تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣)

____________________________________

فيها إلى أن ماتوا (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) عطف على ما سبق من قوله تعالى (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) موافق له فى تقديم المجرور على المنصوب وثمود قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم ابن سام بن نوح عليه‌السلام وقيل إنما سموا بذلك لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وقرىء بالصرف بتأويل الحى وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادى القرى وأخوة صالح عليه‌السلام لهم من حيث النسب كهود عليه‌السلام فإنه صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ولما كان الإخبار بإرساله عليه‌السلام إليهم مظنة لأن يسأل ويقال فماذا قال لهم قيل جوابا عنه بطريق الاستئناف (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) وقد مر الكلام فى نظائره (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) أى آية* ومعجزة ظاهرة شاهدة بنبوتى وهى من الألفاظ الجارية مجرى الأبطح والأبرق فى الاستغناء عن ذكر موصوفانها حالة الإفراد والجمع كالصالح إفرادا وجمعا وكذلك الحسنة والسيئة سواء كانتا صفتين للأعمال أو المثوبة أو الحالة من الرخاء والشدة ولذلك أو ليت العوامل وقوله تعالى (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق ب (جاءَتْكُمْ) او بمحذوف هو صفة لبينة كما مر مرارا والمراد بها الناقة وليس هذا الكلام منه عليه‌السلام أول ما خاطبهم إثر دعوتهم إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه ألا يرى إلى ما فى سورة هود من قوله تعالى (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) إلى آخر الآيات. روى أنه لما أهلكت عاد عمرت ثمود بلادها وخلفوهم فى الأرض وكثروا وعمروا أعمارا طوالا حتى إن الرجل كان بينى المسكن المحكم فينهدم فى حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا فى سعة ورخاء من العيش فعتوا على الله تعالى وأفسدوا فى الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله تعالى إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وصالح من أوساطهم نسبا فدعاهم إلى الله عزوجل فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا فى يوم معلوم لهم من السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال صالح عليه‌السلام نعم فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوا الاستجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة فى ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء والمخترجة التى شاكلت البخت فإن فعلت صدقناك وأجبناك فأخذ صالح عليه‌السلام عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وعظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها فى العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع أعقابهم ناس من رءوسهم أن نؤمنوا فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء

٢٤١

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧٤)

____________________________________

وكانت ترد غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها فى البئر فما ترفعها حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدخرون وكانت إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادى فيهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادى فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار لما أضرت به من مواشيهما وكانتا كثيرتى المواشى فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق سقيها حتى رقى جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا وكان صالح عليه‌السلام قال لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه فانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة وبعد غدو وجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من* السماء ورجفة من الأرض فنقطعت قلوبهم فهلكوا وقوله تعالى (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) استئناف مسوق لبيان البينة وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها ولمجيئها من جهته تعالى بلا أسباب معهودة ووسايط معتادة ولذلك كانت آية وأى آية ولكم بيان لمن هى آية له وانتصاب آية على الحالية والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن يكون (ناقَةُ اللهِ) بدلا من (هذِهِ) أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانيا ولكم خبرا عاملا فى آية* (فَذَرُوها) تفريع على كونها آية من آيات الله تعالى فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) جواب الأمر أى الناقة ناقة الله والأرض أرض الله تعالى فاتركوها تأكل ما تأكل فى أرض ربها فليس لكم أن تحولوا بينها وبينها وقرىء تأكل بالرفع على أنه فى موضع الحال أى آكلة فيها وعدم التعرض للشرب إما للاكتفاء عنه بذكر الأكل أو لتعميمه له أيضا كما فى قوله [علفتها تبنا وماء باردا] * وقد ذكر ذلك فى قوله تعالى (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) نهى عن المس الذى هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل لأنواع الأذية ونكر السوء مبالغة فى النهى أى لا تتعرضوا لها بشىء مما* يسوءها أصلا ولا تطردوها ولا تريبوها إكراما لآية الله تعالى (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جواب النهى ويروى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مر بالحجر فى غزوة تبوك قال لأصحابه لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذى أصابهم وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلى رضى الله عنه يا على أتدرى من أشقى الأولين قال الله ورسوله أعلم قال عاقر ناقة صالح أتدرى من أشقى الآخرين قال الله ورسوله أعلم قال قاتلك (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) * أى خلفاء فى الأرض أو خلفاء لهم كما مر (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أى جعل لكم مباءة ومنزلا فى أرض الحجر* بين الحجاز والشام (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) استئناف مبين لكيفية التبوئة أى تبنون فى سهولها* قصورا رفيعة أو تبنون من سهولة الأرض بما تعلمون منها من الرهص واللبن والآجر (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ)

٢٤٢

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧٧)

____________________________________

اى الصخور وقرىء تنحتون بفتح الحاء وتنحاتون بإشباع الفتحة كما فى قوله [ينباع من ذفرى أسيل حرة] والنحت نجر الشىء الصلب فانتصاب الجبال على المفعولية وانتصاب قوله تعالى (بُيُوتاً) على أنها حال* مقدرة منها كما تقول خطت هذا الثوب قميصا وقيل انتصاب الجبال على إسقاط الجار أى من الجبال وانتصاب بيوتا على المفعولية وقد جوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية قيل كانوا يسكنون السهول فى الصيف والجبال فى الشتاء (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) التى أنعم بها عليكم مما ذكر أو* جميع آلائه التى هذه من جملتها (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإن حق آلائه تعالى أن تشكر ولا* تهمل ولا يغفل عنها فكيف بالكفر والعثى فى الأرض بالفساد (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أى عتوا وتكبروا استئناف كما سلف وقرىء بالواو عطفا على ما قبله من قوله تعالى (قالَ يا قَوْمِ) الخ واللام فى قوله تعالى (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) للتبليغ وقوله تعالى (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الموصول* بإعادة العامل بدل الكل إن كان ضمير منهم لقومه وبدل البعض إن كان (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) على أن من المستضعفين من لم يؤمن والأول هو الوجه إذ لا داعى إلى توجيه الخطاب أولا إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم على أن الاستضعاف مختص بالمؤمنين أى قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) وإنما قالوه بطريق الاستهزاء بهم (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى مسارعة إلى تحقيق الحق وإظهار ما لهم من الإيمان الثابت المستمر الذى ينبىء عنه الجملة الاسمية وتنبيها على أن أمر إرساله من الظهور بحيث لا ينبغى أن يسأل عنه وإنما الحقيق بالسؤال عنه هو الإيمان به (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير إيذانا بأنهم قد قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وإنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون إظهارا لمخالفتهم إياهم وردا لمقالتهم* (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أى نحروها أسند العقر إلى الكل مع أن المباشر بعضهم للملابسة أو لأن ذلك لما كان برضاهم فكأنه فعله كلهم وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه بحيث أصابت غائلته الكل ما لا يخفى (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أى استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه‌السلام من الأمر والنهى (وَقالُوا) * مخاطبين له عليه‌السلام بطريق التعجيز والإفحام على زعمهم (يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أى من العذاب* والإطلاق للعلم به قطعا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فإن كونك من جملتهم يستدعى صدق ما تقول من*

