تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩)

____________________________________

وترك العظيمة التى كان يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بنى إسرائيل من الأسر والقسر وأما العمل بأحكام التوراة فمختص ببنى إسرائيل (جَمِيعاً) حال من الضمير فى إليكم (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) منصوب أو مرفوع على المدح أو مجرور على أنه صفة للجلالة وإن حيل بينهما بما هو متعلق بما أضيف إليه فإنه فى حكم المتقدم عليه وقوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيان لما قبله من ملك العالم* كان هو الإله لا غيره وقوله تعالى (يُحيِي وَيُمِيتُ) لزيادة تقرير ألوهيته والفاء فى قوله تعالى (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) لتفريع الأمر على ما تمهد وتقرر من رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيراد نفسه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريقة الالتفات إلى الغيبة للمبالغة فى إيجاب الامتثال بأمره ووصف الرسول بقوله (النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) لمدحه عليه الصلاة والسلام بهما ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب فى الكتابين* ووصفه بقوله تعالى (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) أى ما أنزل إليه وإلى سائر الرسل عليهم‌السلام من كتبه* ووحيه لحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بإيمانه بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمان به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به وقرىء وكلمته على إرادة الجنس أو القرآن تنبيها على أن المأمور به هو الإيمان به عليه الصلاة والسلام من حيث أنزل عليه القرآن لا من حيثية أخرى أو على أن المراد بها عيسى عليه الصلاة والسلام تعريضا باليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به لم يعتد بإيمانه (وَاتَّبِعُوهُ) أى فى كل ما يأتى وما يذر من أمور الدين (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) علة للفعلين أو حال من* فاعليهما أى رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له وفى تعليقه بهما إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام أحكام شريعته فهو بمعزل من الاهتداء مستمر على الغى والضلال (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) كلام مبتدأ مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتبعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه‌السلام من كل خير وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم (أُمَّةٌ يَهْدُونَ) أى الناس (بِالْحَقِّ) أى ملتبسين به أو يهدونهم بكلمة الحق (وَبِهِ) أى بالحق* (يَعْدِلُونَ) أى فى الأحكام الجارية فيما بينهم وصيغة المضارع فى الفعلين لحكاية الحال الماضية وقيل هم الذين* آمنوا بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف وقيل إن بنى إسرائيل لما بالغوا فى العتو والطغيان حتى اجترءوا على قتل الأنبياء عليهم‌السلام تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرق بينهم وبين أولئك الطاغين ففتح الله تعالى لهم نفقا فى الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين وهم اليوم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا وقد ذكر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل عليه‌السلام ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال جبريل عليه‌السلام هل تعرفون من تكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبى الأمى فآمنوا به وقالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ منى عليه‌السلام فرد محمد على موسى السلام عليهما‌السلام ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة

٢٨١

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠)

____________________________________

ولم تكن نزلت يومئذ فريضة غير الصلاة والزكاة أمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت هذا وأنت خبير بأن تخصيصهم بالهداية من بين قومه عليه الصلاة والسلام مع أن منهم من آمن بجميع الشرائع لا يخلو عن بعد (وَقَطَّعْناهُمُ) أى قوم موسى لا الأمة المذكورة* منهم وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) ثانى مفعولى قطع لتضمنه معنى التصيير والتأنيث للحمل على الأمة أو القطعة أى صيرناهم اثنتى عشرة أمة أو قطعة متميزا بعضها من بعض أو حال من* مفعوله أى فرقناهم معدودين هذا العدد وقوله تعالى (أَسْباطاً) بدل منه ولذلك جمع أو مميز له على أن* كل واحدة من اثنتى عشرة قطعة أسباط لا سبط وقرىء عشرة بكسر الشين وقوله تعالى (أُمَماً) على* الأول بدل بعد بدل أو نعت لأسباطا وعلى الثانى بدل من أسباطا (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) حين استولى عليهم العطش فى التيه الذى وقعوا فيه بسوء صنيعهم لا بمجرد استسقائهم إياه عليه* الصلاة والسلام بل باستسقائه لهم لقوله تعالى (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) وقوله تعالى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) مفسر لفعل الإيحاء وقد مر بيان شأن الحجر فى تفسير سورة البقرة (فَانْبَجَسَتْ) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام قد حذف تعويلا على كمال الظهور وإيذانا بغاية مسارعته عليه‌السلام إلى الامتثال وإشعارا بعدم تأثير الضرب حقيقة وتنبيها على كمال سرعة الانبجاس وهو الانفجار كأنه حصل* إثر الأمر قبل تحقق الضرب كما فى قوله تعالى (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أى فضرب فانبجست (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد الأسباط وأما ما قيل من أن التقدير فإن ضربت فقد انبجست فغير حقيق بجزالة* النظم النزيلى وقرىء عشرة بكسر الشين وفتحها (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) كل سبط عبر عنهم بذلك إيذانا بكثرة كل* واحد من الأسباط (مَشْرَبَهُمْ) أى عينهم الخاصة بهم (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) أى جعلناها بحيث تلقى عليهم* ظلها تسير فى التيه بسيرهم وتسكن بإقامتهم وكان ينزل بالليل عمود من نار يسيرون بضوئه (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) أى الترنجبين والسمانى. قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان* صاع وتبعث الجنوب عليهم السمانى فيذبح الرجل منه ما يكفيه (كُلُوا) أى وقلنا لهم كلوا (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أى مستلذاته وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى (وَما ظَلَمُونا) رجوع إلى سنن الكلام الأول بعد حكاية خطابهم وهو معطوف على جملة محذوفة للإيجاز والإشعار بأنه أمر* محقق غنى عن التصريح به أى فظلموا بأن كفروا بتلك النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) إذ لا يتخطاهم ضرره وتقديم المفعول لإفادة القصر الذى يقتضيه النفى السابق وفيه ضرب من

٢٨٢

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٦٢)

