تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥٧)

____________________________________

يؤدى إلى الضرر أو عمله ملتبسا بجهالة (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد عمله أو من بعد سفهه (وَأَصْلَحَ) * أى ما أفسده تداركا وعزما على أن لا يعود إليه أبدا (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى فأمره أنه غفور رحيم أو فله* أنه غفور رحيم وقرىء فإنه بالكسر على أنه استئناف وقع فى صدر الجملة الواقعة خبرا لمن على أنها موصولة أو جوابا لها على أنها شرطية (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) قد مر آنفا ما فيه من الكلام أى هذا التفصيل البديع نفصل الآيات فى صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل وقرىء بالتذكير بناء على تذكيره فإن السبيل مما يذكر ويؤنث وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بعينها وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنفا أى ولتستبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل وقرىء بنصب السبيل على أن الفعل متعد وتاؤه للخطاب أى ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرجوع إلى مخاطبة المصرين على الشرك إثر ما أمر بمعاملة من عداهم من أهل الإنذار والتبشير بما يليق بحالهم أى قل لهم قطعا لأطماعهم الفارغة عن ركونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم وبيانا لكون ما هم عليه من الدين هوى محضا وضلالا بحتا إنى صرفت وزجرت بما نصب لى من الأدلة وأنزل على من الآيات فى أمر التوحيد (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أى عن عبادة ما تعبدونه* (مِنْ دُونِ اللهِ) كائنا ما كان (قُلْ) كرر الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به أو إيذانا باختلاف* المقولين من حيث إن الأول حكاية لما من جهته تعالى من النهى والثانى حكاية لما من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الانتهاء عما ذكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل (لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) استجهالا لهم وتنصيصا على أنهم فيما هم فيه* تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شىء مما ينطلق عليه الدين أصلا وإشعارا بما يوجب النهى والانتهاء وقوله تعالى (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) استئناف مؤكد لانتهائه عما نهى عنه مقرر لكونهم فى غاية الضلال* والغواية أى إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت وقوله تعالى (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) عطف على ما قبله والعدول* إلى الجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أى دوام النفى واستمراره لا نفى الدوام والاستمرار كما مر مرارا أى ما أنا فى شىء من الهدى حين أكون فى عدادهم وقوله تعالى (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) تحقيق للحق الذى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذى عليه الكفرة وبيان عدم

١٤١

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (٥٨)

____________________________________

اتباعه له والبينة الحجة الواضحة التى تفصل بين الحق والباطل والمراد بها القرآن والوحى وقيل هى الحجج* العقلية أو ما يعمها ولا يساعده المقام والتنوين للتفخيم وقوله تعالى (مِنْ رَبِّي) متعلق بمحذوف هو صفة لبينة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية وفى التعرض لعنوان الروبية* مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى وقوله تعالى (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) إما جملة مستأنفة أو حالية بتقدير قد أو بدونه جىء بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضى عدمه من غاية وضوح البينة والضمير المجرور للبينة والتذكير باعتبار المعنى المراد والمعنى إنى على بينة عظيمة* كائنة من ربى وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التى من جملتها الوعيد بمجىء العذاب وقوله تعالى (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) استئناف مبين لخطئهم فى شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بها وهو عدم مجىء ما وعد فيها من العذاب الذى كانوا يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم أى ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعود فى القرآن وتجعلون تأخره ذريعة* إلى تكذيبه فى حكمى وقدرتى حتى أجىء به وأظهر لكم صدقه أو ليس أمره بمفوض إلى (إِنِ الْحُكْمُ) أى ما الحكم فى ذلك تعجيلا وتأخيرا أو ما الحكم فى جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا* (إِلَّا لِلَّهِ) وحده من غير أن يكون لغيره دخل ما فيه بوجه من الوجوه وقوله تعالى (يَقُصُّ الْحَقَّ) أى يتبعه بيان لشئونه تعالى فى حكم المعهود أو فى جميع أحكامه المنتظمة له انتظاما أوليا أى لا يحكم إلا بما هو حق فيثبت حقيقة التأخير وقرىء يقضى فانتصاب الحق حينئذ على المصدرية أى يقضى القضاء الحق أو على المفعولية أى يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها وأصل القضاء الفصل بتمام* الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدى على صاحبه (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق ههنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل هذا هو الذى تستدعيه جزالة التنزيل وقد قيل إن المعنى إنى من معرفة ربى وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة وشاهد صدق وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيره وأنت خبير بأن مساق النظم الكريم فيما سبق وما لحق على وصفهم بتكذيب آيات الله تعالى بسبب عدم مجىء العذاب الموعود فيها فتكذيبهم به سبحانه فى أمر التوحيد مما لا تعلق له بالمقام أصلا (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) * أى فى قدرتى ومكنتى (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب الذى ورد به الوعيد بأن يكون أمره مفوضا إلى* من جهته تعالى (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أى بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم بقولكم متى هذا الوعد ونظائره وفى بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعين الفاعل الذى هو الله تعالى وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى فما قيل فى تفسيره لأهلكتكم عاجلا غضبا لربى ولتخلصت منكم* سريعا بمعزل من توفية المقام حقه وقوله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الامتناعية من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المستتبع لانتفاء قضاء الأمر وتعليل له والمعنى

١٤٢

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٠)

____________________________________

والله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوض الأمر إلى فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب والله أعلم (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) بيان لاختصاص المقدورات الغيبية به تعالى من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها به تعالى من حيث القدرة والمفاتح إما جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن فهو مستعار لمكان الغيب كأنها مخازن خزنت فيها الأمور الغيبية يغلق عليها ويفتح وإما جمع مفتح بكسرها وهو المفتاح ويؤيده قراءة من قرأ مفاتيح الغيب فهو مستعار لما يتوصل به إلى تلك الأمور بناء على الاستعارة الأولى أى عنده تعالى خاصة خزائن غيوبه أو ما يتوصل به إليها وقوله عزوجل (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) تأكيد لمضمون ما قبله وإيذان بأن المراد هو الاختصاص* من حيث العلم لا من حيث القدرة والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدورا لى حتى ألزمكم بتعجيله ولا معلوما لدى لأخبركم وقت نزوله بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح وقوله تعالى (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بيان لتعلق علمه تعالى بالمشاهدات* إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيها على أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط سواء فى الجلاء أى يعلم ما فيهما من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها وقوله تعالى (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) بيان لتعلقه بأحوالها المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فإن تخصيص حال السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكر حال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال سائر ما فيهما من فنون الموجودات الفائتة للحصر باعتبار أنها أنموذج لأحوال سائرها وقوله تعالى (وَلا حَبَّةٍ) عطف على (وَرَقَةٍ) وقوله تعالى (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) متعلق بمحذوف هو صفة لحبة* مفيدة لكمال نفوذ علمه تعالى أى ولا حبة كائنة فى بطون الأرض إلا يعلمها وكذا قوله تعالى (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) معطوفان عليها داخلان فى حكمها وقوله تعالى (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين عبارة عن علمه تعالى أو بدل الاشتمال على أنه عبارة عن اللوح المحفوظ وقرىء الأخيران بالرفع عطفا على محل من ورقة وقيل رفعهما بالابتداء والخبر إلا فى كتاب مبين وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه السقوط وقد نقل قراءة الرفع فى ولا حبة أيضا (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أى ينيمكم فيه على استعارة التوفى من الإماتة للإنامة لما بين الموت والنوم من المشاركة فى زوال الإحساس والتمييز وأصله قبض الشىء بتمامه (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أى ما كسبتم*

