تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

النظم الكريم على حذف المضاف والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإيذان بأن توفيقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد ومعنى كونه عنده تعالى خاصة أنه تعالى قد استأثر به بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب أو نبى مرسل وقوله تعالى (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) بيان لاستمرار تلك الحالة إلى حين قيامها وإقناط كلى عن إظهار أمرها بطريق الإخبار من جهته تعالى أو من جهة غيره لاقتضاء الحكمة التشريعية إياه فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك والمعنى لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها الذى تسألوننى عنه إلا هو بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسط فى إظهاره لهم لكن لا بأن لا يخبرهم بوقتها قبل مجيئه كما هو المسئول بل بأن يقيمها فيشاهدوها عيانا كما يفصح عنه التجلية المنبئة عن الكشف التام المزيل للإبهام بالكلية وقوله تعالى (لِوَقْتِها) أى فى وقتها قيد للتجلية بعد ورود الاستثناء عليها لا قبله كأنه قيل لا يجليها إلا هو فى وقتها إلا أنه قدم على الاستثناء للتنبيه من أول الأمر على أن تجليتها ليست بطريق الإخبار بوقتها بل بإظهار عينها فى وقتها الذى يسألون عنه وقوله تعالى (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استئناف* كما قبله مقرر لمضمون ما قبله أى كبرت وشقت على أهلهما من الملائكة والثقلين كل منهم أهمه خفاؤها وخروجها عن دائرة العقول وقيل عظمت عليهم حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها وأهوالها وقيل ثقلت فيهما إذ لا يطيقها منهما ومما فيهما شىء أصلا والأول هو الأنسب بما قبله وبما بعده من قوله تعالى (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) فإنه أيضا استئناف مقرر لمضمون ما قبله فلا بد من اعتبار الثقل من حيث الخفاء* أى لا تأتيكم إلا فجأة على غفلة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقى ماشيته والرجل يقوم سلعته فى سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) * استئناف مسوق لبيان خطئهم فى توجيه السؤال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناء على زعمهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالم بالمسئول عنه أو أن العلم بذلك من مواجب الرسالة إثر بيان خطئهم فى أصل السؤال بأعلام شأن المسئول عنه والجملة التشبيهية فى محل النصب على أنها حال من الكاف جىء بها بيانا لما يدعوهم إلى السؤال على زعمهم وإشعارا بخطئهم فى ذلك أى يسألونك مشبها حالك عندهم بحال من هو حفى عنها أى مبالغ فى العلم بها فعيل من حفى وحقيقته كأنك مبالغ فى السؤال عنها فإن ذلك فى حكم المبالغة فى العلم بها لما أن من بالغ فى السؤال عن الشىء والبحث عنه استحكم علمه به ومبنى التركيب على المبالغة والاستقصاء ومنه إحفاء الشارب واحتفاء البقل أى استئصاله والإحفاء فى المسألة أى الإلحاف فيها وقيل عن متعلقة بيسألونك وقوله تعالى (كَأَنَّكَ حَفِيٌ) معترض وصلة حفى محذوفة أى حفى بها وقد قرىء كذلك وقيل هو من الحفاوة بمعنى البر والشفقة فإن قريشا قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك كأنك حفى تتحفى بهم فتخصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوى أمرها عن غيرهم ففيه تخطئة لهم من جهتين وقيل هو من حفى بالشىء بمعنى فرح به والمعنى كأنك فرح بالسؤال عنها تحبه مع أنك كاره له لما أنه تعرض لحرم الغيب الذى أستأثر الله عزوجل بعلمه (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعادة الجواب* الأول تأكيدا للحكم وتقريرا له وإشعارا بعلته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبىء عن

٣٠١

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩)

