تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٦٨)

____________________________________

أصلا من الأسرار الخفية ليست مما يقصد تبليغه إلى الناس أى فما بلغت شيئا من رسالته وانسلخت مما شرفت به من عنوان الرسالة بالمرة لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك فى حكم شىء واحد ولا ريب فى أن الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به ولأن كتمان بعضها إضاعة لما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض بذلك وقيل فكأنك ما بلغت شيئا منها كقوله تعالى (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) من حيث أن كتمان البعض والكل سواء فى الشناعة واستجلاب العقاب وقرىء فما بلغت رسالاتى وعن ابن عباس رضى الله عنهما إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتى وروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثنى الله برسالاته فضقت بها ذرعا فأوحى الله إلى إن لم تبلغ رسالاتى عذبتك وضمن لى العصمة فقويت وذلك قوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فإنه كما ترى عدة كريمة* بعصمته من لحوق ضررهم بروحه العزيز باعثة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجد فى تحقيق ما أمر به من التبليغ غير مكثرت بعداوتهم وكيدهم وعن أنس رضى الله عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال انصرفوا يأيها الناس فقد عصمنى الله من الناس وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) * تعليل لعصمته تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى لا يمكنهم مما يريدون بك من الأضرار وإيراد الآية الكريمة فى تضاعيف الآيات الواردة فى حق أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشافهتهم بها وخصوصا ما يتلوها من النص الناعى عليهم كمال ضلالتهم ولذلك أعيد الأمر فقيل (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) مخاطبا للفريقين (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أى دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه* ووضوح فساده وفى هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) * أى تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التى من جملتها دلائل رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشواهد نبوته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك وأما مراعاة أحكامهما المنسوخة فليست من إقامتهما فى شىء بل هى تعطيل لهما ورد لشهادتهما لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادة بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما وأن أحكامهما ما قرره النبى الذى بشر فيهما ببعثته وذكر فى تضاعيفهما نعوته فإذن إقامتهما بيان شواهد النبوة والعمل بما قررته الشريعة من الأحكام كما يفصح عنه قوله تعالى (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أى القرآن المجيد بالإيمان به فإن إقامة الجميع لا تتأتى بغير ذلك* وتقديم إقامة الكتابين على إقامته مع أنها المقصودة بالذات لرعاية حق الشهادة واستنزالهم عن رتبة الشقاق وإيراده بعنوان الإنزال إليهم لما مر من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به لا كما يزعمون من اختصاصه بالعرب وفى إضافة الرب إلى ضميرهم ما أشير إليه من اللطف فى الدعوة وقيل المراد بما

٦١

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٩)

____________________________________

أنزل إليهم كتب أنبياء بنى إسرائيل كما مر وقيل الكتب الإلهية فإنها بأسرها آمرة بالإيمان لمن صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن جماعة من اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألست تقرأ أن التوراة حق من عند الله تعالى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلى فقالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن* بغيرها فنزلت وقوله تعالى (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) جملة مستأنفة مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم فى المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولها والمراد بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ونسبة الإنزال إلى رسول الله* صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أى لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم فى الطغيان والكفر بما تبلغه إليهم فإن غائلته آيلة إليهم وتبعته حائقة بهم لا تتخطاهم وفى المؤمنين مندوحة لك عنهم ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ فى الكفر (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق لترغيب من عدا المذكورين فى الإيمان والعمل الصالح أى الذين آمنوا بألسنتهم فقط وهم المنافقون وقيل أعم من أن يواطئها قلوبهم أولا* (وَالَّذِينَ هادُوا) أى دخلوا فى اليهودية (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) جمع نصران وقد مر تفصيله فى سورة البقرة وقوله تعالى (وَالصَّابِئُونَ) رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخر عما فى حيز إن والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك كقوله [فإنى وقيار بها لغريب] وقوله[وإلا فاعلموا أنا وأنتم * بغاة ما بقينا فى شقاق] خلا أنه وسط بين اسم إن وخبرها دلالة على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك وقيل الجملة الآتية خبر للمتبدأ المذكور وخبر إن مقدر كما فى قوله[نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأى مختلف] وقيل النصارى مرفوع على الابتداء وقوله تعالى (وَالصَّابِئُونَ) عطفا عليه وهو مع خبره عطف على الجملة المصدرة بأن ولا مساغ لعطفه وحده على محل إن واسمها لاشتراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بأن والابتداء معا واعتذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكور خبرا لهما وأما إذا كان خبر المعطوف محذوفا فلا محذور فيه ولا على الضمير فى هادوا العدم التأكيد والفصل ولاستلزامه كون الصابئين هودا وقرىء والصابيون بياء صريحة وبتخفيف الهمزة وقرىء والصابون وهو من صبا يصبوا لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات فى دينهم وقرىء* والصابئين وقرىء يأيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون وقوله تعالى (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) إما فى محل الرفع على أنه مبتدأ خبره (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما فى صلته باعتبار لفظه والجملة

٦٢

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (٧٠)

____________________________________

خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف أى من آمن منهم وإما فى محل النصب على أنه بدل من اسم إن وما عطف عليه والخبر قوله تعالى (فَلا خَوْفٌ) والفاء كما فى قوله عز وعلا (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) الآية فالمعنى على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المنافقين وهو الأظهر من أحدث من هذه الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإن ذلك بمعزل من أن يكون إيمانا بهما وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان بهما فلا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب ولا هم يحزنون حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر فى الجملة الثانية مضارعا لما مر مرارا لأن النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا مطلق المتدينين بدين الإسلام المخلصين منهم والمنافقين فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة فى ترغيب الباقين فى الإيمان ببيان أن تأخرهم فى الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام وأما ما قيل المعنى من كان منهم فى دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه فما لا سبيل إليه أصلا كما مر تفصيله فى سورة البقرة (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أى بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم فى التوراة (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ذوى عدد كثير وأولى شأن خطير ليقرر وهم على مرعاة حقوق الميثاق ويطلعوهم على ما يأتون ويذرون فى دينهم ويتعهدوهم بالعظة والتذكير وقوله تعالى (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) جملة* شرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الأخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل وجواب الشرط محذوف كأنه قيل فماذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة فى الغنى والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه وقوله تعالى (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) * جواب مستأنف عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال كأنه قيل كيف فعلوا بهم فقيل فريقا منهم كذبوهم من غير أن يتعرضوا لهم بشىء آخر من المضار وفريقا آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضا وإنما أوثر عليه صيغة المضارع على حكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها الهائلة للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر وللمحافظة على رءوس الآى الكريمة وتقديم فريقا فى الموضعين للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا وأما

