تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (١٢٣)

____________________________________

المراد بهما اللفظ لا المعنى كما فى قولك زيد صفته أسمر وهذه الجملة صلة لمن وهى مجرورة بالكاف وهى مع مجرورها خبر لمن الأولى وقوله تعالى (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) حال من المستكن فى الظرف وقيل من* الموصول أى غير خارج منها بحال وهذا كما ترى مثل أريد به من بقى فى الضلالة بحيث لا يفارقها أصلا كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلام وهداه بالآيات البينة إلى طريق الحق يسلكه كيف يشاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعانى بما يليق به من الألفاظ الواردة فى المثلين بواسطة تشبيهه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظ المثل باقية فى معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الأمور المتعددة المعتبرة فى كل واحد من جانبى الممثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة فى كل واحد من جانبى المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأوليان ونزلتا منزلتيهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخريين بضرب من التجوز وقد أشير فى تفسير قوله تعالى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) الآية إلى أن التمثيل قسم برأسه لا سبيل إلى جعله من باب الاستعارة حقيقة وأن الاستعارة التمثيلية من عبارات المتأخرين نعم قد يجرى ذلك على سنن الاستعارة بأن لا يذكر المشبه كهذين التمثيلين ونظائرهما وقد يجرى على منهاج التشبيه كما فى قوله[وما الناس إلا كالديار وأهلها * بها يوم حلوها وغدوا بلاقع] (كَذلِكَ) أى مثل ذلك التزيين البليغ (زُيِّنَ) أى من جهة الله تعالى بطريق الخلق عند إيحاء* الشياطين أو من جهة الشياطين بطريق الزخرفة والتسويل (لِلْكافِرِينَ) التابعين للوساوس الشيطانية* الآخذين بالمزخرفات التى يوحونها إليهم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ما استمروا على عمله من فنون الكفر* والمعاصى التى من جملتها ما حكى عنهم من القبائح فإنها لو لم تكن مزينة لهم لما أصروا عليها ولما جادلوا بها الحق وقيل الآية نزلت فى حمزة رضى الله عنه وأبى جهل وقيل فى عمر أو عمار رضى الله عنهما وأبى جهل (وَكَذلِكَ) قيل معناه كما جعلنا فى مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) من سائر القرى (أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) ومفعولا (جَعَلْنا أَكابِرَ مُجْرِمِيها) على تقديم المفعول الثانى والظرف لغو أو هما* الظرف وأكابر على أن مجرميها بدل أو مضاف إليه فإن أفعل التفضيل إذا أضيف جاز الإفراد والمطابقة ولذلك قرىء أكبر مجرميها وقيل (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) مفعوله الأول والثانى (لِيَمْكُرُوا فِيها) ولا يخفى أن أى معنى يراد من هذه المعانى لا بد أن يكون مشهور التحقق عند الناس معهودا فيما بينهم حتى يصلح أن تصرف الإشارة عن سباق النظم الكريم وتوجه إليه ويجعل مقياسا لنظائره بإخراجه مخرج المصدر التشبيهى وظاهر أن ليس الأمر كذلك ولا سبيل إلى توجيهها إلى ما يفهم من قوله تعالى (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وإن كان المراد بهم أكابر مكة لأن مآل المعنى حينئذ بعد اللتيا والتى كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) الخ فإذن الأقرب أن ذلك إشارة إلى الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والإفراد بتأويل الفريق أو المذكور ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثانى لجعلنا قدم

١٨١

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١٢٤)

____________________________________

عليه لإفادة التخصيص كما فى قوله تعالى (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) الآية والأول (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) والظرف لغو أى ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا فى كل قرية أكابرها المجرمين أى جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أى ليفعلوا* المكر فيها وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض على سبيل* الوعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوعيد للكفرة أى وما تحيق غائلة مكرهم إلا بهم (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير (يَمْكُرُونَ) مع اعتبار ورود الاستثناء على النفى أى إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم وقوله تعالى (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) رجوع إلى بيان حال مجرمى أهل مكة بعد ما بين بطريق التسلية أن حال غيرهم أيضا كذلك وأن عاقبة مكر الكل ما ذكر فإن العظيمة المنقولة* إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أى إذا جاءتهم آية بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) قال ابن عباس رضى الله عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه‌السلام فيخبرنا أن محمدا صادق كما قالوا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا وعن الحسن البصرى مثله وهذا كما ترى صريح فى أن ما علق بإيتاء ما أوتى الرسل عليهم الصلاة والسلام هو إيمانهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أنزل إليه إيمانا حقيقيا كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعى أن يحمل ما أوتى رسل الله على مطلق الوحى* ومخاطبة جبريل عليه‌السلام فى الجملة وأن تصرف الرسالة فى قوله تعالى (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه‌السلام بالوجه المذكور ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها فى موضعها الذى هو الرسول ليتأتى كونه جوابا عن اقتراحهم وردا له بأن يكون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول حتى بأتينا بالذات عيانا كما يأتى الرسول فيخبرنا بذلك ومعنى الرد الله أعلم من يليق بإرسال جبريل عليه‌السلام إليه لأمر من الأمور إيذانا بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف وفيه من التمحل ما لا يخفى وقال مقاتل نزلت فى أبى جهل حين قال زاحمنا بنى عبد مناف فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبى يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا حتى يأتينا وحى كما يأتيه وقال الضحاك سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحى كما أخبر الله تعالى عنهم فى قوله بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسبا للرد المذكور لكنه يقتضى أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء ما أوتى الرسل مجرد تصديقهم برسالته عليه الصلاة والسلام فى الجملة من غير شمول لكافة الناس وأن تكون كلمة حتى فى قول اللعين حتى يأتينا وحى كما يأتيه الخ غاية لعدم الرضا لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديرى إيتاء الوحى وعدمه فالمعنى لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن من الوحى والنبوة مثل ما أوتى رسل الله أو

١٨٢

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢٥)