____________________________________

* استتباعها لصفات الكمال التى من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أى لا يعلمون ما ذكر من اختصاص علمها به تعالى فبعضهم ينكرونها رأسا فلا يعلمون شيئا مما ذكر قطعا وبعضهم يعلمون أنها واقعة البتة ويزعمون أنك واقف على وقت وقوعها فيسألونك عنه جهلا وبعضهم يدعون أن العلم بذلك من مواجب الرسالة فيتخذون السؤال عنه ذريعة إلى القدح فى رسالتك والمستثنى من هؤلاء هم الواقفون على جلية الحال من المؤمنين وأما السائلون عنها من اليهود بطريق الامتحان فهم منتظمون فى سلك الجاهلين حيث لم يعملوا بعلمهم وقوله تعالى (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) شروع فى الجواب عن السؤال ببيان عجزه عن علمها إثر بيان عجز الكل عنه وإبطال زعمهم الذى بنوا عليه سؤالهم من كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن يعلمها وإعادة الأمر لإظهار كمال العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله ومغايرته للأول والتعرض لبيان عجزه عما ذكر من النفع والضر لإثبات عجزه عن علمها بالطريق البرهانى واللام إما متعلق بأملك أو بمحذوف وقع حالا من نفعا أى لا أقدر لأجل نفسى* على جلب نفع ما ولا على دفع ضر ما (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن أملكه من ذلك بأن يلهمنيه فيمكننى منه* ويقدرنى عليه أو لكن ما شاء الله من ذلك كائن فالاستثناء منقطع وهذا أبلغ فى إظهار العجز (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أى جنس الغيب الذى من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية* ومن المباينات المستتبعة للممانعة والمدافعة (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أى لحصلت كثيرا من الخير الذى* نيط تحصيله بالأفعال الاختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أى السوء الذى* يمكن التفصى عنه بالتوقى عن موجباته والمدافعة بموانعه لا سوء ما فإن منه ما لا مدفع له (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أى ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة شأنى حيازة ما يتعلق بهما من العلوم الدينية والدنيوية لا الوقوف على الغيوب التى لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة واقترابها وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الإنذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامه أدعى إلى الانزجار عن المعاصى وتقديم النذير على البشير لما أن المقام مقام الإنذار* وقوله تعالى (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إما متعلق بهما جميعا لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة وإما بالبشير فقط وما يتعلق بالنذير محذوف أى نذير للكافرين أى الباقين على الكفر وبشير لقوم يؤمنون أى فى أى وقت كان ففيه ترغيب للكفرة فى إحداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) استئناف سبق لبيان كمال عظم جناية الكفرة فى جراءتهم على الإشراك بتذكير مبادى

