينال فى العاقبة من عمل سوء لثقله ومنه قوله تعالى (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) ومنه الطعام الوبيل وهو الذى لا تستمرئه المعدة (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد محرما قبل أن يسألوا رسول الله* صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل عما سلف منه فى الجاهلية لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرما (وَمَنْ عادَ) إلى قتل الصيد بعد النهى عنه وهو محرم (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله* منه ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أى فذلك لا يخاف الخ وقوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) أى فأنا أمتعه والمراد بالانتقام التعذيب فى الآخرة وأما الكفارة فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن أنها واجبة على العائد وعن ابن عباس رضى الله عنهما وشريح أنه لا كفارة عليه تعلقا بالظاهر (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يغالب (ذُو انْتِقامٍ) شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء* (أُحِلَّ لَكُمْ) الخطاب للمحرمين (صَيْدُ الْبَحْرِ) أى ما يصاد فى المياه كلها بحرا كان أو نهرا أو غديرا وهو مالا يعيش إلا فى الماء مأكولا أو غير مأكول (وَطَعامُهُ) أى وما يطعم من صيده وهو تخصيص بعد تعميم* والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد فى المياه والانتفاع به وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا وعند ابن أبى ليلى جميع ما يصاد فيه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وقرىء

٨١

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٩٧)

____________________________________

* وطعمه وقيل صيد البحر ما صيد فيه وطعامه ما قذفه أو نضب عنه (مَتاعاً لَكُمْ) نصب على أنه مفعول له مختص بالطعام كما أن نافلة فى قوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) حال مختصة بيعقوب عليه‌السلام* أى أحل لكم طعامه تمتيعا للمقيمين منكم يأكلونه طريا (وَلِلسَّيَّارَةِ) منكم يتزودونه قديدا وقيل نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أى متعكم به متاعا وقيل مؤكد لمعنى أحل لكم فإنه فى قوة متعكم به تمتيعا* كقوله تعالى (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) وقرىء على بناء الفعل للفاعل ونصب صيد البر* وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش فى الماء فى بعض الأوقات كطير الماء (ما دُمْتُمْ حُرُماً) أى محرمين وقرىء بكسر الدال من دام يدام وظاهره يوجب حرمة ما صاده الحلال على المحرم وإن لم يكن له مدخل فيه وهو قول عمر وابن عباس رضى الله عنهم وعن أبى هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير رضى الله عنهم أنه يحل له أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يشر إليه ولم يدل عليه وكذا ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبى حنيفة لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل وحرم عليكم ما صدتم فى البر فيخرج منه* مصيد غيرهم وعند مالك والشافعى وأحمد لا يباح ما صيدله (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم عنه أو فى جميع المعاصى* التى من جملتها ذلك (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إليه (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) قال مجاهد سميت كعبة لكونها مكعبة مربعة وقيل لانفرادها من البناء وقيل لارتفاعها* من الأرض ونتوئها وقوله تعالى (الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء* الصفة كذلك وقيل مفعول ثان لجعل وقوله تعالى (قِياماً لِلنَّاسِ) نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما سيجىء بل هذا هو المفعول الثانى وقيل الجعل بمعنى الإنشاء والخلق وهو حال كما مر ومعنى كونه قياما لهم أنه مدار لقيام أمر دينهم ودنياهم إذ هو سبب لانتعاشهم فى أمور معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار وقرىء قيما* على أنه مصدر على وزن شبع أعل عينه بما أعل فى فعله (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أى الذى يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة وقيل جنس الشهر الحرام وهو وما بعده عطف على الكعبة فالمفعول الثانى محذوف ثقة بما مر* أى وجعل الشهر الحرام (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أيضا قياما لهم والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهى البدن* خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر وبهاء الحج بها أظهر (ذلِكَ) إشارة إلى الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره ومحله النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وهو العامل* فى اللام بعده أى شرع ذلك (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلب المنافع الأولوية والأخروية من* أوضح الدلائل على حكمة الشارع وعدم خروج شىء عن علمه المحيط وقوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

٨٢

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠٠)

____________________________________

تعميم إثر تخصيص للتأكيد ويجوز أن يراد بما فى السموات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شىء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التى هى من قبيل المعانى (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك وقوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد لمن* حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو أقلع عن الانتهاك بعد تعاطيه ووجه تقديم الوعيد ظاهر (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) تشديد فى إيجاب القيام بما أمر به أى الرسول قد أتى بما وجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد فى التفريط (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) فيؤاخذكم بذلك نقيرا وقطميرا (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) حكم عام فى نفى المساواة عند الله تعالى بين الردىء من الأشخاص والأعمال والأموال وبين جيدها قصد به الترغيب فى جيد كل منها والتحذير عن رديئها وإن كان سبب النزول شريح بن ضبعة البكرى الذى مرت قصته فى تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) الخ وقيل نزل فى رجل سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الخمر كانت تجارتى وإنى اعتقدت من بيعها مالا فهل ينفعنى من ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أنفقته فى حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل جناح بعوضة إن الله لا يقبل إلا الطيب وقال عطاء والحسن رضى الله عنهما الخبيث والطيب الحرام والحلال وتقديم الخبيث فى الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذى ينبىء عنه عدم الاستواء فيه لا فى مقابله فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر كما فى قوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) إلى غير ذلك وأما قوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فلعل تقديم الفاضل فيه لما أن صلته ملكة لصلة المفضول (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أى وإن سرك* كثرته والخطاب لكل واحد من الذين أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخطابهم والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر وقيل للحال وقدمر أى لو لم تعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبتك وكلتاهما فى موقع الحال من فاعل لا يستوى أى لا يستويان كائنين على كل حال مفروض كما فى قولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك أى أحسن إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء إليك أى كائنا على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشىء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى وعلى هذا السر يدور ما فى لو وأن الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجواب لو محذوف فى الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه وسيأتى تمام

٨٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٠١)