____________________________________

التهكم بهم والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على تماديهم فيما هم فيه من الظلم والكفر (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) منصوب بمضمر خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيراد الفعل على البناء للمفعول مع استناده إليه تعالى كما يفصح عنه ما وقع فى سورة البقرة من قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنا) للجرى على سنن الكبرياء والإيذان بالغنى عن التصريح به لتعين الفاعل وتغيير النظم بالأمر بالذكر للتشديد فى التوبيخ أى اذكر لهم وقت قوله تعالى لأسلافهم (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) منصوب على المفعولية يقال سكنت الدار وقيل على الظرفية اتساعا* وهى بيت المقدس وقيل أريحا وهى قرية الجبارين وكان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة رأسهم عوج بن عنق وفى قوله تعالى (اسْكُنُوا) إيذان بأن المأمور به فى سورة البقرة هو الدخول على لوجه السكنى والإقامة ولذلك اكتفى به عن ذكر رغدا فى قوله تعالى (وَكُلُوا مِنْها) أى من مطاعمها وثمارها على أن من* تبعيضية أو منها على أنها ابتدائية (حَيْثُ شِئْتُمْ) أى من نواحيها من غير أن يزاحمكم فيها أحد فإن الأكل المستمر* على هذا الوجه لا يكون إلا رغدا واسعا وعطف كلوا على اسكنوا بالواو لمقارنتهما زمانا بخلاف الدخول فإنه مقدم على الأكل ولذلك قيل هناك فكلوا (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أى مسئلتنا أو أمرك حطة لذنوبنا وهى* فعلة من الحط كالجلسة (وَادْخُلُوا الْبابَ) أى باب القرية (سُجَّداً) أى متطامنين مخبتين أو ساجدين* شكرا على إخراجهم من التيه وتقديم الأمر بالدخول على الأمر بالقول المذكور فى سورة البقرة غير مخل بهذا الترتيب لأن المأمور به هو الجمع بين الفعلين من غير اعتبار الترتيب بينهما ثم إن كان المراد بالقرية أريحاء فقد روى أنهم دخلوها حيث سار إليها موسى عليه‌السلام بمن بقى من بنى إسرائيل أو بذراريهم على اختلاف الروايتين ففتحتها كما مر فى سورة المائدة وأما إن كانت بيت المقدس فقد روى أنهم لم يدخلوه فى حياة موسى عليه‌السلام فقيل المراد بالباب ياب القبة التى كانوا يصلون إليها (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) وقرىء خطاياكم كما فى سورة البقرة وتغفر لكم خطيئاتكم وخطاياكم وخطيئتكم على البناء للمفعول (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) عدة بشيئين بالمغفرة وبالزيادة وطرح الواو ههنا لا يخل بذلك لأنه استئناف مترتب* على تقدير سؤال نشأ من الإخبار بالغفران كأنه قيل فماذا لهم بعد الغفران فقيل سنزيد وكذلك زيادة منهم زيادة بيان (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بما أمروا به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه (قَوْلاً) آخر مما لا خير فيه. روى أنهم دخلوه زاحفين على أستاههم وقالوا مكان حطة حنطة* وقيل قالوا بالنبطية حطا شمقاثا يعنون حنطة حمراء استخفافا بأمر الله تعالى واستهزاء بموسى عليه الصلاة

٢٨٣

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣)

____________________________________

* والسلام وقوله تعالى (غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) نعت لقولا صرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها قطعا تحقيقا* للمخالفة وتنصيصا على المغايرة من كل وجه (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) إثر ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير وفى سورة* البقرة على الذين ظلموا والمعنى واحد والإرسال من فوق فيكون كالإنزال (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) عذابا* كائنا منها والمراد الطاعون. روى أنه مات منهم فى ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق حسبما يفيده الجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل لا بسبب التبديل فقط كما يشعر به ترتيب الإرسال عليه بالفاء والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم ههنا مترتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما فى سورة البقرة وأما التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم فقد مر وجهه هناك والله تعالى أعلم (وَسْئَلْهُمْ) عطف على المقدر فى إذ قيل أى واسأل اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بقديم كفرهم وتجاوزهم لحدود الله تعالى وإعلاما لهم بأن ذلك مع كونه من علومهم الخفية التى لا يقف عليها إلا من مارس كتبهم قد أحاط به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرا وإذ ليس ذلك بالتلقى من كتبهم لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعزل من* ذلك تعين أنه من جهة الوحى الصريح (عَنِ الْقَرْيَةِ) أى عن حالها وخبرها وما جرى على أهلها من الداهية الدهياء وهى أيلة قرية بين مدين والطور وقيل هى مدين وقيل طبرية والعرب تسمى المدينة قرية* (الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أى قريبة منه مشرفة على شاطئه (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أى يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم السبت وإذ ظرف للمضاف المحذوف أو بدل منه وقيل ظرف لكانت أو حاضرة وليس بذاك إذ لا فائدة فى تقييد الكون أو الحضور بوقت العدوان وقرىء يعدون وأصله يعتدون ويعدون من الأعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم منهيون عن الاشتغال فيه بغير* العبادة (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل والأول هو الأولى لأن السؤال عن عدواتهم أدخل فى التقريع والحيتان جمع حوت قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كنون ونينان لفظا ومعنى وإضافتها إليهم للإشعار باختصاصها بهم لاستقلالها بما لا يكاد يوجد فى سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة أو لأن المراد بها الحيتان الكائنة فى تلك الناحية وإن ما ذكر من الإتيان وعدمه لاعتيادها* أحوالهم فى عدم التعرض يوم السبت (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) ظرف لتأتيهم أى تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السبت وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت السبت بالتجرد للعبادة وقيل اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم* بأحكام فيه ويؤيد الأول قراءة من قرأ يوم أسباتهم وقوله تعالى (شُرَّعاً) جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف وهو حال من حيتانهم أى تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء قريبة من الساحل* (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) أى لا يراعون أمر السبت لكن لا بمجرد عدم المراعاة مع تحقق يوم السبت كما هو المتبادر بل مع انتفائهما معا أى لا سبت ولا مراعاة كما فى قوله [ولا ترى الضب بها ينجحر] وقرىء

٢٨٤

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٦٤)

____________________________________

لا يسبتون من أسبت ولا يسبتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون فى السبت ولا يدار عليهم حكم السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت (لا تَأْتِيهِمْ) كما كانت تأتيهم يوم السبت حذارا من صيدهم* وتغيير السبك حيث لم يقل ولا تأتيهم يوم لا يسبتون لما أن الإخبار بإتيانها يوم سبتهم مظنة أن يقال فماذا حالها يوم لا يسبتون فقيل يوم لا يسبتون لا تأتيهم (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) أى مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع* نعاملهم معاملة من يختبرهم ليظهر عدواتهم ونؤاخذهم به وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها والتعجيب منها (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أى بسبب فسقهم المستمر المدلول عليه بالجمع بين صيغتى* الماضى والمستقبل لكن لا فى تلك المادة فإن فسقهم فيها لا يكون سببا للبلوى بل بسبب فسقهم المستمر فى كل ما يأتون وما يذرون وقيل كذلك متصل بما قبله أى لا تأتيهم مثل ما تأتيهم يوم سبتهم فالجملة بعده حينئذ استئناف مبنى على السؤال عن حكمة اختلاف حال الحيتان بالإتيان تارة وعدمه أخرى (وَإِذْ قالَتْ) عطف على إذ يعدون مسوق لتماديهم فى العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات (أُمَّةٌ مِنْهُمْ) أى جماعة من صلحائهم الذين ركبوا فى عظتهم متن كل صعب وذلول حتى يئسوا من احتمال القبول لآخرين لا يقلعون عن التذكير رجاء للنفع والتأثير مبالغة فى الأعذار وطمعا فى فائدة الإنذار (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أى مخترمهم بالكلية ومطهر الأرض منهم (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) دون الاستئصال* بالمرة وقيل مهلكهم مخزيهم فى الدنيا أو معذبهم فى الآخرة لعدم إقلاعهم عما كانوا عليه من الفسق والطغيان والترديد لمنع الخلو دون منع الجمع فإنهم مهلكون فى الدنيا ومعذبون فى الآخرة وإيثار صيغة اسم الفاعل مع أن كلا من الإهلاك والتعذيب مترقب للدلالة على تحققهما وتقررهما البتة كأنهما واقعان وإنما قالوه مبالغة فى أن الوعظ لا ينجع فيهم أو ترهيبا للقوم أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه ولعلهم إنما قالوه بمحضر من القوم حثا لهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم وعذابهم مما يلقى فى قلوبهم الخوف والخشية وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم وتهكما بهم وليس بذاك كما ستقف عليه (قالُوا) أى الوعاظ (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أى نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه* مفعول له وهو الأنسب بظاهر قولهم لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مصدر لفعل محذوف وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط فى النهى عن المنكر وفى إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) عطف على* (مَعْذِرَةً) أى ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة وهذا صريح فى أن القائلين لم تعظون الخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب.

