تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١١٧)

____________________________________

وفيه من المبالغة فى التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح الذى هو الذهاب والإبعاد فى الأرض ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل ومن جهة العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة فى الذهن ومن جهة إقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى أى أنزهك تنزيها لائقا بك من أن أقول ذلك أو من أن يقال فى حقك ذلك وأما تقدير من أن يكون لك شريك فى الألوهية فلا يساعده سياق النظم الكريم وسياقه وقوله تعالى (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) استئناف مقرر للتنزيه* ومبين للمنزه منه وما عبارة عن القول المذكور أى ما يستقيم وما ينبغى لى أن أقول قولا لا يحق لى أن أقوله وإيثار ليس على الفعل المنفى لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقيقة وإفادة التأكيد بما فى حيزه من الباء فإن اسمه ضميره العائد إلى ما وخبره بحق والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما فى سقيا لك ونحوه وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه‌السلام بالطريق* البرهانى فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعا فحيث انتفى علمه تعالى به انتفى صدوره عنه حتما ضرورة أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) استئناف جار مجرى التعليل لما قبله كأنه قيل لأنك* تعلم ما أخفيه فى نفسى فكيف بما أعلنه وقوله تعالى (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) بيان للواقع وإظهار لقصوره* أى ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك وقوله فى نفسك للمشاكلة وقيل المراد بالنفس هو الذات ونسبة المعلومات إليها لما أنها مرجع الصفات التى من جملتها العلم المتعلق بها فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة وقوله تعالى (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تعليل لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما وقوله تعالى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) استئناف مسوق لبيان ما صدر عنه قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولا أوليا أى ما أمرتهم إلا بما أمرتنى به وإنما قيل ما قلت لهم نزولا على قضية حسن الأدب ومراعاة لما ورد فى الاستفهام وقوله تعالى (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) تفسير للمأمور به وقيل عطف* بيان للضمير فى به وقيل بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ليلزم بقاء الموصول بلا عائد وقيل خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعنى (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) رقيبا أراعى أحوالهم وأحملهم* على العمل بموجب أمرك وأمنعهم عن المخالفة أو مشاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان (ما دُمْتُ فِيهِمْ) * ما مصدرية ظرفية تقدر بمصدر مضاف إليه زمان ودمت صلتها أى كنت شهيدا عليهم مدة دوامى فيما بينهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) بالرفع إلى السماء كما فى قوله تعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) فإن التوفى أخذ الشىء وافيا* والموت نوع منه قال تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) * لا غيرك فأنت ضمير الفصل أو تأكيد وقرىء الرقيب بالرفع على أنه خبر أنت والجملة خبر لكان وعليهم

١٠١

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١٩)

____________________________________

متعلق به أى أنت كنت الحافظ لأعمالهم والمراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا* (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) اعتراض تذييلى مقرر لما قبله وفيه إيذان بأنه تعالى كان هو الشهيد على الكل حين كونه عليه‌السلام فيما بينهم وعلى متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) * وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أى القوى القادر على جميع* المقدورات ومن جملتها الثواب والعقاب (الْحَكِيمُ) الذى لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل وعدم غفران الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد وقيل الترديد بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن تعذبهم أى من كفر مهم وإن تغفر لهم أى من آمن منهم (قالَ اللهُ) كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله أى يقول الله تعالى يومئذ عقيب جواب عيسى عليه‌السلام مشيرا إلى صدقه فى ضمن بيان حال الصادقين الذين هو فى زمرتهم وصيغة الماضى لما مر فى* نظائره مرارا وقوله تعالى (هذا) إشارة إلى ذلك اليوم وهو مبتدأ خبره ما بعده أى هذا اليوم الذى حكى* بعض ما يقع فيه إجمالا وبعضه تفصيلا (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) بالرفع والإضافة والمراد بالصادقين كما ينبىء عنه الاسم المستمرون فى الدارين على الصدق فى الأمور الدينية التى معظمها التوحيد الذى نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه‌السلام ومن الأمم المصدقين لهم المقتدين بهم عقدا وعملا وبه يتحقق المقصود بالحكاية من ترغيب السامعين فى الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا كل من صدق فى أى شىء كان ضرورة أن الجانى* المعترف فى الدنيا بجنايته لا ينفعه يومئذ اعترافه وصدقه (صِدْقُهُمْ) أى صدقهم فيما ذكر من أمور الدين فى الدنيا إذ هو المستتبع للنفع يومئذ واعتبار استمراره فى الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت ولا دخل له فى استتباع النفع والجزاء مما لا وجه له وهذه القراءة هى التى أطبق عليها الجمهور وهى الأليق بسباق النظم الكريم وسياقه وقد قرىء يوم بالنصب إما على أنه ظرف لقال فهذا حينئذ إشارة إلى قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ) الخ وإما على أنه خبر لهذا فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه‌السلام أى هذا الجواب منه عليه‌السلام واقع يوم ينفع الخ أو إلى السؤال والجواب معا وقيل هو خبر ولكنه بنى على الفتح وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضاف إلى متمكن وقرىء يوم بالرفع والتنوين كقوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي) الآية* (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) استئناف مسوق لبيان النفع المذكور كأنه قيل

١٠٢

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢٠)

____________________________________

ما لهم من النفع فقيل لهم نعيم دائم وثواب خالد وقوله تعالى (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) استئناف آخر لبيان أنه* عزوجل أفاض عليهم غير ما ذكر من الجنات ما لا قدر لها عنده وهو رضوانه الذى لا غاية وراءه كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَرَضُوا عَنْهُ) إذ لا شىء أعز منه حتى يمتد إليه أعناق الهمم (ذلِكَ) إشارة إلى نيل رضوانه* تعالى وقيل إلى نيل الكل (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لما أن عظم شأن الفوز تابع لعظم شأن المطلوب الذى تعلق به* الفوز وقد عرفت أن لا مطلب وراء ذلك أصلا وقوله تعالى (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ) تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا فى حق المسيح وأمه أى له تعالى خاصة ملك السموات والأرض وما فيهما من العقلاء وغيرهم يتصرف فيها كيف يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وأمرا ونهيا من غير أن يكون لشىء من الأشياء مدخل فى ذلك وفى إيثار ما على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة للأصل وإشارة إلى تساوى الفريقين فى استحالة الربوبية حسب تساويهما فى تحقق المربوبية وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء تنبيه على كمال قصورهم عن رتبة الألوهية وإهانة بهم بتغليب غيرهم عليهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء (قَدِيرٌ) مبالغ فى القدرة. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم* من قرأ سورة المائدة أعطى من الأجر عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودى ونصرانى يتنفس فى الدنيا.