١٤٣

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦١)

____________________________________

فيه والمراد بالليل والنهار الجنس المتحقق فى كل فرد من أفرادهما إذ بالتوفى والبعث الموجدين فيها يتحقق قضاء الأجل المسمى المترتب عليها لا فى بعضها والمراد بعلمه تعالى ذلك علمه قبل الجرح كما يلوح به تقديم ذكره على البعث أى يعلم ما تجرحون بالنهار وصيغة الماضى للدلالة على التحقق وتخصيص التوفى بالليل* والجرح بالنهار مع تحقق كل منهما فيما خص بالآخر للجرى على سنن العادة (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أى يوقظكم فى النهار عطف على (يَتَوَفَّاكُمْ) وتوسيط قوله تعالى (وَيَعْلَمُ) الخ بينهما لبيان ما فى بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبة لإبقائهم على التوفى بل لإهلاكهم بالمرة يفيض عليهم الحياة ويمهلهم كما ينبىء عنه كلمة التراخى كأنه قيل هو الذى يتوفاكم فى جنس الليالى ثم يبعثكم* فى جنس النهر مع علمه بما ستجرحون فيها (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) معين لكل فرد فرد بحيث لا يكاد يتخطى* أحد ما عين له طرفة عين (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أى رجوعكم بالموت لا إلى غيره أصلا (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة بأعمالكم التى كنتم تعملونها فى تلك الليالى والأيام وقيل الخطاب مخصوص بالكفرة والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار وأنه تعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم الله من القبور فى شأن ما قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ليقضى الأجل الذى سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم وفيه ما لا يخفى من التكلف والإخلال لإفضائه إلى كون البعث معللا بقضاء الأجل المضروب له (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أى هو المتصرف فى أمورهم لا غيره يفعل بهم* ما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وأماتة وتعذيبا وإثابة إلى غير ذلك (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ) خاصة أيها المكلفون* (حَفَظَةً) من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وعليكم متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء وتقديمه على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلق بمحذوف هو حال من حفظه إذ لو تأخر لكان صفة أى كائنين عليكم وقيل متعلق بحفظة والمحفوظ محذوف على كل حال أى يرسل عليكم ملائكة يحفظون أعمالكم كائنة ما كانت وفى ذلك حكمة جميلة ونعمة جليلة لما أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رءوس الإشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطى المعاصى والقبائح وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشمه احتشامه من خدمه الواقفين على* أحواله وحتى فى قوله تعالى (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) هى التى يبتدأ بها الكلام وهى مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل ويرسل عليكم حفظة يحفظون أعمالكم مدة حياتكم* حتى إذا انتهت مدة أحدكم كائنا من كان وجاءه أسباب الموت ومباديه (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) الآخرون المفوض إليهم ذلك وهم ملك الموت وأعوانه وانتهى هناك حفظ الحفظة وقرىء توفاه ماضيا أو مضارعا بطرح* إحدى التاءين (وَهُمْ) أى الرسل (لا يُفَرِّطُونَ) أى بالتوانى والتأخير وقرىء مخففا من الإفراط أى

١٤٤

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (٦٤)

____________________________________

لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو تقصان والجملة حال من (رُسُلُنا) وقيل مستأنفة سيقت لبيان اعتنائهم بما أمروا به وقوله تعالى (ثُمَّ رُدُّوا) عطف على (تَوَفَّتْهُ) والضمير للكل المدلول عليه بأحدكم وهو السر فى مجيئه بطريق الالتفات تغليبا والإفراد أولا والجمع آخرا لوقوع التوفى على الانفراد والرد على الاجتماع أى ثم ردوا بعد البعث بالحشر (إِلَى اللهِ) أى إلى حكمه وجزائه فى موقف الحساب (مَوْلاهُمُ) أى مالكهم* الذى يلى أمورهم على الإطلاق لا ناصرهم كما فى قوله تعالى (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (الْحَقِّ) الذى لا* يقضى إلا بالعدل وقرىء بالنصب على المدح (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ صورة ومعنى لا لأحد غيره بوجه من* الوجوه (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) يحاسب جميع الخلائق فى أسرع زمان وأقصره لا يشغله حساب عن* حساب ولا شأن عن شأن وفى الحديث أن الله تعالى يحاسب الكل فى مقدار حلب شاة (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أى قل تقريرا لهم بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية من ينجيكم من شدائدهما الهائلة التى تبطل الحواس وتدهش العقول ولذلك استعير لها الظلمات المبطلة لحاسة البصر يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب أو من الخسف فى البر والغرق فى البحر وقرىء ينجيكم من الإنجاء والمعنى واحد وقوله تعالى (تَدْعُونَهُ) نصب على الحالية من مفعول (يُنَجِّيكُمْ) والضمير لمن أى من ينجيكم* منها حال كونكم داعين له أو من فاعله أى من ينجيكم منها حال كونه مدعوا من جهتكم وقوله تعالى (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) إما حال من فاعل (تَدْعُونَهُ) أو مصدر مؤكد له أى تدعونه متضرعين جهارا ومسرين أو تدعونه دعاء إعلان وإخفاء وقرىء خفية بكسر الخاء وقوله تعالى (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) حال من الفاعل أيضا على تقدير* القول أى تدعونه قائلين لئن أنجيتنا (مِنْ هذِهِ) الشدة والورطة التى عبر عنها بالظلمات (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أى الراسخين فى الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة أو جميع النعماء التى من جملتها هذه وقرىء لئن أنجانا مراعاة لقوله تعالى (تَدْعُونَهُ) (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقرير الجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بأنه متعين عندهم ولبناء قوله تعالى (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) عليه أى الله تعالى* وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه من الشدائد المذكورة وغيرها من الغموم والكرب ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعم الجليلة تشركون بعبادته تعالى غيره وقرىء ينجيكم بالتخفيف.

