تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

تعالى (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة أجريث على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح لكن لا* للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعا فيكون وصفهم به بعد وصفهم بها تنزلا من الأعلى إلى الأدنى بل لتنويه شأن الصفة فإن إبراز وصف فى معرض مدح العظماء منبىء عن عظم قدر الوصف لا محالة كما فى وصف الأنبياء بالصلاح ووصف الملائكة بالإيمان عليهم‌السلام ولذلك قيل أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريض باليهود وأنهم بمعزل من الإسلام والاقتداء بدين الأنبياء عليهم‌السلام لا سيما مع ملاحظة ما وصفوا به فى قوله تعالى (لِلَّذِينَ هادُوا) وهو متعلق بيحكم أى يحكمون فيما بينهم واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من* أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل لأجل الذين هادوا وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط النبعة عنه وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين وقيل التقدير للذين هادوا وعليهم فحذف ما حذف لدلالة ما ذكر عليه وقيل هو متعلق بأنزلنا وقيل بهدى ونور وفيه فصل بين المصدر ومعموله وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أى هدى ونور كائنان للذين هادوا (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) أى الزهاد والعلماء من ولد هرون الذين التزموا طريقة النبيين* وجانبوا دين اليهود وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الربانيون الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره والأحبارهم الفقهاء واحده حبر بالفتح والكسر والثانى أفصح وهو رأى الفراء مأخوذ من التحبير والتحسين فإنهم يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه وهو عطف على النبيون أى هم أيضا يحكمون بأحكامها وتوسيط المحكوم لهم بين المعطوفين للإيذان بأن الأصل فى الحكم بها وحمل الناس على ما فيها هم النبيون وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم فى ذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) أى بالذى استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ولا ريب فى أن ذلك منهم عليهم‌السلام استخلاف لهم فى إجراء أحكامها من غير إخلال بشىء منها وفى إبهامها أولا ثم بيانها ثانيا بقوله تعالى (مِنْ كِتابِ اللهِ) من تفخيمها وإجلالها* ذاتا وإضافة وتأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها ما لا يخفى وإيرادها بعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظها عن التغيير من جهة الكتابة والباء الداخلة على الموصول متعلقة بيحكم لكن لا على أنها صلة له كالتى فى قوله تعالى (بِهَا) ليلزم تعلق حرفى جر متحدى المعنى بفعل واحد بل على أنها سببية أى ويحكم الربانيون والأحبار أيضا بسبب ما حفظوه من كتاب الله حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محظوظا فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما فى حيز الصلة من الاستحفاط له وقيل الباء صلة لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) عطف جملة على جملة أى ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله الذى سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أى رقباء يحمونه من أن يحوم حوله* التغيير والتبديل بوحه من الوجوه فتغيير الأسلوب لما ذكر من المزايا وقيل (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) بدل من

٤١

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥)

____________________________________

قوله تعالى (بِهَا) بإعادة العامل وهو بعيدو كذا تجويز كون الضمير فى استحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا على أن الاستحفاظ من جناب الله عزوجل أى كلفهم الله تعالى أن يحفظوه ويكونوا عليه شهداء* وقوله تعالى وتقدس (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهى بطريق الدلالة دون العبارة والفاء لترتيب النهى على ما فصل من حال التوراة وكونها معتنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم‌السلام ومن يقتدى بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملا وحفظا فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها والمحافظة عليها بأى وجه كان فضلا عن التحريف والتغيير ولما كان مدار جراءتهم على ذلك خشية ذى سلطان أو رغبة فى الحظوظ الدنيوية نهوا عن كل منهما صريحا أى إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناس كائنا من كان واقتدوا فى* مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم (وَاخْشَوْنِ) فى الإخلال بحقوق مراعاتها* فكيف بالتعرض لها بسوء (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) الاشتراء استبدال السلعة بالثمن أى أخذها بدلا منه لا بذل الثمن لتحصيلها كما قيل ثم استعير لأخذ شىء بدلا مما كان له عينا كان أو معنى أخذا منوطا بالرغبة فيما أخذ والإعراض عما أعطى ونبذ كما فصل فى تفسير قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فالمعنى لا تستبدلوا بآياتى التى فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلا منها* (ثَمَناً قَلِيلاً) من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مستر ذلة فى نفسها لا سيما بالنسبة إلى مافات عنهم بترك العمل بها وإنما عبر عن المشترى الذى هو العمدة فى عقود المعاوضة والمقصد الأصلى بالثمن الذى شأنه أن يكون وسيلة إلى تحصيله وأبرزت الآيات التى حقها أن يتنافس فيها المتنافسون فى معرض الآلات والوسايط حيث قرنت بالباء التى تصحب الوسائل إيذنا بمبالغتهم* فى التعكيس بأن جعلوا المقصد الأقصى وسيلة والوسيلة الأدنى مقصدا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) كائنا من كان دون المخاطبين خاصة فإنهم مندرجون فيه اندراجا أوليا أى من لم يحكم بذلك مستهينا* به منكرا له كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاء بينا (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من* والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها (هُمُ الْكافِرُونَ) لاستهانتهم به وهم إما ضمير الفصل أو مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر لأولئك وقد مر تفصيله فى مطلع سورة البقرة والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى فكيف وقد انضم إليه الحكم بخلافه لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا (وَكَتَبْنا) عطف على (أَنْزَلْنَا

٤٢

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧)

