تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩)

____________________________________

عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا كيف تخوفنا به ونحن أبناء الله وأحباؤه وقيل إن النصارى يتلون فى الإنجيل أن المسيح قال لهم إنى ذاهب إلى أبى وأبيكم وقيل أرادوا أن الله تعالى كالأب لنا فى الحنو والعطف ونحن كالأبناء له فى القرب والمنزلة وبالجملة أنهم كانوا يدعون أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق فرد عليهم ذلك وقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) إلزاما لهم وتبكيتا (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أى إن صح ما زعمتم* فلأى شىء يعذبكم فى الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد عرفتم بأنه تعالى سيعذبكم فى الآخرة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع وقوله تعالى (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى لستم كذلك بل أنتم بشر (مِمَّنْ خَلَقَ) أى* من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من أولئك المخلوقين* وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه منهم وهم الذين كفروا به وبرسله مثلكم* (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) من الموجودات لا ينتمى إليه سبحانه شىء منها إلا بالمملوكية* والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيهم كيف يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا فأنى لهم ادعاء ما زعموا (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فى الآخرة خاصة لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازى كلا من* المحسن والمسىء بما يستدعيه عمله من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه (يا أَهْلَ الْكِتابِ) تكرير للخطاب بطريق الالتفات ولطف فى الدعوة (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) حال من رسولنا وإيثاره على مبينا لما* مر فيما سبق أى يبين لكم الشرائع والأحكام الدينية المقرونة بالوعد والوعيد ومن جملتها ما بين فى الآيات السابقة من بطلان أقاويلكم الشنعاء وما سيأتى من أخبار الأمم السالفة وإنما حذف تعويلا على ظهور أن مجىء الرسول إنما هو لبيانها أو يفعل لكم البيان ويبذله لكم فى كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين وأما تقدير مثل ما سبق فى قوله تعالى (كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) كما قيل فمع كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله عزوجل (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحى إنما يحوج إلى بيان* الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه وعلى فترة متعلق بجاءكم على الظرفية كما فى قوله تعالى (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أى جاءكم على حين فتور الإرسال وانقطاع من الوحى ومزيد احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية أو بمحذوف وقع حالا من ضمير يبين أو من ضمير لكم أى يبين لكم ما ذكر حال كونه على فترة من الرسل أو حال كونكم عليها أحوج ما كنتم إلى البيان ومن الرسل متعلق بمحذوف وقع صفة لفترة أى كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم وقوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا) تعليل لمجىء الرسول بالبيان على* حذف المضاف أى كراهة أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم فى مراعاة أحكام الدين (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا

٢١

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٠)

____________________________________

نَذِيرٍ) وقد انطمست آثار الشرائع السابقة وانقطعت أخبارها وزيادة من فى الفاعل للمبالغة فى نفى المجىء وتنكير بشير ونذير للتقليل وهذا كما ترى يقتضى أن المقدر أو المنوى فيما سبق هو الشرائع* والأحكام لا كيفما كانت بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد وقوله تعالى (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) متعلق بمحذوف ينبىء عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به وتنوين بشير ونذير للتفخيم أى لا تعتذروا* بذلك فقد جاءكم بشير أى بشير ونذير أى نذير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإرسال تترى كما فعله بين موسى وعيسى عليهما‌السلام حيث كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبى وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسّلام حيث كان بينهما ستمائة سنة أو خمسمائة وتسع وستون سنة أو خمسمائة وست وأربعون سنة وأربعة أنبياء على ما روى الكلبى ثلاثة من بنى إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسى وقيل لم يكن بعد عيسى عليه‌السلام إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الأنسب بما فى تنوين فترة من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بعث إليهم عند كمال حاجتهم إليه بسبب مضى دهر طويل بعد انقطاع الوحى ليهشوا إليه ويعدوه أعظم نعمة من الله تعالى وفتح باب إلى الرحمة وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غدا بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم وتفصيل كيفية نقضهم له وتعلقه بما قبله من حيث إن ما ذكر فيه من الأمور التى وصف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيانها ومن حيث اشتماله على انتفاء فترة الرسل فيما بينهم وإذ نصب على أنه مفعول لفعل مقدر خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات أى واذكر لهم وقت قول موسى لقومه ناصحا* لهم ومستميلا لهم بإضافتهم إليه (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة فى إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانى ولأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه حاضرا بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا وعليكم متعلق بنفس النعمة إذا جعلت مصدرا وبمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما أى اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا نعمته كائنة عليكم وكذا* إذ فى قوله تعالى (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) أى أذكروا إنعامه تعالى عليكم فى وقت جعله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم فى وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء ذوى عدد كثير وأولى شأن خطير حيث* لم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بنى إسرائيل من الأنبياء (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) عطف على (جَعَلَ فِيكُمْ) داخل فى حكمه أى جعل فيكم أو منكم ملوكا كثيرة فإنه قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء وإنما حذف الظرف تعويلا على ظهور الأمر أو جعل الكل فى مقام الامتنان عليهم ملوكا لما أن أقارب الملوك يقولون

٢٢

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) (٢٢)

____________________________________

عند المفاخرة نحن الملوك وإنما لم يسلك ذلك المسلك فيما قبله لما أن منصب النبوة من عظم الخطر وعزة المطلب وصعوبة المنال ليس بحيث يليق أن ينسب إليه ولو مجازا من ليس ممن اصطفاه الله تعالى له وقيل كانوا مملوكين فى أيدى القبط فأنقذهم الله تعالى فسمى إنقاذهم ملكا وقيل الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار وقيل من له بيت وخدم وقيل من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور العظام والمراد بالعالمين الأمم الخالية إلى زمانهم وقيل من عالمى زمانهم (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) كرر النداء بالإضافة التشريفية اهتماما بشأن الأمر ومبالغة فى حثهم على الامتثال به والأرض هى أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين وقيل هى الطور وما حوله وقيل دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقيل هى الشأم (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) * أى كتب فى اللوح المحفوظ أنها تكون مسكنا لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ما عصوا (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) وقوله تعالى (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) فإن ترتيب الخيبة والخسران على* الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان والطاعة قطعا أى لا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة فالجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من فاعل (تَرْتَدُّوا) ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل قيل لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكوا وقالوا يا ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل لنا رأسا ينصرف بنا إلى مصر أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى وقوله فتنقلبوا إما مجزوم عطفا على ترتدوا أو منصوب على جواب النهى والخسران خسران الدين والدنيا لا سيما دخول ما كتب لهم (قالُوا) استئناف مبنى نشأ من مساق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا بمقابلة أمره عليه‌السلام ونهيه فقيل قالوا غير ممتثلين بذلك (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) متغلبين لا يتأتى منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم والجبار العاتى* الذى يجبر الناس ويقسرهم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان فعال من جبره على الأمر أى أجبره عليه (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها) بسبب من الأسباب التى لا تعلق لنا بها (فَإِنَّا داخِلُونَ) حينئذ أتوا بهذه الشرطية مع كون مضمونها* مفهوما مما سبق من توقيت عدم الدخول بخروجهم منها تصريحا بالمقصود وتنصيصا على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيما وأتوا فى الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالة على تقرر