____________________________________

إيتاء مثل إيتاء رسل الله وأما ما قيل من أن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأنى أكبر منك سنا وأكثر منك ما لا وولدا فنزلت فلا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكون الآية النازلة وحيا صادقا لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله لو كانت النبوة حقا الخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقا لكنت أنا النبى لا أنت وإذ لم يكن الأمر كذلك فليست بحق وما له تعليق الإيمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيا ومثل ما أوتى نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أى حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحيث نصب على المفعولية توسعا لا بنفس أعلم لما عرفت من أنه لا يعمل فى الظاهر بل بفعل دل هو عليه أى هو أعلم يعلم الموضع الذى يضعها فيه والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بكثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية يخصها الله تعالى بمن يشاء من خلص عباده وقرىء رسالاته (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد مانعى عليهم حرمانهم مما أملوه والسين للتأكيد ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن إصابة ما يصيبهم لإجرامهم المستتبع لجميع الشرور والقبائح أى يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عزة النبوة وشرف الرسالة (صَغارٌ) * أى ذلة وحقارة بعد كبرهم (عِنْدَ اللهِ) أى يوم القيامة وقيل من عند الله (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) فى الآخرة* أو فى الدنيا (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أى بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته وحيث كان هذا من معظم* مواد إجرامهم صرح بسببيته (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) أى يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) فيتسع له وينفتح وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيئة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حين سئل فقال نور يقذفه الله فى قلب المؤمن فينشرح له وينفتح فقالوا هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال نعم الإنابة إلى دار الخلود والإعراض عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أى يخلق فيه الضلال بصرف اختياره* إليه (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد يدخله الإيمان وقرىء ضيقا بالتخفيف* وحرجا بكسر الراء أى شديد الضيق والأول مصدر وصف به مبالغة (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) ما هذه مهيئة لدخول* كأن على الجمل الفعلية (فِي السَّماءِ) شبه للمبالغة فى ضيق صدره بمن يزاول ما لا يكاد يقدر عليه فإن صعود* السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا فى الهرب منه وأصل يصعد يتصعد وقد قرىء به وقرىء يصاعد وأصله يتصاعد (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الجعل الذى هو جعل الصدر حرجا

١٨٣

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٢٨)

____________________________________

* على الوجه المذكور (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أى العذاب أو الخذلان قال مجاهد الرجس ما لا خير فيه وقال* الزجاج الرجس اللعنة فى الدنيا والعذاب فى الآخرة (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أى عليهم ووضع الموصول موضع المضمر للإشعار بأن جعله تعالى معلل بما فى حيز الصلة من كمال نبوهم عن الإيمان وإصرارهم على الكفر (وَهذا) أى البيان الذى جاء به القرآن أو الاسلام أو ما سبق من التوفيق والخذلان (صِراطُ رَبِّكَ) أى طريقه الذى ارتضاه أو عادته وطريقته التى اقتضتها حكمته وفى التعرض لعنوان الربوبية إيذان بأن* تقويم ذلك الصراط للتربية وإفاضة الكمال (مُسْتَقِيماً) لا عوج فيه أو عادلا مطردا وهو حال مؤكدة كقوله* تعالى (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) والعامل فيها معنى الإشارة (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) بيناها مفصلة (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يتذكرون ما فى تضاعيفها فيعلمون أن كل ما يحدث من الحوادث خيرا كان أو شرا فإنما يحدث بقضاء الله تعالى وخلقه وأنه تعالى عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم وتخصيص القوم المذكورين بالذكر لأنهم المنتفعون بتفصيل الآيات (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) أى للمتذكرين دار السلامة من كل المكاره وهى* الجنة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى فى ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره تعالى (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أى مولاهم وناصرهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بسبب أعمالهم الصالحة أو متوليهم بجزائها يتولى إيصاله إليهم (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) منصوب بمضمر إما على المفعولية أو الظرفية وقرىء بنون العظمة على الالتفات لتهويل* الأمر والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين أى واذكر يوم يحشر الثقلين قائلا (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ) أو ويوم يحشرهم يقول يا معشر الجن أو ويوم يحشرهم ويقول يا معشر الجن يكون من الأحوال والأهوال* ما لا يساعده الوصف لفظاعته والمعشر الجماعة والمراد بمعشر الجن الشياطين (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أى من إغوائهم وإضلالهم أو منهم بأن جعلتموهم أتبعاعكم فحشروا معكم كقولهم استكثر الأمير من* الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) أى الذين أطاعوهم ومن فى قوله تعالى (مِنَ الْإِنْسِ) إما لبيان الجنس أى أولياؤهم الذين هم الإنس أو متعلقة بمحذوف هو حال من أولياؤهم أى* كائنين من الإنس (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أى انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها وقيل بأن ألقوا إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة والجن بالإنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم بقبول ما ألقوه إليهم وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم فى المفاوز

١٨٤

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠)

____________________________________

والمخاوف واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إجارتهم (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) * وهو يوم القيامة قالوه اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهارا للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا (قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكايه* كلامهم كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذ فقيل قال (النَّارُ مَثْواكُمْ) أى منزلكم أو ذات ثوائكم كما أن دار* السلام مثوى المؤمنين (خالِدِينَ فِيها) حال والعامل مثواكم إن جعل مصدرا ومعنى الإضافة إن جعل مكانا* (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قال ابن عباس رضى الله عنهما استثنى الله تعالى قوما قد سبق فى علمه أنهم يسلمون* ويصدقون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا مبنى على أن الاستثناء ليس من المحكى وما بمعنى من وقيل المعنى إلا الأوقات التى ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم وقيل يفتح لهم وهم فى النار باب إلى الجنة فيسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سد عليهم الباب وعلى التقديرين فالاستثناء تهكم بهم وقيل إلا ما شاء الله قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم ولا يخفى بعده (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) فى أفاعيله (عَلِيمٌ) بأحوال الثقلين* وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء (وَكَذلِكَ) أى مثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ) من الإنس (بَعْضاً) آخر منهم أى نجعلهم بحيث يتولونهم بالإغواء والإضلال أو نجعل بعضهم قرناء بعض فى العذاب كما كانوا كذلك فى الدنيا عند اقتراف ما يؤدى إليه من القبائح (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) شروع فى حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم إثر حكاية توبيخ معشر الجن بإغواء الإنس وإضلالهم وبيان مآل أمرهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أى فى الدنيا (رُسُلٌ) أى من* عند الله عزوجل لكن لا على أن يأتى كل رسول كل واحدة من الأمم بل على أن يأتى كل أمة رسول خاص بها أى ألم يأت كل أمة منكم رسول معين وقوله تعالى (مِنْكُمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل* أى كائنة من جملتكم لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا بل من الإنس خاصة وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم والإيذان بتقاربهما ذاتا واتحادهما تكليفا وخطابا كأنهما جنس واحد ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل وقد ثبت أن الجن قد استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم حيث نطق به قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ

١٨٥

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (١٣١)