____________________________________

التَّوْراةَ (عَلَيْهِمْ) أى على الذين هادوا وقرىء وأنزل الله على بنى إسرائيل (فِيها) أى فى التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أى تقاد بها إذا قتلتها بغير حق (وَالْعَيْنَ) تفقا (بِالْعَيْنِ) إذا فقئت بغير حق (وَالْأَنْفَ) * يجدع (بِالْأَنْفِ) المقطوع بغير حق (وَالْأُذُنَ) تصلم (بِالْأُذُنِ) المقطوعة ظلما (وَالسِّنَّ) تقلع (بِالسِّنِّ) * المقلوعة بغير حق (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أى ذات قصاص إذا كانت بحيث تعرف المساواة وعن ابن* عباس رضى الله تعالى عنهما أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت وقرىء وإن الجروح قصاص وقرىء والعين إلى آخره بالرفع عطفا على محل أن النفس لأن المعنى كتبنا عليهم النفس بالنفس إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا وإما لأن معنى الجملة التى هى قولك النفس بالنفس مما يقع عليه الكتب كما يقع عليه القراءة تقول كتبت الحمد لله وقرأت سورة أنزلناها (فَمَنْ تَصَدَّقَ) أى من المستحقين* (بِهِ) أى بالقصاص أى فمن عفا عنه والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة فى الترغيب فيه (فَهُوَ) أى التصدق* (كَفَّارَةٌ لَهُ) أى للمتصدق يكفر الله تعالى بها ذنوبه وقيل للجانى إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط* عنه ما لزمه وقرىء فهو كفارته له أى فالمتصدق كفارته التى يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شىء وهو تعظيم لما فعل كقوله تعالى (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) كائنا من كان فيتناول من لا يرى قتل* الرجل بالمرأة من اليهود ئناولا بينا (بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام والشرائع كائنا ما كان فيدخل فيها* الأحكام المحكية دخولا أوليا (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المبالغون فى الظلم المتعدون لحدوده تعالى* الواضعون للشىء فى غير موضعه والجملة تذييل مقرر لإيجاب العمل بالأحكام المذكورة (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) شروع فى بيان أحكام الإنجيل إثر بيان أحكام التوراة وهو عطف على (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) أى آثار البيين المذكورين يقال قفيته بفلان إذا أتبعته إياه فحذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه أى قفيناهم (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أى أرسلناه عقبهم (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) حال من عيسى عليه‌السلام* (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) عطف على قفينا وقرىء بفتح الهمزة (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) كما فى التوراة وهو فى محل* النصب على أنه حال من الإنجيل أى كائنا فيه ذلك كأنه قيل مشتملا على هدى ونور وتنوين هدى ونور للتفخيم ويندرج فى ذلك شواهد نبوته عليه‌السلام (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) عطف عليه داخل* فى حكم الحالية وتكرير ما بين يديه من التوراة لزيادة التقرير (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) عطف على* (مُصَدِّقاً) منتظم معه فى سلك الحالية جعل كله هدى بعد ما جعل مشتملا عليه حيث قيل هدى وتخصيص كونه هدى وموعظة بالمتقين لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التى من جملتها دلائل رسالته عليه الصلاة

٤٣

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨)

____________________________________

والسلام وشواهد نبوته وما قررته الشريعة الشريفة من أحكامه وأما أحكامه المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله فيه بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة شهادة بنسخها وبأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التى شهد بصحتها كما سيأتى فى قوله تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الآية وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على آتيناه أى وقلنا ليحكم أهل الإنجيل الخ وقرىء وأن ليحكم على أن أن موصولة بالأمر كما فى قولك أمرته بأن قم كأنه قيل وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل الخ وقرىء على صيغة المضارع ولام التعليل على أنها متعلقة بمقدر كأنه قيل وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه وقد عطف على هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما كأنه قيل وللهدى والموعظة* آتيناه إياه وللحكم بما أنزل الله فيه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) منكرا له مستهينا به (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المتمردون الخارجون عن الإيمان والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكد لوجوب الامتثال بالأمر وفيه دلالة على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام وأن عيسى عليه‌السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما فى التوراة خاصة وحمله على معنى وليحكم بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أى الفرد الكامل الحقيقى بأن يسمى كتابا على الإطلاق لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماوى وتفوقه على بقية أفراده وهو القرآن الكريم فاللام للعهد والجملة عطف على (أَنْزَلْنا) وما عطف عليه وقوله تعالى* (بِالْحَقِّ) متعلق بمحذوف وقع حالا مؤكدة من الكتاب أى ملتبسا بالحق والصدق وقيل من فاعل* أنزلنا وقيل من الكاف فى إليك وقوله تعالى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) حال من (الْكِتابَ) أى حال كونه مصدقا لما تقدمه إما من حيث إنه نازل حسبما نعت فيه أو من حيث أنه موافق له فى القصص والمواعيد والدعوة إلى الحق والعدل بين الناس والنهى عن المعاصى والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته له فى بعض جزئيات الأحكام المتغيرة بسبب تغير الأعصار فليست بمخالفة فى الحقيقة بل هى موافقة لها من حيث إن كلا من تلك الأحكام حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التى عليها يدور أمر الشريعة وليس فى المتقدم دلالة على أبدية أحكامه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخر وإنما يدل على مشروعيتها مطلقا من غير تعرض لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطق بزوالها لما أن النطق بصحة ما ينسخها نطق* ينسخها وزوالها وقوله تعالى (مِنَ الْكِتابِ) بيان لما واللام للجنس إذ المراد هو الكتاب السماوى وهو

٤٤

بهذا العنوان جنس برأسه وإن كان فى نفسه نوعا مخصوصا من مدلول لفظ الكتاب وعن هذا قالوا اللام للعهد إلا أن ذلك لا ينتهى إلى خصوصية الفردية بل إلى خصوصية النوعية التى هى أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر ومن الكتاب السماوى أيضا حيث خص بما عدا القرآن (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أى رقيبا على سائر الكتب* المحفوظة من التغيير لأنه يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة ببيان انتهاء مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاء وقت العمل بها ولا ريب فى أن تمييز أحكامها الباقية على المشروعية أبدا عما انتهى وقت مشروعيته وخرج عنها من أحكام كونه مهيمنا عليه وقرىء ومهيمنا عليه على صيغة المفعول أى هو من عليه وحوفظ من التغيير والتبديل كقوله عزوجل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والحافظ إما من جهته تعالى كما فى قوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون أو الحافظ فى الأعصار والأمصار والفاء فى قوله تعالى (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) لترتيب* ما بعدها على ما قبلها فإن كون شأن القرآن العظيم حقا مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على الأمم مهيمنا عليه من موجبات الحكم المأمور به أى إذا كان القرآن كما ذكر فاحكم بين أهل الكتابين عند تحاكمهم إليك (بِما أَنْزَلَ اللهُ) أى بما أنزله إليك فإنه مشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية فى الكتب الإلهية* وتقديم بينهم للاعتناء ببيان تعميم الحكم لهم ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على علية ما فى حيز الصلة للحكم والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) * الزائغة (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) الذى لا محيد عنه وعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه* كأنه قيل ولا تعدل عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم وقيل بمحذوف وقع حالا من فاعله أى لا تتبع أهواءهم عادلا عما جاءك وفيه أن ما وقع حالا لا بد أن يكون فعلا عاما ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما فى حيز الصلة من مجىء الحق إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الأهواء وقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) كلام مستأنف جىء به لحمل أهل الكتابين من معاصريه* صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم ببيان أنه هو الذى كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين وإنما الذين كلفوا العمل بهما من مضى قبل نسخهما من الأمم السالفة والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضا بطريق التغليب واللام متعلقة بجعلنا المتعدى لواحد وهو إخبار بجعل ماض لا إنشاء وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين كل ولا ضير فى توسط جعلنا بين الصفة والموصوف كما فى قوله تعالى (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ) الخ والمعنى لكل أمة كائنة منكم أيها الأمم الباقية والخالية جعلنا أى عينا ووضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التى عينت لها فالأمة التى كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما‌السلام شرعتهم التوراة والتى كانت من مبعث عيسى إلى مبعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرعتهم الإنجيل وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشرعة والشريعة هى الطريقة إلى الماء شبه بها الدين لكونه سبيلا موصولا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية والمنهاج الطريق الواضح فى الدين من نهج الأمر إذا وضح