١٤٥

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (٦٦)

____________________________________

وقوله تعالى (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً) استئناف مسوق لبيان أنه تعالى هو القادر على إلقائهم فى المهالك إثر بيان أنه هو المنجى لهم منها وفيه وعيد ضمنى بالعذاب لإشراكهم المذكور على طريقة قوله عزوجل (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) إلى قوله تعالى (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) الآية وعليكم متعلق بيبعث وتقديمه على مفعوله الصريح للاعتناء به والمسارعة إلى بيان كون المبعوث مما يضرهم ولتهويل* أمر المؤخر وقوله تعالى (مِنْ فَوْقِكُمْ) متعلق به أيضا أو بمحذوف وقع صفة لعذابا أى عذابا كائنا من* جهة الفوق كما فعل بمن فعل من قوم لوط وأصحاب الفيل وأضرابهم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) أو من جهة السفل كما فعل بفرعون وقارون وقيل من فوقكم أكابركم ورؤسائكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم* وعبيدكم وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معا كما فعل بقوم نوح (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أى يخلطكم فرقا متحزبين على أهواء شتى كل فرقة مشايعة لإمام فينشب بينكم القتال فتختلطوا* فى الملاحم كقول الحماسى[وكتيبة لبستها بكتيبة * حتى إذا التبست نفضت لها يدى] (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) عطف على يبعث وقرىء بنون العظمة على طريقة الالتفات لتهويل الأمر والمبالغة فى التحذير والبعض الأول الكفار والآخر المؤمنون ففيه وعد ووعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عند قوله تعالى (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) هذا أهون أو هذا أيسر وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال سألت ربى أن لا يبعث على أمتى عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطانى ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم* بينهم فمنعنى ذلك (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) من حال إلى حال (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) كى يفقهوا ويقفوا على جلية الأمر فيرجعوا عماهم عليه من المكابرة والعناد (وَكَذَّبَ بِهِ) أى بالعذاب الموعود أو القرآن* المجيد الناطق بمجيئه (قَوْمُكَ) أى المعاندون منهم ولعل إيرادهم بهذا العنوان للإيذان بكمال سوء حالهم فإن تكذيبهم بذلك مع كونهم من قومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يقضى بغاية عتوهم ومكابرتهم وتقديم الجار والمجرور* على الفاعل لما مر مرارا من إظهار الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله تعالى (وَهُوَ الْحَقُّ) حال من الضمير المجرور أى كذبوا به والحال أنه الواقع لا محالة أو إنه الكتاب الصادق فى كل ما نطق به وقيل* هو استئناف وأيا ما كان ففيه دلالة على عظم جنايتهم ونهاية قبحها (قُلْ) لهم منبها على ما يئول إليه أمرهم* وعلى أنك قد أديت ما عليك من وظائف الرسالة (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ وكل إلى أمركم لا منعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق إنما أنا منذر وقد خرجت عن العهدة حيث أخبرتكم بما سترونه

١٤٦

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦٩)

____________________________________

(لِكُلِّ نَبَإٍ) أى لكل شىء ينبأ به من الأنباء التى من جملتها عذابكم أو لكل خبر من الأخبار التى من جملتها خبر مجيئه (مُسْتَقَرٌّ) أى وقت استقرار ووقوع البتة أو وقت استقرار بوقوع مدلوله (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) * أى حال نبئكم فى الدنيا أو فى الآخرة أو فيهما معا وسوف للتأكيد كما فى قوله تعالى (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) أى بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) بترك مجالستهم والقيام عنهم وقوله تعالى (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) غاية* للإعراض أى استمر على الإعراض إلى أن يخوضوا فى حديث غير آياتنا والتذكير باعتبار كونها حديثا فإن وصف الحديث بمغايرتها مشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية وقيل باعتبار كونها قرآنا (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) بأن يشغلك فتنسى النهى فتجالسهم ابتداء أو بقاء وقرىء ينسينك من التنسية (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) أى بعد تذكر النهى (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم* أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون فى ذلك (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن المسلمين حين نهوا عن مجالستهم عند خوضهم فى الآيات قالوا لئن كنا نقول كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس فى المسجد الحرام ونطوف بالبيت فنزلت أى (ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) قبائح أعمال الخائضين وأحوالهم (مِنْ حِسابِهِمْ) ى مما يحاسبون* عليه من الجرائر (مِنْ شَيْءٍ) أى شىء ما على أنه فى محل الرفع على أنه مبتدأ وما تميميه أو اسم لها وهى* حجازية ومن مزيدة للاستغراق و (مِنْ حِسابِهِمْ) حال منه و (عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) فى محل الرفع على أنه خبر للمبتدأ أو لما الحجازية على رأى من لا يجيز إعمالها فى الخبر المقدم مطلقا أو فى محل النصب على رأى من يجور إعمالها فى الخبر المقدم عند كونه ظرفا أو حرف جر (وَلكِنْ ذِكْرى) استدراك من النفى السابق أى* ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عماهم عليه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير ومحل (ذِكْرى) إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أى عليهم أن يذكروهم تذكيرا أو الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أى ولكن عليهم ذكرى (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أى يجتنبون* الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم وقد جوز كون الضمير للموصول أى يذكروهم رجاء أن يثبتوا على تقواهم أو يزدادوها.

١٤٧

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

____________________________________

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) الذى كلفوه وأمروا بإقامة مواجبه (لَعِباً وَلَهْواً) حيث سخروا به واستهزءوا أو بنوا أمر دينهم على ما لا يكاد يتعاطاه العاقل بطريق الجد وإنما يصدر عنه لو صدر بطريق اللعب واللهو كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك والمعنى أعرض عنهم ولا* تبال بأفعالهم وأقوالهم وقيل هو تهديد لهم كقوله تعالى (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) الآية (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) واطمأنوا بها حتى زعموا أن لا حياة بعدها أبدا (وَذَكِّرْ بِهِ) أى بالقرآن من يصلح للتذكير (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أى لئلا تبسل كقوله تعالى (أَنْ تَضِلُّوا) الآية أو مخافة أن تبسل أو كراهة أن تبسل نفوس كثيرة كما فى قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) وترتهن لسوء عملها وأصل الإبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه او لأنه ممتنع والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أى حرام ممنوع وقد جوز أن يكون الضمير المجرور فى به راجعا إلى الإبسال مع عدم جريان ذكره كما فى ضمير الشأن وتكون الجملة بدلا منه مفسرا له لما فى الإبهام أولا والتفسير ثانيا من التفخيم وزيادة التقرير كما فى قوله [على جوده لضن بالماء حاتم] بجر حاتم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس* وحبسها بما كسبت وقوله تعالى (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) استئناف مسوق للإخبار بذلك وقيل فى محل النصب على أنه حال من ضمير كسبت وقيل فى محل الرفع على أنه وصف لنفس والأظهر أنه حال من نفس فإنه فى قوة نفس كافرة أو نفوس كثيرة كما فى قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بمحذوف هو حال من (وَلِيٌ) كما بين فى تفسير قوله تعالى (وَأَنْذِرْ بِهِ) الآية وقيل هو خبر* لليس فيكون لها حينئذ متعلقا بمحذوف على البيان (وَإِنْ تَعْدِلْ) أى إن تفد تلك النفس (كُلَّ عَدْلٍ) * أى كل فداء على أنه مصدر مؤكد (لا يُؤْخَذْ مِنْها) على إسناد الفعل إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما* فى قوله تعالى (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) فإنه المفدى به لا المصدر كما نحن فيه (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم فى سوء الحال ومحله الرفع على* الابتداء والخبر قوله تعالى (الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) والجملة مستأنفة سيقت إثر تحذيرهم من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتلون بذلك أى أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا هم الذين* أبسلوا بما كسبوا وقوله تعالى (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) استئناف آخر مبين لكيفية الإبسال المذكور وعاقبته مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل ماذا لهم حين أبسلوا بما كسبوا فقيل لهم شراب من ماء* مغلى يتجرجر فى بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) بنار تشتعل بأبدانهم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أى بسبب كفرهم المستمر فى الدنيا وقد جوز أن يكون لهم شراب الخ حالا من ضمير أبسلوا وترتيب

