تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) (١٥٦)

____________________________________

وَصَّاكُمْ بِهِ) بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه فعلنا ذلك ثم آتينا الخ كما أن قوله تعالى (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) معطوف على ما يدل عليه معنى أو لم يهد الخ كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع الخ وأما عطفه على (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) ونظمه معه فى سلك الكلام الملقن كما أجمع عليه الجمهور فمما لا يليق بجزالة النظم الكريم فندبر وثم للتراخى فى الأخبار كما فى قولك بلغنى ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب أو للتفاوت فى الرتبة كأنه قيل ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة فإن إيتاءها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها أعظم من التوصية بها فقط (تَماماً) للكرامة والنعمة أى إتماما* لهما على أنه مصدر من أتم بحذف الزوائد (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أى على من أحسن القيام به كائنا من كان* ويؤيده أنه قرىء على الذين أحسنوا وتماما على المحسنين أو على الذى أحسن تبليغه وهو موسى عليه‌السلام أو تماما على ما أحسنه موسى عليه‌السلام أى أجاده من العلم والشرائع أى زيادة على علمه على وجه التتميم وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى على الذى هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تماما أى تاما كاملا على أحسن ما يكون عليه الكتب (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج* إليه فى الدين وهو عطف على تماما ونصبهما إما على العلية أو على المصدرية كما أشير إليه أو على الحالية وكذا قوله تعالى (وَهُدىً وَرَحْمَةً) وضمير (لَعَلَّهُمْ) لبنى إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى وإيتاء الكتاب* والباء فى قوله تعالى (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) متعلقة بقوله تعالى (يُؤْمِنُونَ) قدمت عليه محافظة على الفواصل قال* ابن عباس رضى الله عنهما كى يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعذاب (وَهذا) أى الذى تليت عليكم أوامره ونواهيه أى القرآن (كِتابٌ) عظيم الشأن لا يقادر قدره وقوله تعالى (أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) أى كثير* المنافع دينا ودنيا صفتان لكتاب وتقديم وصف الإنزال مع كونه غير صريح لأن الكلام مع منكريه أو خبران آخران لاسم الإشارة أى أنزلناه مشتملا على فنون الفوائد الدينية والدنيوية التى فصلت عليكم طائفة منها والفاء فى قوله تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب فى نفسه* وكونه منزلا من جنابه عزوجل مستتبعا للمنافع الدينية والدنيوية موجب لاتباعه أى إيجاب (وَاتَّقُوا) * مخالفته (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بواسطة اتباعه والعمل بموجبه (أَنْ تَقُولُوا) علة لأنزلناه المدلول عليه بالمذكور لا لنفسه للزوم الفصل حينئذ بين العامل والمعمول بأجنبى هو مبارك وصفا كان أو خبرا أى أنزلناه كذلك كراهة أن تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) الناطق بتلك الأحكام العامة لكل الأمم* (عَلى طائِفَتَيْنِ) كائنتين (مِنْ قَبْلِنا) وهما اليهود والنصارى وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما الذى* اشتهر حينئذ فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام لا سيما الأحكام المذكورة (وَإِنْ كُنَّا) *

٢٠١

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧)

____________________________________

إن هى المخففة من إن واللام فارقة بينهما وبين النافية وضمير الشأن محذوف ومرادهم بذلك دفع ما يرد* عليهم من أن نزوله عليهما لا ينافى عموم أحكامه فلم لم تعملوا بأحكامه العامة أى وإنه كنا (عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) لا ندرى ما فى كتابهم إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها وإن لم يكن منزلا علينا وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما فى الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط (أَوْ تَقُولُوا) عطف على (تَقُولُوا) وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات* من خطاب فاتبعوه واتقوا (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) كما أنزل عليهم (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) إلى الحق الذى هو المقصد الأقصى أو إلى ما فى تضاعيفه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقها لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا من فنون العلم كالقصص والأخبار والخطب والأشعار ونحو ذلك طرفا* صالحا ونحن أميون وقوله تعالى (فَقَدْ جاءَكُمْ) متعلق بمحذوف ينبىء عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أى لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ وإما شرط له أى إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم* أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم (بَيِّنَةٌ) وأى بينة* أى حجة واضحة لا يكتنه كنهها وقوله تعالى (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق ب (جاءَكُمْ) أو بمحذوف هو صفة لبينة أى بينة كائنة منه تعالى وأيا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافى كما أن فى تنوينها التفخيمى دلالة على فضلها الذاتى وفى التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تأكيد لإيجاب الاتباع* (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) عطف على (بَيِّنَةٌ) وتنوينهما أيضا تفخيمى عبر عن القرآن بالبينة إيذانا بكمال تمكنهم من دراسته ثم بالهدى والرحمة تنبيها على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم* بل هو عين الهداية والرحمة (فَمَنْ أَظْلَمُ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجىء القرآن المشتمل على* الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه أى وإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم (مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) وضع الموصول موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصا على اتصافهم بما فى حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم وإسقاطا لهم عن رتبة الخطاب وعبر عما جاءهم بآيات الله تهويلا للأمر وتنبيها على أن تكذيب أى آية كانت من آيات الله تعالى كاف فى الأظلمية فما ظنك بتكذيب القرآن المنطوى على الكل والمعنى إنكار أن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها فإذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل منه فالمراد به حتما بحكم العرف الفاشى* والاستعمال المطرد أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وقد مر مرارا (وَصَدَفَ عَنْها)

٢٠٢

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨)

