روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

لأنه قيد بالوقت وأتى بالغاية وما هو خلقي لا يزول ، وقال بعضهم : لم أر أحدا يجيز عشوت عنه إذا أعرضت وإنما يقال تعاشيت وتعاميت عن الشيء إذا تغافلت عنه كأنك لم تره ويقال : عشوت إلى النار إذا استدللت عليها ببصر ضعيف ، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن استدللت عليها ببصر ضعيف ، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن مشى مشية العرجان من غير عرج على ما في الكشاف ، وفيه خلاف لأهل اللغة ففي القاموس يقال : عرج أي بالفتح إذا أصابه شيء في رجله وليس بخلقة فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة ، وقرأ زيد بن علي «يعشو» بإثبات الواو وخرج ذلك الزمخشري على أن من موصولة لا شرطية جازمة ، وجوز أن تكون شرطية والمدة إما للإشباع أو على لغة من يجزم المعتل الآخر بحذف الحركة على ما حكاه الأخفش ، وجوز كون الفعل مجزوما بحذف النون والواو ضمير الجمع ، وقد روعي فيه معنى من ، وتخريج الزمخشري مبني على الفصيح المطرد المتبادر.

(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) أي نتح له شيطانا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى.

(فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) دائما لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب على الكفر بالختم وعدم الفلاح كما يقال : إن الله تعالى يعاقب على المعصية بمزيد اكتساب السيئات ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه : والسلمي والأعمش ويعقوب وأبو عمرو بخلاف عنه. وحماد عن عاصم وعصمة عن الأعمش وعن عاصم والعليمي عن أبي بكر «يقيض» بالياء على إسناده إلى ضمير (الرَّحْمنِ) ، وقرأ ابن عباس «يقيض» بالياء والبناء للمفعول «شيطان» بالرفع والفعل في جميع القراءات مجزوم ولم نسمع أنه قرئ بالرفع ، وفي الكشاف حق من قرأ «من يعشو» بالواو أن يرفعه أي بناء على تخريجه ذلك على أن من موصولة ، وجوز على ذلك أيضا أن يكون «يقيّض» مرفوعا لكنه سكن تخفيفا.

وفي البحر يجوز أن تكون (مَنْ) موصولة وجزم (نُقَيِّضْ) تشبيها للموصول باسم الشرط وإذا كان ذلك مسموعا في الذي وهو لم يكن اسم شرط قط فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولا وشرطا ، قال الشاعر:

لا تحفرن بئرا تريد أخا بها

فإنك فيها أنت من دونه تقع

كذاك الذي يبغي على الناس ظالما

تصبه على رغم عواقب ما صنع

أنشدهما ابن الاعرابي وهو مذهب للكوفيين ، وله وجه من القياس وهو أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره فكذلك يشبه به فينجزم الخبر إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببا عن الصلة بشروطه المذكورة في النحو وهذا لا يقيسه البصريون (وَإِنَّهُمْ) أي الشياطين الذين قيض وقدر كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي ليصدون قرناءهم وهم الكفار المعبر عنهم بمن يعش ، وجمع ضمير الشيطان لأن المراد به الجنس. وجمع ضمير من رعاية للمعنى كما أفرد أولا رعاية للفظ. وفي الانتصاف أن في هذه الآية نكتتين بديعتين الأولى الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم وهي مسألة أضرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بإفادتها العموم حتى استدرك على الأئمة إطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص ، وقال إن الشرط يعم والنكرة في سياقه تعم وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن علي الأبياري شارح كتابه ردا عنيفا ، وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية ، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط ونحن نعلم أنه إنما أريد عموم الشياطين لا واحد لوجهين. أحدهما أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا فكيف بالعاشي عن ذكر الله تعالى والآخر من الآية وهو أنه أعيد عليه الضمير مجموعا في قوله تعالى : «وإنهم» فإنه عائد إلى الشيطان قولا واحدا ولو لا إفادته عموم الشمول لما

٨١

جاز عود ضمير الجمع عليه بلا إشكال ، فهذه نكتة تجد سماعها لمخالفي هذا الرأي سكتة. النكتة الثانية أن فمها ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك واحتج لذلك بأنه إجمال بعد تفسير ، وهو خلاف المعهود من الفصاحة وقد نقض ذلك الكندي وغيره بآيات ، واستخرج جدي من هذه الآية نقض ذلك أيضا لأنه أعيد الضمير على اللفظ في (يَعْشُ) و (لَهُ) وعلى المعنى في (لَيَصُدُّونَهُمْ) ثم على اللفظ في (حَتَّى إِذا جاءَنا) وقد قدمت أن الذي منع قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستقلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك انتهى.

وفي كون ضمير (إِنَّهُمْ) عائدا على الشيطان قولا واحدا نظر ، فقد قال أبو حيان : الظاهر أن ضمير النصب في (إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ) عائد على من على المعنى وهو أولى من عود ضمير (إِنَّهُمْ) على الشيطان كما ذهب إليه ابن عطية لتناسق الضمائر في (إِنَّهُمْ) وما بعده فلا تغفل (عَنِ السَّبِيلِ) المستبين الذي يدعو إليه ذكر الرحمن (وَيَحْسَبُونَ) أي العاشون (إِنَّهُمْ) أي الشياطين (مُهْتَدُونَ) أي إلى ذلك السبيل الحق وإلا لما اتبعوهم أو ويحسب العاشون أن أنفسهم مهتدون فإن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما.

والظاهر أن أبا حيان يختار هذا الوجه للتناسق أيضا ، والجملة حال من مفعول «يصدون» بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتمالها على ضميريهما أي وإنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه.

وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددي لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَنا) فإن (حَتَّى) وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتما أن تكون غاية لأمر ممتد وأفرد الضمير في جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر أمر العاشين على ما ذكر حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة (قالَ) مخاطبا له : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي في الدنيا ، وقيل : في الآخرة (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي بعد كل منهما من الآخر ، والمراد بهما المشرق والمغرب كما اختاره الزجاج او الفراء وغيرهما لكن غلب المشرق على المغرب وثنيا كالموصلين للموصل والجزيرة وأضيف البعد إليهما ، والأصل بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق وإنما اختصر هذا المبسوط لعدم الإلباس إذ لا خفاء أنه لا يراد بعدهما من شيء واحد لأن البعد من أحدهما قرب من الآخر ولأنهما متقابلان فبعد أحدهما من الآخر مثل في غاية البعد لا بعدهما عن شيء آخر ، وإشعار السياق بالمبالغة لا ينكر فلا لبس من هذا الوجه أيضا ، وقال ابن السائب : لا تغليب ، والمراد مشرق الشمس في أقصر يوم من السنة ومشرقها في أطول يوم منها (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي أنت ، وقيل : أي هو على أنه من كلامه تعالى وهو كما ترى.

وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو بكر والحرميان وقتادة والزهري والجحدري «جاءانا» على التثنية أي العاشي والقرين وقوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ) إلخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عزوجل توبيخا وتقريعا ، وفاعل (يَنْفَعَكُمُ) ضمير مستتر يعود على ما يفهم مما قبل أي لن ينفعكم هو أي تمنيكم لمباعدتهم أو الندم أو القول المذكور (الْيَوْمَ) أي يوم القيامة (إِذْ ظَلَمْتُمْ) بدل من (الْيَوْمَ) أي إذ تبين أنكم ظلمتم في الدنيا قاله غير واحد ، وفسر ذلك بالتبين قيل لئلا يشكل جعله وهو ماض بدلا من (الْيَوْمَ) وهو مستقبل لأن تبين كونهم ظالمين عند أنفسهم إنما يكون يوم القيامة فاليوم وزمان التبين متحدان وهذا كقوله :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

وأورد عليه أن السؤال عائد لأن (إِذْ) ظرف لما مضى من الزمان ولا يخرج عن ذلك باعتبار التبين وتفصي

٨٢

بعضهم عن الإشكال بأن إذ قد تخرج من المضي إلى الاستقبال على ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك محتجا بقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ) [غافر : ٧٠ ، ٧١] وإلى الحال كما ذهب إليه بعضهم محتجا بقوله سبحانه : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١] فلتكن هنا للاستقبال ، وأهل العربية يضعفون دعوى خروجها من المضي.