٢٣

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢٤)

____________________________________

الدخول وثباته عند تحقق الشرط لا محالة وإظهارا لكمال الرغبة فيه وفى الامتثال بالأمر (قالَ رَجُلانِ) * استئناف كما سبق كأنه قيل هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل قال رجلان (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أى يخافون الله تعالى دون العدو ويتقونه فى مخالفة أمره ونهيه وبه قرأ ابن مسعود وفيه تعريض بأن من عداهما لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو وقيل من الذين يخافون العدو أى منهم فى النسب لا فى الخوف وهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا من النقباء وقيل هما رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه‌السلام فالواو حينئذ لبنى إسرائيل والموصول عبارة عن الجبابرة وإليهم يعود العائد المحذوف أى من الذين يخافهم بنو إسرائيل ويعضده قراءة من قرأ يخافون على صيغة المبنى للمفعول أى المخوفين وعلى الأول يكون هذا من الإخافة أى من الذين يخوفون من الله تعالى بالتذكير أو يخوفهم الوعيد* (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أى بالتثبيت وربط الجأش والوقوف على شئونه تعالى والثقة بوعده أو بالإيمان وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض وقيل حال من الضمير فى يخافون أو من رجلان لتخصصه بالصفة أى* قالا مخاطبين لهم ومشجعين (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أى باب بلدهم وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم فى بلدهم أى باغتوهم وضاغطوهم فى المضيق وامنعوهم من البروز* إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ) أى باب بلدهم وهم فيه (فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) من غير حاجة إلى القتال فإنا قدر رأيناهم وشاهدنا أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسادهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم فى المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر وقيل إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه‌السلام ومن قوله تعالى (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أو لما علما من سنته تعالى فى نصرة رسله وما عهدا من* صنعه تعالى لموسى عليه‌السلام من قهر أعدائه والأول أنسب بتعليق الغلبة بالدخول (وَعَلَى اللهِ) تعالى* خاصة (فَتَوَكَّلُوا) بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزل من التأثير وإنما التأثير من عند* الله العزيز القدير (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أى مؤمنين به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما (قالُوا) استئناف كما سبق أى قالوا غير مبالين بهما وبمقالتهما مخاطبين لموسى عليه‌السلام* إظهارا لإصرارهم على القول الأول وتصريحا بمخالفتهم له عليه‌السلام (يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) أى* أرض الجبابرة فضلا عن دخول بابهم وهم فى بلدهم (أَبَداً) أى دهرا طويلا (ما دامُوا فِيها) أى فى أرضهم* وهو بدل من أبدا بدل البعض أو عطف بيان (فَاذْهَبْ) الفاء فصيحة أى فإذا كان الأمر كذلك فاذهب

٢٤

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

____________________________________

(أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) أى فقاتلاهم إنما قالوا ذلك استهانة واستهزاء به سبحانه وبرسوله وعدم مبالاة بهما* وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبىء عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم وقيل أرادوا إرادتهما وقصدهما كما تقول كلمته فذهب يجيبنى كأنهم قالوا فأريدا قتالهم واقصداهم وقيل التقدير فاذهب أنت وربك يعينك ولا يساعده قوله تعالى (فَقاتِلا) ولم يذكروا هرون ولا الرجلين كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم وقوله تعالى (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) يؤيد الوجه الأول وأرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر* (قالَ) عليه‌السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التى بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) عطف على* نفسى وقيل على الضمير فى إنى على معنى إنى لا أملك إلا نفسى وإن أخى لا يملك إلا نفسه وقيل على الضمير فى لا أملك للفصل (فَافْرُقْ بَيْنَنا) يريد نفسه وأخاه والفاء لترتيب الفرق أو الدعاء به على ما قبله (وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعتك المصرين على عصيانك بأن تحكم لنا بما نستحقه وعليهم بما يستحقونه وقيل بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم (قالَ فَإِنَّها) أى الأرض المقدسة والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) تحريم منع لا تحريم تعبد لا يدخلونها ولا يملكونها لأن كتابتها* لهم كانت مشروطة بالإيمان والجهاد وحيث نكصوا على أدبارهم حرموا ذلك وانقلبوا خاسرين وقوله تعالى (أَرْبَعِينَ سَنَةً) إن جعل ظرفا لمحرمة يكون التحريم موقتا لا مؤبدا فلا يكون مخالفا لظاهر قوله* تعالى (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) فالمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم فى هذه المدة لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقى حسبما روى أن موسى عليه‌السلام سار بمن بقى من بنى إسرائيل إلى أريحا وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه‌السلام وقيل لم يدخلها أحد ممن قال لن ندخلها أبدا وإنما دخلها مع موسى عليه‌السلام النواشى من ذرياتهم فالموقت بالأربعين فى الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريمها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة المتاخمة للاتحاد وقوله تعالى (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أى يتحيرون فى البرية استئناف لبيان كيفية حرمانهم أو حال من ضمير* عليهم وقيل الظرف متعلق بيتهون فيكون التيه موقتا والتحريم مطلقا قيل كانوا ستمائة ألف مقاتل وكان طول البرية تسعين فرسخا وقد تاهوا فى ستة فراسخ أو تسعة فراسخ فى ثلاثين فرسخا وقيل فى ستة فراسخ فى اثنى عشر فرسخا روى أنهم كانوا كل يوم يسيرون جادين حتى إذا أمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا وكان الغمام يظلهم من حر الشمس ويطلع بالليل عمود من نور يضىء لهم وينزل عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورهم وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله وهذه الإنعامات عليهم مع أنهم معاقبون لما أن عقابهم كان بطريق العرك والتأديب قيل كان موسى وهرون معهم ولكن

٢٥

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧)

