روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

شك أنه على تقدير وجود المثل يصدق عليه أنه شيء مثل لمثله ، والإضافة لا تقتضي خروجه عن عموم شيء بخلاف المثال المذكور فإن القرينة العقلية دلت على تخصيص أحد بغير المتكلم لأن مقصوده المنع عن دخول الغير ، وعن الثاني أن وجود المثل لشيء مطلقا يستلزم المثل مع قطع النظر عن خصوصية ذلك الشيء وذلك بين فالمنع بتجويز أن يكون لذاته تعالى مثل ولا يكون هو سبحانه مثلا لمثله مكابرة ، ثم إن هذا الوجه لكثرة ما فيه من القيل والقال بالنسبة إلى غيره من الأوجه السابقة لم نذكره عند ذكرها وهو على علاته أحسن من القول بالزيادة كما لا يخفى على من وفقه الله عزوجل (وَهُوَ السَّمِيعُ) المدرك إدراكا تاما لا على طريق التخيل والتوهم لجميع المسموعات ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول هواء (الْبَصِيرُ) المدرك إدراكا تاما لجميع المبصرات أو الموجودات لا على سبيل التخيل والتوهم ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول شعاع فالسمع والبصر صفتان غير العلم على ما هو الظاهر وأرجعهما بعضهم إلى صفة العلم ، وتمام الكلام على ذلك في الكلام ، وقدم سبحانه نفي المثل على إثبات السمع والبصر لأنه أهم في نفسه وبالنظر إلى المقام.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم تفسيره في سورة الزمر وكذا قوله تعالى : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ).

وقرئ «يقدّر» بالتشديد (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل جلّ شأنه على ما ينبغي أن يفعل عليه ، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا

٢١

كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(٢٣)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) وإيذان بأن ما شرع سبحانه لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينا قديما أجمع عليه الرسل ، والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرا مؤكدا ، وتخصيص المذكورين بالذكر لما أشير إليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الاتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود بموسى عليه‌السلام والنصارى بعيسى عليه‌السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الأعصار من أصول الشرائع والأحكام كما ينبئ عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به ، والمراد بايحائه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما ما ذكر في صدر السورة الكريمة وفي قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الشورى : ٧] الآية وإما ما يعمهما وغيرهما ما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] وقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الكهف : ١١٠] وغير ذلك ، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآية المذكورة ولما في الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة ، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بايحائه ، وفي ذلك إشعار بأن شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي الشريعة المعتنى بها غاية الاعتناء ولذا عبر فيها بالذي التي هي أصل الموصولات وذلك هو السر في تقديم الذي أوحى إليه عليه الصلاة والسلام على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا ، وتقديم توصية نوع عليه‌السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما ، وقد قيل إنه عليه الصلاة والسلام أول الرسل ، وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون العبد به مؤمنا ، والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه ، و (أَنْ) مصدرية وتقدم الكلام في وصلها بالأمر والنهي أو مخففة من الثقيلة لما في (شَرَعَ) من معنى العلم ، والمصدر إما منصوب على أنه بدل من مفعول (شَرَعَ) والمعطوفين عليه أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والحملة جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل : وما ذاك؟ فقيل : هو أن أقيموا الدين ، وقيل : هو مجرور على أنه بدل من ضمير (بِهِ) ولا يلزمه بقاء الموصول بلا عائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة ، نعم قال شيخ الإسلام: إنه ليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستلزم لكون الخطاب في النهي الآتي عن التفرق للأنبياء المذكورين عليهم‌السلام وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم المتفرقون ، ثم بين ما استظهره وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.

وجوز كونه بدلا من (الدِّينِ) ويجوز كون (أَنْ) مفسرة فقد تقدمها ما يتضمن معنى القول دون حروفه والخطاب في (أَقِيمُوا) وقوله تعالى : (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) على ما اختاره غير واحد من الأجلة شامل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٢

وأتباعه وللأنبياء والأمم قبلهم وضمير (فِيهِ) للدين أن ولا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما تقدم من الأصول بأن يأتي به بعض ولا يأتي بعض ويأتي بعض ببعض منه دون بعض وهو مراد مقاتل أي لا تختلفوا فيه ، ولا يشمل هذا النهي عن الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا ولم يتحد بها النبيون كما يؤذن بذلك قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] وبعضهم أدخل بعض الفروع في أصول الدين المرادة هنا من الدين.

قال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله تعالى وطاعته سبحانه وذلك إقامة الدين ، وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لم يكن مع آدم عليه‌السلام إلا بنوه ولم يفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم وإنما كان منبها على بعض الأمور مقتصرا على بعض ضروريات المعاش واستمر الأمر إلى نوح عليه‌السلام فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الأدب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد شريعة إثر شريعة حتى ختمه سبحانه بخير الملل على لسان أكرم الرسل ، فمعنى الآية شرعنا لكم مما شرعنا للأنبياء دينا واحدا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإيذاء للخلق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم ، ومعنى (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) اجعلوه قائما أي دائما مستمرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب انتهى ، ولعله أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقها لا ما نعرفه في شرعنا منها فإن الصلوات الخمس والزكاة المخصوصة وصيام شهر رمضان من خواص هذه الأمة على الصحيح ، والظاهر أن حج البيت لم يشرع لأمة موسى وأمة عيسى عليهما‌السلام ولا لأكثر الأمم قبلهما على أن الآية مكية ولم تشرع الزكاة المعروفة وصيام رمضان إلا في المدينة ، وبالجملة لا شك في اختلاف الأديان في الفروع ، نعم لا يبعد اتفاقها فيما هو من مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل (كَبُرَ) أي عظم وشق (عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) على سبيل الاستمرار التجددي من التوحيد ورفض عبادة الأصنام ويشعر بإرادته التعبير بالمشركين وهو أصل الأصول وأعظم ما شق عليهم كما تنبئ بذلك الآيات أو ما تدعوهم إليه من إقامة الدين وعدم التفرق فيه (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن منهم من يجيب ، و (يَجْتَبِي) من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والضمير في (إِلَيْهِ) لله تعالى كما ذكر محيي السنة وغيره وكذا الضمير في قوله تعالى : (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي يصطفي إليه سبحانه من يشاء اصطفاءه ويخصصه سبحانه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع النعم ويهدي عزوجل بالإرشاد والتوفيق من يقبل إليه تعالى شأنه ، وعدي الاجتباء بإلى لما فيه من الجمع على ما يفهم من كلام الراغب ، وجعله جمع من الجباية بمعنى الجمع يقال : جبيت الماء في الحوض جمعته فيه فمنهم من اختار جعل ضمير (إِلَيْهِ) في الموضعين ـ لما ـ لما فيه من اتساق الضمائر أي يجتلب ويجمع من يشاء اجتلابه وجمعه إلى ما تدعوهم إليه ، ومنهم من اختار جعله للدين لمناسبة معنوية هي اتحاد المتفرق فيه والمجتمع عليه والزمخشري اختار كونه من الجباية بمعنى الجمع وعود الضمير على الدين ، وما ذكره محيي السنة وغيره. قال في الكشف : أظهر وأملأ بالفائدة ، أما الثاني فللدلالة على أنه أهل الاجتباء غير أهل الاهتداء وكلتا الطائفتين هم أهل الدين والتوحيد الذين لم يتفرقوا فيه وعلى مختار طائفة واحدة.