وقال الجلبي : لعل الأظهر حملها على التعليل فيتعلق بالنفي ، فقد قال سيبويه : إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة ، نعم أنكر الجمهور هذا القسم لكن إثبات سيبويه إياه يكفي حجة. فإن القول ما قالت حذام. وتعقب بأنه لا يكفي في تخريج كلام الله سبحانه إثبات سيبويه وحده مع إطباق جميع أئمة العربية على خلافه ، وأيضا تعليل النفي بعد يبعده وقال أبو حيان : لا يجوز البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز ، ولا يخفى أن ذلك مجاز فهل تكفي البدلية قرينة له فإن كفت فذاك ، وقال ابن جني : راجعت أبا علي في هذه المسألة يعني الإبدال المذكور مرارا وآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله سبحانه وعلمه جل شأنه لا يجري عليه عزوجل زمان فكأن (إِذْ) مستقبل أو (الْيَوْمَ) ماض فصح ذلك ، ورد بأن المعتبر حال الحكاية والكلام فيها وارد على ما تعارفه العرب ولولاه لسد باب النكات ولغت الاعتبارات في العبارات ومثله غني عن البيان ، وقال أبو البقاء : التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف للعلم به ، وقال الحوفي : (إِذْ) متعلقة بما دل عليه المعنى كأنه قيل ولن ينفعكم اليوم اجتماعكم إذ ظلمتم مثلا.

ومن الناس من استشكل الآية من حيث إن فيها إعمال (يَنْفَعَكُمُ) الدال على الاستقبال لاقترانه بلن في اليوم وهو الزمان الحاضر وإذ وهو للزمان الماضي ، وأجيب بأنه يدفع الثاني بما قدروه من التبين لأن تبين الحال يكون في الاستقبال والأول بأن (الْيَوْمَ) تعريفه للعهد وهو يوم القيامة لا للحضور كتعريف الآن وإن كان نوعا منه.

وقيل : يدفع بأن الاستقبال بالنسبة إلى وقت الخطاب وهو بعض أوقات اليوم وهو كما ترى فتأمل ولا تغفل.

وقوله تعالى : (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) تعليل لنفي النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.

وجوز أن يكون الفعل مسندا إليه أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدته وعنائه وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته أو لن ينفعكم ذلك من حيث التأسي فإن المكروب يتأسى ويتروح بوجدان المشارك وهو الذي عنته الخنساء بقولها :

يذكرني طلوع الشمس صخرا

وأذكره بكل مغيب شمس

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزي النفس عنه بالتأسي

فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه أو لن ينفعكم ذلك من حيث التشفي أي لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٨] وقولكم : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] لتتشفوا بذلك ، واعترض على الوجه الأول من هذه الأوجه الثلاثة بأن الانتفاع بالتعاون في تحمل أعباء العذاب ليس ما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه ، وأجيب بأنه غير بعيد أن يخطر ذلك ببالهم لمكان المقارنة والصحبة والغريق يتشبث بالحشيش والظمآن يحسب السراب شرابا.

٨٣

وقرأ ابن عامر «إنكم» بكسر الهمزة وهو تقوى ما ذكر أولا من إضمار الفاعل وتقدير اللام في أنكم معنى ولفظا لأنه لا يمكن أن يكون فاعلا فيتعين الإضمار ، ولأن الجملة عليها تكون استئنافا تعليليا فيناسب تقدير اللام لتتوافق القراءتان ، وقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) إنكار تعجيب من أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يقدر على هدايتهم وهو قد تمرنوا في الكفر واعتادوه واستغرقوا في الضلال بحيث صار ما بهم من العشى عمى مقرونا بالصمم (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين أعني العمى والضلال بحسب المفهوم وإن اتحدا مآلا ، ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط الذي لا يخفى لا توهم القصور منه عليه الصلاة والسلام ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله وحده بالقسر والإلجاء وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبالغ في المجاهدة في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاما عما يسمعونه من بينات القرآن فنزلت (أَفَأَنْتَ) إلخ (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي بذلك صدرك وصدور المؤمنين (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) لا محالة في الدنيا والآخرة واقتصر بعضهم على عذاب الآخرة لقوله تعالى في آية أخرى : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) [غافر : ٧٧] والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وما ذكرنا أتم فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام ، وأما تلك الآية فليس فيها ذكره ، وما مزيدة للتأكيد وهي بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة.

(أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) أي أو أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) بحيث لا مناص لهم من تحت ملكنا وقهرنا واعتبار الإرادة لأنها أنسب بذكر الاقتدار بعد ، وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخلف الميعاد إشارة إلى أنه هو الواقع ، وهكذا كان إذ لم يفلت أحد من صناديدهم في بدر وغيرها إلا من تحصين بالإيمان ، وقرئ «نرينك» بالنون الخفيفة (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر له عليه الصلاة والسلام أو لأمته بالدوام على التمسك بالآيات والعمل بها ، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كان أحد هذين الأمرين واقعا لا محالة فاستمسك بالذي أوحيناه إليك ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ) إلخ تعليل للاستمساك أو للأمر به.

وقرأ بعض قراء الشام «أوحي» بإسكان اللام ، وقرأ الضحاك «أوحى» مبنيا للفاعل (وَإِنَّهُ) أي ما أوحى إليك والمراد به القرآن (لَذِكْرٌ) لشرف عظيم (لَكَ وَلِقَوْمِكَ) هم قريش على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد.

وأخرج ابن عدي وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور فإذا قالوا : لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إذا سئل قال لقريش : فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك.

وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال : «كنت قاعدا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) الآية فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه» الحديث ، وفيه «فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي والشهيد من قومي إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة إلى أن قال عدي : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) إلخ ، وقيل هم العرب مطلقا لما أن القرآن نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص

٨٤

فالأخص منهم حتى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم ثم لبني هاشم أكثر مما يكون لسائر قريش ، وفي رواية عن قتادة هم من اتبعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمته.

وقال الحسن : هم الأمة والمعنى وإنه لتذكرة وموعظة لك ولأمتك ، والأرجح عندي القول الأول.

(وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه ، وقال الحسن والكلبي والزجاج : تسألون عن شكر ما جعله الله تعالى لكم من الشرف ، قيل إن هذه الآية تدل على إن الإنسان يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل إذ لو لم يكن مرغوبا فيه ما امتن الله تعالى به على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذكر الجميل قائم مقام الحياة ولذا قيل ذكر الفتى عمره الثاني ، وقال ابن دريد :

وإنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعى

وقال آخر :

إنما الدنيا محاسنها

طيب ما يبقى من الخبر

ويحكى أن الطاغية هلاكو سأل أصحابه : من الملك؟ فقالوا له : أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعتك الملوك وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن فقال لا الملك هذا له أزيد من ستمائة سنة قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم وليلة خمس مرات يريد محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ

٨٥

مُسْتَقِيمٌ)(٦٤)

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي هل حكمنا بعبادة غير الله سبحانه وهل جاءت في ملة من ملل المرسلين عليهم‌السلام والمراد الاستشهاد بإجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يكذب ويعادى له ، والكلام بتقدير مضاف أي واسأل أمم من أرسلنا أو على جعل سؤال الأمم بمنزلة سؤال المرسلين إليهم.