٣٠٢

أحوالهم المنافية له وإيقاع الموصول خبرا لتفخيم شأن المبتدأ أى هو ذلك العظيم الشأن الذى خلقكم جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل فى ذلك بوجه من الوجوه (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو آدم عليه الصلاة* والسلام وهذا نوع تفصيل لما أشير إليه فى مطلع السورة الكريمة إشارة إجمالية من خلقهم وتصويرهم فى ضمن خلق آدم وتصويره وبيان لكيفيته (وَجَعَلَ) عطف على (خَلَقَكُمْ) داخل فى حكم الصلة ولا ضير* فى تقدمه عليه وجودا لما أن الواو ولا تستدعى الترتيب فى الوجود (مِنْها) أى من جنسها كما فى قوله تعالى* (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أو من جسدها لما يروى أنه تعالى خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم عليه الصلاة والسلام والأول هو الأنسب إذ لجنسية هى المؤدية إلى الغاية الآتية لا الجزئية والجعل إما بمعنى التصيير فقوله تعالى (زَوْجَها) مفعوله الأول والثانى هو الظرف المقدم وإما بمعنى الإنشاء والظرف متعلق* بجعل قدم على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوف هو حال من المفعول والأول هو الأولى وقوله تعالى (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) علة غائية للجعل باعتبار تعلقه بمفعوله* الثانى أى ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنانا مصححا للازدواج كما يلوح به تذكير الضمير ويفصح عنه قوله تعالى (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أى جامعها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) فى مبادىء الأمر فإنه عند كونه نطفة أو علقة* أو مضغة أخف عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب والتعرض لذكر خفته للإشارة إلى نعمته تعالى عليهم فى إنشائه تعالى إياهم متدرجين فى أطوار الخلق من العدم إلى الوجود ومن الضعف إلى القوة (فَمَرَّتْ بِهِ) أى فاستمرت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وعليه قراءة ابن عباس* رضى الله تعالى عنهما وقرىء فمرت بالتخفيف وفمارت من المور وهو المجىء والذهاب أو من المرية فظنت الحمل وارتابت به وأما ما قيل من أن المعنى حملت حملا خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذية ولم تستثقله كما يستثقلنه فمرت به أى فمضت به إلى ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق فيرده قوله تعالى (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) إذ معناه فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد فى بطنها ولا ريب* فى أن الثقل بهذا المعنى ليس مقابلا للخفة بالمعنى المذكور إنما يقابلها الكرب الذى يعترى بعضهن من أول الحمل إلى آخره دون بعض أصلا وقرىء أثقلت على البناء للمفعول أى أثقلها حملها (دَعَوَا اللهَ) أى* آدم وحواء عليهما‌السلام لما دهمهما أمر لم يعهداه ولم يعرفا مآله فاهتما به وتضرعا إليه عزوجل وقوله تعالى (رَبَّهُما) أى مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما كما فى قولهما ربنا ظلمنا أنفسنا الآية ومتعلق الدعاء محذوف تعويلا على شهادة الجملة القسمية به أى دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحا ووعدا بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمى وقالا أو قائلين (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) * أى ولدا من جنسنا سويا (لَنَكُونَنَّ) نحن ومن يتناسل من ذريتنا (مِنَ الشَّاكِرِينَ) الراسخين فى الشكر* على نعمائك التى من جملتها هذه النعمة وترتيب هذا الجواب على الشرط المذكور لما أنهما قد علما أن ما علقا به دعاءهما أنموذج لسائر أفراد الجنس ومعيار لها ذاتا وصفة وجوده مستتبع لوجودها وصلاحه مستلزم لصلاحها فالدعاء فى حقه متضمن للدعاء فى حق الكل مستتبع له كأنهما قالا لئن آتيتنا وذريتنا أولادا صالحة وقيل إن ضمير (آتَيْتَنا) أيضا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما فالوجه ظاهر وأنت خبير بأن نظم الكل

٣٠٣

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠)