____________________________________

* تحقيقه فى مواقع عديدة بإذن الله عزوجل (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أى فى تحرى الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الجودة والرداءة لا الكثرة والقلة فالمحمود القليل* خير من المذموم الكثير بل كلما كثر الخبيث كان أخبث (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين أن تنالوا الفلاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) هو اسم جمع على رأى الخليل وسيبويه وجمهور البصريين كطرفاء وقصباء أصله شيآء بهمزتين بينهما ألف فقلبت الكلمة بتقديم لامها على فائها فصار وزنها لفعاء ومنعت الصرف لألف التأنيث الممدودة وقيل هو جمع شىء على أنه مخفف من شىء كهين مخفف من هين والأصل أشيئاء كأهوناء بزنة أفعلاء فاجتمعت همزتان لام الكلمة والتى للتأنيث إذا الألف كالهمزة فخففت الكلمة بأن قلبت الهمزة الأولى ياء لانكسار ما قبلها فصارت أشيياء فاجتمعت ياءان أولاهما عين الكلمة فحذفت تخفيفا فصارت أشياء وزنها أفلاء ومنعت الصرف لألف التأنيث وقيل إنما حذفت من أشيياء الياء المنقلبة* من الهمزة التى هى لام الكلمة وفتحت الياء المكسورة لتسلم ألف الجمع فوزنها أفعاء وقوله تعالى (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها وحيث كانت المساءة فى هذه الشرطية معلقة بإبدائها لا بالسؤال عنها عقبت بشرطية أخرى ناطقة باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور قطعا* فقيل (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أى تلك الأشياء الموجبة للمساءة بالوحى كما ينبىء عنه تقييد السؤال بحين التنزيل والمراد بها ما يشق عليهم ويغمهم من التكاليف الصعبة التى لا يطيقون بها والأسرار الخفية التى يفتضحون بظهورها ونحو ذلك مما لا خير فيه فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب واجترائهم على المسألة والمراجعة وتجاوزهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عزوجل من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته أى لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لا يعنيكم من نحو تكاليف شاقة وعليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أوحى إليه ولم تطيقوا بها نحو بعض أمور مستورة تكرهون بروزها وذلك مثل ما روى عن على رضى الله تعالى عنه أنه قال خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال إن الله تعالى كتب عليكم الحج فقام رجل من بنى أسد يقال له عكاشة بن محصن وقيل هو سراقة بن مالك فقال أفى كل عام يا رسول الله فأعرض عنه حتى أعاد مسألته ثلاث مرات فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه ومثل ما روى عن أنس وأبى هريرة رضى الله عنهما أنه سأل الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء حتى أحفوه فى المسألة فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغضبا خطيبا

٨٤

فحمد الله تعالى وأثى عليه وقال سلونى فو الله ما تسألونى عن شىء مادمت فى مقامى هذا إلا بينته لكم فأشفق أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون بين يدى أمر قد حضر قال أنس رضى الله عنه فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فلا أجد رجلا إلا وهو لاف رأسه فى ثوبه يبكى فقام رجل من قريش من بنى سهم يقال له عبد الله بن حذافة وكان إذا لاحى الرجال يدعى إلى غير أبيه وقال يا نبى الله من أبى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبوك حذافة بن قيس الزهرى وقام آخر وقال أين أبى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى النار ثم قام عمر رضى الله عنه فقال رضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا نبيا نعوذ بالله تعالى من الفتن إنا حديثو عهد بجاهلية وشرك فاعف عنا يا رسول الله فسكن غضبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَفَا اللهُ عَنْها) استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم* عن المساءة بل لأنها فى نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه من حثهم على الجد فى الانتهاء عنها ما لا يخفى وضمير عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا أى عفا الله تعالى عن مسائلكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج فى كل عام جزاء بمسألتكم وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم فلا تعودوا إلى مثلها وأما جعله صفة أخرى لأشياء على أن الضمير لها بمعنى لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلفكم إياها فمما لا سبيل إليه أصلا لاقتضائه أن يكون الحج قد فرض أولا فى كل عام ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوما للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعله وصفا له وكلاهما ضرورى الانتفاء قطعا على أنه يستدعى اختصاص النهى بمسألة الحج ونحوها إن سلم وقوعها مع أن النظم الكريم صريح فى أنه مسوق للنهى عن السؤال عن الأشياء التى يسوؤهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديدا كمسألة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كمسألة من قال أين أبى. إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة البتة بل هى محتملة لإيجاب المسرة أيضا لأن إيجابها للأولى إن كان من حيث وجودها فهى من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعا وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلم يعبر عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت لتحقيق المنهى عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهى وتشديده لأن تلك الحيثية هى الموجبة للانتهاء والانزجار لا حيثية إيجابها للمسرة ولا حيثية ترددها بين الإيجابين. إن قيل الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها البتة كما مر فلم تخلف الإبداء عن السؤال فى مسئلة الحج حيث لم يفرض فى كل عام قلنا لوقوع السؤال قبل ورود النهى وما ذكر فى الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعد وروده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد ولا تخلف فيه. إن قيل ما ذكرته إنما يتمشى فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر من التكاليف الشاقة وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذى وقع فى نفس الأمر ولا مردله سواء كان السؤال قبل النهى أو بعده موقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما فى مسئلة عبد الله بن حذافة فيكون هو الذى يتعلق به الإبداء لا غيره فيتعين للتخلف حتما قلنا لا احتمال للتخلف فضلا عن التعين فإن المنهى عنه فى الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة

٨٥

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٣)

____________________________________

للمساءة الواقعة فى نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال أين أبى لا عما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل للوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف فى صورة عدم الوقوع وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهى عن السؤال عن الأشياء التى يوجب إبداؤها المساءة البتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبة وتشديدا كما فى صورة كونها من قبيل التكاليف الشافة وإما بأن تكون واقعة فى نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلف ممتنع فى الصورتين معا ومنشأ توهمه عدم الفرق بين للنهى عنه وبين غيره بناء على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء فى نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن السؤال عن تلك* الأشياء على الإطلاق حذار إبداء المكروه (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) اعتراض تذييلى مقرر لعفوه تعالى أى مبالغ فى مغفرة الذنوب والإغضاء عن المعاصى ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ) أى سألوا هذه المسألة لكن لا عينها بل مثلها فى كونها محظورة ومستتبعة للوبال وعدم* التصريح بالمثل للمبالغة فى التحذير (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق بسألها (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها) أى بسببها أو بمرجوعها (كافِرِينَ) فإن بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم فى أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية حيث كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أى شقوها وحرموا ركوبها ودرها ولا تطرد عن ماء ولا عن مرعى وكان يقول الرجل إذا قدمت من سفرى أو برئت من مرضى فناقتى سائبة وجعلها كالبحيرة فى تحريم الانتفاع بها وقيل كان الرجل إذا أعتق عبدا قال هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث وإذا ولدت الشاة أنثى فهى لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى ومعنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عدى إلى مفعول واحد هو بحيرة وما عطف عليها ومن مزيدة لتأكيد النفى فإن الجعل التكوينى كما يجىء تارة متعديا إلى مفعولين وأخرى إلى واحد كذلك الجعل التشريعى يجىء مرة متعديا إلى مفعولين كما فى قوله تعالى (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) وأخرى إلى واحد كما فى الآية الكريمة (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون الله أمرنا بهذا وإمامهم عمرو بن لحى فإنه أول من* فعل هذه الأفاعيل الباطلة هذا شأن رؤسائهم وكبرائهم (وَأَكْثَرُهُمْ) وهم أراذلهم الذين يتبعونهم من