٢٤٣

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٨٠)

____________________________________

الوعد والوعيد (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أى الزلزلة لكن لا أثر ما قالوا ما قالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى* من مبادىء العذاب فى الأيام الثلاثة حسبما مر تفصيله (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أى صاروا فى أرضهم وبلدهم* أو فى مساكنهم (جاثِمِينَ) خامدين موتى لاحراك بهم وأصل الجثوم البروك يقال الناس جثوم أى قعود لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة قال أبو عبيدة الجثوم للناس والطير والبروك للإبل والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم من غير اضطراب ولا حركة كما يكون عند الموت المعتاد ولا يخفى ما فيه من شدة الأخذ وسرعة البطش اللهم إنا بك نعوذ من نزول سخطك وحلول غضبك وجاثمين خبر لأصبحوا والظرف متعلق به ولا مساغ لكونه خبرا وجاثمين حالا لإفضائه إلى كون الإخبار بكونهم فى دارهم مقصودا بالذات وكونهم جاثمين قيدا تابعا له غير مقصود بالذات قيل حيث ذكرت الرجفة وحدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) إثر ما شاهد ما جرى عليهم تولى مغتم متحسر على* ما فاتهم من الإيمان متحزن عليهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) بالترغيب والترهيب* وبذلت فيكم وسعى ولكن لم تقبلوا منى ذلك وصيغة المضارع فى قوله تعالى (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) حكاية حال ماضية أى شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم خاطبهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل قليب بدر حيث قال إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا وقيل إنما تولى عنهم قبل نزول العذاب بهم عند مشاهدته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلاماته تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم على ما هم عليه وروى أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت وروى أنه خرج فى مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكى فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار وروى أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم (وَلُوطاً) منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق وعدم التعرض للمرسل إليهم مقدما على المنصوب حسبما وقع فيما سبق وما لحق قد مر بيانه فى قصة هود عليه‌السلام وهو لوط بن هاران بن تارخ بن أخى إبراهيم كان من أرض بابل من العراق مع عمه إبراهيم فهاجر إلى الشام فنزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن وهى كورة بالشام فأرسله الله تعالى إلى* أهل سدوم وهى بلد بحمص وقوله تعالى (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ظرف للمضمر المذكور أى أرسلنا لوطا إلى قومه وقت قوله لهم الخ ولعل تقييد إرساله عليه‌السلام بذلك لما أن إرساله إليهم لم يكن فى أول وصوله إليهم وقيل هو بدل من (لُوطاً) بدل اشتمال على أن انتصابه باذكر أى اذكر وقت قوله عليه‌السلام لقومه* (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) بطريق الإنكار التوبيخى التقريعى أى أتفعلون تلك الفعلة المتناهية فى القبح المتمادية فى

٢٤٤

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٨٢)

____________________________________

الشرية والسوء (ما سَبَقَكُمْ بِها) ما عملها قبلكم على أن الباء للتعدية كما فى قوله عليه‌السلام سبقك بها عكاشة* من قولك سبقته بالكرة أى ضربتها قبله ومن فى قوله تعالى (مِنْ أَحَدٍ) مزيدة لتأكيد النفى وإفادة معنى* الاستغراق وفى قوله تعالى (مِنَ الْعالَمِينَ) للتبعيض والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ* والتقريع فإن مباشرة القبيح قبيح واختراعه أقبح ولقد أنكر الله تعالى عليهم أولا إتيان الفاحشة ثم وبخهم بأنهم أول من عملها فإن سبك النظم الكريم وإن كان على نفى كونهم مسبوقين من غير تعرض لكونهم سابقين لكن المراد أنهم سابقون لكل من عداهم من العالمين كما مر تحقيقه مرارا فى نحو قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أو مسوقة جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل من جهتهم لم لا نأتيها فقيل بيانا للعلة وإظهارا للزاجر ما سبقكم بها أحد لغاية قبحها وسوء سبيلها فكيف تفعلونها قال عمرو بن دينار ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط قال محمد بن إسحق كانت لهم ثمار وقرى لم يكن فى الدنيا مثلها فقصدهم الناس فآذوهم فعرض لهم إبليس فى صورة شيخ إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فأبوا فلما ألح الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا صباحا فأخبثوا فاستحكم فيهم ذلك قال الحسن كانوا لا يفعلون ذلك إلا بالغرباء وقال الكلبى أول من فعل به ذلك الفعل إبليس الخبيث حيث تمثل لهم فى صورة شاب جميل فدعاهم إلى نفسه ثم عبثوا بذلك العمل (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) خبر مستأنف لبيان تلك الفاحشة وقرىء بهمزتين صريحتين وبتلبين الثانية بغير مد وبمد أيضا على أنه تأكيد للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ وفى زيادة إن واللام مزيد توبيخ وتقريع كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيدا قويا وفى إيراد لفظ الرجال دون الغلمان والمردان ونحوهما مبالغة فى التوبيخ وقوله تعالى (شَهْوَةً) مفعول له أو مصدر فى موقع* الحال وفى التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة وتنبيه على أن العاقل ينبغى له أن يكون الداعى له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لاقضاء الشهوة ويجوز أن يكون المراد الإنكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة كما ينبىء عنه قوله تعالى (مِنْ دُونِ النِّساءِ) أى متجاوزين النساء* اللاتى هن محل الاشتهاء كما ينبىء عنه قوله تعالى (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) إضراب عن* الإنكار المذكور إلى الإخبار بحالهم التى أفضتهم إلى ارتكاب أمثالها وهى اعتياد الإسراف فى كل شىء أو عن الإنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم أو عن محذوف أى لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أى المستكبرين منهم المتولين للأمر والنهى المتصدين للعقد والحل وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء مفرغ من أعم الأشياء أى ما كان جوابا من جهة قومه شىء من الأشياء* إلا قولهم أى لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور معرضين عن مخاطبته عليه‌السلام (أَخْرِجُوهُمْ) أى* لوطا ومن معه من أهله المؤمنين (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أى إلا هذا القول الذى يستحيل أن يكون جوابا لكلام*