٦٣

(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٧١)

____________________________________

جعل الشرطية صفة لرسلا كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلا ضرورة أن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم وتجعل عنوانا للموصوف تتمة له فى إثبات أمر آخر له ولذلك يجب أن يكون الوصف معلوم الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفا له ومن ههنا قالوا إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف ولا ريب فى أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عرضة للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه تعالى أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أى حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما أتوا من الداهية الدهياء والخطة الشنعاء بلاء وعذاب وقرىء لا تكون بالرفع على أن أن هى المخففة من أن واسمها ضمير الشأن المحذوف وأصله أنه لا تكون فتنة وتعليق فعل الحسبان بها وهى للتحقيق لتنزيله* منزلة العلم لكمال قوته وأن بما فى حيزها ساد مسد مفعوليه (فَعَمُوا) عطف على حسبوا والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أى أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا فى فنون الغى والفساد وعموا عن الدين* بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة وبينوا لهم مناهجه الواضحة (وَصَمُّوا) عن استماع الحق الذى ألقوه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتى إفساد بنى إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعياء وقيل حبسوا أرمياء عليهما‌السلام لا إلى عبادتهم العجل كما قيل فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها فى عصر موسى عليه‌السلام* ولا تعلق لها بما حكى عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه‌السلام بأعصار (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصر أسارى فى غاية الذل والمهابة فوجه الله عزوجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمره ونجى بقايا بنى إسرائيل من أسر بخت نصر بعد مهلكة وردهم إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم فى الأكناف فعمروه ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه وقيل لما ورث بهمن ابن اسفنديار الملك من جده كستاسف ألقى الله عزوجل فى قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليه‌السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر فقامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال وذلك قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) وأما ما قيل من أن المراد قبول توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلق له بالمقام ولم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها فى ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيدا لبيان* نقضهم إياها بقوله تعالى (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتى إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم‌السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لما عرفت سره فإن فنون

٦٤

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٧٢)

____________________________________

الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حكى عنهم ههنا فى المرتين وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم‌السلام يقضى بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب وفرىء عموا وصموا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أى رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما يقال نزكته إذا ضربته بالنيزك وركبته إذا ضربته بركبتك وقوله تعالى (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير فى الفعلين وقيل خبر مبتدأ محذوف* أى أولئك كثير منهم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أى بما عملوا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية* استحضارا لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفى بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل فى سورة بنى إسرائيل والمعنى حسبوا أن لا يصيبهم عذاب ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات والله بصير بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها ومن أين لهم ذلك الحسبان الباطل ولقد وقع ذلك فى المرة الأولى حيث سلط الله تعالى عليهم بخت نصر عامل لهراسب على بابل وقيل جالوت الجزرى وقيل سنجاريب من أهل نينوى والأول هو الأظهر فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرضه فبقوا هناك على أقصى ما يكون من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبة صحيحة فردهم الله عزوجل إلى ما حكى عنهم من حسن الحال ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد فبعث الله تعالى عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه خيدرود وقيل خيدروس ففعل بهم ما فعل قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلى فسألهم فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال ما صدقونى فقتل عليه ألوفا منهم ثم قال إن لم تصدقونى ما تركت منكم أحدا فقالوا إنه دم يحيى عليه‌السلام فقال بمثل هذا ينتقم الله تعالى منكم ثم قال يا يحيى قد علم ربى وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بأذن الله تعالى قبل أن لا أبقى أحدا منهم فهدأ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) شروع فى تفصيل قبائح النصارى وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء هم الذين قالوا إن مريم ولدت إلها قيل هم الملكانية والمار يعقوبية منهم وقيل هم اليعقوبية خاصة قالوا ومعنى هذا أن الله تعالى حل فى ذات عيسى واتحد بذاته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (وَقالَ الْمَسِيحُ) * حال من فاعل قالوا بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به أى قالوا ذلك وقد قال المسيح مخاطبا لهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فإنى* عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقى وخالقكم (إِنَّهُ) أى الشأن (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أى شيئا فى عبادته أو فيما* يختص به من صفات الألوهية (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فلن يدخلها أبدا كما لا يصل المحرم عليه إلى

٦٥

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣)

____________________________________

* المحرم فإنها دار الموحدين وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة (وَمَأْواهُ النَّارُ) فإنها هى المعدة للمشركين وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أى مالهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فى الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا ووضعه على الأول موضع الضمير للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق والجملة تذييل مقرر لما قبله وهو إما من تمام كلام عيسى عليه‌السلام وإما وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليه‌السلام وتقريرا لمضمونها وقد قيل إنه من كلامه عزوجل على معنى أنهم ظلموا وعدلوا عن سبيل الحق فيما تقولوا على عيسى عليه‌السلام فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ورده وأنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره أو من قول عيسى عليه‌السلام على معنى لا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول وأنت خبير بأن التعبير عما حكى عنه عليه‌السلام من مقابلته لقولهم الباطل بصريح الرد والإنكار والوعيد بحرمان الجنة ودخول النار بمجرد عدم مساعدته على ذلك ونفى نصرته له مع خلوه عن الفائدة تصوير للقوى بصورة الضعيف وتهوين للخطب فى مقام تهويله بل ربما يوهم ذلك بحسب الظاهر ما لا يليق بشأنه عليه‌السلام من توهم المساعدة والنصرة لا سيما مع ملاحظة قوله وإن كانوا معظمين له الخ إلا أن يحمل الكلام على التهكم بهم وكذا الحال على تقدير كونه من تمام كلامه عليه‌السلام فإن زجره عليه‌السلام إياهم عن قولهم الفاسد بما ذكر من عدم الناصر والمساعد بعد زجره إياهم بما مر من الرد الأكيد والوعيد الشديد بمعزل من الإفادة والتأثير ولا سبيل ههنا إلا الاعتذار بالتهكم (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) شروع فى بيان كفر طائفة أخرى منهم ومعنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا لا الثالث والرابع خاصة ولذلك منع الجمهور أن ينصب ما بعده بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة وإنما ينصبه إذا كان ما بعده دونه بمرتبة كما فى قولك عاشر تسعة وتاسع ثمانية قيل إنهم يقولون إن الإلهية مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وعيسى ومريم وكل واحد من هؤلاء إله ويؤكده قوله تعالى للمسيح (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) * فقوله تعالى (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أى أحد ثلاثة آلهة وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أى والحال أنه ليس فى الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة ومن مزيدة للاستغراق وقيل إنهم يقولون الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وإنهم يريدون بالأول الذات وقيل