٨٦

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

____________________________________

معاصرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يشهد به سياق النظم الكريم (لا يَعْقِلُونَ) أنه افتراء باطل حتى يخالفوهم* ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فيبقون فى أسر التقليد وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم وقوله عزوجل (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أى للذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والإرشاد (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من الكتاب المبين للحلال والحرام (وَإِلَى الرَّسُولِ) الذى أنزل هو عليه لتقفوا على حقيقة* الحال وتميزوا الحرام من الحلال (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) بيان لعنادهم واستعصائهم على الهدى* إلى الحق وانقيادهم للداعى إلى الضلال (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) قيل الواو للحال* دخلت عليها الهمزة للإنكار والتعجيب أى أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم جهلة ضالين وقيل للعطف على شرطية أخرى مقدرة قبلها وهو الأظهر والتقدير أحسبهم ذلك أو أيقولون هذا القول لو لم يكن آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا لا يعلمون الخ وكلناهما فى موقع الحال أى أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى فى الباب حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة كيف لا وأن الشىء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى كما فى قولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك أى أحسن إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء أى أحسن إليه كائنا على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها دلالة ظاهرة إذ الإحسان حيث أمر به عند المانع فلأن يؤمر به عند عدمه أولى وعلى هذا السر يدور ما فى إن ولو الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجواب لو محذوف لدلالة ما سبق عليه أى لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون حسبهم ذلك أو يقولون ذلك وما فى لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا إلى نفس الأمر وفائدته المبالغة فى الإنكار والتعجيب ببيان أن ما قالوه موجب للإنكار والتعجيب إذا كان كون آبائهم جهلة ضالين فى حيز الاحتمال البعيد فكيف إذا كان ذلك واقعا لا ريب فيه وقيل مآل الوجهين واحد لأن الجملة المقدرة حال فكذا ما عطف عليها وأنت خبير بأن الحال على الوجه الأخير مجموع الجملتين لا الأخيرة فقط وأن الواو للعطف لا للحال وقد مر التحقيق فى قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) فتدبر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أى ألزموا أمر أنفسكم وإصلاحها وقرىء بالرفع على الابتداء أى واجبة عليكم أنفسكم وقوله عزوجل (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إما مجزوم على أنه جواب للأمر أو نهى مؤكد له وإنما* ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة إذ الأصل لا يضرركم ويؤيده القراءة بفتح الراء وقراءة من قرأ لا يضركم بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره وإما مرفوع على أنه كلام

٨٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (١٠٦)

____________________________________

مستأنف فى موقع التعليل لما قبله ويعضده قراءة من قرأ لا يضيركم أى لا يضركم ضلال من ضل إذا كنتم مهتدين ولا يتوهمن أن فيه رخصة فى ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء أن ينكر على المنكر حسبما تفى به الطاقة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وقد روى أن الصديق رضى الله تعالى عنه قال يوما على المنبر يأيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هى وإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه عمهم الله بعقاب فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول الله عزوجل يأيها الذين آمنوا الخ فيقول أحدكم على نفسى والله لتأمرن بالمعروف وتنهن عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لهم وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من قوم عمل فيهم منكر أو سن فيهم قبيح فلم يغيروه ولم ينكروه إلا وحق على الله تعالى أن يعمهم بالعقوبة جميعا ثم لا يستجاب لهم والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة وكانوا يتمنون إيمانهم وهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعوون عنه بالأمر والنهى وقيل كان الرجل إذا أسلم لاموه وقالوا له سفهت آباءك وضللتهم أى نسبتهم إلى السفاهة والضلال* فنزلت تسلية له بأن ضلال آبائه لا يضره ولا يشينه (إِلَى اللهِ) لا إلى أحد سواه (مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم* يوم القيامة (جَمِيعاً) بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فى الدنيا من أعمال الهداية والضلال فهو وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور* دينهم وتصديره بحر فى النداء والتنبيه لإظهار كمال العناية بمضمونه وقوله عزوجل (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعا إما باعتبار جريانها بينهم أو باعتبار تعلقها بما يجرى بينهم من الخصومات* مبتدأ وقوله تعالى (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أى شارفه وظهرت علائمه ظرف لها وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها فإنه أدخل فى تهوين أمر الموت وقوله تعالى* (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه لا ظرف للموت كما توهم ولا لحضوره كما قيل فإن فى الإبدال تنبيها على أن الوصية* من المهمات المقررة التى لا ينبغى أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها وقوله تعالى (اثْنانِ) خبر للمبتدأ بتقدير المضاف أى شهادة بينكم حينئذ شهادة اثنين أو فاعل شهادة بينكم على أن خبرها محذوف أى فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان وقرىء شهادة بالرفع والتنوين والإعراب كما سبق وقرىء شهادة بالنصب

