تفسير أبي السّعود - ج ٣

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٣

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

قَدَرُوا اللهَ) لما بين شأن القرآن العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما ينطق به قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصل القدر السبر والحزر يقال قدر الشىء يقدره بالضم قدرا إذا سبره وحزره ليعرف مقداره ثم استعمل فى معرفة الشىء فى مقداره وأحواله وأوصافه وقوله تعالى (حَقَّ قَدْرِهِ) نصب على المصدرية وهو فى الأصل صفة للمصدر أى قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفة انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه أى ما عرفوه تعالى حق معرفته فى اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى فى ذلك بل أخلوا بها إخلالا (إِذْ قالُوا) منكرين لبعثة الرسل وإنزال الكتب* كافرين بنعمته الجليلة فيهما (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فنفى معرفتهم لقدره سبحانه كناية عن حطهم* لقدره الجليل ووصفهم له تعالى بنقيض نعته الجميل كما أن نفى المحبة فى مثل إن الله لا يحب الكافرين كناية عن البغض والسخط وإلا فنفى معرفة قدره تعالى يتحقق مع عدم التعرض لحطه بل مع السعى فى تحصيل المعرفة كما فى قول من يناجى مستقصرا لمعرفته وعبادته سبحانك ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك أو ما عرفوه حق معرفته فى السخط على الكفار وشدة بطشه تعالى بهم حسبما نطق به القرآن حين اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء فالنفى بمعناه الحقيقى والقائلون هم اليهود وقد قالوه مبالغة فى إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلا حيث قيل (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) أى قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقام الحجر وروى أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنشدك الله الذى أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذى تطعمك اليهود فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر رضى الله عنه فقال ما أنزل الله على بشر من شىء فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف وقيل هم المشركون وإلزامهم إنزال التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ووصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريع وتشديد التبكيت وكذا تقييده بقوله تعالى (نُوراً وَهُدىً) فإن كونه بينا* بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الإلزام أى تأكيد وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل أنزل أو من الضمير فى به والعامل جاء واللام فى قوله تعالى (لِلنَّاسِ) إما متعلق ب (هُدىً) أو بمحذوف هو صفة* له أى هدى كائنا للناس وليس المراد بهذا مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط بل بإنزال القرآن أيضا فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعا لما فيها من الشواهد الناطقة به وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغيير حيث قيل (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أى تضعونه فى قراطيس مقطعة* وورقات مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة والجملة حال كما سبق وقوله تعالى (تُبْدُونَها) صفة لقراطيس وقوله تعالى (وَتُخْفُونَ كَثِيراً)

١٦١

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩٢)

____________________________________

معطوف عليه والعائد إلى الموصول محذوف أى كثيرا منها وقيل كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب والمراد بالكثير نعوت النبى عليه الصلاة والسلام وسائر ما كتموه من أحكام التوراة وقرىء الأفعال* الثلاثة بالياء حملا على قالوا وما قدروا وقوله تعالى (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) قيل هو حال من فاعل (تَجْعَلُونَهُ) بإضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين قلت فينبغى أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيدا لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيع لما ذكر من الإبداء والإخفاء شناعة عظيمة فى نفسها ومع ملاحظة كونه مأخذا لعلومهم ومعارفهم أشنع وأعظم لا عما تلقوه من جهة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة على ما فى التوراة وبيانا لما التبس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) كما قالوا لأن تلقيهم لذلك من القرآن الكريم ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة أما ما ورد فيه زيادة على ما فيها فلأنه لا تعلق له بها نفيا ولا إثباتا وأما ما ورد بطريق البيان فلأن مدار ما فعلوا بها من التبديل والتحريف ليس ما وقع فيها من التباس الأمر واشتباه الحال حتى يقلعوا عن ذلك بإيضاحه وبيانه فتكون الجملة حينئذ خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن تكون استئنافا مقررا لما قبلها من مجىء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجىء القرآن ولا سبيل إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) فإن ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الافتضاح ومصححا لوقوع الجملة فى موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتما هذا* وقد قيل الخطاب لمن آمن من قريش كما فى قوله تعالى (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) وقوله تعالى (قُلِ اللهُ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيب عنهم إشعارا بتعين الجواب بحيث لا محيد عنه وإيذانا بأنهم أفحموا* ولم يقدروا على التكلم أصلا (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ) فى باطلهم الذى يخوضون فيه ولا عليك بعد إلزام* الحجة وإلقام الحجر (يَلْعَبُونَ) حال من الضمير الأول والظرف صلة للفعل المقدم أو المؤخر أو متعلق بمحذوف هو حال من مفعول الأول أو من فاعل الثانى أو الضمير الثانى لأنه فاعل فى الحقيقة والظرف متصل بالأول (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) تحقيق لنزول القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما بشر به من* التوراة وتكذيب لهم فى كلمتهم الشنعاء إثر تكذيب (مُبارَكٌ) أى كثير الفوائد وجم المنافع (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة لنزوله حسبما وصف فيها أو الكتب التى قبله فإنه مصدق للكل فى إثبات* التوحيد والأمر به ونفى الشرك والنهى عنه وفى سائر أصول الشرائع التى لا تنسخ (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) عطف على ما دل عليه (مُبارَكٌ) أى للبركات ولإنذارك أهل مكة وإنما ذكرت باسمها المنبىء عن كونها أعظم القرى شأنا وقبلة لأهلها قاطبة إيذانا بأن إنذار أهلها أصل مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة وقرىء

١٦٢

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

____________________________________

لينذر بالياء على أن الضمير للكتاب (وَمَنْ حَوْلَها) من أهل المدر والوبر فى المشارق والمغارب (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وبما فيها من أفانين العذاب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أى بالكتاب لأنهم يخافون العاقبة ولا* يزال الخوف يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) تخصيص محافظتهم* على الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات التى لا بد للمؤمنين من أدائها للإيذان بإنافتها من بين سائر الطاعات وكونها أشرف العبادات بعد الإيمان (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فزعم أنه تعالى بعثه نبيا كمسيلمة الكذاب والأسود العنسى أو اختلق عليه أحكاما من الحل والحرمة كعمرو بن لحى ومتابعيه أى هو أظلم من كل ظالم وإن كان سبك التركيب على نفى الأظلم منه وإنكاره من غير تعرض لنفى المساوى وإنكاره فإن الاستعمال الفاشى فى قولك من أفضل من زيد أو لا أكرم منه على أنه أفضل من كل فاضل وأكرم من كل كريم وقد مر تمام الكلام فيه (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) من جهته تعالى (وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ) أى والحال أنه لم يوح إليه (شَيْءٌ) أصلا كعبد الله بن سعد بن أبى سرح كان يكتب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم* فلما نزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) فلما بلغ (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) قال عبد الله تبارك الله أحسن الخالقين تعجبا من تفصيل خلق الإنسان ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتبها كذلك فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقا فقد أوحى إلى كما أوحى إليه ولئن كان كاذبا فقد قلت كما قال (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) كالذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) حذف مفعول ترى لدلالة الظرف عليه* أى ولو ترى الظالمين إذ هم (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أى شدائده من غمره إذا غشيه (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) بقبص أرواحهم كالمتقاضى الملظ الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه فى المطالبة من غير إمهال وتنفيس أو باسطوها بالعذاب قائلين (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أى أخرجوا أرواحكم إلينا من* أجسادكم أو خلصوا أنفسكم من العذاب (الْيَوْمَ) أى وقت الإمانة أو الوقت الممتد بعده إلى ما لا نهاية له* (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أى العذاب المتضمن لشدة وإهانة فإضافته إلى الهون وهو الهوان لعراقته فيه* (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ) كاتخاذ الولد له ونسبة الشريك إليه وادعاء النبوة والوحى كاذبا* (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) للحساب (فُرادى)