____________________________________

* إلى قوله تعالى (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وقوله تعالى (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسال الرسل من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين (وَيُنْذِرُونَكُمْ) بما* فى تضاعيفها من القوارع (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يوم الحشر الذى قد عاينوا فيه ما أعدلهم من أفانين العقوبات* الهائلة (قالُوا) استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك التوبيخ* الشديد فقيل قالوا (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أى بإتيان الرسل وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وباستحقاقهم بسبب ذلك للعذاب المخلد حسبما فصل فى حكاية جوابهم عن سؤال خزنة النار حيث قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شىء إن أنتم إلا فى ضلال كبير وقد أجمل ههنا فى الحكاية* كما أجمل فى حكاية جوابهم حيث قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقوله تعالى (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم فى الدنيا إلى ارتكابهم للقبائح التى ارتكبوها وألجأهم بعد ذلك فى الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك أى واغتروا فى الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذى بشرت به الرسل واجترءوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذى أنذروهم إياه (وَشَهِدُوا) فى الآخرة (عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا) فى الدنيا (كافِرِينَ) أى بالآيات والنذر التى أتى بها الرسل على التفصيل المذكور آنفا واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب كما ينبىء عنه ما حكى عنهم بقوله تعالى (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) وفيه من تحسيرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب والخطاب للرسول* صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) بحذف اللام على أن* أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف وقوله تعالى (بِظُلْمٍ) متعلق إما ب (مُهْلِكَ) أى بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أى ملتبسة بظلم فإن ملابسة أهلها للظلم ملابسة للقرية له بواسطتهم وأما كونه حالا من (رَبُّكَ) أو من ضميره فى (مُهْلِكَ) كما قيل فيأباه أن غفلة أهلها مأخوذة فى معنى* الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بقوله تعالى (وَأَهْلُها غافِلُونَ) والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أى ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بديهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أى لو لا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل كما فى قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوى الذى هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب فى تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) لبيان كمال

١٨٦

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١٣٤)

____________________________________

نزاهته سبحانه وتعالى عن كلا التعذيبين الدنيوى والأخروى معا من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده حيث اقتصر على نفى التعذيب الدنيوى عنه تعالى ليثبت نفى التعذيب الأخروى عنه تعالى على الوجه البرهانى بطريق الأولوية فإنه تعالى حيث لم يعذبهم بعذاب يسير منقطع بدون إنذار فلأن لا يعذبهم بعذاب شديد مخلد أولى وأجلى ولو علل بما ذكر من نفى التعذيب لانصرف بحسب المقام إلى ما فيه الكلام من نفى التعذيب الأخروى ونفى التعذيب الدنيوى غير متعرض له لا صريحا ولا دلالة ضرورة أن نفى الأعلى لا يدل على نفى الأدنى ولأن ترتب التعذيب الدنيوى على الإنذار عند عدم تأثر المنذرين منه معلوم مشاهد عند السامعين فيستدلون بذلك على أن التعذيب الأخروى أيضا كذلك فينزجرون عن الإخلال بمواجب الإنذار أشد انزجار هذا هو الذى تستدعيه جزالة النظم الكريم وأما جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم‌السلام وانذارهم وخبر المبتدأ محذوف كما أطبق عليه الجمهور فبمعزل من مقتضى المقام والله سبحانه أعلم (وَلِكُلٍّ) أى من المكلفين من الثقلين (دَرَجاتٌ) متفاوتة وطبقات متباينة (مِمَّا عَمِلُوا) من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة فإن أعمالهم درجات فى* أنفسها أو من جزاء أعمالهم فإن كل جزاء مرتبة معينة لهم أو من أجل أعمالهم (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) * فيخفى عليه عمل من أعمالهم أو قدر ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب وقرىء بالتاء تغليبا للخطاب على الغيبة (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) مبتدأ وخبر أى هو المعروف بالغنى عن كل ما سواه كائنا من كان وما كان فيدخل فيه غناه عن العباد وعن عبادتهم وفى التعرض لوصف الربوبية فى الموضعين لا سيما فى الثانى لكونه موقع الإضمار مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إظهار اللطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنزيه ساحته عن توهم شمول الوعيد الآتى لها أيضا ما لا يخفى وقوله تعالى (ذُو الرَّحْمَةِ) خبر آخر أو هو الخبر والغنى صفة أى يترحم عليهم بالتكليف* تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصى وفيه تنبيه على أن ما سلف ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتمهيد لقوله تعالى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أى ما به حاجة إليكم إن يشأ يذهبكم أيها العصاة وفى تلوين* الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ) أى من بعد إذهابكم (ما يَشاءُ) من الخلق* وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) * أى من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام لكنه أبقاكم ترحما عليكم وما فى كما مصدرية ومحل الكاف النصب على أنه مصدر تشبيهى على غير الصدر فإن يستخلف فى معنى ينشىء كأنه قيل وينشىء إنشاء كائنا كإنشائكم الخ أو نعت لمصدر الفعل المذكور أى يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم الخ والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة (إِنَّ ما تُوعَدُونَ)

١٨٧

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٣٦)

____________________________________

أى الذى توعدونه من البعث وما يتفرع عليه من الأمور الهائلة وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار* التجددى (لَآتٍ) لواقع لا محالة كقوله تعالى (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) وإيثاره عليه لبيان كمال سرعة وقوعه* بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أى بفائتين ذلك وإن ركبنم فى الهرب متن كل صعب وذلول كما أن إيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بكمال قرب الإتيان والمراد بيان دوام انتفاء الإعجاز لا بيان انتفاء دوام الإعجاز فإن الجملة الاسمية كما تدل على دوام الثبوت تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرف النفى على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام كما حقق فى موضعه (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) إثر ما بين لهم حالهم ومآلهم بطريق الخطاب أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين بأن يواجههم بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب فى الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أى اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن أو على جهتكم وحالتكم التى أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة وقرىء مكاناتكم والمعنى اثبتوا على كفرهم ومعاداتكم (إِنِّي عامِلٌ) ما أمرت به من الثبات على الإسلام والاستمرار على الأعمال الصالحة والمصابرة وإيراد التهديد بصيغة الأمر مبالغة فى الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدى إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالذى أمر به بحيث لا يجد إلى التفصى عنه سبيلا (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) سوف لتأكيد مضمون الجملة والعلم عرفانى ومن إما استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء وتكون باسمها وخبرها خبر لها وهى مع خبرها فى محل نصب لسدها مسد مفعول تعلمون أى فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التى خلق الله تعالى هذه الدار لها وإما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول لتعلمون أى فسوف تعلمون الذى له عاقبة الدار وفيه مع الإنذار إنصاف فى المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره وقرىء بالياء لأن تأنيث العاقبة غير حقيقى (إِنَّهُ) أى الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وضع الظلم موضع الكفر إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أى فرد كان من أفراد الظلم فما ظنك بالكفر الذى هو أعظم أفراده (وَجَعَلُوا) شروع فى تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة وهم مشركو العرب كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله تعالى وأشياء منهما لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكيا ناميا يزيد فى نفسه خيرا رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غنى وما ذاك إلا لحب آلهتهم وإيثارهم لها والجعل إما متعد إلى واحد فالجاران فى قوله تعالى