____________________________________

كان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم وملائكة العذاب عليهم‌السلام وروى أن هرون مات فى التيه ومات موسى بعده فيه بسنة ودخل يوشع أريحا بعد موته بثلاثة أشهر ولا يساعده ظاهر النظم الكريم فإنه تعالى بعد ما قبل دعوته على بنى إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجى بعض المدعو عليهم أو ذراريهم ويقدر وفاتهما فى محل العقوبة ظاهرا وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة وقد قيل إنهما لم يكونا معهم فى التيه وهو الأنسب بتفسير الفرق بالمباعدة ومن قال بأنهما كانا معهم فيه فقد فسر* الفرق بما ذكر من الحكم بما يستحقه كل فريق (فَلا تَأْسَ) فلا تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) روى أنه عليه‌السلام ندم على دعائه عليهم فقيل لا تندم ولا تحزن فإنهم أحقاء بذلك لفسقهم (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى (وَإِذْ قالَ مُوسى) الخ وتعلقه به من حيث إنه تمهيد لما سيأتى من جنايات* بنى إسرائيل بعد ما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءت به من البينات (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) هما قابيل وهابيل. ونقل عن الحسن والضحاك أنهما رجلان من بنى إسرائيل بقرينة آخر القصة وليس كذلك أوحى الله عزوجل إلى آدم أن يزوج كلا منهما توأمة الآخر وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها أقليما فحسد عليها أخاه وسخظ وزعم أن ذلك ليس من عند الله تعالى بل من جهة آدم عليه‌السلام فقال لهما عليه‌السلام قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها ففعلا فنزلت نار على قربان هابيل فأكلته ولم تتعرض* لقربان قابيل فازداد قابيل حسدا وسخطا وفعل ما فعل (بِالْحَقِّ) متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أى تلاوة ملتبسة بالحق والصحة أو حالا من فاعل اتل أو من مفعوله أى ملتبسا أنت أو نبأهما* بالحق والصدق حسبما تقرر فى كتب الأولين (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) منصوب بالنبأ ظرف له أى اتل قصتهما ونبأهما فى ذلك الوقت وقيل بدل منه على حذف المضاف أى اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ورد عليه بأن إذ لا يضاف إليها غير الزمان كوقتئذ وحينئذ والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك أو صدقة كالحلوان اسم لما يحلى أى يعطى وتوحيده لما أنه فى الأصل مصدر وقيل تقديره إذ قرب كل* منهما قربانا (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) هو هابيل قيل كان هو صاحب ضرع وقرب جملا سمينا فنزلت نار* فأكلته (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) هو قابيل قيل كان هو صاحب زرع وقرب أردا ما عنده من القمح فلم* تتعرض له النار أصلا (قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قال من لم* يتقبل قربانه فقيل قال لأخيه لتضاعف سخطه وحسده لما ظهر فضله عليه عند الله عزوجل (لَأَقْتُلَنَّكَ) * أى والله لأقتلنك بالنون المشددة وقرىء بالمخففة (قالَ) استئناف كما قبله أى قال الذى تقبل قربانه لما* رأى أن حسده لقبول قربانه وعدم قبول قربان نفسه (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ) أى القربان (مِنَ الْمُتَّقِينَ) لا من غيرهم وإنما تقبل قربانى ورد قربانك لما فينا من التقوى وعدمه أى إنما أتيت من قبل نفسك لا من

٢٦

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (٢٩)

____________________________________

قبلى فلم تقتلنى خلا أنه لم يصرح بذلك بل سلك مسلك التعريض حذرا من تهييج غضبه وحملا له على التقوى والإفلاع عما نواه ولذلك أسند الفعل إلى الاسم الجليل لتربية المهابة ثم صرح بتقواه على وجه يستدعى سكون غيظه لو كان له عقل وازع حيث قال بطريق التوكيد (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) حيث صدر الشرطية باللام المؤطئة للقسم وقدم الجار والمجرور على المفعول الصريح إيذانا من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه ولم يجعل جواب القسم السادمسد جواب الشرط جملة فعلية موافقة لما فى الشرط بل اسمية مصدرة بما الحجازية المفيدة لتأكيد النفى بما فى خبرها من الباء للمبالغة فى إظهار براءته عن بسط اليد ببيان استمراره على نفى البسط كما فى قوله تعالى (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وقوله (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما تدل بمعونة المقام على دوام الثبوت كذلك السلبية تدل بمعونته على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام وذلك باعتبار الدوام والاستمرار بعد اعتبار النفى لا قبله حتى يرد النفى على المقيد بالدوام فيرفع قيده أى والله لئن باشرت قتلى حسبما أوعدتنى به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعل مثله لك فى وقت من الأوقات ثم علل ذلك بقوله (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وفيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أبلغ وجه وآكده مالا* يخفى كأنه قال إنى أخافه تعالى إن بسطت يدى إليك لأقتلك أن يعاقبنى وإن كان ذلك منى لدفع عداوتك عنى فما ظنك بحالك وأنت البادى العادى وفى وصفه تعالى بربوبية العالمين تأكيد للخوف قيل كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم خوفا من الله تعالى لأن القتل الدفع لم يكن مباحا حينئذ وقيل تحريا لما هو الأفضل حسبما قال عليه‌السلام كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ويأباه التعليل بخوفه تعالى إلا أن يدعى أن ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية فى استتباع الغائلة مبالغة فى التنزه وقوله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) تعليل آخر لا متناعه عن المعارضة على أنه غرض متأخر عنه كما أن الأول باعث متقدم عليه وإنما لم يعطف عليه تنبيها على كفاية كل منهما فى العلية والمعنى إنى أريد باستسلامى لك وامتناعى عن التعرض لك أن ترجع بإثمى أى بمثل إثمى لو بسطت يدى إليك وبإثمك ببسط يدك إلى كما فى قوله عليه‌السلام المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم أى على البادىء عين إثم سبه ومثل سب صاحبه بحكم كونه سببا له وقيل معنى بإثمى إثم قتلى ومعنى بإثمك الذى لأجله لم يتقبل قربانك وكلاهما نصب على الحالية أى ترجع ملتبسا بالإثمين حاملا لهما ولعل مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه له وقيل المراد بالإثم عقوبته ولا ريب فى جواز إرادة عقوبة العاصى ممن علم أنه لا يرعوى عن المعصية أصلا ويأباه قوله تعالى (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) فإن كونه* منهم إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلائه بعقوبتهما وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليها

٢٧

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١)

____________________________________

* العقوبة النارية يرده قوله تعالى (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) فإنه صريح فى أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ولقد سلك فى صرفه عما نواه من الشركل مسلك من العظة والتذكير بالترغيب تارة والترهيب أخرى فما أورثه ذلك إلا الإصرار على الغى والانهماك فى الفساد (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) أى وسعته وسهلته من طاع له المرتع إذا اتسع وترتيب التطويع على ما حكى من مقالات هابيل مع تحققه قبلها أيضا كما يفصح عنه قوله (لَأَقْتُلَنَّكَ) لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله من الدواعى القوية وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه فى الحقيقة أمر حادث وصنع جديد كما فى قولك وعظته فلم يتعظ أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناء على تردده فى قدرته على القتل لما أنه كان أقوى منه وإنما حصلت بعد وقوفه على استسلام هابيل وعدم معارضته له والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه وقرىء فطاوعت على أنه فاعل بمعنى فعل أو على أن قتل أخيه كأنه دعى نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربط كقولك حفظت* لزيد ماله (فَقَتَلَهُ) قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فتمثل إبليس وأخذ طاثرا ووضع رأسه على حجر ثم شدخها بحجر آخر فتعلم منه فرضخ رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصى عليه وقيل اغتاله وهو نائم وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة واختلف فى موضع قتلة فقيل عند عقبه حراء وقيل بالبصرة فى موضع المسجد الأعظم وقيل فى جبل بود ولما قتله تركه بالعراء لا يدرى ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله فى جراب على ظهره أربعين يوما وقيل سنة حتى أروح وعكفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمى به فتأكله (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دينا ودنيا (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) روى أنه تعالى بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفرة فألقاه فيها والمستكن فى يريه لله تعالى أو للغراب واللام على الأول متعلقة ببعث حتما وعلى الثانى بيبحث ويجوز تعلقها ببعث أيضا وكيف حال من ضمير (يُوارِي) والجملة ثانى مفعولى يرى والمراد بسوأة* أخيه جسده الميت (قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قال عند مشاهدة* حال الغراب فقيل قال (يا وَيْلَتى) هى كلمة جزع وتحسر والألف بدل من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتى احضرى* فهذا أوانك والويل والويلة الهلكة (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ) أى عن أن أكون (مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) تعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب وقوله تعالى (فَأُوارِيَ) بالنصب عطف* على (أَنْ أَكُونَ) وقرىء بالرفع أى فأنا أوارى (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أى على قتله لما كابد فيه من التحير فى أمره وحمله على رقبته مدة طويلة. روى أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال

٢٨

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢)

____________________________________

ما كنت عليه وكيلا قال بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لا يضحك وقيل لما قتل قابيل هابيل هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس فقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها وهو أول من عبد النار (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) شروع فيما هو المقصود من تلاوة النبأ من بيان بعض آخر من جنايات بنى إسرائيل ومعاصيهم وذلك إشارة إلى عظم شأن القتل وإفراط قبحه المفهومين مما ذكر فى تضاعيف القصة من استعظام هابيل له وكمال اجتنابه عن مباشرته وإن كان ذلك بطريق الدفع عن نفسه واستسلامه لأن يقتل خوفا من عقابه وبيان استتباعه لتحمل القاتل لإثم المقتول ومن كون قابيل بمباشرته من جملة الخاسرين دينهم ودنياهم ومن ندامته على فعله مع ما فيه من العتو وشدة الشكيمة وقساوة القلب والأجل فى الأصل مصدر أجل شرا إذا جناه استعمل فى تعليل الجنايات كما فى قولهم من جراك فعلته أى من أن جررته وجنيته ثم اتسع فيه واستعمل فى كل تعليل وقرىء من أجل بكسر الهمزة وهى لغة فيه وقرىء من أجل بحذف الهمزة وإلقاء فتحتها على النون ومن لابتداء الغاية متعلقة بقوله تعالى (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وتقديمها عليه* للقصر أى من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من شىء آخر أى قضينا عليهم وبينا (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً) * واحدة من النفوس (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أى بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أى* فساد يوجب إهدار دمها وهو عطف على ما أضيف إليه غير على معنى نفى كلا الأمرين معا كما فى قولك من صلى بغير وضوء أو تيمم بطلت صلاته لا نفى أحدهما كما فى قولك من صلى بغير وضوء أو ثوب بطلت صلاته ومدار الاستعمالين اعتبار ورود النفى على ما يستفاد من كلمة أو من الترديد بين الأمرين المنبىء عن التخيير والإباحة واعتبار العكس ومناط الاعتبارين اختلاف حال ما أضيف إليه غير من الأمرين بحسب اشتراط نقيض الحكم بتحقق أحدهما واشتراطه بتحققهما معا ففى الأول يرد النفى على الترديد الواقع بين الأمرين قبل وروده فيفيد نفيهما معا وفى الثانى يرد الترديد على النفى فيفيد نفى أحدهما حتما إذ ليس قبل ورود النفى ترديد حتى يتصور عكسه وتوضيحه أن كل حكم شرط بتحقق أحد شيئين مثلا فنقيضه مشروط بانتفائهما معا وكل حكم شرط بتحققهما معا فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شىء مشروط بنقيض شرطه ولا ريب فى أن نقيض الإيجاب الجزئى كما فى الحكم الأول هو السلب الكلى ونقيض الإيجاب الكلى كما فى الحكم الثانى هو رفعه المستلزم للسلب الجزئى فثبت اشتراط نقيض الأول بانتفائهما معا واشتراط نقيض الثانى بانتفاء أحدهما ولما كان الحكم فى قولك من صلى بوضوء أو تيمم صحت صلاته مشروطا بتحقق أحدهما مبهما كان نقيضه فى قولك من صلى بغير وضوء أو

٢٩

تيمم بطلت صلاته مشروطا بنقيض الشرط المذكور البتة وهو انتفاؤهما معافتعين ورود النفى المستفاد من غير على الترديد الواقع بين الوضوء والتيمم بكلمة أو فانتفى تحققهما معا ضرورة عموم النفى الوارد على المبهم وعلى هذا يدور ما قالوا إنه إذا قيل جالس العلماء أو الزهاد ثم أدخل عليه لا الناهية امتنع فعل الجميع نحو ولا تطع منهم آثما أو كفورا إذ المعنى لا تفعل أحدهما فأيهما فعله فهو أحدهما وأما قولك من صلى بوضوء أو ثوب صحت صلاته فحيث كان الحكم فيه مشروطا بتحقق كلا الأمرين كان نقيضه فى قولك من صلى بغير وضوء أو ثوب بطلت صلاته مشروطا بنقيض الشرط المذكور وهو انتفاء أحدهما فتعين ورود الترديد على النفى فأفاد نفى أحدهما ولا يخفى أن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فتعين ورود النفى على الترديد لا محالة كأنه قيل* من قتل نفسا بغير أحدهما (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) فمن قال فى تفسيره أو بغير فساد فقد أبعد عن توفية النظم الكريم حقه وما فى كأنما كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها وجميعا حال من الناس أو تأكيد ومناط التشبيه اشتراك الفعلين فى هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى وتجسير الناس على القتل وفى* استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى وعذابه العظيم (وَمَنْ أَحْياها) أى تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد فى الأرض إما بنهى قاتلها عن قتلها أو استنقاذها من سائر* أسباب الهلكة بوجه من الوجوه (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) وجه التشبيه ظاهر والمقصود تهويل أمر القتل وتفخيم شأن الإحياء بتصوير كل منهما بصورة لائقة به فى إيجاب الرهبة والرغبة ولذلك صدر النظم الكريم بضمير الشأن المنبىء عن كمال شهرته ونباهته وتبادره إلى الأذهان عند ذكر الضمير الموجب لزيادة تقرير ما بعده فى الذهن فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن* مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده فضل تمكن كأنه قيل إن الشأن الخطير هذا (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) جملة مستقلة غير معطوفة على كتبنا أكدت بالتوكيد القسمى وحرف التحقيق لكمال العناية بتحقق مضمونها وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم رسلنا الخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم فى العتو والمكابرة أى وبالله لقد جاءتهم رسلنا حسبما أرسلناهم بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم* تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أى بعد ما ذكر من الكتب وتأكيد الأمر بإرسال الرسل تترى وتجديد العهد مرة بعد أخرى ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك فى سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيماء* إلى علو درجته وبعد منزلته فى عظم الشأن وثم للتراخى فى الرتبة والاستبعاد (فِي الْأَرْضِ) متعلق بقوله* تعالى (لَمُسْرِفُونَ) وكذا الظرف المتقدم ولا يقدح فيه توسط اللام بينه وبينهما لأنها لام الابتداء وحقها الدخول على المبتدأ وإنما دخولها على الخبر لمكان إن فهى فى حيزها الأصلى حكما والإسراف فى كل أمر التباعد عن حد الاعتدال مع عدم مبالاة به أى مسرفون فى القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم فى أمر القتل مستلزما لتفريطهم فى شأن الإحياء وجودا وذكرا وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى بذكره فى مقام التشنيع.

