تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥)

____________________________________

فنزلهما على الأكل من الشجرة وفيه تنبيه على أنه أهبطهما بذلك من درجة عالية فإن التدلية والإدلاء إرسال الشىء من الأعلى إلى الأسفل (بِغُرُورٍ) بما غرهما به من القسم فإنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله كاذبا* أو ملتبسين بغرور (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أى فلما وجدا طعمها آخذين فى الأكل منها* أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما واختلف فى أن الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما وأن اللباس كان نورا أو ظفرا (وَطَفِقا يَخْصِفانِ) طفق من أفعال الشروع* والتلبس كأخذ وجعل وأنشأ وعلق وهب وانبرى أى أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة (عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قيل كان ذلك ورق التين وقرىء يخصفان من أخصف أى يخصفان أنفسهما ويخصفان من التخصيف ويخصفان أصله يختصفان (وَناداهُما رَبُّهُما) مالك أمرهما بطريق العتاب والتوبيخ (أَلَمْ أَنْهَكُما) * وهو تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أى قال أو قائلا ألم أنهكما (عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) ما فى اسم الإشارة من معنى البعد لما أنه إشارة إلى الشجرة التى نهى عن قربانها (وَأَقُلْ لَكُما) عطف* على (أَنْهَكُما) أى ألم أقل لكما (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) وهذا عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن* الأول عتاب على مخالفة النهى قيل فيه دليل على أن مطلق النهى للتحريم ولكما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف هو حال من عدو ولم يحك هذا القول ههنا وقد حكى فى سورة طه بقوله تعالى (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) الآية. روى أنه تعالى قال لآدم ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال بلى وعزتك ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا قال فبعزتى لأهنطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا فأهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرى وعجن وخبز (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) أى ضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) ذلك (وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وهو دليل على أن الصغائر يعاقب عليها إن لم تغفر وقال المعتزلة* لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك حملوا قولهما ذلك على عادات المقربين فى استعظام الصغير من السيئات واستصغار العظيم من الحسنات (قالَ) استئناف كما مر مرارا (اهْبِطُوا) خطاب لآدم وحواء وذريتهما أو لهما ولإبليس كرر الأمر له تبعا لهما ليعلم أنهم قرناء أبدا أو أخبر عما قال لهم مفرقا كما فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) ولم يذكر ههنا قبول توبتهما ثقة بما ذكر فى سائر المواضع (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) جملة حالية من فاعل اهبطوا أى متعادين (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أى استقرار* أو موضع استقرار (وَمَتاعٌ) أى تمتع وانتفاع (إِلى حِينٍ) هو حين انقضاء آجالكم (قالَ) أعيد الاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله كما فى قوله تعالى (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) إثر قوله تعالى (قالَ وَمَنْ

٢٢١

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧)

____________________________________

يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) وقوله تعالى (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) بعد قوله تعالى (قالَ أَأَسْجُدُ* لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) وإما لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده من قوله تعالى (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) أى للجزاء كقوله تعالى (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (يا بَنِي آدَمَ) * خطاب للناس كافة وإيرادهم بهذا العنوان مما لا يخفى سره (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أى خلقناه لكم بتدبيرات* سماوية وأسباب نازلة منها ونظيره وأنزل لكم من الأنعام الخ وقوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) التى قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك وروى أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت ولعل ذكر قصة آدم عليه‌السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان* وأنه أغواهم فى ذلك كما أغوى أبويهم (وَرِيشاً) ولباسا تتجملون به والريش الجمال وقيل مالا ومنه* تريش الرجل أى تمول وقرىء رياشا وهو جمع ريش كشعب وشعاب (وَلِباسُ التَّقْوى) أى خشية الله* تعالى وقيل الإيمان وقيل السمت الحسن وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء خبره جملة (ذلِكَ خَيْرٌ) أو خبر وذلك صفته كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير وقرىء ولباس التقوى بالنصب عطفا على* لباسا (ذلِكَ) أى إنزال اللباس (مِنْ آياتِ اللهِ) دالة على عظيم فضله وعميم رحمته (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح (يا بَنِي آدَمَ) تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء* بمضمون ما صدر به وإيرادهم بهذا العنوان مما لا يخفى سببه (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أى لا يوقعنكم فى الفتنة* والمحنة بأن يمنعكم من دخول الجنة (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) نعت لمصدر محذوف أى لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم وقد جوز أن يكون التقدير لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه لأبويكم والنهى وإن كان متوجها إلى الشيطان لكنه فى الحقيقة متوجه إلى المخاطبين كما فى قولك لا أرينك ههنا وقد مر* تحقيقه مرارا (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) حال من أبويكم أو من فاعل أخرج وإسناد النزع إليه* للتسبيب وصيغة المضارع لاستحضار الصورة وقوله تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) أى جنوده وذريته استئناف* لتعليل النهى وتأكيد التحذير منه (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) من لابتداء غاية الرؤية وحيث ظرف لمكان انتفاء الرؤية ولا ترونهم فى محل الجر بإضافة الظرف إليه ورؤيتهم لنا من حيث لا نراهم لا تقتضى امتناع رؤيتنا

٢٢٢

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩)