١٨٨

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٣٧)

____________________________________

(لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) متعلقان به ومن فى قوله تعالى (مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ) بيان لما وفيه تنبيه على فرط جهالتهم حيث* أشركوا الخالق فى خلقه جمادا لا يقدر على شىء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزكى له أى عينوا له تعالى مما خلقه من الحرث والأنعام (نَصِيباً) يصرفونه إلى الضيفان والمساكين وتأخيره عن المجرورين لما مر* مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وإما إلى مفعولين أو لهما مما ذرأ على أن من تبعيضية أى جعلوا بعض ما خلقه نصيبا له وما قيل من أن الأول نصيبا والثانى لله لا يساعده سداد المعنى وحكاية جعلهم له تعالى نصيبا تدل على أنهم جعلوا لشركائهم أيضا نصيبا ولم يذكر اكتفاء بقوله تعالى (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) وقرىء بضم الزاء وهو لغة فيه وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه فى الحقيقة ليس بجعل لله تعالى غير مستتبع لشىء من الثواب كالتطوعات التى يبتغى بها وجه الله تعالى لا لما قيل من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به فإن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثانى ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على معنى أن قولهم هذا لله مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذى هو اختصاصه به تعالى فقوله تعالى (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) * بيان وتفصيل له أى فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التى يصرف إليها ما عينوه لله تعالى من قرى الضيفان والتصدق على المساكين وما عينوه لله تعالى إذا وجدوه زاكيا يصرف إلى الوجوه التى يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم من إنفاق عليها وذبح نسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) * فيما فعلوا من إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم بما لم يشرع لهم وما بمعنى الذى والتقدير ساء الذى يحكمون حكمهم فيكون حكمهم مبتدأ وما قبله الخبر وحذف لدلالة يحكمون عليه (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك فى قسمة القربان بين الله تعالى وبين آلهتهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) بوادهم ونحرهم لآلهتهم. كان الرجل يحلف* فى الجاهلية لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب وهو مشهور (شُرَكاؤُهُمْ) أى* أولياؤهم من الجن أو من السدنة وهو فاعل زين أخر عن الظرف والمفعول لما مر غير مرة وقرىء على البناء للمفعول الذى هو القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما بمفعوله وقرىء على البناء للمفعول ورفع قتل وجر أولادهم ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زين كأنه لما قيل زين لهم قتل أولادهم قيل من زينه فقيل زينه شركاؤهم (لِيُرْدُوهُمْ) أى يهلكوهم بالإغواء* (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسمعيل عليه‌السلام أو ما وجب عليهم* أن يتدينوا به واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أى عدم فعلهم ذلك (ما فَعَلُوهُ) أى ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل أو الشركاء التزيين أو الإرداء واللبس أو الفريقان جميع ذلك على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) الفاء*

١٨٩

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٣٩)

____________________________________

فصيحة أى إذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم أو وما يفترونه من الإفك فإن فيما شاء الله تعالى حكما بالغة إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى (وَقالُوا) حكاية* لنوع آخر من أنواع كفرهم (هذِهِ) إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم والتأنيث للخبر (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) أى حرام فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوى فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث وقرىء حجر بالضم وبضمتين وحرج أى ضيق وأصله حرج وقيل هو مقلوب* من حجر (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) يعنون خدم الأوثان من الرجال دون النساء والجملة صفة أخرى* لأنعام وحرث (بِزَعْمِهِمْ) متعلق بمحذوف هو حال من فاعل قالوا أى قالوه ملتبسين بزعمهم الباطل من* غير حجة (وَأَنْعامٌ) خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله تعالى (هذِهِ أَنْعامٌ) الخ أى قالوا مشيرين إلى* طائفة أخرى من أنعامهم وهذه أنعام (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) يعنون بها البحائر والسوائب والحوامى (وَأَنْعامٌ) * أى وهذه أنعام كما مر وقوله تعالى (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) صفة لأنعام لكنه غير واقع فى كلامهم المحكى كنظائره بل مسوق من جهته تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما فى قوله تعالى (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) على أحد التفاسير كأنه قيل وأنعام ذبحت على الأصنام فإنها التى لا يذكر عليها اسم الله وإنما يذكر عليها اسم الأصنام وقيل لا يحجون عليها فإن الحج لا يعرى عن ذكر الله تعالى وقال مجاهد كانت لهم طائفة من أنعامهم لا يذكرون اسم الله عليها ولا فى شىء من شأنها لا إن* ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن نتجوا ولا إن باعوا ولا إن حملوا (افْتِراءً عَلَيْهِ) نصب على المصدر إما على أن ما قالوه تقول على الله تعالى وإما على تقدير عامل من لفظه أى افتروا افتراء والجار متعلق بقالوا أو بافتروا المقدر أو بمحذوف هو صفة له لا بافتراء لأن المصدر المؤكد لا يعمل أو على الحال من فاعل قالوا* أى مفترين أو على العلة أى للافتراء فالجار متعلق به (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أى بسببه أو بدله وفى إبهام الجزاء من التهويل ما لا يخفى (وَقالُوا) حكاية لفن آخر من فنون كفرهم (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) * يعنون به أجنة البحائر والسوائب (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) حلال لهم خاصة والتاء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة أو لأن الخالصة مصدر كالعافيه وقع موقع الخالص مبالغة أو بحذف المضاف أى ذو خالصة أو للتأنيث* بناء على أن ما عبارة عن الأجنة والتذكير فى قوله تعالى (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) أى جنس أزواجنا وهن الإناث باعتبار اللفظ وفيه كما ترى حمل للنظم الكريم على خلاف المعهود الذى هو الحمل على اللفظ أولا وعلى المعنى ثانيا كما فى قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) الخ ونظائره وأما العكس فقد

١٩٠

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١٤١)