وأما الأول فلأن الاجتباء بمعنى الاصطفاء أكثر استعمالا ولأنه يدل على أن أهل الدين هم صفوة الله تعالى اجتباهم إليه واصطفاهم لنفسه سبحانه ، وأما الذي آثره الزمخشري فكلام ظاهري بناه على أن الكلام في عدم التفرق

٢٣

في الدين فناسب الجمع والانتهاء إليه ، وقيل : (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) على معنى ما تدعوهم إلى الإيمان به والمراد به الرسالة أي ثقلت عليهم رسالتك وعظم لديهم تخصيصنا إياك بالرسالة والوحي دونهم وقوله تعالى : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) رد عليهم على نحو (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وما قدمنا أظهر (وَما تَفَرَّقُوا) أي أمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم كما في الكشف منذ بعث نوح عليه‌السلام في الدين الذي دعوا إليه واختلفوا فيه في وقت من الأوقات (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) من أنبيائهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه ؛ وهذا يؤيد ما دل عليه سابقا من أن الأمم القديمة والحديثة أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين ، والمراد بالعلم سببه مجازا مرسلا ، ويجوز أن يكون التجوز في الإسناد ، وأن يكون يكون الكلام بتقدير مضاف أي جاءهم سبب العلم ، وقد يقال جاء مجاز عن حصل ، والاستثناء على ما أشرنا إليه مفرغ من أعم الأوقات ، وجوز أن يكون من أعم الأحوال أي ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا حال من الأحوال إلا حال مجيء العلم (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي عداوة على أن البغي الظلم والتجاوز والعداوة سبب له وهي الداعي للتفرق أو طلبا للدنيا والرئاسة على أن البغي مصدر بغي بمعنى طلب (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) هي عدته تعالى بترك معاجلتهم بالعذاب (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) معلوم له سبحانه وهو يوم القيامة أو آخر أعمارهم القدرة لهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ زيد بن علي «ورّثوا» مبنيا للمفعول مشدد الواو (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من كتابهم فلم يؤمنوا به حق الإيمان (مُرِيبٍ) مقلق أو مدخل في الريبة ، والجملة اعتراض يؤكد أن تفرقهم ذلك باق في أعقابهم منضما إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فهم تفرقوا بعد العلم الحاصل لهم من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم وتفرقوا قبله شكا في كتابهم فلم يؤمنوا به ولم يصدقوا حقه.

(فَلِذلِكَ) أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبا (فَادْعُ) إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي اثبت على الدعاء كما أوحي إليك ، وقيل : الإشارة إلى قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ) وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع ، وما ذكر أولا أولى لأن قوله تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا) شمل النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت ، ويدل عليه (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) فقوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) إلخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر ، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل.

ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع ، وقيل : هو الكتاب ، وقيل : هو العلم المذكور في قوله تعالى : (جاءَهُمُ الْعِلْمُ) وقيل : هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك ، واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل ، وقيل : على بعضها هي بمعنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه ، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها بمعنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضا كما في قوله :

دعوت لما نابني مسورا

ونقل ذلك عن الفراء والزجاج ، وأيا ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى ، وقيل : كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين

٢٤

ومنذرين ، وجعل ضمير «تفرقوا» لإخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر.

وقيل : ضمير تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا كقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] وإنما تفرقوا حسدا له عليه الصلاة والسلام لا لشبهة ، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر ، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر الخطاب في (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) لأمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال : يرد ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم‌السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام انتهى.

وأجيب عن الأول بأن ضمير (بَيْنَهُمْ) لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهم لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا غي عهد أنبيائهم وإطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهور ، وقيل : المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما ، وقيل : المراد لقضي بينهم بإهلاك المبطلين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى ، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين ، وقيل : ضمير (تَفَرَّقُوا) للمشركين في قوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ).

حكي في البحر عن ابن عباس أنه قال : وما تفرقوا يعني قريشا والعلم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي قال سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) [الأنعام : ١٠٩ ، النحل : ٣٨ ، النور : ٥٣ ، فاطر: ٤٢] لئن جاءهم نذير الآية ، وقد يقال عليه : المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى من بعدهم على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم.

ونقل الطبرسي عن السدي ما يدل على أن المراد من بعد أحبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب ، وقيل : ضمير بعدهم للمشركين أيضا والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى : «والأرض بعد ذلك دحاها» ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير (تَفَرَّقُوا) للمشركين لو وجد للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق ، وجعل متعلق (اسْتَقِمْ) الدعاء لا تخفى مناسبته. وجوز جعله عاما فيكون استقم أمرا بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام ، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم ، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي شيئا من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم ، وتنكير (كِتابٍ) المبين مؤيد لذلك ، وفي هذا القول تحقيق للحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصا دون شخص وقيل : لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم ، وقيل : بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد ، وقيل : لأسوّي بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعمله ولا أخالفكم إلى ما

٢٥

أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عزوجل ، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف ، وقيل : اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج لتقدير الباء أي بأن أعدل ، ولا يخلو عن بعد (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب (لَنا أَعْمالُنا) لا يتخطانا جزاؤها ثوابا كان أو عقابا (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد ، وجاءت الحجة هنا على أصلها فإنها في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيفصل سبحانه بيننا وبينكم ، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية السيف ، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم فقالوا : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم ، وفي رواية بدل فديننا إلخ فنحن أولى بالله تعالى منكم ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [الفتح : ١] قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين : قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا أو اتركوا الإسلام ، والمحاجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي من بعد ما استجاب الناس الله عزوجل أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضوح المحجة ، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) زائلة باطلة لا تقبل عنده عزوجل بل لا حجة لهم أصلا ، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل هاهنا مجاراة معهم على زعمهم الباطل.

وجوز كون ضمير (لَهُ) للرسول عليه الصلاة والسلام لكونه في حكم المذكور والمستجيب أهل الكتب واستجابتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إقرارهم بنعوته واستفتاهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعد ما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقة العيان ، وقيل : المستجيب هو الله عزوجل وضمير (لَهُ) لرسوله عليه الصلاة والسلام ، واستجابته تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإظهار المعجزات الدالة على صدقة ، وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال : أي من بعد ما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعائه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه للمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده ، وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك ، وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل (اسْتُجِيبَ) على الوعد خلاف الظاهر جدا ، وكذا ما روي عن عكرمة ، وقيل : إن حمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضا إذ لم يكن بمكة أحد منهم ، وقيل : لا يقتضيه لأن خبر استجابتهم وإقرارهم بنعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عليه الصلاة والسلام بمكة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكية (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لا يقادر قدره.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) جنس الكتاب أو الكتاب المعهود أو جميع الكتب (بِالْحَقِ) ملتبسا بالحق بعيدا من الباطل في أحكامه وأخباره أو ملتبسا بما يحق ويجب من العقائد والأحكام (وَالْمِيزانَ) أي العدل كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أو الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوي بين الناس ، وعلى الوجهين فيه استعارة ونسبة الإنزال إليه مجز لأنه من صفات الأجسام والمنزل حقيقة من بلغه ، واعتبر بعضهم الأمر أي أنزل الأمر بالميزان ، وتعقب

٢٦

بأنه أيضا محتاج إلى التأويل ، وقد يقال : نسبة الإنزال وكذا النزول إلى الأمر مشهورة جدا فالتحقت بالحقيقة ، ويجوز أن يتجوز في الإنزال ويقال نحو ذلك في (أَنْزَلَ الْكِتابَ) وعن مجاهد أن الميزان الآلة المعروفة فعلى هذا إنزاله على حقيقته ، وجوز أن يكون على سبيل الأمر به ، واستظهر الأول لما نقل الزمخشري في الحديد أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به ، وكون المراد به ميزان الأعمال بعيد هنا.