____________________________________

لهم مطلقا واستحالة تمثلهم لنا (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ) جعل قبيله من جملته فجمع (أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) * أى جعلناهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من إغوائهم وحملهم على ما ولوا لهم أولياء أى قرناء مسلطين عليهم والجملة تعليل آخر للنهى وتأكيد للتحذير إثر تحذير (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب وقد جوز عطفها على الصلة والفاحشة الفعلة المتناهية فى القبح والتاء لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية والمراد بها عبادة الأصنام وكشف العورة فى الطواف ونحوهما (قالُوا) جرابا للناهين عنها (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) محتجين* بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه ولعل تقديم المقدم للإيذان منهم بأن آباءهم إنما كاوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها على أن ضمير أمرنا لهم ولآبائهم فحينئذ يظهر وجه الإعراض عن الأول فى رد مقالتهم بقوله تعالى (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على* مراضى الخصال ولا دلالة فيه على أن قبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه عاجلا والعقاب آجلا عقلى فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستقصه العقل المستقيم وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لما فعلوها لم فعلتم فقالوا وجدنا عليها آباءنا فقيل لم فعلها آباؤكم فقالوا الله أمرنا بها وعلى الوجهين يمنع التقليد إذا قام الدليل بخلافه لا مطلقا (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من تمام القول المأمور به والهمزة* لإنكار الواقع واستقباحه وتوجيه الإنكار والتوبيخ إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره عنه تعالى مع أن بعضهم يعلمون عدم صدوره عنه تعالى مبالغة فى إنكار تلك الصورة فإن إسناد ما لم يعلم صدوره عنه تعالى إليه تعالى إذا كان منكرا فإسناد ما علم عدم صدوره عنه إليه عزوجل أشد قبحا وأحق بالإنكار (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بيان للمأمور به إثر نفى ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهى عنها والقسط العدل وهو الوسط من كل شىء المتجافى عن طرفى الإفراط والتفريط (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) وتوجهوا إلى عبادته* مستقيمين غير عادلين إلى غيرها أو أقيموا وجوهكم نحو القبلة (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فى كل وقت سجود أو* مكان سجود وهو الصلاة أو فى أى مسجد حضرتكم الصلاة عنده ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم (وَادْعُوهُ) واعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أى الطاعة فإن مصيركم إليه بالآخرة (كَما بَدَأَكُمْ) أى أنشأكم ابتداء* (تَعُودُونَ) إليه بإعادته فيجازيكم على أعمالكم وإنما شبه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها وقيل* كما بدأكم من التراب تعودون إليه وقيل حفاة عراة غر لا تعودون إليه وقيل كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم

٢٢٣

(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

____________________________________

(فَرِيقاً هَدى) بأن وفقهم للإيمان (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) بمقتضى القضاء السابق التابع للمشيئة* المبنية على الحكم البالغة وانتصابه بفعل مضمر يفسره ما بعده أى وخذل فريقا (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعليل لخذلانه أو تحقيق لضلالتهم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) فيه دلالة على أن الكافر المخطىء والمعاند سواء فى استحقاق الذم وللفارق أن يحمله على المقصر فى النظر (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) أى ثيابكم لمواراة عورتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أى طواف أو صلاة ومن السنة أن يأخذ الرجل* أحسن هيئته للصلاة وفيه دليل على وجوب ستر العورة فى الصلاة (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) مما طاب لكم. روى أن بنى عامر كانوا فى أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم* فهم المسلمون بمثله فنزلت (وَلا تُسْرِفُوا) بتحريم الحلال أو بالتعدى إلى الحرام أو بالإفراط فى الطعام والشره عليه وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف* ومخيلة وقال على بن الحسين بن واقد جمع الله الطب فى نصف آية فقال كلوا واشربوا ولا تسرفوا (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أى لا يرتضى فعلهم (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) من الثياب وما يتجمل به (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) من النبات كالقطن والكتان والحيوان كالحرير والصوف والمعادن كالدروع (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أى المستلذات من المآكل والمشارب وفيه دليل على أن الأصل فى المطاعم والملابس وأنواع* التجملات الإباحة لأن الاستفهام فى من إنكارى (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالأصالة والكفرة* وإن شاركوهم فيها فبالتبع (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشاركهم فيها غيرهم وانتصابه على الحالية وقرىء بالرفع* على أنه خبر بعد خبر (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى مثل هذا التفصيل نفصل سائر الأحكام لقوم يعلمون ما فى تضاعيفها من المعانى الرائقة (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) أى ما تفاحش قبحه من* الذنوب وقيل ما يتعلق منها بالفروج (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) بدل من الفواحش أى جهرها وسرها (وَالْإِثْمَ) * أى ما يوجب الإثم وهو تعميم بعد تخصيص وقيل هو شرب الخمر (وَالْبَغْيَ) أى الظلم أو الكبر أفرد بالذكر

٢٢٤

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٥)

____________________________________

للمبالغة فى الزجر عنه (بِغَيْرِ الْحَقِّ) متعلق بالبغى مؤكد له معنى (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) * تهكم بالمشركين وتنبيه على تحريم اتباع ما لا يدل عليه برهان (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) بالإلحاد* فى صفاته والافتراء عليه كقولهم والله أمرنا بها وتوجيه التحريم إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون وقوعه لا ما يعلمون عدم وقوعه قد مر سره (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم المهلكة (أَجَلٌ) حد معين من الزمان مضروب لمهلكهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) إن جعل الضمير للأمم المدلول عليها بكل أمة فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة* المعى المقصود الذى هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالهم بأن يجىء كل واحدة من تلك الأمم أجلها الخاص بها وإن جعل لكل أمة خاصة كما هو الظاهر فالإظهار فى موقع الإضمار لزيادة التقرير والإضافة إلى الضمير لإفادة أكمل التمييز أى إذا جاءها أجلها الخاص بها (لا يَسْتَأْخِرُونَ) عن ذلك الأجل (ساعَةً) أى شيئا* قليلا من الزمان فإنها مثل فى غاية القلة منه أى لا يتأخرون أصلا وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أى ولا يتقدمون عليه وهو عطف على يستأخرون* لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه فى نفسه كالتأخر بل للمبالغة فى انتفاء التأخر بنظمه فى سلك المستحيل عقلا كما فى قوله سبحانه (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فإن من مات كافرا مع ظهور أن لا توبة له رأسا قد نظم فى عدم القبول فى سلك من سوفها إلى حضور الموت إيذانا بتساوى وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة وقيل المراد بالمجىء الدنو بحيث يمكن التقدم فى الجملة كمجىء اليوم الذى ضرب لهلاكهم ساعة فيه وليس بذاك وتقديم بيان انتفاء الاستيخار لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب وأما ما فى قوله تعالى (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) من سبق السبق فى الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قوله تعالى (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فالأهم هناك بيان انتفاء السبق (يا بَنِي آدَمَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى كافة الناس اهتماما بشأن ما فى حيزه (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) هى إن الشرطية ضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة وفيه تنبيه على أن إرسال الرسل أمر حائز لا واجب عقلا (رُسُلٌ مِنْكُمْ) الجار متعلق بمحذوف هو صفة لرسل* أى كائنون من جنسكم وقوله (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) صفة أخرى لرسل أى يبينون لكم أحكامى* وشرائعى وقوله تعالى (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جملة شرطية وقعت جوابا*