٨٨

والتنوين على أن عاملها مضمر هو العامل فى اثنان أيضا أى ليقم شهادة بينكم اثنان (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) * أى من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحرى ما هو أصلح له وقيل من المسلمين وهما صفتان لاثنان (أَوْ آخَرانِ) عطف على اثنان تابع له فيما ذكر من الخبرية والفاعلية أى أو شهادة* آخرين أو أن يشهد بينكم آخران أو ليقم شهادة بينكم آخران وقوله تعالى (مِنْ غَيْرِكُمْ) صفة لآخران* أى كائنان من غيركم أى من الأجانب وقيل من أهل الذمة وقد كان ذلك فى بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما فى السفر ثم نسخ وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (إِنْ أَنْتُمْ) مرفوع بمضمر يفسره ما بعده تقديره إن ضربتم فلما حذف الفعل انفصل الضمير وهذا رأى جمهور البصريين وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناء على جواز وقوع المبتدأ بعد أن الشرطية كجواز وقوعه بعد إذا فقوله تعالى (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أى سافرتم فيها لا محل له من الإعراب عند الأولين لكونه* مفسرا ومرفوع على الخبرية عند الباقين وقوله تعالى (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) عطف على الشرطية* وجوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أى إن سافرتم فقاربكم الأجل حينئذ وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام من يتولى أمر الشهادة كما هو الغالب المعتاد فى الأسفار فليشهد آخران أو فاستشهدوا آخرين أو فالشاهدان آخران كذا قيل والأنسب أن يقدر عين ما سبق أى فآخران على معنى شهادة بينكم شهادة آخرين أو فأن يشهد آخران على الوجوه المذكورة ثمة وقوله تعالى (تَحْبِسُونَهُما) استئناف وقع* جوابا عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع إن ارتبنا بالشاهدين فقيل تحبسونهما أى تقفونهما وتصبرونهما للتحليف (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) وقيل هو صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف* اعتراض فائدته الدلالة على أن اللائق إشهاد الأقارب أو أهل الإسلام وأما إشهاد الآخرين فعند الضرورة الملجئة إليه وأنت خبير بأنه يقتضى اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضا قطعا على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتى والمراد بالصلاة صلاة العصر وعدم تعيينها لتعينها عندهم بالتحليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقد روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتئذ حلف من حلف كما سيأتى وقيل بعد أى صلاة كانت لأنها داعية إلى النطق بالصدق وناهية عن الكذب والزور (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) عطف على تحبسونهما وقوله تعالى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) * شرطية محذوفة الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه سيقت من جهته تعالى معترضة بين القسم وجوابه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب أى إن ارتاب بهما الوارث منكم بخيانة وأخذ شىء من التركة فاحبسوهما وحلفوهما بالله وقوله تعالى (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) جواب* للقسم وجوابه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب أى إن ارتاب بهما الوارث هو الواقع غالبا فإن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما

٨٩

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٧)

____________________________________

فى قولك والله إن أتيتنى لأكرمنك ولا ريب فى استحالة ذلك ههنا لأن القسم وجوابه كلاهما وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى والاشتراء هو استبدال السلعة بالثمن أى أخذها بدلا منه لا بذله لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزما له فإن المعتبر فى عقد الشراء ومفهومه هو الجلب دون السلب المعتبر فى عقد البيع ثم استعير لأخذ شىء بإزالة ما عنده عينا كان أو معنى على وجه الرغبة فى المأخوذ والإعراض عن الزائل كما هو المعتبر فى المستعار منه حسبما مر تفصيله فى تفسير قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) والضمير فى به لله والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله أى من حرمته عرضا من الدنيا بأن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب أى لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وقيل الضمير للقسم فلا بد من تقدير مضاف البتة أى لا نستبدل بصحة القسم بالله أى لا نأخذ لأنفسنا بدلا منها عرضا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب أى لا نحلف كاذبين كما ذكر وإلا فلا سداد للمعنى سواء أريد به القسم الصادق أو الكاذب أما إن أريد به الكاذب فلأنه يفوت حينئذ ما هو المعتبر فى الاستعارة من كون الزائل شيئا مرغوبا فيه عند الحالف كحرمة اسم الله تعالى ووصف الصحة والصدق فى القسم ولا ريب فى أن القسم الكاذب ليس كذلك وأما إن أريد به الصادق فلأنه وإن أمكن أن يتوسل باستعماله إلى عرض الدنيا كالقسم الكاذب لكن لا محذور فيه وأما التوسل إليه بترك استعماله فلا إمكان له ههنا حتى يصح التبرؤ منه وإنما يتوسل إليه باستعمال القسم الكاذب وليس استعماله من لوازم ترك استعمال الصادق ضرورة جواز تركهما معا حتى يتصور جعل ما أخذ باستعماله مأخوذا بترك استعمال الصادق كما فى صورة تقدير المضاف فإن إزالة وصف الصدق عن القسم مع بقاء الموصوف مستلزمة لثبوت وصف الكذب له البتة* فتأمل وقوله تعالى (وَلَوْ كانَ) أى المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام (ذا قُرْبى) أى قريبا منا تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذبا ومبالغة فى التنزه عنه كأنهما قالا لا نأخذ لأنفسنا بدلا من حرمة اسمه تعالى مالا ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمة للمال بل هى راجعة إليه وجواب لو محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه أى لا نشترى به ثمنا والجملة معطوفة على أخرى مثلها كما فصل فى تفسير قوله تعالى (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) الخ وقوله* عزوجل (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أى الشهادة التى أمرنا الله تعالى بإقامتها معطوف على لا نشترى به داخل معه فى حكم القسم وعن الشعبى أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ آلله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض* حرف الاستفهام منه وبغير مد كقولهم الله لأفعلن (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أى إن كتمناها وقرىء لملاثمين بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدخال النون فيها (فَإِنْ عُثِرَ) أى اطلع بعد التحليف (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) حسبما اعترفا به بقولهما إنا إذا لمن الآثمين أى فعلا ما يوجب إثما من تحريف وكتم بأن ظهر

٩٠

بأيديهما شىء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه كما وقع فى سبب النزول حسبما سيأتى (فَآخَرانِ) أى رجلان آخران وهو مبتدأ خبره (يَقُومانِ مَقامَهُما) ولا محذور فى الفصل بالخبر بين* المبتدأ وبين وصفه الذى هو الجار والمجرور بعده أى يقومان مقام اللذين عثر على خيانتهما وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التى تولياها ولم يؤدياها كما هى بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما فى أيديهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ) على* البناء للفاعل على قراءة على وابن عباس وأبى رضى الله عنهم أى من أهل الميت الذين استحق (عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) من بينهم أى الأقربان إلى الميت الوارثان له الأحقان بالشهادة أى باليمين كما ستعرفه ومفعول استحق محذوف أى استحقا عليهم أن يجردوهما للقيام بها لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين وهما فى الحقيقة الآخران القائمان مقام الأولين على وضع المظهر مقام المضمر وقرىء على البناء للمفعول وهو الأظهر أى من الذين استحق عليهم الإثم أى جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته فالأوليان مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل ومن هما فقيل الأوليان أو هو بدل من الضمير فى يقومان أو من آخران وقد جوز ارتفاعه باستحق على حذف المضاف أى استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة وقرىء الأولين على أنه صفة للذين الخ مجرور أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم على الأجانب فى الشهادة لكونهم أحق بها وقرىء الأوليين على التثنية وانتصابه على المدح وقرىء الأولان (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) عطف على يقومان (لَشَهادَتُنا) المراد بالشهادة اليمين كما فى قوله تعالى (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) أى ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة فى نفسها (أَحَقُّ) بالقبول* (مِنْ شَهادَتِهِما) أى من يمينهما مع كونها كاذبة فى نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا* منزهة عن الريب والريبة فصيغة التفضيل مع أنه لاحقية فى يمينهما رأسا إنما هى لإمكان قبولها فى الجملة باعتبار احتمال صدقهما فى ادعاء تملكهما لما ظهر فى أيديهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) عطف على جواب القسم أى* ما تجاوزنا فيها الحق أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) استئناف مقرر لما قبله أى إنا* إن اعتدينا فى يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى أو لمن الواضعين الحق فى غير موضعه ومعنى النظم الكريم أن المحتضر ينبغى أن يشهد على وصيته عدلين من ذوى نسبه أو دينه فإن لم يجدهما بأن كان فى سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع ارتياب بهما أقسما على أنهما ما كتمامن الشهادة ولا من التركة شيئا بالتغليظ فى الوقت فإن اطلع بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شىء من التركة وادعيا تملكه من جهة الميت حلف الورثة وعمل بأيمانهم ولعل تخصيص الاثنين لخصوص الواقعة فإنه روى أن تميم بن أوس الدارى وعدى بن يزيد خرجا إلى الشأم للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل بن أبى مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا فلما قدموا الشأم مرض بديل فكتب كتابا فيه جميع ما معه وطرحه فى متاعه ولم يخبرهما بذلك وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتشاه فوجدا فيه إناء من فضة وزنه ثلثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ودفعا المتاع إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فطلبوا منهما الإناء فقالا ما ندرى إنما أوصى إلينا بشىء وأمرنا أن ندفعه إليكم