٦٦

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٧٥)

____________________________________

الوجود وبالثانى العلم وبالثالث الحياة فمعنى قوله تعالى (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) إلا إله واحد بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) من الكفر الشنيع ولم يوحدوا وقوله* تعالى (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب قسم محذوف سادمسد جواب الشرط أى وبالله إن لم ينتهوا ليمسنهم* وإنما وضع موضع ضميرهم الموصول لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن فى قوله تعالى (مِنْهُمْ) بيانية أو* ليمسن الذين بقوا منهم على ما كانوا عليه من الكفر فمن تبعيضية وإنما جىء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى عليه بالقلع من نص عيسى عليه‌السلام وغيره كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر (عَذابٌ أَلِيمٌ) أى نوع شديد الألم من العذاب وهمزة* الاستفهام فى قوله تعالى (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) لإنكار الواقع واستبعاده لا لإنكار الوقوع وفيه تعجيب من إصرارهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول فمدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء وعدم التوبة معا أو أيسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك فمدارهما عدم التوبة عقيب تحقق ما يوجبها من سماع تلك القوراع الهائلة وقوله عزوجل (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة حالية من فاعل يستغفرونه مؤكدة للإنكار* والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار أى والحال أنه تعالى مبالغ فى المغفرة فيغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) استئناف مسوق لتحقيق الحق الذى لا محيد عنه وبيان حقيقة حاله عليه‌السلام وحال أمه بالإشارة أولا إلى أشرف ما لهما من نعوت الكمال التى بها صارا من زمرة أكمل أفراد الجنس وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفراد البشر بل أفراد الحيوان استنزالهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار على ما تقولوا عليهما وإرشادا لهم إلى التوبة والاستغفار أى هو مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها وقوله تعالى (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة لرسول منبئة عن اتصافه بما ينافى الألوهية فإن خلو الرسل السالفة عليهم‌السلام منذر بخلوه المقتضى لاستحالة ألوهيته أى ما هو إلا رسول كالرسل الخالية من قبله خصه الله تعالى ببعض من الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها فإن أحيى الموتى على يده فقد أحيى العصا فى يد موسى عليه‌السلام وجعلت حية تسعى وهو أعجب منه وإن خلق من غير أب فقد خلق آدم من غير أب ولا أم وهو أغرب منه وكل ذلك من جنابه عزوجل وإنما موسى وعيسى مظاهر لشئونه وأفعاله (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أى* وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللاتى يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن فى الاتصاف به فما رتبتهما

٦٧

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٧٧)

____________________________________

إلا رتبة بشرين أحدهما نبى والآخر صحابى فمن أين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواصهم* (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) استئناف مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر فى الاحتياج إلى ما يحتاج* إليه كل فرد من أفراده بل من أفراد الحيوان وقوله تعالى (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب وكيف معمول لنبين والجملة فى حيز النصب معلقة لا نظر أى انظر كيف نبين لهم الآيات الباهرة* المنادية ببطلان ما تقولوا عليهما نداء يكاد يسمعه صم الجبال (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أى كيف يصرفون عن استماعها والتأمل فيها والكلام فيه كما فيما قبله وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة فى التعجيب وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أى إن بياننا للآيات أمر بديع فى بابه بالغ لأقاصى الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح وإعراضهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها أعجب وأبدع (قُلْ) أمر* له عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم إثر تعجيبه من أحوالهم (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أى متجاوزين* إياه وتقديمه على قوله تعالى (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والموصول عبارة عن عيسى عليه‌السلام وإيثاره على كلمة من لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزل من الألوهية رأسا ببيان انتظامه عليه‌السلام فى سلك الأشياء التى لا قدرة لها على شىء أصلا وهو عليه‌السلام وإن كان يملك ذلك بتمليكه تعالى إياه لكنه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر به الله تعالى من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصحة وتقديم الضرر على النفع لأن التحرز عنه أهم من* تحرى النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير وقوله تعالى (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) حال من فاعل أتعبدون مؤكد للإنكار والتوبيخ ومقرر للإلزام والتبكيت والرابط هو الواو أى أتشركون بالله تعالى ما لا يقدر على شىء من ضركم ونفعكم والحال أن الله تعالى هو المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التى من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة والأعمال السيئة وبالقدرة الباهرة على جميع المقدورات التى من جملتها مضاركم ومنافعكم فى الدنيا والآخرة (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى فريقى أهل الكتاب بطريق الالتفات على لسان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إبطال مسلك كل منهما للمبالغة فى زجرهم عما سلكوه من المسلك الباطل وإرشادهم إلى الأمم* المئئاة (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) أى لا تتجاوزوا الحد وهو نهى للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا فى حقه من العظيمة ولليهود عن وضعهم له عليه‌السلام عن رتبته العلية إلى ما تقولوا عليه من الكلمة الشنعاء وقيل هو خاص بالنصارى كما فى سورة النساء فذكرهم بعنوان أهلية الكتاب لتذكير أن

٦٨

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٧٩)