٢٢٥

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

____________________________________

للشرط أى فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف الخ وكذا قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أى والذين كذبوا منكم بآياتنا وإيراد الاتقاء فى الأول للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه وإدخال الفاء فى الجزاء الأول دون الثانى للمبالغة فى الوعد والمسامحة فى الوعيد (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أى تقول عليه تعالى ما لم يقله أو كذب ما قاله أى هو أظلم من كل ظالم وقد مر* تحقيقه مرارا (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول والجمع باعتبار معناه كما أن إفراد الفعلين باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم فى سوء الحال أى أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب* (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أى مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار وقيل الكتاب اللوح أى ما أثبت لهم فيه وأيا ما كان فمن الابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا من نصيبهم أى ينالهم نصيبهم كائنا من الكتاب وقيل نصيبهم من العذاب وسواد الوجه وزرقة العيون وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كتب لمن يفترى على الله سواد الوجه قال تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) * وقوله تعالى (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أى ملك الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أى حال كونهم متوفين لأرواحهم يؤيد الأول فإن حتى وإن كانت هى التى يبتدأ بها الكلام لكنها غاية لما قبلها فلا بد أن يكون نصيبهم مما يتمتعون بها إلى حين وفاتهم أى ينالهم نصيبهم من الكتاب إلى أن يأتيهم ملائكة الموت فإذا* جاءتهم (قالُوا) لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أى أين الآلهة التى كنتم تعبدونها فى الدنيا وما وقعت* مرصولة بأين فى خط المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة (قالُوا) استئناف وقع جوابا عن سؤال* نشأ من حكاية سؤال الرسل كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا (ضَلُّوا عَنَّا) أى غابوا عنا أى لا ندرى* مكانهم (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) عطف على (قالُوا) أى اعترفوا على أنفسهم (أَنَّهُمْ كانُوا) أى فى الدنيا* (كافِرِينَ) عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا حيث شاهدوا حاله وضلاله ولعله أريد بوقت مجىء الرسل وحال التوفى الزمان الممتد من ابتداء المجىء والتوفى إلى انتهائه يوم الجزاء باء على تحقق المجىء والتوفى فى كل ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما فى أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفى كما ينبىء عنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مات فقد قامت قيامته وإلا فهذا السؤال والجواب وما ترتب عليهما من الأمر بدخول النار وما جرى بين أهلها من التلاعن

٢٢٦

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠)

____________________________________

والنقاول إنما يكون بعد البعث لا محالة (قالَ) أى الله عزوجل يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) أى كائنين من جملة أمم مصاحبين لهم (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) * يعنى كفار الأمم الماضية من النوعين (فِي النَّارِ) متعلق بقوله ادخلوا (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) من الأمم* السابقة واللاحقة فيها (لَعَنَتْ أُخْتَها) التى ضلت بالاقتداء بها (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أى تداركوا* وتلاحقوا فى النار (قالَتْ أُخْراهُمْ) دخولا أو منزلة وهم الاتباع (لِأُولاهُمْ) أى لأجلهم إذ الخطاب* مع الله تعالى لا معهم (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) سنوا لنا الضلال فاقتدنا بهم (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) أى* مضاعفا (مِنَ النَّارِ) لأنهم ضلوا وأضلوا (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أما القادة فلما ذكر من الضلال والإضلال* وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أى مالكم وما لكل فريق من العذاب وقرىء* بالياء (وَقالَتْ أُولاهُمْ) أى مخاطبين (لِأُخْراهُمْ) حين سمعوا جواب الله تعالى لهم (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أى فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وإنا وإياكم متساوون فى الضلال واستحقاق العذاب (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أى العذاب المعهود المضاعف (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من قول القادة (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) مع وضوحها (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أى عن الإيمان بها والعمل بمقتضاها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أى لا تقبل أدعيتهم ولا أعمالهم أو لا تعرج إليها أرواحهم كما هو شأن أدعية المؤمنين وأعمالهم وأرواحهم والتاء فى تفتح لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها وقرىء بالتخفيف وبالتخفيف والياء وقرىء على البناء للفاعل ونصب الأبواب على أن الفعل للآيات وبالياء على أنه لله تعالى (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أى حتى يدخل ما هو مثل فى عظم الجرم فيما علم فى ضيق المسلك وهو ثقبة الإبرة وفى كون الجمل مما ليس من شأنه الولوج فى سم الإبرة مبالغة فى الاستبعاد وقرىء الجمل كالقمل والجمل كالنغر والجمل كالقفل والجمل كالنصب والجمل كالحبل وهى الجعل الغليظ من القنب وقيل حبل السفينة وسم بالضم والكسر وقرىء فى سم المخيط وهو الخياط أى ما يخاط به كالحزام والمحزم (وَكَذلِكَ) * أى ومثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أى جنس المجرمين وهم داخلون فى زمرتهم دخولا أوليا*