٤٥

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) (٤٩)

____________________________________

وقرىء شرعة بفتح الشين قيل فيه دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا والتحقيق أنا متعبدون* بأحكامها الباقية من حيث إنها أحكام شرعتنا لا من حيث أنها شرعة للأولين (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) متفقة على دين واحد فى جميع الأعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الأمم فى شىء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل ومفعول المشيئة محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه أى ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم الخ وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم* عليه (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أى ولكن لم يشأ ذلك أى أن يجعلكم أمة واحدة* بل شاء ما عليه السنة الإلهية الجارية فيما بين الأمم ليعاملكم معاملة من يبتليكم (فِي ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة المناسبة لأعصارها وقرونها هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى المشيئة الإلهية المبنية على أساس الحكم البالغة والمصالح النافعة لكم فى معاشكم ومعادكم أو تزيغون عن الحق وتتبعون الهوى وتستبدلون المضرة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى وبهذا اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء بل العمدة فى ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه* مصلحتهم معاشا ومعادا كما ينبىء عنه قوله عزوجل (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أى إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم فى الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة فى القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لسابقة الفضل والتقدم ففيه من تأكيد الترغيب فى الإذعان للحق* وتشديد التحذبر عن الزيغ ما لا يخفى وقوله تعالى (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) استئناف مسوق مساق التعليل* لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد وقوله تعالى (جَمِيعاً) حال من ضمير الخطاب والعامل فيه إما المصدر المنحل إلى حرف مصدرى وفعل مبنى للفاعل أو مبنى للمفعول وإما الاستقرار المقدر فى الجار* (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أى فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل ما لا يبقى لكم منه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون فى الدنيا وإنما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التى هى وظيفة الإخبار (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) عطف على (الْكِتابَ) أى أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه والتعرض لعنوان إنزاله تعالى إياه لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر أو على الحق أى أنزلناه بالحق وبأن احكم وحكاية إنزال الأمر بهذا الحكم بعد مامر من* الأمر الصريح بذلك تأكيد له وتمهيد لما يعقبه من قوله تعالى (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أى يصرفوك عن بعضه ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب وأن بصلته بدل اشتمال من ضميرهم أى احذر فتنتهم أو مفعول له أى

٤٦

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١)

____________________________________

احذرهم مخافة أن يفتنوك وإعادة ما أنزل الله لتأكيد التحذير بتهويل الخطب. روى أن أحبار اليهود قالوا اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فذهبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا يا أبا القاسم قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصوصة فنتحاكم إليك فتقضى لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أى أعرضوا عن الحكم بما* أنزل الله تعالى وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أى بذنب توليهم عن* حكم الله عزوجل وإنما عبر عنه بذلك إيذانا بأن لهم ذنوبا كثيرة هذا مع كمال عظمه واحد من جملتها وفى هذا الإبهام تعظيم للتولى كما فى قول لبيد [أو يرتبط بعض النفوس حمامها] يريد به نفسه أى نفسا كبيرة ونفسا أى نفس (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أى متمردون فى الكفر مصرون عليه* خارجون عن الحدود المعهودة وهو اعتراض تذييلى مقرر؟؟؟ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجيب لأن التولى عن حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلب حكم آخر منكر عجيب وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب والمراد بالجاهلية إما الملة الجاهلية التى هى متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة فى الأحكام فيكون تعييرا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التى هى هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحى وإما أهل الجاهلية وحكمهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى حيث روى أن بنى النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى خصومة قتل وقعت بينهم وبين بنى قريظة طلبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم القتلى سواء فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت وقرىء برفع الحكم على أنه مبتدأ ويبغون خبره والراجع محذوف حذفه فى قوله تعالى (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وقد استضعف ذلك فى غير الشعر وقرىء بقاء الخطاب إما بالالتفات لتشديد التوبيخ وإما بتقدير القول أى قل لهم أفحكم الخ وقرىء بفتح الحاء والكاف أى أفحاكما كحكام الجاهلية يبغون (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه تعالى أو مساوله وإن كان* ظاهر السبك غير متعرض لنفى المساواة وإنكارها وقد مر تفصيله فى تفسير قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أى عندهم واللام كما فى هيت لك أى هذا الاستفهام لهم فإنهم الذين* يتدبرون الأمور بأنظارهم فيعلمون يقينا أن حكم الله عزوجل أحسن الأحكام وأعدلها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم وإن كان سبب وروده بعضا منهم كما سيأتى

٤٧

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥٢)