١٦٣

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٩٦)

____________________________________

منفردين عن الأموال والأولاد وغير ذلك مما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأصنام التى كنتم تزعمون أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وقرىء فرادا كرخال وفراد كثلاث* وفردى كسكرى (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بدل من (فُرادى) أى على الهيئة التى ولدتم عليها فى الانفراد أو حال ثانية عند من يجوز تعددها أو حال من الضمير فى (فُرادى) أى مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة* غرلا بهما أو صفة مصدر (جِئْتُمُونا) أى مجيئا كخلقنا لكم أول مرة (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) تفضلناه عليكم* فى الدنيا فشغلتم به عن الآخرة (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) ما قدمتم منه شيئا ولم تحملوا نقيرا (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أى شركاء الله تعالى فى الربوبية واستحقاق العبادة (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أى وقع التقطع بينكم كما يقال جمع بين الشيئين أى أوقع الجمع بينهما وقرىء بينكم بالرفع على إسناد الفعل إلى الظرف كما يقال قوتل أمامكم وخلفكم أو على أن البين اسم للفصل والوصل أى تقطع وصلكم وقرىء* ما بينكم (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أى ضاع أو غاب (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) شروع فى تقرير بعض أفاعيله تعالى الدالة على كمال علمه وقدرته ولطف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد والفلق الشق بإبانة أى شاق الحب بالنبات والنوى بالشجر وقيل المراد به الشق الذى فى الحبوب والنوى أى خالقهما كذلك كما فى قولك ضيق فم الركية ووسع أسفلها* وقيل الفلق بمعنى الخلق قال الواحدى ذهبوا بفالق مذهب فاطر (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أى يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو من النطفة والحب والجملة مستأنفة مبينة لما قبلها وقيل خبر ثان لأن وقوله* تعالى (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ) كالنطفة والحب (مِنَ الْحَيِّ) كالحيوان والنبات عطف على فالق الحب لا على يخرج* على الوجه الأول لأن إخراج الميت من الحى ليس من قبيل فلق الحب والنوى (ذلِكُمُ) القادر العظيم* الشأن هو (اللهَ) المستحق للعبادة وحده (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تصرفون عن عبادته إلى غيره ولا سبيل إليه أصلا (فالِقُ الْإِصْباحِ) خبر آخر لأن أو لمبتدأ محذوف والإصباح مصدر سمى به الصبح وقرىء بفتح الهمزة على أنه جمع صبح أى فالق عمود الفجر عن بياض النهار وأسفاره أو فالق ظلمة الإصباح وهى* الغبش الذى يلى الصبح وقرىء فالق بالنصب على المدح (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناسا به أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) وقرىء جاعل الليل فانتصاب سكنا بفعل دل عليه جاعل وقيل بنفسه على أن المراد به الجعل المستمر فى الأزمنة المتجددة حسب تجددها لا الجعل الماضى فقط وقيل اسم الفاعل من الفعل المتعدى إلى اثنين يعمل فى الثانى وإن كان بمعنى الماضى لأنه لما أضيف إلى الأول تعين نصبه للثانى لتعذر الإضافة بعد ذلك

١٦٤

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨)

____________________________________

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) معطوفان على (اللَّيْلَ) وعلى القراءة الأخيرة قيل هما معطوفان على محله والأحسن* نصبهما حينئذ بفعل مقدر وقد قرئا بالجر وبالرفع أيضا على الابتداء والخبر محذوف أى مجعولان (حُسْباناً) * أى على أدوار مختلفة يحسب بها الأوقات التى نيط بها العبادات والمعاملات أو محسو بان حسبانا والحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحساب بالكسر مصدر حسب (ذلِكَ) إشارة إلى جعلهما كذلك وما فيه من* معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته أى ذلك التسيير البديع (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب القاهر* الذى لا يستعصى عليه شىء من الأشياء التى من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص (الْعَلِيمِ) بجميع* المعلومات التى من جملتها ما فى ذلك التسيير من المنافع والمصالح المتعلقة بمعاش الخلق ومعادهم (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) شروع فى بيان نعمته تعالى فى الكواكب إثر بيان نعمته تعالى فى النيرين والجعل متعد إلى واحد واللام متعلقة به وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أى أنشأها وأبدعها لأجلكم فقوله تعالى (لِتَهْتَدُوا بِها) بدل من المجرور بإعادة* العامل بدل اشتمال كما فى قوله تعالى (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً) والتقدير جعل لكم النجوم لاهتدائكم لكن لا على أن غاية خلقها اهتداؤهم فقط بل على طريقة إفراد بعض منافعها وغاياتها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وقد جوز أن يكون مفعولا ثانيا للجعل وهو بمعنى التصيير أى جعلها كائنة لاهتدائكم فى أسفاركم عند دخولكم المفاوز أو البحار كما ينبىء عنه قوله تعالى (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أى فى* ظلمات الليل فى البر والبحر وإضافتها إليهما للملابسة فإن الحاجة إلى الاهتداء بها إنما يتحقق عند ذلك أو فى مشتبهات الطرق عبر عنها بالظلمات على طريقة الاستعارة (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أى بينا الآيات* المتلوة المذكرة لنعمه التى هذه النعمة من جملتها أو الآيات التكوينية الدالة على شئونه تعالى مفصلة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى معانى الآيات المذكورة ويعلمون بموجبها أو يتفكرون فى الآيات التكوينية فيعلمون حقيقة الحال وتخصيص التفصيل بهم مع عمومه للكل لأنهم المنتفعون به (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) تذكير لنعمة أخرى من نعمه تعالى دالة على عظم قدرته ولطيف صنعه وحكمته أى أنشأكم مع كثرتكم من نفس آدم عليه‌السلام (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أى فلكم استقرار فى الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع* فى الأرحام أو تحت الأرض أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر والتعبير عن كونهم فى الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعى كما أن التعبير عن كونهم فى الأرحام أو تحت الأرض بالاستيداع لما أن كلا منهما ليس بمقرهم الطبيعى وقد حمل الاستيداع على كونهم فى الأصلاب وليس بواضح وقرىء فمستقر بكسر القاف أى فمنكم مستقر ومنكم مستودع فإن الاستقرار منا