____________________________________

الإنجيل أيضا يهاهم عن الغلو وقوله تعالى (غَيْرَ الْحَقِّ) نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى لا تغلوا* فى دينكم غلوا غير الحق أى غلوا باطلا أو حال من ضمير الفاعل أى لا تغلوا مجاوزين الحق أو من دينكم أى لا تغلوا فى دينكم حال كونه باطلا وقيل نصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) هم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى على القولين قبل مبعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شريعتهم (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أى قوما كثيرا ممن شايعهم فى الزيغ والضلال أو* إضلالا كثيرا والمفعول محذوف (وَضَلُّوا) عند بعثة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوضيح محجة الحق وتبيين مناهج* الإسلام (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى* العقل والثانى إلى ضلالهم عما جاء به الشرع (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى لعنهم الله عزوجل وبناء الفعل للمفعول للجرى على سنن الكبرياء (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل كفروا* وقوله تعالى (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) متعلق بلعن أى لعنهم الله تعالى فى الزبور والإنجيل* على لسانهما وقبل إن أهل أيلة لما اعتدوا فى السبت دعا عليهم داود عليه‌السلام وقال اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخهم الله قردة وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه‌السلام اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبى (ذلِكَ) إشارة إلى اللعن المذكور وإيثاره على الضمير للتنبيه على كمال ظهوره* وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه فى سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته فى الشناعة والهول وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) والجملة مستأنفة واقعة* موقع الجواب عما نشأ من الكلام كأنه قيل بأى سبب وقع ذلك فقيل ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر كما يفيده الجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل وينبىء عنه قوله تعالى (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) فإنه استئناف مفيد بعبارته لاستمرار عدم التناهى عن المنكر ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطى المنكرات وليس المراد بالتناهى أن ينهى كل واحد منهم الآخر عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل بل مجرد صدور النهى عن أشخاص متعددة من غير اعتبار أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا كما فى تراءوا الهلال وقيل التناهى بمعنى الانتهاء يقال تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع عنه وتركه فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء ومفيدة لاستمرارهما صريحا وعلى الأول مفيدة لاستمرار انتفاء النهى عن المنكر بأن لا يوجد فيما بينهم من يتولاه فى وقت من الأوقات ومن ضرورته استمرار فعل المنكر حسبما سبق وعلى كل تقدير فما يفيده تنكير المنكر من الوحدة

٦٩

(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١)

____________________________________

نوعية لا شخصية فلا يقدح وصفه بالفعل الماضى فى تعلق النهى به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهى والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحققه فى ضمن أى فرد كان من أفراده على أن المضى المعتبر فى الصفة إنما هو بالنسبة إلى زمان النزول لا إلى زمان النهى حتى يلزم كون النهى بعد الفعل فلا حاجة إلى تقدير المعاودة أو المثل أو جعل الفعل عبارة عن الإرادة على أن المعاودة كالنهى لا تتعلق بالمنكر المفعول فلا بد من المصير إلى أحد ما ذكر من الوجهين أو إلى تقدير المثل أو إلى جعل الفعل عبارة* عن إرادته وفى كل ذلك تعسف لا يخفى (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) تقبيح لسوء أعمالهم وتعجيب منه بالتوكيد القسمى كيف لا وقد أداهم إلى ما شرح من اللعن الكبير وليس فى تسببه بذلك دلالة على خروج كفرهم عن السببية مع الإشارة إلى سببيته له فيما سبق من قوله تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فإن إجراء الحكم على الموصول مشعر بعلية ما فى حيز الصلة له لما أن ما ذكر فى حيز السببية مشتمل على كفرهم أيضا (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أى من أهل الكتاب ككعب بن الأشرف وأضرابه حيث خرجوا إلى مشركى مكة ليتفقوا على محاربة* النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرؤية بصرية وقوله تعالى (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) حال من كثيرا لكونه موصوفا أى يوالون المشركين بغضا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وقيل من منافقى أهل الكتاب يتولون اليهود وهو* قول ابن عباس رضى الله عنهما ومجاهد والحسن وقيل يوالون المشركين ويصافونهم (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) لبئس شيئا قدموا ليردوا عليه يوم القيامة (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو المخصوص بالذم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شىء واحد ومبالغة فى الذم أى موجب سخطه تعالى ومحله الرفع على الابتداء والجملة قبله خبره والرابط عند من يشترطه هو العموم أو لا حاجة إليه لأن الجملة عين المبتدأ أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ينبىء عنه الجملة المتقدمة كأنه قيل ما هو أو أى شىء هو فقيل هو أن سخط الله عليهم وقيل المخصوص بالذم محذوف وما اسم تام معرفة فى محل رفع بالفاعلية لفعل الذم وقدمت لهم أنفسهم جملة فى محل الرفع على أنها صفة للمخصوص بالذم قائمة مقامه والتقدير لبئس الشىء شىء قدمته لهم أنفسهم فقوله تعالى (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بدل من شىء المحذوف وهذا مذهب سيبويه (وَفِي الْعَذابِ) أى عذاب جهنم (هُمْ خالِدُونَ) أبد الآبدين (وَلَوْ كانُوا) * أى الذين يتولون المشركين من أهل الكتاب (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ) أى نبيهم (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) من* الكتاب أولو كان المنافقون يؤمنون بالله ونبينا إيمانا صحيحا (مَا اتَّخَذُوهُمْ) أى المشركين أو اليهود (أَوْلِياءَ) * فإن الإيمان بما ذكر وازع عن توليهم قطعا (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أو متمردون فى النفاق مفرطون فيه.