١٤٨

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١)

____________________________________

ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضا حسبما ينطق به قوله تعالى (بِما كَسَبُوا) لأنه العمدة فى إيجاب العذاب والأهم فى باب التحذير أو أريد بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصى والسيئات هذا وقد جوز أن يكون (أُولئِكَ) إشارة إلى النفوس المدلول عليها بنفس محله الرفع بالابتداء والموصول الثانى صفته أو بدل منه و (لَهُمْ شَرابٌ) الخ خبره والجملة مسوقة لبيان تبعة الإبسال (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) قيل نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام فتوجيه الأمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ للإيذان بما بينهما من الاتصال والاتحاد تنويها لشأن الصديق رضى الله تعالى عنه أى أنعبد متجاوزين عبادة الله الجامع لجميع صفات الألوهية التى من جملتها القدرة على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إذا عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك وقوله تعالى (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) عطف على (نَدْعُوا) داخل فى* حكم الإنكار والنفى أى ونرد إلى الشرك والتعبير عنه بالرد على الأعقاب لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم فى القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر وإيثار نرد على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحا بمخالفة المضلين وقطعا لأطماعهم الفارغة وإيذانا بأن الارتداد من غير راد ليس فى حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره وقوله تعالى (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) أى إلى الإسلام وانقذنا من الشرك متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال بعد إذ اهتدينا كأنه قيل ونرد إلى الشرك بإضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذى لا هادى سواه وقوله تعالى (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) فى محل النصب على أنه حال* من مرفوع نرد أى أنرد على أعقابنا مشهين بالذى استهوته مردة الجن واستغوته إلى المهامه والمهالك أو على أنه نعت لمصدر محذوف أى أنرد ردا مثل رد الذى استهوته الخ والاستهواء استفعال من هوى فى الأرض إذا ذهب فيها كأنها طلبت هويه وحرصت عليه وقرىء استهواه بألف ممالة وقوله تعالى (فِي الْأَرْضِ) إما متعلق ب (اسْتَهْوَتْهُ) أو بمحذوف هو حال من مفعوله أى كائنا فى الأرض وكذا قوله تعالى (حَيْرانَ) حال منه على أنها بدل من الأولى أو حال الثانية عند من يجيزها أو من الذى أو من المستكن* فى الظرف أى تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع وقوله تعالى (لَهُ أَصْحابٌ) جملة فى محل النصب على* أنها صفة ل (حَيْرانَ) أو حال من الضمير فيه أو مستأنفة سيقت لبيان حاله وقوله تعالى (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) * صفة لأصحاب أى لذلك المستهوى رفقة يهدونه إلى الطريق المستقيم تسمية له بالمصدر مبالغة كأنه نفس الهدى (ائْتِنا) على إرادة القول على أنه بدل ممن يدعونه أو حال من فاعله أى يقولون ائتنا وفيه إشارة*

١٤٩

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣)

____________________________________

إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق المستقيم ليدعى إلى* إتيانه وإنما يدرك سمت الداعى ومورد النعيق فقط (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) الذى هدانا إليه وهو الإسلام* (هُوَ الْهُدى) وحده وما عداه ضلال محض وغى بحت كقوله تعالى (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) ونحوه وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به ولأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الإسلام وهو* توطئة لما بعده فإن اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب الامتثال بالأوامر الواردة بعده (وَأُمِرْنا) * عطف على (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) داخل تحت القول واللام فى (لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لتعليل الأمر المحكى وتعيين ما أريد به من الأوامر الثلاثة كما فى قوله تعالى (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا) الآية كأنه قيل أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم وقيل هى بمعنى الباء أى أمرنا بأن نسلم وقيل زائدة أى أمرنا أن نسلم على حذف الباء وقوله تعالى (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أى الله تعالى فى مخالفة أمره عطف على نسلم على الوجوه الثلاثة على أن المصدرية إذا وصلت بالأمر بتجرد هو عن معنى الأمر نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضى والاستقبال فالمعنى على الأول أمرنا أى قيل لنا أسلموا وأقيموا الصلاة واتقوا الله لأجل أن نسلم ونقيم الصلاة ونتقيه تعالى وعلى الأخيرين أمرنا بأن نسلم ونقيم الصلاة ونتقيه تعالى والتعرض لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به كما أن قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جملة مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به من الأمور الثلاثة (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أريد بخلقهما خلق ما فيهما أيضا وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على* جميع العلويات والسفليات وقوله تعالى (بِالْحَقِّ) متعلق بمحذوف هو حال من فاعل (خَلَقَ) أو من مفعوله* أو صفة لمصدره المؤكد له أى قائما بالحق أو متلبسة بالحق أو خلقا متلبسا به وقوله تعالى (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ) استئاف لبيان أن خلقه تعالى لما ذكر من السموات والأرض ليس مما يتوقف على مادة أو مدة بل يتم بمحض الأمر التكوينى من غير توقف على شىء آخر أصلا وأن ذلك الأمر المتعلق بكل فرد فرد من أفراد المخلوقات فى حين معين من أفراد الأحيان حق فى نفسه متضمن للحكمة و (يَوْمَ) ظرف لمضمون جملة (قَوْلُهُ الْحَقُ) والواو بحسب المعنى داخل عليها وتقديمه عليها للاعتناء به من حيث إنه مدار الحقية وترك ذكر المقول له للثقة بغاية ظهوره والمراد بالقول كلمة كن تحقيقا أو تمثيلا كما هو المشهور فالمعنى وأمره المتعلق بكل شىء يريد خلقه من الأشياء فى حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أى المشهود له بالحقية المعروف بها هذا وقد قيل (قَوْلُهُ) مبتدأ و (بِالْحَقِ) صفته و (يَوْمَ يَقُولُ) خبره مقدما عليه كقولك يوم الجمعة القتال وانتصابه بمعنى الاستقرار وحاصل المعنى قوله الحق كائن

١٥٠

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥)