قال الفراء : هم إنما يخبرون عن كتب الرسل فإذا سألهم عليه الصلاة والسلام فكأنه سأل المرسلين عليهم‌السلام ، وعلى الوجهين المسئول الأمم ، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء وهو رواية عن ابن عباس أيضا.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات واسأل من أرسلنا إليهم رسلنا قبلك.

وأخرج هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال : كان عبد الله يقرأ واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا ، وعن ابن مسعود أنه قرأ واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبل مؤمني أهل الكتاب ، وجعل بعضهم السؤال مجازا عن النظر والفحص عن مللهم في سؤال الديار والاطلال ونحوها من قولهم : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك.

وروي عن ابن عباس أيضا وابن جبير والزهري وابن زيد أن الكلام على ظاهره وأنه عليه الصلاة والسلام قيل له ذلك ليلة الإسراء حين جمع له الأنبياء في البيت المقدس فافهم ولم يسأل عليه الصلاة والسلام إذ لم يكن في شك. وفي بعض الآثار أن ميكال قال لجبريل عليهما‌السلام : هل سأل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك؟ فقال : هو أعظم يقينا وأوثق إيمانا من أن يسأل. وتعقب هذا القول بأن المراد بهذا السؤال الزام المشركين وهم منكرون الإسراء ، وللبحث فيه مجال. والخطاب على جميع ما سمعت لنبينا عليه الصلاة والسلام.

وفي البحر الذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات قيل له اسأل أيها الناظر أتباع الرسل أجاءت رسلهم بعبادة غير الله عزوجل فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ولا يمكن أن يأتوا به ولعمري إنه خلاف الظاهر جدا ، ومما يقضي منه العجب ما قيل : إن المعنى واسألني أو واسألنا عمن أرسلنا وعلق اسأل فارتفع من وهو اسم استفهام على الابتداء وأرسلنا خبره والجملة في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض كأن سؤاله من أرسلت يا رب قبلي من رسلك أجعلت في رسالته آلهة تعبد ثم السؤال فحكى المعنى فرد الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى (مِنْ قَبْلِكَ) انتهى ، واسأل من قرأ أبا جاد أيرضى بهذا الكلام ويستحسن تفسير كلام الله تعالى المجيد بذلك (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ملتبسا بها (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أشراف قومه وخصوا بالذكر لأن غيرهم تبع (فَقالَ) لهم (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إليكم وأريد باقتصاص ذلك تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبطال قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] لأن موسى عليه‌السلام مع عدم زخارف الدنيا لديه كان له مع فرعون وهو ملك جبار ما كان وقد أيده الله سبحانه بوحيه وما أنزل عليه ، والاستشهاد بدعوته عليه‌السلام إلى التوحيد أثر ما أشير إليه من إجماع جميع الرسل عليهم‌السلام عليه ويعلم من ذلك وجه مناسبة الآيات لما قبلها ، وقال أبو حيان : مناسبتها من وجهين الأول أنه ذكر فيما قبل قول المشركين : (لَوْ لا نُزِّلَ) إلخ وفيه زعم أن العظم بالجاه والمال وأشير في هذه الآيات إلى أن مثل ذلك سبق إليه فرعون في قوله : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) [الزخرف : ٥١] إلخ فهو قدوتهم في ذلك وقد انتقم منه فكذلك ينتقم منهم ، الثاني أنه سبحانه لما قال : (وَسْئَلْ) إلخ ذكر جلّ وعلا قصة موسى وعيسى عليهما‌السلام وهما أكثر أتباعا ممن سبق من الأنبياء وكل جاء بالتوحيد فلم يكن فيما جاءا به إباحة

٨٦

اتخاذ آلهة من دون الله تعالى كما اتخذت قريش فناسب ذكر قصتهما الآية التي قبلها.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي فاجأهم الضحك منها أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها ، وفي الكشاف جاز أن تجاب لما بإذا المفاجاة لأن فعل المفاجأة مقدر معها وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم. فالجواب عنده ذلك الفعل وهو العامل في لما ، وقدر ماضيا لأنه المعروف في جوابها ، وإذا مفعول به لا ظرف ، وقال أبو حيان : لا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة. الأول أنها حرف فلا تحتاج إلى عامل. الثاني أنها ظرف مكان فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو خرجت فإذا زيد قائم فقائم هو الناصب لها والتقدير خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم. الثالث أنها ظرف زمان والعامل فيها الخبر أيضا كأنه قيل : ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم : وإذا لم يذكر بعد الاسم خبر أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبرا للمبتدإ : فإن كان جثة وقلنا : إذا ظرف مكان الأمر واضحا وإن قلنا ظرف زمان كان الكلام على حذف مضاف أي ففي الزمان حضور زيد ثم إن المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق بل يدل على أنها تكون من الكلام التي هي فيه تقول خرجت فإذا الأسد فالمعنى ففاجأني الأسد انتهى ، وقال الخفاجي ما قيل إن نصبها بفعل المفاجأة المقدر هكذا لم يقله أحد من النحاة لا يلتفت إليه وتفصيله في شروح المغني (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) من الآيات :

(إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي من آية مثلها في كونها آية دالة على النبوة واستشكل بأنه يلزم كون كل واحدة من الآيات فاضلة ومفضولة معا وهو يؤدي إلى التناقض وتفضيل الشيء على نفسه لعموم آية في النفي ، وأجيب بأن الغرض من هذا الكلام انهن موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه على معنى أن كل واحدة لكمالها في نفسها إذا نظر إليها قيل هي أكبر من البواقي لاستقلالها بإفادة المقصود على التمام كما قال الحماسي:

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري

وإذا لوحظ الكل توقف عن التفضيل بينهن ، ولقد فاضلت فاطمة بنت خرشب الأنمارية بين أولادها الكملة ربيعة الحفاظ. وعمارة الوهاب. وأنس الفوارس ثم قال : أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ، وقال بعض الأجلة : المراد بأفعل الزيادة من وجه أي ما نريهم من آية الا هي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار ، ولا ضمير في كون الشيء الواحد فاضلا ومفضولا باعتبارين ، وقد أطال الكلام في ذلك جلال الدين الدواني في حواشيه على الشرح الجديد للتجريد فليراجع ذلك من أراده ، وفي البحر قيل : كانت آياته عليه‌السلام من كبار الآيات وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة أي من أختها السابقة عليها ولا يبقى في الكلام تعارض ، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى لأنه لم يسبقها شيء فتكون أكبر منه ، وذكر بعضهم في الأكبرية أن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى فيزداد الرجوع انتهى ، والأولى ما تقدم لشيوع إرادة ذلك المعنى من مثل هذا التركيب (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) كالسنين والجراد والقمل وغيرها :

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكي يرجعوا ويتوبوا عما هم عليه من الكفر (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) قال الجمهور : وهو خطاب تعظيم فقد كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم علم السحر ، وحكاه في مجمع البيان عن الكلبي والجبائي ، وقيل : المعنى يا غالب السحرة من ساحره فسحره كخاصمه فخصمه فهو خطاب تعظيم أيضا ، وقيل :

٨٧

الساحر على المعنى المعروف فيه وقد تعودوا عليه‌السلام بذلك قبل ، ومقتضى مقام طلب الدعاء منه عليه‌السلام أن لا يدعوه به إلا أنهم لفرط حسرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به ، وقيل : هو خطاب استهزاء وانتقاص دعاهم إليه شدة شكيمتهم ومزيد حماقتهم وروي ذلك عن الحسن.