٧٠

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٨٢)

____________________________________

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعراقتهم فى الكفر وسائر أحوالهم الشنيعة التى من جملتها موالاتهم للمشركين أكدت بالتوكيد القسمى اعتناء ببيان تحقق مضمونها والخطاب إما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد صالح له إيذانا بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس والوجدان متعد إلى اثنين أحدهما أشد الناس والثانى اليهود وما عطف عليه وقيل بالعكس لأنهما فى الأصل مبتدأ وخبر ومصب الفائدة هو الخبر لا المبتدأ ولا ضير فى التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وههنا دليل واضح عليه وهو أن المقصود بيان كون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لا كون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكورتين وأنت خبير بأنه بمعزل من الدلالة على ذلك كيف لا والإفادة فى الصورة الثانية أتم وأكمل مع خلوها عن تعسف التقديم والتأخير إذا المعنى أنك إن قصدت أن تعرف من أشد الناس عداوة للمؤمنين وتتبعت أحوال الطوائف طرا وأحطت بما لديهم خبرا وبالغت فى تعرف أحوالهم الظاهرة والباطنة وسعيت فى تطلب ما عندهم من الأمور البارزة والكامنة لتجدن الأشد تينك الطائفتين لا غير فتأمل واللام الداخلة على الموصول متعلقة بعداوة مقوية لعملها ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء مبنية عليها كما فى قوله ورهبة عقابك وقيل متعلقة بمحذوف هو صفة لعداوة أى كائنة للذين آمنوا وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهما كهم فى اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم وفى تقديم اليهود على المشركين بعد لزهما فى قرن واحد إشعار بتقدمهم عليهم فى العداوة كما أن فى تقديمهم عليهم فى قوله تعالى (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إيذانا بتقدمهم عليهم فى الحرص (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) أعيد الموصول مع صلته روما لزيادة التوضيح والبيان (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) عبر* عنهم بذلك إشعارا بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام وعلى هذه النكتة مبنى الوجه الثانى فى تفسير قوله تعالى (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) والكلام فى مفعولى لتجدن وتعلق اللام كالذى سبق والعدول عن جعل ما فيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا ولتجدن أضعفهم عداوة الخ أو بأن يقال أولا لتجدن أبعد الناس مودة الخ للإيذان بكمال تباين ما بين الفريقين من التفاوت ببيان أن أحدهما فى أقصى مراتب أحد النقيضين والآخر فى أقرب مراتب النقيض الآخر (ذلِكَ) أى كونهم* أقرب مودة للمؤمنين (بِأَنَّ مِنْهُمْ) أى بسبب أن منهم (قِسِّيسِينَ) وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم* والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشىء إذا تتبعه وطلبه بالليل سموا به لمبالغتهم فى تتبع العلم قاله الراغب وقيل القس بفتح القاف تتبع الشىء ومنه سمى عالم النصارى قسيسا لتتبعه العلم وقيل قص الأثر وقسه بمعنى وقيل

٧١

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (٨٤)

____________________________________

إنه أعجمى وقال قطرب القس والقسيس العالم بلغة الروم وقيل ضيعت النصارى الإنجيل وما فيه وبقى منهم* رجل يقال له قسيسا لم يبدل دينه فمن راعى هديه ودينه قيل له قسيس (وَرُهْباناً) وهو جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان وقيل إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأنشد فيه قول من قال[لو عاينت رهبان دير فى قلل * لأقبل الرهبان يعدو ونزل] والترهب التعبد فى الصومعة قال الراغب الرهبانية الغلو فى تحمل التعبد من فرط الخوف والتنكير لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها فى القسيسين أيضا إذهى التى تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لا تصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون ألا يرى إلى عبد الله بن سلام وأضرابه قال تعالى (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) الخ لكنهم لما لم يكونوا فى الكثرة كالذين من النصارى* لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عطف على أن منهم أى وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموا ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود وهذه الخصلة شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كان ذلك من كافر (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) عطف على لا يستكبرون أى ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأن أعينهم تفيض من الدمع عند سماع القرآن وهو بيان لرقة قلوبهم* وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أى تمتلىء بالدمع فاستعير له الفيض الذى هو الانصباب عن امتلاء مبالغة أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها* تفيض بأنفسها (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) من الأولى لابتداء الغاية والثانية لتبيين الموصول أى ابتدأ الفيض ونشأ من معرفة الحق وحصل من أجله وبسببه ويحتمل أن تكون الثانية تبعيضية لأن ما عرفوه بعض الحق وحيث أبكاهم ذلك فما ظنك بهم لو عرفوا كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة وقرىء ترى أعينهم* على صيغة المبنى للمفعول (يَقُولُونَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن* كأنه قيل ماذا يقولون فقيل يقولون (رَبَّنا آمَنَّا) بهذا أو بمن أنزل هذا عليه أو بهما وقيل حال من الضمير فى عرفوا أو من الضمير المجرور فى أعينهم لما أن المضاف جزؤه كما فى قوله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أى الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته أو مع أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم فى الإنجيل كذلك (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ) كلام مستأنف قالوه تحقيقا لإيمانهم وتقريرا له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن قوله تعالى (لا نُؤْمِنُ) حال من الضمير فى (لَنا) والعامل ما فيه من الاستقرار أى أى شىء حصل لنا

٧٢

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧)

____________________________________

غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفى إلى السبب والمسبب جميعا كما فى قوله تعالى (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقق المسبب كما فى قوله تعالى (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وأمثاله فإن همزة الاستفهام كما تكون تارة لإنكار الواقع كما فى أتضرب أباك وأخرى لإنكار الوقوع كما فى أأضرب أبى كذلك ما الاستفهامية قد تكون لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط كما فى الآية الثانية وقوله تعالى (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) فيكون مضمون الجملة الحالية محققا فإن كلا من عدم الإيمان وعدم الرجاء أمر محقق قد أنكر ونفى سببه وقد يكون الإنكار سبب الوقوع ونفيه فيسريان إلى المسبب أيضا كما فى الآية الأولى فيكون مضمون الجملة الحالية مفروضا قطعا فإن عدم العبادة أمر مفروض حتما وقوله تعالى (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ والعامل فيها* هو العامل فى الأولى مقيدا بها أى أى شىء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع فى صحبة الصالحين أو من الضمير فى لا نؤمن على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون فى صحبة المؤمنين وقيل معطوف على نؤمن على معنى أنهم وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع المذكور

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) أى عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أى معتقده وقرىء فآتاهم الله (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أى الذين أحسنوا النظر والعمل أو الذين اعتادوا الإحسان فى الأمور. والآيات الأربع روى أنها نزلت فى النجاشى وأصحابه بعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابه فقرأه ثم دعا جعفر بن أبى طالب والمهاجرين معه وأحضر القسيسين والرهبان فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن وقيل نزلت فى ثلاثين أو سبعين رجلا من قومه وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليهم سورة مريم فبكوا وآمنوا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) عطف التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها جمعا بين الترغيب والترهيب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أى ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الترهب ترغيب المؤمنين فى كسر النفس ورفض الشهوات عقب ذلك بالنهى عن الإفراط فى الباب أى لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم فى العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف القيامة لأصحابه يوما فبالغ وأشبع الكلام فى الإنذار فرقوا واجتمعوا فى بيت