____________________________________

قالوا إنه لا نظير له فى القرآن وهذا الحكم منهم إن ولد ذلك حيا وهو الظاهر المعتاد (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) * أى إن ولدت ميتة (فَهُمْ) أى الذكور والإناث (فِيهِ) أى فيما فى بطون الأنعام وقيل المراد بالميتة ما يعم* الذكر والأنثى فغلب الأول على الثانى (شُرَكاءُ) يأكلون منه جميعا وقرىء خالصة بالنصب على أنه مصدر* مؤكد والخبر لذكورنا أو حال من الضمير الذى فى الظرف لا من الذى فى ذكورنا ولا من الذكور لأنه لا يتقدم على العامل المعنوى ولا على صاحبه المجرور وقرىء خالصة بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أى جزاء وصفهم الكذب على الله تعالى فى أمر التحليل* والتحريم من قوله تعالى (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تعليل للوعيد بالجزاء فإن الحكيم* العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذى هو من مقتضيات الحكمة (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) جواب قسم محذوف وقرىء بالتشديد وهم ربيعة ومضر وأضرابهم من العرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبى والفقر أى خسروا دينهم ودنياهم (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق ب (قَتَلُوا) على أنه علة* له أى لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله هو الرزاق لهم ولأولادهم أو نصب على الحال ويؤيده أنه قرىء سفهاء أو مصدر (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) من البحائر والسوائب ونحوهما (افْتِراءً عَلَى اللهِ) نصب* على أحد الوجوه المذكورة وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لإظهار كمال عتوهم وطغيانهم (قَدْ ضَلُّوا) عن الطريق المستقيم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إليه وإن هدوا بفنون الهدايات أو وما كانوا مهتدين* من الأصل لسوء سيرتهم فالجملة حينئذ اعتراض وعلى الأول عطف على (ضَلُّوا) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) تمهيد لما سيأتى من تفصيل أحوال الأنعام أى هو الذى أنشأهن من غير شركة لأحد فى ذلك* بوجه من الوجوه والمعروشات من الكروم المرفوعات على ما يحملها (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) وهن الملقيات* على وجه الأرض وقيل المعروشات ما غرسه الناس وعرشوه وغير المعروشات ما نبت فى البوادى والجبال (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) عطف على (جَنَّاتٍ) أى أنشأهما (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) وقرىء أكله بسكون الكاف أى ثمره* الذى يؤكل فى الهيئة والكيفية والضمير إما للنخل والزرع داخل فى حكمه أو للزرع والباقى مقيس عليه أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفا حال مقدرة إذ ليس كذلك وقت الإنشاء (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أى أنشأهما وقوله تعالى (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) نصب على الحالية أى يتشابه بعض*

١٩١

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٤٣)

____________________________________

* أفرادهما فى اللون والهيئة أو الطعم ولا يتشابه بعضها (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أى من ثمر كل واحد من ذلك (إِذا أَثْمَرَ) وإن لم يدرك ولم يينع بعد وقيل فائدته رخصة المالك فى الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى* (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار لا الزكاة المقدرة فإنها فرضت بالمدينة والسورة مكية وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتصفية وقرىء يوم حصاده* بكسر الحاء وهو لغة فيه (وَلا تُسْرِفُوا) أى فى التصدق كما روى عن ثابت بن قيس أنه صرم خمسمائة نخلة* ففرق ثمرها كلها ولم يدخل منه شيئا إلى منزله كقوله تعالى (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أى لا يرتضى إسرافهم (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) شروع فى تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا على الله تعالى فى شأنها بالتحريم والتحليل وهو عطف على مفعول أنشأ ومن متعلقة به أى وأنشأ من الأنعام ما يحمل عليه الأثقال وما يفرش للذبح أو ما يفرش المصنوع من شعره وصوفه ووبره* وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض كأنها فرش مفروش عليها (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ما عبارة عما ذكر من الحمولة والفرش ومن تبعيضية أى كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى أى حلاله* وفيه تصريح بأن إنشاءها لأجلهم ومصلحتهم (وَلا تَتَّبِعُوا) فى أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم* المجازفين فى ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعه إياهم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) الزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل والمراد بها الأنواع الأربعة وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد تمهيد لما سيق له الكلام من الإنكار المتعلق بتحريم كل واحد من الذكر والأنثى وبما فى بطنها وهو بدل من (حَمُولَةً وَفَرْشاً) منصوب بما نصبهما وجعله مفعولا لكلوا على أن قوله تعالى (وَلا تَتَّبِعُوا) الآية معترض بينهما أو حالا من ما بمعنى مختلفة أو متعددة يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولا إلى حمولة وفرش ثم بتفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأولى إلى الإبل والبقر وتفصيل الثانى إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التى تقولوا فيها عليه سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم* فى كل مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة واثنين فى قوله سبحانه وتعالى (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) بدل من (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) منصوب بناصبه وهو العامل فى من أى أنشأ من الضأن زوجين الكبش والنعجة

١٩٢

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤)

____________________________________

وقرىء اثنان على الابتداء والضأن اسم جنس كالإبل وجمعه ضئين كأمير أو جمع ضائن كتاجر وتجر وقرىء بفتح الهمزة (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) عطف على مثله شريك له فى حكمه أى وأنشأ من المعز زوجين* التيس والعنز وقرىء بفتح العين وهو جمع ما عز كصاحب وصحب وحارس وحرس وقرىء ومن المعزى وهذه الأزواج الأربعة تفصيل للفرش ولعل تقديمها فى التفصيل مع تأخر أصلها فى الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذى هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر فى الاقتصار على الأمر به فى قوله تعالى (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه فى السائبة وأخواتها (قُلْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر تفصيل أنواع الأنعام التى* أنشأها أى قل تبكيتا لهم وإظهارا لانقطاعهم عن الجواب (آلذَّكَرَيْنِ) من ذينك النوعين وهما الكبش* والتيس (حَرَّمَ) أى الله عزوجل كما تزعمون أنه هو المحرم (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) وهما النعجة والعنز ونصب* آلذكرين والأنثيين بحرم وهو مؤخر عنهما بحسب المعنى وإن توسط بينهما صورة وكذا قوله تعالى (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أى أم ما حملت إناث النوعين حرم ذكرا كان أو أنثى وقوله تعالى (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) الخ تكرير للإلزام وتثنية للتبكيت والإفحام أى أخبرونى بأمر معلوم من جهة الله تعالى من الكتاب أو أخبار الأنبياء يدل على أنه تعالى حرم شيئا مما ذكر أو نيئونى تنبئة ملتبسة بعلم صادرة عنه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى فى دعوى التحريم عليه سبحانه وقوله تعالى (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) عطف على قوله تعالى (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) أى وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى (قُلْ) إفحاما* لهم فى أمر هذين النوعين أيضا (آلذَّكَرَيْنِ) منهما (حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) * من ذينك النوعين والمعنى إنكار أن الله سبحانه حرم عليهم شيئا من الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم فى ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما فى بطونها للمبالغة فى الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله إلى الله سبحانه وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعى الصغار ونوعى الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التبكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال قل آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الاناث لما فى التثنية والتكرير من المبالغة فى التبكيت والإلزام وقوله تعالى (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) تكرير للإفحام كقوله تعالى (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) وأم منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار والتوبيخ ومعنى بل الإضراب عن التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه

١٩٣

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥)

____________________________________

* آخر أى بل أكنتم حاضرين مشاهدين (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أى حين وصاكم بهذا التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبى فلا طريق لكم حسبما يقود إليه مذهبكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة والسماع وفيه من تركيك* عقولهم والتهكم بهم ما لا يخفى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فنسب إليه تحريم ما لم يحرم والمراد كبراؤهم المقررون لذلك أو عمر بن لحى بن قمعة وهو المؤسس لهذا الشر أو الكل لاشتراكهم فى الافتراء عليه سبحانه وتعالى أى فأى فريق أظلم من فريق افتروا الخ ولا يقدح فى أظلمية الكل كون بعضهم مخترعين له وبعضهم مقتدين بهم والفاء لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم أى هو* أظلم من كل ظالم وإن كان المنفى صريحا الأظلمية دون المساواة كما مر غير مرة (لِيُضِلَّ النَّاسَ) متعلق بالافتراء (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (افْتَرى) أى افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى وإنما وصفوا بعدم العلم بذلك مع أنهم عالمون بعدم صدوره عنه تعالى إيذانا بخروجهم فى الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه تعالى بغير علم بصدوره عنه تعالى مع احتمال الصدور عنه إذا كان أظلم من كل ظالم فما ظنك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدر عنه ويجوز أن يكون حالا من فاعل* يضل أى ملتبسا بغير علم بما يؤدى بهم إليه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) كائنا من كان إلى ما فيه صلاح حالهم عاجلا أو آجلا وإذا كان هذا حال المتصفين بالظلم فى الجملة فما ظنك بمن هو فى أقصى غاياته (قُلْ) أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه فى أمر التحريم افتراء* بحت لا أصل له قطعا بأن يبين لهم ما حرمه عليهم وفى قوله تعالى (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إيذان بأن مناط الحل والحرمة هو الوحى وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تتبع جميع ما أوحى إليه وتفحص عن المحرمات فلم يجد غير ما فصل وفيه مبالغة فى بيان انحصارها فى ذلك ومحرما صفة لمحذوف أى لا أجد ريثما تصفحت* ما أوحى إلى طعاما محرما من المطاعم التى حرموها (عَلى طاعِمٍ) أى أى طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا* على قولهم محرم على أزواجنا وقوله تعالى (يَطْعَمُهُ) لزيادة التقرير (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) أى ذلك الطعام* (مَيْتَةً) وقرىء تكون بالتاء لتأنيث الخبر وقرىء ميتة بالرفع على أن كان تامة وقوله تعالى (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) حينئذ عطف على أن مع ما فى حيزه أى إلا وجود ميتة أو دما مسفوحا أى مصبوبا كالدماء التى فى العروق* لا كالطحال والكبد (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ) أى الخنزير (رِجْسٌ) أى لحمه قذر لتعوده أكل النجاسات أو* خبيث (أَوْ فِسْقاً) عطف على (لَحْمَ خِنزِيرٍ) وما بينهما اعتراض مقرر لحرمته (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة له موضحة أى ذبح على اسم الأصنام وإنما سمى ذلك فسقا لتوغله فى الفسق ويجوز أن يكون فسقا مفعولا* له لأهل وهو عطف على يكون والمستكن راجع إلى ما رجع إليه المستكن فى يكون (فَمَنِ اضْطُرَّ) أى

١٩٤

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦)

____________________________________

أصابه الضرورة الداعية إلى أكل الميتة بوجه من الوجوه المضطرة (غَيْرَ باغٍ) فى ذلك على مضطر آخر* مثله (وَلا عادٍ) قدر الضرورة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبالغ فى المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك وليس* التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر هو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم الميتة من يد مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم المنيتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذى يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة وفى التعرض لوصفى المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكنه تعالى يغفر له ويرحمه والآية محكمة لأنها تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجد فيما أوحى إليه إلى تلك الغاية غيره ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك فى شىء آخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء التى هى غيرها إلا مع الاستصحاب (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أى كل ماله أصبع من الإبل والسباع والطيور وقيل كل ذى مخلب وحافر وسمى الحافر ظفرا مجازا والمسبب عن الظلم هو تعميم التحريم حيث كان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلما ظلموا عم التحريم كلها وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم فى ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) لا لحومهما فإنها باقية على الحل والشحوم الثروب وشحوم الكلى* والإضافة لزيادة الربط (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) استثناء من الشحوم مخرج لما علق من الشحم بظهورهما* عن حكم التحريم (أَوِ الْحَوايا) عطف على (ظُهُورُهُما) أى ما حملته الحوايا وهى جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء* وقواصع أو حوية كسفينة وسفائن (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) عطف على (ما حَمَلَتْ) وهو شحم الألية واختلاطه* بالعظم اتصاله بعجب الذنب وقيل هو كل شحم متصل بالعظم من الأضلاع وغيرها (ذلِكَ) إشارة إلى* الجزاء أو التحريم فهو على الأول نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده وعلى الثانى على أنه مفعول ثان له أى ذلك التحريم (جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه* وأكلهم أموال الناس بالباطل كقوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شىء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم فرد ذلك عليهم وأكد بقوله تعالى (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أى فى جميع أخبارنا التى من جملتها هذا الخبر ولقد* ألقمهم الحجر قوله تعالى (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن

١٩٥

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩)