٢٤٥

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٥)

____________________________________

لوط عليه‌السلام وقرىء برفع جواب على أنه اسم كان وإلا أن قالوا الخ خبرها وهو أظهر وإن كان الأول أقوى فى الصناعة لأن الأعراف أحق بالاسمية وأيا ما كان فليس المراد أنه لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن مقالات لوط عليه‌السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما هو المتسارع إلى الأفهام بل أنه لم يصدر عنهم فى المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينهم وبينه عليه‌السلام إلا هذه الكلمة الشنيعة وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من النزهات حسبما حكى عنهم فى سائر السور الكريمة وهذا هو الوجه فى* نظائره الواردة بطريق القصر وقوله تعالى (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) تعليل للأمر بالإخراج ووصفهم بالتطهير للاستهزاء والسخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش والخبائث والافتخار بما هم فيه من القذارة كما هو ديدن الشطار والدعار (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أى المؤمنين منهم (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من أهله فإنها* كانت تسر بالكفر (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أى الباقين فى ديارهم الهالكين فيها والتذكير للتغليب ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عن استثنائها من حكم الإنجاء كأنه قيل فماذا كان حالها فقيل كانت من الغابرين (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أى نوعا من المطر عجيبا وقد بينه قوله تعالى (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) قال أبو عبيدة مطر فى الرحمة وأمطر فى العذاب وقال الراغب مطر فى الخير وأمطر فى العذاب والصحيح أن أمطرنا بمعنى أرسلنا عليهم إرسال المطر قيل كانت المؤتفكة خمس مدائن وقيل كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة فأمطر الله عليهم الكبريت والنار وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم وقيل أمطر عليهم ثم خسف بهم وروى أن تاجرا منهم كان فى الحرم فوقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم* فوقع عليه وروى أن امرأته التفتت نحو ديارها فأصابها حجر فماتت (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجيبا من حالهم وتحذيرا من أعمالهم (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) عطف على قوله (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) وما عطف عليه وقد روعى ههنا ما فى المعطوف عليه من تقديم المجرور على المنصوب أى وأرسلنا إليهم وهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين وقيل شعيب بن ثويب بن مدين وقيل شعيب بن يثرون بن مدين وكان يقال له خطيب* الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل نحس للمكاييل والموازين مع كفرهم (قالَ) استئناف مبنى

٢٤٦

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٨٦)

____________________________________

على سؤال نشأ عن حكاية إرساله إليهم كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) مر تفسيره مرارا (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) أى معجزة وقوله تعالى (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق ب (جاءَتْكُمْ) أو بمحذوف* هو صلة لفاعله مؤكدة لفخامته الذاتية المستفادة من تنكيره بفخامته الإضافية أى بينة عظيمة ظاهرة كائنة من ربكم ومالك أموركم ولم يذكر معجزته عليه‌السلام فى القرآن العظيم كما لم يذكر أكثر معجزات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنها ما روى من محاربة عصا موسى عليه‌السلام التنين حين دفع إليه غنمه ومنها ولادة الغنم الدرع خاصة حين وعد أن يكون له الدرع من أولادها ومنها وقوع عصا آدم عليه‌السلام على يده فى المرات السبع لأن كل ذلك كان قبل أن يستنبأ موسى عليه‌السلام وقيل البينة مجيئه عليه‌السلام كما فى قوله تعالى (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أى حجة واضحة وبرهان نير عبر بهما عما آتاه الله من النبوة والحكمة (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أى المكيال كما وقع فى سورة هود ويؤيده قوله تعالى (وَالْمِيزانَ) فإن المتبادر* منه الآلة وإن جاز كونه مصدرا كالميعاد وقيل آلة الكيل والوزن على الإضمار والفاء لترتيب الأمر على مجىء البينة ويجوز أن تكون عاطفة على اعبدوا فإن عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهى التى معظهما بعد الكفر البخس الذى كانوا يباشرونه (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) التى تشترونها بهما* معتمدين على تمامهما أى شىء كان وأى مقدار كان فإنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير وقيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه قال زهير [أفى كل أسواق العراق أتاوة* وفى كل ما باع امرؤ مكس درهم](وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أى بالكفر والحيف (بَعْدَ إِصْلاحِها) * بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم بإجراء الشرائع أو أصلحوا فيها وإضافته إليها كإضافة مكر الليل والنهار (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا* أو فى الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والريح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا فى معاملتهم ومتاجرتهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أى مصدقين لى فى قولى هذا (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) أى بكل طريق من طرق الدين كالشيطان وصراط الحق وإن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع فى شىء منها منعوه وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيبا إنه كذاب لا يفتننك عن دينك ويتوعدون لمن آمن به وقيل يقطعون الطريق (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى السبيل الذى قعدوا عليه فوقع المظهر موقع المضمر بيانا لكل صراط ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه أو الإيمان بالله أو بكل صراط على أنه عبارة عن طرق الدين وقوله تعالى (مَنْ آمَنَ بِهِ) مفعول تصدون على أعمال الأقرب ولو كان مفعول* توعدون لقيل وتصدونهم وتوعدون حال من الضمير فى تقعدوا (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أى وتطلبون* لسبيل الله عوجا بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بأنها معوجة وهى أبعد شىء من شائبة الاعوجاج

٢٤٧

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (٨٨)