١٦٥

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩)

____________________________________

* بخلاف الاستيداع (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) المبينة لتفاصيل خلق البشر من هذه الآية ونظائرها (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) غوامض الدقائق باستعمال الفطنة وتدقيق النظر فى لطائف صنع الله عزوجل فى أطوار تخليق بنى آدم مما تحار فى فهمه الألباب وهو السر فى إيثار يفقهون على يعلمون كما ورد فى شأن النجوم (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تذكير لنعمة أخرى من نعمه تعالى منبئة عن كمال قدرته تعالى وسعة رحمته أى أنزل من السحاب أو من سمت السماء ماء خاصا هو المطر وتقديم الجار والمجرور على المفعول* الصريح لما مر مرارا (فَأَخْرَجْنا بِهِ) التفت إلى التكلم إظهارا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله أى* فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التى من شأنها النمو من أصناف النجم والشجر وأنواعهما المختلفة فى الكم والكيف والخواص والآثار اختلافا متفاوتا فى مراتب الزيادة والنقصان حسبما يفصح عنه قوله تعالى (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) وقوله تعالى* (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) شروع فى تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بدىء بتفصيل حال النجم أى فأخرجنا من النبات الذى لا ساق له شيئا غضا أخضر يقال شىء أخضر وخضر كأعور وعور وأكثر ما يستعمل* الخضر فيما تكون خضرته خلقية وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة وقوله تعالى (نُخْرِجُ مِنْهُ) صفة لخضرا وصيغة المضارع لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة أى نخرج من ذلك الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) هو السنبل المنتظم للحبوب المتراكبة بعضها فوق بعض على هيئة مخصوصة وقرىء يخرج منه* حب متراكب وقوله تعالى (وَمِنَ النَّخْلِ) شروع فى تفصيل حال الشجر إثر بيان حال النجم فقوله تعالى* (مِنَ النَّخْلِ) خبر مقدم وقوله تعالى (مِنْ طَلْعِها) بدل منه بإعادة العامل كما فى قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) الخ والطلع شىء يخرج من النخل كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما* منضود وقوله تعالى (قِنْوانٌ) مبتدأ أى وحاصلة من طلع النخل قنوان ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه أى ومخرجة من طلع النخل قنوان ومن قرأ يخرج منه حب متراكب كان قنوان عنده معطوفا على حب وقيل المعنى وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان أو ومن النخل شىء من طلعها قنوان وهو جمع قنو وهو عنقود النخلة كصنو وصنوان وقرىء بضم القاف كذئب وذؤبان* وبفتحها أيضا على أنه اسم جمع لأن فعلان ليس من أبنية الجمع (دانِيَةٌ) سهلة المجتنى قريبة من القاطف فإنها وإن كانت صغيرة ينالها القاعد تأتى بالثمر لا ينتظر الطول أو ملتفة متقاربة والاقتصار على ذكرها* لدلالتها على مقابلها كقوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولزيادة النعمة فيها (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) عطف على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أى وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب وقرىء جنات بالرفع على الابتداء أى ولكم

١٦٦

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) (١٠٠)

____________________________________

أو ثمة جنات وقد جوز عطفه على قنوان كأنه قيل وحاصلة أو مخرجة من النخل قنوان وجنات مز نبات وأعناب ولعل زيادة الجنات ههنا من غير اكتفاء بذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالبا إلا عند اجتماع طائفة من أفراده (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) منصوبان* على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على (نَباتَ) وقوله تعالى (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) * حال من الزيتون اكتفى به عن حال ما عطف عليه كما يكتفى بخبر المعطوف عليه عن خبر المعطوف فى نحو قوله تعالى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وتقديره والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك وقد جوز أن يكون حالا من الرمان لقربه ويكون المحذوف حال الأول والمعنى بعضه متشابها وبعضه غير متشابه فى الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أى انظروا إليه نظر اعتبار واستبصار إذا أخرج ثمره كيف* يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به وقرىء إلى ثمره (وَيَنْعِهِ) أى وإلى حال نضجه كيف يصير إلى كماله اللائق* به ويكون شيئا جامعا لمنافع جمة والينع فى الأصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت وقيل جمع يانع كتاجر وتجر وقرىء بالضم وهى لغة فيه وقرىء يانعة (إِنَّ فِي ذلِكُمْ) إشارة إلى ما أمر بالنظر إليه وما فى اسم* الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى لآيات* عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته فإن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع يحار فى فهمه الألباب لا يكاد يكون إلا بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يفاويه ولذلك عقب بتوبيخ من أشرك به والرد عليه حيث قيل (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أى جعلوا فى اعتقادهم لله الذى شأنه ما فصل فى تضاعيف هذه الآيات الجليلة شركاء (الْجِنَّ) أى الملائكة* حيث عبدوهم وقالوا الملائكة بنات الله وسموا جنا لاجتنانهم تحقيرا لشأنهم بالنسبة إلى مقام الألوهية أو الشاطين حيث أطاعوهم كما أطاعوا الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع والشيطان خالق الشر وكل ضاركما هو رأى الثنوية ومفعولا (جَعَلُوا) قوله تعالى (شُرَكاءَ الْجِنَ) قدم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ الله سبحانه شريك ما كائنا ما كان ولله متعلق بشركاء قدم عليه للنكتة المذكورة وقيل هما لله شركاء والجن بدل من شركاء مفسر له نص عليه الفراء وأبو إسحاق أو منصوب بمضمر وقع جوابا على سؤال مقدر نشأ من قوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) كأنه قيل من جعلوه شركاء لله تعالى فقيل الجن أى جعلوا الجن ويؤيده قراءة أبى حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن فى جواب من قال من الذين جعلوهم شركاء لله تعالى وقد قرىء بالجر على أن الإضافة للتبيين

١٦٧

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٠١)