٣٠

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣٣)

____________________________________

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) كلام مستأنف سيق لبيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه العاجل والآجل إثر بيان عظم شأن القتل بغير حق وأدرج فيه بيان ما أشير إليه إجمالا من الفساد المبيح للقتل قيل أى يحاربون رسوله وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عنده عزوجل ومحاربة أهل شريعته وسالكى طريقته من المسلمين محاربة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعم الحكم من يحاربهم ولو بعد أعصار بطريق العبارة دون الدلالة والقياس لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج فى تعميمه لغيرهم إلى دليل آخر وقيل جعل محاربة المسلمين محاربة لله تعالى ورسوله تعظيما لهم والمعنى يحاربون أولياءهما وأصل الحرب السلب والمراد ههنا قطع الطريق وقيل المكابرة بطريق اللصوصية وإن كانت فى مصر (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ) عطف* على يحاربون والجار والمجرور متعلق به وقوله تعالى (فَساداً) إما مصدر؟؟؟ من فاعل يسعون* أى مفسدين أو مفعول له أى للفساد أو مصدر مؤكد ليسعون لأنه فى معنى مفسدون على أنه مصدر من أفسد بحذف الزوائد أو اسم مصدر. قيل نزلت الآية فى قوم هلال بن عويمر الأسلمى وكان وادعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يهاج ومن مر بهلال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو آمن لا يهاج فمرقوم من بنى كنانة يريدون الإسلام بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم وقيل نزلت فى العرنيين وقصتهم مشهورة وقيل فى قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا فى الأرض ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى من القتل بدون أخذ المال ومن القتل مع أخذه وأخذه بدون القتل ومن الإخافة بدون قتل وأخذ شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق التوزيع فقيل (أَنْ يُقَتَّلُوا) أى حدا من غير صلب إن أفردوا القتل ولو عفا الأولياء لا يلتفت إلى ذلك* لأنه حق الشرع ولا فرق بين أن يكون القتل بآلة جارحة أولا (أَوْ يُصَلَّبُوا) أى مع القتل إن جمعوا بين* القتل والأخذ بأن يصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح إلى أن يموتوا وفى ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وصيغة التفعيل فى الفعلين للتكثير وقرىء بالتخفيف فيهما (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) أى أيديهم اليمنى وأرجلهم* اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمى وكان المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمته أما قطع أيديهم فلأخذ المال وأما قطع أرجلهم فلإخافة الطريق بتفويت أمنه (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعى للفساد والمراد بالنفى عندنا هو الحبس*

٣١

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣٥)

____________________________________

فإنه نفى عن وجه الأرض لدفع شرهم عن أهلها ويعزرون أيضا لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن وعند الشافعى رضى الله عنه النفى من بلد إلى بلد لا يزال يطلب وهو هارب فزعا وقيل هو النفى عن بلده* فقط وكانوا ينفونهم إلى دهلك وهو بلد فى أقصى تهامة وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة (ذلِكَ) أى* ما فصل من الأحكام والأجزية قيل هو مبتدأ وقوله تعالى (لَهُمْ خِزْيٌ) جملة من خبر مقدم على المبتدأ* وقوله تعالى (فِي الدُّنْيا) متعلق بمحذوف وقع صفة لخزى أو متعلق بخزى على الظرفية والجملة فى محل الرفع على أنها خبر لذلك وقيل خزى خبر لذلك ولهم متعلق بمحذوف وقع حالا من خزى لأنه فى الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا وفى الدنيا إما صفة لخزى أو متعلق به على مامر والخزى الذل* والفضيحة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) غير هذا (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره لغاية عظم جنايتهم فقوله تعالى (أَرْجُلُهُمْ) خبر مقدم و (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر و (فِي الْآخِرَةِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من (عَذابٌ) لأنه فى الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا أى كائنا فى الآخرة (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثناء* مخصوص بما هو من حقوق الله عزوجل كما ينبىء عنه قوله تعالى (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أما ما هو من حقوق الأولياء من القصاص ونحوه فإليهم ذلك إن شاءوا عفوا وإن أحبوا استوفوا وإنما يسقط بالتوبة وجوب استيفائه لا جوازه وعن على رضى الله عنه أن الحرث بن بدرجاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق فقبل توبته ودرأ عنه العقوبة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) لما ذكر عظم شأن القتل والفساد وبين حكمهما وأشير فى تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته أمر المؤمنون بأن يتقوه تعالى فى كل ما يأتون وما يذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصى التى من جملتها ما ذكر من القتل والفساد وبفعل الطاعات التى من زمرتها السعى فى إحياء النفوس ودفع الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار* (وَابْتَغُوا) أى اطلبوا لأنفسكم (إِلَيْهِ) أى إلى ثوابه والزلفى منه (الْوَسِيلَةَ) هى فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصى من وسل إلى كذا أى تقرب إليه بشىء وإليه متعلق بها قدم عليها للاهتمام به وليست بمصدر حتى لا تعمل فيما قبلها ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به فإنه ملاك الأمر كله كما أشير إليه وذريعة لنيل كل خير ومنجاة من كل ضير فالجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد أو مطلق الوسيلة وهو داخل فيها دخولا أوليا وقيل الجملة الأولى أمر بترك المعاصى والثانية أمر بفعل الطاعات وحيث كان فى كل من ترك المعاصى المشتهاة للنفس وفعل الطاعات المكروهة* لها كلفة ومشقة عقب الأمر بهما بقوله تعالى (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) بمحاربة أعدائه البارزة والكامنة* (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بنيل مرضاته والفوز بكراماته.