ودفع الزمخشري المنافاة بين هذا الخطاب وقولهم الآتي : (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) بأن ذلك القول وعد منوي إخلافه وعهد معزوم على نكثه معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب وفيه أن الوعد وإن كان منوي الأخلاف لكن إظهار الأخلاف حال التضرع إليه عليه‌السلام ينافيه لأنهم في استلانة قلبه عليه‌السلام.

وقيل الأظهر أنهم قالوا يا موسى كما في الأعراف لكن حكي الله تعالى كلامهم هنا على حسب حالهم ووفق ما في قلوبهم تقبيحا لذلك وتسلية لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون ذلك على عكس قوله سبحانه (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) [النساء : ١٥٧] وجعل على هذا قولهم الآتي مجمل ما فصل هنالك من الإيمان وإرسال بني إسرائيل فلا يحتاج إلى التزام كون القولين في مجلسين للجمع بين ما هنا وما هناك ، ولا يخلو عن بعد والالتزام المذكور لا أرى ضررا فيه. وقرئ «يا أيه» بضم الهاء (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ليكشف عنا العذاب (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بعهده عندك ، والمراد به النبوة وسميت عهدا إما لأن الله تعالى عاهد نبيه عليه‌السلام أن يكرمه بها وعاهد النبي ربه سبحانه على أن يستقل بأعبائها أو لما فيها من الكلفة بالقيام بأعبائها ومن الاختصاص كما بين المتواثقين أو لأن لها حقوقا تحفظ كما يحفظ العهد أو من العهد الذي يكتب للولاة كأن النبوة منشور من الله تعالى بتولية من أكرمه بها والباء إما صلة لادع. أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير فيه أي متوسلا إليه تعالى بما عهد أو بمحذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب ، وإما أن تكون للقسم والجواب ما يأتي ، وهي على هذا للقسم حقيقة وعلى ما قبله للقسم الاستعطافي وعلى الوجه الأول للسببية ، وإدخال ذلك في الاستعطاف خروج عن الاصطلاح ، وجوز أن يراد بالعهد عهد استجابة الدعوة كأنه قيل : بما عاهدك الله تعالى مكرما لك من استجابة دعوتك أو عهد كشف العذاب عمن اهتدى ، وأمر الباء في الوجهين على ما مر ؛ وأن يراد بالعهد الإيمان والطاعة أي بما عهد عندك فوفيت به على أنه من عهد إليه أن يفعل كذا أي أخذ منه العهد على فعله ومنه العهد الذي يكتب للولاة ، و (عِنْدَكَ) يغني عن ذكر الصلة مع إفادة أنه محفوظ مخزون عند المخاطب ، والأولى على هذا أن تكون ما موصولة ، وهذا الوجه فيه كما في الكشف نبو لفظا ومعنى وسياقا ما لا يخفى على الفطن.

(إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) لمؤمنون ثابتون على الإيمان وهو إما معلق بشرط كشف العذاب كما في قولهم المحكي في سورة الأعراف لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك أو غير معلق ويجب حينئذ أن يكون هذا منهم في مجلس آخر ، وإن قلنا : لم يصدر منهم طلب الدعاء إلا مرة أو أكثر منها لكن على طرز واحد قيل هنا : أرادوا من الاهتداء الإيمان وإرسال بني إسرائيل كما سمعت آنفا (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) أي بدعوته ففي الكلام حذف أي فدعانا بكشف العذاب فكشفناه فلما كشفناه عنهم (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) فاجأهم نكث عهدهم بالاهتداء أو فاجئوا وقت نكث عهدهم. وقرأ أبو حيوة «ينكثون» بكسر الكاف.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي رفع صوته بنفسه فيما بين قومه بذلك القول ، ولعله جمع عظماء القبط في محله الذي هو فيه به أن كشف العذاب فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع القبط ويعظم في نفوسهم مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه‌السلام ويتركوه.

ويجوز أن يكون إسناد النداء إليه مجازا والمراد أمر بالنداء بذلك في الأسواق والأزقة ومجامع الناس وهذا كما

٨٨

يقال بنى الأمير المدينة ، (وَنادى) قيل معطوف على فاجأ المقدر ونزل منزلة اللازم وعدي بفي كقوله : يجرح في عراقيبها نصلي. للدلالة على تمكين النداء فيهم ، وعنى بملك مصر ضبطها والتصرف فيها بالحكم ولم يرد مصر نفسها بل هي وما يتبعها وذلك من اسكندرية إلى أسوان كما في البحر ، والأنهار الخلجان التي تخرج من النيل المبارك كنهر الملك. ونهر دمياط. ونهر تنيس ولعل نهر طوطون كان منها إذ ذاك لكنه اندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الإسلام وأراد بقوله (مِنْ تَحْتِي) من تحت أمري.

وقال غير واحد كانت أنهار تخرج من النيل وتجري من تحت قصره وهو مشرف عليها ، وقيل : كان له سرير عظيم مرتفع تجري من تحته أنهار أخرجها من النيل ، وقال قتادة : كانت له جنان وبساتين بين يديه تجري فيها الأنهار ، وفسر الضحاك الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة ، ومعنى كونهم يجرون من تحته أنهم يسيرون تحت لوائه ويأتمرون بأمره ، وقد أبعد جدا وكذا من فسرها بالأموال ومن فسرها بالخيل وقال : كما يسمى الفرس بحرا يسمى نهرا بل التفاسير الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية فلا ينبغي أن يلتفت إليها ، والواو في (وَهذِهِ) إلخ إما عاطفة لهذه الأنهار على الملك فجملة تجري حال منها أو للحال فهذه مبتدأ و (الْأَنْهارُ) صفة أو عطف بيان وجملة (تَجْرِي) خبر للمبتدإ وجملة هذه إلخ حال من ضمير التكلم ، وجوز أن تكون للعطف و (هذِهِ تَجْرِي) مبتدأ وخبر والجملة عطف على اسم وخبرها ، وقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) على تقدير المفعول أي أفلا تبصرون ذلك أي ما ذكر ، ويجوز أن ينزل منزلة اللازم والمعنى أليس لكم بصر أو بصيرة ، وقرأ عيسى «تبصرون» بكسر النون فتكون الياء الواقعة مفعولا محذوفة ، وقرأ فهد بن الصقر «يبصرون» بياء الغيبة ذكره في الكامل للهزلي والساجي عن يعقوب ذكره ابن خالويه ، ولا يخفى ما بين افتخار اللعين بملك مصر ودعواه الربوبية من البعد البعيد ، وعن الرشيد أنه لما قرأ هذه الآية قال لأولينها ـ يعني مصر ـ أخس عبيدي فولاها الخطيب وكان على وضوئه ، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال : هي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) مع هذه البسطة والسعة في الملك والمال (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي ضعيف حقير أو مبتذل ذليل فهو من المهانة وهي القلة أو الذلة (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي الكلام ، والجمهور أنه عليه‌السلام كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة لكن اللعين بالغ.