____________________________________

فى سلك الدعاء أصالة يأباه مقام المبالغة فى الاعتناء بشأن ماهما بصدده وأما جعل ضمير لنكونن للكل فلا محذور فيه لأن توسيع دائرة الشكر غير مخل بالاعتناء المذكور بل مؤكد له وأيا ما كان فمعنى قوله تعالى (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) لما آتاهما ما طلباه أصالة واستتباعا من الولد وولد الولد ما تناسلوا فقوله تعالى* (جَعَلا) أى جعل أولادهما (لَهُ) تعالى (شُرَكاءَ) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ثقة* بوضوح الأمر وتعويلا على ما يعقبه من البيان وكذا الحال فى قوله تعالى (فِيما آتاهُما) أى فيما آتى أولادهما من الأولاد حيث سموهم بعبد مناف وعبد العزى ونحو ذلك وتخصيص إشراكهم هذا بالذكر فى مقام التوبيخ مع أن إشراكهم بالعبادة أغلظ منه جناية وأقدم وقوعا لما أن مساق النظم الكريم لبيان إخلالهم بالشكر فى مقابلة نعمة الولد الصالح وأول كفرهم فى حقه إنما هو تسميتهم إياه بما ذكر وقرىء شركا أى شركة أو ذوى شركة أى شركاء إن قيل ما ذكر من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إنما يصادر إليه فيما يكون للفعل ملابسة ما بالمضاف إليه أيضا بسرايته إليه حقيقة أو حكما وتتضمن نسبته إليه صورة مزية يقتضيها المقام كما فى مثل قوله تعالى (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الآية فإن الإنجاء منهم مع أن تعلقه حقيقة ليس إلا بأسلاف اليهود قد نسب إلى أخلافهم بحكم سرايته إليهم توفية لمقام الامتنان حقه وكذا فى قوله تعالى (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) الآية فإن القتل حقيقة مع كونه من جناية آبائهم قد أسند إليهم بحكم رضاهم به أداء لحق مقام التوبيخ والتبكيت ولا ريب فى أنهما عليهما الصلاة والسلام بريئان من سراية الجعل المذكور إليهما بوجه من الوجوه فما وجه إسناده إليهما صورة قلنا وجهه الإيذان بتركهما الأولى حيث أقدما على نظم أولادهما فى سلك أنفسهما والتزما شكرهم فى ضمن شكرهما وأقسما على ذلك قبل تعرف أحوالهم ببيان أن إخلالهم بالشكر الذى وعداه وعدا مؤكدا باليمين بمنزلة إخلالهما بالذات فى استيجاب الحنث والخلف مع ما فيه من الإشعار بتضاعف جنايتهم ببيان أنهم بجعلهم المذكور أوقعوهما فى ورطة الحنث والخلف وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجناية على* الله تعالى والجناية عليهما عليهما‌السلام (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه فيه معنى التعجب والفاء لترتيبه على ما فصل من أحكام قدرته تعالى وآثار نعمته الزاجرة عن الشرك الداعية إلى التوحيد وصيغة الجمع لما أشير إليه من تعين الفاعل وتنزيه آدم وحواء عن ذلك وما فى عما إما مصدرية أى عن إشراكهم أو موصولة أو موصوفة أى عما يشركونه به سبحانه والمراد بإشركهم إما تسميتهم المذكورة أو مطلق إشراكهم المنتظم لها انتظاما أوليا وقرىء تشركون بتاء الخطاب بطريق الالتفات وقيل الخطاب لآل قصى من قريش والمراد بالنفس الواحدة نفس قصى فإنهم خلقوا منه وكان له زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله تعالى ولدا صالحا فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد مناف وعبد شمس وعبد قصى وعبد الدار وضمير يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأما ما قيل من أنه لما حملت حواء أتاها إبليس فى صورة رجل فقال لها ما يدريك ما فى بطنك لعله بهيمة أو كلب أو خنزير وما يدريك من أين يخرج فخافت من

٣٠٤

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣)

____________________________________

ذلك فذكرته لآدم فأهمهما ذلك ثم عاد إليها وقال إنى من الله تعالى بمنزلة فإن دعوته أن يجعله خلقا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث وكان اسمه حارثا فى الملائكة فقبلت فلما ولدته سمته عبد الحرث فمما لا تعويل عليه. كيف لا وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان علما فى علم الأسماء والمسميات فعدم علمه بإبليس واسمه واتباعه إياه فى مثل هذا الشأن الخطير أمر قريب من المحال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال (أَيُشْرِكُونَ) استئناف مسوق لتوبيخ كافة المشركين واستقباح إشراكهم على الإطلاق وإبطاله بالكلية ببيان شأن ما أشركوه به سبحانه وتفصيل أحواله القاضية ببطلان ما اعتقدوه فى حقه أى أيشركون به تعالى (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) أى لا يقدر* على أن يخلق شيئا من الأشياء أصلا ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة وقوله تعالى (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) عطف على (لا يَخْلُقُ) وإيراد الضميرين بجمع العقلاء مع رجوعهما إلى ما المعبر بها عن الأصنام إنما هو بحسب اعتقادهم فيها وإجرائهم لها مجرى العقلاء وتسميتهم لها آلهة وكذا حال سائر الضمائر الآتية ووصفها بالمخلوقية بعد وصفها بنفى الخالقية لإبانة كمال منافاة حالها لما اعتقدوه فى حقها وإظهار غاية جهلهم فإن إشراك ما لا يقدر على خلق شىء ما بخالقه وخالق جميع الأشياء مما لا يمكن أن يسوغه من له عقل فى الجملة وعدم التعرض لخالقها للإيذان بتعينه والاستغناء عن ذكره (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ) أى لعبدتهم إذا حزبهم أمر مهم وخطب ملم (نَصْراً) أى نصرا ما بجلب منفعة أو دفع مضرة (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) * إذا اعتراهم حادثة من الحوادث أى لا يدفعونها عن أنفسهم وإيراد النصر للمشاكلة وهذا بيان لعجزهم عن إيصال منفعة ما من المنافع الوجودية والعدمية إلى عبدتهم وأنفسهم بعد بيان عجزهم عن إيصال منفعة الوجود إليهم وإلى أنفسهم خلا أنهم وصفوا هناك بالمخلوقية لكونهم أهلالها وههنا لم يوصفوا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلالها وقوله تعالى (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفى عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على المطلوب والإرشاد إلى طريق حصوله من غير أن يحصله الطالب والخطاب للمشركين بطريق الالتفات المنبىء عن مزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت أى إن تدعوهم أيها المشركون إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به المطالب أو تنجون به عن المكاره (لا يَتَّبِعُوكُمْ) إلى* مرادكم وطلبتكم وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) استئناف* مقرر لمضمون ما قبله ومبين لكيفية عدم الاتباع أى مستو عليكم فى عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم البحت فإنه لا يتغير حالكم فى الحالين كما لا يتغير حالهم بحكم الجمادية وقوله تعالى (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) جملة اسمية فى معنى الفعلية معطوفة على الفعلية لأنها فى قوة أم صمتم عدل عنها للمبالغة فى عدم إفادة الدعاء