(وَما يُدْرِيكَ) أي : أي شيء يجعلك داريا أي عالما (لَعَلَّ السَّاعَةَ) أي إتيان الساعة الذي أخبر به الكتاب الناطق بالحق فالكلام بتقدير مضاف مذكر ، وقوله تعالى : (قَرِيبٌ) خبر عنه في الحقيقة لأن المحذوف بقرينة كالملفوظ وهو وجه في تذكيره ؛ وجوز أن يكون لتأويل الساعة بالبعث وأن يكون (قَرِيبٌ) من باب تامر ولابن أي ذات قرب إلى أوجه أخر تقدمت في الكلام على قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) [الأعراف : ٥٦] وأيا ما كان فالمعنى إن الساعة على جناح الإتيان فاتبع الكتاب وواظب على العدل واعمل بالشرع قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال إنكار واستهزاء كانوا يقولون : متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا أهو الذي نحن عليه أم كالذي عليه محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون منها مع اعتناء بها فإن الإشفاق عناية مختلطة بخوف فإذا عدي بمن كما هنا فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدي بعلى فمعنى العناية أظهر ، وعنايتهم بها لتوقع الثواب ، وزعم الجلبي أن الآية من الاحتباك والأصل يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) الأمر المتحقق الكائن لا محالة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي يجادلون فيها ، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب ، وإطلاق المماراة على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه ، ويجوز أن يكون من المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك ومعنى المفاعلة غير مقصود فالمعنى أن الذين يترددون في أمر الساعة ويشكون فيه (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق فإن البعث أقرب الغائبات بالمحسوسات لأنه يعلم من تجويزه من إحياء الأرض بعد موتها وغير ذلك فمن لم يهتد إليه فهو عن الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) بر بليغ البر بهم يفيض جل شأنه على جميعهم من صنوفه ما لا يبلغه الأفهام ويؤذن بذلك مادة اللطف وصيغة المبالغة فيها وتنكيرها الدال على المبالغة بحسب الكمية الكيفية ، قال حجة الإسلام عليه الرحمة : إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها ولطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطيف ولا يتصور كمال ذلك إلا في الله تعالى شأنه ، فصنوف البر من المبالغة في الكم ، وكونها لا تبلغها الأفهام من المادة والمبالغة في الكيفية لأنه إذا دق جدا كان أخفى وأخفى ، وإرادة الجميع من إضافة العباد وهو جمع إلى ضميره تعالى فيفيد الشمول والاستغراق ، وبالعموم قال مقاتل إلا أنه قال : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا.

وقال أبو حيان : لطيف بعباده أي بر بعباده المؤمنين ومن سبق له الخلود في الجنة وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف إنما هو إملاء إلا ما آل إلى رحمة ووفاة على الإسلام ، وحكى الطيبي هذا التخصيص عن الواحدي ومال إلى ترجيحه وذلك أنه ادعى أن الإضافة في (عباده) إضافة تشريف إذ أكثر استعمال التنزيل الجليل في مثل ذلك فيختص العباد بأوليائه تعالى المؤمنين ، وحمل اللطف على منح الهداية وتوفيق الطاعة وعلى الكمالات الأخروية والكرامات السنية ، وحمل الرزق في قوله تعالى : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) عليه أيضا وقال : إن استعماله فيما ذكر كاستعماله في قوله تعالى : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [النور : ٣٨].

٢٧

وجعل قوله سبحانه : (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) مؤذنا بالتعليل كأنه قيل : إنما تلطف جل شأنه في حق عباده المؤمنين دون من غضب عليهم بمحض مشيئته سبحانه لأنه تعالى قوي قادر على أن يختص برحمته وكرامته من يشاء من عباده عزيز غالب لا يمنعه سبحانه عما يريده أحد ، وادعى أنه يكون وزان الآية على هذا مع قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) الآية وزان قوله عزوجل (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٧ ، ١٠] وينتظم الكلام أتم انتظام وتلتئم أطرافه أشد التئام ، ولا يقال حينئذ : إن قوله تعالى : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) حكم مترتب على السابق فكان ينبغي أن يعم عمومه والعموم أظهر ، وحديث التخصيص في (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) فقد أجاب عنه صاحب التقريب فقال : إنما خصص الرزق بمن يشاء مع أنهم كلهم بر سبحانه بهم لأنه تعالى قد يخص أحدا بنعمة وغيره بأخرى فالعموم لجنس البر والخصوص لنوعه. وأشار جار الله إلى أنه لا تخصيص بالحقيق فإن الله تعالى بليغ البر بجميع عباده يرزق من يشاء ما يشاء سبحانه منه. فيرزق من يشاء. بيان لتوزيعه على جميعهم فليس الرزق إلا النصيب الخاص لكل واحد ، ولما شمل الدارين لاءم قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ) إلخ كل الملاءمة ، ولا يتوقف هذا على ما قاله الطيبي ، ولعل أمر التذييل بالاسمين الجليلين على القول بالعموم أظهر والتعليل أنسب فكأنه قيل : لطيف بعباده عام الإحسان بهم لأنه تعالى القوي الباهر القدرة الذي غلب وغلبت قدرته سبحانه جميع القدر يرزق من يشاء لأنه العزيز الذي لا يغلب على ما يريد فكل من الاسمين الجليلين ناظر إلى حكم فافهم (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤].

فكم لله من لطف خفي

يدق خفاه عن فهم الذكي

والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه ، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ) بأعماله (حَرْثَ الدُّنْيا) وهو متاعها وطيباتها (نُؤْتِهِ مِنْها) أي شيئا منها حسبما قدرناه له بطلبه وإرادته (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب والمنقري كلاهما عن أبي عمرو «يزد» و «يؤته» بالياء فيهما ، وقرأ سلام «نؤته» بضم الهاء وهي لغة أهل الحجاز وقد جاء في الآية فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا مجزوما قال أبو حيان : ولا نعلم خلافا في جواز الجزم في مثل ذلك وانه فصيح مختار مطلقا إلا ما ذكره صاحب كتاب الاعراب أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الفصيح إلا إذا كان فعل الشرط كان ، وإنما يجيء معها لأنها أصل الأفعال ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص بكان بل سائر الأفعال مثلها في ذلك وأنشد سيبويه للفرزدق :

دست رسولا بأن القوم إن قدروا

عليك يشفوا صدورا ذات توغير

وقال أيضا :

تعش فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) في الكفر وهم الشياطين (شَرَعُوا لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفرة المعاصرين لك بالتسويل والتزيين (مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. و (أَمْ) منقطعة فيها معنى بل الاضرابية والهمزة التي للتقرير والتقريع والاضراب عما سبق من قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) إلخ فالعطف عليه وما اعترض به بين الآيتين من تتمة الأولى ، وتأخير الاضراب ليدل على أنهم في شرع يخالف ما شرعه الله تعالى من كل

٢٨

وجه فالشرك في مقابلة إقامة الدين والاستقامة عليه وإنكار البعث في مقابلة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) والعمل للدنيا لقوله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) وهذا أظهر من جعل الاضراب عما تقدم من قوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) كما لا يخفى ، وقيل : شركاؤهم أصنامهم ، وإضافتها إليهم لأنهم الذين جعلوها شركاء لله سبحانه ، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم كقوله تعالى : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً) [إبراهيم : ٤٦] وجوز أن يكون الاستفهام المقدر على هذا للإنكار أي ليس لهم شرع ولا شارع كما في قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) [الأنبياء : ٤٣] وأيا ما كان فضمير (شَرَعُوا) للشركاء وضمير (لَهُمْ) للكفار.