____________________________________

* (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) بالبركة فى النسل والمال (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم الماضية كقوم نوح ومن بعدهم من عاد وثمود وأضرابهم واعتبروا بهم (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) من الشرائع والأحكام (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) أى به أولم يفعلوا الإيمان (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) أى بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظ من شعيب عليه‌السلام فقيل قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه‌السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء عليه والامتناع من الطاعة له بل بالغين من العتو والاستكبار إلى أن قصدوا استتباعه عليه‌السلام فيما هم فيه وأتباعه* المؤمنين واجترءوا على إكراههم عليه بوعيد النفى وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيد القسمى (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بنسبة الإخراج إليه عليه‌السلام أولا وإلى المؤمنين ثانيا بعطفهم عليه تنبيها* على أصالته عليه‌السلام فى الإخراج وتبعيتهم له فيه كما ينبىء عنه قوله تعالى (مَعَكَ) فإنه متعلق بالإخراج لا بالإيمان وتوسيط النداء باسمه العلمى بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة* والطغيان أى والله لنخرجنك وأتباعك (مِنْ قَرْيَتِنا) بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة* والجوار وقوله تعالى (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) عطف على جواب القسم أى والله ليكونن أحد الأمرين البتة على أن المقصد الأصلى هو العود وإنما ذكر النفى والإجلاء لمحض القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه‌السلام لجواب الإخراج كأنهم قالوا لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخلوا فى ملتنا وإدخالهم له عليه‌السلام فى خطاب العود مع استحالة كونه عليه‌السلام فى ملتهم قبل ذلك إنما هو بطريق تغليب الجماعة على الواحد وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا إليها بصورة الطواعية* حذار الإخراج باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب (قالَ) استئناف كما* سبق أى قال عليه‌السلام ردا لمقالتهم الباطلة وتكذيبا لهم فى أيمانهم الفاجرة (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه لا لإنكار الواقع واستقباحه كالتى فى قوله تعالى (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) ويجوز أن يكون الاستفهام فيه باقيا على حاله وقد مر مرارا أن كلمة لو فى مثل هذا المقام ليست لبيان انتفاء الشىء فى الزمن الماضى لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف تعويلا على دلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هى لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق

٢٤٨

بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفى على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشىء متى تحقق مع المنافى القوى فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شىء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها وهذا معنى قولهم إنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال وهذا المعنى ظاهر فى الخبر الموجب والمنفى والأمر والنهى كما فى قولك فلان جواد يعطى ولو كان فقيرا أو بخيل لا يعطى ولو كان غنيا وكقولك أحسن إليه ولو أساء إليك ولا تهنه ولو أهانك لبقائه على حاله سالما عما يغيره وأما فيما نحن فيه ففيه نوع خفاء لتغيره بورود الإنكار عليه لكن الأصل فى الكل واحد إلا أن كلمة لو فى الصور المذكورة متعلقة بنفس الفعل المذكور قبلها وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو نفس مدلوله وأن الجملة حال من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما فى حيز لو مقرر على ما هو عليه من الاستبعاد بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمة لو متعلقة فيه بفعل مقدر يقتضيه المذكور وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو مدلوله لا مدلول المذكور وأن الجملة حال من ضميره لا من ضمير المذكور كما سيأتى وأن المقصود الأصلى إنكار مدلوله من حيث مقارنته للحالة المذكورة وأما تقدير مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة وأن ما فى حيز لو لا يقصد استبعاده فى نفسه بل يقصد الإشعار بأنه أمر مقرر إلا أنه أخرج مخرج الاستبعاد مبالغة فى الإنكار من جهة أن العود مما ينكر عند كون الكراهة أمرا مستبعدا فكيف به عند كونها أمرا محققا ومعاملة مع المخاطبين على معتقدهم لاستنزالهم من رتبة العناد وليس المراد بالكراهة مجرد كراهة المؤمنين للعود فى ملة الكفر ابتداء حتى يقال إنها معلومة لهم فكيف تكون مستبعدة عندهم بل إنما هى كراهتهم له بعد وعيد الإخراج الذى جعل قرينا للقتل فى قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا) الآية فإنهم كانوا يستبعدونها ويطمعون فى أنهم حينئذ يختارون العود خشية الإخراج إذ رب مكروه يختار عند حلول ما هو أشد منه وأفظع والتقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه فالجملة فى محل النصب على الحالية من ضمير الفعل المقدر حسبما أشير إليه إذ مآله أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أى حالة كانت غير أنه اكتفى بذكر الحالة الثانية التى هى أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعدا منه تنبيها على أنها هى الواقعة فى نفس الأمر وثقة بإغنائها عن ذكر الأولى إغناء واضحا لأن العود الذى تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى إن قلت النفى المستفاد من الاستفهام الإنكارى فيما نحن فيه بمنزلة صريح النفى ولا ريب فى أن الأولوية هناك معتبرة بالنسبة إلى النفى ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفى عند الحالة المسكوت عنها أعنى عدم الغنى هو عدم الإعطاء لا نفسه فكان ينبغى أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند عدم الكراهة عدم العود لا نفسه إذ هو الذى يدل عليه قولنا أنعود لأنه فى معنى لا نعود فلم اختلف الحال بينهما قلت لما أن مناط الأولوية هو الحكم

٢٤٩

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩)

____________________________________

الذى أريد بيان تحققه على كل حال وذلك فى مثال النفى عدم الإعطاء المستفاد من الفعل المنفى المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفس العود المستفاد من الفعل المقدر إذ هو الذى يقتضيه الكلام السابق أعنى قولهم لتعودن وأما الاستفهام فخارج عنه وارد عليه لإبطال ما يفيده ونفى ما يقتضيه لا أنه من تمامه كما فى صورة النفى وتوضيحه أن بين النفيين فرقا معنويا تختلف به أحكامهما التى من جملتها ما ذكر من اعتبار الأولوية فى أحدهما بالنسبة إلى نفسه وفى الآخر بالنسبة إلى متعلقه ولذلك لا تستقيم إقامة أحدهما مقام الآخر على وجه الكلية ألا يرى أنك لو قلت مكان أنعود فيها الخ لا نعود فيها ولو كنا كارهين لا ختل المعنى اختلالا فاحشا لأن مدلول الأول نفى العود المقيد بحال الكراهة ومدلول الثانى تقييد العود المنفى بها وذلك لأن حرف النفى يباشر نفس الفعل وينفيه وما يذكر بعده يرجع إليه من حيث هو منفى وأما همزة الاستفهام فإنها تباشر الفعل بعد تقييده بما بعده لما أن دلالتها على الإنكار والنفى ليست بدلالة وضعية كدلالة حرف النفى حتى يتعلق معناها بنفس الفعل الذى يليها ويكون ما بعده راجعا إليه من حيث هو منفى بل هى دلالة عقلية مستفادة من سياق الكلام فلا بد أن يكون ما يذكر بعد الفعل من موانعه ودواعى إنكاره ونفيه حتما ليكون قرينة صارفة للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكار والنفى ثم لما كان المقصود نفى الحكم على كل حال مع الاقتصار على ذكر بعض منها مغن عن ذكر ما عداها لاستلزام تحققه معه تحققه مع غيره بطريق الأولوية وكانت حال الكراهة عند كونها قيدا لنفس العود كذلك أى مغنيا عن ذكر سائر الأحوال ضرورة أن تحقق العود فى حال الكراهة مستلزم لتحققه فى حال عدمها البتة وعند كونها قيدا لنفيه بخلاف ذلك أى غير مغن عن ذكر غيرها ضرورة أن نفى العود فى حال الكراهة لا يستلزم نفيه فى غيرها بل الأمر بالعكس فإن نفيه فى حال الإرادة مستلزم لنفيه فى حال الكراهة قطعا استقام الأول لإفادته نفى العود فى الحالتين مع الاقتصار على ذكر ما هو مغن عن ذكر الأخرى ولم يستقم الثانى لعدم إفادته إياه على الوجه المذكور إن قيل فما وجه استقامتهما جميعا عند ذكر المعطوفين معا حيث يصح أن يقال لا نعود فيها لو لم نكن كارهين كما يصح أن يقال أنعود فيها لو لم نكن كارهين مع أن المقدر فى حكم الملفوظ قلنا وجهها أن كلا منهما يفيد معنى صحيحا فى نفسه لا أن معنى أحدهما عين معنى الآخر أو متلازمان متفقان فى جميع الأحكام كيف لا ومدلول الأول أن العود منتف فى الحالتين ومدلول الثانى مصحح لنفى العود فى الحالتين منتف وكلا المعنيين صحيح فى نفسه مصحح لنفى العود فى الحالتين مع ذكرهما معا غير أن الثانى مصحح لنفى العود فى الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة الكراهة على عكس المعنى الأول فإنه مصحح لنفيه فيهما مع الاقتصار على ذكر حالة الإرادة (قَدِ افْتَرَيْنا