ومن ذهب إلى أن الله تعالى كان أجاب سؤاله حل عقدة من لسانه فلم يبق فيه منها أثر قال : المعنى ولا يكاد يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعى لا أنه لا قدرة له على الإفصاح باللفظ وهو افتراء عليه‌السلام ألا ترى إلى مناظرته له ورده عليه وإفحامه إياه ، وقيل : عابه بما كان به عليه‌السلام من الحبسة أيام كان عنده وأراد اللعين أنه عليه‌السلام ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسان وإبانة الكلام ، و (أَمْ) على ما نقل عن سيبويه والخليل متصلة ، وقد نزل السبب بعدها منزلة المسبب على ما ذهب إليه الزمخشري ، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) موضع أم تبصرون.

وإيضاح ذلك أن فرعون عليه اللعنة لما قدم أسباب البسطة والرئاسة بقوله (أَلَيْسَ لِي) إلخ وعقبه بقوله أفلا تبصرون استقصارا لهم وتنبيها على أنه من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين قال في مقابله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) بمعنى أم تبصرون أني أنا المقدم المتبوع ، وفي العدول تنبيه على أن هذا الشق هو المسلم لا محالة عندكم فكأنه يحكيه عن لسانهم بعد ما أبصروا وهو أسلوب عجيب وفن غريب ، وجعله الزمخشري من إنزال السبب مكان المسبب لأن كونه خيرا في نفسه أن محصلا له أسباب التقدم والملك سبب لأن يقال فيه أنت خير منه وقولهم : أنت خير سبب

٨٩

لكونهم بصراء وسبب السبب قد يقال له سبب فلا يرد ما يقال إن السبب قولهم : أنت خير لا قوله : أنا خير ، وقال القاضي البيضاوي : إنه من إنزال المسبب منزلة السبب لأن علمهم بأنه خبر مستفاد من الابصار. وفيه أن المذكور أنا خير لا أم تعلمون أني خير ، وله أن يقول : ذلك يغني غناه لأنه جعله مسلما معلوما ما عندهم فقال : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) لا أم تعلمون كما سلف ، ولا يخفى أن ما ذكره الزمخشري أظهر كذا في الكشف ، وقال العلامة الثاني في تقرير ذلك : إن قوله : أنا خير سبب لقولهم من جهة بعثه على النظر في أحواله واستعداده لما ادعاه وقولهم : أنت خير سبب لكونهم بصراء عنده فأنا خير سبب له بالواسطة لكن لا يخفى أنه سبب للعلم بذلك والحكم به ، وأما بحسب الوجود فالأمر بالعكس لأن إبصارهم سبب لقوله أنت خير فتأمل ، وبالجملة إن ما بعد (أَمْ) مؤول بجملة فعلية معلولة لفظا ومعنى هي ما سمعت ونحو ذلك من حيث التأويل (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) [الأعراف : ١٢٣] أي أم صمتم ، وقوله :

أمخدج اليدين أم أتمت

أي أم متما ، وقيل : حذف المعادل لدلالة المعنى عليه ، والتقدير أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير إلخ ، وتعقب بأن هذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا نحو أيقوم زيد أم لا أي أم لا يقوم فأما حذفه دون لا فليس من كلامهم ، وجوز أن يكون في الكلام طي على نهج الاحتباك والمعنى أهو خير مني فلا تبصرون ما ذكرتكم به أم أنا خير منه لأنكم تبصرونه ، ولا ينبغي الالتفات إليه ، وجوز غير واحد كون (أَمْ) منقطعة مقدرة بيل والهمزة التي للتقرير كأن اللعين قال أثر ما عدد أسباب فضله ومبادي خيريته : أثبت عندكم واستقر لديكم أني خير وهذه حالي من هذا إلخ ، ورجحه بعضهم لما فيه من عدم التكلف في أمر المعادل اللازم أولا لحسن في المتصلة ، وقال السدي. وأبو عبيدة : أم بمعنى بل فيكون قد انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير كقول الشاعر :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أم أنت في العين أملح

وقال أبو البقاء : إنها منقطعة لفظا متصلة وأراد ما تقدم من التأويل ، وليس فيه مخالفة لما أجمع عليه النحاة كما توهم ، وجملة «لا يكاد يبين» معطوفة على الصلة أو مستأنفة أو حالية. وقرئ «أما أنا خير» بإدخال الهمزة على ما النافية ، وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه «يبين» بفتح الياء من بان إذا ظهر (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) كناية عن تمليكه ، قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسؤدده ، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا ، وهذا من اللعين لزعمه أن الرئاسة من لوازم الرسالة كما قال كفار قريش في عظيم القريتين ، والأسورة جمع سوار نحو خمار وأخمرة ، وقرأ الأعمش «أساور» ورويت عن أبي ، وعن أبي عمرو جمع اسورة فهو جمع الجمع ، وقرأ الجمهور «أساورة» جمع أسوار بمعنى السوار والهاء عوض من ياء أساوير فإنها تكون في الجمع المحذوف مدته للعوض عنها كما في زنادقة جمع زنديق.

وقد قرأ «أساوير» عبد الله وأبي في الرواية المشهورة ، وقرأ الضحاك ألقى مبنيا للفاعل أي الله تعالى أساورة بالنصب (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) من قرنته به فاقترن ، وفسر بمقرونين أي به لأنه لازم معناه بناء على هذا ، وفسر أيضا بمتقارنين من اقترن بمعنى تقارن والاقتران مجاز أو كناية عن الإعانة.

ولذا قال ابن عباس : يعينونه على من خالفه ، وقيل : عن التصديق ولو لا ذلك لم يكن لذكره بعد قوله معه فائدة ، وهو الأول حسي وعلى الثاني معنوي ، وقيل : متقارنين بمعنى مجتمعين كثيرين ، وعن قتادة متتابعين.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) فطلب منهم الخفة في مطاوعته على أن السين للطلب على حقيقتها ، ومعنى الخفة السرعة

٩٠

لإجابته ومتابعته كما يقال هم خفوف إذا دعوا وهو مجاز مشهور وقال ابن الأعرابي استخف أحلامهم أي وجدهم خفيفة أحلامهم أي قليلة عقولهم فصيغة الاستفعال للوجدان كالأفعال كما يقال أحمدته وجدته محمودا وفي نسبته ذلك للقوم تجوز.

(فَأَطاعُوهُ) فيما أمرهم به (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي (فَلَمَّا آسَفُونا) أي أسخطونا كما قال علي كرم الله تعالى وجهه. وفي معناه ما قيل أي أغضبونا أشد الغضب أي بأعمالهم. والغضب عند الخلف مجاز عن إرادة العقوبة فيكون صفة ذات أو عن العقوبة فيكون صفة فعل.

وقال أبو عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه : إن الله سبحانه لا يأسف كأسفنا ولكن له جل شأنه أولياء يأسفون ويرضون فجعل سبحانه رضاهم رضاه وغضبهم غضبه تعالى ، وعلى ذلك قال عزوجل : «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» وقال سبحانه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] وعليه قيل : المعنى فلما أسفوا موسى عليه‌السلام ومن معه ، والسلف لا يؤولون ويقولون : الغضب فينا انفعال نفساني وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا بوجه من الوجوه ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأسف بالحزن وأنه قال هنا : أي أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل.

وذكر الراغب أن الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد ، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا ، ولذلك سئل ابن عباس عنهما فقال : مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا ، وبهذا النظر قال الشاعر :

فحزن كل أخي حزن أخو الغضب

انتهى ، وعلى جميع الأقوال آسف منقول بالهمزة من أسف.

(انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) في اليم (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) قال ابن عباس وزيد بن أسلم. وقتادة أي متقدمين إلى النار.