٢٢٧

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

____________________________________

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) أى فراش من تحتهم والتنوين للتفخيم ومن تجريدية (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أى أغطية والتنوين للبدل عن الإعلال عند سيبويه وللصرف عند غيره وقرىء غواش على إلغاء المحذوف كما فى* قوله تعالى (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الجزاء الشديد (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعارا بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة والظلم مع التعذيب بالنار للتنبيه على أنه أعظم الجرائم والجرائر (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أى بآياتنا أو بكل ما يجب أن يؤمن به فيدخل فيه الآيات دخولا أوليا وقوله تعالى* (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أى الأعمال الصالحة التى شرعت بالآيات وهذا بمقابلة الاستكبار عنها (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) اعتراض وسط بين المبتدأ الذى هو الموصول والخبر الذى هو جملة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) للترغيب فى اكتساب ما يؤدى إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله وقرىء لا تكلف نفس واسم الإشارة مبتدأ و (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أو اسم الإشارة بدل من المبتدأ الأول الذى هو الموصول والخبر (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الفضل* والشرف (هُمْ فِيها خالِدُونَ) حال من (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وقد جوز كونه حالا من الجنة لاشتماله على ضميرها والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة أو خبر ثان لأولئك على رأى من جوزه وفيها متعلق بخالدون (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) أى نخرج من قلوبهم أسباب الغل أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد وصيغة الماضى للإيذان بتحققه وتقرره وعن على رضى الله تعالى عنه إنى لأرجوا أن أكون* أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) زيادة فى لذتهم وسرورهم والجملة حال من الضمير فى (صُدُورِهِمْ) والعامل إما معنى الإضافة وإما العامل فى المضاف أو حال من فاعل (نَزَعْنا) والعامل* نزعنا وقيل هى مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أى لما جزاؤه هذا* (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) أى لهذا المطلب الأعلى أو لمطلب من المطالب التى هذا من جملتها (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) ووفقنا له واللام لتأكيد النفى وجواب لولا محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه ومفعول نهتدى وهدانا الثانى

٢٢٨

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (٤٦)

____________________________________

محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه والجملة مستأنفة أو حالية وقرىء ما كنا لنهتدى الخ بغير واو على أنها مبينة ومفسرة للأولى (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا) جواب قسم مقدر قالوه تبجحا واغتباطا* بما نالوه وابتهاجا بإيمانهم بما جاءتهم الرسل عليهم‌السلام والباء فى قوله تعالى (بِالْحَقِّ) إما للتعدية فهى* متعلقة بجاءت أو للملابسة فهى متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل أى والله لقد جاءوا بالحق أو لقد جاءوا ملتبسين بالحق (وَنُودُوا) أى نادتهم الملائكة عليهم‌السلام (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أن مفسرة لما فى النداء من* معنى القول أو مخففة من أن وضمير الشأن محذوف ومعنى البعد فى اسم الإشارة إما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد وإما لرفع منزلتها وبعد رتبتها وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التى وعدوها فى الدنيا (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فى الدنيا من الأعمال الصالحة أى أعطيتموها بسبب أعمالكم أو* بمقابلة أعمالكم والجملة حال من الجنة والعامل معنى الإشارة على (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) مبتدأ أو خبر أو الجنة صفة والخبر (أُورِثْتُمُوها) (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) تبجحا بحالهم وشماتة باصحاب النار وتحسيرا لهم لا لمجرد الإخبار بحالهم والاستخبار عن حال مخاطبيهم (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) حيث نلنا* هذا المنال الجليل (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) حذف المفعول من الفعل الثانى إسقاطا لهم عن رتبة* التشريف بالخطاب عند الوعد وقيل لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعدا كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم (قالُوا نَعَمْ) * أى وجدناه حقا وقرىء بكسر العين وهى لغة فيه (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) قيل هو صاحب الصور (بَيْنَهُمْ) أى* بين الفريقين (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بأن المخففة أو المفسرة وقرىء بأن المشددة ونصب لعنة وقرىء* إن بكسر الهمزة على إرادة القول أو إجراء أذن مجرى قال (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صفة مقررة للظالمين أو رفع على الذم أو نصب عليه (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أى يبغون لها عوجا بأن يصفوها* بالزيغ والميل عن الحق وهو أبعد شىء منهما والعوج بالكسر فى المعانى والأعيان ما لم يكن منتصبا وبالفتح ما كان فى المنتصب كالرمح والحائط (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) غير معترفين (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أى بين الفريقين كقوله تعالى (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) أو بين الجنة والنار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى (وَعَلَى الْأَعْرافِ) أى على أعراف الحجاب وأعاليه وهو السور المضروب بينهما جمع*

٢٢٩

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٤٩)

____________________________________

* عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشىء فإنه بظهوره أعرف من غيره (رِجالٌ) طائفة من الموحدين قصروا فى العمل فيجلسون بين الجنة والنار حتى يقضى الله تعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء والشهداء والأخيار والعلماء من المؤمنين أو ملائكة يرون فى صور الرجال* (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة والنار (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم التى أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجه وسواده فعلى من سام إبله إذا أرسلها فى المرعى معلمة أو من وسم بالقلب كالجاه من الوجه وإنما يعرفون ذلك* بالإلهام أو بتعليم الملائكة (وَنادَوْا) أى رجال الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) حين رأوهم (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) * بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره (لَمْ يَدْخُلُوها) حال من فاعل (نادَوْا) أو من* مفعوله وقوله تعالى (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) حال من فاعل يدخلوها أى نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين فى دخولها مترقبين له أى لم يدخلوها وهم فى وقت عدم الدخول طامعون (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) أى إلى جهتهم وفى عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق* أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل الثانى بخلافه (قالُوا) * متعوذين بالله تعالى من سوء حالهم (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى فى النار وفى وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذى هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفى العذاب فقط بل مع ما يوجبه ويؤدى إليه من الظلم (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) كرر ذكرهم مع كفاية* الإضمار لزيادة التقرير (رِجالاً) من رؤساء الكفار حين رأوهم فيما بين أصحاب النار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) * الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم فى الدنيا (قالُوا) بدل من نادى (ما أَغْنى عَنْكُمْ) ما إما الاستفهامية* للتوبيخ والتقريع أو نافية (جَمْعُكُمْ) أى أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم للمال (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) ما مصدرية أى ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب بما بعده وقرىء تستكثرون من الكثرة أى من الأموال والجنود (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) من تتمة قولهم للرجال والإشارة إلى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرة يحتقرونهم فى الدنيا ويحلفون صريحا أنهم لا يدخلون الجنة أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما فى قوله تعالى (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ* مِنْ زَوالٍ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى أولئك المذكورين أى ادخلوا الجنة على رغم