٢٥٠

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)

____________________________________

عَلَى اللهِ كَذِباً) أى كذبا عظيما لا يقادر قدره (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) التى هى الشرك وجواب الشرط* محذوف لدلالة ما قبله عليه أى إن عدنا فى ملتكم (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) فقد افترينا على الله كذبا عظيما* حيث نزعم حينئذ أن لله تعالى ندا وليس كمثله شىء وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه من الإسلام باطل وأن ما كنتم عليه من الكفر حق وأى افتراء أعظم من ذلك وقيل إنه جواب قسم محذوف حذف عنه اللام تقديره والله لقد افترينا الخ (وَما يَكُونُ لَنا) أى وما يصح وما يستقيم لنا (أَنْ نَعُودَ فِيها) فى حال* من الأحوال أو فى وقت من الأوقات (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أى إلا حال مشيئة الله تعالى أو وقت مشيئته* تعالى لعودنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبىء عنه قوله تعالى (رَبُّنا) فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى* لهم مما ينبىء عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا وكذا قوله تعالى (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) فإن تنجيته تعالى لهم منها من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها وقيل معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا وقيل فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى وأيا ما كان فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها فى حيز الإمكان وخطر الوقوع بناء على كون مشيئته تعالى كذلك بل بيان استحالة وقوعها كأنه قيل وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وهيهات ذلك بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فهو محيط بكل ما كان وما سيكون من الأشياء التى من جملتها أحوال عباده وعزائمهم ونياتهم وما هو اللائق بكل واحد منهم فمحال من لطفه أن يشاء عودنا فيها بعد ما نجانا منها مع اعتصامنا به خاصة حسبما ينطق به قوله تعالى (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أى فى أن يثبتنا على ما نحن عليه من الإيمان ويتم* علينا نعمته بإنجائنا من الإشراك بالكلية وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار للمبالغة فى التضرع والجؤار وقوله تعالى (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) إعراض عن مقاولتهم إثر ما ظهر له عليه الصلاة* والسلام أنهم من العتو والعناد بحيث لا يتصور منهم الإيمان أصلا وإقبال على الله تعالى بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كل من الفريقين أى احكم بيننا بالحق والفتاحة الحكومة أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) تذييل* مقرر لمضمون ما قبله على المعنيين (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) عطف على (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ) الخ ولعل هؤلاء غير أولئك المستكبرين ودونهم فى الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيام بأمورهم حسبما يراه المستكبرون ويجوز أن يكون عين الأولين وتغيير الصلة لما أن مدار قولهم هذا هو الكفر كما أن مناط قولهم السابق هو الاستكبار أى قال أشرافهم الذين أصروا على الكفر لأعقابهم بعد ما شاهدوا صلابة شعيب عليه‌السلام ومن معه من المؤمنين فى الإيمان وخافوا أن يستتبوا قومهم تثبيطا لهم عن الإيمان به وتنفيرا لهم عنه على طريقة التوكيد القسمى والله (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) ودخلتم فى دينه وتركتم* دين آبائكم (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أى فى الدين لاشترائكم الضلالة بهداكم أو فى الدنيا لفوات ما يحصل* لكم بالبخس والتطفيف وإذن حرف جواب وجزاء معترض بين اسم إن وخبرها والجملة سادة مسد

٢٥١

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (٩٤)

____________________________________

جوابى الشرط والقسم الذى وطأته اللام (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أى الزلزلة وهكذا فى سورة العنكبوت وفى سورة هود (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) أى صيحة جبريل عليه‌السلام ولعلها من مبادى الرجفة فأسند هلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أى فى مدينتهم وفى سورة هود (فِي دِيارِهِمْ* (جاثِمِينَ) أى ميتين لا زمين لأماكنهم لا براح لهم منها (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم فيما سبق (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) وعقوبتهم بمقابلته* والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أى استؤصلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلا أى عوقبوا بقولهم ذلك وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده أبدا وقوله* تعالى (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير وإعادة الموصول والصلة كما هى لزيادة التقرير والإيذان بأن ما ذكر فى حيز الصلة هو الذى استوجب العقوبتين أى الذين كذبوه عليه‌السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا المتبعون له عليه الصلاة والسلام وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام كما وقع فى سورة هود من قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) الخ (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) قاله عليه الصلاة والسلام بعد ما هلكوا تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم ثم* أنكر على نفسه ذلك فقال (فَكَيْفَ آسى) أحزن حزنا شديدا (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أى مصرين على الكفر ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم أو قاله اعتذارا عن عدم شدة حزنه عليهم والمعنى لقد بالغت فى الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعى فى النصح والإشفاق فلم تصدقوا قولى فكيف آسى عليكم وقرىء أيسى بإمالتين (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ) إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم إثر بيان أحوال الأمم المذكورة تفصيلا ومن مزيدة لتأكيد النفى والصفة محذوفة أى من نبى كذب أو كذبه أهلها* (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) استثناء مفرغ من أعم الأحوال وأخذنا فى محل النصب من فاعل أرسلنا والفعل الماضى لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما فى هذه الآية أو مقارنة قد كما فى قولك مازيد إلا قد قام والتقدير وما أرسلنا فى قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء فى حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين

٢٥٢

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) (٩٧)

____________________________________

أهلها (بِالْبَأْساءِ) بالبؤس والفقر (وَالضَّرَّاءِ) بالضر والمرض لكن لا على معنى أن ابتداء الإرسال مقارن* للأخذ المذكور بل على أنه مستتبع له غير منفك عنه بالآخرة لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه حسبما فعلت الأمم المذكورة (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) كى يتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر* والعزة عن أكتافهم كقوله تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (ثُمَّ بَدَّلْنا) عطف على (أَخَذْنا) داخل فى حكمه (مَكانَ السَّيِّئَةِ) التى أصابتهم للغاية المذكورة (الْحَسَنَةَ) أى أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة الرخاء والسعة كقوله تعالى (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ (حَتَّى عَفَوْا) أى كثروا عددا وعددا من عفا النبات إذا كثر وتكاثف وأبطرتهم النعمة (قالُوا) غير* واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء من الله سبحانه (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) كما مسنا* ذلك وما هو إلا من عادة الدهر يعاقب فى الناس بين الضراء والسراء من غير أن يكون هناك داعية تؤدى إليهما أو تبعة تترتب عليهما ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها (فَأَخَذْناهُمْ) * إثر ذلك (بَغْتَةً) فجأة أشد الأخذ وأفظعه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بذلك ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره* كقوله تعالى (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) الآية وليس المراد بالأخذ بغتة إهلاكهم طرفة عين كإهلاك عاد وقوم لوط بل ما يعمه وما يمضى بين الأخذ وإتمام الإهلاك أيام كدأب ثمود (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) أى القرى المهلكة المدلول عليها بقوله تعالى فى قرى وقيل هى مكة وما حولها من القرى وقيل جنس القرى المنتظمة لما ذكر ههنا انتظاء أوليا (آمَنُوا) بما أوحى إلى أنبيائهم معتبرين بما جرى عليهم من الابتلاء* بالضراء والسراء (وَاتَّقَوْا) أى الكفر والمعاصى أو اتقوا ما أنذروا به على ألسنة الأنبياء ولم يصروا على* ما فعلوا من القبائح ولم يحملوا ابتلاء الله تعالى على عادات الدهر وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وحدوا الله واتقوا الشرك (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم* من كل جانب مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التى بعضها من السماء وبعضها من الأرض وقيل المراد المطر والنبات وقرىء لفتحنا بالتشديد للتكثير (وَلكِنْ كَذَّبُوا) أى ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا* وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه للثانى (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من أنواع الكفر والمعاصى* التى من جملتها قولهم قد مس آباءنا الخ وهذا الأخذ عبارة عما فى قوله تعالى (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) لا عن الجدب والقحط كما قيل فإنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) أى أهل القرى المذكورة

٢٥٣

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠)

____________________________________

على وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ما أتاهم من البأس لا أمن مجموع الأمم فإن كل طائفة منهم أصابهم بأس خاص بهم لا يتعداهم إلى غيرهم كما سيأتى والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه لا لإنكار الوقوع ونفيه كما قاله أبو شامة وغيره لقوله تعالى (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) والفاء للعطف على أخذناهم وما بينهما اعتراض توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ* المذكور مما كسبته أيديهم والمعنى أبعد ذلك الأخذ أمن أهل القرى (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) أى تبييتا أو وقت بيات أن مبيتا أو مبيتين وهو فى الأصل مصدر بمعنى البيتوتة ويجىء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم (وَهُمْ نائِمُونَ) حال من ضميرهم البارز أو المستتر فى بياتا (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) إنكار بعد إنكار للمبالغة فى التوبيخ والتشديد ولذلك لم يقل أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو ضحى وهم* يلعبون وقرىء أو بسكون الواو على الترديد (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) أى ضحوة النهار وهو فى الأصل* ضوء الشمس إذا ارتفعت (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أى يلهون من فرط الغفلة أو يشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) تكرير للنكير لزيادة التقرير ومكر الله تعالى استعارة لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا يحتسب والمراد به إتيان بأسه تعالى فى الوقتين المذكورين ولذلك عطف الأول والثالث بالفاء فى الإنكار فيهما متوجه إلى ترتب الأمن على الأخذ المذكور وأما الثانى فمن تتمة الأول* (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) أى الذين خسروا أنفسهم وأضاعوا فطرة الله التى فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر فى الآيات (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أى يخلفون من خلا قبلهم من الأمم المهلكة ويرثون ديارهم والمراد بهم اهل مكة ومن حولها وتعدية فعل الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللازم كأنه قيل اغفلوا ولم يفعل الهداية لهم الخ وإما لأنها بمعنى التبيين* والمفعول محذوف والفاعل على التقديرين هو الجملة الشرطية أى أو لم يبين لهم مآل أمرهم (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أى أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم أو بسبب ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وقرىء* نهد بنون العظمة فالجملة مفعوله (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) عطف على ما يفهم من قوله تعالى (أَوَلَمْ يَهْدِ) كأنه قيل لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التفكر والتأمل أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ولا يجوز عطفه على (أَصَبْناهُمْ) على أنه بمعنى طبعنا لإفضائه إلى نفى الطبع عنهم لأنه فى سياق جواب لو (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أى أخبار الأمم المهلكة فضلا عن التدبر والنظر فيها والاغتنام بما فى تضاعيفها من الهداية

٢٥٤

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) (١٠١)