٩١

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١٠٨)

____________________________________

ففعلنا وما لنا بالإناء من علم فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية فاستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر بالله الذى لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع ولا كتما فحلفا على ذلك فخلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيلهما ثم إن الإناء وجد بمكة فقال من بيده اشتريته من تميم وعدى وقيل لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك بنى سهم فطلبوه منهما فقالا كنا اشتريناه من بديل فقالوا ألم نقل لكما هل باع صاحبنا من متاعه شيئا فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل قوله عزوجل (فَإِنْ عُثِرَ) الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبى وداعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كذبا وخابا فدفع الإناء إليهما وفى رواية إلى أولياء الميت واعلم أنهما إن كانا وارثين لبديل فلا نسخ إلا فى وصف اليمين فإن الوارث لا يحلف على البنات وإلا فهو منسوخ (ذلِكَ) كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر* مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة والمصلحة أى الحكم الذى تقدم تفصيله (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أى أقرب إلى أن يؤدى الشهود الشهادة على وجهها الذى تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة خوفا من العذاب الأخروى وهذه كما ترى حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المذكور* وقوله تعالى (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة معطوف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاح على رءوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعمل بأيمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأى الخوفين وقع حصل المقصد الذى هو الإتيان بالشهادة على وجهها وقيل هو عطف على يأتوا على معنى أن ذلك أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاح برد اليمين على الورثة فلا يحلفوا على موجب شهادتهم إن لم يأتوا بها على وجهها فيظهر كذبهم بنكولهم وأما ما قيل من أن المعنى إن ذلك أقرب إلى أحد الأمرين اللذين أيهما وقع كان فيه الصلاح أداء الشهادة على الصدق والامتناع عن أدائها على الكذب فيأباه المقام إذ لا تعلق له بالحادثة أصلا ضرورة أن الشاهد مضطر فيها إلى الجواب فالامتناع عن الشهادة الكاذبة مستلزم للإتيان بالصادقة قطعا فليس هناك أمران أيهما وقع كان فيه الصلاح حتى يتوسط بينهما كلمة أو وإنما يتأتى ذلك فى شهود لم يتهموا بخيانة على أن إضافة الامتناع عن الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونسبة الإتيان بالصادقة* إلى غيره مع أن ما يقتضى أحدهما يقتضى الآخر لا محالة تحكم بحت فتأمل (وَاتَّقُوا اللهَ) فى مخالفة أحكامه* التى من جملتها هذا الحكم (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به كائنا ما كان سمع طاعة وقبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن الطاعة أى فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين والله لا يهدى القوم الفاسقين أى إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم.

٩٢

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (١٠٩)

____________________________________

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) نصب على أنه بدل اشتمال من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة فإن مدار البدلية ليس ملابسة الظرفية والمظروفية ونحوها فقط بل هو تعلق ما مصحح لانتقال الذهن من المبدل منه إلى البدل بوجه إجمالى كما فيما نحن فيه فإن كونه تعالى خالق الأشياء كافة مالك يوم الدين خاصة كاف فى الباب مع أن الأمر بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتقى أى شأن من شئونه وأى فعل من أفعاله وقيل هناك مضاف محذوف به يتحقق الاشتمال أى اتقوا عقاب الله فحينئذ يجوز انتصابه منه بطريق الظرفية وقيل منصوب بمضمر معطوف على اتقوا وما عطف عليه أى واحذروا أو اذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله عزوجل وتلقى أمره بسمع الإجابة والطاعة وقيل هو ظرف لقوله تعالى (لا يَهْدِي) أى لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدى إليه المؤمنين وقيل منصوب بقوله تعالى (وَاسْمَعُوا) بحذف مضاف أى اسمعوا خبر ذلك اليوم وقيل منصوب بفعل مؤخر قد حذف الدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه من الطامة التامة والدواهى العامة كأنه قيل يوم يجمع الله الرسل فيقول الخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفى ببيانه نطاق المقال وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم كيف لا وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وقد قال الله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم ولإظهار سقوط منزلتهم وعدم لياقتهم بالانتظام فى سلك جمع الرسل كيف لا وهم عليهم‌السلام يجمعون على وجه الإجلال وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال (فَيَقُولُ) لهم* مشيرا إلى خروجهم عن عهدة الرسالة كما ينبغى حسبما يعرب عنه تخصيص السؤال بجواب الأمم إعرابا* واضحا وإلا لصدر الخطاب بأن يقال هل بلغتم رسالاتى وماذا فى قوله عزوجل (ما ذا أُجِبْتُمْ) عبارة عن* مصدر الفعل فهو نصب على المصدرية أى أى إجابة أجبتم من جهة أممكم إجابة قبول أو إجابة رد وقيل عبارة عن الجواب فهو فى محل النصب بعد حذف الجار عنه أى بأى جواب أجبتم وعلى التقديرين ففى توجيه السؤال عما صدر عنهم وهم شهود إلى الرسل عليهم‌السلام كسؤال المومودة بمحضر من الوائد والعدول عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال ما ذا أجابوا من الأنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة الغيظ والسخط عليهم مالا يخفى (قالُوا) استئناف مبنى على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا يقول* الرسل عليهم‌السلام هنالك فقيل يقولون (لا عِلْمَ لَنا) وصيغة الماضى للدلالة على التقرر والتحقق كما فى* قوله تعالى (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) ونظائرهما وإنما يقولون ذلك تفويضا للأمر إلى علمه تعالى وإحاطته بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعرضا لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعته (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تعليل لذلك أى فتعلم ما أجابوا وأظهروا* لنا وما لم نعلمه مما أضمروه فى قلوبهم وفيه إظهار للشكاة ورد للأمر إلى علمه تعالى بما لقوا من قبلهم من