____________________________________

حين يقول لشى من الأشياء كن فيكون ذلك الشىء وقيل (يَوْمَ) منصوب بالعطف على (السَّماواتِ) أو على الضمير فى (وَاتَّقُوهُ) أو بمحذوف دل عليه بالحق و (قَوْلُهُ الْحَقُ) مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى حين يقول لقوله الحق أى لقضائه الحق كن فيكون والمراد حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأجساد وإحياءها فتأمل حق التأمل (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) تقييد* اختصاص الملك به تعالى بذلك اليوم مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات لغاية ظهور ذلك بانقطاع العلائق المجازية الكائنة فى الدنيا المصححة للمالكية المجازية فى الجملة كقوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أى هو عالمهما (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فى كل ما يفعله (الْخَبِيرُ) بجميع الأمور* الجلية والخفية (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبى عليه الصلاة والسلام معطوف على (قُلْ أَنَدْعُوا) لا على (أَقِيمُوا) كما قيل لفساد المعنى أى واذكر لهم بعد ما أنكرت عليهم عبادة ما لا يقدر على نفع وضر وحققت أن الهدى هو هدى الله وما يتبعه من شئونه تعالى وقت قول إبراهيم الذى يدعون أنهم على ملته موبخا (لِأَبِيهِ آزَرَ) على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكتهم وينادى بفساد* طريقتهم وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة لما مر مرارا من المبالغة فى إيجاب ذكرها وآزر بزنة آدم وعابر وعازر وفالغ وكذلك تارح ذكره محمد بن اسحق والضحاك والكلبى وكان من قرية من سواد الكوفة ومنع صرفه للعجمة والعلمية وقيل اسمه بالسريانية تارح وآزر لقبه المشهور وقيل اسم صنم لقب هو به للزومه عبادته فهو عطف بيان لأبيه أو بدل منه وقال الضحاك معناه الشيخ الهرم وقال الزجاج المخطىء وقال الفراء وسليمان التيمى المعوج فهو نعت له كما إذا جعل مشتقا من الآزر أو الوز أو أريد به عابد آزر على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وقرىء آزر على النداء وهو دليل العلمية إذ لا يحذف حرف النداء إلا من الأعلام (أَتَتَّخِذُ) متعد إلى مفعولين* هما (أَصْناماً آلِهَةً) أى أتجعلها لنفسك آلهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية* وإنما إيراد صيغة الجمع باعتبار الوقوع وقرىء أازرا بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاء ساكنة وراء منوبة منصوبة وهو اسم صنم ومعناه أتعبد آزرا ثم قيل تتخذ أصناما آلهة تثبيتا لذلك وتقريرا وهو داخل تحت الإنكار لكونه بيانا له وقيل الأزر القوة والمعنى الأجل القوة والمظاهرة تتخذ أصناما آلهة إنكارا لتعززه بها على طريقة قوله تعالى (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) * الذين يتبعونك فى عبادتها (فِي ضَلالٍ) عن الحق (مُبِينٍ) أى بين كونه ضلالا لا اشتباه فيه أصلا* والرؤية إما علمية فالظرف مفعولها الثانى وإما بصرية فهو حال من المفعول والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة للمعرفة ونظر البصيرة أى عرفاناه

١٥١

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦)

____________________________________

وبصرناه وصيغة الاستقبال حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها وذلك إشارة إلى مصدر نرى لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله (إِنِّي أَراكَ) وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل وكمال تميزه بذلك وانتظامه بسببه فى سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها فى الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير نرى إبراهيم إراءة كائنة مثل تلك الإراءة فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة* فصار المشار إليه نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أى ذلك التبصير البديع نبصره عليه‌السلام (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانه القاهر عليهما وكونهما بما فيهما مربوبا ومملوكا له تعالى لا تبصيرا آخر أدنى منه والملكوت مصدر على زنة المبالغة كالرهبوت والجبروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهر ثم هل هو مختص بملك الله عز سلطانه أولا فقد قيل وقيل والأول هو الأظهر وبه قال الراغب وقيل ملكوتهما وعجائبهما وبدائعهما روى أنه كشف له عليه‌السلام عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين وقيل آياتهما وقيل ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والأشجار والبحار وهذه الأقوال لا تقتضى أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه‌السلام من إبصارها ومشاهدتها فى أنفسها بل اطلاعه عليه‌السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شئونه عزوجل ولا ريب فى أن ذلك ليس مما يدرك حسا كما ينبىء عنه اسم الإشارة المفصح عن كون المشار إليه أمرا بديعا فإن الإراءة البصرية المعتادة بمعزل من تلك المثابة وقرىء ترى بالتاء وإسناد الفعل إلى* الملكوت أى تبصره عليه‌السلام دلائل الربوبية واللام فى قوله تعالى (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) متعلقة بمحذوف مؤخر والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أى وليكون من زمرة الراسخين فى الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور لا لأمر آخر فإن الوصول إلى تلك الغاية القاصية كمال مترتب على ذلك التبصير لا عينه وليس القصر لبيان انحصار فائدته فى ذلك كيف لا وإرشاد الخلق وإلزام المشركين كما سيأتى من فوائده بلا مرية بل لبيان أنه الأصل الأصيل والباقى من مستتبعاته وقيل هى متعلقة بالفعل السابق والجملة معطوفة على علة أخرى محذوفة ينسحب عليها الكلام أى ليستدل بها وليكون الخ فينبغى أن يراد بملكوتهما بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غايات إراءة نفس الربوبية وقوله تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) على الأول وهو الحق المبين عطف على (قالَ إِبْراهِيمُ) داخل تحت ما أمر بذكره بالأمر بذكر وقته وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق وما لحق فإن تعريفه عليه‌السلام ربوبيته ومالكيته للسموات والأرض وما فيهما وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا إليه فى الوجود وسائر ما يترتب عليه من الكمالات وكونه من الراسخين فى معرفة شئونه تعالى الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقضى بأن يحكم عليه‌السلام باستحالة إلهية ما سواه

١٥٢

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨)

____________________________________

سبحانه من الأصنام والكواكب وعلى الثانى هو تفصيل لما ذكر من إراءة ملكوت السموات والأرض وبيان لكيفية استدلاله عليه‌السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان ومعنى (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) ستره يظلامه وقوله تعالى (رَأى كَوْكَباً) جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق بزوال نور الشمس عن الحس وهذا صريح فى* أنه لم يكن فى ابتداء الطلوع بل كان غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس والتحقيق أنه كان قريبا من الغروب كما ستعرفه قيل كان ذلك الكوكب هو الزهرة وقيل هو المشترى وقوله تعالى (قالَ هذا رَبِّي) استئناف مبنى على سؤال نشأ من الشرطية السابقة المتفرعة على بيان إراءته عليه‌السلام ملكوت السموات والأرض فإن ذلك مما يحمل السامع على استكشاف ما ظهر منه عليه‌السلام من آثار تلك الإراءة وأحكامها كأنه قيل فماذا صنع عليه‌السلام حين رأى الكوكب فقيل قال على سبيل الوضع والفرض هذا ربى مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول يحكيه على رأى خصمه ثم يكر عليه بالإبطال ولعل سلوك هذه الطريقة فى بيان استحالة ربوبية الكواكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله فى حق عبادة الأصنام لتمادوا فى المكابرة والعناد ولجوا فى طغيانهم يعمهون وقيل قاله عليه‌السلام على وجه النظر والاستدلال وكان ذلك فى زمان مراهقته وأول أوان بلوغه وهو مبنى على تفسير الملكوت بآياتهما وعطف قوله تعالى (لِيَكُونَ) على ما ذكر من العلة المقدرة وجعل قوله تعالى (فَلَمَّا جَنَ) الخ تفصيلا لما ذكر من الإراءة وبيانا لكيفية الاستدلال وأنت خبير بأن كل ذلك مما يخل بجزالة النظم الجليل وجلالة منصب الخليل عليه الصلاة والسلام (فَلَمَّا أَفَلَ) أى غرب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أى الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال المحتجبين بالأستار فإنهم بمعزل من استحقاق الربوبية قطعا (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أى مبتدئا فى الطلوع إثر غروب الكوكب (قالَ هذا رَبِّي) على الأسلوب السابق (فَلَمَّا أَفَلَ) كما أفل النجم (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى جنابه الذى* هو الحق الذى لا محيد عنه (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فإن شيئا مما رأيته لا يليق بالربوبية وهذا مبالغة* منه عليه‌السلام فى إظهار النصفة ولعله عليه‌السلام كان إذ ذاك فى موضع كان فى جانبه الغربى جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وأفقه الشرقى مكشوف أولا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أى مبتدئة فى الطلوع مما لا يكاد يتصور (قالَ) أى على النهج السابق