٢٨٥

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦)

____________________________________

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أى تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسى للشىء وأعرضوا عنه إعراضا* كليا بحيث لم يخطر ببالهم شىء من تلك المواعظ أصلا (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وهم الفريقان المذكوران وإخراج إنجائهم مخرج الجواب الذى حقه الترتب على الشرط وهو نسيان المعتدين المستتبع لإهلاكهم لما أن ما فى حيز الشرط شيآن النسيان والتذكير كأنه قيل فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين وأما تصدير الجواب بإنجائهم فلما مر مرارا من* المسارعة إلى بيان نجاتهم من أول الأمر مع ما فى المؤخر من نوع طول (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) * بالاعتداء ومخالفة الأمر (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أى شديد وزنا ومعنى من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد وقرىء بيئس على وزن فيعل بفتح العين وكسرها وبئس كحذر وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء ككبد فى كبد وبيس بقلب الهمزة ياء كذيب فى ذئب وبيس كريس بقلب همزة بئيس ياء وإدغام الياء* فيها وبيس على تخفيف بيس كهين فى هين وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أى أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب تماديهم فى الفسق الذى هو الخروج عن الطاعة وهو الظلم والعدوان أيضا وإجراء الحكم على الموصول وإن أشعر بعلية ما فى حيز الصلة له لكنه صرح بالتعليل المذكور إيذانا بأن العلة هو الاستمرار على الظلم والعدوان مع اعتبار كون ذلك خروجا عن طاعة الله عزوجل لا نفس الظلم والعدوان وإلا لما أخروا عن ابتداء المباشرة ساعة ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصال فلم يقلعوا عما كانوا عليه بل ازدادوا فى الغى فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) أى تمردوا وتكبروا وأبوا أن يتركوا* ما نهوا عنه (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) صاغرين أذلاء بعداء عن الناس والمراد بالأمر هو الأمر التكوينى لا القولى وترتيب المسخ على العتو عن الانتهاء عما نهوا عنه للإيذان بأنه ليس لخصوصيات الحوت بل العمدة فى ذلك هو مخالفة الأمر والاستعصاء عليه تعالى وقيل المراد بالعذاب البئيس هو المسخ والجملة الثانية تقرير للأولى. روى أن اليهود أمروا باليوم الذى أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت وهو المعنى بقوله تعالى (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) فابتلوا به وحرم عليهم الصيد فيه وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت كأنها المخاض لا يرى وجه الماء لكثرتها ولا تأتيهم فى سائر الأيام فكانوا على ذلك برهة من الدهر ثم جاءهم إبليس فقال لهم إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضا سهلة الورود صعبة الصدور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد وأخذ رجل منهم حوتا وربط فى ذنبه خيطا إلى

٢٨٦

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨)

____________________________________

خشبة فى الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطالع فى تنوره فقال له إنى أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذب أخذ فى يوم السبت القابل حوتين فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا ثلث استمروا على النهى وثلث ملوا التذكير وسئموه وقالوا للواعظين لم تعظون الخ وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود عليه‌السلام فأصبح الناهون ذات يوم فى مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا إن لهم لشأنا فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسباءهم من الإنس وهم لا يعرفونها فجعل القرد يأتى نسيبه فيشم ثيابه فيبكى فيقول له نسيبه ألم ننهكم فيقول القرد برأسه بلى ثم ماتوا عن ثلاث وقيل صار الشبان قردة والشيوخ خنازير وعن مجاهد رضى الله عنه مسخت قلوبهم وقال الحسن البصرى أكلوا والله أو خم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيا فى الدنيا وأطولها عذابا فى الآخرة هاه وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله تعالى جعل موعدا والساعة أدهى وأمر (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) منصوب على المفعولية بمضمر معطوف على قوله تعالى (وَسْئَلْهُمْ) و (تَأَذَّنَ) بمعنى آذن كما أن توعد بمعنى أوعد أو بمعنى عزم فإن العازم على الأمر يحدث به نفسه وأجرى مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله فلذلك أجيب بجوابه حيث قيل (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أى* واذكر لهم وقت إيجابه تعالى على نفسه أن يسلط على اليهود البتة (مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) كالإذلال* وضرب الجزية وغير ذلك من فنون العذاب وقد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه‌السلام بخت نصر فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقى منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) يعاقبهم فى الدنيا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب وآمن منهم (وَقَطَّعْناهُمْ) أى فرقنا بنى إسرائيل (فِي الْأَرْضِ) وجعلنا كل فرقة منهم فى قطر من أقطارها بحيث لا تخلو ناحية منها* منهم تكملة لأدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة وقوله تعالى (أُمَماً) إما مفعول ثان لقطعنا أو حال من* مفعوله (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) صفة لأمما أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أى ناس دون ذلك الوصف أى منحطون عن الصلاح وهم كفرتهم وفسقتهم (وَبَلَوْناهُمْ

٢٨٧

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠)