٢٣٠

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

____________________________________

أنوفهم (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) بعد هذا (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أو قيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل* الله تعالى بعد أن حبسوا وشاهدوا أحوال الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا والأظهر أن لا يكون المراد بأصحاب الأعراف المقصرين فى العمل لأن هذه المقالات وما تتفرع هى عليه من المعرفة لا يليق بمن لم يتعين حاله بعد وقيل لما عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله تعالى أو الملائكة ردا عليهم (أَهؤُلاءِ) الخ وقرىء ادخلوا ودخلوا على الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولا فى حقهم لا خوف عليكم (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) أى صبوه وفيه دلالة على أن الجنة فوق النار (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من سائر الأشربة ليلائم الإضافة أو من الأطعمة على أن الإفاضة عبارة عن الإعطاء بكثرة (قالُوا) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) * أى منعهما منهم منعا كليا فلا سبيل إلى ذلك قطعا (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) كتحريم البحيرة والسائبة ونحوهما والتصدية حول البيت واللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزخارفها العاجلة (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) نفعل بهم ما يفعل* الناسى بالمنسى من عدم الاعتداد بهم وتركهم فى النار تركا كليا والفاء فى فاليوم فصيحة وقوله تعالى (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) فى محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء يومهم هذا حيث لم يخطروه ببالهم ولم يعتدوا له وقوله تعالى (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) عطف على* ما نسوا أى وكما كانوا منكرين بأنها من عند الله تعالى إنكارا مستمرا (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) أى بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ والضمير للكفرة قاطبة والمراد بالكتاب الجنس أو للمعاصرين منهم والكتاب هو القرآن (عَلى عِلْمٍ) حال من فاعل فصلناه أى عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما أو* من مفعوله أى مشتملا على علم كثير وقرىء فضلناه أى على سائر الكتب عالمين بفضله (هُدىً وَرَحْمَةً) * حال من المفعول (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المغتنمون لآثاره المقتبسون من أنواره.*

٢٣١

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤)

____________________________________

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أى ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به إلا ما يئول إليه أمره من تبين* صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وهو يوم القيامة (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أى تركوه ترك المنسى من قبل إتيان تأويله (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أى قد تبين أنهم قد* جاءوا بالحق (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) اليوم ويدفعوا عنا العذاب (أَوْ نُرَدُّ) أى هل نرد إلى الدنيا وقرىء بالنصب عطفا على فيشفعوا أو لأن أو بمعنى إلى أن فعلى الأول المسئول أحد الأمرين إما الشفاعة لدفع العذاب أو الرد إلى الدنيا وعلى الثانى أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد هو الرد* (فَنَعْمَلَ) بالنصب على أنه جواب الاستفهام الثانى وقرىء بالرفع أى فنحن نعمل (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) * أى فى الدنيا (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف أعمارهم التى هى رأس مالهم إلى الكفر والمعاصى (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أى ظهر بطلان ما كانوا يفترونه من أن الأصنام شركاء الله تعالى وشفعاؤهم يوم القيامة (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) شروع فى بيان مبدأ الفطرة إثر بيان معاد الكفرة أى إن خالقكم ومالككم الذى خلق الأجرام العلوية والسفلية فى ستة أوقات كقوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره أو فى مقدار ستة أيام فإن المتعارف أن اليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هى حينئذ وفى خلق الأشياء مدرجا مع القدرة على إبداعها دفعة دليل على الاختيار* واعتبار للنظار وحث على التأنى فى الأمور (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أى استوى أمره واستولى وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة الله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذى عناه منزها عن الاستقرار والتمكن والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمى به لارتفاعه أو* للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أى يغطيه به ولم يذكر العكس للعلم به أو لأن اللفظ يحتملهما ولذلك قرىء بنصب الليل ورفع النهار وقرىء بالتشديد* للدلالة على التكرار (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أى يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شىء والحثيث فعيل من* الحث وهو صفة مصدر محذوف أو حال من الفاعل أو من المفعول بمعنى حاثا أو محثوثا (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أى خلقهن حال كونهن مسخرات بقضائه وتصريفه وقرىء كلها بالرفع على

٢٣٢

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

____________________________________

الابتداء والخبر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فإنه الموجد للكل والمتصرف فيه على الإطلاق (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أى تعالى بالوحدانية فى الألوهية وتعظم بالتفرد فى الربوبية وتحقيق الآية الكريمة والله تعالى أعلم أن الكفرة كانوا متخذين أربابا فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد هو الله تعالى لأنه الذى له الخلق والأمر فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالشمس والقمر والنجوم كما أشار إليه بقوله تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) وعمد إلى الأجرام السفلية فخلق جسما قابلا للصور المتبدلة والهيئات المختلفة ثم قسمها لصور نوعية متباينة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله تعالى (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أى ما فى جهة السفل فى يومين ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولا وتصويرها ثانيا كما قال بعد قوله تعالى (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أى مع اليومين الأولين لما فصل فى سورة السجدة ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على سريره فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالى والأيام ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال تعالى (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ثم أمر بأن يدعوه مخلصين متذللين فقال (ادْعُوا رَبَّكُمْ) الذى قد عرفتم شئونه الجليلة (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أى ذوى تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أى* لا يحب دعاء المجاوزين لما أمروا به فى كل شىء فيدخل فيه الاعتداء فى الدعاء دخولا أوليا وقد نبه به على أن الداعى يجب أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء والصعود إلى السماء وقيل هو الصياح فى الدعاء والإسهاب فيه وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيكون قوم يعتدون فى الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذبك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والمعاصى (بَعْدَ إِصْلاحِها) ببعث الأنبياء عليهم‌السلام وشرع الأحكام (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أى ذوى خوف نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم استحقاقكم* وطمع نظرا إلى سعة رحمته ووفور فضله وإحسانه (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فى كل شىء ومن* الإحسان فى الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم أو لأنه صفة لمحذوف أى أمر قريب أو على تشبيهه بفعيل الذى هو بمعنى مفعول أو الذى هو مصدر كالنقيض والصهيل أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره أو لاكتسابه التذكير من المضاف إليه كما أن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه.