٣٠٥

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (١٩٥)

____________________________________

ببيان مساواته للسكوت الدائم المستمر وما قيل من أن الخطاب للمسلمين والمعنى وإن تدعوا المشركين إلى الهدى أى الإسلام لا يتبعوكم الخ مما لا يساعده سياق النظم الكريم وسياقه أصلا على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما فى قوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) فإن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة إلى المشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تقرير لما قبله من عدم اتباعهم لهم أى إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من* الأصنام وتسمونهم آلهة (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أى مماثلة لكم لكن لا من كل وجه بل من حيث إنها مملوكة لله عزوجل مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضرر وتشبيهها بهم فى ذلك مع كون عجزها عنهما أظهر وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسهم وادعائهم لقدرتها عليهما إذ هو الذى يدعوهم إلى* عبادتها والاستعانة بها وقوله تعالى (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم* أى فادعوهم فى جلب نفع أو كشف ضر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه وقوله تعالى (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) الخ تبكيت إثر تبكيت مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزى من عدم الاستجابة ببيان فقدان آلاتها بالكلية فإن الاستجابة من الهياكل الجسمانية إنما تتصور إذا كان لها حياة وقوى محركة ومدركة وما ليس له شىء من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة كأنه قيل ألهم هذه الآلات التى بها تتحقق الاستجابة حتى يمكن استجابتهم لكم وقد وجه الإنكار إلى كل واحدة من هذه الآلات الأربع على حدة تكريرا للتبكيت وتثنية للتقريع وإشعارا بأن انتفاء كل واحدة منها بحيالها كاف فى الدلالة على استحالة الاستجابة ووصف الأرجل بالمشى بها للإيذان بأن مدار الإنكار هو الوصف وإنما وجه إلى الأرجل لا إلى الوصف بأن يقال أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجل فهى ليست بأرجل فى الحقيقة وكذا الكلام فيما بعده من الجوارح* الثلاث الباقية وكلمة أم فى قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) منقطعة وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت والإلزام وبل للاضراب المفيد للانتقال من فن من التبكيت بعد تمامه إلى فن آخر منه لما ذكر من المزايا والبطش الأخذ بقوة وقرىء يبطشون بضم الطاء وهى لغة فيه والمعنى بل ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أخذه وتأخير هذا عما قبله لما أن المشى حالهم فى أنفسهم والبطش حالهم* بالنسبة إلى الغير وأما تقديمه على قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها)

٣٠٦

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨)