____________________________________

بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) بالنعم والنقم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما كانوا فيه من الكفر والمعاصى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أى من بعد المذكورين (فَخَلَفَ) أى بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع وقيل جمع وهو شائع فى الشر والخلف بفتح اللام فى الخير والمراد به الذين كانوا فى عصر رسول الله* صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَرِثُوا الْكِتابَ) أى التوراة من أسلافهم يقرءونها ويقفون على ما فيها (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) استئناف مسوق لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه أى يأخذون حطام هذا الشىء الأدنى أى الدنيا وهو من الدنو أو الدتاءة والمراد به ما كانوا يأخذونه من الرشا فى الحكومات وعلى تحريف الكلام* وقيل حال من واو ورثوا (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) ولا يؤاخذنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنه والجملة* تحتمل العطف والحالية والفعل مسند إلى الجار والمجرور أو مصدر يأخذون (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) حال من الضمير فى لنا أى يرجون المغفرة والحال أنهم مصرون على الذنب عائدون إلى مثله* غير تائبين عنه (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أى الميثاق الوارد فى الكتاب (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) عطف بيان للميثاق أو متعلق به أى بأن لا يقولوا الخ والمراد به الرد عليهم والتوبيخ على بتهم* القول بالمغفرة بلا توبة والدلالة على أنها افتراء على الله تعالى وخروج عن ميثاق الكتاب (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) * عطف على (أَلَمْ يُؤْخَذْ) من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا وهو اعتراض (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ما فعل هؤلاء (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدى إلى العقاب بالنعيم المخلد وقرىء بالياء وفى الالتفات تشديد للتوبيخ (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) أى يتمسكون فى أمور دينهم يقال مسك بالشىء وتمسك به قال مجاهدهم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذى جاء به موسى عليه‌السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء هم أمة محمد* صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء يمسكون من الإمساك وقرىء تمسكوا واستمسكوا موافقا لقوله تعالى (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ولعل التغيير فى المشهورة للدلالة على أن التمسك بالكتاب أمر مستمر فى جميع الأزمنة بخلاف إقامة الصلاة فإنها مختصة بأوقاتها وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات لا بافتها عليها ومحل الموصول إما الجر نسقا على الذين يتقون وقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) اعتراض مقرر لما قبله وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله تعالى* (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأى جمهور البصريين والتقدير أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأى الكوفيين فإنه فى حكم مصلحيهم كما فى قوله تعالى (فَإِنَّ الْجَنَّةَ

٢٨٨

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١٧٢)

____________________________________

هِيَ الْمَأْوى) أى مأواهم وقوله تعالى (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أى أبوابها وإما العموم فى مصلحين فإنه من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الوجوه وقيل الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون وقوله تعالى (إِنَّا لا نُضِيعُ) الخ اعتراض مقرر لما قبله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) أى قلعناه من مكانه ورفعناه عليهم (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) أى سقيفة وهى كل ما أظلك (وَظَنُّوا) أى تيقنوا (أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) ساقط* عليهم لأن الجبل لا يثبت فى الجو لأنهم كانوا يوعدون به وإطلاق الظن فى الحكاية لعدم وقوع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله تعالى عليهم الطور وقيل لهم إن قبلتم ما فيها فيها وإلا ليقعن عليكم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أى وقلنا أو قائلين خذوا ما آتيناكم من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة على تحمل مشاقه* وهو حال من الواو (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) بالعمل ولا تتركوه كالمنسى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بذلك قبائح الأعمال* ورذائل الأخلاق أوراجين أن تنتظموا فى سلك المتقين (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) منصوب بمضمر معطوف على ما انتصب به إذ نتقنا مسوق للاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاق العام المنتظم للناس قاطبة وتوبيخهم بنقضه ثر الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاق الطور وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانه مرارا أى واذكر لهم أخذ ربك (مِنْ بَنِي آدَمَ) المراد بهم الذين ولدهم كائنا من كان نسلا بعد* نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب كالعقم وعدم التزوج والموت صغير او إيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن المأخوذ لما فيه من الأنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب فى إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتى وإضافته إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتشريف وقوله تعالى (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من (بَنِي آدَمَ) بدل البعض بتكرير الجار كما فى قوله تعالى (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) * ومن فى الموضعين ابتدائية وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم فى أصلاب الآباء ولم يستودعوا فى أرحام الأمهات وقوله تعالى (ذُرِّيَّتَهُمْ) * مفعول أخذ أخر عن المفعول بواسطة الجار لاشتماله على ضمير راجع إليه ولمراعاة أصالته ومنشئيته ولما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر وقرىء ذرياتهم والمراد بهم أولادهم على العموم فيندرج فيهم اليهود المعاصرون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اندارجا أوليا كما اندرج أسلافهم فى بنى آدم كذلك وتخصيصهما باليهود سلفا وخلفا مع أن ما أريد بيانه من بديع صنع الله تعالى عزوجل شامل للكل كافة مخل بفخامة التنزيل وجزالة التمثيل (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أى أشهد كل واحدة من أولئك الذريات المأخوذين من*

٢٨٩

(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (١٧٣)

____________________________________

ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها تقريرا لهم بربوبيته التامة وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص* وغير ذلك من أحكامها وقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) على إرادة القول أى قائلا ألست بربكم ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل فى شأن من شئونكم فينتظم استحقاق المعبودية* ويستلزم اختصاصه به تعالى (قالُوا) استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فماذا قالوا* حينئذ فقيل قالوا (بَلى شَهِدْنا) أى على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك كما ورد فى الحديث الشريف وهذا تمثيل لخلقه تعالى إياهم جميعا فى مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالدلائل المنصوبة فى الآفاق والأنفس المؤدية إلى التوحيد والإسلام كما ينطق به قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل مولود يولد على الفطرة الحديث مبنى على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم فى الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب كما فى قوله تعالى (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) وقوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا) بالتاء على تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديدا فى الإلزام أو إليهم وإلى متقدميهم بطريق التغليب لكن لا من حيث إنهم مخاطبون بقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فإنه ليس من الكلام المحكى وقرىء بالياء على أن الضمير للذرية وأيا ما كان فهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد أى فعلنا ما فعلنا كراهة* أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة أو يقولوا هم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) عند ظهور الأمر (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) * عن وحدانية الربوبية وأحكامها (غافِلِينَ) لم ننبه عليه فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر من التهيؤ التام لتحقيق الحق والقوة القريبة من الفعل صاروا محجوجين عاجزين عن الاعتذار بذلك إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة وقوله تعالى (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) عطف على (تَقُولُوا) * وأو لمنع الخلودون الجمع أى هم اخترعوا الإشراك وهم سنوه (مِنْ قَبْلُ) أى من قبل زماننا (وَكُنَّا) * نحن (ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) لا نهتدى إلى السبيل ولا نقدر على الاستدلال بالدليل (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) من آبائنا المضلين بعد ظهور أنهم المجرمون ونحن عاجزون عن التدبير والاستبداد بالرأى أو أتؤاخذنا فنهلكنا الخ فإن ما ذكر من استعدادهم الكامل يسد عليهم باب الاعتذار بهذا أيضا فإن التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ له أصلا هذا وقد حملت هذه المقاولة على الحقيقة كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أنه لما خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام مسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فقال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) فنودى يومئذ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه سئل عن الآية الكريمة فقال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنها فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة

٢٩٠

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥)