١٠٣

٦ ـ سورة الأنعام

(مكية وهى مائة وخمس وستون آية)

[سورة الأنعام (٦) : آية ١]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١)

(سورة الأنعام)

(مكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ). وهى مائة وخمس وستون آية).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة أو لا باسم الذات الذى عليه يدور كافة ما يوجبه من صفات الكمال وإليه يؤول جميع نعوت الجلال والجمال للإيذان بأنه عزوجل هو المستحق له بذاته لما مر من اقتضاء اختصاص الحقيقة به سبحانه لاقتصار جميع أفرادها عليه بالطريق البرهانى ووصفه تعالى ثانيا بما ينبىء عن تفصيل بعض موجباته المنتظمة فى سلك الإجمال من عظائم الآثار* وجلائل الأفعال من قوله عزوجل (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) للتنبيه على استحقاقه تعالى له واستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم وآلائه الجسام أيضا وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التى أجلها نعمة الوجود الكافية فى إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية المنوط بها مصالح العباد فى المعاش والمعاد أى أنشأهما على ماهما عليه من النمط الفائق والطراز الرائق منطويتين من أنواع البدائع وأصناف الروائع على ما تتحير فيه العقول والأفكار من تعاجيب العبر والآثار تبصرة وذكرى لأولى الأبصار وجمع السموات لظهور تعدد طبقاتها واختلاف آثارها وحركاتها وتقديمها لشرفها وعلو مكانها* وتقدمها وجودا على الأرض كما هى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) عطف على خلق مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقا بخلق منشئهما ومحلهما داخل معه فى حكم الإشعار بعلة الحمد فكما أن خلق السموات والأرض وما بينهما لكونه أثرا عظيما ونعمة جليلة موجب لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا كذلك جعل الظلمات والنور لكونه أمرا خطيرا ونعمة عظيمة مقتض لاختصاصه بجاعلهما والجعل هو الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكوينى وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما فى الآية الكريمة وللتشريعى أيضا كما فى قوله تعالى (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) الآية وأيا ما كان فهو إنباء عن ملابسة مفعوله بشىء آخر بأن يكون فيه أوله أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شىء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة فى الكلام بل قيدا فيه كما فى قوله عزوجل (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) وقوله تعالى (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) وقوله تعالى (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

١٠٤

الآية فإن كل واحد من هذه الظروف إما متعلق بنفس الجعل أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله تقدمت عليه لكونه نكرة وأياما كان فهو قيد فى الكلام حتى إذا اقتضى الحال وقوعه عمدة فيه يكون الجعل متعديا إلى اثنين هو ثانيهما كما فى قوله تعالى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) وربما يشتبه الأمر فيظن أنا عمدة فيه وهو فى الحقيقة قيد بأحد الوجهين كما سلف فى قوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) حيث قيل إن الظرف مفعول ثان لجاعل وقد أشير هناك إلى أن الذى يقضى به الذوق السليم وتقتضيه جزالة النظم الكريم أنه متعلق بجاعل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وأن المفعول الثانى هو خليفة وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله وجمع الظلمات لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ومشاهدتهم لها على التفصيل وتقديمها على النور لتقدم الإعدام على الملكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين وقوله تعالى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات* اختصاصه تعالى بالحمد المستدعى لاقتصار العبادة عليه كما حقق فى تفسير الفاتحة الكريمة مسوق لإنكار ما عليه الكفرة واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها واجترائهم على ما يقضى ببطلانه بديهة العقول والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته وباعتبار ما فصل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ويعدلون به سبحانه أى يسوون به غيره فى العبادة التى هى أقصى غايات الشكر الذى رأسه الحمد مع كون كل ما سواه مخلوقا له غير متصف بشىء من مبادى الحمد وكلمة ثم لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا بعد بيانه بالآيات التنزيلية والموصول عبارة عن طائفة الكفار جار مجرى الاسم لهم من غير أن يجعل كفرهم بما يجب أن يؤمن به كلا أو بعضا عنوانا للموضوع فإن ذلك مخل باستبعاد ما أسند إليهم من الإشراك والباء متعلقة بيعدلون ووضع الرب موضع ضميره تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد والمحافظة على الفواصل وترك المفعول لظهوره أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل بتنزيله منزلة اللازم إيذانا بأنه المدار فى الاستبعاد والاستنكار لا خصوصية المفعول هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل والخليق بفخامة شأنه الجليل وأما جعل الباء صلة لكفروا على أن يعدلون من العدول والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته فيرده أن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته تعالى لهم أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده عزوجل لتحققه مع إغفاله أيضا فجعل أهون الشرين عمدة فى الكلام مقصود الإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ عنه مما لا عهد له فى الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلى هذا وقد قيل إنه معطوف على خلق السموات والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدر على شىء منه لكن لا على قصد أنه صلة مستقلة ليكون بمنزلة أن يقال الحمد لله الذى عدلوا به بل على أنه داخل تحت الصلة بحيث يكون الكل صلة واحدة كأنه قيل الحمد لله الذى كان منه تلك النعم العظام ثم من الكفرة الكفر وأنت خبير بأن ما ينتظم فى سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده عز

١٠٥

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢)

____________________________________

وجل حقه أن يكون له دخل فى ذلك الإنباء ولو فى الجملة ولا ريب فى أن كفرهم بمعزل منه وادعاء أن له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل الحمد لله الذى أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا ومساق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات الآتية تشنيع الكفرة وتوبيخهم ببيان غاية إساءتهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان نهاية إحسانه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم فى حقه تعالى كما يقتضيه الادعاء المذكور وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة فما ظنك بما هو من روادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذى سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى مع معاينتهم لموجبات توحيده وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث مع أن ما ذكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها كما ورد فى قوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) لما أن محل النزاع بعثهم فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهروهم بشئون أنفسهم أعرف والتعامى عن الحجة النيرة أقبح والالتفات لمزيد التشنيع والتوبيخ أى ابتدأ خلقكم منه فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ آدم الذى هو أبو البشر وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم عليه‌السلام وهو المخلوق منه حقيقة بأن يقال هو الذى خلق أباكم الخ مع كفاية علمهم بخلقه عليه‌السلام منه فى إيجاب الإيمان بالبعث وبطلان الامتراء لتوضيح منهاج القياس وللمبالغة فى إزاحة الاشتباه والالتباس مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمة خفية هى أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه‌السلام منه حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكأن خلقه عليه‌السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه ولما كان خلقه على هذا النمط السارى إلى جميع أفراد ذريته أبدع من أن يكون ذلك مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرة الخلاق العليم وكمال علمه وحكمته وكان ابتداء حال المخاطبين أولى بأن يكون معيارا لانتهائها فعل ما فعل ولله در شأن التنزيل وعلى هذا السر مدار قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) الخ وقوله تعالى (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) كما سيأتى وقيل المعنى خلق أباكم منه على حذف المضاف وقيل معنى خلقهم منه خلقهم من النطفة الحاصلة من الأغذية المتكونة من الأرض وأياما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء مالم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر* قدرة (ثُمَّ قَضى) أى كتب لموت كل واحد منكم (أَجَلاً) خاصا به أى حدا معينا من الزمان يفنى عند حلوله* لا محالة وكلمة ثم للإيذان بتفاوت ما بين خلقهم وبين تقدير آجالهم حسبما تقتضيه الحكم البالغة (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أى حد معين لبعثكم جميعا وهو مبتدأ لتخصصه بالصفة كما فى قوله تعالى (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) ولوقوعه