٩٣

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (١١٠)

____________________________________

الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاء إلى ربهم فى الانتقام منهم وقيل المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة ورد ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرهم وأنت خبير بأن مرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا فى زمانهم على الحق ثم صاروا كفرة وعن ابن عباس ومجاهد والسدى رضى الله عنهم أنهم يفزعون من أول الأمر ويذهلون عن الجواب ثم يجيبون بعد ما ثابت إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم ولا يلائمه التعليل المذكور وقيل المراد به المبالغة فى تحقيق فضيحتهم وقرىء علام الغيوب بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى (أَنْتَ) أى إنك أنت المنعوت نعرت كمالك المعروف بذلك (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) شروع فى بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين وتخصيص شأن عيسى عليه‌السلام بالبيان تفصيلا من بين شئون سائر الرسل عليهم‌السلام مع دلالتها على كمال هول ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل لما أن شأنه عليه‌السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعيت عليهم فى السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم وأفت فى أعضادهم وأدخل فى صرفهم عن غيهم وعنادهم وإذ بدل من يوم يجمع الله الخ وصيغة الماضى لما ذكر من الدلالة على تحقق الوقوع* وإظهار الاسم الجليل فى مقام الإضمار لما مر من المبالغة فى التهويل وكلمة على فى قوله تعالى (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) متعلقة بنفس النعمة إن جعلت مصدرا أى اذكر إنعامى عليكما أو بمحذوف هو حال منها إن جعلت اسما أى اذكر نعمتى كائنة عليكما وليس المراد بأمره عليه‌السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة فى سلك التعديد تكليفه عليه‌السلام شكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه‌السلام عن عهدة الشكر فى أوانه أى خروج بل إظهار أمره عليه‌السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد لتكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخا ومزجرة للكفرة المختلفين فى شأنه عليه‌السلام إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا* (إِذْ أَيَّدْتُكَ) ظرف ل (نِعْمَتِي) أى اذكر إنعامى عليكما وقت تأييدى لك أو حال منها أى اذكرها كائنة وقت* تأييدى لك وقرىء آيدتك والمعنى واحد أى قويتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بجبريل عليه‌السلام لتثبيت الحجة

٩٤

أو بالكلام الذى يحيى به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام أو يحيى به الموتى أو النفوس حياة أبدية وقيل الأرواح مختلفة الحقائق فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية ومنها مشرقة ومنها كدرة ومنها حرة ومنها نذلة وكان روحه عليه‌السلام طاهرة مشرقة نورانية علوية وأيا ما كان فهو نعمة عليهما (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) استئناف مبين لتأييده عليه‌السلام أو حال من الكاف وذكر* تكليمه عليه‌السلام فى حال الكهولة لبيان أن كلامه عليه‌السلام فى تينك الحالتين كان على نسق واحد بديع صادرا عن كمال العقل مقارنا لرزانة الرأى والتدبير وبه استدل على أنه عليه‌السلام سينزل من السماء لما أنه عليه‌السلام رفع قبل التكهل قال ابن عباس رضى الله عنهما أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنة ومكث فى رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله تعالى إليه (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) عطف على قوله تعالى (إِذْ أَيَّدْتُكَ) منصوب بما نصبه أى اذكر نعمتى عليكما وقت تعليمى لك الكتاب (وَالْحِكْمَةَ) أى جنسهما* (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة إظهارا لشرفهما وقيل الخط والحكمة* الكلام المحكم الصواب (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أى تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير (بِإِذْنِي) * بتسهيلى وتيسيرى لا على أن يكون الخلق صادرا عنه عليه‌السلام حقيقة بل على أن يظهر ذلك على يده عليه‌السلام عند مباشرة الأسباب مع كون الخلق حقيقة لله تعالى كما نبه؟؟؟ عنه قوله تعالى (فَتَنْفُخُ فِيها) أى فى* الهيئة المصورة (فَتَكُونُ) أى تلك الهيئة (طَيْراً بِإِذْنِي) فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارة عن تكوينه تعالى* للطير بل عن محض تيسيره مع صدور الفعل حقيقة عما أسند إليه لكان هذا تكونا من جهة الهيئة وتكرير قوله (بِإِذْنِي) فى الطير مع كونه شيئا واحدا للتنبيه على أن كلا من التصوير والنفخ أمر معظم بديع لا يتسنى ولا يترتب عليه شىء إلا بإذنه تعالى (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) عطف على تخلق (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) عطف على (إِذْ تَخْلُقُ) أعيد فيه إذ لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميما معجزة باهرة ونعمة جليلة حقيقة بتذكير وقتها صريحا قيل أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية وتكرير قوله (بِإِذْنِي) فى المواضع الأربعة للاعتناء بتحقيق الحق ببيان أن تلك الخوارق لبست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه معجزة له ونعمة خصها به وأما ذكره فى سورة آل عمران مرتين لما أن ذلك موضع الإخبار وهذا موضع تعداد النعم (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) عطف على (إِذْ تُخْرِجُ) أى منعت اليهود الذين أرادوا بك السوء عن التعرض لك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم ونحو ذلك وهو ظرف لكففت لكن لا باعتبار المجىء بها فقط بل باعتبار ما يعقبه من قوله تعالى (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه‌السلام المحوج إلى الكف أى كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات وإنما وضع موضع ضميرهم الموصول لذمهم بما فى حيز الصلة فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به والتذكير لأن إشارتهم إلى ما رأوه من نفس المسمى من حيث هو أو من حيث هو سحر لا من حيث هو مسمى بالبينات وقرىء إن هذا إلا ساحر

٩٥

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ(١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١١٢)