____________________________________

أى صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ) الناس (عَنْ آياتِنا) * وعيد لهم ببيان جزاء إضلالهم بحيث يفهم منه جزاء ضلالهم أيضا ووضع الموصول موضع المضمر لتحقيق مناط الجزاء (سُوءَ الْعَذابِ) أى العذاب السيىء الشديد النكاية (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أى بسبب* ما كانوا يفعلون الصدف والصرف على التجدد والاستمرار وهذا تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما فى حيز الصلة له (هَلْ يَنْظُرُونَ) استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى وأنهم لا يرعوون عن التمادى فى المكابرة واقتراح ما ينافى الحكمة التشريعية من الآيات الملجئة وأن الإيمان عند إتيانها مما لا فائدة له أصلا مبالغة فى التبليغ والإنذار وإزاحة العلل والأعذار أى ما ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) حسبما اقترحوا بقولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) وبقولهم (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) وبقولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ونحو ذلك أو إلا أن تأتيهم ملائكة العذاب أو يأتى أمر ربك بالعذاب والانتظار محمول على التمثيل كما سيجىء وقرىء يأتيهم بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقى (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أى غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ونحو ذلك من عظائم الآيات التى علقوا بها إيمانهم والتعبير عنها بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات فى الموضعين إلى اسم الرب المنبىء عن المالكية الكلية لذلك وإضافته إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتشريف وقيل المراد بالملائكة ملائكة الموت وبإتيانه سبحانه وتعالى إتيان كل آياته بمعنى آيات القيامة والهلاك الكلى بقرينة ما بعده من إتيان بعض آياته تعالى على أن المراد به أشراط الساعة التى هى الدخان ودابة الأرض وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه‌السلام ونار تخرج من عدن كما نطق به الحديث الشريف المشهور وحيث لم يكن إتيان هذه الأمور مما ينتظرونه كإتيان ما اقترحوه من الآيات فإن تعليق إيمانهم بإتيانها انتظار منهم له ظاهرا حمل الانتظار على التمثيل المبنى على تشبيه حالهم فى الإصرار على الكفر والتمادى فى العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التى لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتها البتة بحال المنتظرين لها وأنت خبير بأن النظم الكريم بسباقه المنبىء عن تماديهم فى تكذيب آيات الله تعالى وعدم الاعتداد بها وسياقه الناطق بعدم نفع الإيمان عند إتيان ما ينتظرونه يستدعى أن يحمل ذلك على أمور هائلة مخصوصة بهم إما بأن تكون عبارة عما اقترحوه أو عن عقوبات مترتبة على جناياتهم كإتيان ملائكة العذاب وإتيان أمره تعالى بالعذاب وهو الأنسب لما سيأتى من قوله تعالى (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) وأما حمله على ما ذكر من إتيان ملائكة الموت وإتيان كل آيات القيامة وظهور أشراط الساعة مع شمول إتيانها

٢٠٣

لكل بروفاجر واشتمال غائلتها على كل مؤمن وكافر فمما لا يساعده المقام على أن بعض أشراط الساعة ليس* مما ينسد به باب الإيمان والطاعة نعم يجوز حمل بعض الآيات فى قوله عزوجل (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) على ما يعم مقترحاتهم وغيرها من الدواهى العظام السالبة للاختيار الذى عليه يدور فلك التكليف فإنه بمنزلة الكبرى من الشكل الأول فيتم التقريب عند وقوعها بدخول ما ينتظرونه فى ذلك دخولا أوليا* ويوم منصوب بقوله تعالى (لا يَنْفَعُ) فإن امتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها عند وقوعها جواب القسم وقرىء* يوم بالرفع على الابتداء والخبر هو الجملة والعائد محذوف أى لا ينفع فيه (نَفْساً) من النفوس (إِيمانُها) حينئذ لانكشاف الحال وكون الأمر عيانا ومدار قبول الإيمان أن يكون بالغيب كقوله تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وقرىء لا تنفع بالتاء الفوقانية لاكتساب الإيمان من ملابسة المضاف إليه* تأنيثا وقوله تعالى (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) أى من قبل إتيان بعض الآيات صفة لنفسا فصل بينهما* بالفاعل لاشتماله على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبى منه لاشتراكهما فى العامل (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على آمنت بإيراد الترديد على النفى المفيد لكفاية أحد النفيين فى عدم النفع والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم تقدم إيمانها أو قدمته ولم تكسب فيه خيرا ومن ضرورته اشتراط النفع بتحقق الأمرين أى الإيمان المقدم والخير المكسوب فيه معا بمعنى أن النافع هو تحققهما والإيمان المؤخر لغو وتحصيل للحاصل لا أنه هو النافع وتحققهما شرط فى نفعه كما لو كان المقدم غير المؤخر بالذات فإن قولك لا ينفع الصوم والصدقة من لم يؤمن قبلهما معناه أنهما ينفعانه عند وقوعهما بعد الإيمان وقد استدل به أهل الاعتزال على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن الأعمال وليس بناهض ضرورة صحة حمله على نفى الترديد المستلزم لعمومه المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معا وبمفهومة لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلودون الانفصال الحقيقى فالمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم يصدر عنها من قبل أحد الأمرين إما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق النفع بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث وما قيل من أن عدم الايمان السابق مستلزم لعدم كسب الخير فيه بالضرورة فيكون ذكره تكرارا بلا فائدة على أن الموجب للخلود فى النار هو العدم الأول من غير أن يكون للثانى دخل ما فى ذلك قطعا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلود لغوا من الكلام ـ لغو من الكلام مبنى على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الايمان الحادث فى إنجائها عنه وليس كذلك وإلا لكفى فى البيان أن يقال لا ينفع نفسا إيمانها الحادث بل المقصد الأصلى من وصفها بذينك العدمين فى أثناء بيان عدم نفع الايمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكتيهما أعنى الايمان السابق والخير المكسوب فيه بما ذكر من الطريقة والترغيب فى تحصيلهما فى ضمن التحذير من تركهما ولا سبيل إلى أن يقال كما أن عدم الأول مستقل فى إيجاب الخلود فى النار فيلغو ذكر عدم الثانى كذلك وجوده مستقل فى إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثانى لغوا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل وأما الخلاص عنها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الايمان وبعضها على فروعه

٢٠٤

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩)