١٠٦

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣)

____________________________________

فى موقع التفصيل كما فى قول من قال[إذا ما بكى من خلفها انصرفت له * بشق وشق عندنا لم يحول] وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره ولذلك أوثر تقديمه على الخبر الذى هو (عِنْدَهُ) مع أن الشائع المستفيض* هو التأخير كما فى قولك عندى كلام حق ولى كتاب نفيس كأنه قيل وأى أجل مسمى مثبت معين فى علمه لا يتغير ولا يقف على وقت حلوله أحد لا مجملا ولا مفصلا وأما أجل الموت فمعلوم إجمالا وتقريبا بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد فى أعمار الإنسان وتسميته أجلا إنما هى باعتبار كونه غاية لمدة لبثهم فى القبور لا باعتبار كونه مبدأ لمدة القيامة كما أن مدار التسمية فى الأجل الأول هو كونه آخر مدة الحياة لا كونه أول مدة الممات لما أن الأجل فى اللغة عبارة عن آخر المدة لا عن أولها وقيل الأجل الأول ما بين الخلق والموت والثانى ما بين الموت والبعث من البرزخ فإن الأجل كما يطلق على آخر المدة يطلق على كلها وهو الأوفق لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الله تعالى قضى لكل أحد أجلين أجلا من مولده إلى موته وأجلا من موته إلى مبعثه فإن كان براتقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث فى أجل العمر وإن كان فاجرا قاطعا نقص من أجل العمر وزيد فى أجل البعث وذلك قوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فمعنى عدم تغير الأجل حينئذ عدم تغير آخره والأول هو الأشهر الأليق بتفخيم الأجل الثانى المنوط باختصاصه بعلمه تعالى والأنسب بتهويله المبنى على مقارنته للطامة الكبرى فإن كون بعضه معلوما للخلق ومضيه من غير أن يقع فيه شىء من الدواهى كما يستلزمه الحمل على المعنى الثانى مخل بذلك قطعا ومعنى زيادة الأجل ونقصه فيما روى تأخير الأجل الأول وتقديمه (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد واستنكار لامترائهم فى البعث بعد معاينتهم لما ذكر من* الحجج الباهرة الدالة عليه أى تمترون فى وقوعه وتحققه فى نفسه مع مشاهدتكم فى أنفسكم من الشواهد ما يقطع مادة الامتراء بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها من العلم والقدرة وسائر الكمالات البشرية على مادة غير مستعدة لشىء منها أصلا كان أوضح اقتدارا على إفاضتها على مادة قد استعدت لها وقارنتها مدة ومن ههنا تبين أن ما قيل من أن الأجل الأول هو النوم والثانى هو الموت أو أن الأول أجل الماضين والثانى أجل الباقين أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثانى مقدار ما بقى منه مما لا وجه له أصلا لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم فى البعث الذى عبر عن وقته بالأجل المسمى فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففى أى شىء يمترون ووصفهم بالامتراء الذى هو الشك وتوجيه الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاء البعث مصرون على إنكاره كما ينبىء عنه قولهم أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ونظائره للدلالة على أن جزمهم المذكور فى أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار وقوله تعالى (وَهُوَ اللهُ) جملة من مبتدأ وخبر معطوفه على ما قبلها مسوقة لبيان شمول أحكام إلهيته تعالى لجميع المخلوقات وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء إثر الإشارة إلى تحقق المعاد فى تضاعيف بيان كيفية خلقهم وتقدير آجالهم وقوله تعالى (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بالمعنى*

١٠٧

الوصفى الذى ينبىء عنه الاسم الجليل إما باعتبار أصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق كأنه قيل وهو المعبود فيهما وإما باعتبار أنه اسم اشتهر بما اشتهرت به الذات من صفات الكمال فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية الكلية والتصرف الكامل حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قيل وهو المالك أو المتصرف المدبر فيهما كما فى قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) وليس المراد بما ذكر من الاعتبارين أن الاسم الجليل يحمل على معناه اللغوى أو على معنى المالك أو المتصرف أو نحو ذلك بل مجرد ملاحظة أحد المعانى المذكورة فى ضمنه كمالو حظ مع اسم الأسد فى قوله أسد على الخ ما اشتهر به من وصف الجراءة التى اشتهر بها مسماه فجرى مجرى جرىء على وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أى هو المعروف بذلك فى السموات وفى الأرض أو هو المعروف المشتهر بالصفات الكمالية أو هو المعروف بالإلهية فيهما أو نحو ذلك بمعزل من التحقيق فإن المعتبر مع الاسم هو نفس الوصف الذى اشتهر به إذ هو الذى يقتضيه المقام حسبما بين آنفا لاشتهاره به ألا يرى أن كلمة على فى المثال المذكور لا يمكن تعليقها باشتهار الاسم بالجراءة قطعا وقيل هو متعلق بما يفيده التركيب الحصرى من التوحد والتفرد كأنه قيل وهو المتوحد بالإلهية فيهما وقيل بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنه قيل وهو الذى يقال له الله فيهما لا يشرك به شىء فى هذا الاسم على الوجه الذى سبق من اعتبار معنى التوحد أو القول فى فحوى الكلام بطريق الاستتباع لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحد بالإلهية أو على تقدير القول وقد جوز أن يكون الظرف خبرا ثانيا على أن كونه سبحانه فيهما عبارة عن كونه تعالى مبالغا فى العلم بما فيهما بناء على تنزيل علمه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضوريا منزلة كونه تعالى فيهما وتصويره به على طريقة التمثيل المبنى على تشبيه حالة علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما فإن العالم إذا كان فى مكان كان عالما به وبما* فيه على وجه لا يخفى عليه منه شىء فعلى هذا يكون قوله عزوجل (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) أى ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال أو ما أسررتموه وما أعلنتموه كائنا ما كان من الأقوال والأعمال بيانا وتقريرا لمضمونه وتحقيقا للمعنى المراد منه وتعليق علمه عزوجل بما ذكر خاصة مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيده الجملة السابقة لا نسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثانى فإن ملاحظة الاسم الجليل من حيث المالكية الكلية والتصرف الكامل الجارى على النمط المذكور مستتبعة لملاحظة علمه المحيط حتما فيكون هذا بيانا وتقريرا له بلا ريب وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بيانا لكن لا لما قيل من أنه لا دلالة لاستواء السر والجهر فى علمه تعالى على ما اعتبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم إذ ربما يعبد ويختص به من ليس له كمال العلم فإنه باطل قطعا إذ المراد بما ذكر هو المعبودية بالحق والاختصاص بالاسم الجليل ولا ريب فى أنهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمال العلم بديهة بل لأن ما ذكر من العلم غير معتبر فى مدلول شىء من المعبودية بالحق والاختصاص بالاسم حتى يكون هذا بيانا له وبهذا تبين أنه ليس ببيان على الوجه الثالث أيضا لما أن التوحد بالإلهية لا يعتبر فى مفهومه العلم الكامل ليكون هذا بيانا له بل هو معتبر فيما صدق عليه المتوحد وذلك غير كاف