____________________________________

يخرجوا التوراة كيف وقد بين فيها جميع ما يحذرون أوضح بيان (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) قيل الضمير لليهود لأنهم أقرب ذكرا ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك وقيل للمشركين فالمعنى على الأول إن كذبتك* اليهود فى الحكم المذكور وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قدم التحريم (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) * لا يؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصى ويمهلكم على بعضها (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) بالكلية (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديدا وعلى الثانى فإن كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال وقيل ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مقامه قوله تعالى (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) الخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة على أنه لا حق بهم البتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلا (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) حكاية لفن آخر من كفرهم وإخباره قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبر به كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) صريح فى أنه من عند الله (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) أى لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء* لما فعلنا الإشراك نحن (وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) أرادوا به أن ما فعلوه حق مرضى عند الله تعالى لا الاعتذار من ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله تعالى إياها منهم حتى ينتهض ذمهم به دليلا للمعتزلة ألا* يرى إلى قوله تعالى (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى مثل ما كذبك هؤلاء فى أنه تعالى منع من الشرك* ولم يحرم ما حرموه كذب متقدموهم الرسل فإنه صريح فيما قلنا وعطف آباؤنا على الضمير للفصل بلا (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) الذى أنزلنا عليهم بتكذيبهم (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) من أمر معلوم يصح الاحتجاج به* على ما زعمتم (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أى فتظهروه لنا (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أى ما تتبعون فى ذلك إلا الظن* الباطل الذى لا يغنى من الحق شيئا (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) تكذبون على الله عزوجل وليس فيه دلالة على المنع من اتباع الظن على الإطلاق بل فيما يعارضه قطعى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) الفاء جواب شرط محذوف أى وإذ قد ظهر أن لا حجة لكم فلله الحجة البالغة أى البينة الواضحة التى بلغت غاية المتانة والثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه والمراد بها الكتاب والرسول والبيان وهى من الحجج بمعنى القصد كأنها* تقصد إثبات الحكم وتطلبه (فَلَوْ شاءَ) هدايتكم جميعا (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن

١٩٦

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٥١)

____________________________________

لم يشأ هداية الكل بل هداية البعض الصارفين هممهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوا اختيارهم إلى خلاف ذلك من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) أى أحضروهم وهو اسم فعل لا يتصرف على لغة أهل الحجاز وفعل يؤنث ويجمع على لغة بنى تميم على رأى الجمهور وقد خالفهم البعض فى فعليته وليس بشىء وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون فى اللام فإنه الأصل وعند الكوفيين هل أم فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام وهو بعيد لأن هل لا تدخل الأمر ويكون متعديا كما فى الآية ولازما كما فى قوله تعالى (هَلُمَّ إِلَيْنا (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) وهم قدوتهم الذين ينصرون قولهم وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معروفون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم (فَإِنْ شَهِدُوا) بعد ما حضروا بأن الله حرم هذا* (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أى فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وافتراء صرف وبين لهم فساده فإن تسليمه منهم موافقة* لهم فى الشهادة الباطلة (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من وضع المظهر مقام المضمر للدلالة على* أن من كذب بآيات الله تعالى وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير وأن من اتبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) كعبدة الأوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف* الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف كما فى قوله[إلى الماجد القرم وابن إلهما * م وليث الكتائب فى المزدحم] فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أى يجعلون له عديلا عطف* على (لا يُؤْمِنُونَ) والمعنى لا تتبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله وبين الكفر بالآخرة وبين الإشراك به سبحانه لكن لا على أن يكون مدار النهى الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بكلها (قُلْ تَعالَوْا) لما ظهر بطلان ما ادعوا من أن إشراكهم وإشراك آبائهم وتحريم ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئته بظهور عجزهم عن إخراج شىء يتمسك به فى ذلك وإحضار شهداء يشهدون بما ادعوا فى أمر التحريم بعد ما كلفوه مرة بعد أخرى عجزا بينا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضى الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت بقوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ) الآية وتعالى أمر من التعالى والأصل فيه أن يقوله من فى مكان

١٩٧

عال لمن هو فى أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم كما أن الغنيمة فى الأصل إصابة الغنم من العدو ثم استعملت* فى إصابة كل ما يصاب منهم اتساعا ثم فى الفوز بكل مطلب من غير مشقة (أَتْلُ) جواب الأمر وقوله* تعالى (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) منصوب به على أن ما موصولة والعائد محذوف أى أقرأ الذى حرمه ربكم أى الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أى الآيات المشتملة على تحريمه أو بحرم على أنها استفهامية والجملة مفعول لأتل* لأن التلاوة من باب القول كأنه قيل أقل أى شىء حرم ربكم (عَلَيْكُمْ) متعلق بحرم على كل حال وقيل بأتل والأول أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة وهو السر فى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم فإن تذكير كونه تعالى ربا لهم ومالكا لأمرهم على الإطلاق من أقوى* الدواعى إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشد انتهاء وأن فى قوله تعالى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ) مفسرة لفعل التلاوة المعلق بما حرم ولا ناهية كما ينبىء عنه عطف ما بعده من الأوامر والنواهى عليه وليس من ضرورة كون المعطوف عليه تفسير تلاوة المحرمات بحسب منطوقه كون المعطوفات أيضا كذلك حتى يمتنع انتظام الأوامر فى سلك العطف عليه بل يكفى فى ذلك كونها تفسيرا لها باعتبار لوازمها التى هى النواهى المتعلقة بأضداد ما تعلقت هى به فإن الأمر بالشىء مستلزم للنهى عن ضده بل هو عينه عند البعض كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها فإن عطف الأوامر على النواهى الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دليل واضح على أن التحريم راجع إلى الأضداد على الوجه المذكور فكأنه قيل أتل ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أخرج مخرج الأمر بالإحسان إليهما بين النهيين المكتنفين له للمبالغة فى إيجاب مراعاة حقوقهما فإن مجرد ترك الإساءة إليهما غير كاف فى قضاء حقوقهما ولذلك عقب به النهى عن الإشراك الذى هو أعظم المحرمات وأكبر الكبائر ههنا وفى سائر المواقع وقيل أن ناصبة ومحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء وقيل النصب على البدلية مما حرم وقيل من عائدها المحذوف على أن لا زائدة وقيل الجر بتقدير اللام وقيل الرفع بتقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل والذى عليه التعويل هو الأول لأمور* من جملتها أن فى إخراج المفسر على صورة النهى مبالغة فى بيان التحريم وقوله تعالى (شَيْئاً) نصب على* المصدرية أو المفعولية أى لا تشركوا به شيئا من الإشراك أو شيئا من الأشياء (وَبِالْوالِدَيْنِ) أى وأحسنوا* بهما (إِحْساناً) وقد مر تحقيقه (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) تكليف متعلق بحقوق الأولاد عقب به التكليف* المتعلق بحقوق الوالدين أى لا تقتلوهم بالوأد (مِنْ إِمْلاقٍ) أى من أجل فقر كما فى قوله تعالى (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) * وقيل هذا فى الفقر الناجز وذا فى المتوقع وقوله تعالى (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) استئناف مسوق لتعليل النهى وإبطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهى عنه وضمان منه تعالى لأرزاقهم أى نحن نرزق الفريقين* لا أنتم فلا تخافوا الفقر بناء على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) كقوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) الآية إلا أنه جىء ههنا بصيغة الجمع قصدا إلى النهى عن أنواعها* ولذلك أبدل عنها قوله تعالى (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أى ما يفعل منها علانية فى الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم وتعليق النهى بقربانها إما للمبالغة فى الزجر

