تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) (١٢٥)

____________________________________

بهرهم الحق واضطرهم إلى ذلك (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أبدلوا الثانى من الأول لئلا يتوهم أن مرادهم فرعون. عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال لما آمنت السحرة اتبع موسى من بنى إسرائيل ستمائة ألف (قالَ فِرْعَوْنُ) منكرا على السحرة موبخا لهم على ما فعلوه (آمَنْتُمْ بِهِ) بهمزة واحدة إما على الإخبار المحض المتضمن للتوبيخ أو على الاستفهام التوبيخى بحذف الهمزة كما مر فى إن لنا لأجرا وقد قرىء بتحقيق الهمزتين معا وبتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين أى آمنتم بالله تعالى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أى بغير أن آذن لكم كما فى قوله تعالى (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) لا أن* الإذن منه ممكن فى ذلك (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) يعنى إن ما صنعتموه ليس مما اقتضى الحال صدوره* عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة بل هو حيلة احتلتموها مع مواطأة موسى (فِي الْمَدِينَةِ) يعنى مصر* قبل أن تخرجوا إلى الميعاد. روى أن موسى عليه الصلاة والسلام وأمير السحرة التقيا فقال له موسى أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بى وتشهد أن ما جئت به الحق فقال الساحر والله لئن غلبتنى لأومنن بك وفرعون يسمعهما وهو الذى نشأ عنه هذا القول (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أى القبط وتخلص هى لك ولبنى إسرائيل* وهاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوام القبط عند معاينتهم لارتفاع أعلام المعجزة ومشاهدتهم لخضوع أعناق السحرة لها وعدم تمالكهم من أن يؤمنوا بها ليمنعهم بهما عن الإيمان بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام بإراءة أن إيمان السحرة مبنى على المواضعة بينهم وبين موسى وأن غرضهم بذلك إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم ومعلوم أن مفارقة الأوطان المألوفة والنعمة المعروفة مما لا يطاق به فجمع اللعين بين الشبهتين تثبيتا للقبط على ما هم عليه وتهييجا لعداوتهم له عليه الصلاة والسلام ثم عقبهما بالوعيد ليريهم أن له قوة وقدرة على المدافعة فقال (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أى عاقبة ما فعلتم وهذا وعيد ساقه بطريق* الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أى من كل شق طرفا (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم. قيل هو أول من سن ذلك فشرعه الله تعالى* لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم ولذلك سماه الله تعالى محاربة لله ورسوله (قالُوا) استئناف مسوق للجواب

٢٦١

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١٢٨)

____________________________________

عن سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قال السحرة عند ما سمعوا وعيد فرعون هل تأثروا به أو* تصلبوا فيما هم فيه من الدين فقيل قالوا ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أى بالموت لا محالة فسواء كان ذلك من قبلك أولا فلا نبالى بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا وثوابه منقلبون إن فعلت بنا ذلك كأنهم استطابوه شغفا على لقاء الله تعالى أو إنا جميعا إلى ربنا منقلبون فيحكم بيننا وبينك (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) أى وما تنكر وتعيب منا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) وهو خير الأعمال وأصل المفاخر ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلبا لمرضاتك ثم أعرضوا عن مخاطبته إظهارا لما فى قلوبهم من العزيمة على* ما قالوا وتقريرا له ففزعوا إلى الله عزوجل وقالوا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) اى افض علينا من الصبر ما يغمرنا كما يغمر الماء أو صب علينا ما يطهرنا من أو ضار الأوزار وأدناس الآثام وهو الصبر على وعيد* فرعون (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد قيل فعل بهم ما أوعدهم به وقيل لم يقدر عليه لقوله تعالى (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) * مخاطبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه‌السلام (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أى فى* أرض مصر بتغير الناس عليك وصرفهم عن متابعتك (وَيَذَرَكَ) عطف على يفسدوا أو جواب الاستفهام بالواو كما فى قول الحطيئة[ألم أك جاركم ويكون بينى * وبينكم المودة والإخاء] * أى أيكون منك ترك موسى ويكون تركه إياك وقرىء بالرفع عطفا على أتذر أو استئنافا أو حالا وقرىء بالسكون كأنه قيل* يفسدوا ويذرك كقوله تعالى (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ (وَآلِهَتَكَ) ومعبوداتك قيل إنه كان يعبد الكواكب وقيل صنع لقومه أصناما وأمرهم بأن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى وقرىء والهتك أى* عبادتك (قالَ) مجيبا لهم (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أنه المولود الذى حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه* وقرىء سنقتل بالتخفيف (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) كما كنا لم يتغير حالنا أصلا وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) تسلية لهم وعدة بحسن العاقبة حين سمعوا قول فرعون وتضجروا منه* (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) على ما سمعتم من أقاويله الباطلة (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) أى أرض مصر أو جنس

٢٦٢

(قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠)

____________________________________

الأرض وهى داخلة فيها دخولا أوليا (يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الذين أنتم منهم وفيه* إيذان بأن الاستعانة بالله تعالى والصبر من باب التقوى وقرىء والعاقبة بالنصب عطفا على اسم إن (قالُوا) أى بنو إسرائيل (أُوذِينا) أى من جهة فرعون (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) أى بالرسالة يعنون بذلك قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه الصلاة والسلام وبعده (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) أى رسولا يعنون به ما توعدهم* به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه‌السلام من فنون الجور والظلم والعذاب وأما ما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن كما قيل فليس مما يلحقهم بواسطته عليه‌السلام فليس لذكره كثير ملابسة بالمقام (قالَ) أى موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى شدة جزعهم* مما شاهدوه مسليا لهم بالتصريح بما لوح به فى قوله (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) الخ (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) الذى* فعل بكم ما فعل وتوعدكم بإعادته (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أى يجعلكم خلفاء فى أرض مصر (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أحسنا أم قبيحا فيجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال وفيه تأكيد للتسلية وتحقيق للأمر قيل لعل الإتيان بفعل الطمع لعدم الجزم منه عليه‌السلام بأنهم هم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم فقد روى أن مصر إنما فتحت فى زمن داود عليه‌السلام ولا يساعده قوله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) فإن المتبادر استخلاف أنفس المستضعفين لا استخلاف أولادهم وإنما مجىء فعل الطمع للجرى على سنن الكبرياء (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) شروع فى تفصيل مبادى الهلاك الموعود وإيذان بأنه تعالى لم يمهلهم بعد ذلك ولم يكونوا فى خفض ودعة بل رتبت أسباب هلاكهم فتحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال وتصدير الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها والسنون جمع سنة والمراد بها عام القحط وفيها لغتان أشهرهما إجراؤها مجرى المذكر السالم فيرفع بالواو وينصب ويجر بالياء ويحذف نونه بالإضافة واللغة الثانية إجراء الإعراب على النون ولكن مع الياء خاصة إما بإثبات تنوينها أو بحذفه قال الفراء هى فى اللغة مصروفة عند بنى عامر وغير مصروفة عند بنى تميم ووجه حذف التنوين التخفيف وحينئذ لا يحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر[دعانى من نجد فإن سنينه * لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا] * وجاء الحديث اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف وسنين كسنين يوسف باللغتين (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) بإصابة العاهات عن كعب* يأتى على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة. قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أما السنون فكانت لباديتهم وأهل ماشيتهم وأما نقص الثمرات فكان فى أمصارهم (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) كى يتذكروا ويتعظوا* بذلك ويقفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجروا عماهم عليه من العتو والعناد. قال الزجاج إن أحوال