١٠٨

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٥)

____________________________________

فى البيانية وقيل هو خبر بعد خبر عند من يجوز كون الخبر الثانى جملة كما فى قوله تعالى (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) وقيل هو الخبر والاسم الجليل بدل من هو وبه يتعلق الظرف المتقدم ويكفى فى ذلك كون المعلوم فيهما كما فى قولك رميت الصيد فى الحرم إذا كان هو فيه وأنت خارجه ولعل جعل سرهم وجهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصوير أنه لا يعزب عن علمه شىء منهما فى أى مكان كان لا لأنهما قد يكونان فى السموات أيضا وتعميم الخطاب لأهلها تعسف لا يخفى (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أى ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر* من الأعمال المكتسبة بالقلوب أو بالجوارح سرا أو علانية وتخصيصها بالذكر مع إندراجها فيما سبق على التفسير الثانى للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها لأنها التى يتعلق بها الجزاء وهو السر فى إعادة يعلم (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف وارد لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضهم عنها بالكلية بعد ما بين فى الآية الأولى إشراكهم بالله سبحانه وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد وفى الآية الثانية امتراؤهم فى البعث وإعراضهم عن بعض آياته والالتفات للإشعار بأن ذكر قبائحهم قد اقتضى أن يضرب عنهم الخطاب صفحا وتعدد جناياتهم لغيرهم ذما لهم وتقبيحا لحالهم فما نافية وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو الدلالة على الاستمرار التجددى ومن الأولى مزيدة للاستغراق والثانية تبعيضية واقعة مع مجرورها صفة لآية وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه فى حقها والمراد بها إما الآيات التنزيلية فإتيانها نزولها والمعنى ما ينزل إليهم آية من الآيات القرآنية التى من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله عزوجل المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته تعالى على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال الخلق وأعمالهم الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أى على وجه التكذيب والاستهزاء كما ستقف عليه وأما الآيات التكوينية الشاملة* للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات فإتيانها ظهورها لهم والمعنى ما يظهر لهم آية من الآيات التكوينية التى من جملتها ما ذكر من جلائل شئونه تعالى الشاهدة بوحدانيته (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدى إلى الإيمان بمكونها وإيثاره على أن يقال إلا أعرضوا عنها كما وقع مثله فى قوله تعالى وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات وعن متعلقة بمعرضين قدمت عليه مراعاة للفواصل والجملة فى محل النصب على أنها حال من مفعول تأتى أو من فاعله المتخصص بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما وأيا ما كان ففيها دلالة بينة على كمال مسارعتهم إلى الإعراض وإيقاعهم له فى آن الإتيان كما يفصح عنه كلمة لما فى قوله تعالى (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) فإن الحق عبارة عن القرآن الذى أعرضوا عنه حين أعرضوا* عن كل آية آية منه عبر عنه بذلك إبانة لكمال قبح ما فعلوا به فإن تكذيب الحق مما لا يتصور صدوره

١٠٩

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦)

____________________________________

عن أحد والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنها شىء مغاير له فى الحقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أن الأول هو عين الثانى حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتبارى وقد لتحقيق ذلك المعنى كما فى قوله تعالى (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) بعد قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) فإن ما جاءوه أى فعلوه من الظلم والزور عين قولهم المحكى لكنه لما كان مغايرا له مفهوما وأشنع منه حالا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره كذلك مفهوم التكذيب بالحق حيث كان أشنع من مفهوم الإعراض المذكور أخرج مخرج اللازم البين البطلان فرتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيدا لشناعته وتمهيدا لبيان أن ما كذبوا به آثر ذى أثير له عواقب جليلة ستبدولهم البتة والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا فى حاله ومآله ويقفوا على ما فى تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه كقوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) كما ينبىء عنه قوله* تعالى (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإن ما عبارة عن الحق المذكور عبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه وتعليلا للحكم بما فى حيز الصلة وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة التى نطقت بها آيات الوعيد وفى لفظ الأنباء إيذان بغاية العظم لما أن النبأ لا يطلق إلا على خبر عظيم الوقع وحملها على العقوبات الآجلة أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية وسوف لتأكيد مضمون الجملة وتقريره أى فسيأتيهم البتة وإن تأخر مصداق أنباء الشىء الذى كانوا يكذبون به قبل من غير أن يتدبروا فى عواقبه وإنما قيل يستهزءون إيذانا بأن تكذيبهم كان مقرونا بالاستهزاء كما أشير إليه هذا على أن يراد بالآيات الآية القرآنية وهو الأظهر وأما إن أريد بها الآيات التكوينية فالفاء داخلة على علة جواب شرط محذوف والإعراض على حقيقته كأنه قيل إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجب فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذى هو أعظم الآيات ولا مساغ لحمل الآيات فى هذا الوجه على كلها أصلا وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن فما ينبغى تنزيه التنزيل عن أمثاله (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بالأنباء التى سبق بها الوعيد وتقرير إتيانها بطريق الاستشهاد وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية وهى عرفانية مستدعية لمفعول واحدوكم استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما فى حيزها مسد مفعولها منصوبة بأهلكنا على المفعولية على أنها عبارة عن الأشخاص ومن قرن مميز لها على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم برهة