____________________________________

* ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله عزوجل (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما أى لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الأحباب ومعاشرتهم* لا بمعنى لا تجعلوهم أولياء لكم حقيقة فإنه أمر ممتنع فى نفسه لا يتعلق به النهى (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أى بعض كل فريق من دينك الفريقين أولياء بعض آخر من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر وإنما أوثر الإجمال فى البيان تعويلا على ظهور المراد لوضوح انتفاء الموالاة بين فريقى اليهود والنصارى رأسا والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهى وتأكيد إيجاب الاجتناب عن المنهى عنه أى بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة فى كل ما يأتون وما يذرون ومن ضرورته إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث* يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة وقوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) حكم مستنتج منه فإن انحصار الموالاة فيما بينهم يستدعى كون من يواليهم منهم ضرورة أن الاتحاد فى الدين الذى عليه يدور أمر الموالاة حيث لم يكن بكونهم ممن يواليهم من المؤمنين تعين أن يكون ذلك بكون من يواليهم منهم وفيه زجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن* موالاة فى الحقيقة وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تعليل لكون من يتولاهم منهم أى لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون فى الكفر والضلالة وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض لأنفسهم للعذاب الخالد ووضع للشىء فى غير موضعه وقوله تعالى (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بيان لكيفية توليهم وإشعار بسببه وبما يؤول إليه أمرهم والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية والخطاب إما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين وإما لكل أحد ممن له أهلية له وفيه مزيد تشنيع للتشنيع أى لا يهديهم بل يذرهم وشأنهم فتراهم الخ وإنما وضع موضع الضمير الموصول ليشار بما فى حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولى بسبب ما فى قلوبهم من مرض النفاق ورخاوة العقد فى الدين* وقوله تعالى (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) حال من الموصول والرؤية بصرية وقيل مفعول ثان والرؤية قلبية والأول هو الأنسب بظهور نفاقهم أى تراهم مسارعين فى موالاتهم وإنما قيل فيهم مبالغة فى بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها وإيثار كلمة فى على كلمة إلى للدلالة على أنهم مستقرون فى الموالاة وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها كما فى قوله تعالى (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها كما فى قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) وقرىء فيرى بياء الغيبة على أن الضمير لله سبحانه وقيل لمن تصح منه الرؤية وقيل الفاعل هو الموصول والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية والرؤية قلبية أى ويرى القوم الذين فى قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن

٤٨

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) (٥٣)

____________________________________

انقلب الفعل مرفوعا كما فى قول من قال [ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى] والمراد بهم عبد الله بن أبى وأضرابه الذين كانوا يسارعون فى موادة اليهود ونصارى نجران وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم صروف الزمان وذلك قوله تعالى (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) وهو حال من* ضمير يسارعون والدائرة من الصفات الغالبة التى لا يذكر معها موصوفها أى تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دوله بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار وقيل نخشى أن يصيبنا مكروه من مكاره الدهر كالجدب والقحط فلا يعطونا الميرة والقرض. روى أن عبادة بن الصامت رضى الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن لى موالى من اليهود كثيرا عددهم وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم وأوالى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبى إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالى وهم يهود بنى قينقاع ولعله يظهر للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخير ويضمر فى نفسه المعنى الأول وقوله تعالى (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطع لأطماعهم الفارغة وتبشير للمؤمنين بالظفر فإن عسى منه سبحانه وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم لا محالة فما ظنك بأكرم الأكرمين وأن يأتى فى محل النصب على أنه خبر عسى وهو رأى الأخفش أو على أنه مفعول به وهو رأى سيبويه لئلا يلزم الإخبار عن الجثة بالحدث كما فى قولك عسى زيد أن يقوم والمراد بالفتح فتح مكة قاله الكلبى والسدى وقال الضحاك فتح قرى اليهود من خيبر وفدك وقال قتادة ومقاتل هو القضاء الفصل بنصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من خالفه وإعزاز الدين (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) بقطع شأفة اليهود من القتل والإجلاء (فَيُصْبِحُوا) أى أولئك* المنافقون المتعللون بما ذكر وهو عطف على يأتى داخل معه فى حيز خبر عسى وإن لم يكن فيه ضمير يعود إلى اسمها فإن فاء السببية مغنية عن ذلك فإنها تجعل الجملتين كجملة واحدة (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) * وهو ما كانوا يكتمونه فى أنفسهم من الكفر والشك فى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليق الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذى كان يحملهم على الموالاة ويغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مبتدأ مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة وقرىء بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل فماذا يقول المؤمنون حينئذ وقرىء ويقول بالنصب عطفا على يصبحوا وقيل على يأتى باعتبار المعنى كأنه قيل فعسى أن يأتى الله بالفتح ويقول الذين آمنوا والأول أوجه لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة عنهم فى السراء والضراء عند مشاهدتهم لخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم بوقوع ضد ما كانوا يترقبونه ويتعللون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ

٤٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٥٤)

____________________________________

(أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أى بالنصرة والمعونة كما قالوا فيما حكى عنهم وإن قوتلتم لننصرنكم واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم فى ذلك أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين أيضا أهؤلاء الذين أقسموا للكفرة إنهم لمعكم فالخطاب فى معكم لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين وعلى الثانى من جهة المقسمين وهذه الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل إنا معكم وجهد الأيمان أغلظها وهو فى الأصل مصدر ونصبه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ولا يبالى بتعريفه لفظا لأنه مؤول بنكرة أى مجتهدين فى أيمانهم أو على* المصدر أى أقسموا إقسام اجتهاد فى اليمين وقوله تعالى (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) إما جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والإقسام على المعية فى المنشط والمكره إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام الإنكارى وإما خبر ثان للمبتدأ عند من يجوز كونه جملة كما فى قوله تعالى (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أو هو الخبر والموصول مع ما فى حيز صلته صفة لاسم الإشارة فالاستفهام حينئذ للتقرير وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم والمعنى بطلت أعمالهم التى عملوها فى شأن موالاتكم وسعوا فى ذلك سعيا بليغا حيث لم تكن لكم دولة فينتفعوا بما صنعوا من المساعى وتحملوا من مكابدة المشاق وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى وقيل قاله بعض المؤمنين مخاطبا لبعض تعجبا من سوء حال المنافقين واغتباطا بما من الله تعالى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص أهؤلاء الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان إنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار بطلت أعمالهم التى كانوا يتكلفونها فى رأى أعين الناس وأنت خبير بأن ذلك الكلام من المؤمنين إنما يليق بما لو أظهر المنافقون حينئذ خلاف ما كانوا يدعونه ويقسمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضدتهم على الكفار فظهر كذبهم وافتضحوا بذلك على رءوس الأشهاد وبطلت أعمالهم التى كانوا يتكلفونها فى رأى أعين المؤمنين ولا ريب فى أنهم يومئذ أشد ادعاء وأكثر إقساما منهم قبل ذلك فضلا عن أن يظهروا خلاف ذلك وإنما الذى يظهر منهم الندامة على ما صنعوا وليس ذلك علامة ظاهرة الدلالة على كفرهم وكذبهم فى ادعائهم فإنهم يدعون أن ليست ندامتهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكفرة خشية إصابة الدائرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) وقرىء يرتدد بالفك على لغة الحجاز والإدغام لغة تميم لما نهى فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين وفصل مصير أمر من يواليهم من المنافقين شرع فى بيان حال المرتدين على الإطلاق وهذا من الكائنات التى أخبر