وقال غير واحد : قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون بهم في استيجاب مثل عقابهم ونزوله بهم ، والكلام على الاستعارة لأن الخلف يقتدي بالسلف فلما اقتدوا بهم في الكفر جعلوا كأنهم اقتدوا بهم في معلول الغضب وهو مصدر نعت به ولذا يصح إطلاقه على القليل والكثير ، وقيل : جمع سالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا يحتمل أن يراد بالجمع فيه ظاهره ويحتمل أن يراد به اسم الجمع فإن فعلا ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات ، والمشهور في جمعه أسلاف وجاء سلاف أيضا.

وقرأ أبو عبد الله وأصحابه وسعيد بن عياض والأعمش والأعرج وطلحة وحمزة والكسائي «سلفا» بضمتين جمع سليف كفريق لفظا ومعنى ، سمع القاسم بن معن العرب تقول : مضى سليف من الناس يعنون فريقا ، منهم وقيل : جمع سلف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كجنب.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد والأعرج أيضا «سلفا» بضم ففتح إما على أنه أبدلت فيه ضمة اللام فتحة تخفيفا كما يقال في جدد بضم الدال جدد بفتحها أو على أنه جمع سلفة بمعنى الأمة والجماعة من الناس أي فجعلناهم أمة سلفت ، والسلف بالضم فالفتح في غير هذا ولد القبج والجمع سلفان كصردان ويضم.

٩١

(وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي عظة لهم ، والمراد بهم الكفار بعدهم ، والجار متعلق على التنازع بسلفا ومثلا ، ويجوز أن يراد بالمثل القصة العجيبة التي تسير مسير الأمثال ؛ ومعنى كونهم مثلا للكفار أن يقال لهم : مثلكم مثل قوم فرعون ، ويجوز تعلق الجار بالثاني وتعميم الآخرين بحيث يشمل المؤمنين ، وكونهم قصة عجيبة للجميع ظاهر (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) إلخ بيان لعناد قريش بالباطل والرد عليهم ، فقد روي أن عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه ، قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سمعه يقول : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] أليست النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا من عباد الله تعالى صالحا فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) فالمعنى ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا وحاجك بعبادة النصارى إياه إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا وجدلا ، والحجة لما كانت تسير مسير الأمثال شهرة قيل لها مثل أو المثل بمعنى المثال أي جعله مقياسا وشاهدا على إبطال قوله عليه الصلاة والسلام : إن آلهتهم من حصب جهنم ، وجعل عيسى عليه‌السلام نفسه مثلا من باب «الحج عرفة».

وقرأ أبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب وابن عامر ونافع والكسائي «يصدّون» بضم الصاد من الصدود ، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وأنكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه القراءة وهو قبل بلوغه تواترها ، والمعنى عليها إذا قومك من أجل ذلك يعرضون عن الحق بالجدل بحجة داحضة واهية ، وقيل : المراد يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض.

وقال الكسائي والفراء : يصدون بالكسر ويصدون بالضم لغتان بمعنى واحد مثل يعرشون ويعرشون ومعناهما يضجون ، وجوز أن يكون يعرضون (وَقالُوا) تمهيدا لما بنوا عليه من الباطل المموه بما يغتر به السفهاء (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي ظاهر عندك أن عيسى عليه‌السلام خير من آلهتنا فحيث كان هو في النار فلا بأس بكونها وإيانا فيها ، وحقق الكوفيون الهمزتين همزة الاستفهام والهمزة الأصلية ؛ وسهل باقي السبعة الثانية بين بين ، وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر بهمزة واحدة على مثال الخبر ، والظاهر أنه على حذف همزة الاستفهام ، وقوله تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) إبطال لباطلهم إجمالا اكتفاء بما فصل في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ) [الأنبياء : ١٠١] وتنبيها على أنه مما لا يذهب على ذي مسكة بطلانه فكيف على غيره ولكن العناد يعمي ويصم أي ما ضربوا لك ذلك إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق فإنه في غاية البطلان بل هم قوم لد شداد الخصومة مجبولون على المحك أي سؤال الخلق واللجاج ، فجدلا منتصب على أنه مفعول لأجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال أي مجادلين ، وقرأ ابن مقسم «جدالا» بكسر الجيم وألف بعد الدال ، وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ) أي ما عيسى ابن مريم (إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالنبوة وروادفها فهو مرفوع المنزلة على القدر لكن ليس له من استحقاق المعبودية من نصيب ، كلام حكيم مشتمل على ما اشتمل عليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ) ولكن على سبيل الرمز وعلى فساد رأي النصارى في إيثارهم عبادته عليه‌السلام تعريضا بمكان عبادة قريش غيره سبحانه وتعالى ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً) أي أمرا عجيبا حقيقا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) حيث خلقناه من غير أب وجعلنا له من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك ما لم نجعل لغيره في زمانه ، كلام أجمل فيه وجه الافتتان به وعليه ، ووجه دلالته على قدرة خالقه تعالى شأنه وبعد استحقاقه عليه‌السلام عما قرف به إفراطا وتفريطا ، وقوله سبحانه : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا) إلخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم‌السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا

٩٢

(مِنْكُمْ) يا رجال (مَلائِكَةً) كما ولدنا عيسى من غير أب (فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفا ونسلا لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليدا كما تخلق إبداعا فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة ، وجوز أن يكون معنى لجعلنا إلخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية و (مَلائِكَةً) مفعول ثان أو حال ، وقيل : من للبدل كما في قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] وقوله :

ولم تذق من البقول الفستقا

أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم ، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد ، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام ، وقيل : لا مانع من قصدهما معا نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولا.

وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ) إلخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) إلخ وإن تقريره ان جدلكم هذا باطل لأنه عليه‌السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه‌السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قوما أهلا للنار وآخرين أهلا للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيدا مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] ا ه.

وعلى ما ذكرنا أن الكلام في إبطال قد تم عند قوله تعالى : (خَصِمُونَ) وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ) إلخ لنفي الاعتراض ليس بشيء. وروي أن ابن الزبعرى قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال : خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح ، واليهود عزيرا ، وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ) [الأنبياء : ١٠١] الآية أو نزلت هذه الآية ، وأنكر بعضهم السكوت ، وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبي عليه الصلاة والسلام : خصمتك رد عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما يعقل ، وروى محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام : أنت قلت : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)؟ قال : نعم قال : أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) وهذا أثبت من الخبر الذي قبله. وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا إلخ ، وقوله عليه الصلاة والسلام : هو لكم إلخ بأنه ليس بثبت.

وذكر من أثبته أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملا بما تقتضيه كلمة (ما) لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة وهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محيي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام : بل هم يعبدون الشيطان كما

٩٣

نطق به قوله تعالى : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سبأ : ٤١] الآية ، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر. وفي الدر المنثور أخرج الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لقريش : إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عبد الله تعالى صالحا فإن كنت صادقا فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) إلخ ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات ، وقيل : إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] قالوا : نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة فنزلت ، فالمثل ما في قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقا بشرا قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم : (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلها مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون ، ثم قال سبحانه : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) دلالة على أن الملائكة عليهم‌السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر على أعجب من خلق عيسى عليه‌السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالدا وإبداعا فلا يصلح القسمان للإلهية. وفي رواية عن ابن عباس وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) الآية قالت قريش : ما أراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذكر عيسى عليه‌السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى.