١١٠

من الدهر كما فى قوله عليه الصلاة والسلام خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم الحديث وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان والمضاف محذوف أى من أهل قرن وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنها عبارة عن المصدر أو عن الزمان فتعسف ظاهر ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أى ألم يعرفوا بمعاينة الآثار وسماع الأخباركم أمة أهلكنا من قبل أهل مكة أى من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كعاد وثمود وأضرابهم وقوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) استئناف لبيان كيفية الإهلاك وتفصيل مباديه مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل كيف كان ذلك فقيل مكانهم الخ وقيل هو صفة لقرن لما أن النكرة مفتقرة إلى مخصص فإذا وليها ما يصلح مخصصا لها تعين وصفيته لها وأنت خبير بأن تنوينه التفخيمى مغن له عن استدعاء الصفة على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الاربع أمرا مفروغا عنه غير مقصود بسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم كيف لا والمعنى حينئذ ألم يرواكم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم وأنه بين الفساد وتمكين الشىء فى الأرض جعله قارا فيها ولما لزمه جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه فى الأرض ومنه قوله تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) وأخرى مكن له فى الأرض ومنه قوله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) بعد قوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) كأنه* قيل فى الأول مكنا لهم أو فى الثانى ما لم نمكنكم وما نكرة موصوفة بما بعدها من الجملة المنفية والعائد محذوف محلها النصب على المصدرية أى مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم والالتفات لما فى مواجهتهم بضعف الحال مزيد بيان لشأن الفريقين ولدفع الاشتباه من أول الأمر عن مرجعى الضميرين (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) * أى المطر أو السحاب أو المظلة لأنها مبدأ المطر (عَلَيْهِمْ) متعلق بأرسلنا (مِدْراراً) أى مغزارا حال من* السماء (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ) أى صيرناها فقوله تعالى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) مفعول ثان لجعلنا أو أنشأناها* فهو حال من مفعوله ومن تحتهم متعلق بتجرى وفيه من الدلالة على كونها مسخرة لهم مستمرة على الجريان على الوجه المذكور ما ليس فى أن يقال وأجرينا الأنهار من تحتهم وليس المراد بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم فى كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادى الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئا والمعنى أعطيناهم من البسطة فى الأجسام والامتداد فى الأعمار والسعة من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا فى استجلاب المنافع واستدفاع المضار ما لم نعط أهل مكة ففعلوا ما فعلوا (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أى أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب فما* أغنى عنهم تلك العدد والأسباب فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب وهذا كما ترى آخر ما به الاستشهاد والاعتبار وأما قوله سبحانه (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أى أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن (قَرْناً آخَرِينَ) بدلا من الهالكين فلبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة

١١١

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨)

____________________________________

لم ينقص من ملكه شيئا بل كلما أهلك أمة أنشأ بدلها أخرى (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب لبيان شدة شكيمتهم فى المكابرة وما يتفرع عليها من الأقاويل الباطلة إثر بيان إعراضهم عن آيات الله تعالى وتكذيبهم بالحق واستحقاقهم بذلك لنزول العذاب ونسبة التنزيل ههنا إليه عليه‌السلام مع نسبة إتيان الآيات ومجىء الحق فيما سبق إليهم للإشعار بقدحهم فى نبوته عليه‌السلام فى ضمن قدحهم فيما نزل عليه صريحا وقال الكلبى ومقاتل نزلت فى النضر بن الحرث وعبد الله بن أبى أمية ونوفل ابن خويلد حيت قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة* يشهدون أنه من عند الله تعالى وأنك رسوله (كِتاباً) إن جعل اسما كالإمام فقوله تعالى (فِي قِرْطاسٍ) متعلق بمحذوف وقع صفة له أى كتابا كائنا فى صحيفة وإن جعل مصدرا بمعنى المكتوب فهو متعلق بنفسه* (فَلَمَسُوهُ) أى الكتاب وقيل القرطاس وقوله تعالى (بِأَيْدِيهِمْ) مع ظهور أن اللمس لا يكون عادة إلا بالأيدى لزيادة التعين ودفع احتمال التجوز الواقع فى قوله تعالى (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أى تفحصنا أى فمسوه بأيديهم بعد ما رأوه بأعينهم بحيث لم يبق لهم فى شأنه اشتباه ولم يقدروا على الاعتذار بتسكير* الأبصار (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى لقالوا وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم* بما فى حيز الصلة من الكفر الذى لا يخفى حسن موقعه باعتبار مفهومه اللغوى أيضا (إِنْ هذا) أى ما هذا* مشيرين إلى ذلك الكتاب (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أى بين كونه سحرا تعننا وعنادا للحق بعد ظهوره كما هو دأب المفحم المحجوج وديدن المكابر اللجوج (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) شروع فى قدحهم فى نبوته عليه‌السلام صريحا بعد ما أشير إلى قدحهم فيما ضمنا وقيل هو معطوف على جواب لو وليس بذاك لما أن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هى من أباطيلهم المحققة وخرافاتهم الملفقة التى يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل أى هلا أنزل عليه عليه‌السلام ملك بحيث نراه ويكلمنا أنه نبى حسبما نقل عنهم فيما روى عن الكلبى ومقاتل ونظيره قولهم لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين إنزال الملك كما هو وجعله معه عليه‌السلام نذيرا أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الوجود أصلا لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان فى الوجود لما أن إنزال الملك على صورته يقتضى انتفاء جعله نذيرا وجعله نذيرا يستدعى* عدم إنزاله على صورته لا محالة وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أى لو أنزلنا ملكا على هيئته حسبما اقترحوه والحال أنه من هول المنظر بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ويفاوضونهم على الصور

١١٢

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩)