____________________________________

وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وليس المعنى أنه تعالى أخرج الكل من ظهره عليه الصلاة والسلام بالذات بل أخرج من ظهره عليه‌السلام أبناءه الصلبية ومن ظهرهم أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلى ظهره عليه الصلاة والسلام وكان مساق الحديثين الشريفين بيان حال الفريقين إجمالا من غير أن يتعلق بذكر الوسايط غرض علمى نسب إخراج الكل إليه وأما الآية الكريمة فحيث كانت مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيهم من غير تعرض لاخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه‌السلام من ظهره قطعا وعدم بيان الميثاق فى حديث عمر رضى الله تعالى عنه ليس بيانا لعدمه ولا مستلزما له وأما ما قالوا من أن أخذ الميثاق لإسقاط عذر الغفلة حسبما ينطق به قوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ومعلوم أنه غير دافع لغفلتهم فى دار التكليف إذ لا فرد من أفراد البشر يذكر ذلك فمردود لكن لا بما قيل من أن الله عزوجل قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ونسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق بل بأن قوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا) الخ ليس مفعولا له لقوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ) وما يتفرع عليه من قولهم بلى شهدنا حتى بحب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظا لهم فى إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه فى دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه هذا على قراءة الجمهور وأما على القراءة بالياء فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل فى إذ أخذ والمعنى اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء هذا على تقدير كون قوله تعالى (شَهِدْنا) من كلام الذرية وهو الظاهر فأما على تقدير كونه من كلامه تعالى فهو العامل فى أن تقولوا ولا محذور أصلا إذ المعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ (وَكَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه وبعد منزلته والكاف مقحمة مؤكدة لما أفاده اسم الإشارة من الفخامة والتقديم على الفعل لإفادة القصر ومحله النصب على المصدرية أى ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة (نُفَصِّلُ الْآياتِ) * المذكورة لا غير ذلك (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وليرجعوا عما هم عليه من الإصرار على الباطل وتقليد الآباء* نفعل التفصيل المذكور قالوا وإن ابتدائيتان ويجوز أن تكون الثانية عاطفة على مقدر مترتب على التفصيل أى وكذلك نفصل الآيات ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر وليرجعوا الخ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) عطف

٢٩١

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦)

____________________________________

على المضمر العامل فى إذ أخذ وارد على نمطه فى الأنباء عن الحور بعد الكور والضلالة بعد الهدى أى* واتل على اليهود (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) أى خبره الذى له شأن وخطر وهو أحد علماء بنى إسرائيل وقيل هو بلعم بن باعوراء أو بلعام بن باعر من الكنعانيين أوتى علم بعض كتب الله تعالى وقيل هو أمية بن أبى الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل فى ذلك الزمان رسولا ورجا أن يكون هو الرسول فلما بعث الله تعالى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسده وكفر به والأول هو الأنسب بمقام توبيخ اليهود بهناتهم* (فَانْسَلَخَ مِنْها) أى من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ولم يخطرها بباله أصلا أو خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونيذها وراء ظهره وأيا ما كان فالتعبير عنه بالانسلاخ المنبىء عن اتصال المحيط بالمحاط* خلقة وعن عدم الملاقاة بينهما أبدا للإيذان بكمال مباينته للآيات بعد أن كان بينهما كمال الاتصال (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أى تبعه حتى لحقه وأدركه فصار قرينا له وهو المعنى على قراءة فاتبعه من الافتعال وفيه تلويح* بأنه أشد من الشيطان غواية أو أتبعه خطواته (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) فصار من زمرة الضالين الراسخين فى الغواية بعد أن كان من المهتدين وروى أن قومه طلبوا إليه أن يدعوا على موسى عليه‌السلام فقال كيف أدعو على من معه الملائكة فلم يزالوا به حتى فعل فبقوا فى التيه ويرده أن التيه كان لموسى عليه‌السلام روحا وراحة وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه‌السلام عليهم كما مر فى سورة المائدة (وَلَوْ شِئْنا) كلام مستأنف مسوق لبيان مناط ما ذكر من انسلاخه من الآيات ووقوعه فى مهاوى الغواية ومفعول المشيئة محذوف لوقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء على القاعدة المستمرة* أى ولو شئنا رفعه (لَرَفَعْناهُ) أى إلى المنازل العالية للأبرار العالمين بتلك الآيات العاملين بموجبها لكن لا بمحض مشيئتنا من غير أن يكون له دخل فى ذلك أصلا فإنه مناف للحكمة التشريعية المؤسسة على تعليق الأجزية بالأفعال الاختيارية للعباد بل مع مباشرته للعمل المؤدى إلى الرفع بصرف اختياره إلى تحصيله* كما ينبىء عنه قوله تعالى (بِها) أى بسبب تلك الآيات بأن عمل بموجبها فإن اختياره وإن لم يكن مؤثرا فى حصوله ولا فى ترتب الرفع عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقه تعالى منوط بذلك البتة حسب جريان العادة الإلهية وقد أشير إلى ذلك فى الاستدراك بأن أسند ما يؤدى إلى نقيض التالى إليه حيث* قيل (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) مع أن الإخلاد إليها أيضا مما لا يتحقق عند صرف اختياره إليه إلا بخلقه تعالى كأنه قيل ولو شئنا رفعه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التى هى أقوى أسباب الرفع ولكن لم نشأه لمباشرته لسبب نقيضه فترك فى كل من المقامين ما ذكر فى الآخر تعويلا على إشعار المذكور بالمطوى كما فى قوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ

٢٩٢

لِفَضْلِهِ) وتخصيص كل من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفع مراد له تعالى بالذات وتفضل محض عليه لا دخل فيه لفعله حقيقة كيف لا وجميع أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضلاته وإن نقيضه إنما أصابه بسوء اختياره على موجب الوعيد لا بالإرادة الذاتية له سبحانه كما قيل فى وجه ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر فى الآية المذكورة وهو السر فى جريان السنة القرآنية على إسناد الخير إليه تعالى وإضافة الشر إلى الغير كما فى قوله تعالى (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) ونظائره والإخلاد إلى الشىء الميل إليه مع الاطمئنان به والمراد بالأرض الدنيا وقيل السفالة والمعنى ولكنه آثر الدنيا الدنية على المنازل السنية أو الضعة والسفالة على الرفعة والجلالة (وَاتَّبَعَ هَواهُ) معرضا عن تلك الآيات الجليلة فانحط أبلغ انحطاط* وارتد أسفل سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) لما أنه أخس الحيوانات وأسفلها* وقد مثل حاله بأخس أحواله وأذلها حيث قيل (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أى فحاله التى هى* مثل فى السوء كصفته فى أرذل أحواله وهى حالة دوام اللهث به فى حالتى التعب والراحة فكأنه قيل فتردى إلى ما لا غاية وراءه فى الخسة والدناءة وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال فصار مثله كمثل الكلب الخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال استقراره واستمراره عليها والخطاب فى فعل الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل فى إشاعة فظاعة حاله واللهث إدلاع اللسان بالتنفس الشديد أى هو ضيق الحال مكروب دائم اللهث سواء هيجته وأزعجته بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه فى الكلاب طبع لا تقدر على نفض الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادها بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء والشرطية مع أختها تفسير لما أبهم فى المثل وتفصيل لما أجمل فيه وتوضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه لا محل له من الإعراب على منهاج قوله تعالى (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إثر قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) وقيل هى فى محل النصب على الحالية من الكلب بناء على خروجهما من حقيقة الشرط وتحولهما إلى معنى التسوية حسب تحول الاستفهامين المتناقضين إليه فى مثل قوله تعالى (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) كأنه قيل لاهثا فى الحالتين وأيا ما كان فالأظهر أنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما اعتراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر من حال الكلب وقيل لما دعا بلعم على موسى عليه‌السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الحالة الخسيسة* منسوبة إلى الكلب أو إلى المنسلخ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها فى الخسة والدناءة أى ذلك المثل السيىء (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهم اليهود حيث أوتوا فى التوراة ما أوتوا من نعوت* النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) القصص مصدر سمى به المفعول* كالسلب واللام للعهد والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أى إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصصه عليهم حسبما أوحى إليك (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيقفون على جلية الحال وينزجرون*