٥٠

عنها القرآن قبل وقوعها. روى أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة ثلاث فى عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسى كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله تعالى على يدى فيروز الديلمى بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد وأتى خبره فى آخر شهر ربيع الأول وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لى ونصفها لك فأجاب عليه الصلاة والسلام من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد ف (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فحاربه أبو بكر رضى الله عنه بجنود المسلمين وقتل على يدى وحشى قاتل حمزة رضى الله عنه وكان يقول قتلت فى جاهليتى خير الناس وفى إسلامى شر الناس وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه أبو بكر رضى الله عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشأم فأسلم وحسن إسلامه وسبع فى عهد أبى بكر رضى الله عنه فزاره قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيرى وبنو سليم قوم الفجاءة ابن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التى زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعرى فى كتاب استغفر واستغفرى[آمت سجاح ووالاها مسيلمة * كذابة فى بنى الدنيا وكذاب] وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله تعالى أمرهم على يد أبى بكر رضى الله عنه وفرقة واحدة فى عهد عمر رضى الله عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلاد الروم وقصته مشهوره وقوله تعالى (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ) جواب الشرط والعائد إلى اسم* الشرط محذوف أى فسوف يأتى الله مكانهم بعد إهلاكهم (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ) أى يريد بهم خيرى الدنيا* والآخرة ومحل الجملة الجر على أنها صفة لقوم وقوله تعالى (وَيُحِبُّونَهُ) أى يريدون طاعته ويتحرزون* عن معاصيه معطوف عليها داخل فى حكمها قيل هم أهل اليمن لما روى أن النبى عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبى موسى الأشعرى وقال قوم هذا وقيل هم الأنصار رضى الله عنهم وقيل هم الفرس لما روى أنه عليه‌السلام سئل عنهم فضرب بيده الكريمة على عاتق سلمان رضى الله عنه وقال هذا وذووه ثم قال لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس وقيل هم ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) جمع ذليل لا ذلول* فإن جمعه ذلل أى أرقاء رحماء متذللين ومتواضعين لهم واستعماله بعلى إما لتضمين معنى العطف والحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم أو لرعاية المقابلة بينه وبين ما فى قوله تعالى (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أى أشداء منغلبين عليهم من عزه إذا غلبه كما فى قوله عز وعلا* (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) وهما صفتان أخريان لقوم ترك بينها العاطف للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة من الجملة والظرف كما فى قوله تعالى (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) وقوله تعالى (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) وقوله تعالى

٥١

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦)

____________________________________

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) وما ذهب إليه من لا يجوزه من أن قوله تعالى (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) كلام معترض وأن (مُبارَكٌ) خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف وأن (مِنْ رَبِّهِمْ) و (مِنَ الرَّحْمنِ) حالان مقدمتان* من ضمير محدث تكلف لا يخفى وقرىء أذلة أعزة بالنصب على الحالية من قوم لتخصصه بالصفة (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفة أخرى لقوم مترتبة على ما قبلها مبينة مع ما بعدها لكيفية عزتهم أو حال من الضمير* فى (أَعِزَّةٍ (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) عطف على (يُجاهِدُونَ) بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة فى سبيل الله وبين التصلب فى الدين وفيه تعريض بالمنافقين فإنهم كانوا إذا خرجوا فى جيش المسلمين خافوا أولياءهم اليهود فلا يكادون يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم وقيل هو حال من فاعل يجاهدون بمعنى أنهم يجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين واعتراض عليه بأنهم نصوا على أن المضارع المنفى بلا أو ما كالمثبت فى* عدم جواز مباشرة واو الحال له واللومة المرة من اللوم وفيها وفى تنكير لائم مبالغة لا تخفى (ذلِكَ) إشارة* إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها فى الفضل (فَضْلُ اللهِ) * أى لطفه وإحسانه لا أنهم مستقلون فى الاتصاف بها (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إيتاءه إياه ويوفقه لكسبه* وتحصيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة (وَاللهُ واسِعٌ) كثير الفواضل والألطاف (عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم بجميع الأشياء التى من جملتها من هو أهل للفضل والتوفيق والجملة اعتراض تذييلى مقرر لما قبله وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) لما نهاهم الله عزوجل عن موالاة الكفرة وعلله بأن بعضهم أولياء بعض لا يتصور ولايتهم للمؤمنين وبين أن من يتولاهم يكون من جملتهم بين ههنا من هو وليهم بطريق قصر الولاية عليه كأنه قيل لا تتخذوهم أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنين فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطوهم إلى غيرهم وإنما أفرد الولى مع تعدده للإيذان بأن الولاية أصالة لله* تعالى وولايته عليه‌السلام وكذا ولاية المؤمنين بطريق التبعية لولايته عزوجل (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) صفة للذين آمنوا لجريانه مجرى الاسم أو بدل منه أو نصب على المدح أو رفع عليه* (وَهُمْ راكِعُونَ) حال مع فاعل الفعلين أى يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى وقيل هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة والركوع ركوع الصلاة والمراد بيان كمال رغبتهم فى الإحسان ومسارعتهم إليه وروى أنها نزلت فى على رضى الله عنه حين سأله سائل وهو راكع فطرح إليه خاتمه كأنه كان مرجا فى خنصره غير محتاج فى إخراجه إلى كثير عمل يؤدى إلى فساد الصلاة ولفظ الجمع حينئذ لترغيب الناس فى مثل فعله رضى الله عنه وفيه دلالة على أن صدقة التطوع تسمى زكاة (وَمَنْ يَتَوَلَ

٥٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) (٥٩)