____________________________________

مع أن الكل سواء فى أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين الأيدى والأرجل ولأن انتفاء المشى والبطش أظهر والتبكيت بذلك أقوى وأما تقديم الأعين فلما أنها أشهر من الآذان وأظهر عينا وأثرا هذا وقد قرىء إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية أى ما الذين تدعون من دونه تعالى عبادا أمثالكم بل أدنى منكم فيكون قوله تعالى (أَلَهُمْ) الخ تقريرا لنفى المماثلة بإثبات القصور والنقصان (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) بعد ما بين أن شركاءهم* لا يقدرون على شىء ما أصلا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يناصبهم للمحاجة ويكرر عليهم التبكيت وإلقام الحجر أى ادعوا شركاءكم واستعينوا بهم على (ثُمَّ كِيدُونِ) جميعا أنتم وشركاؤكم وبالغوا فى ترتيب* ما تقدرون عليه من مبادى الكيد والمكر (فَلا تُنْظِرُونِ) أى فلا تمهلونى ساعة بعد ترتيب مقدمات* الكيد فإنى لا أبالى بكم أصلا (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق انفهاما جليا ووصفه تعالى بتنزيل الكتاب للإشعار بدليل الولاية والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة كأنه قيل لا أبالى بكم وبشركائكم لأن وليي هو الله الذى أنزل الكتاب الناطق بأنه وليى وناصرى وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصركم وقوله تعالى (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) تذييل* مقرر لمضمون ما قبله أى ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده وينصرهم ولا يخذلهم (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) أى تعبدونهم (مِنْ دُونِهِ) تعالى أو تدعونهم للاستعانة بهم على حسبما أمرتكم به (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) أى فى أمر من الأمور أو فى خصوص الأمر المذكور (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) إذا نابتهم* نائبة (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم على الإطلاق أو فى خصوص ١٩٨ الكيد المعهود (لا يَسْمَعُوا) أى دعاءكم فضلا عن المساعدة والإمداد وهذا أبلغ من نفى الاتباع وقوله* تعالى (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن* السمع وبه يتم التعليل فلا تكرار أصلا والرؤية بصرية وقوله تعالى (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) حال من المفعول والجملة الاسمية حال من فاعل ينظرون أى وترى الأصنام رأى العين يشبهون الناظرين إليك ويخيل إليك أنهم يبصرونك لما أنهم صنعوا لها أعينا مركبة بالجواهر المضيئة المتلألئة وصوروها بصورة من قلب حدقته إلى الشىء ينظر إليه والحال أنهم غير قادرين على الإبصار وتوحيد الضمير فى تراهم مع رجوعه إلى المشركين لتوجيه الخطاب إلى كل واحد واحد منهم لا إلى الكل من حيث هو كل كالخطابات السابقة تنبيها على أن رؤية الأصنام على الهيئة المذكورة لا تتسنى للكل معا بل

٣٠٧

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١)