٢٦٣

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٣٢)

____________________________________

الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله عزوجل وفى الرجوع إليه تعالى ألا يرى إلى قوله تعالى (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) وقد مر تحقيق القول فى لعل وفى محلها فى تفسير قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فى أوائل سورة البقرة وقوله تعالى (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) الخ بيان لعدم تذكرهم وتماديهم فى الغى أى* فإذا جاءتهم السعة والخصب وغيرهما من الخيرات (قالُوا لَنا هذِهِ) أى لأجلنا واستحقاقنا لها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أى جدب وبلاء (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أى يتشاءموا بهم ويقولوا ما أصابتنا إلا بشؤمهم وهذا كما ترى شاهد بكمال قساوة قلوبهم ونهاية جهلهم وغباوتهم فإن الشدائد ترقق القلوب وتلين العرائك لا سيما بعد مشاهدة الآيات وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شىء منها بل ازدادوا عتوا وعنادا وتعريف الحسنة وذكرها بأداة التحقيق للإيذان بكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بها بالذات كما أن تنكير السيئة* وإيرادها بحرف الشك للإشعار بندرة وقوعها وعدم تعلق الإرادة بها إلا بالعرض وقوله تعالى (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) استئناف مسوق من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة وتحقيق الحق فى ذلك وتصديره بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه أى ليس سبب خيرهم إلا عنده تعالى وهو حكمه ومشيئته المتضمنة للحكم والمصالح أو ليس سبب شؤمهم وهو أعمالهم السيئة إلا عنده تعالى أى مكتوبة لديه فإنها* التى ساقت إليهم ما يسوؤهم لا ما عداها وقرىء إنما طيرهم وهو اسم جمع طائر وقيل جمع له (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيقولون ما يقولون مما حكى عنهم وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون أن ما أصابهم من الخير والشر من جهة الله تعالى أو يعلمون أن ما أصابهم من المصائب والبلايا ليس إلا بما كسبت أيديهم ولكن لا يعملون بمقتضاه عنادا واستكبارا (وَقالُوا) شروع فى بيان بعض آخر مما أخذ به آل فرعون من فنون العذاب التى هى فى أنفسها آيات بينات وعدم ارعوائهم مع ذلك عما كانوا عليه من الكفر والعناد أى قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من شأن العصا والسنين ونقص الثمرات* (مَهْما تَأْتِنا بِهِ) كلمة مهما تستعمل للشرط والجزاء وأصلها ما الجزائية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد كما ضمت إلى أين وإن فى أينما تكونوا وإما نذهبن بك خلا أن ألف الأولى قلبت هاء حذرا من تكرير المتجانسين هذا هو الرأى السديد وقيل مه كلمة يصوت بها الناهى ضمت إليها ما الشرطية ومحلها الرفع* بالابتداء أو النصب بفعل يفسره ما بعدها أى أى شىء تظهره لدينا وقوله تعالى (مِنْ آيَةٍ) بيان لمهما وتسميتهم إياها آية لمجاراتهم على رأى موسى عليه‌السلام واستهزائهم بها وللإشعار بأن عنوان كونها آية لا يؤثر* فيهم وقوله تعالى (لِتَسْحَرَنا بِها) إظهار لكمال الطغيان والغلو فيه وتسمية للإرشاد إلى الحق بالسحر وتسكير الأبصار والضمير ان المجروران راجعان إلى مهما وتذكير الأول لمراعاة جانب اللفظ لإبهامه

٢٦٤

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٣٤)

____________________________________

وتأنيث الثانى للمحافظة على جانب المعنى لتبيينه بآية كما فى قوله تعالى (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين لك ومؤمنين لنبوتك (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ) عقوبة لجرائمهم لا سيما لقولهم هذا (الطُّوفانَ) أى الماء الذى طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو* سيل وقيل هو الجدرى وقيل الموتان وقيل الطاعون (وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ) قيل هو كبار القردان وقيل* أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها (وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ) روى أنهم مطروا ثمانية أيام فى ظلمة شديدة لا يستطيع* أن يخرج أحد من بيته ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل منه قطرة وهى فى خلال بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك سبعة أيام فقالوا له عليه الصلاة والسلام ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك فدعا فكشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يعهد قبله ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم ففزعوا إليه عليه الصلاة والسلام لما ذكر فخرج إلى الصحراء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحى التى جاءت منها فلم يؤمنوا فسلط الله تعالى عليهم القمل فأكل ما أبقته الجراد وكان يقع فى أطعمتهم ويدخل بين ثيابهم وجلودهم فيمصها ففزعوا إليه ثالثا فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك ساحر ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه وكانت تمتلىء منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهى تغلى وإلى أفواههم عند التكلم ففزعوا إليه رابعا وتضرعوا فأخذ عليهم العهود فدعا فكشف الله عنهم فنقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماء حتى كان يجتمع القبطى والإسرائيلى على إناء فيكون ما يليه دما وما يلى الإسرائيلى ماء على حاله ويمص من فم الإسرائيلى فيصير دما فى فيه وقيل سلط الله عليهم الرعاف (آياتٍ) حال من المنصوبات* المذكورة (مُفَصَّلاتٍ) مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته وقيل مفرقات بعضها من* بعض لامتحان أحوالهم وكان بين كل آيتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها أسبوعا وقيل إنه عليه‌السلام لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل (فَاسْتَكْبَرُوا) أى عن* الإيمان بها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) أى العذاب المذكور على التفصيل فاللام للجنس المنتظم لكل واحدة من الآيات المفصلة أى كلما وقع عليهم عقوبة من تلك العقوبات قالوا فى كل مرة (يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أى بعهده عندك وهو*

٢٦٥

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧)