____________________________________

البشرية كضيف إبراهيم ولوط وخصم داود عليهم‌السلام وغير ذلك وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية فما ظنك بمن عداهم من العوام فلو شاهدوه كذلك لقضى أمر هلاكهم بالكلية واستحال جعله نذيرا وهو مع كونه خلاف مطلوبهم مستلزم لإخلاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة من إرسال الرسل وتأسيس الشرائع وقد قال سبحانه (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وفيه كما ترى إيذان بأنهم فى ذلك الاقتراح كالباحث عن حتفه بظلفه وأن عدم الإجابة إليه للبقيا عليهم وبناء الفعل الأول فى الجواب للفاعل الذى هو نون العظمة مع كونه فى السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة وبناء الثانى للمفعول للجرى على سنن الكبرياء وكلمة ثم فى قوله تعالى (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أى* لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين فضلا عن أن ينذروا به كما هو المقصود بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاء الأمر وعدم الإنظار فإن مفاجأة العذاب أشد من نفس العذاب وأشق وقيل فى سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صورته وهى آية لا شىء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بدمن إهلاكهم وقيل أنهم إذا رأوه يزول الاختيار الذى هو قاعدة التكليف فيجب إهلاكهم وإلى الثانى بقوله تعالى (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) على أن الضمير الأول للنذير المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال ولو جعلناه نذيرا لجعلناه رجلا مع فهم المراد منه أيضا لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول فى معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثانى إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثانى خبرا لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ والخبر ولا ريب فى أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين طرفى الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت امتناعية أريد بها بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذى هو الجعل الثانى وجب أن يجعل مدار الاستلزام فى الأول مفعولا ثانيا لا محالة ولذلك جعل مقابله فى الجعل الثانى كذلك إبانة لكمال التنافى بينهما الموجب لانتفاء الملزوم والضمير الثانى للملك لا لما رجع إليه الأول والمعنى لو جعلنا النذير الذى اقترحوه ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لما مر من عدم استطاعة الآحاد لمعاينة الملك على هيكله وفى إيثار رجلا على بشرا إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل وقوله تعالى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) عطف على جواب لو مبنى على الجواب الأول وقرىء بحذف لام الجواب اكتفاء* بما فى المعطوف عليه يقال لبست الأمر على القوم ألبسه اذا شبهته وجعلته مشكلا عليهم وأصله الستر بالثوب وقرىء الفعلان بالتشديد للمبالغة أى ولخلطنا عليهم بتمثيله رجلا (ما يَلْبِسُونَ) على أنفسهم* حينئذ بأن يقولوا له إنما أنت بشر ولست بملك ولو استدل على ملكيته بالقرآن المعجز الناطق بها أو بمعجزات أخر غير ملجئة إلى التصديق لكذبوه كما كذبوا النبى عليه الصلاة والسلام ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول والتعبير عن تمثيله تعالى رجلا باللبس إما لكونه فى سورة اللبس

١١٣

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢)

____________________________________

أو لكونه سببا للبسهم أو لوقوعه فى صحبته بطريق المشاكلة وفيه تأكيد لاستحالة جعل النذير ملكا كأنه قيل لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم وقد جوز أن يكون للمعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة فى كفرهم بآيات الله البينة (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من قومه وفى تصدير الجملة بلام القسم وحرف التحقيق من الاعتناء بها ما لا يخفى وتنوين رسل للتفخيم والتكثير ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل أى وبالله لقد استهزىء برسل أولى شأن خطير وذوى عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامة المضاف* إليه مقامه (فَحاقَ) عقيبه أى أحاط أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم* ولا يكاد يستعمل إلا فى الشر والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله وقوله تعالى (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أى استهزؤا بهم من أولئك الرسل عليهم‌السلام متعلق بحاق وتقديمه على فاعله الذى هو* قوله تعالى (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) للمسارعة إلى بيان لحوق الشربهم وما إما موصولة مفيدة للتهويل أى فأحاط بهم الذى كانوا يستهزءون به حيث أهلكوا لأجله وإما مصدرية أى فنزل بهم وبال استهزائهم وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بعد بيان ما فعلت الأمم الخالية وما فعل بهم خوطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار قومه وتذكيرهم بأحوالهم الفظيعة تحذيرا لهم عما هم عليه وتكملة للتسلية بما فى ضمنه من العدة اللطيفة بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم الأولين* ولقد أنجز ذلك يوم بدر أى إنجاز أى سيروا فى الأرض لتعرف أحوال أولئك الأمم (ثُمَّ انْظُرُوا) أى* تفكروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) وكلمة ثم إما لأن النظر فى آثار الهالكين لا يتسنى إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم وإما لإبانة ما بينهما من التفاوت فى مراتب الوجوب وهو الأظهر فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلة إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء فى قوله عزوجل (فَانْظُروا) الآية وأما أن الأمر الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها والثانى لإيجاب النظر فى آثارهم وثم لتباعد ما بين الواجب والمباح فلا يناسب المقام وكيف معلقة لفعل النظر ومحل الجملة النصب بنزع الخافض أى تفكروا فى أنهم كيف أهلكوا بعذاب الاستئصال والعاقبة مصدر كالعافية ونظائرها وهى منتهى الأمر ومآله ووضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أن مدار إصابة ما أصابهم هو التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناء على توهم أنه المدار فى ذلك (قُلْ) لهم بطريق الإلجاء

١١٤

والتبكيت (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من العقلاء وغيرهم أى لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا* وتصرفا وقوله تعالى (قُلْ لِلَّهِ) تقرير لهم وتنبيه على أنه المتعين للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتى لأحد* أن يجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) وقوله تعالى (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) جملة مستقلة داخلة تحت الأمر ناطقة بشمول رحمته الواسعة لجميع الخلق شمول* ملكه وقدرته للكل مسوقة لبيان أنه تعالى رءوف بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة والإنابة وأن ما سبق ذكره وما لحق من أحكام الغضب ليس من مقتضيات ذاته تعالى بل من جهة الخلق كيف لا ومن رحمته أن خلقهم على الفطرة السليمة وهداهم إلى معرفته وتوحيده بنصب الآيات الأنفسية والآفاقية وإرسال الرسل وإنزال الكتب المشحونة بالدعوة إلى موجبات رضوانه والتحذير عن مقتضيات سخطه وقد بدلوا فطرة الله تبديلا وأعرضوا عن الآيات بالمرة وكذبوا بالكتب واستهزءوا بالرسل وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ولو لا شمول رحمته لسلك بهؤلاء أيضا مسلك الغابرين ومعنى كتب الرحمة على نفسه أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شىء أصلا وقيل هو ما روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما قضى الله تعالى الخلق كتب فى كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتى سبقت غضبى وعنه فى رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتى غلبت غضبى وعن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لكعب ما أول شىء ابتدأه الله تعالى من خلقه فقال كعب كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد كتابة الزبرجد واللؤلؤ والياقوت إنى أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتى غضبى ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير وفى التعبير عن الذات بالنفس حجة على من ادعى أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة لما ترى من انتفاء المشاكلة ههنا بنوعيها وقوله تعالى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) جواب قسم محذوف والجملة استئناف مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر أى والله ليجمعنكم فى القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شرككم وسائر معاصيكم وإن أمهلكم بموجب رحمته ولم يعاجلكم بالعقوبة الدنيوية وقيل إلى بمعنى اللام أى ليجمعنكم ليوم القيامة كقوله تعالى إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه وقيل هى بمعنى فى أى ليجمعنكم فى يوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) أى* فى اليوم أو فى الجمع وقوله تعالى (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أى بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية* والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستماع الوحى وغير ذلك من آثار الرحمة فى موضع النصب أو الرفع على الذم أى أعنى الذين الخ أو هم الذين الخ أو هو مبتدأ والخبر قوله تعالى (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والإشعار بأن عدم إيمانهم بسبب* خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك فى التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان والجملة تذييل مسوق من جهته تعالى لهم لتقبيح حا غير داخل