وجوز على تفسير الشركاء بالأصنام أن يكون الأول للكفار والثاني للشركاء أي شرع الكفار لأصنامهم ورسموا من المعتقدات والأحكام ما لم يأذن به الله تعالى كاعتقاد أنهم آلهة وأن عبادتهم تقربهم إلى الله سبحانه ، وكجعل البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك ، وهو كما ترى (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي القضاء والحكم السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة أو إلى آخر أعمارهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا أو حين افترقوا بالعقاب والثواب ، وجوز أن يكون المعنى لو لا ما وعدهم الله تعالى به من الفصل في الآخرة لقضي بينهم فالفصل بمعنى البيان كما في قوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) [المرسلات : ٣٨] وقيل : ضمير بينهم للكفار وشركائهم بأي معنى كان (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) وهم المحدث عنهم أو الأعم منهم ويدخلون دخولا أوليا (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة. وفي البحر أي في الدنيا بالقتل والأسر والنهب وفي الآخرة بالنار.

وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب «وأن» بفتح الهمزة عطفا على (كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي لو لا القضاء السابق بتأخير العذاب وتقدير أن الظالمين لهم عذاب أليم في الآخرة أو لو لا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة وتقدير أن الظالمين لهم إلخ لقضي بينهم ، والعطف على التقديرين تتميم للإيضاح لا تفسيري محض (تَرَى الظَّالِمِينَ) جملة مستأنفة لبيان ما قبل ، والخطاب لكل أحد يصلح له للقصد إلى المبالغة في سوء حالهم أن ترى يا من يصح منه الرؤيا الظالمين يوم القيامة (مُشْفِقِينَ) خائفين الخوف الشديد (مِمَّا كَسَبُوا) في الدنيا من السيئات ، والكلام قيل على تقدير مضاف.

و (من) صلة الإشفاق أي مشفقين من وبال ما كسبوا (وَهُوَ) أي الوبال (واقِعٌ بِهِمْ) أي حاصل لهم لاحق بهم ، واختار بعضهم أن لا تقدير ومن تعليلية لأنه أدخل في الوعيد ، والجملة اعتراض للإشارة إلى أن إشفاقهم لا ينفعهم ، وإيثار (واقِعٌ) على يقع من أن المعنى على الاستقبال لأن الخوف إنما يكون من التوقع بخلاف الحزن للدلالة على تحققه وأنه لا بد منه ، وجوز أن تكون حالا من ضمير (مُشْفِقِينَ) وظاهر ما سمعت أنه حال مقدرة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي مستقرون في أطيب بقاعها وأنزهها.

وقال الراغب : هي محاسنها وملاذها ، وأصل الروضة مستنقع الماء والخضرة واللغة الكثيرة في واوها جمعا التسكين كما في المنزل ولغة هذيل بن مدركة فتحها فيقولون روضات إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ولم يقرأ فيما علمنا بغتهم (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم فالظرف متعلق بمتعلق الجار والمجرور الواقع خبرا لما أو به واختاره جار الله ونفى أن يكون متعلقا بيشاءون مع أنه الظاهر نحوا ، وبين صاحب الكشف ذلك بأنه كلام في معرض المبالغة في وصف ما يكون أهل الجنة فيه من النعيم الدائم فأفيد أنهم في أنزه موضع من الجنة وأطيب مقعد منها بقوله تعالى : (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) لأن روضة الجنة

٢٩

أنزه موضع منها لا سيما والإضافة في هذا المقام تنبئ عن تميزها بالشرف والطيب ، والتعقيب بقوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) أيضا ثم أفيد أن لهم ما يشتهون من ربهم ولا خفاء أنك إذا قلت : لي عند فلان ما شئت كان أبلغ في حصول كل مطالبك منه مما إذا قلت : لي ما شئت عند فلان بالنسبة إلى الطالب والمطلوب منه.

أما الأول فلأنه يفيد أن جميع ما تشاءوه موجود مبذول لك منه ، والثاني يفيد أن ما شئت عنده مبذول لا جميع ما تشاءوه ، وأما الثاني فلأنك وصفته بأنه يبذل جميع المرادات ، وفي الثاني وصفته بأن ما شئت عنده مبذول لك إما منه وإما من غيره ثم في الأول مبالغة في تحقيق ذلك وثبوته كما تقول : لي عندك وقبلك كذا ، فالله تعالى شأنه أخبر بأن ذلك حق لهم ثابت حق لهم ثابت مقتضى في ذمة فضله سبحانه ولا كذلك في الثاني ، ثم قال : ولعل الأوجه أن يجعل (عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبرا آخر أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في روضات الجنات لهم فيها ما يشاءون ، وإنما أخر توخيا لسلوك طريق المبالغة في الترقي من الترقي من الأدنى إلى الأعلى ومراعاة لترتيب الوجود أيضا فإن الوافد والضيف ينزل في أنزه موضع ثم يحضر بين يديه الذي يشتهيه ؛ وملاك ذلك كله أن يختص رب المنزل بالقرب والكرامة ، وأن جعله حالا من فاعل يشاءون أو من المجرور في (لَهُمْ) أفاد هذا المعنى أيضا لكنه يقصر عما آثرناه لأنه قد أتى به إتيان الفضلة وهو مقصود بذاته عمدة ، ولعمري إن ما آثره حسن معنى إلا أنه أبعد لفظا مما أثره جار الله ، ولا يخفى عليك ما هو الأنسب بالتنزيل. وفي الخبر عن أبي ظبية قال : إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول : ما أمطركم؟ فما يدعو داع من القوم إلا امطرته حتى أن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أترابا (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من حال المؤمنين ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذي لا يقدر قدره ولا تبلغ غايته ويصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا (ذلِكَ) الفضل الكبير أو الثواب المفهوم من السياق هو (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما هو عادتهم في التدريج في الحذف ، ولا مانع كما قال الشهاب من حذفهما دفعة ، وجوز كون ذلك إشارة إلى التبشير المفهوم من (يُبَشِّرُ) بعد والإشارة قد تكون لما يفهم بعد كما قرروه في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ونحوه ، والعائد إلى الموصول ضمير منصوب بيبشر على أنه مفعول مطلق له لأنه ضمير المصدر أي ذلك التبشير يبشره الله عباده ؛ وزعم أبو حيان أنه لا يظهر جعل الإشارة إلى التبشير لعدم تقدم لفظ البشرى ولا ما يدل عليها وهو ناشئ عن الغفلة عما سمعت فلا حاجة في الجواب عنه أن كون ما تقدم تبشيرا للمؤمنين كاف في صحة ذلك ، ثم قال : ومن النحويين من جعل الذي مصدرية حكاه ابن مالك عن يونس وتأول عليه هذه الآية أي ذلك تبشير الله تعالى عباده ، وليس بشيء لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل وقد ثبتت اسمية الذي فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة.

وقرأ عبد الله بن يعمر وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة في رواية والكسائي وحمزة «يبشر» ثلاثيا ومجاهد وحميد بن قيس بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين وإما بشر بفتحها فمتعد وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية لأن المعدى إلى واحد وهو مخفف لا يعدى بالتضعيف إليه فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على ما أتعاطاه لكم من التبليغ والبشارة وغيرهما (أَجْراً) أي نفعا ما ، ويختص في العرف بالمال (إِلَّا الْمَوَدَّةَ) أي إلا مودتكم إياي (فِي الْقُرْبى) أي لقرابتي منكم ففي للسببية مثلها في «إن امرأة دخلت النار في هرة» فهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة ، وإلى هذا المعنى مجاهد وقتادة وجماعة والخطاب إما لقريش على ما قيل : إنهم جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه على أن يمسك عن سب آلهتهم

٣٠

فلم يفعل ونزلت. وله عليه الصلاة والسلام في جميعهم قرابة. أخرج أحمد والشيخان. والترمذي. وغيرهم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ابن عباس : عجلت أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة أو للأنصار بناء على ما قيل : إنهم أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت فرده ، وله عليه الصلاة والسلام قرابة منهم لأنهم أخواله فإن أم عبد المطلب وهي سلمى بنت زيد النجارية منهم وكذا أخوال آمنة أمه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما في بعض التواريخ من الأنصار أيضا أو لجميع العرب لقرابته عليه الصلاة والسلام منهم جميعا في الجملة كيف لا وهم إما عدنانيون وقريش منهم وإما قحطانيون والأنصار منهم ، وقرابته عليه الصلاة والسلام من كل قد علمت وذلك يستلزم قرابته من جميع العرب ، وقضاعة من قحطان لا قسم برأسه على ما عليه معظم النسابين ، والمعنى إن لم تعرفوا حقي لنبوتي وكوني رحمة عامة ونعمة تامة فلا أقل من مودتي لأجل حق القرابة وصلة الرحم التي تعتنون بحفظها ورعايتها.