____________________________________

النبوة أو بالذى عهد إليك أن تدعوه فيجيبك كما أجابك فى آياتك وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلا إليه بما عهد عندك أو متعلق بمحذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب* بحق ما عندك أو قسم أجيب بقوله تعالى (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) الذى وقع علينا (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أى أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت الخ (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) * أى إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون بعده أو مهلكون (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب لما أى فلما كشفنا عنهم فاجئوا النكث من غير تأمل وتوقف (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أى فأردنا أن ننتقم منهم لما أسلفوا من* المعاصى والجرائم فإن قوله تعالى (فَأَغْرَقْناهُمْ) عين الانتقام منهم فلا يصح دخول الفاء بينهما ويجوز أن* يكون المراد مطلق الانتقام منهم والفاء تفسيرية كما فى قوله تعالى (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِ) الخ (فِي الْيَمِّ) * فى البحر الذى لا يدرك قعره وقيل فى لجته (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا) (بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) تعليل للإغراق أى كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها وعدم تفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية والفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانا بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى والإعراض عنها ليكون ذلك مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإعراض عنها (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) أى بالاستعباد وذبح الأبناء والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده وهم بنو إسرائيل ذكروا بهذا العنوان إظهارا لكمال لطفه تعالى بهم وعظيم إحسانه إليهم فى* رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) أى جانبيها الشرقى والغربى حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتصرفوا فى أكنافها الشرقية والغربية كيف شاءوا وقوله* تعالى (الَّتِي بارَكْنا فِيها) أى بالخصب وسعة الأرزاق صفة للمشارق والمغارب وقيل للأرض وفيه ضعف* للفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف كما فى قولك قام أم هند وأبوها العاقلة (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) وهى وعده تعالى إياهم بالنصر والتمكين كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) وقرىء كلمات لتعدد المواعيد ومعنى تمت مضت واستمرت (عَلى

٢٦٦

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٩)

____________________________________

بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) أى بسبب صبرهم على الشدائد التى كابدوها من جهة فرعون وقومه (وَدَمَّرْنا) * أى خربنا وأهلكنا (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من العمارات والقصور أى ودمرنا الذى كان فرعون* يصنعه على أن فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف وقيل اسم كان ضمير عائد إلى ما الموصولة ويصنع مسند إلى فرعون والجملة خبر كان والعائد محذوف أيضا والتقدير ودمرنا الذى كان هو يصنعه فرعون الخ وقيل كان زائدة وما مصدرية والتقدير ما يصنع فرعون الخ وقيل كان زائدة كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف تقديره ودمرنا الذى يصنعه فرعون الخ أى صنعه والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) من* الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان وقرىء يعرشون بضم الراء والكسر أفصح وهذا آخر قصة فرعون وقومه وقوله عزوجل (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) شروع فى قصة بنى إسرائيل وشرح ما أحدثوه من الأمور الشنيعة بعد أن أنقذهم الله عزوجل من ملكة فرعون ومن عليهم من النعم العظام الموجبة للشكر وأراهم من الآيات الكبار ما تخر له شم الجبال تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم وجاوز بمعنى جاوز وقرىء جوزنا بالتشديد وهو أيضا بمعنى جاز فعدى بالباء أى قطعنا بهم البحر. روى أنه عبر بهم موسى عليه‌السلام يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله تعالى فرعون فصاموه شكرا لله عزوجل (فَأَتَوْا) أى مروا (عَلى قَوْمٍ) قيل كانوا* من لخم وقيل من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه‌السلام بقتالهم (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) * أى يواظبون على عبادتها ويلازمونها وقرىء بكسر الكاف قال ابن جريج كانت أصنامهم تماثيل بقروهو أول شأن العجل (قالُوا) عند ما شاهدوا أحوالهم (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً) مثالا نعبده (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) * الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها وما موصولة ولهم صلتها وآلهة بدل من ما والتقدير اجعل لنا إلها كائنا كالذى استقر هو لهم (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تعجب عليه‌السلام من قولهم هذا إثر ما شاهدوا* من الآية الكبرى والمعجزة العظمى فوصفهم بالجهل المطلق إذ لا جهل أعظم مما ظهر منهم وأكده بقوله (إِنَّ هؤُلاءِ) يعنى القوم الذين يعبدون تلك التماثيل (مُتَبَّرٌ) أى مدمر مكسر (ما هُمْ فِيهِ) أى من الدين الباطل أى يتبر الله تعالى ويهدم دينهم الذى هم عليه عن قريب ويحطم أصنامهم ويتركها رضاضا وإنما جىء بالجملة الاسمية للدلالة على التحقق (وَباطِلٌ) أى مضمحل بالكلية (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من عبادتها* وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى فإنه كفر محض وليس هذا كما فى قوله تعالى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) كما توهم فإن المراد به أعمال البر التى عملوها فى الجاهلية فإنها فى أنفسها حسنات

٢٦٧

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢)

____________________________________

لو قارنت الإيمان لاستتبعت أجورها وإنما بطلت لمقارنتها الكفر وفى إيقاع هؤلاء اسما لأن وتقديم الخبر من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعروضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) شروع فى بيان شئون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلا لكونه هالكا باطلا ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه الصلاة والسلام والاستفهام للإنكار والتعجب والتوبيخ وإدخال الهمزة على غير للإيذان بأن المنكر هو كون المبغى غيره تعالى لما أنه لاختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص بغيره تعالى وانتصاب غير على أنه مفعول أبغى بحذف اللام أى أبغى لكم أى أطلب لكم غير الله تعالى وإلها إما تمييز أو حال أو على الحالية من إلها وهو المفعول لأبغى على أن الأصل أبغى لكم إلها غير الله فغير الله صفة لإلها فلما قدمت صفة النكرة* انتصبت حالا (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أى والحال أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم وفيه تنبيه على ما صنعوا من سوء المعاملة حيث قابلوا تخصيص الله تعالى إياهم من بين أمثالهم بما لم يستحقوه تفضلا بأن عمدوا إلى أخس شىء من مخلوقاته فجعلوه شريكا له تعالى تبالهم ولما يعبدون (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) تذكير لهم من جهته سبحانه بنعمة الإنجاء من ملكة فرعون وقرىء نجيناكم من التنجية وقرىء أنجاكم فيكون مسوقا من* جهة موسى عليه الصلاة والسلام أى واذكروا وقت إنجائنا إياكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) من ملكتهم لا بمجرد تخليصكم من أيديهم وهم على حالهم فى المكنة والقدرة بل بإهلاكهم بالكلية وقوله تعالى* (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) من سامه خسفا أى أولاه إياه أو كلفه إياه وهو إما استئناف لبيان ما أنجاهم منه أو حال من المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معا لاشتماله على ضميريهما وقوله تعالى (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) بدل من يسومونكم مبين أو مفسر له (وَفِي ذلِكُمْ) الإنجاء أو سوء العذاب (بَلاءٌ) * أى نعمة أو محنة (مِنْ رَبِّكُمْ) من مالك أمركم فإن النعمة والنقمة كلتاهما منه سبحانه وتعالى (عَظِيمٌ) لا يقادر قدره (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) روى أن موسى عليه‌السلام وعد بنى إسرائيل وهم بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى عليه‌السلام ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوما وهو شهر ذى القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك

٢٦٨

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣)

____________________________________

فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك وقيل أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن ريح فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك فأمره الله تعالى بأن يزيد عليها عشرة أيام من ذى الحجة لذلك وذلك قوله تعالى (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) والتعبير عنها بالليالى لأنها غرر الشهور وقيل أمره الله تعالى* بأن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة فى العشر وكلم فيها وقد أجمل ذكر الأربعين فى سورة البقرة وفصل ههنا وواعدنا بمعنى وعدنا وقد قرىء كذلك وقيل الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه‌السلام منزلة الوعد وثلاثين مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف أى إتمام ثلاثين ليلة (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أى بالغا أربعين ليلة (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به (اخْلُفْنِي) أى كن خليفتى (فِي قَوْمِي) وراقبهم فيما يأتون* وما يذرون (وَأَصْلِحْ) ما يحتاج إلى الإصلاح من أمورهم أو كن مصلحا (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أى* لا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) لوقتنا الذى وقتناه واللام للاختصاص أى اختص مجيئه بميقاتنا (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من غير واسطة كما يكلم الملائكة عليهم‌السلام وفيما* روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه عزوجل ليس من جنس سماع كلام المحدثين (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أى أرنى ذاتك بأن تمكننى من رؤيتك أو تتجلى* لى فأنظر إليك وأراك وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة فى الجملة لما أن طلب المستحيل مستحيل من الأنبياء لا سيما ما يقتضى الجهل بشئون الله تعالى ولذلك رده بقوله تعالى (لَنْ تَرانِي) دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إلى تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد فى الرائى ولم يوجد فيه ذلك بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا أرنا الله جهرة خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل ذلك حين قالوا اجعل لنا إلها وأن لا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه ولا تتبع سبيل المفسدين والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار بعدم رؤيته إياه على أنه لا يراه أبدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة مكابرة أو جهل لحقيقة الرؤية (قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه* السلام ما قال فقيل قال (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) استدراك* لبيان أنه لا يطيق بها وفى تعليقها باستقرار الجبل أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق بالممكن ممكن والجبل قيل هو جبل أردن (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) أى ظهرت له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره وقيل* أعطى الجبل حياة ورؤية حتى رآه (جَعَلَهُ دَكًّا) مدكوكا مفتتا والدك والدق أخوان كالشك والشق*

٢٦٩

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥)

____________________________________

* وقرىء دكاء أى أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء للتى لا سنام لها وقرىء دكا جمع دكاء أى قطعا (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) مغشيا عليه من هول مارآه (فَلَمَّا أَفاقَ) الإفاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما* بسبب من الأسباب (قالَ) تعظيما لما شاهده (سُبْحانَكَ) أى تنزيها لك من أن أسألك شيئا بغير إذن* منك (تُبْتُ إِلَيْكَ) أى من الجراءة والإقدام على السؤال بغير إذن (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أى بعظمتك وجلالك وقيل أول من آمن بأنك لا ترى فى الدنيا وقيل بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك (قالَ يا مُوسى) استئناف مسوق لتسليته عليه الصلاة والسلام من عدم الإجابة إلى سؤال الرؤية كأنه قيل إن منعتك* الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما لم أعط أحدا من العالمين فاغتنمها وثابر على شكرها (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) * أى اخترتك واتخذتك صفوة وآثرتك (عَلَى النَّاسِ) أى المعاصرين لك وهرون وإن كان نبيا كان مأمورا* باتباعه وما كان كلما ولا صاحب شرع (بِرِسالاتِي) أى بأسفار التوراة وقرىء برسالتى (وَبِكَلامِي) * وبتكليمى إياك بغير واسطة (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أى أعطيتك من شرف النبوة والحكمة (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على ما أعطيت من جلائل النعم. قيل كان سؤال الرؤية يوم عرفة وإعطاء التوراة يوم النحر (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أى مما يحتاجون إليه من أمور دينهم (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من الجار والمجرور أى كتبنا له كل شىء من المواعظ وتفصيل الأحكام واختلف فى عدد الألواح وفى جوهرها ومقدارها فقيل إنها كانت عشرة ألواح وقيل سبعة وقيل لوحين وإنها كانت من زمردة جاء بها جبريل عليه‌السلام وقيل من زبرجدة خضراء أو ياقوتة حمراء وقيل أمر الله تعالى موسى بقطعها من صخرة صماء لينهاله فقطعها بيده وشققها بأصابعه وعن الحسن رضى الله عنه كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراة وإن طولها كان عشرة أذرع وقيل أنزلت التوراة وهى سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه فى سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم‌السلام وعن مقاتل رضى الله عنه كتب فى الألواح إنى أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بى شيئا ولا تقطعوا السبيل ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين* (فَخُذْها) على إضمار قول معطوف على كتبنا أى فقلنا خذها (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة وقيل هو بدل من قوله* تعالى فخذ ما آتيتك والضمير للألواح أو لكل شىء لأنه بمعنى الأشياء أو للرسالة أو للتوراة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أى بأحسن ما فيها كالعفو والصبر بالإضافة إلى الاقتصاص والانتصار على طريقة الندب والحث على اختيار الأفضل كما فى قوله تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أو بواجباتها فإنها

٢٧٠

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٤٦)