٢٣٣

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨)

____________________________________

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) عطف على الجملة السابقة وقرىء الريح (بُشْراً) تخفيف بشر جمع بشير أى مبشرات وقرىء بفتح الباء على أنه مصدر بشره بمعنى باشرات أو للبشارة وقرىء نشرا بالنون المضمومة جمع نشور أى ناشرات ونشرا على أنه مصدر فى موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال* والنشر متقاربان (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قدام رحمته التى هى المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه* والجنوب تدره والدبور تفرقه (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) أى حملت واشتقاقه من القلة فإن المقل للشىء يستقله* (سَحاباً ثِقالاً) بالماء جمعه لأنه بمعنى السحائب (سُقْناهُ) أى السحاب وإفراد الضمير لإفراد اللفظ (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أى لأجله ولمنفعته أو لإحيائه أو لسقيه وقرىء ميت (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أى بالبلد أو بالسحاب أو* بالسوق أو بالريح والتذكير بتأويل المذكور وكذلك قوله تعالى (فَأَخْرَجْنا بِهِ) ويحتمل أن يعود الضمير إلى الماء وهو الظاهر وإذا كان للبلد فالباء للإلصاق فى الأول والظرفية فى الثانى وإذا كان لغيره فهى للسببية* (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أى من كل أنواعها (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) الإشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أى كما نحيبه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من* الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) بطرح إحدى التاءين أى تتذكرون فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا من غير شبهة (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) * أى الأرض الكريمة التربة (يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) بمشيئته وتيسيره عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة* نفحه لأنه أوقعه فى مقابلة قوله تعالى (وَالَّذِي خَبُثَ) من البلاد كالسبخة والحرة (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) قليلا عديم النفع ونصبه على الحال والتقدير والبلد الذى خبث لا يخرج نباته إلا نكدا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا مستترا وقرىء لا يخرج إلا نكدا أى لا يخرجه البلد إلا نكدا* فيكون إلا نكدا مفعوله وقرىء نكدا على المصدر أى ذا نكد ونكدا بالإسكان للتخفيف (كَذلِكَ) * أى مثل ذلك النصريف البديع (نُصَرِّفُ الْآياتِ) أى نرددها ونكررها (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وهذا كما ترى مثل لإرسال الرسل عليهم‌السلام بالشرائع التى هى ماء حياة القلوب إلى المكلفين المنقسمين إلى المقتبسين من أنوارها والمحرومين من مغانم آثارها وقد عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية بطريق الاستئناف فقيل.

٢٣٤

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦١)

____________________________________

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) هو جواب قسم محذوف أى والله لقد أرسلنا الخ واطراد استعمال هذه اللام مع قد لكون مدخولها مظنة للتوقع الذى هو معنى قد فإن الجملة القسمية إنما تساق لتأكيد الجملة المقسم عليها ونوح هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس النبى عليهما‌السلام. قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بعث عليه الصلاة والسلام على رأس أربعين سنة من عمره ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا ومائتين وأربعين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أى اعبدوه وحده وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة بالإشراك فليست من العبادة فى شىء وقوله تعالى (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أى من مستحق للعبادة استئناف مسوق لتعليل العبادة* المذكورة أو الأمر بها وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذى هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية وقرىء بالجر باعتبار لفظه وقرىء بالنصب على الاستثناء وحكم غير حكم الاسم الواقع بعد إلا أى مالكم من إله إلا إياه كقولك ما فى الدار من أحد إلا زيد أو غير زيد فمن إله إن جعل مبتدأ فلكم خبره أو خبره محذوف ولكم للتخصيص والتبيين أى مالكم فى الوجود أو فى العالم إله غير الله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أى إن لم تعبدوه* حسبما أمرت به (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة أو يوم الطوفان والجملة تعليل للعبادة ببيان الصارف* عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعى إليها ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه‌السلام كأنه قيل فماذا قالوا له عليه‌السلام فى مقابلة نصحه فقيل قال الرؤساء من قومه والأشراف الذين يملئون صدور المحافل بأجرامهم والقلوب بجلالهم وهيبتهم والأبصار بجمالهم وأبهتهم (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) أى ذهاب عن طريق الحق والصواب* والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف (مُبِينٍ) بين كونه ضلالا (قالَ) استئناف كما سبق (يا قَوْمِ) ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لقلوبهم نحو الحق (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أى شىء ما من الضلال قصد عليه الصلاة* والسلام تحقيق الحق فى نفى الضلال عن نفسه ردا على الكفرة حيث بالغوا فى إثباته له عليه الصلاة والسلام حيث جعلوه مستقرا فى الضلال الواضح كونه ضلالا وقوله تعالى (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) * استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه فى أقصى مراتب الهداية فإن رسالة رب العالمين مستلزمة

٢٣٥

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤)