٢٩٣

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨)

____________________________________

عما هم عليه من الكفر والضلال ويعلمون أنك قد علمته من جهة الوحى فيزدادون إيقانا بك والجملة فى محل النصب على أنها حال من ضمير المخاطب أو على أنها مفعول له أى فاقصص القصص راجيا لتفكرهم أى أو رجاء لتفكرهم (ساءَ مَثَلاً) استئناف مسوق لبيان كمال قبح حال المكذبين بعد بيان كونه كحال الكلب أو المنسلخ وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر فيها ومثلا تمييز مفسر له والمخصوص بالذم قوله تعالى* (الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وحيث وجب التصادق بينه وبين الفاعل والتمييز وجب المصير إلى تقدير مضاف إما إليه وهو الظاهر أى ساء مثلا مثل القوم الخ أو إلى التمييز أى ساء أصحاب مثل القوم الخ وقرىء ساء مثل القوم وإعادة القوم موصوفا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلا مثلهم* للإيذان بأن مدار السوء ما فى حيز الصلة ولربط قوله تعالى (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) به فإنه إما معطوف على (كَذَّبُوا) داخل معه فى حكم الصلة بمعنى جمعوا بين تكذيب آيات الله بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها وأيا ما كان ففى يظلمون لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم وأن ذلك أيضا معتبر فى القصر المستفاد من تقديم المفعول (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) لما أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقص قصص المنسلخ على هؤلاء الضالين الذين مثلهم كمثله ليتفكروا فيه ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ويهتدوا إلى الحق عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهة الله عزوجل وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية فى حصول الاهتداء من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعى إلى صرف العبد اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه كسائر أفعال العباد فالمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعا لكن لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية البتة بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التى هى الدلالة إلى ما يوصل إلى البغية أى ما من شأنه الإيصال إليها كما سبق تحقيقه فى تفسير قوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وليس المراد مجرد الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى حتى يتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر لظهور استلزام هدايته تعالى للاهتداء ويحمل النظم الكريم على تعظيم شأن الاهتداء والتنبيه على أنه فى نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه بل هو قصر الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضى به تعريف الخبر فالمعنى من يهده الله أى يخلق فيه الاهتداء على الوجه المذكور فهو المهتدى* لا غير كائنا من كان (وَمَنْ يُضْلِلْ) بأن لم يخلق فيه الاهتداء بل خلق فيه الضلالة لصرف اختياره نحوها* (فَأُولئِكَ) الموصوفون بالضلالة على الوجه المذكور (هُمُ الْخاسِرُونَ) أى الكاملون فى الخسران لا غير وإفراد المهتدى نظرا إلى لفظ من وجمع الخاسرين نظرا إلى معناها للإيذان باتحاد منهاج الهدى وتفرق

٢٩٤

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩)

____________________________________

طرق الضلال (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل أى خلقنا (لِجَهَنَّمَ) أى لدخولها والتعذيب بها وتقديمه على قوله تعالى (كَثِيراً) أى خلقا كثيرا مع كونه مفعولا به لما فى* توابعه من نوع طول يؤدى توسيطه بينهما وتأخيره عنها إلى الإخلال بجزالة النظم الكريم وقوله تعالى (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) متعلق بمحذوف هو صفة لكثيرا أى كائنا منهما وتقديم الجن لأنهم أعرق* من الإنس فى الاتصاف بما نحن فيه من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا والمراد بهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة لكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدى إلى ذلك بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيابها كما أن جميع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطرى للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيابها كما نطق به قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وقوله تعالى (لَهُمْ قُلُوبٌ) فى محل النصب على أنه صفة أخرى لكثيرا وقوله تعالى* (لا يَفْقَهُونَ بِها) فى محل الرفع على أنه صفة لقلوب مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها غير* معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لكماله بالكلية لكن لا بحسب الفطرة حقيقة بل بسبب امتناعهم عن صرفها إلى تحصيله وهذا وصف لها بكمال الإغراق فى القساوة فإنها حيث لم يتأت منها الفقه بحال فكأنها خلقت غير قابلة له رأسا وكذا الحال فى أعينهم وآذانهم وحذف المفعول للتعميم أى لهم قلوب ليس من شأنها أن يفقهوا بها شيئا مما من شأنه أن يفقه فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا وتخصيصه بذلك مخل بالإفصاح عن كنه حالهم (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الكلام فيه كما فيما عطف* هو عليه والمراد بالإبصار والسمع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الأنعام أى لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أى شيئا* من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية تناولا أوليا وإعادة الخبر فى الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بأن يقال وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها لتقرير سوء حالهم وفى إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصفها بعدم الشعور دون سلبها عنهم ابتداء بأن يقال ليس لهم قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها من الشهادة بكمال رسوخهم فى الجهل والغواية ما لا يخفى (أُولئِكَ) إشارة إلى* المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الضلال أى أولئك الموصوفون بالأوصاف المذكورة (كَالْأَنْعامِ) أى فى انتفاء الشعور على الوجه المذكور أو* فى أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) فإنها تدرك ما من شأنها أن* تدركه من المنافع والمضار فتجتهد فى جلبها وسلبها غاية جهدها مع كونها بمعزل من الخلود وهؤلاء ليسوا

٢٩٥

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١)