____________________________________

مبين فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه‌السلام (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) عطف على ما قبله من أخواتها الواقعة ظروفا للنعمة التى أمر بذكرها وهى وإن كانت فى الحقيقة عين ما يفيده الجمل التى أضيف إليها تلك الظروف من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائر الخوارق المعدودة لكنها لمغايرتها لها بعنوان منبىء عن غاية الإحسان أمر بذكرها من تلك الحيثية وجعلت عاملة فى تلك الظروف لكفاية المغايرة الاعتبارية فى تحقيق ما اعتبر فى مدلول كلمة إذ من تعدد النسبة فإنه ظرف موضوع لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومة الوقوع فيه للمخاطب دون الأخرى فيراد إفادة وقوعها أيضا له فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى ويجعل ظرفا معمولا للنسبة الثانية ثم قد تكون المغايرة بين النسبتين بالذات كما فى قولك اذكر إحسانى إليك إذا أحسنت إلى تريد تنبيه المخاطب على وقوع إحسانك إليه وقت وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات وقد تكون بالاعتبار كما فى قولك اذكر إحسانى إليك إذ منعتك من المعصية تريد تنبيهه على كون منعه منها إحسانا إليه لا على إحسان آخر واقع حينئذ ومن هذا القبيل عامة ما وقع فى التنزيل من قوله تعالى (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) الآية وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) إلى غير ذلك من النظائر ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمره تعالى إياهم فى الإنجيل على لسانه عليه‌السلام وقيل إلهامه تعالى إياهم كما فى قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) وأن فى قوله* تعالى (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) مفسرة لما فى الإيحاء من معنى القول وقيل مصدرية وإيراده عليه‌السلام بعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه‌السلام كأنه قيل آمنوا بوحدانيتى فى الألوهية والربوبية* وبرسالة رسولى ولا تزيلوه عن حيزه حطا ولا رفعا وقوله تعالى (قالُوا) استئناف مبنى على سؤال نشأ* من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا حين أوحى إليهم ذلك فقيل قالوا (آمَنَّا) أى بما ذكر من وحدانيته* تعالى وبرسالة رسوله كما يؤذن به قولهم (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أى مخلصون فى إيماننا من أسلم وجهه لله وهذا القول منهم بمقتضى وحيه تعالى وأمره لهم بذلك نعمة جليلة كسائر النعم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام وكل ذلك نعمة على والدته أيضا. روى أنه عليه‌السلام لما علم أنه سيؤمر بذكر هاتيك النعم العظام جعل يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول لكل يوم رزقه لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أمسى بات (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه‌السلام وبين قومه منقطع عما قبله كما ينبىء عنه الإظهار فى موقع الإضمار وإذ منصوب بمضمر خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق تلوين الخطاب والالتفات لكن لا لأن الخطاب السابق لعيسى عليه

٩٦

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١١٣)

____________________________________

السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكاية خطاب بل لأن الخطاب لمن خوطب بقوله تعالى (اتَّقُوا اللهَ) الآية فتأمل كأنه قيل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقيب حكاية ما صدر عن الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله تعالى الفائضة على عيسى عليه‌السلام اذكر للناس وقت قولهم الخ وقيل هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الإيمان والإخلاص لم يكن عن تحقيق وإيقان ولا يساعده النظم الكريم (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) اختلف فى أنهم هل كانوا مؤمنين أولا فقيل كانوا كافرين شاكين فى قدرة الله تعالى على ما ذكروا وفى صدق عيسى عليه‌السلام كاذبين فى دعوى الإيمان والإخلاص وقيل كانوا مؤمنين وسؤالهم للاطمئنان والتثبت لا لإزاحة الشك وهل يستطيع سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيرا عنه بلازمه وقيل الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة وقيل المعنى هل يطيع ربك بمعنى هل يجيبك واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب وقرىء هل تستطيع ربك أى سؤال ربك والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه وهى قراءة على وعائشة وابن عباس ومعاذ رضى الله عنهم وسعيد بن جبير فى آخرين والمائدة الخوان الذى عليه الطعام من ماده إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه ونظيره قولهم شجرة مطعمة وقال أبو عبيد هى فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية (قالَ) استئناف مبنى على سؤال ناشىء مما قبله كأنه قيل فماذا* قال لهم عيسى عليه‌السلام حين قالوا ذلك فقيل قال (اتَّقُوا اللهَ) أى من أمثال هذا السؤال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أى بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتى أو إن صدقتم فى ادعاء الإيمان والإسلام فإن ذلك مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعة لحصول المسئول كقوله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (قالُوا) استئناف كما سبق (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أى لسنا نريد بالسؤال إزاحة شبهتنا فى قدرته سبحانه على تنزيلها أو فى صحة نبوتك حتى بقدح ذلك فى الإيمان والتقوى بل نريد أن نأكل منها أى أكل تبرك وقيل أكل حاجة وتمتع (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بكمال* قدرته تعالى وإن كنا مؤمنين به من قبل فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالى مما يوجب ازدياد الطمأنينة وقوة اليقين (وَنَعْلَمَ) أى علما يقينيا لا يحوم حوله شائبة شبهة أصلا وقرىء ليعلم على البناء للمفعول* (أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أن هى المخففة من أن وضمير الشأن محذوف أى ونعلم أنه قد صدقتنا فى دعوى النبوة* وأن الله يجيب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) نشهد عليها عند الذين* لم يحضروها من بنى إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر وعليها متعلق بالشاهدين إن جعل اللام للتعريف وبيان لما يشهدون عليه

٩٧

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥)