وحاصله لا أطلب منكم إلا مودتي ورعاية حقوقي لقرابتي منكم وذلك أمر لازم عليكم ، وروي نحو هذا في الصحيحين عن ابن عباس بل جاء ذلك عنه رضي الله تعالى عنه في روايات كثيرة وظاهرها أن الخطاب لقريش منها ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مسعود وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال : أكثر الناس علينا في هذه الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) إلخ فكتبنا إلى ابن عباس نسأله فكتب رضي الله تعالى عنه إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان وسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه قال الله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) على ما أدعوكم عليه (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) تودوني لقرابتي منكم وتحفظوني بها ومنها ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. والطبراني عنه قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال : يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم ، والظاهر من هذه الأخبار أن الآية مكية والقول بأنها في الأنصار يقتضي كونها مدنية ، والاستثناء متصل بناء على ما سمعت من تعميم الأجر.

وقيل : لا حاجة إلى التعميم وكون المودة المذكورة من أفراد الأجر ادعاء كاف لاتصال الاستثناء ، وقيل : هو منقطع إما بناء على أن المودة له عليه الصلاة والسلام ليست أجرا أصلا بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لأنها لازمة لهم ليمدحوا بصلة الرحم فنفعها عائد عليهم والانقطاع اقطع لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقا ؛ وذهب جماعة إلى أن المعنى لا أطلب منكم أجرا إلا محبتكم أهل بيتي وقرابتي. وفي البحر أنه قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب ، و (فِي) عليه للظرفية المجازية.

و (الْقُرْبى) بمعنى الأقرباء ، والجار والمجرور في موضع الحال أي إلا المودة ثابتة في أقربائي متمكنة فيهم ، ولمكانة هذا المعنى لم يقل : إلا مودة القربى ، وذكر أنه على الأول كذلك وأمر اتصال الاستثناء وانقطاعه على ما سبق ، والمراد بقرابته عليه الصلاة والسلام في هذا القول قيل : ولد عبد المطلب ، وقيل علي وفاطمة وولدها رضي الله تعالى عنهم وروي ذلك مرفوعا ، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس قال : «لما نزلت هذه الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) إلخ قالوا : يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم؟ قال علي وفاطمة وولدها صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النبي وعليهم».

وسند هذا الخبر على ما قال السيوطي في الدر المنثور ضعيف ، ونص على ضعفه في تخريج أحاديث الكشاف ابن حجر ، وأيضا لو صح لم يقل ابن عباس ما حكي عنه في الصحيحين وغيرهما وقد تقدم إلا أنه روي عن جماعة من

٣١

أهل البيت ما يؤيد ذلك ، أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه : أقرأت القرآن؟ قال : نعم قال : أقرأت آل حم؟ قال : نعم قال : ما قرأت : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قال : فإنكم لأنتم هم؟ قال : نعم. وروى ذاذان عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن ثم قرأ هذه الآية ، وإلى هذا أشار الكميت في قوله:

وجدنا لكم في آل حم آية

تأولها منا تقيّ ومعرب

ولله تعالى در السيد عمر الهيتي أحد الأقارب المعاصرين حيث يقول :

بأية آية يأتي يزيد

غداة صحائف الأعمال تتلى

وقام رسول رب العرش يتلو

وقد صمت جميع الخلق قل لا

والخطاب على هذا القول لجميع الأمة لا للأنصار فقط وإن ورد ما يوهم ذلك فإنهم كلهم مكلفون بمودة أهل البيت ، فقد أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أذكركم الله تعالى في أهل بيتي. وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : قال عليه الصلاة والسلام «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله تعالى وأحبوا أهل بيتي لحبي» وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار» إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأخبار ، وفي بعضها ما يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطلب. أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال : دخل العباس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودر عرق بين عينيه ثم قال : والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي ، وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم وإلا فقيل : إن الحكم منسوخ ، وفيه نظر ، والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث إنهم قرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف كانوا ، وما أحسن ما قيل :

داريت أهلك في هواك وهم عدا

ولأجل عين ألف عين تكرم

وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد ، فمودة العلويين الفاطميين ألزم من محبة العباسيين على القول بعموم (الْقُرْبى) وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضا باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام ، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي الشافي العي :

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضا حب آل محمد

فليشهد الثقلان أني رافضي

ومع هذا لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم دينا وأرى حبهم فرضا علي مبينا فقد أوجبه أيضا الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكرين قال : إنه عليه الصلاة والسلام قال : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم» ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين : أحدهما السفينة الخالية عن العيوب ، والثاني الكواكب الطالعة النيرة ، فإذا ركب تلك السفينة ووضع بصره على تلك الكواكب كان رجاء السلامة غالبا ، فلذلك

٣٢

ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة انتهى ، والكثير من الناس في حق كل من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط وما بينهما هو الصراط المستقيم ، ثبتنا الله تعالى على ذلك الصراط.

وقال عبد الله بن القاسم : المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن يود بعضكم بعضا وتصلوا قراباتكم ، وأمر (فِي) والاستثناء لا يخفى.

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح فالقربى بمعنى القرابة وليس المراد قرابة النسب ؛ قيل : ويجري في الاستثناء الاتصال والانقطاع ، واستظهر الخفاجي أنه منقطع وأنه على نهج قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

البيت ، وأراه على القول قبله كذلك.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إلا مودة في القربى» هذا ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه قال علي كرم الله تعالى وجهه : واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة ينتج علي رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى ، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث ، أما أولا فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول ، وقيل في هذا المعنى : إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم ، وأيضا فيه منافاة ما لقوله تعالى : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [يوسف : ١٠٤] وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنه لا يجب طاعة كل منهم ، وأما ثالثا فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة الكبرى وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) [البقرة : ٢٤٧] يأبى ذلك ، وأما رابعا فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت واجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه إلى غير ذلك من الأبحاث فتأمل ولا تغفل.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي يكتسب أي حسنة كانت ، والكلام تذييل ، وقيل المراد بالحسنة المودة في قربى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروي ذلك عن ابن والسدي ، وأن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لشدة محبته لأهل البيت ، وقصة فدك. والعوالي لا تأبى ذلك عند من له قلب سليم ، والكلام عليه تتميم ، ولعل الأول أولى ، وحب آل الرسول عليه الصلاة والسلام من أعظم الحسنات وتدخل في الحسنة هنا دخولا أوليا (نَزِدْ لَهُ فِيها) أي في الحسنة (حُسْناً) بمضاعفة الثواب عليها فإنها يزاد بها حسن الحسنة ، ففي للظرفية و (حُسْناً) مفعول به أو تمييز ، وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي «يزد» بالياء أي يزد الله تعالى. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «حسنى» بغير تنوين وهو مصدر كبشرى أو صفة لموصوف مقدر أي صفة أو خصلة حسنى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) ساتر ذنوب عباده (شَكُورٌ) مجاز من أطاع منهم بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة ، وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكور لحسناتهم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ

٣٣

بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ)(٣٤)

(أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون (افْتَرى) محمد عليه الصلاة والسلام (عَلَى اللهِ كَذِباً) بدعوى النبوة أو القرآن ، والهمزة للإنكار التوبيخي وبل للإضراب من غير إبطال وهو إضراب أطم من الأول فأطم فإن إثبات ما هم عليه من الشرع وإن كان شرا وشركا أقرب من جعل الحق الأبلج المعتضد بالبرهان النير من أوسطهم فضلا ودعة وعقلا افتراء ثم افتراء على الله عزوجل فكأنه قيل : أيتمالكون التفوه بنسبة مثله عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله عزوجل الذي هو أعظم الفري وأفحشها ولا تحترق ألسنتهم.