____________________________________

المتفاوتة كما وكيفا وإنما لم يقتصر على بيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه هو المقابل لما لا يوجبه أصلا أعنى الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضا إرشادا إلى تحرى الأعلى وتنبيها على كفاية الأدنى وإقناطا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة من أعمال البر التى عملوها فى الكفر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفك العناة وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف وغير ذلك مما هو من باب المكارم ببيان أن كل ذلك لغو بحت لا بتنائه على غير أساس حسبما نطق به قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) الآية ونحو ذلك من النصوص الكريمة وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة ولك أن تقول المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة فى تمردهم وتفريطهم فى كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطا بالآخر كما فى قوله عزوجل (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) تسجيلا بكمال طغيانهم وإيذانا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع فى حق المؤاخذة كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) إذا تحققت هذا وفقت على أن الآية الكريمة أحق بأن تكون حجة على المعتزلة من أن تكون حجة لهم هذا وقد قيل إنها من باب اللف التقديرى أى لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها فى الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه وليس بواضح فإن مبنى اللف التقديرى أن يكون المقدر من متممات الكلام ومقتضيات المقام قد ترك ذكره تعويلا على دلالة الملفوظ عليه واقتضائه إياه كما مر فى تفسير قوله عزوجل (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) فإنه قد طوى فى المفصل ذكر حشر المؤمنين ثقة بأنباء التفصيل عنه أعنى قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ولا ريب فى أن ما قدر ههنا ليس مما يستدعيه قوله تعالى (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) ولا هو من مقتضيات المقام لأنه ليس مما وعدوه وعلقوه بإتيان ما ذكر من الآيات كالإيمان حتى يرد عليهم ببيان عدم نفعه إذ ذاك على أن ذلك مشعر بأن لهم بعد ما أصابهم من الدواهى ما أصابهم بقاء على السلامة وزمانا يتأتى منهم الكسب والعمل فيه وفيه من الاخلال بمقام تهويل الخطب وتفظيع الحال ما لا يخفى وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر قصارى أمرها إسقاط الآية الكريمة عن رتبة المعارضة للنصوص القطعية المنون القوية الدلالة على ما ذكر من كفاية الإيمان المجرد عن العمل فى الانجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيا والى لما تقرر من أن الظنى بمعزل من معارضة القطعى (قُلِ) لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد* (انْتَظِرُوا) ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أى شىء تنتظرون (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) لذلك* لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة وفيه تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان امره تعالى بالعذاب كما أشير إليه وعدة ضمنية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بمعاينتهم لما يحيق بالكفرة من العقاب ولعل ذلك هو الذى شاهدوه يوم بدر والله سبحانه أعلم (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) استئناف

٢٠٥

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦١)

____________________________________

لبيان أحوال أهل الكتابين إثر بيان حال المشركين أى بددوه وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة* منهم وقرىء فارقوا أى باينوا فإن ترك بعضه وإن كان بأخذ بعض آخر منه ترك للكل ومفارقة له (وَكانُوا شِيَعاً) أى فرقا تشيع كل فرقة إماما لها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضى قبل النسخ وأما بعده فالكل فى الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم فمعنى قوله تعالى (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) لست من البحث عن تفرقهم والتعرض لمن يعاصرك منهم بالمناقشة والمؤاخذة وقيل من قتالهم فى شىء سوى تبليغ الرسالة وإظهار شعائر الدين الحق الذى أمرت بالدعوة إليه فيكون منسوخا بآية السيف وقوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) تعليل للنفى المذكور أى هو يتولى وحده أمر أولاهم وأخراهم ويدبره كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة يؤاخذهم فى الدنيا متى شاء ويأمر بقتالهم إذا أراد وقيل المفرقون أهل البدع والأهواء الزائغة من هذه الأمة ويرده أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بمؤاخذتهم والاعتذار بأن معنى لست منهم فى شىء حينئذ أنت برىء منهم ومن مذهبهم وهم برآء منك يأباه التعليل المذكور (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أى يوم القيامة (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة فى أنهما سببان للعلم تنبيها على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أى يظهر لهم على رءوس الأشهاد ويعلمهم أى شىء شنيع كانوا يفعلونه فى الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء وقوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم قال عطاء عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهم يريد من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات أى من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين إذ لا حسنة بغير إيمان فله عشر حسنات أمثالها تفضلا من الله عزوجل وقرىء عشر بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك* قيل المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر فى العدد الخاص (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أى بالأعمال السيئة* كائنا من كان من العاملين (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) بحكم الوعد واحدة بواحدة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبين لهم ما هو عليه من الدين الحق الذى يدعون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمزيد تشريفه أى قل لأولئك المفرقين أرشدنى ربى* بالوحى وبما نصب فى الآفاق رالأنفس من الآيات التكوينية (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى الحق

٢٠٦

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤)

____________________________________

وقوله تعالى (دِيناً) بدل من (إِلى صِراطٍ) فإن محله النصب كما فى قوله تعالى (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أو* مفعول لفعل مضمر يدل عليه المذكور (قِيَماً) مصدر نعت به مبالغة والقياس قوما كعوض فأعل لإعلال* فعله كالقيام وقرىء قيما وهو فعيل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة وإن كان هو أبلغ منه باعتبار الصيغة (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان لدينا (حَنِيفاً) حال من إبراهيم أى مائلا عن الأديان* الباطلة وقوله تعالى (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اعتراض مقرر لنزاهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما عليه المفرقون لدينه من* عقد وعمل أى ما كان منهم فى أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا صرح بذلك ردا على الذين يدعون أنهم على ملته عليه‌السلام من أهل مكة واليهود والمشركين بقولهم عزيز ابن الله والنصارى المشركين بقولهم المسيح ابن الله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) أعيد الأمر لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق بأصولها أى عبادتى كلها وقيل وذبحى جمع بينه وبين الصلاة كما فى قوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وقيل صلاتى وحجى (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أى وما أنا عليه فى حياتى وما أكون عليه عند موتى من الإيمان والطاعة* أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير وقرىء محياى بسكون الياء إجراء للوصل مجرى الوقف (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (لا شَرِيكَ لَهُ) خالصة له لا أشرك فيها غيره (وَبِذلِكَ) إشارة إلى الإخلاص وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته فى الفضل أى بذلك الإخلاص (أُمِرْتُ) لا بشىء* غيره وقوله تعالى (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لبيان مسارعته عليه‌السلام إلى الامتثال بما أمر به وأن ما أمر به* ليس من خصائصه عليه‌السلام بل الكل مأمورون به ويقتدى به عليه‌السلام من أسلم منهم (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) آخر فأشركه فى العبادة (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) جملة حالية مؤكدة للإنكار أى والحال أن كل* ما سواه مربوب له مثلى فكيف يتصور أن يكون شريكا له فى المعبودية (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) * كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا فهذا رد له بالمعنى الأول أى لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر حتى يتأتى ما ذكرتم وقوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ردله بالمعنى الثانى أى لا تحمل يومئذ نفس حاملة حمل نفس أخرى حتى يصح قولكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكل لتأكيد الوعد* وتشديد الوعيد أى إلى مالك أموركم ورجوعكم يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ) يومئذ (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) * ببيان الرشد من الغى وتمييز الحق من الباطل.