____________________________________

أحسن من المباح وقيل المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة قال قطرب أى بحسنها وكلها حسن كقوله تعالى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وقيل هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها إلى الصواب (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى قومه عليه الصلاة والسلام بطريق* الالتفات حملا لهم على الجد فى الامتثال بما أمروا به إما على نهج الوعيد والترهيب على أن المراد بدار الفاسقين أرض مصر وديار عاد وثمود وأضرابهم فإن رؤيتها وهى الخالية عن أهلها خاوية على عروشها موجبة للاعتبار والانزجار عن مثل أعمال أهلها كيلا يحل بهم ما حل بأولئك وإما على نهج الوعد والترغيب على أن المراد بدار الفاسقين إما أرض مصر خاصة أو مع أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها أيضا مما أتيح لبنى إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عزوجل (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الإيراث ويؤيده قراءة من قرأ سأورثكم بالثاء المثلثة كما فى قوله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) وقرىء سأوريكم ولعله من أوريت الزند أى سأبينها لكم وقوله تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) استئناف مسوق لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر فى الآيات التى هى ما كتب فى ألواح التوراة من المواعظ والأحكام أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التى من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين ومعنى صرفهم عنها الطبع على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله تعالى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن فى المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل أى سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون لهم على الخلق مزية وفضلا فلا ينتفعون بآياتى التنزيلية والتكوينية ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم لتكونوا أمثالهم وقيل المعنى سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون فى إبطال مارآه من الآيات فأبى الله تعالى إلا إحقاق الحق وإزهاق الباطل وعلى هذا فالأنسب أن يراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة المشهورين بالفسق والتكبر فى الأرض وبإراءتها للمخاطبين إدخالهم الشام وإسكانهم فى مساكنهم ومنازلهم حسبما نطق به قوله تعالى (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ويكون قوله تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) الخ جوابا عن سؤال مقدر ناشىء من الوعد بإدخال الشام على أن المراد بالآيات ما تلى آنفا ونظائره وبصرفهم عنها إزالتهم عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى عليه الصلاة والسلام حين سار بعد التيه بمن بقى من بنى إسرائيل

٢٧١

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) (١٤٨)

____________________________________

أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين إلى أريحا ويوشع بن نون فى مقدمته ففتحها واستقر بنو إسرائيل بالشام وملكوا مشارقها ومغاربها كأنه قيل كيف يرون دارهم وهم فيها فقيل سأهلكهم وإنما عدل إلى* الصرف ليزدادوا ثقه بالآيات واطمئنانا بها وقوله تعالى (بِغَيْرِ الْحَقِّ) إما صلة للتكبر أى يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله أى يتكبرون* ملتبسين بغير الحق وقوله تعالى (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) عطف على يتكبرون داخل معه فى حكم الصلة والمراد بالآية إما المنزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها بسماعها أو ما يعمها وغيرها من المعجزات فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار أى وإن يشاهدوا كل آية من الآيات لا يؤمنوا بها على عموم النفى لا على نفى العموم أى كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائهم إياها كما هى وهذا كما* ترى يؤيد كون الصرف بمعنى الطبع وقوله تعالى (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) عطف على ما قبله داخل فى حكمه أى لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلكون سبيله أصلا لاستيلاء الشيطنة عليهم ومطبوعتهم على الانحراف والزيغ وقرىء بفتحتين وقرىء الرشاد وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام* (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أى يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه* لموافقته لأهوائهم الباطلة وإفضائه بهم إلى شهواتهم (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من تكبرهم وعدم إيمانهم بشىء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الرشد وإقبالهم التام إلى سبيل الغى وهو مبتدأ خبره قوله تعالى* (بِأَنَّهُمْ) أى حاصل بسبب أنهم (كَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية* أضدادها (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) لا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل ويجوز أن يكون إشارة إلى ما ذكر من الصرف ولا يمنعه الإشعار بعلية ما فى حيز الصلة كيف لا وقد مر أن ذلك فى قوله تعالى (ذلِكَ بِما عَصَوْا) الآية يجوز أن يكون إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم مع كون ذلك معللا بالكفر بآيات الله صريحا وقيل محل اسم الإشارة النصب على المصدر أى سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أى وبلقائهم الدار الآخرة أو لقائهم ما وعده الله تعالى فى الآخرة من الجزاء ومحل الموصول الرفع على الابتداء وقوله* تعالى (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) خبره أى ظهر بطلان أعمالهم التى كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغانة الملهوفين* ونحو ذلك أو حبطت بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها (هَلْ يُجْزَوْنَ) أى لا يجزون (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى إلا جزاء ما كانوا يعملونه من الكفر والمعاصى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أى* من بعد ذهابه إلى الطور (مِنْ حُلِيِّهِمْ) متعلق باتخذ كالجار الأول لاختلاف معنييهما فإن الأول للابتداء

٢٧٢

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١٤٩)

____________________________________

والثانى للتبعيض أو للبيان أو الثانى متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له وإضافة الحلى إليهم مع أنها كانت للقبط لأدنى الملابسة حيث كانوا استعاروها من أربابها قبيل الغرق فبقيت فى أيديهم وأما أنهم ملكوها بعد الغرق فذلك منوط بتملك بنى إسرائيل غنائم القبط وهم مستأمنون فيما بينهم فلا يساعده قولهم حملنا أوزارا من زينة القوم والحلى بضم الحاء وكسر اللام جمع حلى كثدى وثدى وقرىء بكسر الحاء بالاتباع كدلى وقرىء حليهم على الإفراد وقوله تعالى (عِجْلاً) مفعول اتخذ أخر عن* المجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم وقيل هو متعد إلى اثنين بمعنى التصيير والمفعول الثانى محذوف أى إلها وقوله تعالى (جَسَداً) * بدل من عجلا أى جثة ذا دم ولحم أو جسدا من ذهب لا روح معه وقوله تعالى (لَهُ خُوارٌ) أى صوت بقر* وقرىء بالجيم والهمزة وهو الصياح نعت لعجلا. روى أن السامرى لما صاغ العجل ألقى فى فمه ترابا من أثر فرس جبريل عليه الصلاة والسلام وقد كان أخذه عند فلق البحر أو عند توجهه إلى الطور فصار حيا وقيل صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح فى جوفه فيصوت والأنسب بما فى سورة طه هو الأول وإنما نسب اتخاذه إليهم وهو فعله إما لأنه واحد منهم وإما لأنهم رضوا به فكأنهم فعلوه وإما لأن المراد بالاتخاذ اتخاذهم إياه إلها لا صنعه وإحداثه (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) استئناف مسوق لتقريعهم وتشنيعهم وتركيك* عقولهم وتسفيههم فيما أقدموا عليه من المنكر الذى هو اتخاذه إلها أى ألم يروا أنه ليس فيه شىء من أحكام الألوهية حيث لا يكلمهم (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) بوجه من الوجوه فكيف اتخذوه إلها وقوله تعالى* (اتَّخَذُوهُ) أى فعلوا ذلك (وَكانُوا ظالِمِينَ) أى واضعين للأشياء فى غير موضعها فلم يكن هذا أول منكر* فعلوه والجملة اعتراض تذييلى وتكرير اتخذوه لتثنية التشنيع وترتيب الاعتراض عليه (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أى ندموا على ما فعلوا غاية الندم فإن ذلك كناية عنه لأن النادم المتحسر يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها وقرىء سقط على البناء للفاعل بمعنى وقع العض فيها فاليد حقيقة وقال الزجاج معناه سقط الندم فى أنفسهم إما بطريق الاستعارة بالكناية أو بطريق التمثيل (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) باتخاذ العجل* أى تبينوا بحيث تيقنوا بذلك حتى كأنهم رأوه بأعينهم وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية (قالُوا) والله (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) بإنزال التوبة المكفرة (وَيَغْفِرْ لَنا) ذنوبنا بالتجاوز عن خطيئتنا وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن* التخلية حقها أن تقدم على التحلية إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلى وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم واللام فى لئن موطئة للقسم كما أشير إليه وفى قوله تعالى (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) لجواب القسم وما حكى عنهم من الندامة والرؤية والقول وإن كان بعد*