وفي ذلك أتم دلالة على بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الافتراء كيف وقد أردف بقوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) فإن هذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه الصلاة والسلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله سبحانه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم فكأنه قيل : فإن يشإ الله سبحانه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله تعالى إلا من كان في مثل حالهم وهو في معنى فإن يشأ يجعلك منهم لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى ، وما أحسن هذا التعريض بأنهم المفترون وأنهم في نفس هذه المقالة عن افترائهم مفترون ، ونظير الآية فيما ذكر قول أمين نسب إلى الخيانة : لعل الله تعالى خذلني لعل الله تعالى أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم ، فالكلام تعليل لإنكار قولهم ، وأتى بإن مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به قيل إرخاء للعنان ، وقيل : إشعار بعظمته تعالى وأنه سبحانه غني عن العالمين ، ثم ذيل بقوله تعالى : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) تأكيدا للمفهوم من السابق من أنه ليس من الافتراء في شيء أي كيف يكون افتراء ومن عادته تعالى محو الباطل ومحقه وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه وما أتى به عليه الصلاة والسلام يزداد كل يوم قوة ودحوا فلو كان مفتريا كما يزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه.

والفعل المضارع للاستمرار. والكلام ابتدائي فيمح مرفوع لا مجزوم بالعطف على (يَخْتِمْ) وأسقطت الواو في الرسم في أغلب المصاحف تبعا لإسقاطها في اللفظ لالتقاء الساكنين كما في (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق: ١٨]. و (يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) [الإسراء : ١١] وكان القياس إثباتها رسما لكن رسم المصحف لا يلزم جريه على القياس ، ويؤيد الاستئناف دون العطف على (يَخْتِمْ) إعادة الاسم الجليل ورفع (يُحِقُ) وهذا ما ذكره جار الله في الجملتين

٣٤

وبيان ارتباطهما بما قبلهما ، وقد دقق النظر في ذلك وأتى بما استحسنه النظار حتى قال العلامة الطيبي : لو لم يكن في كتابه إلا هذا لكفاه مزية وفضلا ، وجوز هو أيضا في قوله تعالى : (وَيَمْحُ) إلخ أن يكون عدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر أي يمحو الله تعالى باطلهم وما بهتوك به ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له ، وحينئذ يكون اعتراضا يؤكد ما سبق له الكلام من كونهم مبطلين في هذه النسبة إلى من هو أصدق الناس لهجة بأصدق حديث من أصدق متكلم ، وقال في إرشاد العقل السليم في الجملة الأولى : إنها استشهاد على بطلان ما قالوه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام لو افترى على الله تعالى كذبا لمنعه من ذلك قطعا ، وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم أنه سبحانه لا يشاء صدوره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل يشاء عدم صدوره عنه ومن ضرورياته منعه عنه قطعا فكأنه قيل : لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله عزوجل ، وذكر في الجملة الثانية ما ذكره جار الله من الوجهين ، ولا يخفى عليك ما يرد على كلامه من المنع مع أن فيه جعل مفعول المشيئة غير ما يدل عليه الجواب وهو ذلك المشار به إلى عدم الصدور ، والمتبادر كون المفعول الختم على ما هو المعروف في نظائر هذا التركيب أي فإن يشإ الله تعالى الختم على قلبك يختم ، وإيهام كون القرآن ناشئا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا منزلا عليه عليه الصلاة والسلام ، وقال السمرقندي : المعنى إن يشأ يختم على قلبك كما فعل بهم فهو تسلية له عليه الصلاة والسلام وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليشكر ربه سبحانه ويترحم على من ختم على قلبه فاستحق غضب ربه ولو لا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر ، فالتفريع بالنظر إلى المعنى المكنى عنه ، وحاصله أنهم اجترءوا على هذا لأنهم مطبوعون على الضلال انتهى ، وفيه شمة مما ذكره الزمخشري.

وعن قتادة وجماعة يختم على قلبك ينسك القرآن ، والمراد على ما قال ابن عطية الرد على مقالة الكفار وبيان بطلانها كأنه قيل : وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله تعالى بمرأى ومسمع وهو سبحانه قادر ولو شاء لختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك ، وفيه أن اللفظ ضيق عن أداء هذا المعنى ، وذكر القشيري أن المعنى فإن يشإ الله تعالى يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب ، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب ومن الجمع إلى الإفراد ، وحاصله يختم على قلبك أيها القائل إنه عليه الصلاة والسلام افترى على الله تعالى كذبا ، وفيه من البعد ما فيه مع أن الكفار مختوم على قلوبهم ، وقال مجاهد ومقاتل : المعنى فإن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنك مفتر ، ولا مانع عليه من عطف (يَمْحُ) على جواب الشرط بل هو الظاهر فيكون سقوط الواو للجازم ، و (يُحِقُ) حينئذ مستأنف أي وإن يشأ يمح باطلهم عاجلا لكنه سبحانه لم يفعل لحكمة أو مطلقا وقد فعل جل وعلا بالآخرة وأظهر دينه ، وقيل : لا مانع من العطف على بعض الأقوال السابقة أيضا أي إن يشأ يمح افتراءك لو افتريت وهو كما ترى ، وكذا جوز كون الجملة حالية وإن أحوج ذلك إلى تقدير المبتدأ وفيه تكلف مستغنى عنه ؛ وربما يقال : إن جملة (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ) من تتمة قولهم مفرعا على (افْتَرى) كأنه قيل : افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبه بسبب افترائه فلا يعقل شيئا أو كأنه قيل : افتريت على الله فإن يشأ يختم على قلبك جزاء ذلك إلا أن نكتة اختيار الغيبة في إحدى الجملتين والخطاب في الأخرى غير ظاهرة ، وكونها الإشارة إلى أن من افترى يحق أن يواجه بالجزاء ليس مما يهش له السامع فيما أرى ، ولعل الأولى أن يكون (فَإِنْ يَشَإِ) إلخ مفرعا على كلامهم خارجا مخرج التهكم بهم ، ولا بأس حينئذ بعطف يمح على جواب الشرط ويراد بالباطل ما هو باطل بزعمهم كأنه قيل : أم يقولون افترى على الله فإذن إن يشإ الله يختم على قلبك ويمح ما يزعمون أنه باطل ، وهذا كما تقول لمن أخبرك أن

٣٥

زيدا افترى عليك وأنت تعلم أنه لم يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فإذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فتأمل ، فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدورهم فيجري جلّ وعلا الأمر على حسب ذلك.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدى بعن لتضمنه معنى الإبانة وبمن لتضمنه معنى الأخذ كما في قوله تعالى : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) [التوبة : ٥٤] أي تؤخذ ، وقيل : القبول مضمن هنا معنى التجاوز والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده وهو تكلف.

والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب في الحال ويندم على ما مضى ويعزم على تركه في المستقبل وزادوا التقصي منه بأي وجه أمكن إن كان الذنب لعبد فيه حق وذلك بالرد إليه أو إلى وكيله أو الاستحلال منه إن كان حيا وبالرد إلى ورثته إن كان ميتا ووجدوا ثم القاضي لو كان أمينا وهو كالإكسير ومن رأى الإكسير؟ فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدق عنه والا يدع له ويستغفر.

وفي الكشف التقصي داخل في الرجوع إذ لا يصح الرجوع عنه وهو ملتبس به بعد ، واختير أن حقيقتها الرجوع وإنما الندم والعزم ليكون الرجوع إقلاعا ويتحقق أنه التوبة التي ندبنا إليها وهو موافق لما في الاحياء من أنها اسم لتلك الحالة بالحقيقة والباقي شروط التحقق ؛ ويشترط أيضا أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيا فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدن أو غرم لذلك لم يكن من التوبة في شيء ، وأشار الزمخشري إلى ذلك بكون الرجوع لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب وخرج عنه ما لو رجع طلبا للثناء أو رياء أو سمعة لأن قبح القبيح معناه كونه مقتضيا للعقاب آجلا وللذم عاجلا فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعا لذلك.

وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه : إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين : ما التوبة؟ قال : اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته ، وهذا يحتمل أن تكون التوبة مجموع هذه الأمور فالمراد أكمل أفرادها ، ويحتمل أنها اسم لكل واحد منها والأول أظهر. واختلف في التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض هل هي صحيحة أم لا والذي عليه الأصحاب أنها صحيحة لظواهر الآيات والأحاديث وصدق التعريف عليها ، وأكثر المعتزلة على أنها غير صحيحة قال أبو هاشم منهم : لو تاب عن القبيح لكونه قبيحا وجب أن يتوب عن كل القبائح وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه بل لغرض آخر لم تصح توبته. وتعقب بأنه يجوز أن يكون الباعث شدة القبح أو أمرا دينيا آخر وأيضا يجري نظير هذا في فعل الحسن بل يقال : لو فعل الحسن لكونه حسنا وجب عليه أن يفعل كل حسن وإن فعله لغرض آخر لم يقبل وفيه بحث.

واستدل المعتزلة بالآية على أنه يجب عليه تعالى قبول التوبة واستدل أهل السنة بها على عدم الوجوب لمكان التمدح ولا تمدح بالواجب ، وفيه أيضا بحث والأنفع في هذا المقام أدلة نفي الوجوب مطلقا عليه عزوجل. (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) صغائرها وكبائرها لمن يشاء من غير اشتراط شيء كالتوبة للكبائر واجتنابها للصغائر.

وقال الطيبي : المعنى من شأنه تعالى شأنه قبول التوبة عن عباده إذا تابوا والعفو عن سيئاتهم بمحض رحمته أو

٣٦

بشفاعة شافع ، وقال المعتزلة : أي يعفو عن الكبائر إذا تيب عنها وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر فالعفو عن السيئات عليه أعم من قبول التوبة لشموله الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وهو تعميم بعد تخصيص ، والظاهر مع أهل السنة إذ لا دلالة في النظم الجليل على تخصيص السيئات نعم المراد بها غير الشرك بالإجماع.

(وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) بتاء الخطاب عند حفص والأخوين وعلقمة وعبد الله وبياء الغيبة عند الجمهور وعلى الأول ففيه التفات وما موصولة والعائد محذوف أي يعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان من خير وشر فيجازى بالثواب والعقاب أو يتجاوز سبحانه بالعفو حسبما تقتضيه مشيئته جل وعلا المبنية على الحكم والمصالح.

وقيل : يعلم ذلك فيجازي التائب ويتجاوز عن غيره إذا شاء سبحانه والأول أظهر. وفي الكشاف يعلم سبحانه ذلك فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات. وفي الكشف بعد نقله هو أي قوله تعالى. (وَيَعْلَمُ) إلخ تذييل للكلام السابق يؤكد ما ذكره من القبول والعفو لأنه تعالى إذا علم العملين والعاملين جازى كلا بما فعل فأولى أن يجازي هؤلاء المحسنين بأفعالهم ، ثم فيه لطف وحث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له سبحانه في إمحاض التوبة ، ونحن أيضا لا ننكر أنه تذييل فيه تأكيد كما لا يخفى (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عطف على (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) فالفاعل ضميره تعالى و (الَّذِينَ) مفعول بدون تقدير شيء بناء على أن (يَسْتَجِيبُ) يتعدى بنفسه كما يتعدى باللام نحو شكرته وشكرت له أو بتقدير اللام على أنه من باب الحذف والإيصال والأصل يستجيب للذين آمنوا بناء على أنه يتعدى للداعي باللام وللدعاء بنفسه ونحو هذا قوله :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وأجاب واستجاب بمعنى أي ويجيب الله تعالى الذين آمنوا إذا دعوا وحاصله يجيب دعاءهم ، وجوز بعضهم أن يكون الكلام بتقدير هذا المضاف قيل : وهو أولى من القول بإيصال الفعل بحذف الصلة لأن حذف المضاف إذا لم يلبس منقاس وذاك مسموع ، ويجوز أن يكون المراد يثيبهم على طاعتهم فإن الطاعة لكونها طلب ما يترتب عليها من الثواب شابهت الدعاء وشابهت الإثابة عليها الإجابة ، ومن هذا يسمى الثناء دعاء لأنه يترتب عليه ما يترتب عليه ، وسئل سفيان عن قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث : «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» فقال : هذا كقوله تعالى في الحديث القدسي : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ألا ترى قول أمية بن الصلت لابن جدعان حين أتاه يبغي نائلة :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

ثناؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه عن تعرضك الثناء

وجعلوا من ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفضل الدعاء الحمد لله» على معنى أن الحمد يدل على الدعاء والسؤال بطريق الكناية والتعريض ، وقيل : هو على إطلاق الدعاء على الحمد لشبهه به في طلب ما يترتب عليه ، وجوز أن يراد بالإجابة معناها الحقيقي والإثابة بناء على القول بصحة الجمع بين الحقيقة والمجاز أي يجيب دعاءهم ويثيبهم على الطاعة (وَيَزِيدُهُمْ) على ما سألوا واستحقوا (مِنْ فَضْلِهِ) الواسع جل شأنه ، وقيل : إن فاعل (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) واستظهره أبو حيان ، والجملة عطف على مجموع قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) إلخ أي ينقادون لله تعالى ويجيبونه سبحانه إذا دعاهم ، وهو المروي عن ابن جبير ، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له : ما لنا ندعو فلا نجاب؟ فقال : لأنه سبحانه دعاكم فلم تجيبوه ثم قرأ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥] (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا يؤكد هذا الوجه لأنه قدس‌سره ذكر أن الله تعالى دعاكم بقوله عزوجل : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) وذكر

٣٧

أن المؤمن من استجاب دعوة ربه تعالى بقوله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) فمن لا يجيب دعاءه تعالى لا يجيب تعالى أيضا دعاءه ، وكون الفاعل ضميره تعالى قد روى ما يقتضيه عن ابن عباس. ومعاذ بن جبل (وَيَزِيدُهُمْ) عليه عطف على ما قبله وعلى الوجه الآخر عطف على مقدر أي فيوفيهم أجورهم ويزيدهم عليها على أسلوب (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) [النمل : ١٥] وقوله سبحانه : (مِنْ فَضْلِهِ) متعلق بيزيدهم مطلقا ، وجوز تعليقه بالفعلين على التنازع فإن الإجابة والثواب فضل منه تعالى كالزيادة.