١٥٣

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٨٠)

____________________________________

* (هذا رَبِّي) وإنما لم يؤنث لما أن المشار إليه والمحكوم عليه بالربوبية هو الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو مسمى باسم من الأسامى فضلا عن حيثية تسميته بالشمس أو لتذكير الخبر وصيانة* الرب عن وصمة التأنيث وقوله تعالى (هذا أَكْبَرُ) تأكيد لما رامه عليه‌السلام من إظهار النصفة مع* إشارة خفية إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر (فَلَمَّا أَفَلَتْ) * هى أيضا كما أفل الكوكب والقمر (قالَ) مخاطبا للكل صادعا بالحق بين أظهرهم (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أى من الذى تشركونه من الأجرام المحدثة المتغيرة من حالة إلى أخرى المسخرة لمحدثها أو من إشراككم وترتيب هذا الحكم ونظيريه على الأفول دون البزوغ والظهور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم فإن كلا منهما وإن كان فى نفسه انتقالا منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية قطعا لكن لما كان الأول حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ملائمة لتوهم الاستحقاق فى الجملة رتب عليها الحكم الأول على الطريقة المذكورة وحيث كان الثانى حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد رتب عليها ما رتب ثم لما تبرأ عليه‌السلام منهم توجه إلى مبدع هذى المصنوعات ومنشئها فقال (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ) التى هذه الأجرام التى تعبدونها من أجزائها (وَالْأَرْضَ) التى تغيب هى فيها* (حَنِيفاً) أى مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فى شىء من الأفعال والأقوال (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أى شرعوا فى مغالبته فى أمر التوحيد (قالَ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية محاجتهم كأنه قيل فماذا قال عليه‌السلام حين حاجوه فقيل قال منكرا لما اجترءوا* عليه من محاجته مع قصورهم عن تلك الرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) بإدغام نون* الجمع فى نون الوقاية وقرىء بحذف الأولى وقوله تعالى (وَقَدْ هَدانِ) حال من ضمير المتكلم مؤكدة للإنكار فإن كونه عليه‌السلام مهديا من جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده مما يوجب استحالة محاجته عليه‌السلام أى أتجادلوننى فى شأنه تعالى ووحدانيته والحال أنه تعالى هدانى إلى الحق بعد ما سلكت* طريقتكم بالفرض والتقدير وتبين بطلانها تبينا تاما كما شاهدتموه وقوله تعالى (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) جواب عما خوفوه عليه‌السلام فى أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم كما قال لهود عليه‌السلام قومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ولعلهم فعلوا ذلك حين فعل عليه‌السلام بآلهتهم* ما فعل وما موصولة اسمية حذف عائدها وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) استثناء مفرغ من أعم الأوقات أى لا أخاف ما تشركونه به سبحانه من معبوداتكم فى وقت من الأوقات إلا فى وقت مشيئته

١٥٤

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨١)

____________________________________

تعالى شيئا من إصابة مكروه بى من جهتها وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم فيه أصلا وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام إظهار منه لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته وقوله تعالى (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) * كأنه تعليل للاستثناء أى أحاط بكل شىء علما فلا يبعد أن يكون فى علمه تعالى أن يحيق بى مكروه من قبلها بسبب من الأسباب وفى الإظهار فى موضع الإضمار تأكيد للمعنى المذكور واستلذاذ بذكره تعالى (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أى أتعرضون عن التأمل فى أن آلهتكم جمادات غير قادرة على شىء ما من نفع ولا ضر* فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضرارى وفى إيراد التذكر دون التفكر ونظائره إشارة إلى أن أمر أصنامهم مركوز فى العقول لا يتوقف إلا على التذكر وقوله تعالى (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) استئناف مسوق لنفى الخوف عنه عليه‌السلام بحسب زعم الكفرة بالطريق الإلزامى كما سيأتى بعد نفيه عنه بسبب الواقع ونفس الأمر والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلية كما فى قوله تعالى (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ) الآية لا لإنكار الواقع واستبعاده مع وقوعه كما فى قوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) الخ وفى توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس فى توجيهه إلى نفسه بأن يقال أأخاف لما أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال وكيفية من الكيفيات قطعا فإذا انتفى جميع أحواله وكيفياته فقد انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهانى وقوله تعالى (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) حال من ضمير (أَخافُ) بتقدير مبتدأ والواو كافية فى الربط من غير حاجة إلى الضمير العائد إلى ذى الحال وهو مقرر لإنكار الخوف ونفيه عنه عليه‌السلام ومفيد لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا فى محل الخوف فلأن لا يخاف عليه‌السلام فى محل الأمن أولى وأحرى أى وكيف أخاف أنا ما ليس فى حيز الخوف أصلا وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو إشراككم بالله الذى ليس كمثله شىء فى الأرض ولا فى السماء ما هو من جملة مخلوقاته وإنما عبر عنه بقوله تعالى (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) أى بإشراكه (عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) على طريقة النهكم مع الإيذان بأن الأمور الدينية لا يعول* فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى وفى تعليق الخوف الثانى بإشراكهم من المبالغة ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى هذا وأما ما قيل من أن قوله تعالى (وَلا تَخافُونَ) الخ معطوف على (أَخافُ) داخل معه فى حكم الإنكار والتعجيب فمما لا سبيل إليه أصلا لافضائه إلى فساد المعنى قطعا كيف لا وقد عرفت أن الإنكار بمعنى النفى بالكلية فيؤول المعنى إلى نفى الخوف عنه عليه الصلاة والسلام ونفى نفيه عنهم وأنه بين الفساد وحمل الإنكار فى الأول على معنى نفى الوقوع وفى الثانى على استبعاد الواقع مما لا مساغ له على أن قوله تعالى (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) ناطق ببطلانه حتما فإنه كلام مرتب على إنكار خوفه عليه الصلاة*

١٥٥

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٨٣)