٢٠٧

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

____________________________________

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) حيث خلفتم الأمم السالفة أو يخلف بعضكم بعضا أو جعلكم* خلفاء الله تعالى فى أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ) فى الشرف والغنى (فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) كثيرة متفاوتة (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من المال والجاه أى ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر* ماذا تعملون من الشكر وضده (إِنَّ رَبَّكَ) تجريد الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع إضافة اسم الرب إلى* ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإبراز مزيد اللطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَرِيعُ الْعِقابِ) أى عقابه سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه الله تعالى ولم يشكره لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه عن استعمال المبادى* والآلات (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن راعاها كما ينبغى وفى جعل خبر هذه الجملة من الصفات الذاتية الواردة على بناء المبالغة مؤكدا باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هى له من التنبيه على أنه تعالى غفور رحيم بالذات مبالغ فيهما فاعل للعقوبة بالعرض مسامح فيها ما لا يخفى والله أعلم. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزلت على سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة والله تعالى أعلم.

٢٠٨

٧ ـ سورة الأعراف

(مكية وآياتها مائتان وخمس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢)

(سورة الأعراف)

(مكية غير ثمانى آيات من قوله (وَسْئَلْهُمْ) إلى قوله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) وآيها مائتان وخمس)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (المص) إما مسرود على نمط التعديد بأحد الوجهين المذكورين فى فاتحة سورة البقرة فلا محل له من الإعراب وإما اسم للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير هذا المص أى مسمى به وتذكير اسم الإشارة مع تأنيث المسمى لما أن الإشارة إليه من حيث إنه مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمى بالسورة وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم سبق ذكره لما أنه باعتبار كونه بصدد الذكر صار فى حكم الحاضر المشاهد وقوله عزوجل (تابٌ) على الوجه الأول خبر مبتدأ محذوف وهو ما ينبىء عنه تعديد الحروف كأنه قيل المؤلف من جنس هذه الحروف مرادا به السورة كتاب الخ أو اسم إشارة أشير به إليه تنزيلا لحضور المؤلف منه منزلة حضور نفس المؤلف أى هذا كتاب الخ وعلى الوجه الثانى خبر بعد خبر جىء به إثر بيان كونه مترجما باسم بديع منبىء عن غرابته فى نفسه إبانة لجلالة محله ببيان كونه فردا من أفراد الكتب الإلهية حائز للكمالات المختصة بها وقد جوز كونه خبرا و (المص) مبتدأ أى المسمى ؛ المص كتاب وقد عرفت ما فيه من أن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه عند المخاطب وإذ لا عهد بالتسمية قبل فحقها الإخبار بها (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أى من جهته تعالى بنى* الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر فى ترك ذكر مبدأ الإنزال كما فى قوله جل ذكره بلغ ما أنزل إليك من ربك ونظائره والجملة صفة لكتاب مشرفة له ولمن أنزل إليه وجعله خبرا له على معنى كتاب عظيم الشأن أنزل إليك خلاف الأصل (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) أى شك كما فى قوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) خلا أنه عبر عنه بما يلازمه من الحرج فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه مبالغة فى تنزيه ساحته عليه الصلاة والسلام عن نسبة الشك إليه ولو فى ضمن النهى فإنه من الأحوال القلبية التى يستحيل اعتراؤها إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قد يقع من نسبته إليه فى ضمن النهى فعلى طريقة التهيج والإلهاب والمبالغة فى التنفير والتحذير بإيهام أن ذلك من القبح والشرية بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره عنه

٢٠٩

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

____________________________________

* أصلا فكيف بمن يمكن ذلك منه والتنوين للتحقير والجار فى قوله تعالى (مِنْهُ) متعلق ب (حَرَجٌ) يقال حرج منه أى ضاق به صدره أو بمحذوف وقع صفة له أى حرج كائن منه أى لا يكن فيك شك ما فى حقيته أو فى كونه كتابا منزلا إليك من عنده تعالى فالفاء على الأول لترتيب النهى أو الانتهاء على مضمون الجملة فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعا وأما على الثانى فهى لترتيب ما ذكر على الإخبار بذلك لا على نفسه فتدبر وتوجيه النهى إلى الحرج مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عنه إما لما مر من المبالغة فى تنزيهه عليه الصلاة والسلام عن الشك فيما ذكر فإن النهى عن الشىء مما يوهم إمكان صدور المنهى عنه عن المنهى وإما للمبالغة فى النهى فإن وقوع الشك فى صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه عليه الصلاة والسلام به والنهى عن السبب نهى عن المسبب بالطريق البرهانى ونفى له من أصله بالمرة كما فى قوله تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) الآية وليس هذا من قبيل لا أرينك ههنا فإن النهى هناك وارد على المسبب مرادا به النهى عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطى ما يورث الحرج فتأمل وقيل الحرج على حقيقته أى لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك وأن تقصر فى القيام بحقه فإنه عليه الصلاة والسلام كان يخاف تكذيب قومه له وإعراضهم عنه فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فآمنه الله تعالى ونهاه عن المبالاة بهم فالفاء حينئذ للترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به فإن كلا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعا وإن* كان إيجابه الثانى بواسطة الأول وقوله تعالى (لِتُنْذِرَ بِهِ) أى بالكتاب المنزل متعلق بأنزل وما بينهما اعتراض توسط بينهما تقريرا لما قبله وتمهيدا لما بعده وحسبما لتوهم أن مورد الشك هو الإنزال للإنذار وقيل متعلق بالنهى فإن انتفاء الشك فى كونه منزلا من عنده تعالى موجب للإنذار به قطعا وكذا انتفاء الخوف منهم أو العلم بأنه موفق للقيام بحقه موجب للتجاسر على ذلك وأنت خبير بأنه لا يتأتى التفسير الأول لأن تعليل النهى عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه عليه الصلاه والسلام مشعر بأن المنهى عنه ليس محذورا لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب فى فساده وأما على التفسير الثانى فإنما يتأتى التعليل بالإنذار* لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه وقوله تعالى (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) فى حيز النصب بإضمار فعله معطوفا على تنذر أى وتذكر المؤمنين تذكيرا أو الجر عطفا على محل أن تنذر أى للإنذار والتذكير وقيل مرفوع عطفا على (كِتابٌ) أو خبر لمبتدأ محذوف وتخصيص التذكير بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالكفرة أى لتنذر به المشركين وتذكر المؤمنين وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين بطريق التلوين وأمروا باتباع ما أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبله بتبليغه بطريق الإنذار والتذكير وجعله منزلا إليهم بواسطة إنزاله إليه عليه الصلاة والسلام أثر ذكر ما يصححه من الإنذار والتذكير لتأكيد وجوب اتباعه وقوله تعالى

٢١٠

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤)