____________________________________

(تِلْكَ الْقُرى) جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة لما قبلها من القصص منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أنتهم الرسل بالمعجزات الباهرة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المهلكة على أن اللام للعهد وهو مبتدأ وقوله تعالى (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) خبره وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد ومن* للتبعيض أى بعض أخبارها التى فيها عظة وتذكير وقيل تلك مبتدأ وللقرى خبره وما بعده حال أو خبر بعد خبر عند من يجوز كون الخبر الثانى جملة كما فى قوله تعالى (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء إليها مع أن المقصوص أنباء أهلها والمقصود بيان أحوالهم حسبما يعرب عنه قوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) لما أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل* أماكنهم أيضا بالخسف بها والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع والباء فى قوله تعالى (بِالْبَيِّناتِ) متعلقة إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أى ملتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتى كل رسول ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هى فيما بين الرسل وضمير الأمم والجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم أى وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة رسولهم الخاص بهم بالمعجزات البينة المتكثرة المتواردة عليهم الواضحة الدلالة على صحة رسالته الموجبة للإيمان حتما وقوله تعالى (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) بيان* لاستمرار عدم إيمانهم فى الزمان الماضى لا لعدم استمرار إيمانهم وترتيب حالتهم هذه على مجىء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل من الأفعال بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه فى الحقيقة لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث نحو وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب واللام لتأكيد النفى أى فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام فى وقت من الأوقات أن يؤمنوا بكل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عنوهم وشدة شكيمتهم فى الكفر والطغيان ثم إن كان المحكى عنهم آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم المذكور ههنا إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتى وبما أشير إليه بقوله تعالى (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) تكذيبهم من لدن مجىء الرسل إلى وقت الإصرار والعناد* وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول إيذانا بأنه بين بنفسه وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر المعجزات الباهرة التى كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أصحاب العقول والموصول الذى تعلق به الإيمان والتكذيب سلبا وإيجابا عبارة عن جميع الشرائع التى جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجىء الرسل الخ وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من جعل الموصول المذكور عبارة عن أصول الشرائع التى أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذى أثير لاستحالة تبدلها وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجىء رسلهم

٢٥٥

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٠٣)

____________________________________

أنهم ما كانوا فى زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا كلمة التوحيد قط بل كانت كل أمة من أولئك الأمم يتسامعون بها من بقايا من قبلهم فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجىء رسلهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقى بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافة الرسل فلأن يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أن ما عليه يدور فلك العذاب والعقاب هو التكذيب الواقع بعد الدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم فى الكفر والتكذيب وعلى كلا التقديرين فالضمائر الثلاثة متوافقة فى المرجع وقيل ضمير كذبوا راجع إلى أسلافهم والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء ولا يخفى ما فيه من التعسف وقيل المراد ما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) وقيل الباء للسببية وما مصدرية أى بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ولا يرد عليه ههنا ما ورد فى سورة يونس من مخالفة الجمهور بجعل ما المصدرية من قبيل الأسماء كما هو رأى* الأخفش وابن السراج ليرجع إليه الضمير فى به (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الطبع الشديد المحكم (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أى من المذكورين وغيرهم فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر وفيه تحذير للسامعين وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) أى أكثر الأمم المذكورين واللام متعلقة بالوجدان كما فى قولك ما وجدت له مالا أى ما صدفت له مالا ولا لقيته* أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى (مِنْ عَهْدٍ) لأنه فى الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا والأصل ما وجدنا عهدا كائنا لأكثرهم ومن مزيدة للاستغراق أى وما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد فإنهم نقضوا ما عاهدوا الله عليه عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بعهودهم بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون وقيل المراد بالعهد ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الآيات وإنزال الحجج وقيل ما عهدوا عند خطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فالمراد بأكثرهم كلهم وقيل الضمير للناس* والجملة اعتراض فإن أكثرهم لا يوفون بالعهود بأى معنى كان (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ) أى أكثر الأمم أى علمناهم كما فى قولك وجدت زيدا ذا حفاظ وقيل الأول أيضا كذلك وإن مخففة من إن وضمير الشأن* محذوف أى إن الشأن وجدناهم (لَفاسِقِينَ) خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود وعند الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أى ما وجدناهم إلا فاسقين (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) أى أرسلناه من بعد انقضاء

٢٥٦

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٠٥)

____________________________________

وقائع الرسل المذكورين أو من بعد هلاك الأمم المحكية والتصريح بذلك مع دلالة ثم على التراخى للإيذان بأن بعثه عليه الصلاة والسلام جرى على سنن السنة الإلهية من إرسال الرسل تترى وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر (بِآياتِنا) * متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول (بَعَثْنا) أو صفة لمصدره أى بعثناه عليه الصلاة والسلام ملتبسا بآياتنا أو بعثناه بعثا ملتبسا بها وهى الآيات التسع المفصلات التى هى العصا واليد البيضاء والسنون ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم حسبما سيأتى على التفصيل (إِلى فِرْعَوْنَ) هو لقب لكل من* ملك مصر من العمالقة كما أن كسرى لقب لكل من ملك فارس وقيصر لكل من ملك الروم واسمه قابوس وقيل الوليد بن مصعب بن ريان (وَمَلَأَهُ) أى أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم رسالته عليه* الصلاة والسلام لقومه كافة حيث كانوا جميعا مأمورين بعبادة رب العالمين عز سلطانه وترك العظيمة الشنعاء التى كان يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية لأصالتهم فى تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم فى الورود والصدور (فَظَلَمُوا بِها) أى كفروا بها أجرى الظلم مجرى الكفر لكونهما من وادو احد أو ضمن* معنى الكفر أو التكذيب أى ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها أو كفروا بها مكان الإيمان الذى هو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا وقيل ظلموا أنفسهم بسببها بأن عرضوها للعذاب الخالد أو ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان بها والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا ألا يرى إلى قوله تعالى (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) فكما أن ظلمهم بها مستتبع لتلك العاقبة* الهائلة كذلك حكاية ظلمهم بها مستتبع للأمر بالنظر إليها وكيف خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة والجملة فى حيز النصب بإسقاط الخافض أى فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم ووضع المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للإفساد (وَقالَ مُوسى) كلام مبتدأ مسوق لتفصيل ما أجمل فيما قبله من كيفية إظهار الآيات وكيفية عاقبة المفسدين (يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ) أى إليك (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) على* الوجه الذى مر بيانه (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) جواب عما ينساق إليه الذهن من حكاية ظلمهم بالآيات من تكذيبه إياه عليه الصلاة والسلام فى دعوى الرسالة وكان أصله حقيق على أن لا أقول الخ كما هو قراءة نافع فقلب للأمن من الإلباس كما فى قول من قال وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر أو لأن ما لزمك فقد لزمته أو للإغراق فى الوصف بالصدق والمعنى واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلى ناطقا به أو ضمن حقيق معنى حريص أو وضع على موضع الباء لإفادة التمكن كقولهم

٢٥٧

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (١٠٩)