____________________________________

والسلام فى محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم فى محل الخوف مسوق لالجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه وإنما جىء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له فى الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الانصاف والمراد بالفريقين الفريق الآمن فى محل الأمن والفريق الآمن فى محل الخوف فإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال فأينا أحق بالأمن من أنا أم أنتم لتأكيد الإلجاء إلى الجواب الحق بالتنبيه على علة* الحكم والتفادى عن التصريح بتخطئتهم لا لمجرد الاحتراز عن تزكية النفس (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) المفعول إما محذوف تعويلا على ظهوره بمعونة المقام أى إن كنتم تعلمون من أحق بذلك أو قصدا إلى التعميم أى إن كنتم تعلمون شيئا وإما متروك بالمرة أى إن كنتم من أولى العلم وجواب الشرط محذوف أى فأخبرونى (الَّذِينَ آمَنُوا) استئناف من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذى لا محيد عنه أى الفريق الذين آمنوا* (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ) ذلك أى لم يخلطوه (بِظُلْمٍ) أى بشرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عزوجل وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب* والشفاعة كما قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وهذا معنى الخلط (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما فى حيز الصلة وفى الإشارة إليه بعد وصفه بما ذكر إيذان بأنهم تميزوا بذلك عن غيرهم وانتظموا فى سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم فى الشرف* وهو مبتدأ ثان وقوله تعالى (لَهُمُ الْأَمْنُ) جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر وقعت خبرأ ل (أُولئِكَ) وهو مع خبره خبر للمبتدأ الأول الذى هو الموصول ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) بدلا من الموصول أو عطف بيان له و (لَهُمُ) خبرا للموصول و (الْأَمْنُ) فاعلا للظرف لاعتماده على المبتدأ ويجوز أن يكون (لَهُمُ) خبرا مقدما و (الْأَمْنُ) مبتدأ والجملة خبرا للموصول ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) مبتدأ ثانيا و (لَهُمُ) خبره و (الْأَمْنُ) فاعلا له والجملة خبر للموصول أى أولئك الموصوفين بما ذكر من الإيمان الخالص عن شوب الشرك لهم الأمن* فقط (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق ومن عداهم فى ضلال مبين. روى أنه لما نزلت الآية شق ذلك على الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وليس الإيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإشراك به وليس من قضية الخلط بقاء الأصل بعد الخلط حقيقة وقيل المراد بالظلم المعصبة التى تفسق صاحبها والظاهر هو الأول لوروده مورد الجواب عن حالة الفريقين (وَتِلْكَ) إشارة إلى ما احتج به إبراهيم عليه‌السلام من قوله تعالى (فَلَمَّا جَنَ) وقيل من قوله (أَتُحاجُّونِّي) إلى قوله (مُهْتَدُونَ) وما فى اسم الإشارة من معنى البعد لتفخيم شأن المشار إليه والإشعار بعلو طبقته وسمو منزلته

١٥٦

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٤)

____________________________________

فى الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى (حُجَّتُنا) خبره وفى إضافتها إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى* وقوله تعالى (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أى أرشدناه إليها أو علمناه إياها فى محل النصب على أنه حال من حجتنا* والعامل فيها معنى الإشارة كما فى قوله تعالى (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أو فى محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر و (حُجَّتُنا) بدل أو بيان للمبتدأ و (إِبْراهِيمَ) مفعول أول لآتينا قدم عليه الثانى لكونه ضميرا وقوله تعالى (عَلى قَوْمِهِ) متعلق ب (حُجَّتُنا) إن جعل خبرا ل (تِلْكَ) أو بمحذوف إن جعل بدلا أى آتينا إبراهيم* حجة على قومه وقيل بقوله آتينا (نَرْفَعُ) بنون العظمة وقرىء بالياء على طريقة الالتفات وكذا الفعل* الآتى (دَرَجاتٍ) أى رتبا عظيمة عالية من العلم والحكمة وانتصابها على المصدرية أو الظرفية أو على* نزع الخافض أى إلى درجات أو على التمييز والمفعول قوله تعالى (مَنْ نَشاءُ) وتأخيره على الوجوه* الثلاثة الأخيرة لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ومفعول المشيئة محذوف أى من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة جارية فيما بين المصطفين الأخيار غير مختصة بإبراهيم عليه‌السلام وقرىء بالإضافة إلى من والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها لا محل لها من الإعراب وقيل هى فى محل النصب على أنها حال من فاعل آتينا أى حال كوننا رافعين الخ (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) فى كل ما فعل من رفع وخفض (عَلِيمٌ) بحال من يرفعه* واستعداده له على مراتب متفاوته والجملة تعليل لما قبلها وفى وضع الرب مضافا إلى ضميره عليه‌السلام موضع نون العظمة بطريق الالتفات فى تضاعيف بيان أحوال إبراهيم عليه‌السلام إظهار لمزيد لطف وعناية به عليه‌السلام (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) عطف على قوله تعالى (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) الخ فإن عطف كل من الجملة الفعلية والاسمية على الأخرى مما لا نزاع فى جوازه ولا مساغ لعطفه على (آتَيْناها) لأن له محلا من الإعراب نصبا ورفعا حسبما بين (مِنْ قَبْلُ) فلو عطف هذا عليه لكان فى حكمه من الحالية والخبرية المستدعيتين للرابط ولا سبيل إليه ههنا (كُلًّا) مفعول لما بعده وتقديمه عليه للقصر لكن لا بالنسبة إلى* غيرهما مطلقا بل بالنسبة إلى أحدهما أى كل واحد منهما (هَدَيْنا) لا أحدهما دون الآخر وترك ذكر* المهدى إليه لظهور أنه الذى أوتى إبراهيم وأنهما مقتديان به (وَنُوحاً) منصوب بمضمر يفسره (هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أى من قبل إبراهيم عليه‌السلام عد هداه نعمة على إبراهيم عليه‌السلام لأن شرف الوالد سار إلى الولد (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) الضمير لإبراهيم لأن مساق النظم الكريم لبيان شئونه العظيمة من إيتاء الحجة* ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة فى نسله إلى يوم القيامة كل ذلك لإلزام من ينتمى إلى ملته عليه‌السلام من المشركين واليهود وقيل لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين فى هذه الآية والتى بعدها وأما المذكورون فى الآية الثالثة فعطف على (نُوحاً) وروى عن ابن عباس أن هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان

١٥٧

(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٨٦)