١٩٨

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢)

____________________________________

عنها لقوة الدواعى إليها وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها وتوسيط النهى عنها بين النهى عن قتل الأولاد والنهى عن القتل مطلقا كما وقع فى سورة بنى إسرائيل باعتبار أنها مع كونها فى نفسها جناية عظيمة فى حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا فى حكم الأموات وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حق العزل إن ذاك وأد خفى ومن ههنا تبين أن حمل الفواحش على الكبائر مطلقا وتفسير ما ظهر منها وما بطن بما فسر به ظاهر الإثم وباطنه فيما سلف من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أى حرم قتلها* بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج منها الحربى وقوله تعالى (إِلَّا بِالْحَقِّ) استثناء مفرغ من أعم* الأحوال أى لا تقتلوها فى حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذى هو أمر الشرع بقتلها وذلك بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة أو من أعم الأسباب أى لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسب الحق وهو ما ذكر أو من أعم المصادر أى لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا كائنا بالحق وهو القتل بأحد الأمور المذكورة (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من التكاليف الخمسة* وما فى ذلك من معنى البعد للإيذان بعلو طبقاتها من بين التكاليف الشرعية وهو مبتدأ وقوله تعالى (وَصَّاكُمْ بِهِ) أى أمركم به ربكم أمرا مؤكدا خبره والجملة استئناف جىء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجاب* المحافظة على ما كلفوه ولما كانت الأمور المنهى عنها مما تقضى بديهة العقول بقبحها فصلت الآية الكريمة بقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أى تستعملون عقولكم التى تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح* المذكورة (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) توجيه النهى إلى قربانه لما مر من المبالغة فى النهى عن أكله ولإخراج القربان النافع عن حكم النهى بطريق الاستثناء اى لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) * إلا بالخصلة التى هى أحسن ما يكون من الحفظ والتئمير ونحو ذلك والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهى كأنه قيل احفظوه حتى يصير بالغا* رشيدا فحينئذ سلموه إليه كما فى قوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) والأشد جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد ككلب وأكلب أو شد كصر وآصر وقيل هو مفرد كآنك (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أى بالعدل والتسوية (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلا ما يسعها ولا يعسر عليها وهو اعتراض* جىء به عقيب الأمر بالعدل للإيذان بأن مراعاة العدل كما هو عسير كأنه قيل عليكم بما فى وسعكم وما وراءه معفو عنكم (وَإِذا قُلْتُمْ) قولا فى حكومة أو شهادة أو نحوهما (فَاعْدِلُوا) فيه (وَلَوْ كانَ) أى المقول* له أو عليه (ذا قُرْبى) أى ذا قرابة منكم ولا تميلوا نحوهم أصلا وقد مر تحقيق معنى لو فى مثل هذا الموضع* مرارا (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أى ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أى عهد كان فيدخل فيه ما ذكر

١٩٩

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (١٥٤)

____________________________________

* دخولا أوليا أو ما عاهدتم الله عليه من الإيمان والنذور وتقديمه للاعتناء بشأنه (ذلِكُمْ) إشارة إلى* ما فصل من التكاليف ومعنى البعد لما ذكر فيما قبل (وَصَّاكُمْ بِهِ) أمركم به أمرا مؤكدا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تتذكرون ما فى تضاعيفه وتعملون بمقتضاه وقرىء بتشديد الذال وهذه أحكام عشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار. عن ابن عباس رضى الله عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شىء من جميع الكتب وهن محرمات على بنى آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار وعن كعب الأحبار والذى نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شىء فى التوراة بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ تَعالَوْا) الآيات (وَأَنَّ هذا صِراطِي) إشارة إلى ما ذكر فى الآيتين من الأمر والنهى قاله مقاتل وقيل إلى ما ذكر فى السورة فإنها بأسرها فى إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة وقرىء صراطى بفتح الياء ومعنى إضافته إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتسابه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث السلوك لا من حيث الوضع كما فى صراط الله والمراد بيان أن ما فصل من الأوامر والنواهى غير مختصة بالمتلو عليهم بل متعلقة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم* مستمر على العمل بها ومراعاتها وقوله تعالى (مُسْتَقِيماً) حال مؤكدة ومحل أن مع ما فى حيزها الجر بحذف* لام العلة أى ولأن هذا صراطى أى مسلكى مستقيما (فَاتَّبِعُوهُ) كقوله تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وتعليل اتباعه بكونه صراطه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بكونه صراط الله تعالى مع أنه فى نفسه كذلك من حيث أن سلوكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه داع للخلق إلى الاتباع إذ بذلك يتضح عندهم كونه صراط الله عزوجل وقرىء بكسر الهمزة على الاستئناف وقرىء أن هذا مخففة من أن على أن اسمها الذى هو ضمير الشأن محذوف* وقرىء سراطى وقرىء هذا صراطى وقرىء وهذا صراط ربكم وهذا صراط ربك (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) الأديان المختلفة أو طرق البدع والضلالات (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) بحذف إحدى التاءين والباء للتعدية أى فتفرقكم حسب تفرقها أيادى سبا فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من* الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه (عَنْ سَبِيلِهِ) أى سبيل الله الذى لا عوج فيه ولا حرج وهو دين الإسلام الذى ذكر بعض أحكامه وقيل هو اتباع الوحى واقتفاء البرهان وفيه تنبيه على أن صراطه* صلى‌الله‌عليه‌وسلم عين سبيل الله تعالى (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما مر من اتباع سبيله تعالى وترك اتباع سائر السبل (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) اتباع سبل الكفر والضلالة (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كلام مسوق من جهته تعالى تقريرا للوصية وتحقيقا لها وتمهيدا لما يعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله تعالى (ذلِكُمْ

٢٠٠