____________________________________

كذلك حيث لا يميزون بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم المقيم ويقدمون على العذاب الخالد وقيل لأنها تعرف صاحبها وتذكره وتطيعه وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه* وفى الخبر كل شىء أطوع لله من ابن آدم (أُولئِكَ) المنعوتون بما مر من مثلية الأنعام والشرية منها (هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون فى الغفلة المستحقون لأن يخص بهم الاسم ولا يطلق على غيرهم كيف لا وأنهم لا يعرفون من شئون الله عزوجل ولا من شئون ما سواه شيئا فيشركون به سبحانه و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أصنامهم التى هى من أخس مخلوقاته تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه عما يليق به من الأمور ومالا يليق به إثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم الطامة والحسنى تأثيث الأحسن أى الأسماء التى هى أحسن* الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعانى وأشرفها (فَادْعُوهُ بِها) أى فسموه بتلك الأسماء (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) الإلحاد واللحد الميل والانحراف يقال لحد وألحد إذا مال عن القصد وقرىء يلحدون من الثلاثى أى يميلون فى شأنها عن الحق إلى الباطل إما بأن يسموه تعالى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما فى قول أهل البدويا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا بخى ونحو ذلك فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال يلحدون فيها وإما بأن يعدلوا عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا وما الرحمن ما نعرف سوى رحمان اليمامة فالمراد بالترك الاجتناب أيضا وبالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه الحسنى واجتنبوا إخراج بعضها من البين وإما بأن يطلقوها على غيره تعالى كما سموا أصنامهم آلهة وإما بأن يشتقوا من بعضها أسماء أصنامهم كما اشتقوا اللات من الله تعالى والعزى من العزيز فالمراد بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة كما فى الوجه الثانى والإظهار فى موقع الإضمار مع التجريد عن الوصف فى الكل للإيذان بأن إلحادهم فى نفس الأسماء من غير اعتبار الوصف وليس المراد بالترك حينئذ الاجتناب عن ذلك إذ لا يتوهم صدور مثل هذا الإلحاد عن المؤمنين ليؤمروا بتركه بل هو الإعراض عنهم وعدم المبالاة بما فعلوا ترقبا لنزول العقوبة بهم عن قريب كما هو المتبادر من* قوله تعالى (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإنه استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر بعدم المبالاة والإعراض عن المجازاة كأنه قيل لم لا نبالى بإلحادهم ولا نتصدى لمجازاتهم فقيل لأنه سينزل بهم عقوبته وتتشفون بذلك عن قريب وأما على الوجهين الأولين فالمعنى اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما أصابهم فإنه سينزل بهم عقوبة إلحادهم (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) بيان إجمالى لحال

٢٩٦

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣)

____________________________________

من عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذكر من الضلال والإلحاد عن الحق ومحل الظرف الرفع على أنه مبتدأ إما باعتبار مضمونه أو بتقدير الموصوف وما بعده خبره كما مر فى تفسير قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ) الخ أى وبعض من خلقنا أو وبعض ممن خلقنا أمة أى طائفة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون فى الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول إذا قرأها هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة الآية. وعنه عليه الصلاة والسلام إن من أمتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى وروى لا تزال من أمتى طائفة على الحق إلى أن يأتى أمر الله وروى لا تزال من أمتى أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون وفيه من الدلالة على صحة الإجماع ما لا يخفى والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن اهتداءهم فى أنفسهم أمر محقق غنى عن التصريح به (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) شروع فى تحقيق الحق الذى به يهدى الهادون وبه يعدل العادلون وحمل الناس على الاهتداء به على وجه الترهيب ومحل الموصول الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده من الجملة الاستقبالية وإضافة الآيات إلى نون العظمة لتشريفها واستعظام الإقدام على تكذيبها أى والذين كذبوا بآياتنا التى هى معيار الحق ومصداق الصدق والعدل (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أى نستدنيهم البتة إلى الهلاك شيئا فشيئا* والاستدراج استفعال من درج إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل نقل تدريجى سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الاستقامة وإما بمعنى مشى مشيا ضعيفا وإما بمعنى طوى والأول هو الأنسب بالمعنى المراد الذى هو النقل إلى أعلى درجات المهالك ليبلغ أقصى مراتب العقوبة والعذاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجى من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه بحيث يزعم أن ذلك ترق فى مراقى منافعه مع أنه فى الحقيقة ترد فى مهاوى مصارعه فاستدراجه سبحانه إياهم أن يواتر عليهم النعم مع انهما كهم فى الغى فيحسبوا أنها لطف لهم منه تعالى فيزدادوا بطرا وطغيانا لكن لا على أن المطلوب تدرجهم فى مراتب النعم بل هو تدرجهم فى مدارج المعاصى إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب على أفظع حال وأشنعها والأول وسيلة إليه وقوله تعالى (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) متعلق بمضمر وقع صفة* لمصدر الفعل المذكور أى سنستدرجهم استدراجا كائنا من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسبون أنه أثرة من الله عزوجل وتقريب منه وقيل لا يعلمون ما يراد بهم (وَأُمْلِي لَهُمْ) عطف على سنستدرجهم غير داخل فى حكم السين لما أن الإملاء الذى هو عبارة عن الإمهال والإطالة ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصل فى نفسه شيئا فشيئا بل هو فعل يحصل دفعة وإنما الحاصل بطريق التدريج آثاره

٢٩٧

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤)

____________________________________

وأحكامه لا نفسه كما يلوح به تغيير التعبير بتوحيد الضمير مع ما فيه من الافتنان المنبىء عن مزيد الاعتناء بمضمون الكلام لابتنائه على تجديد القصد والعزيمة وأما إن ذلك للإشعار بأنه بمحض التقدير الإلهى والاستدراج بتوسط المدبرات فمبناه دلالة نون العظمة على الشركة وأنى ذلك وإلا لاحترز عن إيرادها فى قوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ) الآية بل إنما إيرادها فى أمثال* هذه الموارد بطريق الجريان على سنن الكبرياء (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) تقرير للوعيد وتأكيد له أى قوى لا يدافع بقوة ولا بحيلة والمراد به إما الاستدراج والإملاء مع نتيجتهما التى هى الأخذ الشديد على غرة فتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر وإما نفس ذلك الأخذ فقط فالتسمية لكون مقدماته كذلك وأما أن حقيقة الكيد هو الأخذ على خفاء من غير أن يعتبر فيه إظهار خلاف ما أبطنه فمما لا تعويل عليه مع عدم مناسبته للمقام ضرورة استدعائه لاعتبار القيد المذكور حتما (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) كلام مبتدأ مسوق لإنكار عدم تفكرهم فى شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجهلهم بحقيقة حاله الموجبة للإيمان به وبما أنزل عليه من الآيات التى كذبوا بها والهمزة للإنكار والتعجيب والتوبيخ والواو للعطف على مقدر يستدعيه سباق النظم الكريم وسياقه وما إما استفهامية إنكارية فى محل الرفع بالابتداء والخبر بصاحبهم وإما نافية اسمها جنة وخبرها بصاحبهم والجنة من المصادر التى يراد بها الهيئة كالركبة والجلسة وتنكيرها للتقليل والتحقير والجملة معلقة لفعل التفكر لكونه من أفعال القلوب ومحلها على الوجهين النصب على نزع الجار أى أكذبوا بها ولم يتفكروا فى أى شىء من جنون ما كائن بصاحبهم الذى هو أعظم الأمة الهادية بالحق وعليه أنزلت تلك الآيات أو فى أنه ليس بصاحبهم شىء من جنة حتى يؤديهم التفكر فى ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات وقيل قد تم الكلام عند قوله تعالى (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أى أكذبوا بها ولم يفعلوا التفكر ثم ابتدىء فقيل أى شىء بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت أو قيل ليس بصاحبهم شىء منها والتعبير عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصاحبهم للإيذان بأن طول مصاحبتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يطلعهم على نزاهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شائبة ما ذكر ففيه تأكيد للنكير وتشديد له والتعرض لنفى الجنون عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع وضوح استحالة ثبوته له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أن التكلم بما هو خارق لقضية العقول والعادات لا يصدر إلا عمن به مس من الجنون كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل ومعنى أو عمن له تأييد إلهى بخبر به عن الأمور الغيبية وإذ ليس به صلى‌الله‌عليه‌وسلم شائبة الأول تعين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيد من عند الله تعالى وقيل إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم علا الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت إلى الصباح فنزلت فالتصريح بنفى الجنون حينئذ للرد على عظيمتهم الشنعاء* والتعبير عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصاحبهم وارد على شاكلة كلامهم مع ما فيه من النكتة المذكورة وقوله تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) جملة مقررة لمضمون ما قبلها ومبينة لحقيقة حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على منهاج قوله تعالى (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) بعد قوله تعالى (ما هذا بَشَراً) أى ما هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مبالغ فى الإنذار مظهر له غاية الإظهار إبراز لكمال الرأفة