____________________________________

لكل من يواجهها وقيل ضمير الفاعل فى تراهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضمير المفعول على حاله وقيل للمشركين على أن التعليل قدتم عند قوله تعالى (لا يَسْمَعُوا) أى وترى المشركين ينظرون إليك والحال أنهم لا يبصرونك كما أنت عليه وعن الحسن أن الخطاب فى قوله تعالى (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) للمؤمنين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى (يَنْصُرُونَ) أى وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ثم خوطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التجريد بأنك تراهم ينظرون إليك والحال أنهم لا يبصرونك حق الإبصار تنبيها على ١٩٩ أن ما فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين (خُذِ الْعَفْوَ) بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق تحمله أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجامع مكارم الأخلاق التى من جملتها الإغضاء عنهم أى خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تكلفهم ما يشق عليهم من العفو الذى هو ضد الجهد أو خذ العفو من المذنبين أو الفضل من صدقاتهم وذلك قبل وجوب الزكاة* (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) بالجميل المستحسن من الأفعال فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) من غير مماراة ولا مكافأة قيل لما نزلت سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام فقال لا أدرى حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك وعن جعفر الصادق أمر الله تعالى نبيه بمكارم الأخلاق وروى أنه لما نزلت الآية ٢٠٠ الكريمة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يا رب والغضب متحقق فنزل قوله تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) النزغ والنسغ والنخس الغرز شبهت وسوسته للناس وإغراؤه لهم على المعاصى بغرز السائق لما يسوقه وإسناده إلى النزغ من قبيل جد جده أى وإما يحملنك من جهته وسوسة ما على خلاف ما أمرت به* من اعتراء غضب أو نحوه (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فالتجىء إليه تعالى من شره (إِنَّهُ سَمِيعٌ) يسمع استعاذتك* به قولا (عَلِيمٌ) يعلم تضرعك إليه قلبا فى ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره وقد جوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب على نهج الاستعارة كما فى قول الصديق رضى الله عنه إن لى شيطانا يعترينى ففيه زيادة تنفير عنه وفرط تحذير عن العمل بموجبه وفى الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التى لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عزوجل وقيل يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه ٢٠١ عليها (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) استئناف مقرر لما قبله ببيان أن ما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الاستعاذة بالله تعالى سنة* مسلوكة للمتقين والإخلال بها ديدن الغاوين أى إن الذين اتصفوا بوقاية أنفسهم عما يضرها (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) أدنى لمة منه على أن تنوينه للتحقير وهو اسم فاعل من طاف يطوف

٣٠٨

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٠٣)

____________________________________

كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقع بهم أو من طاف به الخيال يطيف طيفا أى ألم وقرىء طيف على أنه مصدر أو تخفيف من طيف من الواوى أو اليائى كهين ولين والمراد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره فيما سيأتى (تَذَكَّرُوا) أى الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه (فَإِذا هُمْ) بسبب ذلك التذكر* (مُبْصِرُونَ) مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيحترزون عنها ولا يتبعونه (وَإِخْوانُهُمْ) أى إخوان ٢٠٢ الشيطان وهم المنهمكون فى الغى المعرضون عن وقاية أنفسهم عن المضار (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ) أى يكون* الشياطين مددا لهم فيه ويعضدونهم بالتزيين والحمل عليه وقرىء يمدونهم من الإمداد ويمادونهم كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء بالاتباع والامتثال (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أى لا يمسكون* عن الإغواء حتى يردوهم بالكلية ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أى لا يرعوون عن الغى ولا يقصرون كالمتقين ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجع الضمير إلى الجاهلين فيكون الخبر جاريا على من هو له (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) من القرآن عند تراخى الوحى أو بآية مما اقترحوه (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) اجتبى الشىء بمعنى جباه لنفسه أى هلا جمعتها من تلقاء نفسك تقولا يرون بذلك أن سائر الآيات أيضا كذلك أو هلا تلقيتها من ربك استدعاء (قُلْ) ردا عليهم (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) من غير أن يكون لى دخل ما فى ذلك أصلا على معنى تخصيص حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر المستفاد من كلمة إنما إلى نفس الفعل بالنسبة إلى مقابله الذى كلفوه إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا على معنى تخصيص اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى المفعول بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع فى موارد الاستعمال وقد مر تحقيقه فى قوله تعالى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) كأنه قيل ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلى منه تعالى وفى التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية والتبليغ إلى الكمال اللائق مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتنبيه على تأييده ما لا يخفى (هذا) إشارة إلى* القرآن الكريم المدلول عليه بما يوحى إلى (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) بمنزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق* وتدرك الصواب وقيل حجج بينة وبراهين نيرة ومن متعلقة بمحذوف هو صفة لبصائر مفيدة لفخأمتها أى بصائر كائنة منه تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوب الإيمان بها وقوله تعالى (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) عطف على (بَصائِرُ) وتقديم الظرف عليهما وتعقيبهما بقوله تعالى* (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) للإيذان بأن كون القرآن بمنزلة البصائر للقلوب متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم* الحجة على الجميع وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين به إذ هم المقتمسون من أنواره والمغتنمون بآثاره والجملة من تمام القول المأمور به.