____________________________________

(مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق بأنزل على أن من لابتداء الغاية مجازا أو بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من* ضميره فى الصلة وفى التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم فى الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه وجعل ما أنزل ههنا عاما للسنة القولية والفعلية بعيد نعم يعمهما حكمه بطريق الدلالة لا بطريق العبارة ولما كان اتباع ما أنزله الله تعالى اتباعا له تعالى عقب الأمر بذلك بالنهى عن اتباع غيره تعالى فقيل (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أى من دون ربكم الذى أنزل إليكم ما يهديكم* إلى الحق ومحله النصب على أنه حال من فافعل فعل النهى أى لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى (أَوْلِياءَ) من الجن والإنس بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم بطريق الوسوسة والإغواء من الأباطيل ليضلوكم عن الحق ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة أو من أولياء قدم عليه لكونه نكرة إذ لو أخر عنه لكان صفة له أى أولياء كائنة غيره تعالى وقيل الضمير للموصول على حذف المضاف فى أولياء أى ولا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء كأنه قيل ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء وقرىء ولا تبتغوا كما فى قوله تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) وقوله تعالى (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) بحذف إحدى التاءين وتخفيف* الذال وقرىء بتشديدها على إدغام التاء المهموسة فى الذال المجهورة وقرىء يتذكرون على صيغة الغيبة وقليلا نصب إما بما بعده على أنه نعت لمصدر محذوف مقدم للقصر أو لزمان كذلك محذوف وما مزيدة لتأكيد القلة أى تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دين الله تعالى وتتبعون غيره ويجوز أن يراد بالقلة العدم كما قيل فى قوله تعالى (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) والجملة اعتراض تذييلى مسوق لتقبيح حال المخاطبين والالتفات على القراءة الأخيرة للإيذان باقتضاء سوء حالهم فى عدم الامتثال بالأمر والنهى صرف الخطاب عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة وإما نصب على أنه حال من فاعل لا تتبعوا وما مصدرية مرتفعة به أى لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا تذكركم لكن لا على توجيه النهى إلى المقيد فقط كما فى قوله تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) بل إلى المقيد والقيد جميعا وتخصيصه بالذكر لمزيد تقبيح حالهم بجمعهم بين المنكرين (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) شروع فى إنذارهم بما جرى على الأمم الماضية بسبب إعراضهم عن اتباع دين الله تعالى وإصرارهم على اتباع دين أوليائهم و (كَمْ) خبربة للتكثير فى موضع رفع على الابتداء كما فى قولك زيد ضربته والخبر هو الجملة بعدها و (مِنْ قَرْيَةٍ) تمييز والضمير فى (أَهْلَكْناها) راجع إلى معنى كم أى كثير من القرى أهلكناها أو فى موضع نصب بأهلكناها كما فى قوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها كما فى قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أى أردنا إهلاكها (فَجاءَها) أى فجاء أهلها (بَأْسُنا) أى عذابنا (بَياتاً) * مصدر بمعنى الفاعل واقع موقع الحال أى بائتين كقوم لوط (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) عطف عليه أى أو قائلين من* القيلولة نصف النهار كقوم شعيب وإنما حذفت الواو من الحال المعطوفة على أختها استثقالا لاجتماع العاطفين فإن واو الحال حرف عطف قد أستعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير كما فى جاءنى زيد هو فارس

٢١١

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨)

____________________________________

فإنه غير فصيح وتخصيص الحالتين بالعذاب لما أن نزول المكروه عند الغفلة والدعة أفظع وحكايته للسامعين أزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة ووصف الكل بوصفى البيات والقيلولة مع أن بعض المهلكين بمعزل منهما لا سيما القيلولة للإيذان بكمال غفلتهم وأمنهم (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أى* دعاؤهم واستغائتهم ربهم أو ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) عذابنا* وعاينوا أمارته (إِلَّا أَنْ قالُوا) جميعا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أى إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسرا عليه وندامة وطمعا فى الخلاص وهيهات ولات حين نجاة (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) بيان لعذابهم الأخروى إثر بيان عذابهم الدنيوى خلا أنه قد تعرض لبيان مبادى أحوال المكلفين جميعا لكونه أدخل فى التهويل والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية ذكرا حسب ترتبها* عليها وجودا أى لنسألن الأمم قاطبة قائلين ماذا أجبتم المرسلين (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عما أجيبوا قال تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والذى نفى بقوله تعالى (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) سؤال الاستعلام أو الأول فى موقف الحساب والثانى فى موقف العقاب (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أى على الرسل حين يقولون (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أو* عليهم وعلى المرسل إليهم جميعا ما كانوا عليه (بِعِلْمٍ) أى عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم* (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم فى حال من الأحوال فيخفى علينا شىء من أعمالهم وأحوالهم والجملة تذييل مقرر لما قبلها (وَالْوَزْنُ) أى وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها وجيدها ورديئها ورفعه على الابتداء* وقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ) خبره وقوله تعالى (الْحَقُّ) صفته أى والوزن الحق ثابت يوم إذ يكون السؤال والقص وقيل خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل ما ذلك الوزن فقيل الحق أى العدل السوى وقرىء القسط واختلف فى كيفية الوزن والجمهور على أن صحائف الأعمال هى التى توزن بميزان له لسان وكفتان ينظر إليه الخلائق إظهارا للمعادلة وقطعا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم ويشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد وكما يثبت فى صحائفهم فيقرءونها فى موقف الحساب ويؤيده ما روى أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر له تسعة وتسعون سجلا مد البصر فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة وقيل يوزن الأشخاص لما روى عنه عليه الصلاة والسلام إنه ليأتى العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقيل

٢١٢

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

____________________________________

الوزن عبارة عن القضاء السوى والحكم العادل وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك واختاره كثير من المتأخرين بناء على أن استعمال لفظ الوزن فى هذا المعنى شائع فى اللغة والعرف بطريق الكناية قالوا إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشىء ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك لأنها أعراض قد فنيت وعلى تقدير بقائها لا تقبل الوزن وقيل إن الأعمال الظاهرة فى هذه النشأة بصور عرضية تبرز فى النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها فى الحسن والقبح حتى أن الذنوب والمعاصى تتجسم هناك وتتصور بصورة النار وعلى ذلك حمل قوله تعالى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) وقوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) وكذا قوله عليه الصلاة والسلام فى حق من يشرب من إناء الذهب والفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم ولا بعد فى ذلك ألا يرى أن العلم يظهر فى عالم المثال على سورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس وقد روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وبالأعمال السيئة على صور قبيحة فتوضع فى الميزان. إن قيل إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة فى الوزن أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هى عليه وبأوصافها وأحوالها فى أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التى بها ظهرت فى الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة فى أنها هى التى كانت فى الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر فى هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك والله تعالى أعلم (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) * تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن والموازين إما جمع ميزان أو جمع موزون على أن المراد به ما له وزن وقدر وهو الحسنات فإن رجحان أحدهما مستلزم لرجحان الآخر أى فمن رجحت موازينه التى توزن بها حسناته أو أعماله التى لها قدر وزنة وعن الحسن البصرى وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بثقل الميزان* والجمعية باعتبار معناه كما أن جمع الموازين لذلك وأما ضمير موازينه فراجع إليه باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم فى الفضل والشرف (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة* والثواب وهم إما ضمير فصل يفصل بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره المفلحون والجملة خبر لأولئك وتعريف المفلحون الدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون فى الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أى موازين أعماله أو أعماله التى لا وزن لها ولا اعتداد بها وهى أعماله السيئة (فَأُولئِكَ) إشارة* إليهم باعتبار اتصافهم بتلك الصفة القبيحة والجمعية ومعنى البعد لما مر آنفا فى نظيره وهو مبتدأ خبره

٢١٣

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)

____________________________________

* (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أى ضيعوا الفطرة السليمة التى فطروا عليها وقد أيدت بالآيات البينة وقوله* تعالى (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) متعلق بخسر وما مصدرية وبآياتنا متعلق بيظلمون على تضمين معنى التكذيب قدم عليه لمراعاة الفواصل والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على استمرار الظلم فى الدنيا أى فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم المستمر بآياتنا ظالمين (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) لما أمر الله سبحانه أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيره وبين لهم وخامة عاقبته بالإهلاك فى الدنيا والعذاب المخلد فى الآخرة ذكرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبة للشكر ترغيبا فى الامتثال بالأمر والنهى إثر ترهيب أى جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا* أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) المعايش جمع معيشة وهى ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها أو ما يتوصل به إلى ذلك والوجه فى قراءته إخلاص الياء وعن ابن عامر أنه همزة تشبيها له بصحائف ومدائن والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع أى أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعكم فيها أسبابا تعيشون بها وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه لما مر غير مرة من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة للسامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن وأما تقديم اللام على فى فلما أنه المنبىء عما ذكر من المنفعة فالاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم هذا وقد قيل إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر وأنت خبير بأنه لا فائدة معتد بها فى الإخبار* بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة فى الأرض وقوله تعالى (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أى تلك النعمة تذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم وبقية الكلام فيه عين ما مر فى تفسير قوله تعالى (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) تذكير لنعمة عظيمة فائضة على آدم عليه‌السلام سارية إلى ذريته موجبة لشكرهم كافة وتأخيره عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكين فى الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة مستوجبة للشكر على حيالها فإن رعاية الترتيب الوقوعى ربما تؤدى إلى توهم عد الكل نعمة واحدة كما ذكر فى قصة البقرة وتصدير الجملتين بالقسم وحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونهما وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين مع أن المراد بهما خلق آدم عليه‌السلام وتصويره حتما توفية لمقام الامتنان حقه وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم

٢١٤

بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه‌السلام وتصويره لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه‌السلام كسجود الملائكة له عليه‌السلام بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا إذ الكل مخلوق فى ضمن خلقه على نمطه ومصنوع على شاكلته فكأنهم الذى تعلق به خلقه وتصويره أى خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار إليكم جميعا (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) صريح* فى أنه ورد بعد خلقه عليه الصلاة والسلام وتسويته ونفخ الروح فيه أمر منجز غير الأمر المعلق الوارد قبل ذلك بقوله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين وهو المراد بما حكى بقوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآية فى سورة البقرة وسورة بنى إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من غير تعرض لوقته وكلمة ثم ههنا تقتضى تراخيه عن التصوير من غير تعرض لبيان ما جرى بينهما من الأمور وقد بينا فى سورة البقرة أن ذلك ظهور فضل آدم عليه‌السلام بعد المحاورة المسبوقة بالإخبار باستخلافه عليه‌السلام حسبما نطق به قوله عزوجل وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة إلى قوله وما كنتم تكتمون فإن ذلك أيضا من جملة ما نيط به الأمر المعلق من التسوية ونفخ الروح وعدم ذكره عند الحكاية لا يقتضى عدم ذكره عند وقوع المحكى كما أن عدم ذكر الأمر المعلق عند حكاية الأمر المنجز لا يستلزم عدم مسبوقيته به فإن حكاية كلام واحد على أساليب مختلفة يقتضيها المقام ليست بعزيزة فى الكلام العزيز فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم‌السلام أولا جميع ما يتوقف عليه الأمر المنجز إجمالا بأن قيل مثلا إنى خالق بشرا من طين وجاعل إياه خليفة فى الأرض فإذا سويته ونفخت فيه من روحى وتبين لكم فضله فقعوا له ساجدين فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقى إليهم خبر الخلافة بعد تحقق الشرائط المذكورة بأن قيل إثر نفخ الروح إنى جاعل هذا خليفة فى الأرض فهنالك ذكروا فى حقه عليه‌السلام ما ذكروا فأيده الله تعالى بتعليم الأسماء فشاهدوا منه عليه‌السلام ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمر المنجز اعتناء بشأن المأمور به وإيذانا بوقته وقد حكى بعض الأمور المذكورة فى بعض المواطن وبعضها فى بعضها اكتفاء بما ذكر فى كل موطن عما ترك فى موطن آخر والذى يرفع غشاوة الاشتباه عن البصائر السليمة أن ما فى سورة ص من قوله تعالى إذ قال ربك للملائكة الآيات بدل من قوله إذ يختصمون فيما قبله من قوله ما كان لى من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون أى بكلامهم عند اختصامهم ولا ريب فى أن المراد بالملأ الأعلى الملائكة وآدم عليهم‌السلام وإبليس حسبما أطبق عليه جمهور المفسرين وباختصامهم ما جرى بينهم فى شأن الخلافة من التقاول الذى من جملته ما صدر عنه عليه‌السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوع الاختصام المذكور فى تضاعيف ما شرح فيه مفصلا من الأمر المعلق وما علق به من الخلق والتسوية ونفخ الروح فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكة وعناد إبليس ولعنه وإخراجه من بين الملائكة وما جرى بعده من الأفعال والأقوال وإذ ليس تمام الاختصام بعد سجود الملائكة ومكابرة إبليس وطرده من البين لما عرفت من أنه أحد المختصمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة فإذن هو بعد نفخ الروح وقبل السجود بأحد الطريقين المذكورين والله تعالى أعلم (فَسَجَدُوا) أى الملائكة عليهم‌السلام بعد الأمر من غير تلعثم (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل*