١١٥

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥)

____________________________________

تحت الأمر (وَلَهُ) أى لله عزوجل خاصة (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) نزل الملوان منزلة المكان فعبر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسكنى فيهما وتعديته بكلمة فى كما فى قوله تعالى (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أو السكون مقابل الحركة والمراد ما سكن فيهما أو تحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر* (وَهُوَ السَّمِيعُ) المبالغ فى سماع كل مسموع (الْعَلِيمُ) المبالغ فى العلم بكل معلوم فلا يخفى عليه شىء من الأقوال والأفعال (قُلْ) لهم بعد ما بكتهم بما سبق من الخطاب (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أى معبودا بطريق الاستقلال أو الاشتراك وإنما سلطت الهمزة على المفعول الأول لا على الفعل إيذانا بأن المنكر هو اتخاذ غير الله وليا لا اتخاذ الولى مطلقا كما فى قوله تعالى (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) وقوله تعالى (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) * الخ (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى مبدعهما بالجر صفة للجلالة مؤكدة للإنكار لأنه بمعنى الماضى ولذلك قرىء فطر ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هى عاملة فى عامل الموصوف أو بدل فإن الفصل بينه وبين المبدل منه أسهل لأن البدل على نية تكرير العامل وقرىء بالرفع والنصب على المدح وعن ابن عباس رضى الله عنهما ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إلى أعرابيان فى بئر فقال أحدهما أنا* فطرتها أى ابتدأتها (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أى يرزق الخلق ولا يرزق وتخصيص الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه أو لأنه معظم ما يصل إلى المرزوق من الرزق ومحل الجملة النصب على الحالية فإن مضمونها مقرر لوجوب اتخاذه سبحانه وتعالى وليا وقرىء ولا يطعم بفتح الياء وبعكس القراءة الأولى أيضا على أن الضمير لغير الله والمعنى أأشرك بمن هو فاطر السموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية وببنائهما للفاعل على أن الثانى بمعنى يستطعم أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى* كقوله تعالى (يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ (قُلْ) بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى وليا مما يقضى ببطلانه بديهة العقول* (إِنِّي أُمِرْتُ) من جنابه عزوجل (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) وجهه لله مخلصا له لأن النبى إمام أمته فى الإسلام كقوله تعالى (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) وقوله تعالى (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا* أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (وَلا تَكُونَنَّ) أى وقيل لى ولا تكونن (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أى فى أمر من أمور الدين ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك وقد جوز عطفه على الأمر (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أى بمخالفة أمره ونهيه أى عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا وفيه بيان لكمال اجتنابه* صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المعاصى على الإطلاق وقوله تعالى (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أى عذاب يوم القيامة مفعول خاف

١١٦

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩)

____________________________________

والشرطية معترضة بينهما والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه وفيه قطع لأطماعهم الفارغة وتعريض بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) على البناء للمفعول أى العذاب وقرىء على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه وقد قرىء بالإظهار والمفعول محذوف وقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ) ظرف* للصرف أى فى ذلك اليوم العظيم وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أى عذاب يومئذ (فَقَدْ رَحِمَهُ) أى نجاه وأنعم عليه وقيل فقد أدخله الجنة كما فى قوله تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب وضمير عنه ورحمه لمن وهو عبارة عن غير العاصى (وَذلِكَ) إشارة إلى الصرف أو الرحمة لأنها مؤولة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البعد للإيذان* بعلو درجته وبعد مكانه فى الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أى الظاهر كونه فوزا* وهو الظفر بالبغية والألف واللام لقصره على ذلك (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أى ببلية كمرض وفقر ونحو ذلك (فَلا كاشِفَ لَهُ) أى فلا قادر على كشفه عنك (إِلَّا هُوَ) وحده (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من صحة ونعمة* ونحو ذلك (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملته ذلك فيقدر عليه فيمسك به ويحفظه عليك من غير أن* يقدر على دفعه أو على رفعه أحد كقوله تعالى (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) وحمله على تأكيد الجوابين يأباه الفاء. تذكرة : روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال أهدى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفنى خلفه ثم سار بى ميلا ثم التفت إلى فقال يا غلام فقلت لبيك يا رسول الله فقال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه فان استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن فى الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع الكرب فرجا و (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فى كل ما يفعله ويأمر به (الْخَبِيرُ) بأحوال عباده وخفايا أمورهم واللام فى المواضع الثلاثة للقصر (قُلْ أَيُ

١١٧

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١)

____________________________________

شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) روى أن قريشا قالوا الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله فنزلت فأى مبتدأ وأكبر خبره وشهادة نصب* على التمييز وقوله تعالى (قُلِ اللهُ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتولى الجواب بنفسه إما للإيذان بتعينه وعدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لترددهم فى أنه أكبر من كل شىء بل فى كونه شهيدا فى هذا* الشأن وقوله تعالى (شَهِيدٌ) خبر مبتدأ محذوف أى هو شهيد (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ويجوز أن يكون الله شهيد بينى وبينكم هو الجواب لأنه إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شىء شهادة شهيدا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكرير البين* لتحقيق المقابلة (وَأُوحِيَ إِلَيَّ) أى من جهته تعالى (هذَا الْقُرْآنُ) الشاهد بصحة رسالتى (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) بما* فيه من الوعيد والاقتصار على ذكر الإنذار لما أن الكلام مع الكفرة (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المخاطبين أى لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة وهو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى يوم القيامة خلا أن ذلك بطريق العبارة فى الكل عند الحنابلة وبالإجماع عندنا فى غير الموجودين وفى* غير المكلفين يومئذ كما مر فى أول سورة النساء (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) تقرير لهم مع إنكار* واستبعاد (قُلْ لا أَشْهَدُ) بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف (قُلْ) تكرير للأمر للتأكيد (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أى بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إله هو (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأصنام أو من إشراككم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) جواب عما سبق من قولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى أخر عن تعيين الشهيد مسارعة إلى إلزامهم بالجواب عن تحكمهم بقولهم فأرنا من يشهد لك الخ والمراد بالموصول اليهود والنصارى وبالكتاب الجنس المنتظم للتوراة والإنجيل وإيرادهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم* بقوله تعالى (يَعْرِفُونَهُ) أى يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة الكتابين بحليته ونعوته المذكورة فيهما* (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم بحيث لا يشكون فى ذلك أصلا. روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة قال عمر رضى الله عنه لعبد الله بن سلام أنزل الله تعالى على نبيه هذه الآية وكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابنى ولأنا أشد معرفة بمحمد منى بابنى لأنى لا أدرى ما صنع النساء* وأشهد أنه حق من الله تعالى (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيعوا فطرة* الله التى فطر الناس عليها وأعرضوا عن البينات الموجبة للإيمان بالكلية (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لما أنهم مطبوع على قلوبهم ومحل الموصول الرفع على الابتداء وخبره الجملة المصدرة بالفاء لشبه الموصول بالشرط وقيل على أنه خبر مبتدأ محذوف أى هم الذين خسروا الخ وقيل على أنه نعت للموصول الأول وقيل النصب على الذم فقوله تعالى (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) على الوجوه الأخيرة عطف على جملة (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) الخ (وَمَنْ