٢٧٣

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠)

____________________________________

ما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم كما ينطق به الآيات الواردة فى سورة طه لكن أريد بتقديمه عليه حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل فى موضع واحد (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) شروع فى بيان* ما جرى من موسى عليه‌السلام بعد رجوعه من الميقات إثر بيان ما وقع من قومه بعده وقوله تعالى (غَضْبانَ أَسِفاً) حالان من موسى عليه‌السلام أو الثانى من المستكن فى غضبان والأسف الشديد الغضب وقيل* الحزين (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أى بئسما فعلتم من بعد غيبتى حيث عبدتم العجل بعد ما رأيتم فعلى من توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من حملكم على ذلك وكفكم عما طمحت نحوه أبصاركم حيث قلتم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف فالخطاب للعبدة من السامرى وأشياعه أو بئسما قمتم مقامى ولم تراعوا عهدى حيث لم تكفوا العبدة عما فعلوا فالخطاب لهرون ومن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ويجوز أن يكون الخطاب للكل على أن المراد بالخليفة ما يعم الأمرين المذكورين وما نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف تقديره* بئس خلافة خلفتمونيها من بعدى خلافتكم (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أى تركتموه غير تام على تضمين عجل معنى سبق يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام أو أعجلتم وعد ربكم الذى وعدنيه من الأربعين وقدرتم* موتى وغيرتم بعدى كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين. روى أن التوراة كانت سبعة أسباع فى سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفعت* ستة أسباعها التى كان فيها تفصيل كل شىء وبقى سبع كان فيه المواعظ والأحكام (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) * بشعر رأسه عليهما‌السلام (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) حال من ضمير أخذ فعله عليه‌السلام توهما أنه قصر فى كفهم* وهرون كان أكبر منه عليهما‌السلام بثلاث سنين وكان حمولا ولذلك كان أحب إلى بنى إسرائيل (قالَ) * أى هرون مخاطبا لموسى عليهما‌السلام (ابْنَ أُمَّ) بحذف حرف النداء وتخصيص الأم بالذكر مع كونهما شقيقين لما أن حق الأم أعظم وأحق بالمراعاة مع أنها كانت مؤمنة وقد قاست فيه المخاوف والشدائد وقرىء بكسر الميم بإسقاط الياء تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء وقراءة الفتح لزيادة التخفيف أو لتشبيهه* بخمسة عشر (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) إزاحة لتوهم التقصير فى حقه والمعنى بذلت جهدى* فى كفهم حتى قهرونى واستضعفونى وقاربوا قتلى (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) أى فلا تفعل بى ما يكون سببا* لشماتتهم بى (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى معدودا فى عدادهم بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير وهذا يؤيد كون الخطاب للكل أولا تعتقد أنى واحد من الظالمين مع براءتى منهم ومن ظلمهم.

٢٧٤

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (١٥٢)

____________________________________

(قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية اعتذار هرون عليه‌السلام كأنه قيل فماذا قال موسى عند ذلك فقيل قال (رَبِّ اغْفِرْ لِي) أى ما فعلت بأخى من غير ذنب مقرر من قبله (وَلِأَخِي) إن فرط منه تقصير* ما فى كفهم عما فعلوه من العظيمة استغفر عليه‌السلام لنفسه ليرضى أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلاتتم شماتتهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلهم (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) بمزيد* الإنعام بعد غفران ما سلف منا (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فلا غرو فى انتظامنا فى سلك رحمتك الواسعة* فى الدنيا والآخرة والجملة اعتراض تذييلى مقرر لما قبله (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أى تموا على اتخاذه واستمروا على عبادته كالسامرى وأشياعه من الذين أشربوه فى قلوبهم كما يفصح عنه كون الموصول الثانى عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح فى أن الموصول الأول عبارة عن المصرين (سَيَنالُهُمْ) أى فى الآخرة* (غَضَبٌ) أى عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون العقوبات لما أن جريمتهم أعظم الجرائم وأقبح الجرائر* وقوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) أى مالكهم متعلق بينالهم أو بمحذوف هو نعت لغضب مؤكد لما أفاده التنوين* من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى كائن من ربهم (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هى ذلة الاغتراب التى* تضرب بها الأمثال والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم جميعا والذلة التى اختص بها السامرى من الانفراد عن الناس والابتلاء بلامساس. يروى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد غيرهم حما جميعا فى الوقت وإيراد ما نالهم فى حيز السين مع مضيه بطريق تغليب حال الأخلاف على حال الأسلاف وقيل المراد بهم التائبون وبالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم واعتذر عن السين بأن ذلك حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه‌السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل بأنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فيكون سابقا على الغضب وأنت خبير بأن سياق النظم الكريم وسياقه نأبيان عن ذلك نبوا ظاهرا كيف لا وقوله تعالى (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) ينادى على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف* يمكن وصفهم بعد ذلك بالافتراء وأيضا ليس يجزى الله تعالى كل المفترين بهذا الجزاء الذى ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة وقيل المراد بهم أبناؤهم المعاصرون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن تعبير الأبناء بأفاعيل الآباء مشهور معروف منه قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) الآية وقوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) الآية والمراد بالغضب الغضب الأخروى وبالذلة ما أصابهم من القتل والإجلاء وضرب الجزية عليهم وقيل المراد بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير فى ينالهم أخلافهم ولا ريب فى أن توسيط حال هؤلاء فى تضاعيف بيان حال المتخذين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) أى سيئة كانت.