٧٣

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩)

____________________________________

عثمان بن مظعون واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ويسيحوا فى الأرض ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم إنى لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإنى أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتى النساء فمن رغب* عن سنتى فليس منى فنزلت (وَلا تَعْتَدُوا) أى ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا فى تناول الطيبات أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلما فنهى عن مطلق الاعتداء ليدخل تحته* النهى عن تحريمها دخولا أوليا لوروده عقيبه أو أريدو لا تعتدوا بذلك (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تعليل لما قبله (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أى ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالا مفعول كلوا ومما رزقكم إما حال منه تقدمت عليه لكونه نكرة أو متعلق بكلوا ومن ابتدائية أو هو المفعول وحلالا حال من الموصول أو من عائده المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أى أكلا حلالا وعلى الوجوه كلها لو لم* يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) توكيد للوصية بما أمر به فإن الإيمان به تعالى يوجب المبالغة فى التقوى والانتهاء عما نهى عنه (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو فى اليمين الساقط الذى لا يتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على شىء يظن أنه كذلك وليس كما يظن وهو قول مجاهد قيل كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزل النهى قالوا كيف بأيماننا فنزلت وعند الشافعى رحمه‌الله تعالوا ما يبدو من المرء من غير قصد كقوله لا والله وبلى والله وهو قول عائشة رضى الله تعالى عنها وفى أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه* (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أى بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتموه إذا حنثنم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرىء بالتخفيف وقرىء عاقدتم بمعنى* عقدتم (فَكَفَّارَتُهُ) أى فكفارة نكثه وهى الفعلة التى من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها واستدل بظاهره على جواز التكفير قبل الحنث وعندنا لا يجوز ذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين ورأى غيرها* خيرا فليأت الذى هو خير ثم ليكفر عن يمينه (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أى من أقصده فى النوع أو المقدار وهو نصف صاع من بر لكل مسكين ومحله النصب لأنه صفة مفعول

٧٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٩٠)

____________________________________

محذوف تقديره أن تطعموا عشرة مساكين طعاما كائنا من أوسط ما تطعمون أو الرفع على أنه بدل من إطعام وأهلون جمع أهل كأرضون جمع أرض وقرىء أهاليكم بسكون الياء على لغة من يسكنها فى الحالات الثلاث كالألف وهذا أيضا جمع أهل كالأراضى فى جمع أرض والليالى فى جمع ليل وقيل جمع أهلاة (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على إطعام أو على محل من أوسط على تقدير كونه بدلا من إطعام وهو ثوب يغطى العورة وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار وقرىء بضم الكاف وهى لغة كقدوة فى قدوة وأسوة فى أسوة وقرىء أو كأسوتهم على أن الكاف فى محل الرفع تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا وتقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أى* أو إعتاق إنسان كيفما كان وشرط الشافعى رضى الله تعالى عنه فيه الإيمان قياسا على كفارة القتل ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال مطلقا وخيار التعيين للمكلف (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أى شيئا من الأمور المذكورة* (فَصِيامُ) أى فكفارته صيام (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) والتتابع شرط عندنا لقراءة ثلاثة أيام متتابعات والشافعى* رضى الله عنه لا يرى الشواذ حجة (ذلِكَ) أى الذى ذكر (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) أى وحنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) بأن تضنوا بها ولا تبذلوها كما يشعر به قوله تعالى (إِذا حَلَفْتُمْ) وقيل بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير أو بأن تكفروها إذا حنثتم وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاونا بها (كَذلِكَ) إشارة لى مصدر الفعل الآتى لا إلى تبيين آخر مفهوم مما سبق والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده* اسم الإشارة من الفخامة ومحله فى الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير يبين الله تبيينا كائنا مثل ذلك التبيين فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصار نفس المصدر لا نعتا له وقد مر تفصيله فى قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أى ذلك البيان البديع (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أعلام شريعته وأحكامه لا بيانا أدنى منه وتقديم لكم على المفعول لما مر مرارا* (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ) أى الأصنام المنصوبة للعبادة (وَالْأَزْلامُ) سلف تفسيرها فى أوائل السورة الكريمة (رِجْسٌ) قذر* تعاف عنه العقول وإفراده لأنه خبر الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور أو المضاف محذوف أى شأن الخمر والميسر الخ (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فى محل الرفع على أنه صفة رجس أى كائن من عمله لأنه* مسبب من تسويله وتزيينه (فَاجْتَنِبُوهُ) أى الرجس أو ما ذكر (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى راجين فلا حكم* وقيل لكى تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مر تحقيقه فى تفسير قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولقد أكد تحريم الخمر والميسر فى هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بإنما وقرنا بالأصنام والأزلام وسميا رجسا من عمل الشيطان تنبيها على أن تعاطيهما شربحت وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك

٧٥

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣)

____________________________________

سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة ومحقة ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقيل (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) * وهو إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) إشارة إلى مفاسدهما الدينية وتخصيصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأصنام والأزلام الدلالة على أنهما مثلهما فى الحرمة والشرارة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شارب الخمر كعابد الوثن وتخصيص الصلاة بالإفراد مع دخولها فى الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عماده ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أصناف الصوارف فقيل* (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) إيذانا بأن الأمر فى الزجر والتحذير وكشف ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) عطف على اجتنبوه أى* أطيعوهما فى جميع ما أمرا به ونهيا عنه (وَاحْذَرُوا) أى مخالفتهما فى ذلك فيدخل فيه مخالفة أمرهما* ونهيهما فى الخمر والميسر دخولا أوليا (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أى أعرضتم عن الامتثال بما أمرتم به من الاجتناب* عن الخمر والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاحتراز عن مخالفتهما (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه وخرج عن عهدة الرسالة أى خروج وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل وما بقى بعد ذلك إلا العقاب وفيه من عظم التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه فلا يساعده المقام إذ لا يتوهم منهم ادعاء أنهم بتوليهم يضرونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يرد عليهم بأنهم لا يضرونه وإنما يضرون أنفسهم (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) أى إثم وحرج (فِيما طَعِمُوا) أى تناولوا أكلا أو شربا فإن استعماله فى الشرب أيضا مستفيض منه قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) قيل لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من أصحاب النبى عليه الصلاة والسلام أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحدوهم يشربونها ونحن نشهد أنهم فى الجنة وفى رواية أخرى لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضى الله تعالى عنهم يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر وفى