١١٨

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢٢)

____________________________________

أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بوصفهم النبى الموعود فى الكتابين بخلاف أوصافه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه افتراء على الله سبحانه وبقولهم الملائكة بنات الله وقولهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ونحو ذلك وهو إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له وإن كان سبك التركيب غير متعرض لإنكار المساواة ونفيها يشهد به العرف الفاشى والاستعمال المطرد فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل ألا يرى إلى قوله عزوجل (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) بعد قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الخ والسر فى ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبا لا سيما فى باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانا فإذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كأن كذبوا بالقرآن الذى من جملته الآية الناطقة بأنهم* يعرفونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرفون أبناءهم وبالمعجزات وسموها سحرا وحرفوا التوراة وغيروا نعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ذلك تكذيب بآياته تعالى وكلمة أو للإيذان بأن كلا من الافتراء والتكذيب وحده بالغ غاية الإفراط فى الظلم فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفوا ما أثبته (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* (إِنَّهُ) الضمير للشأن ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره وفائدة تصدير الجملة به الإيذان* بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريره فى الذهن فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن فكأنه قيل إن الشأن الخطير هذا هو (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أى لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب وإذا كان حال الظالمين هذا* فما ظنك بمن فى الغاية القاصية من الظلم

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) منصوب على الظرفية بمضمر مؤخر قد حذف إيذانا بضيق العبارة عن شرحه وبيانه وإيماء إلى عدم استطاعة السامعين لسماعه لكمال فظاعة ما يقع فيه من الطامة والداهية التامة كأنه قيل ويوم نحشرهم جميعا (ثُمَّ نَقُولُ) لهم ما نقول كان من الأحوال* والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال وتقدير صيغة الماضى للدلالة على التحقق ولحسن موقع عطف قوله تعالى (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) الخ عليه وقيل منصوب على المفعولية بمضمر مقدم أى واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم الخ وقيل وليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ والضمير للكل وجميعا حال منه وقرىء يحشرهم جميعا ثم يقول بالياء فيهما (لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) أى نقول لهم خاصة للتوبيخ والتقريع على رءوس* الأشهاد (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أى آلهتكم التى جعلتموها شركاء لله سبحانه وإضافتها إليهم لما أن شركتها ليست* إلا بتسميتهم وتقولهم الكاذب كما ينبىء عنه قوله تعالى (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أى تزعمونها شركاء فحذف* المفعولان معا وهذا السؤال المنبىء عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها لقوله تعالى (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وغير ذلك من النصوص إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبرؤمن الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب والعلائق حسبما يحكيه قوله تعالى (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) الخ ونحو ذلك من الآيات الكريمة إما بعدم حضورها حينئذ فى الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف وإما بتنزيل

١١٩

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤)

____________________________________

عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها فى الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث ذواتها بل إنما هو من حيث أنها شركاء كما يعرب عنه الوصف بالموصول ولا ريب فى أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهى من حيث هى شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناما كانت أو غيرها وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم فى وقت التوبيخ ليفقدوهم فى الساعة التى علقوا بها الرجاء فيها فيروا مكان خزيهم وحسرتهم فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب فى البرزخ وإنما الذى يحصل يوم الحشر الانكشاف الجلى واليقين القوى المترتب على المحاضرة والمحاورة (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) بتأنيث الفعل ورفع* فتنتهم على أنه اسم له والخبر (إِلَّا أَنْ قالُوا) وقرىء بنصب فتنتهم على أنها الخبر والاسم إلا أن قالوا والتأنيث للخبر كما فى قولهم من كانت أمك وقرىء بالتذكير مع رفع الفتنة ونصبها ورفعها أنسب بحسب المعنى والجملة عطف على ما قدر عاملا فى يوم نحشرهم كما أشير إليه فيما سلف والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وفتنتهم إما كفرهم مرادا به عاقبته أى لم تكن عاقبة كفرهم الذى لزموه مدة أعمارهم وافتخروا* به شيئا من الأشياء إلا جحوده والتبرؤ منه بأن يقولوا (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وأما جوابهم عبر عنه بالفتنة لأنه كذب ووصفه تعالى بربوبيته لهم للمبالغة فى التبرؤ من الإشراك وقرىء ربنا على النداء فهو لإظهار الضراعة والابتهال فى استدعاء قبول المعذرة وإنما يقولون ذلك مع علمهم بأنه بمعزل من النفع رأسا من فرط الحيرة والدهش وحمله على معنى ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا فى الدنيا أنا على خطأ فى معتقدنا مما لا ينبغى أن يتوهم أصلا فإنه مما يوهم أن لهم عذرا ما وأن لهم قدرة على الاعتذار فى الجملة وذلك مخل بكمال هول اليوم قطعا على أنه قد قضى ببطلانه قوله تعالى (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) فإنه تعجيب من كذبهم الصريح بإنكار صدور الإشراك عنهم فى الدنيا أى انظر كيف كذبوا على أنفسهم فى قولهم ذلك فإنه أمر عجيب فى الغاية وأما حمله على كذبهم فى الدنيا فتمحل يجب ئنزيه ساحة* التنزيل عنه وقوله تعالى (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) عطف على (كَذَبُوا) داخل معه فى حكم التعجيب وما مصدرية أو موصولة قد حذف عائدها والمعنى انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أى زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرءوا منه بالمرة وقيل ما عبارة عن الشركاء وإيقاع الافتراء عليها مع أنه فى الحقيقة واقع على أحوالها من الإلهية والشركة والشفاعة ونحوها للمبالغة فى أمرها كأنها نفس المفترى وقيل الجملة كلام مستأنف غير داخل فى حيز التعجيب.

١٢٠