٢٧٥

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥)

____________________________________

(ثُمَّ تابُوا) عن تلك السيئات (مِنْ بَعْدِها) أى من بعد عملها (وَآمَنُوا) إيمانا صحيحا خالصا واشتغلوا* بإقامة ما هو من مقتضياته من الأعمال الصالحة ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) * أى من بعد تلك التوبة المقرونة بالإيمان (لَغَفُورٌ) للذنوب وإن عظمت وكثرت (رَحِيمٌ) مبالغ فى إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام للتشريف (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) شروع فى بيان بقية الحكاية إثر ما بين تحزب القوم إلى مصر وتائب والإشارة إلى مآل كل منهما إجمالا أى لما سكن عنه الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم وهذا صريح فى أن ما حكى عنهم من الندم وما يتفرع عليه كان بعد مجىء موسى عليه الصلاة والسلام وفى هذا النظم الكريم من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزلة الآمر بذلك المغرى عليه بالتحكم والتشديد والتعبير عن سكونه بالسكوت ما لا يخفى وقرىء سكن وسكت وأسكت على* أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التى ألقاها (وَفِي نُسْخَتِها) أى فيما نسخ* فيها وكتب فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها أى من الألواح المنكسرة (هُدىً) أى بيان* للحق (وَرَحْمَةٌ) للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) اللام الأولى متعلقة بمحذوف هو صفة لرحمة أى كائنة لهم أو هى لام الأجل أى هدى ورحمة لأجلهم والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر كما فى قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أو هى أيضا لام العلة والمفعول محذوف أى يرهبون المعاصى لأجل ربهم لا للرياء والسمعة (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) شروع فى بيان كيفية استدعاء التوبة وكيفية وقوعها واختار يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن أى اختار من قومه بحذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور كما فى قوله [اختارك الناس اذرثت خلائقهم * واعتل من كان يرجى عنده السول] * أى اختارك من الناس (سَبْعِينَ رَجُلاً) مفعول لاختار أخر عن الثانى لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم* والتشويق إلى المؤخر (لِمِيقاتِنا) الذى وقتناه بعد ما وقع من قومه ما وقع لا لميقات الكلام الذى ذكر

٢٧٦

قبل ذلك كما قيل. قال السدى أمره الله تعالى بأن يأتيه فى ناس من بنى إسرائيل يعتذرون إليه تعالى من عبادة العجل ووعدهم موعدا فاختار عليه‌السلام من قومه سبعين رجلا وقال محمد بن إسحق اختارهم ليتوبوا إليه تعالى مما صنعوه ويسألوه التوبة على من تركوهم وراءهم من قومهم قالوا اختار عليه الصلاة والسلام من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال عليه الصلاة والسلام إن لمن قعد مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه حسبما يشاء وهو الأمر بقتل أنفسهم توبة (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) مما اجترءوا عليه من طلب الرؤية فإنه يروى أنه لما انكشف الغمام أقبلوا إلى موسى عليه‌السلام وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة أى الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها اى ماتوا ولعلهم أرادوا بقولهم لن نؤمن لك لن نصدقك فى أن الآمر بما سمعنا من الأمر بقتل أنفسهم هو الله تعالى حتى نراه حيث قاسوا رؤيته تعالى على سماع كلامه قياسا فاسدا فحين شاهد موسى تلك الحالة الهائلة (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أى حين فرطوا فى النهى عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته* حين شاهدوا إصرارهم عليها (وَإِيَّايَ) أيضا حين طلبت منك الرؤية أى لو شئت إهلاكنا بذنوبنا* لأهلكتنا حينئذ أراد به عليه‌السلام تذكير العفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق فإن الاعتراف بالذنب والشكر على النعمة مما يربط العتيد ويستجلب المزيد يعنى إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدم مشيئتك إياه فحيث لطفت بنا وعفوت عنا تلك الجرائم فلا غرو فى أن تعفو عنا هذه الجريمة أيضا وحمل الكلام على التمنى يأباه قوله تعالى (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أى الذين لا يعلمون* تفاصيل شئونك ولا يتثبتون فى المداحض والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عزوجل كما قاله ابن الأنبارى أو للاستعطاف كما قاله المبرد أى لا تهلكنا (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) استئناف مقرر لما* قبله واعتذار عما صنعوا ببيان منشأ غلطهم أى ما الفتنة التى وقع فيها السفهاء وقالوا بسببها ما قالوا من العظيمة إلا فتنتك أى محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك ولم يتثبتوا فطمعوا فيما فوق ذلك تابعين للقياس الفاسد وقوله تعالى (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) إما استئناف مبين لحكم* الفتنة أو حال من فتنتك أى حال كونها مضلا بها الخ أى تضل بسببها من تشاء إضلاله فلا يهتدى إلى التثبت وتهدى من تشاء هدايته إلى الحق فلا يتزلزل فى أمثالها فيقوى بها إيمانه (أَنْتَ وَلِيُّنا) أى القائم بأمورنا* الدنيوية والأخروية وناصرنا وحافظنا لا غيرك (فَاغْفِرْ لَنا) ما قارفناه من المعاصى والفاء لترتيب الدعاء* على ما قبله من الولاية كأنه قيل فمن شأن الولى المغفرة والرحمة وقيل إن إقدامه عليه الصلاة والسلام على أن يقول إن هى إلا فتنتك الخ جراءة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها (وَارْحَمْنا) * بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) اعتراض تذييلى مقرر لما قبله من* الدعاء وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم بحسب المقام.

٢٧٧

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦)