____________________________________

إن جعلت موصولة كأنه قيل على أى شىء يشهدون فقيل عليها فإن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول أو هو حال من اسم كان أو هو متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لما رأى عليه‌السلام أن لهم غرضا صحيحا فى ذلك وأنهم لا يقلعون عنه أزمع على استدعائها واستنزالها وأراد أن يلزمهم الحجة بكمالها. روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره ثم قال* (اللهُمَّ رَبَّنا) ناداه سبحانه وتعالى مرتين مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات ومرة بوصف* الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة فى الاستدعاء (أَنْزِلْ عَلَيْنا) تقديم الظرف على* قوله (مائِدَةً) لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله (مِنَ السَّماءِ) متعلق بأنزل* أو بمحذوف هو صفة لمائدة أى كائنة من السماء نازلة منها وقوله (تَكُونُ لَنا عِيداً) فى محل النصب على أنه صفة لمائدة واسم تكون ضمير المائدة وخبرها إما عيدا ولنا حال منه أو من ضمير تكون عند من يجوز إعمالها فى الحال وإما لنا وعيدا حال من الضمير فى لنا لأنه وقع خبرا فيحمل ضميرا أو من ضمير تكون عند من يرى ذلك أى يكون يوم نزولها عيدا نعظمه وإنما أسند ذلك إلى المائدة لأن شرف اليوم مستعار من شرفها وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمى يوم العيد عيدا وقرىء تكن بالجزم على جواب الأمر كما فى* قوله تعالى (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) خلا أن قراءة الجزم هناك متواترة وههنا من الشواذ (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من (لَنا) بإعادة العامل أى عيدا لمتقدمينا ومتأخرينا. روى أنها نزلت يوم الأحد ولذلك اتخذه النصارى عيدا وقيل للرؤساء منا والأتباع وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا وقرىء لأولانا وأخرانا* بمعنى الأمة والطائفة (وَآيَةً) عطف على عيدا (مِنْكَ) متعلق بمحذوف هو صفة لآية أى كائنة منك دالة* على كمال قدرتك وصحة نبوتى (وَارْزُقْنا) أى المائدة أو الشكر عليها (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تذييل جار مجرى التعليل أى خير من يرزق لأنه خالق الأرزاق ومعطيها بلا عوض وفى إقباله عليه‌السلام على الدعاء بتكرير النداء المنبىء عن كمال الضراعة والابتهال وزيادته ما لم يخطر ببال السائلين من الأمور الداعية إلى الإجابة والقبول دلالة واضحة على أنهم كانوا مؤمنين وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة كما فى قول إبراهيم عليه‌السلام رب أرنى كيف تحيى الموتى وإلا لما قبل اعتذارهم بما ذكروه ولما أضاف إليه من عنده ما يؤكده ويقربه إلى القبول (قالَ اللهُ) استئناف كما سبق (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ورود الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المنبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه‌السلام بصيغة الإفعال لإظهار كمال

٩٨

اللطف والإحسان كما فى قوله تعالى (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) الخ بعد قوله تعالى (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ) الخ مع ما فيه من مراعاة ما وقع فى عبارة السائلين وفى تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسما تحقيق للوعد وإيذان بأنه تعالى منجز له لا محالة من غير صارف يثنيه ولا مانع يلويه وإشعار بالاستمرار أى إنى منزل المائدة عليكم مرات كثيرة وقرىء بالتخفيف وقيل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ) أى بعد تنزيلها (مِنْكُمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يكفر (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) بسبب كفره* بعد معاينة هذه الآية الباهرة (عَذاباً) اسم مصدر بمعنى التعذيب وقيل مصدر بحذف الزوائد وانتصابه* على المصدرية بالتقديرين المذكورين وجوز أن يكون مفعولا به على الاتساع وقوله تعالى (لا أُعَذِّبُهُ) * فى محل النصب على أنه صفة لعذابا والضمير له أى أعذبه تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أى من عالمى زمانهم أو من العالمين جميعا قيل لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا لا نريدها فلم تنزل وبه قال مجاهد والحسن رحمهما‌الله والصحيح الذى عليه جماهير الأمة ومشاهير الأئمة أنها قد نزلت. روى أنه عليه‌السلام لما دعا بما دعا وأجيب بما أجيب إذا بسفرة حمراء نزلت بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال اللهم اجعلنى من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة للعالمين ولا تجعلها مثلة وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثانى عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون رأس الحواريين يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال ليس منهما ولكنه شىء اخترعه الله تعالى بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله فقالوا يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال يا سمكة احيى بإذن الله فاضطربت ثم قال لها عودى كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة ثم عصوا فمسخوا قردة وخنازير وقيل كانت تأتيهم أربعين يوما غبا يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفىء طارت وهم ينظرون فى ظلها ولم يأكل منها فقير إلا غنى مدة عمره ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبدا ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل مائدتى فى الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء فاضطرب الناس لذلك فمسخ منهم من مسخ فأصبحوا خنازير يسعون فى الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة فى الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه‌السلام وبكوا على الممسوخين فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه‌السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحد بعد واحد فيبكون ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن عيسى عليه‌السلام قال لهم صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم فصاموا فلما فرغوا قالوا إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا وسألوا الله تعالى المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم قال كعب نزلت منكوسة تطير بها

٩٩

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (١١٦)

____________________________________

الملائكة بين السماء والأرض عليها كل الطعام إلا اللحم وقال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة وقال عطية العوفى نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شىء وقال الكلبى ومقاتل نزلت سمكة وخمسة أرغفة فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهدو قالوا ويحكم إنما سحرا عينكم فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرة ومن أراد فتنته رجع إلى كفره فمسخوا خنازير فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك كل ممسوخ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) معطوف على إذ قال الحواريون منصوب بما نصبه من المضمر المخاطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك أى اذكر للناس وقت قول الله عزوجل له عليه‌السلام فى الآخرة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم بإقراره عليه‌السلام على رءوس الأشهاد بالعبودية وأمره لهم بعبادته عزوجل وصيغة الماضى لما مر من* الدلالة على التحقق والوقوع (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) الاتخاذ إما متعد إلى مفعولين فإلهين ثانيهما وإما إلى واحد فهو حال من المفعول وليس مدار أصل الكلام أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال الفاشى وعليه قوله تعالى (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) ونظائره بل على أن المتيقن هو الاتخاذ والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه‌السلام أو من تلقاء أنفسهم كما فى قوله* تعالى أأنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل وقوله تعالى (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بالاتخاذ ومحله النصب على أنه حال من فاعله أى متجاوزين الله أو بمحذوف هو صفة لإلهين أى كائنين من دونه تعالى وأيا ما كان فالمراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) وقوله عزوجل (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) إلى قوله سبحانه وتعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) إذ به يتأنى التوبيخ ويتسنى التقريع والتبكيت ومن توهم أن ذلك بطريق الاستقلال ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزات التى ظهرت على يد عيسى ومريم عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما فى حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه تعالى إلها فى حق ذلك البعض فقد أبعد عن الحق بمراحل وأما من تعمق فقال إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادة فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبده تعالى فقد غفل عما يجديه واشتغل بما لا يعنيه كدأب من قبله فإن توبيخهم إنما يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحا لا بما يلزمه* بضرب من التأويل وإظهار الاسم الجليل لكونه فى حيز القول المسند إلى عيسى عليه‌السلام (قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا يقول عيسى عليه‌السلام حينئذ فقيل يقول وإيثار* صيغة الماضى لما مر مرارا (سُبْحانَكَ) سبحان علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه

١٠٠