____________________________________

اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أوثر الإظهار على أن يقال ومن يتولهم رعاية لما مر من نكتة بيان أصالته تعالى فى الولاية كما ينبىء عنه قوله تعالى (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) حيث أضيف الحزب إليه تعالى خاصة* وهو أيضا من باب وضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى من أى فإنهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم بالطريق البرهانى كأنه قيل ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) روى أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المؤمنين يوادونهما فنهوا عن موالاتهما ورتب النهى على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) بيان للمستهزئين والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان* كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن الاستهزاء بالدين المؤسس على الكتاب المصدق لكتابهم (وَالْكُفَّارَ) أى المشركين خصوا به لتضاعف كفرهم وهو عطف على الموصول الأول ففيه إشعار* بأنهم ليسوا بمستهزئين كما ينبىء عنه تخصيص الخطاب بأهل الكتاب فى قوله تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) الآية وقرىء بالجر عطفا على الموصول الأخير ويعضده قراءة أبى ومن الكفار وقراءة عبد الله ومن الذين أشركوا فهم أيضا من جملة المستهزئين (أَوْلِياءَ) وجانبوهم كل المجانبة (وَاتَّقُوا اللهَ) فى ذلك بترك* موالاتهم أو بترك المناهى على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أى* حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها) أى الصلاة أو المناداة ففيه دلالة على شرعية الأذان (هُزُواً وَلَعِباً) بيان لاستهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد بيان* استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارا لكمال شقاوتهم. روى أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله يقول أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطايرت منه شرارة فى البيت فأحرقته وأهله جميعا (ذلِكَ) أى الاستهزاء المذكور (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم* (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) فإن السفه يؤدى إلى الجهل بمحاسن الحق والهزؤ به ولو كان لهم عقل فى الجملة لما* اجترءوا على تلك العظيمة (قُلْ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهى المؤمنين عن تولى المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين أن الدين منزه هما يصحح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء ويظهر

٥٣

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٦٠)

____________________________________

* لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر أى قل لأولئك الفجرة (يا أَهْلَ الْكِتابِ) وصفوا بأهلية الكتاب* تمهيدا لما سيأتى من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) من نقم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه ينقمه من حد ضرب وقرىء بفتح القاف من حد علم وهى أيضا لغة أى ما تعيبون وما تنكرون* منا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن المجيد (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) أى من قبل إنزاله من التوراة* والإنجيل المنزلين عليكم وسائر الكتب الإلهية (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أى متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدقه لا محالة وهو عطف على أن آمنا على أنه مفعول له لتنقمون والمفعول الذى هو الدين محذوف ثقة بدلالة ما قبله وما بعده عليه دلالة واضحة فإن اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره والإيمان بما فصل عين الدين الذى نقموه خلا أنه أبرز فى معرض علة نقمهم له تسجيلا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه فى نفسه موجبا لقبوله وارتضائه فالاستثناء من أعم العلل أى ما تنقمون مناديننا لعلة من العلل إلا لأن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بواحد مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به وإسناد الفسق إلى أكثرهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرد والعناد وقيل عطف عليه على أنه مفعول لتنقمون منا لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين بل هو ما يلزمهما من المخالفة كأنه قيل ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون عنه وقيل على حذف المضاف أى واعتقاد أن أكثركم فاسقون وقيل عطف على ما أى ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون وقيل عطف على علة محذوفة أى لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون وقيل الواو بمعنى مع أى ما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم الخ وقيل هو منصوب بفعل مقدر دل عليه المذكور أى ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون وقيل هو مرفوع على الابتداء والخبر محذوف أى وفسقكم معلوم أى ثابت والجملة حالية أو معترضة وقرىء بأن للكسورة والجملة مستأنفة مبينة لكون أكثرهم فاسقين متمردين (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ببيان أن مدار نقمهم للدين إنما هو اشتماله على ما يوجب ارتضاءه عندهم أيضا وكفرهم بما هو مسلم لهم أمر عليه الصلاة والسلام عقيبه بأن يبكتهم ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ما هم عليه من الدين المحرف وينعى عليهم فى ضمن البيان جناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها على منهاج التعريض لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد ويخاطبهم قبل البيان بما ينبىء عن عظم شأن المبين ويستدعى إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطيرا لما أن النبأ هو الخبر الذى له شأن وخطر وحيث كان مناط النقم شرية المنقوم حقيقة أو اعتقادا وكان مجرد النقم غير مفيد

٥٤

لشريته البتة قيل بشر من ذلك ولم يقل بأنقم من ذلك تحقيقا لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها وقيل إنما قيل ذلك لوقوعه فى عبارة المخاطبين حيث أتى نفر من اليهود فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام أو من بالله وما أنزل إلينا إلى قوله ونحن له مسلمون فحين سمعوا ذكر عيسى عليه‌السلام قالوا لا نعلم شرا من دينكم وإنما اعتبر الشرية بالنسبة إلى الدين وهو منزه عن شائبة الشرية بالكلية مجاراة معهم عل زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته ليثبت أن دينهم شر من كل شر أى هل أخبركم بما هو شر فى الحقيقة مما تعتقدونه شرا وإن كان فى نفسه خيرا محضا (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) أى جزاء ثابتا فى حكمه* وقرىء مثوبة وهى لغة فيها كمشورة ومشورة وهى مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر وإنما وضعت ههنا موضعها على طريقة قوله [تحية بينهم ضرب وجيع] ونصبها على التمييز من بشر وقوله عزوجل (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما أشير إليه بكلمة ذلك أى* دين من لعنه الخ أو بتقدير مضاف قبلها مناسب لمن أى بشر من أهل ذلك والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظاهر المناسب لسياق النظم الكريم وإما باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل ما الذى هو شر من ذلك فقيل هو دين من لعنه الله الخ أو قيل فى السؤال من ذا الذى هو شر من أهل ذلك فقيل هو من لعنه الله ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه والموصول عبارة عن المخاطبين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم فى المعاصى بعد وضوح الآيات وسنوح البينات (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أى مسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار* مائدة عيسى عليه‌السلام وقيل كلا المسخين فى أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير وجمع الضمير الراجع إلى الموصول فى منهم باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين الأولين باعتبار لفظه وإيثار وضعه موضع ضمير الخطاب المناسب لأنبئكم للقصد إلى إثبات الشرية بما عدد فى حيز صلته من الأمور الهائلة الموجبة لها على الطريقة البرهانية مع ما فيه من الاحتراز عن تهييج لجاجهم (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على صلة من وإفراد الضمير لما مر وكذا عبد الطاغوت على قراءة البناء للمفعول ورفع الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بمعنى صار معبودا فالراجع إلى الموصول محذوف على القراءتين أى عبد فيهم أو بينهم وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها فى الوجود وإن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية ولوروعى ترتيب الوجود وقيل من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب عليه الخ لربما فهم أن علة الشرية هو المجموع وقد قرىء عابد الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه نعت كفطن ويقظ وكذا عبدة الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه جمع عابد كخدم أو على أن أصله عبدة حذفت تاؤه للإضافة بالنصب فى الكل عطفا على

٥٥

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) (٦١)