____________________________________

له لا محالة كأنه قيل ليس بى شىء من الضلال ولكنى فى الغاية القاصية من الهداية ومن لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف هو صفة لرسول مؤكدة لما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى رسول وأى رسول كائن من رب العالمين (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها وقيل صفة أخرى لرسول على طريقة أنا الذى سمتنى أمى حيدره وقرىء أبلغكم من الإبلاغ وجمع رسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها أو لأن المراد بها ما أوحى إليه وإلى النبيين من قبله وتخصيص ربوبيته تعالى به عليه الصلاة والسلام بعد بيان عمومها للعالمين للإشعار بعلة الحكم الذى هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات امتثاله بأمره تعالى* بتبليغ رسالته تعالى إليهم (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) عطف على (أُبَلِّغُكُمْ) مبين لكيفية أداء الرسالة وزيادة اللام مع تعدى النصح بنفسه للدلالة على إمحاض النصيحة لهم وأنها لمنفعتهم ومصلحتهم خاصة وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصيحته لهم كما يعرب عنه قوله تعالى (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) وقوله تعالى* (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه الصلاة والسلام أى أعلم من جهة الله تعالى بالوحى ما لا تعلمونه من الأمور الآتية أو أعلم من شئونه عزوجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على أعدائه وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه قيل كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علمه نوح عليه‌السلام بالوحى (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) جواب ورد لما اكتفى عن ذكره بقولهم (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من قولهم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) وقولهم (لَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه* قيل أاستبعدتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر أى وحى أو موعظة من مالك أموركم ومربيكم (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أى على لسان رجل من جنسكم كقوله تعالى (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) وقلتم لأجل ذلك ما قلتم من* أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة (لِيُنْذِرَكُمْ) علة للمجىء أى ليحذركم عاقبة الكفر والمعاصى (وَلِتَتَّقُوا) * عطف على العلة الأولى مترتبة عليها (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) عطف على العلة الثانية مترتبة عليها أى ولتتعلق بكم الرحمة بسبب تقواكم وفائدة حرف الترجى التنبيه على عزة المطلب وأن التقوى غير موجب للرحمة بل هى منوطة بفضل الله تعالى وأن المتقى ينبغى أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله عزوجل (فَكَذَّبُوهُ) فتموا على تكذيبه فى دعوى النبوة وما نزل عليه من الوحى الذى بلغه إليهم وأنذرهم بما فى

٢٣٦

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٦٥)

____________________________________

تضاعيفه واستمروا على ذلك هذه المدة المتطاولة بعد ما كرر عليه الصلاة والسلام عليهم الدعوة مرارا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا حسبما نطق به قوله تعالى (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) الآيات إذ هو الذى يعقبه الإنجاء والإغراق لا مجرد التكذيب (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين قيل كانوا أربعين رجلا* وأربعين امرأة وقيل تسعة أبناؤه الئلاثة وستة ممن آمن به وقوله تعالى (فِي الْفُلْكِ) متعلق بالاستقرار* فى الظرف أى استقروا معه فى الفلك أو صحبوه فيه أو بفعل الإنجاء أى أنجيناهم فى السفينة ويجوز أن يتعلق بمضمر وقع حالا من الموصول أو من ضميره فى الظرف (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أى* استمروا على تكذيبها وليس المراد بهم الملأ المتصدين للجواب فقط بل كل من أصر على التكذيب منهم ومن أعقابهم وتقديم ذكر الإنجاء على الإغراق للمسارعة إلى الإخبار به والإيذان بسبق الرحمة التى هى مقتضى الذات وتقدمها على الغضب الذى يظهر أثره بمقتضى جرائمهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) * عمى القلوب غير مستبصرين قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد وقرىء عامين والأول أدل على الثبات والقرار (وَإِلى عادٍ) متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى (أَرْسَلْنا) فى قصة نوح عليه‌السلام وهو الناصب لقوله تعالى (أَخاهُمْ) أى وأرسلنا إلى عاد أخاهم أى واحدا* منهم فى النسب لا فى الدين كقولهم يا أخا العرب وقيل العامل فيهما الفعل المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحا والأول هو الأولى وأيا ما كان فلعل تقديم المجرور ههنا على المفعول الصريح للحذار عن الإضمار قبل الذكر يرشدك إلى ذلك ما سيأتى من قوله تعالى (وَلُوطاً) الخ فإن قومه لما لم يعهدوا باسم معروف يقتضى الحال ذكره عليه‌السلام مضافا إليهم كما فى قصة عاد وثمود ومدين خولف فى النظم الكريم بين قصته عليه‌السلام وبين القصص الثلاث وقوله تعالى (هُوداً) عطف بيان لأخاهم وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود* ابن عاد بن عوص ابن أرم بن سام بن نوح عليه‌السلام وقيل هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن عم أبى عادو إنما جعل منهم لأنهم أفهم لكلامه وأعرف بحاله فى صدقه وأمانته وأقرب إلى اتباعه (قالَ) * استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية إرساله عليه‌السلام إليهم كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أى وحدوه كما يعرب عنه قوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فإنه استئناف جار مجرى البيان* البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للأمر بها كأنه قيل خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله سواه وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله وقرىء بالجر حملا له على لفظه (أَفَلا تَتَّقُونَ) * إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوح والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى ألا تتفكرون أو أتغفلون فلا تتقون فالتوبيخ على المعطوفين معا أو أتعلمون ذلك فلا تتقون فالتوبيخ على المعطوف فقط وفى سورة هود أفلا تعقلون ولعله عليه‌السلام خاطبهم بكل منهما وقد اكتفى بحكاية كل منهما فى موطن عن حكايته فى موطن آخر كما لم يذكر ههنا ما ذكر هناك من قوله تعالى (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) وقس على ذلك حال بقية ما ذكر وما لم يذكر من أجزاء القصة بل

٢٣٧

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٦٩)

____________________________________

حال نظائره فى سائر القصص لا سيما فى المحاورات الجارية فى الأوقات المتعددة والله أعلم (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) استئناف كما مر وإنما وصف الملأ بالكفر إذ لم يكن كلهم على الكفر كملأ قوم نوح بل كان منهم من آمن به عليه‌السلام ولكن كان يكتم إيمانه كمرثد بن سعد وقيل وصفوا به لمجرد الذم* (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أى متمكنا فى خفة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين آبائك ألا إنهم هم السفاء* ولكن لا يعلمون (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أى فيما ادعيت من الرسالة قالوه لعراقتهم فى التقليد وحرمانهم من النظر الصحيح (قالَ) مستعطفا لهم ومستميلا لقلوبهم مع ما سمع منهم ما سمع من الكلمة الشنعاء* الموجبة لتغليظ القول والمشافهة بالسوء (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) أى شىء منها ولا شائبة من شوائبها* (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه ويقتضيه من كونه فى الغاية القصوى من الرشد والأناة والصدق والأمانة فإن الرسالة من جهة رب العالمين موجبة لذلك حتما كأنه قيل ليس بى شىء مما نسبتمونى إليه ولكنى فى غاية ما يكون من الرشد والصدق ولم يصرح بنفى الكذب اكتفاء بما فى حيز الاستدراك ومن لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافة وقوله تعالى (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) استئناف سيق لتقرير رسالته وتفصيل أحوالها وقيل صفة أخرى لرسول والكلام فى إضافة الرب إلى نفسه عليه‌السلام بعد إضافته* إلى العالمين وكذا فى جمع الرسالات كالذى مر فى قصة نوح عليه‌السلام وقرىء أبلغكم من الإبلاغ (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك وإنما جىء بالجملة الاسمية دلالة على الثبات والاستمرار وإيذانا بأن من هذا حاله لا يحوم حوله شائبة السفاهة والكذب (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الكلام فيه كالذى مر فى قصة نوح عليه‌السلام (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أى من جنسكم (لِيُنْذِرَكُمْ) ويحذركم عاقبة ما أنتم عليه من الكفر والمعاصى حتى نسبتمونى إلى السفاهة والكذب وفى إجابة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من يشافههم بما لا خير فيه من أمثال تلك الأباطيل بما حكى عنهم من المقالات الحقة المعربة عن نهاية الحلم والرزانة وكمال الشفقة والرأفة من الدلالة على حيازتهم القدح المعلى* من مكارم الأخلاق ما لا يخفى مكانه (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) شروع فى بيان ترتيب أحكام النصح