٢٩٨

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥)

____________________________________

ومبالغة فى الأعذار وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استئناف آخر مسوق للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل فى الآيات التكوينية المنصوبة فى الآفاق والأنفس الشاهدة بصحة مضمون الآيات المنزلة إثر مانعى عليهم إخلالهم بالتفكر فى شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والهمزة لما ذكر من الإنكار والتعجب والتوبيخ والواو للعطف على المقدر المذكور أو على الجملة المنفية بلم والملكوت الملك العظيم أى أكذبوا بها أو ألم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظر تأمل فيما يدل عليه السموات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة (وَما خَلَقَ اللهُ) أى وفيما خلق فيهما على أنه عطف على ملكوت وتخصيصه بهما* لكمال ظهور عظم الملك فيهما أو وفى ملكوت ما خلق على أنه عطف على السموات والأرض والتعميم لاشتراك الكل فى الدلالة على عظم الملك فى الحقيقة وعليه قوله تعالى (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله تعالى (مِنْ شَيْءٍ) بيان لما خلق مفيد لعدم اختصاص الدلالة المذكورة بجلائل المصنوعات* دون دقائقها والمعنى أولم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق فيهما من جليل ودقيق مما ينطلق عليه اسم الشىء ليدلهم ذلك على العلم بوحدانيته تعالى وبسائر شئونه التى ينطق بها تلك الآيات فيؤمنوا بها لاتحادهما فى المدلول فإن كل فرد من أفراد الأكوان مما عز وهان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد وقوله تعالى (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) عطف على* (مَلَكُوتِ) وأن مخففة من أن واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذى هو أن يكون واسم يكون أيضا ضمير الشأن والخبر قد اقترب أجلهم والمعنى أو لم ينظروا فى أن الشأن عسى أن يكون الشأن قد اقترب أجلهم وقد جوز أن يكون اسم يكون أجلهم وخبرها قد اقترب على أنها جملة من فعل وفاعل هو ضمير أجلهم لتقدمه حكما وأيا ما كان فمناط الإنكار والتوبيخ تأخيرهم للنظر والتأمل أى لعلهم يموتون عما قريب فمالهم لا يسارعون إلى التدبر فى الآيات التكوينية الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنية وقد جوز أن يكون الأجل عبارة عن الساعة والإضافة إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارهم لها وبحثهم عنها وقوله تعالى (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) قطع لاحتمال إيمانهم رأسا ونفى له بالكلية مترتب على ما ذكر* من تكذيبهم بالآيات وإخلالهم بالتفكر والنظر والباء متعلقة بيؤمنون وضمير بعده للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو بتأويلها بالمذكور وإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة والمعنى أكذبوا بها ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحوال المصنوعات فبأى حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثل هذه الشواهد القوية كلا وهيهات وقيل الضمير للقرآن والمعنى فبأى حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية فى البيان وقيل هو إنكار وتبكيت لهم مترتب على إخلالهم بالمسارعة إلى التأمل فيما ذكر كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب

٢٩٩

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧)

____________________________________

فمالهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأى حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا وقيل الضمير لأجلهم والمعنى فبأى حديث بعد انقضاء أجلهم يؤمنون وقيل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حذف مضاف أى فبأى حديث بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس وقوله تعالى (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) استئناف مقرر لما قبله منبىء عن الطبع على قلوبهم وقوله تعالى (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) بالياء والرفع على الاستئناف أى وهو يذرهم وقرىء بنون العظمة على طريقة الالتفات أى ونحن نذرهم وقرىء بالياء والجزم عطفا على محل فلا هادى له كأنه قيل من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم* وقد روى الجزم بالنون عن نافع وأبى عمرو فى الشواذ وقوله تعالى (يَعْمَهُونَ) أى يترددون ويتحيرون حال من مفعول يذرهم وتوحيد الضمير فى حيز النفى نظرا إلى لفظ من وجمعه فى حيز الإثبات نظرا إلى معناها للتنصيص على شمول النفى والإثبات للكل (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) استئناف مسوق لبيان بعض أحكام ضلالهم وطغيانهم أى عن القيامة وهى من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة ما فيها من الحساب أو لأنها ساعة عند الله تعالى مع طولها فى نفسها قيل إن قوما من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا فإنا نعلم متى هى وكان ذلك امتحانا منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر* بعلمها وقيل السائلون قريش وقوله تعالى (أَيَّانَ مُرْساها) بفتح الهمزة وقد قرىء بكسرها وهو ظرف زمان متضمن لمعنى الاستفهام ويليه المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضى بخلاف متى حيث يليها كلاهما قيل اشتقاقه من أى فعلان منه لأن معناه أى وقت وهو من أويت إلى الشىء لأن البعض آو إلى الكل متساند إليه ومحله الرفع على أنه خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر أى متى إرساؤها أى إثباتها وتقريرها فإنه مصدر ميمى من أرساه إذا أثبته وأقره ولا يكاد يستعمل إلا فى الشىء الثقيل كما فى قوله تعالى (وَالْجِبالَ أَرْساها) ومنه مرساة السفن ومحل الجملة قيل الجر على البدلية من الساعة والتحقيق أن محلها النصب بنزع الخافض لأنها بدل من الجار والمجرور لا من المجرور فقط كأنه قيل يسألونك عن الساعة عن أيان مرساها وفى تعليق السؤال بنفس الساعة أولا وبوقت وقوعها ثانيا تنبيه على أن المقصد الأصلى من السؤال نفسها باعتبار حلولها فى وقتها المعين لا وقتها باعتبار كونه محلالها وقد سلك هذا المسلك فى الجواب الملقن أيضا* حيث أضيف العلم بالمطلوب بالسؤال إلى ضميرها فأخبر باختصاصه به عزوجل حيث قيل (قُلْ إِنَّما عِلْمُها) * أى علمها بالاعتبار المذكور (عِنْدَ رَبِّي) ولم يقل إنما علم وقت إرسائها ومن لم يتنبه لهذه النكتة حمل

٣٠٠