ومعنى يصدون يضجون ويضجرون ، والضمير في (أَمْ هُوَ) لنبينا عليه الصلاة والسلام ، وغرضهم بالموازنة بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام ، وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ) إلخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن عيسى عليه‌السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم‌السلام أيضا عن درجة المعبودية بقوله سبحانه : (وَلَوْ نَشاءُ) إلخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة ، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : (أَمْ هُوَ) مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ) وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه ، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعل الرواية عن الخبر غير ثابتة ، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم : الملائكة عليهم‌السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا : ما قلنا بدعا من القول ولا فعلنا منكرا من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عزوجل فنحن أشف منهم قولا وفعلا حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم‌السلام وهم نسبوا إليه الأناسي ، وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ) إلخ عليه كما في الوجه الثاني (وَإِنَّهُ) أي عيسى عليه‌السلام (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي إنه بنزوله شرط من أشراطها أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة ، وأيا ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به للمبالغة.

وقرأ أبي «لذكر» وهو مجاز كذلك.

وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري وزيد بن علي وقتادة ومجاهد والضحاك ومالك بن دينار والأعمش والكلبي قال ابن عطية وأبو نصرة «لعلم» بفتح العين واللام أي لعلامة.

وقرأ عكرمة قال ابن خالويه وأبو نصرة «لا لعلم» معرفا بفتحتين والحصر إضافي ، وقيل : باعتبار أنه أعظم

٩٤

العلامات ، وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه‌السلامفقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزلن ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» ، وفي رواية «وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فليقاتل الناس على الإسلام» وفيه «ويهلك المسيح الدجال» وفي أخرى قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» وفي رواية «فأمكم منكم» قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قال : تخبرني قال : فأمكم بكتاب ربكم عزوجل وسنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشهور نزوله عليه‌السلام بدمشق والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه‌السلام ويصلي خلفه ويقول : إنما أقيمت لك.

وقيل بل يتقدم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعا لتوهم نزوله ناسخا وأما في غيرها فيؤم هو الناس لأنه الأفضل والشيعة تأبى ذلك.

وفي بعض الروايات أنه عليه‌السلام ينزل على ثنية يقال لها أفيق بفاء وقاف بوزن أمير وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة وفي رواية سبع سنين قيل والأربعون إنما هي مدة مكثه قبل الرفع وبعده ثم يموت ويدفن في الحجرة الشريفة النبوية ، وتمام الكلام في البحور الزاخرة للسفاريني ، وعن الحسن وقتادة وابن جبير أن ضمير (إِنَّهُ) للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضا ، وضعف بأنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق ، وقالت فرقة : يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد قال عليه الصلاة والسلام : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وفيه من البعد ما فيه.

وكأن هؤلاء يجعلون ضمير (أَمْ هُوَ) وضمير (إِنْ هُوَ) له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا وهو كما ترى (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) فلا تشكن في وقوعها (وَاتَّبِعُونِ) أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي ، وقيل : هو قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمورا من جهته عزوجل فهو بتقدير القول أي وقل اتبعوني (هذا) أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير في «إنه» له (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) موصل إلى الحق (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن اتباعي (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي بين العداوة أو مظهرها حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) بالأمور الواضحات وهي المعجزات أو آيات الإنجيل أو الشرائع ولا مانع من إرادة الجميع (قالَ) لبني إسرائيل (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي الإنجيل كما قال القشيري : والماوردي ، وقال السدي. بالنبوة ، وفي رواية أخرى عنه هي قضايا يحكم بها العقل ، وقال أبو حيان. أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع ، وقال الضحاك : أي بالموعظة (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ) متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين لكم ، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلة حيث جعلت كأنها كلام برأسه. وفي الإرشاد هو عطف على مقدر ينبئ عنه المجيء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلا فإن الأنبياء عليهم‌السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلا فإن الأنبياء عليهم‌السلام لم يبعثوا لبيانه أيضا كما يشير إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم».

وجوز أن يراد بهذا البعض بعض أمور الدين المكلف بها وأريد بالبيان البيان على سبيل التفصيل وهي لا يمكن بيان جميعها تفصيلا وبعضها مفوض للاجتهاد ، وقال أبو عبيدة : المراد بعض الذي حرم عليهم وقد أحلعليهم‌السلام

٩٥

لهم لحوم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت ، وقال مجاهد : بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة ، وقال قتادة : لأبين لكم اختلاف الذين تحزبوا في أمره عليه‌السلام (فَاتَّقُوا اللهَ) من مخالفتي (وَأَطِيعُونِ) فيما أبلغه عنه تعالى (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع (هذا) أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا يضل سالكه ، وهو إما من تتمة كلام عيسى عليه‌السلام أو استئناف من الله تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه‌السلام.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٨٩)

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) الفرق المتحزبة (مِنْ بَيْنِهِمْ) من بين من بعث إليهم وخاطبهم بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته عليه‌السلام ، وقيل : المراد النصارى وهم أمة إجابته عليه‌السلام ، وقد اختلفوا فرقا ملكانية ونسطورية ويعقوبية (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من المختلفين وهم الذين لم يقولوا : إنه عبد الله ورسوله (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) هو يوم القيامة وأليم صفة عذاب أو يوم على الإسناد المجازي.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الضمير لقريش ، وأن تأتيهم بدل من الساعة ، والاستثناء مفرغ ، وجوز جعل إلا بمعنى غير والاستفهام للإنكار وينظرون بمعنى ينتظرون أي ما ينتظرون شيئا إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها ، وفي ذلك تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لا بد من وقوعه.

٩٦

ولما جاز اجتماع الفجأة والشعور وجب أن يقيد ذلك بقوله سبحانه : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لعدم إغناء الأول عنه فلا استدراك ، وقيل : يجوز أن يراد بلا يشعرون الإثبات لأن الكلام وارد على الإنكار كأنه قيل : هل يزعمون أنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون أي لا يكون ذلك بل تأتيهم وهم فطنون ، وفيه ما فيه ، وقيل : ضمير (يَنْظُرُونَ) للذين ظلموا ، وقيل : للناس مطلقا وأيد بما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة والرجلان يطويان الثوب ثم قرأ عليه الصلاة والسلام (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الظرف متعلق بعدو والفصل لا يضره ، والمراد أن المحبات تنقطع يوم إذ تأتيهم الساعة ولا يبقى إلا محبة المتقين وهم المتصادقون في الله عن وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله عن وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله تعالى ، واعتبار الانقطاع لأن الخل حال كونه خلّا محال أن يصير عدوا.

وقيل : المعنى الأخلاء تنقطع خلتهم ذلك اليوم إلا المجتنبين أخلاء السوء ، والفرق بين الوجهين أن المتقي في الأول هو المحب لصاحبه في الله تعالى فاتقى الحب أن يشوبه غرض غير إلهي ، وفي الثاني هو من اتقى صحبة الأشرار.

والاستثناء فيهما متصل ، وجوز أن يكون يومئذ متعلقا بالأخلاء والمراد به في الدنيا ومتعلق عدو مقدر أي في الآخرة والآية قيل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله تعالى يومئذ فهو بتقدير قول أي فيقال لهم يا عبادي إلخ أو فأقول : لهم بناء على أن المنادي هو الله عزوجل تشريفا لهم ، وعن المعتمر بن سليمان أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحدا لا يفزع فينادي مناد يا عباد إلخ فيرجوها الناس كلهم فيتبعها قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) فييأس منها الكفار ، فيا عباد عام مخصوص إما بالآية السابقة وإما باللاحقة ، والأول أوفق من أوجه عديدة.