____________________________________

* (وَخَلَقَهُمْ) حال من فاعل (جَعَلُوا) بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما فى جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أى وقد علموا أنه تعالى خالقهم خاصة وقيل الضمير للشركاء أى والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له تعالى وقرىء خلقهم عطفا على الجن أى وما يخلقونه من الأصنام أو على شركاء أى وجعلوا له اختلاقهم الإفك حيث نسبوه إليه تعالى* (وَخَرَقُوا لَهُ) أى افتعلوا وافتروا له يقال خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى وقرىء خرقوا* بالتشديد للتكثير وقرىء وحرفوا له أى زوروا (بَنِينَ وَبَناتٍ) فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالت طائفة من العرب الملائكة بنات الله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره والباء متعلقة بمحذوف هو حال من فاعل خرقوا أو نعت* لمصدر مؤكد له أى خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقا كائنا بغير علم (سُبْحانَهُ) استئناف مسوق لتنزيهه عزوجل عما نسبوه إليه وسبحانه علم للتسبيح الذى هو التبعيد عن السوء اعتقادا وقولا أى اعتقاد البعد عنه والحكم به من سبح فى الأرض والماء إذا أبعد فيهما وأمعن ومنه فرس سبوح أى واسع الجرى وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه أى أسبح سبحانه أى أنزهه عما لا يليق به عقدا وعملا تنزيها خاصا به حقيقا بشأنه وفيه مبالغة من جهة الاشتقاق من السبح ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول عن المصدر الدال على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم المشير إلى الحقيقة الحاضرة فى الذهن ومن جهة إقامته مقام المصدر مع الفعل وقيل هو مصدر كغفران لأنه سمع له فعل من الثلاثى كما ذكر فى القاموس أريد به التنزه التام والتباعد الكلى ففيه مبالغة من حيث إسناد التنزه إلى ذاته المقدسة* أى تنزه بذاته تنزها لائقا به وهو الأنسب بقوله سبحانه (وَتَعالى) فإنه معطوف على الفعل المضمر* لا محالة ولما فى السبحان والتعالى من معنى التباعد قيل (عَمَّا يَصِفُونَ) أى تباعد عما يصفونه من أن له شريكا أو ولدا (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه فإن البديع كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع نص عليه أئمة اللغة كالصريخ بمعنى المصرخ وقد جاء بدعه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه على ما ذكر فى القاموس وغيره ونظيره السميع بمعنى المسمع فى قوله [أمن ريحانة الداعى السميع] وقيل هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيها لها باسم الفاعل كما هو المشهور أى بديع سمواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما فى قولهم ثبت الغدر بمعنى أنه عديم النظير فيهما والأول هو الوجه والمعى أنه تعالى مبدع لقطرى العالم العلوى والسفلى بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الانفعال بالمرة والوالد عنصر الولد منفعل

١٦٨

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٠٢)

____________________________________

بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد وقرىء بديع بالنصب على المدح وبالجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور فى سبحانه على رأى من يجيزه وارتفاعه فى القراءة المشهورة على أنه خبر مبتدأ محذوف أو فاعل تعالى وإظهاره فى موضع الإضمار لتعليل الحكم وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه أو مبتدأ خبره قوله تعالى (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) وهو على الأولين جملة* مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزهه عنه وقوله تعالى (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) حال مؤكدة للاستحالة المذكورة فإن انتفاء أن يكون له تعالى صاحبة مستلزم لانتفاء أن يكون له ولد ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة وإن أمكن وجوده بلا والد وانتفاء الأول مما لا ريب فيه لأحد فمن ضرورته انتفاء الثانى أى من أين أو كيف يكون له ولد كما زعموا والحال أنه ليس له على زعمهم أيضا صاحبة يكون الولد منها وقرىء لم يكن بتذكير الفعل للفصل أو لأن الاسم ضميره تعالى والخبر هو الظرف وصاحبة مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو الظرف خبر مقدم وصاحبة مبتدأ مؤخر والجملة خبر للكون وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة لضمير الشأن لا على الوجه الأول لما بين فى موضعه أن ضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة صريحة وقوله تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) إما جملة مستأنفة أخرى سيقت لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى* مقررة لها أى أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شىء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التى من جملتها ما سموه ولدا له تعالى فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ) من شأنه أن* يعلم كائنا ما كان مخلوقا أو غير مخلوق كما ينبىء عنه ترك الإضمار إلى الإظهار (عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم أزلا وأبدا* حسبما يعرب عنه العدول إلى الجملة الاسمية فلا يخفى عليه خافية مما كان وما سيكون من الذوات والصفات والأحوال التى من جملتها ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز من المحالات التى ما زعموه فرد من أفرادها والجملة استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التى اجترءوا عليها بغير علم (ذلِكُمُ) إشارة إلى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه وبعد منزلته فى العظمة والخطاب للمشركين المعهودين بطريق الالتفات وهو مبتدأ وقوله تعالى (اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أخبار أربعة مترادفة أى ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك أمركم لا شريك له أصلا خالق كل شىء مما كان ومما سيكون فلا تكرار إذ المعتبر فى عنوان الموضوع إنما هو خالقيته لما كان فقط كما ينبىء عنه صيغة الماضى وقيل الخبر هو الأول والبواقى أبدال وقيل الاسم الجليل بدل من المبتدأ والبواقى أخبار وقيل يقدر لكل من الأخبار الثلاثة مبتدأ وقيل يجعل الكل بمنزلة اسم واحد وقوله تعالى (فَاعْبُدُوهُ) حكم مترتب على مضمون الجملة فإن من* جمع هذه الصفات كان هو المستحق للعبادة خاصة وقوله تعالى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) عطف على الجملة*

١٦٩

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥)

____________________________________

المتقدمة أى هو مع ما فصل من الصفات الجليلة متولى أمور جميع مخلوقاته التى أنتم من جملتها فكلوا أموركم إليه وتوسلوا بعبادته إلى نجاح مآربكم الدنيوية والأخروية (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) البصر حاسة النظر وقد تطلق على العين من حيث إنها محلها وإدراك الشىء عبارة عن الوصول إليه والإحاطة به أى لا تصل إليه الأبصار ولا تحيط به كما قال سعيد بن المسيب وقال عطاء كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به فلا متمسك فيه لمنكرى الرؤية على الإطلاق وقد روى عن ابن عباس ومقاتل رضى الله عنهم لا تدركه* الأبصار فى الدنيا وهو يرى فى الآخرة (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أى يحيط بها علمه إذ لا تخفى عليه خافية* (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فيدرك ما لا تدركه الأبصار ويجوز أن يكون تعليلا للحكمين السابقين على طريقة اللف أى لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير فيكون اللطيف مستفادا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها وقوله تعالى (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) استئناف وارد على لسان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبصائر جمع بصيرة وهى النور الذى به تستبصر النفس كما أن البصر نور به تبصر العين والمراد بها الآية الواردة ههنا أو جميع الآيات المنتظمة لها انتظاما أوليا ومن لابتداء الغاية مجازا سواء تعلقت بحاء أو بمحذوف هو صفة لبصائر والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار كمال اللطف بهم أى قد جاءكم من جهة مالككم ومبلغكم إلى كمالكم اللائق بكم من الوحى* الناطق بالحق والصواب ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائر كائنة من ربكم (فَمَنْ أَبْصَرَ) أى الحق* بتلك البصائر وآمن به (فَلِنَفْسِهِ) أى فلنفسه أبصر أو فإبصاره لنفسه لأن نفعه مخصوص بها (وَمَنْ عَمِيَ) أى ومن لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك البصائر ظهورا بينا وضل عنه وإنما عبر عنه بالعمى* تقبيحا له وتنفيرا عنه (فَعَلَيْها) أى فعليها عمى أو فعماه عليها أو وبال عماه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) وإنما أنا منذر والله هو الذى يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أى مثل ذلك التصريف البديع نصرف الآيات الدالة على المعانى الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفا أدنى منه وقوله* تعالى (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) علة لفعل قد حذف تعويلا على دلالة السباق عليه أى وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور واللام للعاقبة والواو اعتراضية وقيل هى عاطفة على علة محذوفة واللام متعلقة بنصرف أى مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا الخ وقيل اللام لام الأمر وتنصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون فإنه لا احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم وهذا أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم ورد عليه بأن ما بعده يأباه ومعنى درست قرأت وتعلمت وقرىء دارست أى دارست العلماء ودرست أى قدمت