____________________________________

منهم من لم يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب لأن لوطا ابن أخى إبراهيم والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وأسحق مع أن إسمعيل عم* يعقوب (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) منصوبان بمضمر مفهوم مما سبق وكذا ما عطف عليهما وبه يتعلق (مِنْ ذُرِّيَّتِهِ) وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما فى المفاعيل من نوع طول ربما يخل تأخيره بتجاوب* النظم الكريم أى وهدينا من ذريته داود وسليمان (وَأَيُّوبَ) هو ابن أموص من أسباط عيص بن إسحاق* (وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ) أو بمحذوف وقع حالا من المذكورين أى وهديناهم حال كونهم من* من ذريته (وَكَذلِكَ) إشارة إلى ما يفهم من النظم الكريم من جزاء إبراهيم عليه‌السلام ومحل الكاف* النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) جزاء مثل ذلك الجزاء والتقديم للقصر وقد مر تحقيقه مرارا والمراد بالمحسنين الجنس وبمماثلة جزائهم لجزائه عليه‌السلام مطلق المشابهة فى مقابلة الإحسان بالإحسان والمكافأة بين الأعمال والأجزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه ضرورة أن الجزاء بكثرة الأولاد الأنبياء مما اختص به إبراهيم عليه‌السلام والأقرب أن لام المحسنين للعهد وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذى بعده وهو عبارة عما أوتى المذكورون من فنون الكرامات وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقته والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها فى الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير ونجزى المحسنين المذكورين جزاء كائنا مثل ذلك الجزاء فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصار المشار إليه نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أى وذلك الجزاء البديع نجزى المحسنين المذكورين لا جزاء آخر أدنى منه والإظهار فى موضع الإضمار للثناء عليهم بالإحسان الذى هو عبارة عن الاتيان بالأعمال الحسنة على الوجه اللائق الذى هو حسنها الوصفى المقارن لحسنها الذاتى وقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والجملة اعتراض مقرر لما قبلها (وَزَكَرِيَّا) هو* ابن آذن (وَيَحْيى) ابنه (وَعِيسى) هو ابن مريم وفيه دليل بين على أن الذرية تتناول أولاد البنات* (وَإِلْياسَ) قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصا بمن فى الآية الأولى وقيل هو من أسباط* هرون أخى موسى عليهما‌السلام (كُلٌّ) أى كل واحد من أولئك المذكورين (مِنَ الصَّالِحِينَ) أى من الكاملين فى الصلاح الذى هو عبارة عن الإتيان بما ينبغى والتحرز عما لا ينبغى والجملة اعتراض جىء به للثناء عليهم بالصلاح (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) هو ابن أخطوب بن العجوز وقرىء واليسع وهو على القراءتين علم أعجمى أدخل عليه اللام ولا اشتقاق له ويقال إنه يوشع بن نون وقيل إنه منقول من مضارع وسع* واللام كما فى يزيد فى قول من قال[رأيت الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كاهله] (وَيُونُسَ)

١٥٨

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (٨٩)

____________________________________

هو ابن متى (وَلُوطاً) هو ابن هاران بن أخى إبراهيم عليه‌السلام (وَكلًّا) أى وكل واحد من أولئك* المذكورين (فَضَّلْنا) بالنبوة لا بعضهم دون بعض (عَلَى الْعالَمِينَ) على عالمى عصرهم والجملة اعتراض* كأختها وقوله تعالى (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) إما متعلق بما تعلق به (مِنْ ذُرِّيَّتِهِ) ومن ابتدائية والمفعول محذوف أى وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات كثيرة وإما معطوف على (كلًّا) ومن تبعيضية أى وفضلنا بعض آبائهم الخ (وَاجْتَبَيْناهُمْ) عطف على (فَضَّلْنا) أى اصطفيناهم (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تكرير للتأكيد وتمهيد لبيان ما هدوا إليه (ذلِكَ) إشارة إلى ما يفهم من النظم الكريم من مصادر الأفعال المذكورة وقيل إلى ما دانوا به وما فى ذلك من معنى البعد لما مر مرارا (هُدَى اللهِ) الإضافة* للتشريف (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم المستعدون للهداية والإرشاد وفيه إشارة إلى أنه تعالى* متفضل بالهداية (وَلَوْ أَشْرَكُوا) أى هؤلاء المذكورون (لَحَبِطَ عَنْهُمْ) مع فضلهم وعلو طبقاتهم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الأعمال المرضية الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم‌السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة الثابتة لهم وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة من الايذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم فى الفضل والشرف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أى جنس الكتاب* المتحقق فى ضمن أى فرد كان من أفراد الكتب السماوية والمراد بإيتائه التفهيم التام بما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء أو بالإيراث بقاء فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين (وَالْحُكْمَ) أى الحكمة أو فصل الأمر على* ما يقتضيه الحق والصواب (وَالنُّبُوَّةَ) أى الرسالة (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أى بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة* للباقين (هؤُلاءِ) أى كفار قريش فإنهم بكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما* يصدقه جميعا وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أى أمرنا بمراعاتها ووقفنا للإيمان بها والقيام بحقوقها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أى فى* وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما تفيد دوام الثبوت كذلك السلبية تفيد دوام النفى بمعونة المقام لا نفى الدوام كما حقق فى مقامه قال ابن عباس ومجاهد رضى الله تعالى عنهما هم الأنصار وأهل المدينة وقيل أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل كل مؤمن من بنى آدم وقيل الفرس فإن

١٥٩

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩١)

____________________________________

كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية فى شريعتنا وبه يتحقق الخروج عن عهدة التوكيل والتكليف دون المنسوخة منها فإنها بانتساخها خارجة عن كونها من أحكامها وقد مر تحقيقه فى تفسير سورة المائدة وقيل هم الأنبياء المذكورون فالمراد بالتوكيل الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم فى حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم فى حق سائر الكتب التى من جملتها القرآن الكريم وقيل هم الملائكة فالتوكيل هو الأمر بإيزالها وحفظها واعتقاد حقيتها وأيا ما كان فتنكير قوما للتفخيم والباء الأولى صلة لكافرين قدمت عليه محافظة على الفواصل والثانية لتأكيد النفى وأما تقديم صلة وكلنا على مفعوله الصريح فلما ذكر آنفا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول ربما يؤدى تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور أى فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا فقد وفقنا للإيمان بها قوما فخاما ليسوا بكافرين بها قطعا بل مستمرون على الإيمان بها والعمل بما فيها ففى إيمانهم بها مندوحة عن إيمان هؤلاء ومن هذا تبين أن الوجه أن يكون المراد بالقوم إحدى الطوائف المذكورة إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه تتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه وأما الأنبياء والملائكة عليهم‌السلام فإيمانهم به ليس من قبيل إيمان آحاد الأمة كما أشير إليه (أُولئِكَ) إشارة إلى الأنبياء المذكورين وما فيه من معنى البعد* للإيذان بعلو رتبتهم وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أى إلى الحق والنهج المستقيم والالتفات* إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أى فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد بغيرهم والمراد بهداهم طريقتهم فى الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى والهاء فى اقتده للوقف حقها أن تسقط فى الدرج واستحسن إثباتها فيه أيضا إجراء* له مجرى الوقف واقتداء بالإمام وقرىء بإشباعها على أيها كناية المصدر (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أى على* القرآن أو على التبليغ فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما (أَجْراً) من جهتكم كما لم يسأله* من قبلى من الأنبياء عليهم‌السلام وهذا من جملة ما أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بهم فيه (إِنْ هُوَ) أى ما القرآن (إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أى عظة وتذكير لهم كافة من جهته سبحانه فلا يختص بقوم دون آخرين (وَما

١٦٠