٧٦

رواية أخرى قال أبو بكر رضى الله تعالى عنه يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار فنزلت وليست كلمة ما فى ما طعموا عبارة عن المباحات خاصة وإلا لزم تقييد إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى (إِذا مَا اتَّقَوْا) واللازم منتف بالضرورة بل هى على عمومها موصولة* كانت أو موصوفة وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها والمعنى ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائنا ما كان إذا اتقوا أن يكون فى ذلك شىء من المحرمات وإلا لم يكن نفى الجناح فى كل ما طعموه بل فى بعضه ولا محذور فيه إذ اللازم منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعض آخر منه كما هو اللازم من الأول (وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أى واستمروا* على الإيمان والأعمال الصالحة وقوله تعالى (ثُمَّ اتَّقَوْا) عطف على اتقوا داخل معه فى حيز الشرط أى* اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق (وَآمَنُوا) أى بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه إما* للاعتناء به أو لأنه الذى يدل على التحريم الحادث الذى هو المؤمن به أو استمروا على الإيمان (ثُمَّ اتَّقَوْا) * أى ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على أن المشروط بالاتقاء فى كل مرة إباحة كل ما طعموه فى ذلك الوقت لا إباحة كل ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذ (وَأَحْسَنُوا) أى عملوا الأعمال* الحسنة الجميلة المنتظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية وليس تخصيص هذه المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرر بالغا ما بلغ والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة وكانوا فى طاعة الله ومراعاة أوامره ونواهيه بحيث كلما حرم عليهم شىء من المباحات اتقوه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه فى كل مرة من المطاعم والمشارب إذ ليس فيها شىء محرم عند طعمه وأنت خبير بأن ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخل لها فى انتفاء الجناح وإنما ذكرت فى حيز إذا شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ومدحا لهم بذلك وحمدا لأحوالهم وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء فى كل مرة تمييزا بينها وبين ما له دخل فى الحكم فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتى بقضية كلمة إذا ما لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم فى حقهم فى ضمن التشريع الكلى على الوجه البرهانى بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا فى طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشىء تلقوه بالامتثال وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر فى حياتهم لعدم تحريمها إذ داك ولو حرما فى عصرهم لا تقوهما بالمرة هذا وقد قيل التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة أو باعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبينه وبين الله عزوجل ولذلك جىء بالإحسان فى الكرة الثالثة بدل الإيمان إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام فى تفسيره أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما يتقى فإنه ينبغى أن يترك المحرمات توقيا من العقاب والشبهات توقيا من الوقوع فى الحرام وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة وقيل التكرير لمجرد التأكيد كما فى قوله تعالى (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ونظائره وقيل المراد بالأول اتقاء الكفر وبالثانى

٧٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٤)

____________________________________

اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر ولا ريب فى أنه لا تعلق لهذه الاعتبارات بالمقام فأحسن التأمل (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) جواب* قسم محذوف أى والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف أحوالكم (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أى من صيد البر مأكولا أو غير مأكول ما عدا المستثنيات من الفواسق فاللام للعهد نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون كانت الوحوش تغشاهم فى رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم* وطعنا برماحهم وذلك قوله تعالى (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) فهموا بأخذها فنزلت وروى أنه عن لهم حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فطعنه برمحه وقتله فقيل له قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية فالتأكيد القسمى فى ليبلونكم إنما هو لتحقيق أن ما وقع من عدم توحش الصيد عنهم ليس إلا لابتلائهم لا لتحقيق وقوع المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء وتنكير شىء للتحقير المؤذن بأن ذلك ليس من الفتن الهائلة التى تزل فيها أقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما ابتلى به أهل أيلة من صيد البحر وفائدته التنبيه على أن من لم يتثبت فى مثل هذا كيف يتثبت عند شدائد المحن فمن فى قوله تعالى (مِنَ الصَّيْدِ) بيانية قطعا أى بشىء حقير هو الصيد وجعلها تبعيضية يقتضى اعتبار قلته وحقارته بالنسبة إلى كل الصيد لا بالنسبة إلى عظائم البلايا* فيعرى الكلام عن التنبيه المذكور (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أى ليتميز الخائف من عقابه الأخروى وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه وإنما عبر عن ذلك بعلم الله تعالى اللازم له إيذانا بمدار الجزاء ثوابا وعقابا فإنه أدخل فى حملهم على الخوف وقيل المعنى ليتعلق علمه تعالى بمن يخافه بالفعل فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقا به قبل خوفه لكن تعلقه بأنه خائف بالفعل وهو الذى يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل وقيل هناك مضاف محذوف والتقدير ليعلم أولياء الله وقرىء ليعلم من الإعلام على حذف المفعول الأول أى ليعلم الله عباده الخ والعلم على القراءتين متعد إلى واحد وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لتربية المهابة* وإدخال الروعة (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أى بعد بيان أن ما وقع ابتلاء من جهته تعالى لما ذكر من الحكمة لا بعد تحريمه أو النهى عنه كما قاله بعضهم إذ النهى والتحريم ليس أمرا حادثا يترتب عليه الشرطية بالفاء ولا بعد الابتلاء كما اختاره آخرون لأن نفس الابتلاء لا يصلح مدارا لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونه عذرا مسوغا لتخفيفه وإنما الموجب للتشديد بيان كونه ابتلاء لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرة صريحة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية أى فمن تعرض للصيد* بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تمييز المطيع من العاصى (فَلَهُ عَذابٌ