١٧٠

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨)

____________________________________

هذه الآيات وعفت كما قالوا أساطير الأولين ودرست بضم الراء مبالغة فى درست أى اشتد دروسها ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت ودارست وفسروها بدارست اليهود محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاز الإضمار لاشتهارهم بالدراسة وقد جوز إسناد الفعل إلى الآيات وهو فى الحقيقة لأهلها أى دارس أهل الآيات وحملتها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أهل الكتاب ودرس أى درس محمد ودارسات أى هى دارسات أى قديمات أو ذات درس كعيشة راضية وقوله تعالى (وَلِنُبَيِّنَهُ) عطف على (لِيَقُولُوا) واللام على الأصل لأن التبيين غاية* التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى أو للقرآن وإن لم يذكر أو للمصدر أى ولنفعل التبيين واللام فى قوله تعالى (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) متعلقة بالتبيين وتخصيصه بهم لما أنهم المنتفعون به قال ابن عباس هم أولياؤه الذين* هداهم إلى سبيل الرشاد ووصفهم بالعلم للإيذان بغاية جهل الأولين وخلوهم عن العلم بالمرة (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) لما حكى عن المشركين قدحهم فى تصريف الآيات عقب ذلك بأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات على ما هو عليه وبعدم الاعتداد بهم وبأباطيلهم أى دم على ما أنت عليه من اتباع ما أوحى إليك من الشرائع والأحكام التى عمدتها التوحيد وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إظهار اللطف به ما لا يخفى وقوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراض بين الأمرين المتعاطفين مؤكد لإيجاب اتباع* الوحى لا سيما فى أمر التوحيد وقد جوز أن يكون حالا من ربك أى منفردا فى الألوهية (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) لا تحتفل بهم وبأقاويلهم الباطلة التى من جملتها ما حكى عنهم آنفا ومن جعله منسوخا بآية السيف حمل الإعراض على ما يعم الكف عنهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أى عدم إشراكهم حسبما هو القاعدة المستمرة فى حذف مفعول المشيئة من وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء (ما أَشْرَكُوا) وهذا* دليل على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجهه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لعدم صرف اختياره الجزئى نحو الإيمان وإصراره على الكفر والجملة اعتراض مؤكد للإعراض وكذا قوله تعالى (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أى رقيبا مهيمنا من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم* وكذا قوله تعالى (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) من جهتهم تقوم بأمورهم وتدبر مصالحهم وعليهم فى الموضعين* متعلق بما بعده قدم عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أى لا تشتموهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) تجاوزا* عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثل قولكم لهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر

١٧١

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠٩)

____________________________________

به وقرىء عدوا يقال عدا يعدو عدوا وعدوا وعداء وعدوانا. روى أنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند نزول قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك وقيل كان المسلمون يسونهم فنهوا عن ذلك لئلا يستتبع سبهم سبه سبحانه وتعالى وفيه أن الطاعة إذا* أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدى إلى الشر شر (كَذلِكَ) أى مثل ذلك التزيين القوى* (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا أو تخذيلا ويجوز أن* يراد بكل أمة أمم الكفرة إذ الكلام فيهم وبعملهم شرهم وفسادهم والمشبه به تزيين سب الله تعالى لهم (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ) مالك أمرهم (مَرْجِعُهُمْ) أى رجوعهم بالبعث بعد الموت (فَيُنَبِّئُهُمْ) من غير تأخير (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فى الدنيا على الاستمرار من السيئات المزينة لهم وهو وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتة سرية مبنية على حكمة أبية وهى أن كل ما يظهر فى هذه النشأة من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقية التى بها يظهر فى النشأة الآخرة فإن المعاصى سموم قاتلة قد برزت فى الدنيا بصورة ما تستحسنها نفوس العصاة كما نطقت به هذه الآية الكريمة وكذا الطاعات فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فأعمال الكفرة قد برزت لهم فى النشأة بصورة مزينة يستحسنها الغواة ويستحبها الطغاة وستظهر فى النشأة الآخرة بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقية بالإخبار بها لما أن كلا منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هى فليتدبر قوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) روى أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقوننى فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعا* فسأل المسلمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزلها طمعا فى إيمانهم فهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء فنزلت وقوله تعالى (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) * مصدر فى موقع الحال أى أقسموا به تعالى جاهدين فى أيمانهم (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من مقترحاتهم أو من جنس الآيات وهو الأنسب بحالهم فى المكابرة والعناد وترامى أمرهم فى العتو والفساد حيث كانوا* لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات الباهرة من جنس الآيات (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) وما كان مرمى غرضهم فى ذلك إلا التحكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه من البينات* الحقيقة بأن تقطع بها الأرض وتسير بها الجبال (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ) أى كلها فيدخل فيها ما اقترحوه دخولا* أوليا (عِنْدَ اللهِ) أى أمرها فى حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها ولا بشأن من شئونها قدرة أحد ولا مشيئته لا استقلالا ولا اشتراكا بوجه من الوجوه حتى يمكننى أن أتصدى لاستنزالها بالاستدعاء وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح على أبلغ وجه وأحسنه

١٧٢

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠)

____________________________________

ببيان علو شأن الآيات وصعوبة منالها وتعاليها من أن تكون عرضة للسؤال والاقتراح وأما ما قيل من أن المعنى إنما الآيات عند الله تعالى لا عندى فكيف أجيبكم إليها أو آتيكم بها وهو القادر عليها لا أنا حتى آتيكم بها فلا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى وإرادته حتى يجابوا بذلك وقوله تعالى (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق* من جهته تعالى لبيان الحكمة الداعية إلى ما أشعر به الجواب السابق من عدم مجىء الآيات خوطب به المسلمون إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين فى نزولها طمعا فى إسلامهم وإما معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التعميم لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهم بالدعاء وقد بين فيه أن أيمانهم فاجرة وإيمانهم مما لا يدخل تحت الوجود وإن أجيب إلى ما سألوه وما استفهامية إنكارية لكن لا على أن مرجع الإنكار هو وقوع المشعر به بل هو نفس الإشعار مع تحقق المشعر به فى نفسه أى وأى شىء يعلمكم أن الآية التى يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقون على ما كانوا عليه من الكفر والعناد أى لا تعلمون ذلك فتتمنون مجيئها طمعا فى إيمانهم فكأنه بسط عذر من جهة المسلمين فى تمنيهم نزول الآيات وقيل لا مزيدة فيتوجه الإنكار إلى الإشعار والمشعر به جميعا أى أى شىء يعلمكم إيمانهم عند مجىء الآيات حتى تتمنوا مجيئها طمعا فى إيمانهم فيكون تخطئة لرأى المسلمين وقيل أن بمعنى لعل يقال ادخل السوق أنك تشترى اللحم وعنك وعلك ولعلك كلها بمعنى ويؤيده أنه قرىء لعلها إذا جاءت لا يؤمنون على أن الكلام قدتم قبله والمفعول الثانى ليشعركم محذوف كما فى قوله تعالى (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقريره أى أى شىء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجىء الآيات لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها فما لكم تتمنون مجيئها فإن تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها محقق الوجود عند مجيئها لا مرجو العدم وقرىء إنها بالكسر على أنه استئناف حسبما سبق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم وقرىء لا تؤمنون بالفوقانية فالخطاب فى (وَما يُشْعِرُكُمْ) للمشركين وقرىء وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الإقسام المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجىء الآيات وبكونها حينئذ كما هى الآن (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) عطف على لا يؤمنون داخل فى حكم ما يشعركم مقيد بما قيد به أى وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه لكن لا مع توجهها إليه واستعدادها لقبوله بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم فى الكفر وحينما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشىء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أى بما جاء من الآيات (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى عند ورود الآيات السابقة والكاف فى محل* النصب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب (لا يُؤْمِنُونَ) وما مصدرية أى لا يؤمنون بل يكفرون كفرا كائنا ككفرهم أول مرة وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار بينهما لأنه من متممات عدم إيمانهم (وَنَذَرُهُمْ) * عطف على (لا يُؤْمِنُونَ) داخل فى حكم الاستفهام الإنكارى مقيد بما قيد به مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة

١٧٣

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١)

____________________________________

والأبصار ومعرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره بأن يقلب الله سبحانه مشاعرهم عن الحق مع توجههم إليه واستعدادهم له بطريق الإجبار بل بأن يخليهم وشأنهم بعد ما علم فساد استعدادهم وفرط نفورهم عن الحق وعدم تأثير اللطف فيهم أصلا ويطبع على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادهم كما أشرنا إليه وقوله تعالى* (فِي طُغْيانِهِمْ) متعلق ب (نَذَرُهُمْ) وقوله تعالى (يَعْمَهُونَ) حال من الضمير المنصوب فى (نَذَرُهُمْ) أى ندعهم فى طغيانهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين أو مفعول ثان ل (نَذَرُهُمْ) أى نصيرهم عامهين وقرىء يقلب ويذر بالياء على إسنادهما إلى ضمير الجلالة وقرىء تقلب بالتاء والبناء للمفعول على إسناده إلى (أَفْئِدَتَهُمْ) (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) تصريح بما أشعر به قوله عزوجل (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوه من الآيات إثر بيان أنها فى حكمه تعالى وقضائه المبنى على الحكم البالغة لا مدخل لأحد فى أمرها بوجه من الوجوه وبيان لكذبهم فى أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وآكده أى ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه ههنا من آية واحدة من الآيات بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه* بقولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) وقولهم (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) وشهدوا بحقية الإيمان بعد أن* أحييناهم حسبما اقترحوه بقولهم (فَأْتُوا بِآبائِنا (وَحَشَرْنا) أى جمعنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) بضمتين وقرىء بسكون الباء أى كفلاء بصحة الأمر وصدق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه جمع قبيل بمعنى الكفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب وهو الأنسب بقوله تعالى (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أى لو لم نقتصر على ما اقترحوه بل زدنا على ذلك بأن أحضرنا لديهم كل شىء يتأتى منه الكفالة والشهادة بما ذكر لا فرادى بل بطريق المعية أو جماعات على أنه جمع قبيل وهو جمع قبيلة وهو الأوفق لعموم كل شىء وشموله للأنواع والأصناف أى حشرنا كل شىء نوعا نوعا وصنفا صنفا وفوجا فوجا وانتصابه على الحالية وجمعيته باعتبار الكل المجموعى اللازم للكل الإفرادى أو مقابلة وعيانا على أنه مصدر كقبلا وقد قرىء كذلك وانتصابه على الوجهين على أنه مصدر فى موقع الحال وقد نقل عن المبرد وجماعة من أهل اللغة أن الأخير بمعنى الجهة كما فى قولك لى قبل* فلان حق وأن انتصابه على الظرفية (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أى ما صح وما استقام لهم الإيمان لتماديهم فى العصيان وغلوهم فى التمرد والطغيان وأما سبق القضاء عليهم بالكفر فمن الأحكام المترتبة على ذلك حسبما ينبىء* عنه قوله عزوجل (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وقوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة أى ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان فى حال من الأحوال الداعية إليه المتممة لموجباته المذكورة إلا فى حال مشيئته تعالى لإيمانهم أو من أعم العلل أى ما كانوا ليؤمنوا لعلة من العلل المعدودة وغيرها إلا لمشيئته تعالى له وأيا ما كان فليس المراد بالاستثناء بيان أن إيمانهم على خطر الوقوع بناء على كون مشيئته

١٧٤

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢)

____________________________________

تعالى أيضا كذلك بل بيان استحالة وقوعه بناء على استحالة وقوعها كأنه قيل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وهيهات ذلك وحالهم حالهم بدليل ما سبق من قوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) الآية كيف لا وقوله عزوجل (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) استدراك من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء لا قبله ولا* ريب فى أن الذى يجهلونه سواء أريد بهم المسلمون وهو الظاهر أو المقسمون ليس عدم إيمانهم بلا مشيئة الله تعالى كما هو اللازم من حمل النظم الكريم على المعنى الأول فإنه ليس مما يعتقده الأولون ولا مما يدعيه الآخرون بل إنما هو عدم إيمانهم لعدم مشيئته إيمانهم ومرجعه إلى جهلهم بعدم مشيئته إياه فالمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجىء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون فالجملة مقررة لمضمون قوله تعالى (وَما يُشْعِرُكُمْ) الخ على القراءة المشهورة أو ولكن أكثر المشركين يجهلون عدم إيمانهم عند مجىء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون فالجملة على القراءة السابقة بيان مبتدأ لمنشأ خطأ المقسمين ومناط إقسامهم وتقرير له على قراءة لا تؤمنون بالتاء الفوقانية وكذا على قراءة وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يشاهده من عداوة قريش له عليه الصلاة والسلام وما بنوا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيل ببيان أن ذلك ليس مختصا بك بل هو أمر ابتلى به كل من سبقك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أشير إليه بذلك منصوب بفعله المحذوف مؤكد لما بعده وذلك إشارة إلى ما يفهم مما قبله أى جعلنا لكل نبى عدوا والتقديم على الفعل المذكور للقصر المفيد للمبالغة أى مثل ذلك الجعل الذى جعلنا فى حقك حيث جعلنالك عدوا يضادونك ويضادونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائل ويدبرون فى إبطال أمرك مكايد جعلنا لكل نبى تقدمك عدوا فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك لا جعلا أنقص منه وفيه دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم‌السلام بخلقه تعالى للابتلاء (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) أى مردة الفريقين على أن الإضافة بمعنى من البيانية وقيل هى إضافة الصفة إلى الموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين وقيل هى بمعنى اللام أى الشياطين التى للإنس والتى للجن وهو بدل من (عَدُوًّا) والجعل متعد إلى واحد أو إلى اثنين وهو أول مفعوليه قدم عليه الثانى مسارعة إلى بيان العداوة واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف هو حال من عدوا وقوله تعالى (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم وتحقيق وجه الشبه بين المشبه والمشبه به أو حال من الشياطين أو نعت لعدوا وجمع الضمير باعتبار المعنى فإنه عبارة عن الأعداء كما فى قوله[إذا أنالم أنفع صديقى بوده * فإن عدوى لم يضر همو بغضى] والوحى عبارة عن الإيماء والقول السريع أى يلقى