____________________________________

رميت على القوس وجئت على حال حسنة ويؤيده قراءة أبى بالباء وقرىء حقيق أن لا أقول وقوله تعالى (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) استئناف مقرر لما قبله من كونه رسولا من رب العالمين وكونه حقيقا بقول الحق ولم يكن هذا القول منه عليه الصلاة والسلام وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر ههنا بل بعد ما جرى بينهما من المحاورة المحكية بقوله تعالى (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما) الآيات وقوله تعالى (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) الآيات وقد طوى ههنا ذكره للإيجاز ومن متعلقة إما بجئتكم على أنها لابتداء الغاية مجازا وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية المؤكدة لفخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمى وإضافة اسم الرب* إلى المخاطبين بعد إضافته فيما قبله إلى العالمين لتأكيد وجواب الإيمان بها (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أى فخلهم حتى يذهبوا معى إلى الأرض المقدسة التى هى وطن آبائهم وكان قد استعبدهم بعد انقراض الأسباط يستعملهم ويكلفهم الأفاعيل الشاقة فأنقذهم الله تعالى بموسى عليه الصلاة والسلام وكان بين اليوم الذى دخل يوسف مصر واليوم الذى دخله موسى عليهما‌السلام أربعمائة عام والفاء لترتيب الإرسال أو الأمر به على ما قبله من رسالته عليه‌السلام ومجيئه بالبينة (قالَ) استئناف وقع جوابا عن* سؤال ينساق إليه الكلام كأنه قيل فماذا قال فرعون له عليه‌السلام حين قال له ما قال فقيل قال (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) أى من عند من أرسلك كما تدعيه (فَأْتِ بِها) أى فأحضرها حتى تثبت بها رسالتك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فى دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضى إظهار الآية لا محالة (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أى ظاهر أمره لا يشك فى كونه ثعبانا وهو الحية العظيمة وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها فى الأصل كذلك. روى أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذى أرسلك خذه وأنا أؤمن بك وأرسل معك بنى إسرائيل فأخذه فعاد عصا (وَنَزَعَ يَدَهُ) أى من جيبه أو من تحت إبطه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أى بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمرها وذلك ما يروى أنه أرى فرعون يده وقال ما هذه فقال يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هى بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس وكان عليه‌السلام آدم شديد الأدمة وقيل بيضاء للناظرين لا أنها كانت بيضاء فى جبلتها (قالَ الْمَلَأُ

٢٥٨

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (١١٤)

____________________________________

مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) أى الأشراف منهم وهم أصحاب مشورته (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أى مبالغ فى علم السحر* ماهر فيه قالوه تصديقا لفرعون وتقريرا لكلامه فإن هذا القول بعينه معزى فى سورة الشعراء إليه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أى من أرض مصر (فَما ذا تَأْمُرُونَ) بفتح النون وما فى ما ذا فى محل النصب على أنه مفعول ثان لتأمرون بحذف الجار والأول محذوف والتقدير بأى شىء تأمروننى وهذا من كلام فرعون كما فى قوله تعالى (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أى فإذا كان كذلك فماذا تشيرون على فى أمره وقيل قاله الملأ من قبله بطريق التبليغ إلى العامة فقوله تعالى (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) على الأول وهو الأظهر حكاية لكلام الملأ الذين شاورهم فرعون وعلى الثانى لكلام العامة الذين خاطبهم الملأ ويأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم أى أخره وأخاه وعدم التعرض لذكره لظهور كونه معه حسبما ينادى به الآيات الأخر والمعنى أخر أمرهما وأصدرهما عنك حتى ترى رأيك فيهما وتدبر شأنهما وقرىء أرجئه وأرجه من أرجأه وأرجاه (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) قيل هى مدائن صعيد مصر وكان رؤساء* السحرة ومهرتهم بأقصى مدائن الصعيد وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنهم كانوا سبعين ساحرا أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه‌السلام بالموصل ورد ذلك بأن المجوسية ظهرت بزرادشت وهو إنما جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أى ماهر فى السحر وقرىء بكل سحار عليم والجملة جواب الأمر (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) بعد ما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به حسبما فى قوله تعالى (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) للإيذان بمسارعة فرعون إلى الإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال (قالُوا) استئناف منوط بسؤال نشأ* من حكاية مجىء السحرة كأنه قيل فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه فقيل قالوا مدلين بما عندهم واثقين بغلبتهم (إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) بطريق الإخبار بثبوت الأجر وإيجابه كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر* عظيم حينئذ أو بطريق الاستفهام التقريرى بحذف الهمزة وقرىء بإثباتها وقولهم إن كنا لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم فى الغلبة وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر أى إن كنا نحن الغالبين لا موسى (قالَ نَعَمْ) وقوله تعالى (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عطف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب

٢٥٩

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١٢٠)

____________________________________

كأنه قال إن لكم لأجرا وإنكم مع ذلك لمن المقربين للمبالغة فى الترغيب. روى أنه قال لهم تكونون أول من يدخل مجلسى وآخر من يخرج منه (قالُوا) استئناف كما مر كأنه قيل فماذا فعلوا بعد ذلك فقيل* قالوا متصدين لشأنهم مخاطبين لموسى عليه‌السلام (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) ما تلقى أولا (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أى لما نلقى أولا أو الفاعلين للإلقاء أولا خيروه عليه‌السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب وإظهارا للجلادة وأنه لا يختلف حالهم بالتقديم والتأخير ولكن كانت رغبتهم فى التقديم كما ينبىء عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتأكيد الضمير المتصل (قالَ أَلْقُوا) غير مبال بأمرهم* أى ألقوا ما تلقون (فَلَمَّا أَلْقَوْا) ما ألقوا (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) بأن خيلوا إليهم ما لا حقيقة له (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) * أى بالغوا فى إرهابهم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) فى بابه. روى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا كأنها حيات ملأت الوادى وركب بعضها بعضا (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) الفاء فصيحة أى فألقاها فصارة حية فإذا هى الآية وإنما حذف للإشعار بمسارعة موسى عليه‌السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء وصيغة المضارع لاستحضار صورة اللقف الهائلة والإفك الصرف والقلب عن الوجه المعتاد وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أى ما يأفكونه ويزورونه أو مصدرية وهى مع الفعل بمعنى المفعول روى أنها لما تلقفت ملء الوادى من الخشب والحبال ورفعها موسى فرجعت عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته الباهرة تلك الأجرام العظام أو فرقها أجزاء لطيفة قالت السحرة لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا (فَوَقَعَ الْحَقُّ) أى فثبت لظهور أمره (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله (فَغُلِبُوا) أى فرعون وقومه (هُنالِكَ) أى فى مجلسهم (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أى صاروا أذلاء مبهوتين أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين والأول هو الظاهر لقوله تعالى (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) فإن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعا أى خروا سجدا كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم كيف لا وقد

٢٦٠