والموصول إما صفة للمنادى أو بدل أو مفعول لمقدر أي أمدح ونحوه ، وجملة (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) حال من ضمير (آمَنُوا) بتقدير قد أو بدونه ، وجوز عطفها على الصلة ، ورجحت الحالية بأن الكلام عليها أبلغ لأن المراد بالإسلام هنا الانقياد والإخلاص ليفيد ذكره بعد الإيمان فإذا جعل حالا أفاد بعد تلبسهم به في الماضي اتصاله بزمان الإيمان ، وكان تدل على الاستمرار أيضا ومن هنا جاء التأكيد والأبلغية بخلاف العطف ، وكذا الحال المفردة بأن يقال : الذين آمنوا بآياتنا مخلصين ، وقرأ غير واحد من السبعة «يا عبادي» بالياء على الأصل ، والحذف كثير شائع وبه قرأ حفص وحمزة والكسائي ، وقرأ ابن محيصن «لا خوف» بالرفع من غير تنوين ، والحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى وابن يعمر ويعقوب بفتحها من غير تنوين (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) نساؤكم المؤمنات فالإضافة للاختصاص التام فيخرج من لم يؤمن منهن (تُحْبَرُونَ) تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم كقوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] أو تزينون من الحبر بفتح الحاء وكسرها وهو الزينة وحسن الهيئة ؛ وهذا متحد بما قبله معنى والفرق في المشتق منه ، وقال الزجاج : أي تكرمون إكراما يبالغ فيه ، والحبرة بالفتح المبالغة في الفعل الموصوف بأنه جميل ومنه الإكرام فهو في الأصل عام أريد به بعض أفراده هنا (يُطافُ عَلَيْهِمْ) بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به (بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) كذلك ، والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة ، وقيل : أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكيلة.

والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له ، وهذا معنى قول مجاهد لا أذن له ، وهو على ما روي عن قتادة دون الإبريق ، وقال : بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع

٩٧

كثرة والثاني جمع قلة ، وقد تظافرت الأخبار بكثرة الصحاف ، أخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات عن أنس قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخوانا على سرر متقابلين» وفي حديث رواه عكرمة «إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدي عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صحفة في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا» وروى ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب أيضا ، وإذا كان ذلك للأدنى فما ظنك بالأعلى ، رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه.

وأمال أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف (وَفِيها) أي في الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من فنون الملاذ (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) أي تستلذ وتقر بمشاهدته ، وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم ، وقال بعض الأجلة : إن قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ) بصحاف دل على الأطعمة (وَأَكْوابٍ) على الأشربة ، ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فكني عنه بقوله عزوجل (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ولهذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه النسائي عن أنس : «حبب إليّ الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» وقال قيس بن ملوح :

ولقد هممت بقتلها من حبها

كيما تكون خصيمتي في المحشر

حتى يطول على الصراط وقوفنا

وتلذ عيني من لذيذ المنظر

ويوافق هذا قول الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغمس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعزّ ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى ، ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بنى الزمخشري قوله : هذا حصر لأنواع النعم لأنها إما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين ، وتعقبه في الكشف فقال : فيه نظر لانتقاضه بمستلذات سائر المشاعر الخمس ، فإن قيل : إنها من القسم الأول قلنا : مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيما لنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب ؛ وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور ، وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين ، وحذف الموصول في مثل ذلك شائع ، ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولا ، و «أل» في الأنفس والأعين للاستغراق على ما قيل ، ولا فرق بين جمع القلة والكثرة.

ولعل من يقول : بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدأ والمنتهى يقول: بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة ، وقيل : هي للعهد ، وقيل : عوض عن المضاف إليه أي ما

٩٨

تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم ، وجمع النفس والعين الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك ، وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان (الْأَخِلَّاءُ) وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر.

وفي الأخبار أيضا ما هو ظاهر في العموم ، أخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه عن بريدة قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هل في الجنة خيل فإنها تعجبني؟ قال : إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت ، فقال له رجل : إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل؟ فقال : يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك».

وأخرج أيضا نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال : هو أصح من الأول ، وجاء نحوه أيضا في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده ، ولا يشكل على العموم أن اللواطة (١) مثلا لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهى بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة.

واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول ، فقد أخرج الإمام أحمد وهناد والدارمي وعبد بن حميد وابن ماجه وابن حبان والترمذي وحسنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال : «قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي»

وذهب طاوس وإبراهيم النخعي ومجاهد وعطاء وإسحاق بن إبراهيم إلى الثاني. فقد روي عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد» وفي حديث لقيط الطويل الذي رواه عبد الله ابن الإمام أحمد وأبو بكر بن عمرو وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم والطبراني وابن حبان ومحمد بن إسحاق ابن مندة وابن مردويه وأبو نعيم وجماعة من الحفاظ وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن مندة : لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت : «يا رسول الله أو لنا فيها ـ يعني الجنة ـ أزواج أو منهن مصلحات؟ قال : المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد».

وقال مجاهد وعطاء قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [البقرة : ٢٥ ، النساء : ٥٧] أي مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول ونحوها ، وقال إسحاق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق : إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي ، وتعقب بأن (إذا) لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل : لو اشتهى ، وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جدا.

وقال السفاريني في البحور الزاخرة : حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة أن الرجل ليولد له ، وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره ، ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها ، وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو

__________________

(١) وقيل : إن أهل الجنة لا أدبار لهم ا ه منه.

٩٩

سهل فيما نقله الحاكم : إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ ، وفيه غير إسناد ، وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع ، وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الأخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة ، ولا ينافي ذلك ما في حديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة والسلام : مثل لذاتكم في الدنيا ، ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعا بين الأخبار ، ثم إن التوالد ليس على سبيل الاستمرار بل هو تابع للاشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء ، وما قيل : إنه قد ثبت في الصحيح أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يبقى في الجنة فضل فينشئ الله تعالى لها خلقا يسكنهم إياها» ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله ، والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة بقاء النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثا يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر ، وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادة من الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه.

وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم «ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين» بحذف الضمير العائد على (ما) من الجملتين المتعاطفتين ، وفي مصحف عبد الله «ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين» بالضمير فيهما ، والقراءة به في الأول دون الثانية لأبي جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وحفص (وَأَنْتُمْ فِيها) أي في الجنة ، وقيل : في الملاذ المفهومة مما تقدم وهو كما ترى (خالِدُونَ) دائمون أبد الآبدين ، والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى : (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ) ونودوا بذلك إتماما للنعمة وإكمالا للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال ، ولله تعالى در القائل :

وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا

للمرء خير من نعيم زائل

وعن النصرآباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والاتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فانتم إذا أنتم ، وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولا أوليا ، وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الالتفات وأنه للتشريف.

وقال الطيبي : ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف في (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) لتقف على ما لا يكتنهه الوصف (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) مبتدأ وخبر وقوله تعالى : (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) صفة الجنة وقوله سبحانه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) متعلق بأورثتموها ، وقيل : (تِلْكَ الْجَنَّةُ) مبتدأ وصفة و (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) الخبر والجار بعده متعلق به ، وقيل : تلك مبتدأ والجنة صفتها والتي أورثتموها صفة الجنة وبما كنتم متعلق بمحذوف هو الخبر.

والإشارة على الوجه الأول إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) وعلى الأخيرين إلى الجنة الواقعة صفة على ما قيل ، والباء للسببية أو للمقابلة ، وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة من الجنة ونعيمها الباقي لهم بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث اسم فاعل فاستعير الميراث لما استحقوه ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية ، وقال بعض : الاستعارة تمثيلية.

وجوز أن تكون مكنية ، وقيل : الإرث مجاز مرسل للنيل والأخذ ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله في النار والمؤمن

١٠٠