١٧٥

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١١٤)

____________________________________

* وبوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى بعض آخر (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) * أى المموه منه المزين ظاهره الباطل باطنه من زخرفه إذا زينه (غُرُوراً) مفعول له ل (يُوحِي) أى ليغروهم أو مصدر فى موقع الحال أى غارين أو مصدر مؤكد لفعل مقدر هو حال من فاعل (يُوحِي) أى يغرون* غرورا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) رجوع إلى بيان الشئون الجارية بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم‌السلام وبين أممهم كما ينبىء عنه الالتفات والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعربة عن كمال اللطف فى التسلية أى ولو شاء ربك عدم الأمور المذكورة لا إيمانهم كما قيل فإن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة إنما يحذف عند وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء* وهو قوله تعالى (ما فَعَلُوهُ) أى ما فعلوا ما ذكر من عداوتك وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل* الباطلة المتعلقة بأمرك خاصة لا بما يعمه وأمور الأنبياء عليهم‌السلام أيضا كما قيل فإن قوله تعالى (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) صريح فى أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام أى إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكايد فإن لهم فى ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته تعالى على الحكم البالغة البتة (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أى إلى زخرف القول وهو على الوجه الأول علة أخرى للإيجاء معطوفة على غرورا وما بينهما اعتراض وإنما لم ينصب لفقد شرطه إذ الغرور فعل الموحى وصغو الأفئدة فعل الموحى إليه أى يوحى* بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم به ولتميل إليه (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التى يجب الإيمان بها وهم بها كافرون إشعارا بما هو المدار فى صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة فى هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذه الشهوات آلاما وإنما ينظرون إلى ما بدالهم فى الدنيا بادى الرأى فهم مضطرون إلى حب الشهوات التى من جملها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها وأما على الوجهين الأخيرين فهو علة لفعل محذوف يدل عليه المقام أى ولكون ذلك جعلنا ما* جعلنا والمعتزلة جعلوا اللام لام العاقبة أو لام القسم أو لام الأمر وضعفه فى غاية الظهور (وَلِيَرْضَوْهُ) * لأنفسم بعد ما مالت إليه أفئدتهم (وَلِيَقْتَرِفُوا) أى يكتسبوا بموجب ارتضائهم له (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) له من القبائح التى لا يليق ذكرها (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) كلام مستأنف وارد على إرادة القول والهمزة

١٧٦

للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام أى قل لهم أأميل إلى زخارف الشياطين فأبتغى حكما غير الله يحكم بيننا ويفصل المحق منا من المبطل وقيل إن مشركى قريش قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما فى كتابهم من أمرك فنزلت وإسناد الابتغاء المنكر إلى نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلى المشركين كما فى قوله تعالى (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) مع أنهم الباغون لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم اجعل بيننا وبينك حكما وغير إما مفعول (أَبْتَغِي) و (حَكَماً) حال منه وإما بالعكس وأيا ما كان فتقديمه على الفعل الذى هو المعطوف بالفاء حقيقة كما أشير إليه للإيذان بأن مدار الإنكار هو ابتغاء غيره تعالى حكما لا مطلق الابتغاء وقيل (حَكَماً) تمييز لما فى غير من الإبهام كقولهم إن لنا غيرها إبلا قالوا الحكم أبلغ من الحاكم وأدل على الرسوخ لما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم وقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) جملة حالية مؤكدة لإنكار ابتغاء* غيره تعالى حكما ونسبة الإنزال إليهم خاصة مع أن مقتضى المقام إظهار تساوى نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بإبهام قوة نسبته إليهم أى أغيره تعالى أبتغى حكما والحال أنه هو الذى أنزل إليكم وأنتم أمية أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب (مُفَصَّلاً) أى مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من* الأحكام بحيث لم يبق فى أمور الدين شىء من التخليط والإبهام فأى حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهذا كما ترى صريح فى أن القرآن الكريم كاف فى أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله وأما أن يكون لإعجازه دخل فى ذلك كما قيل فلا وقوله تعالى (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) كلام* مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته سبحانه لتحقيق حقية الكتاب الذى نيط به أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عزوجل ببيان أن الذين وثقوا بهم ورضوا بحكميتهم حسبما نقل آنفا من علماء اليهود والنصارى عالمون بحقيته ونزوله من عنده تعالى وفى التعبير عن التوراة والإنجيل باسم الكتاب إيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك فى الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموه من جهة كتابهم حيث وجدوه حسبما نعت فيه وعاينوه موافقا له فى الأصول وما لا يختلف من الفروع ومخبرا عن أمور لا طريق إلى معرفتها سوى الوحى والمراد بالموصول إما علماء الفريقين وهو الظاهر فالإيتاء هو التفهيم بالفعل وإما الكل وهم داخلون فيه دخولا أوليا فهو أعم مما ذكر ومن التفهيم بالقوة ولا ريب فى أن الكل متمكنون من ذلك وقبل المراد مؤمنو أهل الكتاب وقرىء منزل من الإنزال والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام والباء فى قوله تعالى (بِالْحَقِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن فى (مُنَزَّلٌ) أى ملتبسا بالحق (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أى فى أنهم يعلمون* ذلك لما لا تشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهى على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآن أو فى أنه منزل من ربك بالحق فيكون من باب التهييج والإلهاب كقوله تعالى (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ

١٧٧

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (١١٦)