٣٠٩

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

____________________________________

٢٠٤ (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلة التى ينطوى عليها القرآن أى وإذا قرىء القرآن الذى ذكرت شئونه العظيمة فاستمعوا له استماع تحقيق وقبول* (وَأَنْصِتُوا) أى واسكتوا فى خلال القراءة وراعوها إلى انقضائها تعظيما له وتكميلا للاستماع (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أى تفوزون بالرحمة التى هى أقصى ثمراته وظاهر النظم الكريم يقتضى وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن فى الصلاة وغيرها وقيل معناه إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له وجمهور الصحابة رضى الله تعالى عنهم على أنه فى استماع المؤتم وقد روى أنهم كانوا يتكلمون فى الصلاة فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات له وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ فى المكتوبة وقرأ أصحابه خلفه فنزلت وأما خارج الصلاة فعامة العلماء على استحبابهما والآية ٢٠٥ إما من تمام القول المأمور به أو استئناف من جهته تعالى فقوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) على الأول عطف على قل وعلى الثانى فيه تجريد للخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عام فى الأذكار كافة فإن* الإخفاء أدخل فى الإخلاص وأقرب من الإجابة (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) أى متضرعا وخائفا (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أى ومتكلما كلاما دون الجهر فإنه أقرب إلى حسن التفكر (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) متعلق باذكر أى اذكره فى وقت الغدوات والعشيات وقرىء والإيصال وهو مصدر آصل أى دخل فى الأصيل ٢٠٦ موافق للغدو (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الملائكة عليهم‌السلام ومعنى كونهم عنده سبحانه وتعالى قربهم من رحمته وفضله لتوفرهم على طاعته تعالى* (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) بل يؤدونها حسبما أمروا به (وَيُسَبِّحُونَهُ) أى ينزهونه عن كل مالا* يليق بجناب كبريائه (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أى يخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به شيئا وهو تعريض بسائر المكلفين ولذلك شرع السجود عند قراءته. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ ابن آدم آية السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى فيقول ياويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الأعراف جعل الله تعالى يوم القيامة بينه وبين إبليس سترا وكان آدم عليه‌السلام شفيعا له يوم القيامة.

(تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله سورة الأنفال)

٣١٠

فهرست

الجزء الثالث من تفسير قاضى القضاة أبى السعود

٥ ـ سورة المائدة

قوله تعالى : يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود.......................................... ٢

قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل....................................... ١٤

قوله تعالى : واتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق......................................... ٢٦

قوله تعالى : يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر......................... ٣٦

قوله تعالى : يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء....................... ٤٧

قوله تعالى : يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك................................ ٦٠

(الجزء السابع)

قوله تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا................ ٧١

قوله تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس................................ ٨٢

قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم................................. ٩٣

٦ ـ سورة الأنعام

قوله تعالى : وله ما سكن فى الليل والنهار وهو السميع العليم....................... ١١٦

قوله تعالى : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله........................ ١٢٩

قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو................................ ١٤٣

قوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة........................... ١٥١

قوله تعالى : إن الله فالق الحب والنوى........................................... ١٦٤

(الجزء الثامن)

قوله تعالى : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة.......................................... ١٧٤

قوله تعالى : لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون................... ١٨٤

قوله تعالى : وهو الذى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات...................... ١٩١

قوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا................. ١٩٧

٣١١

٧ ـ سورة الأعراف

قوله تعالى : المص............................................................. ٢٠٩

قوله تعالى : يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا.......... ٢٢٤

قوله تعالى : وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ٢٣٠

قوله تعالى : وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره......... ٢٣٧

(الجزء التاسع)

قوله تعالى : قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا       ٢٤٨

قوله تعالى : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون............. ٢٦٠

قوله تعالى : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة...... ٢٦٨

قوله تعالى : واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة إنا هدنا إليك............... ٢٧٨

قوله تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه  ٢٨٩

قوله تعالى : هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها........ ٣٠٢

(تم الفهرست)

٣١٢