____________________________________

(وَاكْتُبْ لَنا) أى عين لنا وقيل أوجب وحقق وأثبت (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) أى نعمة وعافية* أو خصلة حسنة. قال ابن عباس رضى الله عنهما اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة (وَفِي الْآخِرَةِ) أى واكتب لنا فيها أيضا حسنة وهى المثوبة الحسنى والجنة (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أى تبنا وأنبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وقرىء بكسر الهاء من هاده يهيده إذا حركه وأماله ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل أو للمفعول بمعنى أملنا أنفسنا أو أملنا إليك وتجويز أن تكون القراءة المشهورة على بناء المفعول على لغة من يقول عود المريض مع كونها لغة ضعيفة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل والجملة استئناف مسوق لتعليل الدعاء فإن التوبة مما يوجب قبله بموجب الوعد المحتوم وتصديرها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة فى التوبة والمعنى إنا تبنا ورجعنا عما صنعنا من المعصية العظيمة التى جئناك للاعتذار عنها وعما وقع ههنا من طلب الرؤية فبعيد من لطفك وفضلك أن لا تقبل توبة التائبين قيل لما أخذتهم الرجفة ماتوا جميعا فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله تعالى حتى أحياهم وقيل رجفوا وكادت تبين مفاصلهم وأشرفوا على الهلاك فخاف موسى عليه الصلاة والسلام فبكى* فكشفها الله تعالى عنهم (قالَ) استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الكلام كأنه قيل فماذا قال الله* تعالى عند دعاء موسى عليه‌السلام فقيل قال (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) لعله عزوجل حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم ضمن موسى عليه‌السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة أى خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن فى قتل أنفسهم من العذاب والتشديد ما لا يخفى فأجاب تعالى بأن عذابى شأنه أن أصيب به من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيرى فيه وهم ممن تناولته* مشيئتى ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أى شأنها أن تسع فى الدنيا المؤمن والكافر بل كل ما يدخل تحت الشيئية من المكلفين وغيرهم وقد نال قومك نصيب منها فى ضمن العذاب الدنيوى وفى نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضى إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات وأما العذاب فبمقتضى معاصى العباد والمشيئة معتبرة فى جانب الرحمة* أيضا وعدم التصريح بها للإشعار بغاية الظهور ألا يرى إلى قوله تعالى (فَسَأَكْتُبُها) أى أثبتها وأعينها فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كأنه قيل فإذا كان الأمر كذلك أى كما ذكر من إصابة عذابى وسعة رحمتى لكل من أشاء فسأكتبها كتبة كائنة كما دعوت بقولك واكتب لنا فى هذه الخ أى سأكتبها خالصة غير مشوبة بالعذاب* الدنيوى (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أى الكفر والمعاصى إما ابتداء أو بعد ملابستهما وفيه تعريض بقومه كأنه قيل* لا لقومك لأنهم غير متقين فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة للعذاب الدنيوى (وَيُؤْتُونَ

٢٧٨

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧)

____________________________________

الزَّكاةَ) وفيه أيضا تعريض بهم حيث كانت الزكاة شاقة عليهم ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع إنافتها على سائر العبادات اكتفاء عنها بالاتقاء الذى هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنكرات عن آخرها وإيراد إيتاء الزكاة لما مر من التعريض (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا) جميعا (يُؤْمِنُونَ) إيمانا مستمرا من غير* إخلال بشىء منها وفيه تعريض بهم وبكفرهم بالآيات العظام التى جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام وبما سيجىء بعد ذلك من الآيات البينات كتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفا على يؤتون الزكاة كما عطف هو على يتقون لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أى هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) الذى نوحى إليه كتابا مختصا به (النَّبِيَّ) أى صاحب المعجزة وقيل عنوان الرسالة بالنسبة إليه تعالى وعنوان النبوة بالنسبة إلى الأمة (الْأُمِّيَّ) بضم الهمزة نسبة إلى الأم كأنه باق على حالته التى ولد عليها من أمه أو إلى أمة العرب كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنا أمة لا نحسب ولا نكتب أو إلى أم القرى وقرىء بفتح الهمزة أى الذى لم يمارس القراءة والكتابة وقد جمع مع ذلك علوم الأولين والآخرين والموصول بدل من الموصول الأول بدل الكل أو منصوب على المدح أو مرفوع عليه أى أعنى الذين أو هم الذين وأما جعله مبتدأ على أن خبره يأمرهم أو أولئك هم المفلحون فغير سديد (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً) باسمه ونعوته بحيث لا يشكون أنه هو ولذلك عدل عن أن يقال يجدون* اسمه أو وصفه مكتوبا (عِنْدَهُمْ) زيد هذا لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم* لا يغيب عنهم أصلا (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) اللذين تعبد بهما بنو إسرائيل سابقا ولا حقا والظرفان* متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) كلام مستأنف لا محل له من الإعراب* قاله الزجاج متضمن لتفصيل بعض أحكام الرحمة التى وعد فيما سبق بكتبها إجمالا فإن ما بين فيه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث وإسقاط التكاليف الشاقة كلها من آثار رحمته الواسعة وقيل فى محل النصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من النبى أو من المستكن فى مكتوبا أو مفسر لمكتوبا أى لما كتب (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) التى حرمت عليهم بشؤم ظلمهم (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) كالدم ولحم الخنزير والربا والرشوة (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) * أى يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة التى هى من قبيل ما كتب عليهم حينئذ من كون التوبة بقتل

٢٧٩

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨)

____________________________________

النفس كتعيين القصاص فى العمد والخطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم وتحريم السبت. وعن عطاء أنه كانت بنو إسرائيل إذا قاموا يصلون لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة وقرىء آصارهم أصل الأصر الثقل الذى يأصر صاحبه من* الحراك (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) تعليم لكيفية اتباعه عليه الصلاة والسلام وبيان لعلو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة فى الدارين إثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام إياهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإحلال الطيبات وتحريم الخبائث أى فالذين آمنوا بنبوته وأطاعوه* فى أوامره ونواهيه (وَعَزَّرُوهُ) أى عظموه ووقروه وأعانوه بمنع أعدائه عنه وقرىء بالتخفيف وأصله* المنع ومنه التعزير (وَنَصَرُوهُ) على أعدائه فى الدين (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أى مع نبوته وهو القرآن عبر عنه بالنور المنبىء عن كونه ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره أو مظهرا للحقائق كاشفا عنها لمناسبة الاتباع ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا أى واتبعوا القرآن المنزل مع اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعمل بسنته* وبما أمر به ونهى عنه أو اتبعوا القرآن مصاحبين له فى اتباعه (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين من حيث اتصافهم بما فصل من الصفات الفاضلة للإشعار بعليتها للحكم وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم* وسمو طبقتهم فى الفضل والشرف أى أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أى هم الفائزون بالمطلوب الناجون عن الكروب لا غيرهم من الأمم فيدخل فيهم قوم موسى عليه الصلاة والسلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما فى توبتهم من المشقة الهائلة وبه يتحقق التحقيق ويتأتى التوفيق والتطبيق بين دعائه عليه الصلاة والسلام وبين الجواب لا بمجرد ما قيل من أنه لما دعا لنفسه ولبنى إسرائيل أجيب بما هو منطو على توبيخ بنى إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله عزوجل وعلى كفرهم بآياته العظام التى أجراها على يد موسى عليه الصلاة والسلام وعرض بذلك فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين لطفا بهم وترغيبا فى إخلاص الإيمان والعمل الصالح (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) لما حكى ما فى الكتابين من نعوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف من يتبعه من أهلهما ونيلهم لسعادة الدارين أمر عليه الصلاة والسلام ببيان أن تلك السعادة غير مختصة بهم بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من كان ببيان عموم رسالته للثقلين مع اختصاص رسالة سائر الرسل عليهم‌السلام بأقوامهم وإرسال موسى عليه‌السلام إلى فرعون وملئه بالآيات التسع إنما كان لأمرهم بعبادة رب العالمين عز سلطانه

٢٨٠