٧٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٩٥)

____________________________________

أَلِيمٌ) لما ذكر من أنه مكابرة محضة ولأن من لا يملك زمام نفسه ولا يراعى حكم الله تعالى فى أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه فى عظائم المداحض والمراد بالعذاب الأليم عذاب الدارين قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يوسع ظهره وبطنه جلدا وينزع ثيابه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع فى بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب والتصريح بالنهى فى قوله تعالى (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) مع كونه معلوما لا سيما من قوله تعالى (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه واللام فى الصيد للعهد حسبما سلف وحرم جمع حرام وهو المحرم وإن كان فى الحل وفى حكمه من فى الحرم وإن كان حلالا كردح جمع رداح والجملة حال من فاعل لا تقتلوا أى لا تقتلوه وأنتم محرمون (وَمَنْ قَتَلَهُ) أى الصيد المعهود وذكر القتل فى الموضعين دون الذبح الإيذان؟؟؟ بكونه فى حكم الميتة (مِنْكُمْ) * متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قتله أى كائنا منكم (مُتَعَمِّداً) حال منه أيضا أى ذاكرا لإحرامه* عالما بحرمة قتل ما يقتله والتقييد بالتعمد مع أن محظورات الإحرام يستوى فيها العمد والخطأ لما أن الآية نزلت فى المتعمد كما مر من قصة أبى اليسر ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ لا حق به للتغليظ وعن الزهرى نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه لا أرى فى الخطأ شيئا أخذا باشتراط التعمد فى الآية وهو قول داود وعن مجاهد والحسن أن المراد بالتعمد هو تعمد القتل مع نسيان الإحرام أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى الله عزوجل لأنه أعظم من أن يكون له كفارة (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) برفعهما أى فعليه جزاء مماثل لما قتله وقرىء برفع الأول* ونصب الثانى على إعمال المصدر وقرىء بجر الثانى على إضافته إلى مفعوله وقرىء فجزاؤه مثل ما قتل على الابتداء والخبرية وقرىء بنصبهما على تقدير فليجز جزاء أو فعليه أن يجزى جزاء مثل ما قتل والمراد به عند أبى حنيفة وأبى يوسف رضى الله عنهما المثل باعتبار القيمة يقوم الصيد حيث صيد أو فى أقرب الأماكن إليه فإن بلغت قيمته قيمة هدى يخير الجانى بين أن يشترى بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشترى بها طعاما فيعطى كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوما كاملا إذ لم يعهد فى الشرع صوم ما دونه فيكون قوله تعالى (مِنَ النَّعَمِ) بيانا للهدى المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير* فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم وعند مالك والشافعى رحمهما‌الله تعالى ومن يرى رأيهما هو المثل باعتبار الخلقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدا بالنعم فمن اعتبر

٧٩

المثل بالقيمة فقد خالف النص وعن الصحابة رضى الله عنهم أنهم أوجبوا فى النعامة بدنة وفى الظبى شاة وفى حمار الوحش بقرة وفى الأرنب عناقا وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الضبع صيد وفيه شاة إذا قتله المحرم ولنا أن النص أوجب المثل والمثل المطلق فى الكتاب والسنة وإجماع الأمة والمعقول يراد به إما المثل صورة ومعنى وإما المثل معنى وأما المثل صورة بلا معنى فلا اعتبار له فى الشرع أصلا وإذا لم يمكن إرادة الأول إجماعا تعينت إرادة الثانى لكونه معهودا فى الشرع كما فى حقوق العباد ألا يرى أن المماثلة بين أفراد نوع واحد مع كونها فى غاية القوة والظهور لم يعتبرها الشرع ولم يجعل الحيوان عند الإتلاف مضمونا بفرد آخر من نوعه مماثل له فى عامة الأوصاف بل مضمونا بقيمته مع أن المنصوص عليه فى أمثاله إنما هو المثل قال تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فحيث لم تعتبر تلك المماثلة القوية مع تيسر معرفتها وسهولة مراعاتها فلئلا تعتبر ما بين أفراد أنواع مختلفة من المماثلة الضعيفة الخفية مع صعوبة مأخذها وتعسر المحافظة عليها أولى وأحرى ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظير له إجماعا فلم يبق غيره مرادا إذ لا عموم للمشترك فى مواقع الإثبات والمراد بالمروى إيجاب النظير باعتبار القيمة لا باعتبار العين ثم الموجب الأصلى للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن يعمد الجانى إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى (مِثْلُ ما قَتَلَ) وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال وأما قوله تعالى (مِنَ النَّعَمِ) فوصف له معتبر فى ثانى الحال بناء على وصفه الأول الذى هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلا عن العطف على الموصوف كما سيأتى بإذن الله تعالى ومما يرشدك إلى* أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عزوجل (يَحْكُمُ بِهِ) أى بمثل ما قتل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أى حكمان عادلان من المسلمين لكن لا لأن التقويم هو الذى يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العدول دون الأشياء المشاهدة التى يستوى فى معرفتها كل أحد من الناس فإن ذلك ناشىء من الغفلة عما أرادوا بما به المماثلة بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النعم من ضرب مشاكلة ومضاهاة فى بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التباين بينهما فى بقية الأحوال مما لا يهتدى إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والإرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية ألا يرى أن الإمام الشافعى رضى الله عنه أوجب فى قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة من حيث أن كلا منهما يعب ويهدر مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون فكيف يفوض معرفة أمثال هذه الدقائق العويصة إلى رأى عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا وقرىء يحكم به ذو عدل على إرادة جنس العادل دون الوحدة وقيل بل على إرادة الإمام والجملة صفة لجزاء أو حال منه لتخصصه* بالصفة وقوله تعالى (هَدْياً) حال مقدرة من الضمير فى به أو من جزاء لما ذكر من تخصصه بالصفة أو بدل من مثل فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أى يهديه هديا والجملة صفة أخرى لجزاء* (بالِغَ الْكَعْبَةِ) صفة لهديا لأن الإضافة غير حقيقية (أَوْ كَفَّارَةٌ) عطف على محل من النعم على أنه خبر

٨٠