____________________________________

القردة والخنازير وقرىء عبد الطاغوت بالجر عطفا على من بناء على أنه مجرور بتقدير المضاف وقد قيل إن من مجرور على أنه بدل من شر على أحد الوجهين المذكورين فى تقدير المضاف وأنت خبير بأن ذلك مع اقتضائه إخلاء النظم الكريم عن المزايا المذكورة بالمرة مما لا سبيل إليه قطعا ضرورة أن المقصود الأصلى ليس مضمون الجملة الاستفهامية بل هو كما مر مقدمة سيقت أمام المقصود لهزؤ المخاطبين وتوجيه أذهانهم نحو تلقى ما يلقى إليهم عقيبها بجملة خبرية موافقة فى الكيفية للسؤال الناشىء عنها وهو المقصود إفادته وعليه يدور ذلك الإلزام والتبكيت حسبما شرح فإذا جعل الموصول بما فى حيز صلته من تتمة الجملة الاستفهاميه فأين الذى يلقى إليهم عقيبها جوابا عما نشأ منها من السؤال ليحصل به الإلزام والتبكيت وأما الجملة الآتية فبمعزل من صلاحية الجواب كيف لا ولا بد من موافقته فى الكيفية للسؤال الناشىء عن الجملة الاستفهامية وقد عرفت أن السؤال الناشىء عنها يستدعى وقوع الشر من تتمة المخبر عنه لا خبرا كما فى الجملة المذكورة وسيتضح ذلك مزيد اتضاح بإذن الله تعالى والمراد بالطاغوت العجل وقيل هو الكهنة وكل من أطاعوه فى معصية الله عزوجل فيعم الحكم دين النصارى أيضا ويتضح وجه تأخير ذكر عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لتوهم اشتراك الفريقين فى تلك العقوبات ولما كان مآل ما ذكر بصدد التبكيت أن ما هو شر مما نقموه دينهم أو أن من هو شر من أهل ما نقموه أنفسهم بحسب ما قدر من المضافين وكانت الشرية على كلا الوجهين من تتمة الموضوع غير مقصودة الإثبات لدينهم أو لأنفسهم عقب ذلك بإثباتها لهم على وجه يشعر بعلية ما ذكر من القبائح لثبوتها لهم بجملة مستأنفة مسوقة من جهته سبحانه شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال أو داخلة تحت الأمر تأكيدا* للإلزام وتشديدا للتبكيت فقيل (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) فاسم الإشارة عبارة عمن ذكرت صفاتهم الخبيثة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الشرارة أى أولئك الموصوفون بتلك القبائح والفضائح* شر مكانهم جعل مكانا شرا ليكون أبلغ فى الدلالة على شرارتهم وقيل شر مكانا أى منصرفا (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) عطف على شر مقرر له أى أكثر ضلالا عن الطريق المستقيم وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا بينا لا غاية وراءه وصيغة التفضيل فى الموضعين للزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى من يشاركهم فى أصل الشرارة والضلال (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) نزلت فى ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهرون له الإيمان نفاقا فالخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجمع للتعظيم أوله مع من عنده من المسلمين أى إذا جاءوكم* أظهروا الإسلام (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أى يخرجون من عندك ملتبسين بالكفر كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعل دخلوا

٥٦

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤)

____________________________________

وخرجوا وقد وإن دخلت لتقريب الماضى من الحال ليصح أن يقع حالا أفادت أيضا بما فيها من معنى التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظنه ويتوقع أن يظهره الله تعالى ولذلك قيل (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أى من الكفر وفيه وعيد شديد لهم (وَتَرى) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والرؤية بصرية (كَثِيراً مِنْهُمْ) من اليهود والمنافقين وقوله تعالى (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ) حال من (كَثِيراً) وقيل مفعول ثان والرؤية قلبية والأول أنسب بحالهم وظهور نفاقهم والمسارعة المبادرة والمباشرة للشىء بسرعة وإيثار كلمة فى على كلمة إلى الواقعة فى قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) الخ لما ذكر فى قوله تعالى (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) والمراد بالإثم الكذب على الإطلاق وقيل الحرام وقيل كلمة الشرك وقولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وقيل هو ما يختص بهم من الآثام (وَالْعُدْوانِ) أى* الظلم المتعدى إلى الغير أو مجاوزة الحد فى المعاصى (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أى الحرام خصه بالذكر مع اندراجه* فى الإثم للمبالغة فى التقبيح (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى لبئس شيئا كانوا يعملونه والجمع بين صيغتى* الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) قال الحسن الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة وقيل كلهم فى اليهود وهو تحضيض للذين يقتدى بهم أفناؤهم ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهى أسافلهم عن ذلك مع توبيخ لهم على تركه (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) وهذا أبلغ مما قيل فى* حق عامتهم لما أن العمل لا يبلغ درجة الصنع ما لم يتدرب فيه صاحبه ولم يحصل فيه مهارة تامة ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسنة أقبح من مواقعة المعصية لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ ذم وفيه مما ينعى على العلماء توانيهم فى النهى عن المنكرات ما لا يخفى وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنها أشد آية فى القرآن وعن الضحاك ما فى القرآن آية أخوف عندى منها (وَقالَتِ الْيَهُودُ) قال ابن عباس وعكرمة والضحاك إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس

٥٧

مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله سبحانه بأن كفروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسط عليهم* فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه تعالى ممسك يقتر بالرزق فإن كلا من غل اليد وبسطها مجاز عن محض البخل والجود من غير قصد فى ذلك إلى إثبات يد وغل أو بسط ألا يرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما فى قوله[جاد الحمى بسط اليدين بوابل * شكرت نداه تلاعه ووهاده] وقد سلك لبيد هذا المسلك السديد حيث قال[وغداة ريح قد شهدت وقرة * إذ أصبحت بيد الشمال زمامها] فإنه إنما أراد بذلك إثبات القدرة التامة للشمال على التصرف فى القرة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطر بباله أن يثبت لها يدا ولا للقرة زماما وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقى كما مر فى قوله تعالى (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فى سورة آل عمران وقيل أرادوا ما حكى عنهم بقوله تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكنة أو بالفقر والنكد أو بغل الأيدى حقيقة بأن يكونوا أسارى مغلولين فى الدنيا ويسحبوا إلى النار بأغلالها فى الآخرة فتكون* المطابقة حينئذ من حيث اللفظ وملاحظة المعنى الأصلى كما فى سبنى سب الله دابره (وَلُعِنُوا) عطف على* الدعاء الأول أى أبعدوا من رحمة الله تعالى (بِما قالُوا) أى بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء وقيل كلاهما* خبر (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) عطف على مقدر يقتضيه المقام أى كلا ليس كذلك بل هو فى غاية ما يكون من الجود وإليه أشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهى إليه همم الأسخياء أن يعطوا ما يعطونه بكلتا يديهم وقيل التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتى الدنيا والآخرة وقيل على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا* (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذى اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على تلك الكفرة العظيمة والمعنى أن ذلك ليس لقصور فى فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم التى عليها يدور أمر المعاش والمعاد وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصى أن يضيق عليهم كما يشير إليه ما سيأتى من قوله عزوجل (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الآية وكيف ظرف ليشاء والجملة فى محل النصب على الحالية من ضمير ينفق أى ينفق كائنا على أى حال يشاء أى كائنا على مشيئته أى مريدا وترك ذكر ما ينفقه لقصد التعميم* (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) وهم علماؤهم ورؤساؤهم (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن المشتمل على هذه الآيات* وتقديم المفعول للاعتناء به وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لما أن بعضهم ليس كذلك (مِنْ رَبِّكَ) متعلق بأنزل كما أن إليك كذلك وتأخيره عنه مع أن حق المبدأ أن يتقدم على المنتهى لاقتضاء المقام الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه عليه‌السلام كما فى قوله تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) * والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام لتشريفه عليه‌السلام (طُغْياناً وَكُفْراً) مفعول ثان للزيادة أى ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين إما من حيث الشدة والغلو وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار

٥٨

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٦٦)

____________________________________

كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرضى مرضا (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) أى بين اليهود فإن بعضهم جبرية وبعضهم* قدرية وبعضهم مرجئة وبعضهم مشبهة (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فلا يكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق* أفوالهم والجملة مبتدأ مسوقة لإزاحة ما عسى يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدى إلى الإضرار بالمسلمين قيل العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض بلا عكس كلى (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بألقينا وقيل بالبغضاء (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) تصريح بما أشير إليه* من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين أى كلما أرادوا محاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورتبوا مباديها وركبوا فى ذلك متن كل صعب وذلول ردهم الله تعالى وقهرهم أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بخت نصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومى ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وللحرب إما صلة لأوقدوا أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنارا أى كائنة للحرب (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أى يجتهدون فى الكيد للإسلام وأهله* وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب وفسادا إما مفعول له أو فى موقع المصدر أى يسعون للفساد أو يسعون سعى فساد (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ولذلك أطفأ ثائرة إفسادهم* واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد ووضع المظهر مقام الضمير للتعليل وبيان كونهم راسخين فى الإفساد (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) أى اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس المنتظم للتوراة والإنجيل وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع فإن أهلية الكتاب توجب إيمانهم به وإقامتهم له لا محالة فكفرهم به وعدم إقامتهم له وهم أهله أقبح من كل قبيح وأشنع من كل شنيع فمفعول قوله تعالى (آمَنُوا) محذوف ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) وما لحق من قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) الخ أى ولو أنهم مع صدور ما صدر عنهم من فنون الجنايات قولا وفعلا آمنوا بما نفى عنهم الإيمان به فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما إرادة إيمانهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة فيأباها المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستلزم كفر بكتابهم فحمل الإيمان ههنا على الإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم (وَاتَّقَوْا) ما عددنا من معاصيهم التى من جملتها مخالفة كتابهم (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التى اقترفوها وإن كانت فى غاية العظم ونهاية الكثرة ولم نؤاخذهم بها (وَلَأَدْخَلْناهُمْ) مع ذلك* (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وتكرير اللام لتأكيد الوعد وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم وأن الإسلام* يجب ما قبله من السيئات وإن جلت وجاوزت كل حد معهود (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بمراعاة

٥٩

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٦٧)

____________________________________

ما فيهما من الأحكام التى من جملتها شواهد نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبشرات بعثته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك لا بمراعاة جميع ما فيهما من الأحكام لا نتساخ بعضها بنزول القرآن فليست مراعاة الكل من إقامتهما فى* شىء (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) من القرآن المجيد المصدق لكتبهم وإيراده بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بنى إسرائيل وتقديم إليهم لما مر من قبل وفى إضافة الرب إلى ضميرهم مزبد لطف بهم فى الدعوة إلى الإقامة وقيل المراد بما أنزل إليهم كتب أنبياء بنى إسرائيل مثل كتاب شعياء وكتاب حنقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم* (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أى لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات السماء والأرض أو بأن يكثر ثمرات الأشجار وغلال الزروع أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدل منها من رءوس الأشجار ويلتقط واما تساقط منها على الأرض وقيل المراد المبالغة فى شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل لأكلوا من كل جهة ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما فى قوله فلان يعطى ويمنع ومن فى الموضعين لابتداء الغاية وفى هاتين الشرطيتين من حثهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى والإقامة بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرهم عن الإخلال به بما ذكر ببيان إفضائه إلى الحرمان عنها وتنبيههم* على أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور فى فيض الفياض ما لا يخفى (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) جملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء وإقامة الكتب المنزلة من أهل الكتاب كأنه قيل هل كلهم كذلك مصرون على عدم الإيمان الخ فقيل منهم أمة مقتصدة إما على أن منهم مبتدأ باعتبار مضمونه أى بعضهم أمة وإما بتقدير الموصوف أى بعض كائن منهم كما مر فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الآية أى طائفة معتدلة وهم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه وثمانية وأربعون من النصارى وقيل طائفة حالهم* أمم فى عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) مبتدأ لتخصصه بالصفة خبره (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أى مقول فى حقهم هذا القول أى بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أى ما أسوأ عملهم من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه والإفراط فى العداوة وهم الأجلاف المتعصبون ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) نودى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة تشريفا له وإيذانا بأنها من موجبات الإتيان بما* أمر به من تبليغ ما أوحى إليه (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أى جميع ما أنزل إليك من الأحكام وما يتعلق بها* كائنا ما كان وفى قوله تعالى (مِنْ رَبِّكَ) أى مالك أمورك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك عدة ضمنية بحفظه* صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلاءته أى بلغه غير مراقب فى ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ما أمرت* به من تبليغ الجميع بالمعنى المذكور كما ينبىء عنه قوله تعالى (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) فإن ما لا تتعلق به الأحكام

٦٠