____________________________________

الْمُشْرِكِينَ) وقيل الخطاب فى الحقيقة للأمة وإن كان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم صورة وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة قد تعاضدت وتظاهرت فلا ينبغى لأحد أن يمترى فيه والفاء على هذه الوجوه لترتيب النهى على نفس علمهم بحال القرآن (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) شروع فى بيان كمال الكتاب المذكور من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه تعالى بكونه منزلا منه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتاب به وإنما عبر عنه بالكلمة لأنها الأصل فى الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم وقرىء كلمات* ربك (صِدْقاً وَعَدْلاً) مصدران نصبا على الحال وقيل على التمييز وقيل على العلة وقوله تعالى (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) إما استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها فى نفسها وإما حال أخرى من فاعل (تَمَّتْ) على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط والمعنى أنها بلغت الغاية القاصية صدقا فى الأخبار والمواعيد وعدلا فى الأقضية والأحكام لا أحد يبدل شيئا من ذلك بما هو أصدق وأعدل ولا بما هو مثله فكيف يتصور* ابتغاء حكم غيره تعالى (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكل ما يتعلق به السمع (الْعَلِيمُ) بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل فى ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولا أوليا هذا وقد قيل المعنى لا أحد يقدر على أن يحرفها كما فعل بالتوراة فيكون ضمانا لها من الله عزوجل بالحفظ كقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أو لا نبى ولا كتاب بعدها ينسخها (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) لما تحقق اختصاصه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجبها من إنزال الكتاب الكامل الفاصل بين الحق والباطل وتمام صدق كلامه وكمال عدالة أحكامه وامتناع وجود من يبدل شيئا منها واستبداده تعالى بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات عقب ذلك ببيان أن الكفرة متصفون بنقائض تلك الكمالات من النقائص التى هى الضلال والإضلال واتباع الظنون الفاسدة الناشىء من الجهل والكذب على الله سبحانه وتعالى إبانة لكمال مباينة حالهم لما يرومونه وتحذيرا عن الركون إليهم والعمل بآرائهم والمراد بمن فى الأرض الناس* وبأكثرهم الكفار وقيل أهل مكة والأرض أرضها أى إن تطعهم بأن جعلت منهم حكما (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق الموصل إليه أو عن الشريعة التى شرعها لعباده (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون أو جهالاتهم وآراؤهم الباطلة على أن المراد بالظن ما يقابل العلم والجملة استئناف مبنى على سؤال نشأ من الشرطية كأنه قيل كيف يضلون فقيل لا يتبعون فى أمور دينهم إلا الظن (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فيضلون ضلالا مبينا ولا ريب فى أن الضال* المتصدى للإرشاد إنما يرشد غيره إلى مسلك نفسه فهم ضالون مضلون وقوله تعالى (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) عطف على ما قبله داخل فى حكمه أى يكذبون على الله سبحانه فيما ينسبون إليه تعالى كاتخاذ الولد وجعل

١٧٨

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩)

____________________________________

عبادة الأوثان ذريعة إليه تعالى وتحليل الميتة وتحريم البحائر ونظائرها أو يقدرون أنهم على شىء وأنى لهم ذلك ودونه مناط العيوق وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) تقرير لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أى هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين ومن موصولة أو موصوفة فى محل النصب لا بنفس أعلم فإن أفعل التفضيل لا ينصب الظاهر فى مثل هذه الصور بل بفعل دل هو عليه أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر يضل والجملة معلق عنها الفعل المقدر وقرىء يضل بضم الياء على أن من فاعل ليضل ومفعوله محذوف ومحلها النصب بما ذكر من الفعل المقدر أى هو أعلم يعلم من يضل الناس فيكون تأكيد للتحذير عن طاعة الكفرة وأما أن الفاعل هو الله تعالى ومن منصوبة بما ذكر أى يعلم من يضله أو مجرورة بإضافة أعلم إليها أى أعلم المضلين من قوله تعالى (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أو من قولك أضللته إذا وجدته ضالا فلا يساعده السباق والسياق والتفضيل فى العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التى يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أمر مترتب على النهى عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحلال وتحريم الحرام وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم فقيل للمسلمين كلوا مما ذكر اسمه تعالى خاصة على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتف أنفه (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ) التى من جملتها الآيات الواردة فى هذا* الشأن (مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان بها يقتضى استباحة ما أحله الله والاجتناب عما حرمه وجواب الشرط* محذوف لدلالة ما قبله عليه (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) إنكار لأن يكون لهم شىء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب ونحوها وقوله تعالى (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) الخ جملة حالية مؤكدة للإنكار كما فى قوله تعالى (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أى وأى سبب حاصل لكم فى أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه أو وأى غرض يحملكم على أن لا تأكلوا ويمنعكم من أكله والحال أنه قد فصل لكم (ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) بقوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الخ فبقى ما عدا ذلك على الحل لا بقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) الخ لأنها مدنية وأما التأخر فى التلاوة فلا يوجب التأخر فى النزول وقرىء الفعلان على البناء للمفعول وقرىء الأول على البناء للفاعل والثانى للمفعول (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) مما حرم فإنه أيضا حلال حينئذ (وَإِنَّ كَثِيراً) أى من

١٧٩

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢)

____________________________________

* الكفار (لَيُضِلُّونَ) الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كعمرو بن لحى وأضرابه وقرىء يضلون (بِأَهْوائِهِمْ) * الزائغة وشهواتهم الباطلة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مقتبس من الشريعة الشريفة مستند إلى الوحى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أى ما يعلن من الذنوب وما يسر أو ما يعمل منها بالجوارح وما بالقلب وقيل الزنا فى الحوانيت واتخاذ* الأخدان (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أى يكتسبونه من الظاهر والباطن (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) كائنا ما كان فلا بد من اجتنابهما والجملة تعليل للأمر (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ظاهر فى تحريم متروك التسمية عمدا كان أو نسيانا وإليه ذهب داود وعن أحمد بن حنبل مثله وقال مالك والشافعى بخلافه لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه وفرق أبو حنيفة بين العمد والنسيان وأوله بالميتة* أو بما ذكر عليه اسم غيره تعالى لقوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) فإن الفسق ما أهل به لغير الله والضمير لما ويجوز* أن يكون للأكل المدلول عليه بلا تأكلوا والجملة مستأنفة وقيل حالية (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) المراد بالشياطين إبليس وجنوده فإيحاؤهم وسوستهم إلى المشركين وقيل مردة المجوس فإيحاؤهم إلى أوليائهم ما أنهوا إلى قريش بالكتاب أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن* ما يقتلونه حلال وما يقتله الله حرام (لِيُجادِلُوكُمْ) أى بالوساوس الشيطانية أو بما نقل من أباطيل المجوس* وهو يؤيد التأويل بالميتة (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) فى استحلال الحرام وساعدتموهم على أباطيلهم (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ضرورة أن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره واتبعه فى دينه فقد أشركه به تعالى بل آثره عليه سبحانه (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) وقرىء ميتا على الأصل (فَأَحْيَيْناهُ) تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذيرهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحى الإلهى والمشركون خابطون فى ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل إطاعتهم لهم والهمزة للإنكار والنفى والواو لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذى يدل عليه الكلام أى أأنتم مثلهم ومن كان ميتا فأعطيناه الحياة وما يتبعها من القوى المدركة* والمحركة (وَجَعَلْنا لَهُ) مع ذلك من الخارج (نُوراً) عظيما (يَمْشِي بِهِ) أى بسببه والجملة استئناف مبنى على* سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فماذا يصنع بذلك النور فقيل يمشى به (فِي النَّاسِ) أى فيما بينهم آمنا من* جهتهم أو صفة له (كَمَنْ مَثَلُهُ) أى صفته العجيبة وهو مبتدأ وقوله تعالى (فِي الظُّلُماتِ) خبره على أن

١٨٠