٢٣٨

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٧١)

____________________________________

والأمانة والإنذار وتفصيلها وإذ منصوب باذكروا على المفعولية دون الظرفية وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة فى إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بالطريق البرهانى ولأن الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت هى حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا ولعله معطوف على مقدر كأنه قيل لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا فى أمركم واذكروا وقت جعله تعالى إياكم خلفاء (مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أى فى مساكنهم أو فى الأرض بأن* جعلكم ملوكا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شحر عمان (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ) * أى فى الإبداع والتصوير أو فى الناس (بَصْطَةً) قامة وقوة فإنه لم يكن فى زمانهم مثلهم فى عظم الأجرام* قال الكلبى والسدى كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) * التى أنعم بها عليكم من فنون النعماء التى هذه من جملتها وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم إثر تخصيص (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) كى يؤديكم ذلك إلى الشكر المؤدى إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب* (قالُوا) مجيبين عن تلك النصائح العظيمة (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) أى لنخصه بالعبادة (وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) أنكروا عليه عليه‌السلام مجيئه لتخصيصه تعالى بالعبادة والإعراض عن عبادة الأوثان انهما كافى التقليد وحبا لما ألفوه وألفوا أسلافهم عليه ومعنى المجىء إما مجيئه عليه‌السلام من متعبده ومنزله وإما من السماء على التهكم وإما القصد والتصدى مجازا كما يقال فى مقابله ذهب يشتمنى من غير إراده معنى الذهاب (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى (أَفَلا تَتَّقُونَ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) * أى فى الإخبار بنزول العذاب وجواب إن محذوف لدلالة المذكور عليه أى فأت به (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أى وجب وحق أو نزل بإصراركم هذا بناء على تنزيل المتوقع منزلة الواقع كما فى قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ (مِنْ رَبِّكُمْ) أى من جهته تعالى وتقديم الظرف الأول على الثانى مع أن مبدأ الشىء متقدم على* منتهاه للمسارعة إلى بيان إصابة المكروه لهم وكذا تقديمهما على الفاعل الذى هو قوله تعالى (رِجْسٌ) * مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى (وَغَضَبٌ) فربما يخل* تقديمهما بتجاوب النظم الكريم والرجس العذاب من الارتجاس الذى هو الاضطراب والغضب إرادة الانتقام وتنوينهما للتفخيم والتهويل (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ) عارية عن المسمى (سَمَّيْتُمُوها) أى سميتم بها* (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) إنكار واستقباح لإنكارهم مجيئه عليه‌السلام داعيا لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك*

٢٣٩

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧٢)

____________________________________

عبادة الأصنام أى أتجادلوننى فى أشياء سميتموها آلهة ليست هى إلا محض الأسماء من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شىء ما لأن المستحق للمعبودية بالذات ليس إلا من أوجد الكل وأنها لو استحقت* لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) وإذ ليس ذلك فى حيز الإمكان تحقق بطلان ما هم عليه (فَانْتَظِرُوا) مترتب على قوله تعالى (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أى فانتظروا ما تطلبونه بقولكم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) الخ (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يحل بكم والفاء فى قوله تعالى (فَأَنْجَيْناهُ) فصيحة كما فى قوله تعالى (فَانْفَجَرَتْ) أى فوقع ما وقع فأنجيناه (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أى فى الدين* (بِرَحْمَةٍ) أى عظيمة لا يقادر قدرها وقوله تعالى (مِنَّا) أى من جهتنا متعلق بمحذوف هو نعت لرحمة مؤكد* لفخامتها الذاتية المنفهة من تنكيرها بالفخامة الإضافية (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أى استأصلناهم* بالكلية ودمرناهم عن آخرهم (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على (كَذَّبُوا) داخل معه فى حكم الصلة أى أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أبدا وتقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك قد مر سره وفيه تنبيه على أن مناط النجاة هو الإيمان بالله تعالى وتصديق آياته كما أن مدار البوار هو الكفر والتكذيب وقصتهم أن عادا قوم كانوا باليمن بالأحقاف وكانوا قد تبسطوا فى البلاد ما بين عمان إلى حضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها صدا وصمود وإلهبا فبعث الله تعالى إليهم هودا نبيا وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج منه عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق ابن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل ابن عنز ومرثد بن سعد الذى كان يكتم إسلامه فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتا معاوية فلما رأى طول مقامهم وذهو لهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك وقال قد هلك أخوالى وأصهارى وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحيى أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية[ألا يا قيل ويحك قم فهينم * لعل الله يسقينا غماما] *[فيسقى أرض عاد إن عادا * قد أمسوا لا يبنون الكلاما] * فلما غنتا به قالوا إن قومكم يتغوثون من البلاء الذى نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثد بن سعد والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقيتم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد يقال له المغيث فاستبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله تعالى

٢٤٠