٣٢

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣٦)

____________________________________

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة وترغيب المؤمنين فى المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عزوجل قبل انقضاء أو انه ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلا عن نيل الثواب (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) أى لكل واحد منهم كما فى قوله* تعالى (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) الخ لا لجميعهم إذ ليس فى ذلك هذه المرتبة من تهويل الأمر وتفظيع الحال (ما فِي الْأَرْضِ) أى من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة وهو اسم أن ولهم خبرها ومحلها* الرفع بلا خلاف خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر الاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد لو وقيل الخبر محذوف ثم قيل يقدر مقدما أى لو ثابت كون ما فى الأرض لهم وقيل يقدر مؤخرا أى لو كون ما فى الأرض لهم ثابت وعند المبرد والزجاج والكوفيين رفع على الفاعلية والفعل مقدر بعد لو أى لو ثبت أن لهم ما فى الأرض وقوله تعالى (جَمِيعاً) توكيد للموصول أو حال منه (وَمِثْلَهُ) بالنصب عطف عليه وقوله تعالى (مَعَهُ) ظرف وقع* حالا من المعطوف والضمير راجع إلى الموصول وفائدته التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقا لكمال فظاعة الأمر مع ما فيه من نوع إشعار بكونهما شيئا واحدا وتمهيدا لإفراد الضمير الراجع إليهم واللام فى قوله تعالى (لِيَفْتَدُوا بِهِ) متعلقة بما تعلق به خبر أن أعنى الاستقرار* المقدر فى لهم وبالخبر المقدر عند من يرى تقدير الخبر مقدما أو مؤخرا وبالفعل المقدر بعد لو على رأى المبرد ومن نحا نحوه ولا ريب فى أن مدار الافتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزما له والباء فى به متعلقة بالافتداء والضمير راجع إلى الموصول ومثله معا وتوحيده إما لما أشير إليه وإما لإجرائه مجرى اسم الإشارة كأنه قيل بذلك كما فى قوله [كأنه فى الجلد توليع البهق] أى كأن ذلك وقيل هو راجع إلى الموصول والعائد إلى المعطوف أعنى مثله محذوف كما حذف الخبر من قيار فى قوله [فإنى وقيار بها لغريب] أى وقيار أيضا غريب وقد جوز أن يكون نصب ومثله على أنه مفعول معه ناصبه الفعل المقدر بعد لو تفريعا على مذهب المبرد ومن رأى رأيه وأنت خبير بأن يؤدى إلى كون الرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبار المعية بين ما فى الأرض ومثله فى الكينونة لهم لا فى ثبوت تلك الكينونة وتحقيقها ولا مساغ لجعل ناصبه الاستقرار المقدر فى لهم لما أن سيبويه قد نص على اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن للاستقرار لا يعملان فى المفعول معه وأن قوله هذا لك وأباك قبيح وإن جوزه بعض النحاة فى الظرف وحرف الجر وقوله تعالى (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) * متعلق بالافتداء أيضا أى لو أن ما فى الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع يومئذ (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ذلك وهو جواب لو وترتيبه على كون ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير

٣٣

(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣٨)

____________________________________

ذكر الافتداء بأن يقال وافتدوا به مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غنى عن الذكر وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر أو للمبالغة فى تحقق الرد وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج ما فى قوله تعالى (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) حيث لم يقل فأتى به فرآه فلما الخ وما فى قوله تعالى (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) من غير ذكر خروجه عليه‌السلام عليهن ورأيتهن له والجملة الامتناعية بحالها خبر إن الذين كفروا والمراد تمثيل لزوم العذاب لهم واستحالة نجاتهم منه بوجه من الوحوه المحققة والمفروضة وعن النبى عليه الصلاة والسلام يقال للكافر أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقال له قد* سئلت أيسر من ذلك وهو كلمة الشهادة وقوله تعالى (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تصريح بما أشير إليه بعدم قبول فديتهم لزيادة تقريره وبيان هو له وشدته قيل محله النصب على الحالية وقيل الرفع عطفا على خبر إن وقيل عطف على (إِنَّ الَّذِينَ) فلا محل له كالمعطوف عليه (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) استئناف مسوق لبيان حالهم فى أثناء مكابدة العذاب مبنى على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فكيف يكون حالهم أو ماذا يصنعون فقيل يريدون الخ وقد بين فى تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار قيل إنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرج فيلفحهم لهب النار ويرفعهم إلى فوق فهناك يريدون الخروج ولات حين مناص وقيل يكادون* يخرجون منها لقوة النار وزيادة رفعها إياهم وقيل يتمنونه ويريدونه بقلوبهم وقوله عزوجل (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) إما حال من فاعل يريدون أو اعتراض وأياما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة بما الحجازية الدالة بما فى خبرها من الباء على تأكيد النفى لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت تفيد السلبية أيضا بمعونته دوام النفى* لا نفى الدوام كما مر فى قوله تعالى (ما أَنَا بِباسِطٍ) الخ وقرىء أن يخرجوا على بناء المفعول من الإخراج (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) تصريح بما أشير إليه آنفا من عدم تناهى مدته بعد بيان شدته (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) شروع فى بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى وقد عرفت اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من المقال ولما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال صرح بالسارقة أيضا مع أن المعهود فى الكتاب والسنة إدراج النساء فى الأحكام الواردة فى شأن الرجال بطريق الدلالة لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة فى الزجر وهو مبتدأ خبره عند سيبويه محذوف تقديره وفيما يتلى عليكم أو وفيما فرض عليكم السارق* والسارقة أى حكمهما وعند المبرد قوله تعالى (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ المعنى الذى سرق والتى سرقت وقرىء بالنصب وفضلها سيبويه على قراءة الرفع لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بتأويل وإضمار والسرقة أخذ مال الغير خفية وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز

٣٤

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٠)

____________________________________

والمأخوذ يساوى عشرة دراهم فما فوقها مع شروط فصلت فى موقعها والمراد بأيديهما أيمانهما كما يفصح عنه قراءة ابن مسعود رضى الله تعالى عنه والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما فى قوله تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) اكتفاء بتثنية المضاف إليه واليد اسم لتمام الجارحة ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتى بسارق فأمر بقطع يمينه منه (جَزاءً) نصب على أنه مفعول له أى فاقطعوا للجزاء أو مصدر مؤكد* لفعله الذى يدل عليه فاقطعوا أى فجاوزهما جزاء وقوله تعالى (بِما كَسَبا) على الأول متعلق بجزاء* وعلى الثانى باقطعوا وما مصدرية أى بسبب كسبهما أو موصولة أى ما كسباه من السرقة التى تباشر بالأيدى وقوله تعالى (نَكالاً) مفعول له أيضا على البدلية من جزاء لأنهما من نوع واحد وقيل القطع* معلل بالجزاء والقطع المعلل معلل بالنكال وقيل هو منصوب بجزاء على طريقة الأحوال المتداخلة فانه علة للجزاء والجزاء علة للقطع كما إذا قلت ضربته تأديبا له إحسانا إليه فإن الضرب معلل بالتأديب والتأديب معلل بالإحسان وقد أجازوا فى قوله عزوجل (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أن يكون بغيا مفعولا له ناصبه أن يكفروا ثم قالوا إن قوله تعالى (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) مفعول له ناصبه (بَغْياً) على أن الثنزيل علة للبغى والبغى علة للكفر وقوله تعالى (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع* صفة لنكالا أى نكالا كائنا منه تعالى (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره يمضيه كيف يشاء من غيرند ينازعه* ولا ضد يمانعه (حَكِيمٌ) فى شرائعه لا يحكم إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولذلك شرع هذه الشرائع* المنطوية على فنون الحكم والمصالح (فَمَنْ تابَ) أى من السراق إلى الله تعالى (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) الذى هو سرقته والتصريح به مع أن التوبة لا تتصور قبله لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته (وَأَصْلَحَ) * أى أمره بالتفصى عن تبعات ما باشره والعزم على ترك المعاودة إليها (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أى يقبل توبته* فلا يعذبه فى الآخرة وأما القطع فلا تسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه وتسقطه عند الشافعى فى أحد قوليه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبالغ فى المغفرة والرحمة ولذلك يقبل توبته وهو تعليل لما قبله* وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وتأييد استقلال الجملة وكذا فى قوله عزوجل (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ والجملة خبر لأن وهى مع ما فى حيزها سادة مسد مفعولى تعلم عند الجمهور وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين وقيل لكل أحد صالح للخطاب والاستفهام الإنكارى لتقرير العلم والمراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى

٣٥

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٤١)

____________________________________

على ما سيأتى من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أى ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهما وفيما فيهما إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة إلى غير* ذلك حسبما تقتضيه مشيئته (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من غير ند يساهمه ولا ضد يزاحمه وتقديم التعذيب على المغفرة لمراعاة ما بين سببيهما من الترتيب والجملة إما تقرير لكون* ملكوت السموات والأرض له سبحانه أو خبر آخر لأن (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة والإظهار فى موقع الإضمار لما مر مرارا والجملة تدييل مقرر لما قبلها (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خوطب عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن والمسارعة فى الشىء الوقوع فيه بسرعة ورغبة وإيثار كلمة فى على كلمة إلى الواقعة فى قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) الخ للإيماء إلى أنهم مستقرون فى الكفر لا يبرحونه وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك كما فى قوله تعالى (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فإنهم مستمرون على الخير مسارعون فى أنواعه وأفراده والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما فى حيز صلته إلى مدار الحزن وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه عليه الصلاة والسلام بمسارعتهم فى الكفر لكنه فى الحقيقة نهى له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة بهم على أبلغ وجه وآكده فإن النهى عن أسباب الشىء ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهانى وقلع له من أصله وقد يوجه النهى إلى المسبب ويراد به النهى عن السبب كما فى قوله لا أرينك ههنا يريد نهى مخاطبه عن الحضور بين يديه وقرىء لا يحزنك من أحزنه منقولا من حزن بكسر الزاى وقرىء يسرعون يقال أسرع فيه الشيب* أى وقع فيه سريعا أى لا تحزن ولا تبال بتهافتهم فى الكفر بسرعة وقوله تعالى (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) بيان للمسارعين فى الكفر وقيل متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يسارعون وقيل من* الموصول أى كائنين من الذين الخ والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا وقوله تعالى (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) جملة حالية* من ضمير قالوا وقيل عطف على قالوا وقوله تعالى (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) عطف على من الذين قالوا الخ* وبه يتم بيان المسارعين فى الكفر بتقسيمهم إلى قسمين المنافقين واليهود فقوله تعالى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر لمبتدأ محذوف راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين وأما رجوعه إلى الذين هادوا فمخل بعموم

٣٦

الوعيد الآتى ومباديه للكل كما ستقف عليه وكذا جعل قوله ومن الذين الخ خبرا على أن قوله سماعون صفة لمبتدأ محذوف أى ومنهم قوم سماعون الخ لأدائه إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم فالوجه ما ذكر أولا أى هم سماعون واللام إما لتقوية العمل وإما لتضمين السماع معنى القبول وإما لام كى والمفعول محذوف والمعنى هم مبالغون فى سماع الكذب أو فى قبول ما يفتريه أحبارهم من الكذب على الله سبحانه وتحريف كتابه أو سماعون أخباركم وأحاديثكم ليكذبوا عليكم بأن يمسخوها بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير أو أخبار الناس وأقاويلهم الدائرة فيما بينهم ليكذبوا فيها بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم ونحو ذلك مما يضربهم وأياما كان فالجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهى فإن كونهم سماعين للكذب على الوجوه المذكورة وابتناء أمورهم على ما لا أصل له من الأباطيل والأراجيف مما يقتضى عدم المبالاة بهم وترك الاعتداد بما يأتون وما يذرون للقطع بظهور بطلان أكاذيبهم واختلال ما بنوا عليها من الأفاعيل الفاسدة المؤدية إلى الخزى والعذاب كما سيأتى وقرىء سماعين للكذب بالنصب على الذم وقوله تعالى (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) * خبر ثان للمبتدأ المقدر مقرر للأول ومبين لما هو المراد بالكذب على الوجهين الأولين واللام مثل ما فى سمع الله لمن حمده فى الرجوع إلى معنى من أى قبل منه حمده والمعنى مبالغون فى قبول كلام قوم آخرين وأما كونها لام التعليل بمعنى سماعون منه عليه الصلاة والسلام لأجل قوم آخرين وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه عليه الصلاة والسلام أو كونها متعلقة بالكذب على أن سماعون الثانى مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين فلا يكاد يساعده النظم الكريم أصلا وقوله تعالى (لَمْ يَأْتُوكَ) صفة* أخرى لقوم أى لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وإفراطا فى البغضاء قيل هم بهود خيبر والسماعون بنو قريظة وقوله تعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) صفة أخرى لقوم وصفوا أولا بمغايرتهم* للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم فى الرأى والتدبير. ثم بعدم حضورهم مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام إيذانا بكمال طغيانهم فى الضلال ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم فى العتو والمكابرة والاجتراء على الافتراء على الله تعالى وتعيينا للكذب الذى سمعه السماعون أى يميلونه ويزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها إما لفظا بإهماله أو تغيير وضعه وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه فى غير مورده وقيل الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم وقيل خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم وقوله تعالى (يَقُولُونَ) كالجملة السابقة فى الوجوه المذكورة ويجوز أن يكون حالا من* ضمير يحرفون وأما تجويز كونها صفة لسماعون أو حالا من الضمير فيه فما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمخاطب به ممن يحضره فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن لا يحوم حوله قطعا وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم والحق الذى لا محيد عنه أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أى يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلهم الباطلة مشيرين إلى كلامهم الباطل (إِنْ أُوتِيتُمْ) من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هذا فَخُذُوهُ) واعملوا بموجبه فإنه الحق (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل أوتيتم*