٢١٥

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)

____________________________________

لما أنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه فى فسجدوا ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم الجن كما مر فى سورة البقرة فقوله تعالى* (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أى ممن سجد لآدم كلام مستأنف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء فإن عدم السجود قد يكون للتأمل ثم يقع السجود وبه علم أنه لم يقع قط وقيل منقطع فحينئذ يكون متصلا بما بعده أى لكن إبليس لم يكن من الساجدين (قالَ) استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذ وبه يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة وفيه فائدة أخرى هى الإشعار بعدم تعلق المحكى بالمخاطبين كما فى حكاية الخلق* والتصوير (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أى أن تسجد كما وقع فى سورة ص ولا مزيدة مؤكدة لمعنى الفعل الذى دخلت عليه كما فى قوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود وقيل* الممنوع عن الشىء مصروف إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن لا تسجد (إِذْ أَمَرْتُكَ) قيل فيه دلالة على أن مطلق الأمر للوجوب والفور وفى سورة الحجر يا إبليس مالك أن لا تكون مع الساجدين وفى سورة ص ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى واختلاف العبارات عند الحكاية يدل على أن اللعين قد أدمج فى معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظام فى سلك أولئك المقربين والاستكبار مع تحقير آدم عليه‌السلام وقد وبخ حينئذ على كل واحدة منها لكن اقتصر عند الحكاية فى كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر فى موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة منها كافية فى التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا فى سورة البقرة وسورة بنى إسرائيل وسورة* الكهف وسورة طه (قالَ) استئناف كما سبق مبنى على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل فماذا قال* اللعين عند ذلك فقيل قال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) متجانفا عن تطبيق جوابه على السؤال بأن يقول منعنى كذا مدعيا لنفسه بطريق الاستئناف شيئا بين الاستلزام لمنعه من السجود على زعمه ومشعرا بأن من شأنه هذا لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به كما ينبىء عنه ما فى سورة الحجر من قوله لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون فهو أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول* بالحسن والقبح العقليين وقوله تعالى (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) تعليل لما ادعاه من فضله عليه ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر وزل عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أى بغير واسطة على وجه الاعتناء به وما من جهة الصورة كما نبه عليه بقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وما من جهة الغاية وهو ملاك الأمر ولذلك أمر الملائكة بالسجود له عليه‌السلام حين ظهر لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة فى الأرض وأن له خواص ليست لغيره وفى الآية دليل على الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة ولعل إضافة خلق البشر إلى الطين والشياطين إلى النار باعتبار الجزء الغالب.

٢١٦

(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣)

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (١٥)

____________________________________

(قالَ) استئناف كما سلف والفاء فى قوله تعالى (فَاهْبِطْ مِنْها) لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من مخالفة الأمر وتعليله بالأباطيل وإصراره على ذلك أى فاهبط من الجنة والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها قال ابن عباس رضى الله عنهما كانوا فى عدن لا فى جنة الخلد وقيل من زمرة الملائكة المعززين فإن الخروج من زمرتهم هبوط وأى هبوط وفى سورة الحجر (فَاخْرُجْ مِنْها) وأما ما قيل من أن المراد الهبوط من السماء فيرده أن وسوسته لآدم عليه‌السلام كانت بعد هذا الطرد فلا بد أن يحمل على أحد الوجهين قطعا وتكون وسوسته على الوجه الأول بطريق النداء من باب الجنة كما روى عن الحسن البصرى وقوله تعالى (فَما يَكُونُ لَكَ) أى فما يصح ولا يستقيم لك ولا يليق بشأنك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أى فى الجنة أو فى* زمرة الملائكة تعليل للأمر بالهبوط فإن عدم صحة أن يتكبر فيها علة للأمر المذكور فإنها مكان المطيعين الخاشعين ولا دلالة فيه على جواز التكبر فى غيرها وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه تعالى إنما طرده لتكبره لا لمجرد عصيانه وقوله تعالى (فَاخْرُجْ) تأكيد للأمر بالهبوط متفرع على علته وقوله* تعالى (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) تعليل للأمر بالخروج مشعر بأنه لتكبره أى من الأذلاء وأهل الهوان على* الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك وعن عمر رضى الله عنه من تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش نعشك الله ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض (قالَ) استئناف كما مر مبنى على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا قال اللعين بعد ما سمع هذا الطرد المؤكد فقيل قال (أَنْظِرْنِي) أى أمهلنى ولا تمتنى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أى آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وهو وقت النفخة الثانية وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت لاستحالته بعد البعث (قالَ) استئناف كما سلف (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم فى ذلك صريح فى أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلالا إنشاء لإنظار خاص به إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل أى إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه الحكمة التكوينية إلى وقت فناء غير ما استثناه الله تعالى من الخلائق وهو النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذى هو المسئول وقد ترك التوقيت للإيجاز ثقة بما وقع فى سورة الحجر وسورة ص كما ترك ذكر النداء والفاء فى الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر فيهما بقوله عزوجل (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وفى إنظاره ابتلاء للعباد وتعريض للثواب إن قلت لا ريب فى أن الكلام المحكى له عند صدوره عن المتكلم حالة

٢١٧

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦)