٣٧

* غيره (فَاحْذَرُوا) أى فاحذروا قبوله وإياكم وإياه وفى ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة فى التحذير ما لا يخفى. روى أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم فى التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بنى قريظة ليسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك وقالوا إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال جبريل عليه‌السلام اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل تعرفون شابا أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صور يا قالوا نعم وهو أعلم يهودى على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بن عمران فى التوراة قال فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم فقال له النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنت أعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال لهم أترضون به حكما قالوا نعم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنشدك الله الذى لا إله إلا هو الذى فلق البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى ورفع فوقكم الطور وأنزل عليكم التوراة فيها حلاله وحرامه هل تجدون فى كتابكم الرجم على من أحصن قال نعم والذى ذكرتنى به لولا خشيت أن يحرقنى التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هى فى كتابك يا محمد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا شهد أربعة رهط عدول أنه أدخل فيها كما يدخل الميل فى المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا والذى أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله فى التوراة على موسى فوثب عليه سفلة اليهود فقال خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبى الأمى العربى الذى بشر به* المرسلون وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أى ضلالته أو فضيحته كائنا من كان فيندرج فيه المذكورون اندارجا أوليا وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بكمال* ظهوره واستغنائه عن ذكره (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ) فلن تستطيع له (مِنَ اللهِ شَيْئاً) فى دفعها والجملة مستأنفة* مقررة لما قبلها ومبينة لعدم انفكاكهم عن القبائح المذكورة أبدا (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين من المنافقين واليهود وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الفساد وهو مبتدأ خبره قوله* تعالى (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أى من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهما كهم فيهما وإصرارهم عليهما وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية بالكلية كما ينبىء عنه وصفهم بالمسارعة فى الكفر أولا وشرح فنون ضلالاتهم آخرا والجملة استثناف مبين لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم وقبح صنيعهم الموجب لها لا واقعة منه تعالى ابتداء (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترتهم بظهور نفاقهم فيما بين المسلمين وأما خزى اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم فى كتمان نص التوراة وتنكير خزى للتفخيم وهو مبتدأ ولهم خبره وفى الدنيا متعلق بما* تعلق به الخبر من الاستقرار وكذا الحال فى قوله تعالى (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أى مع الخزى الدنيوى* (عَذابٌ عَظِيمٌ) هو الخلود فى النار وضمير لهم فى الجملتين للمنافقين واليهود جميعا لا اليهود خاصة كما قيل وتكرير لهم مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد والجملتان استئناف مبنى على سؤال نشأ من تفصيل أفعالهم وأحوالهم الموجبة للعقاب كأنه قيل فما لهم من العقوبة فقيل لهم فى الدنيا الآية.

٣٨

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٢)

____________________________________

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر آخر للمبتدأ المقدر كرر تأكيدا لما قبله وتمهيدا لما بعده من قوله تعالى (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وهو أيضا خبر آخر للمقدر وارد على طريقة الذم أو بناء على أن المراد بالكذب ما يفتعله الراشون عند الأكالين والسحت بضم السين وسكون الحاء فى الأصل كل مالا يحل كسبه وقيل هو الخرام مطلقا من سحته إذا استأصله سمى به لأنه مسحوت البركة والمراد به ههنا إما الرشا التى كان يأخذها المحرفون على تحريفهم وسائر أحكامهم الزائغة وهو المشهور أو ما كان يأخذه فقراؤهم من أغنيائهم من المال ليقيموا على اليهودية كما قيل وإما مطلق الحرام المنتظم لما ذكر انتظاما أوليا وقرىء للسحت بضم السين والحاء وبفتحهما وبفتح السين وسكون الحاء وبكسر السين وسكون الحاء وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به (فَإِنْ جاؤُكَ) لما بين تفاصيل أمورهم الواهية وأحوالهم المختلفة الموجبة لعدم المبالاة بهم* وبأفاعليهم حسبما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض ما يبتنى عليه من الأحكام بطريق التفريع والفاء فصيحة أى وإذا كان حالهم كما شرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) غير مبال بهم ولا خائف من جهتهم أصلا وهذا كما ترى تخيير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الأمرين فقيل هو فى أمر خاص هو ما ذكر من زنا المحصن وقيل فى قتيل قتل من اليهود فى بنى قريظة والنضير فتحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بنو قريظة إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد وإذا قتلوا منا قتيلا لم يرضوا بالقود وأعطونا سبعين وسقا من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا وبالرجل منهم الرجلين منا وبالعبد منهم الحر منا فاقض بيننا فجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدية سواء وقيل هو عام فى جميع الحكومات ثم اختلفوا فمن قائل إنه ثابت وهو المروى عن عطاء والنخعى والشعبى وقتادة وأبى بكر الأصم وأبى مسلم وقائل إنه منسوخ وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله تعالى (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) نسخها قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وقوله تعالى (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) نسخها قوله تعالى (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وعليه مشايخنا (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أن لا ضرر فيه حيث كان مظنة الضرر لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم فتشتد عداوتهم ومضاراتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمنه الله عزوجل بقوله (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) من الضرر فإن الله عاصمك من الناس (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل الذى أمرت به كما حكمت بالرجم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ومن ضرورته أن يحفظهم* عن كل مكروه ومحذور.

٣٩

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤)

____________________________________

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه والحال أن الحكم منصوص عليه فى كتابهم الذى يدعون الإيمان به وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا به ما هو أهون عليهم وإن لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم فقوله تعالى (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) حال من فاعل (يُحَكِّمُونَكَ) وقوله تعالى (فِيها حُكْمُ اللهِ) حال من (التَّوْراةُ) إن جعلت مرتفعة بالظرف وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن فى الخبر وقيل استئناف مسوق لبيان أن عندهم* ما يغنيهم عن التحكيم وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث فى كلامهم كموماة ودوداة (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) عطف على* (يُحَكِّمُونَكَ) داخل فى حكم التعجيب وثم للتراخى فى الرتبة وقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أى من بعد ما حكموك تصريح بما علم قطعا لتأكيد الاستبعاد والتعجيب أى ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد* ما رضوا بحكمك وقوله تعالى (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) تذييل مقرر لفحوى ما قبله ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم للقصد إلى إحضارهم فى الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماء إلى علة الحكم وإلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تمييز حتى انتظموا فى سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم فى العتو والمكابرة أى وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين أى بكتابهم لإعراضهم عنه أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا أو بهما وقيل وما أولئك بالكاملين فى الإيمان تهكمابهم (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) كلام مستأنف سيق لبيان علو شأن التوراة ووجوب مراعاة أحكامها وأنها لم تزل مرعية فيما بين الأنبياء ومن يقتدى بهم كابرا عن كابر مقبولة لكل أحد من الحكام والمتحاكمين محفوظة عن المخالفة* والتبديل تحقيقا لما وصف به المحرفون من عدم إيمانهم بها وتقريرا لكفرهم وظلمهم وقوله تعالى (فِيها هُدىً وَنُورٌ) حال من التوراة فإن ما فيها من الشرائع والأحكام من حيث إرشادها للناس إلى الحق الذى لا محيد عنه هدى ومن حيث إظهارها وكشفها ما استبهم من الأحكام وما يتعلق بها من الأمور المستورة* بظلمات الجهل نور وقوله تعالى (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) أى أنبياء بنى إسرائيل وقيل موسى ومن بعده من الأنبياء جملة مستأنفة مبينة لرفعة رتبتها وسمو طبقتها وقد جوز كونه حالا من التوراة فيكون حالا مقدرة أى يحكمون بأحكامها ويحملون الناس عليها وبه تمسك من ذهب إلى أن شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن فى المؤخر وما يتعلق به نوع طول ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم وقوله

٤٠