____________________________________

مخصوصة تقتضى وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشىء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة البتة فالكلام الواحد المحكى على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ما عداه من الوجوه إذا تمهد هذا فنقول لا يخفى أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه إن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر فى مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) حسبما حكى عنه فى السورتين فما حكى ههنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلا عن العروج إلى معارج الإعجاز قلنا مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الإنظار مقتض لترتيب الإخبار بالإنظار على الاستنظار وقد طبق الكلام عليه فى تينك السورتين ووفى كل واحد من مقامى الحكاية والمحكى جميعا حظه وأما ههنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الإخبار بالاستنظار والإنظار سيقت الحكاية على نهج الإيجاز والاختصار من غير تعرض لبيان كيفية كل واحد منهما عند المخاطبة والحوار إن قلت فإذن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام قلنا الذى يجب اعتباره فى نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذى يفيده وأما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاء المقام ولا يقدح فى أصل الكلام تجريده عنها بل قد يراعى عند نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلا ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى ألا يرى أن جميع المقالات المنقولة فى القرآن الكريم إنما تحكى بكيفيات واعتبارات لا يكاد يقدر على مراعاتها من تكلم بها حتما وإلا لأمكن صدور الكلام المعجز عن البشر فيما إذا كان المحكى كلاما وأما عدم مطابقته لمقتضى الحال فمنشؤه الغفلة عما يجب توفير مقتضاه من الأحوال فإن ملاك الأمر هو مقام الحكاية وأما مقام وقوع المحكى فإن كان مقتضاه موافقا لمقتضى مقام الحكاية يوفى كل واحد من المقامين حقه كما فى سورة الحجر وسورة ص فإن مقام الحكاية فيهما لما كان مقتضيا لبسط الكلام وتفصيله على الكيفيات التى وقع عليها روعى حق المقامين معا وأما فى هذه السورة الكريمة فحيث اقتضى مقام الحكاية الإيجاز روعى جانبه ألا يرى أن المخاطب المنكر إذا كان ممن لا يفهم إلا أصل المعنى وجب على المتكلم أن يجرد كلامه عن التأكيد وسائر الخواص والمزايا التى يقتضيها المقام ويخاطبه بما يناسبه من الوجوه لكنه مع ذلك يجب أن يقصد معنى زائدا يفهمه سامع آخر بليغ هو تجريده عن الخواص رعاية لمقتضى حال المخاطب فى الفهم وبذلك يرتقى كلامه عن رتبة أصوات الحيوانات كما حقق فى مقامه فإذا وجب مراعاة مقام الحكاية مع إفضائها إلى تجريد الكلام عن الخواص والمزايا بالمرة فما ظنك بوجوب مراعاته مع تحلية الكلام بمزايا أخر يرتقى بها إلى رتبة الإعجاز لا سيما إذا وفى حق مقام وقوع المحكى فى السورتين الكريمتين وكان هذا الإيجاز مبنيا عليه وثقة به (قالَ) استئناف كمأ مثاله (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الباء للقسم كما فى قوله تعالى

٢١٨

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٩)

____________________________________

(فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ) فإن إغواءه تعالى إياه أثر من آثار قدرته عزوجل وحكم من أحكام سلطانه تعالى فمآل الإقسام بهما واحد فلعل اللعين أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار وما مصدرية أى فأقسم بإغوائك إياى (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أو للسببية على أن الباء متعلقة* بفعل القسم المحذوف لا بقوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) كما فى الوجه الأول فإن اللام تصد عن ذلك أى فبسبب إغوائك إياى لأجلهم أقسم بعزتك لأقعدن لآدم وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للقطع على السابلة (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الموصل إلى الجنة وهو دين الإسلام فالقعود مجاز متفرع على الكناية وانتصابه على الظرفية كما فى قوله [كما عسل الطريق الثعلب] وقيل على نزع الجار تقديره على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أى من الجهات الأربع التى يعتاد هجوم العدو منها مثل قصده إياهم للتسويل والإضلال من أى وجه يتيسر بإتيان العدو من الجهات الأربع ولذلك لم يذكر الفوق والتحت وعن ابن عباس رضى الله عنهما من بين أيديهم من قبل الآخرة ومن خلفهم من جهة الدنيا وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم وقيل من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز منه ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتى منهما كالمنحرف المتجافى عنهم المار على عرضهم ونظيره جلست عن يمينه (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أى مطيعين وإنما قاله ظنا لقوله تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) لما رأى منهم مبدأ الشر متعددا ومبدأ الخير واحدا وقيل سمعه من الملائكة عليهم‌السلام (قالَ) استئناف كما سلف مرارا (اخْرُجْ مِنْها) أى من الجنة أو من السماء أو من بين الملائكة (مَذْؤُماً) أى مذموما من ذأمه إذا ذمه وقرىء* مذوما كمسول فى مسئول أو كمكول فى مكيل من ذامه يذيمه ذيما (مَدْحُوراً) مطرودا (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) * اللام موطئة للقسم وجوابه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) وهو ساد مسد جواب الشرط وقرىء لمن* تبعك بكسر اللام على أنه خبر لأملأن على معنى لمن تبعك هذا الوعيد أو علة لأخرج ولأملأن جواب قسم محذوف ومعنى منكم منك ومنهم على تغليب المخاطب (وَيا آدَمُ) أى وقلنا كما وقع فى سورة البقرة

٢١٩

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢)

____________________________________

وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بتلق المأمور به وتخصيص الخطاب به عليه‌السلام للإيذان* بأصالته فى تلقى الوحى وتعاطى المأمور به (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) هو من السكن الذى هو عبارة عن اللبث والاستقرار والإقامة لا من السكون الذى هو ضد الحركة وأنت ضمير أكد به المستكن لبصح* العطف عليه والفاء فى قوله تعالى (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) لبيان المراد مما فى سورة البقرة من قوله تعالى (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) من أن ذلك كان جمعا مع الترتيب وقوله تعالى (مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) فى معنى منها حيث شئتما ولم يذكر ههنا رغدا ثقة بما ذكر هناك وتوجيه الخطاب إليهما لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما فى مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه‌السلام فى حق الأكل بخلاف السكن فإنها تابعة له فيه ولتعليق* النهى بها صريحا فى قوله تعالى (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) وقرىء هذى وهو الأصل لتصغيره على ذيا والهاء بدل من الياء (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) إما جزم على العطف أو نصب على الجواب (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أى فعل الوسوسة لأجلهما أو تكلم لهما كلاما خفيا متداركا متكررا وهى فى الأصل الصوت الخفى كالهينمة* والخشخشة ومنه وسوس الحلى وقد سبق بيان كيفية وسوسته فى سورة البقرة (لِيُبْدِيَ لَهُما) أى ليظهر لهما واللام للعاقبة أو للغرض على أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة* وفيه دليل على أن كشف العورة فى الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن فى الطباع (ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) ما غطى وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة فى المشهورة كما قلبت فى أو يصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرىء* سواتهما بحذف الهمزة وإلقاء حركاتها على الواو وبقلبها واوا وإدغام الواو الساكنة فيها (وَقالَ) عطف على* وسوس بطريق البيان (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ) أى عن أكلها (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أى / إلا* كراهة أن تكونا ملكين (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) الذين لا يموتون أو يخلدون فى الجنة وليس فيه دلالة على أفضلية الملائكة عليهم‌السلام لما أن من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما فى أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة وذلك بمعزل من الدلالة على الأفضلية بالمعنى المتنازع فيه (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أى أقسم لهما وصيغة المغالبة للمبالغة وقيل أقسما له بالقبول وقيل قالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة (فَدَلَّاهُما)

٢٢٠