وأيا ما كان فالظاهر عموم الذين آمنوا وروي عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها : نأتي رسول الله عليه الصلاة والسلام ونقول له : إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها فنزلت قل (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقرأها عليهم ، وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا مسلمين فقال المنافقون : إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذل عز قرابته من بعده فنزلت (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [سبأ : ٨] فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا وندموا فأنزل الله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) فأرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فبشرهم وقال : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم الذين سلموا لقوله ذكر ذلك الطبرسي ، وذكر قريبا منه في الدر المنثور لكن قال : أخرجه الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن ابن جبير بسند ضعيف ، والذي يغلب على الظن الوضع (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بدل ما للمؤمنين من الإجابة والتفضل.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي لتكبروا فيها بطرا وتجاوزوا الحد الذي يليق بالعبيد أو لظلم بعضهم بعضا فإن الغني مبطرة مأشرة ، وكفى بحال قارون عبرة ، وفي الحديث «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها» ولبعض العرب :

وقد جعل الوسمي ينبت بيننا

وبين بني رومان نبعا وشوحطا

وأصل البغي طلب أكثر مما يجب بأن يتجاوز في القدر والكمية أو في الوصف والكيفية (وَلكِنْ يُنَزِّلُ) بالتشديد ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف من الإنزال (بِقَدَرٍ) بتقدير (ما يَشاءُ) وهو ما اقتضته حكمته جل شأنه (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) محيط بخفيات أمورهم وجلاياها فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنه فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ولو أغناهم جميعا لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا. واستشكلت الآية بأن الغنى كما يكون سبب البغي فكذلك الفقر قد يكون فلا يظهر الشرطية ، وأجاب جار الله بأنه لا شبهة أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن وأراد والله تعالى أعلم أن نظام العالم على ما هو عليه يستمر وإن كان قد يصدر من الغنى في بعض الأحيان بغي ومن الفقير كذلك لكن في أحدهما ما يدفع الآخر أما لو أفقرهم كلهم لكان الضعف والهلك لازما ولو بسط عليهم كلهم مع أن الحاجة طبيعية لكان من البغي ما لا يقادر قدره لأن نظام العالم بالفقر أكثر منه بالغنى ، وهذا أمر ظاهر مكشوف ؛ ثم إن الفقر الكلي لا يتصور معه البغي للضعف العام ولأنه لا يجد حاجته عند غيره ليظلمه ، وأما الغنى الكلي فعنده البغي التام ، وأما الذي عليه سنة الله عزوجل فهو الذي جمع الأمرين مشتملا على خوف للغني من الفقراء يزعه عن الظلم وخوف للفقير من الأغنياء أكثر منه يدعوه إلى التعاون ليفوز بمبتغاه ويزعه عن البغي ، ثم قد يتفق بغي من هذا أو ذاك كذا قرره صاحب الكشف ثم قال : وهذا جواب حسن لا تكلف فيه وهو إشارة إلى رد العلامة الطيبي فإنه زعم أنه جواب متكلف وإن السؤال قوي ، وذهب هو إلى أن المراد (بِعِبادِهِ) من خصهم الله تعالى بالكرامة وجعلهم من أوليائه ثم قال : وينصره التذييل بقوله تعالى : (إِنَّهُ بِعِبادِهِ

٣٨

خَبِيرٌ بَصِيرٌ) ووضع المظهر موضع المضمر أي إنه تعالى خبير بأحوال عباده المكرمين بصير بما يصلحهم وما يرديهم ، وإليه ينظر ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أحب الله تعالى عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ، ويشد من عضده قول خباب بن الأرت نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت (وَلَوْ بَسَطَ) الآية وقول عمرو بن حريث طلب قوم من أهل الصفة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغنيهم الله تعالى ويبسط لهم الأموال والأرزاق فنزلت وعليه تفسير محيي السنة انتهى. ولا يخفى أن الأنسب بحال المكرمين المصطفين من عباده تعالى أن لا يبطرهم الغنى لصفاء بواطنهم وقوة توجههم إلى حظائر القدس ومزيد تعلق قلوبهم بمحبوبهم ووقوفهم على حقائق الأشياء وكمال علمهم بمنتهى زخارف الحياة الدنيا ، وأبناء الدنيا لو فكروا في ذلك حق التفكر لهان أمرهم وقل شغفهم كما قيل :

لو فكر العاشق في منتهى

حسن الذي يسبيه لم يسبه

فلعل الأولى ما تقدم أو يقال إن هذا في بعض العباد المؤمنين فتأمل (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع منه فلا يقال غيث لكل مطر ، وقرأ الجمهور «ينزل» مخففا.

(مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) بكسر النون (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي منافع الغيث وآثاره في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاما أوليا ، وقيل : الرحمة هنا ظهور الشمس لأنه إذا دام المطر سئم فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ذكره المهدوي وليس بشيء ، ومن البعيد جدا ما قاله السدي من أن الرحمة هنا الغيث نفسه عدد النعمة نفسها بلفظين ، وأيا ما كان فضمير (رَحْمَتَهُ) لله عزوجل ، وجوز على الأول كونه للغيث.

(وَهُوَ الْوَلِيُ) الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد على ذلك لا غيره سبحانه.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شئونه تعالى العظيمة ، ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها من الطبيعة العديمة الشعور.

(وَما بَثَّ فِيهِما) عطف على (السَّماواتِ) أي ومن آياته خلق ما بث أو عطف على (خَلْقُ) أي ومن آياته ما بث. و (ما) تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقدير مضاف أي خلق الذي بث خلافا لأبي حيان (مِنْ دابَّةٍ) أي حيوان له دبيب وحركة ، وظاهر الآية وجود ذلك في السموات وفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة ، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران ، واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الاناسي بعيد في عرف اللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كون الدواب في الأرض لا غير ؛ وما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة ، فالآية على أسلوب (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وذلك لقوله تعالى في [البقرة : ١٦٤] (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) فإنه يدل على اختصاص الدواب بالأرض لأن مقام الإطناب يقتضي ذكره لو كان لا للعمل بمفهوم اللقب الذي لا يقول به الجمهور والجواب أن التي في البقرة لما كانت كلاما مع الغبي والفهم والمسترشد والمعاند جيء فيه بما هو معروف عند الكل وهو بث الدواب في الأرض وأما هاهنا فجيء به مدمجا مختصرا لما تكرر في القرآن ولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما) مؤثرا على لفظ الخلق ليدل على التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى : (مِنْ دابَّةٍ) تعميما وتغليبا لغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقا للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها ، وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها

٣٩

ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨] وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بواسطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقص ما في الآلات على ما يدعون ، ويحتمل أن يكون فيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القول به ، وقيل : المراد بالسماوات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلا وفي جو كل إقليم بل كل بلدة بل كل قطعة من الأرض حيوانات لا يحصي كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها ، وقيل : المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه ، وكذا لا يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازا إما من استعمال المقيد في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أو المسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سببا للحي فيكون مجازا مرسلا تبعيا لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل دليل على خلافه وأين ذلك الدليل؟ بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض.

(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة (إِذا يَشاءُ) ذلك (قَدِيرٌ) تام القدرة كاملها ، و (إِذا) متعلقة بما قبلها لا بقدر لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع ، ومنه قوله :

وإذا ما أشاء أبعث منها

آخر الليل ناشطا مذعورا

وقول صاحب الكشف : لقائل أن يفرق بين إذا وإذا ما الظاهر أنه ليس في محله وقد نص الخفاجي على عدم الفرق وجعل القول به توهما ، وكذا نص على أنها تدخل على الفعلين ظرفية كانت أو شرطية ، وقيد ذلك الطيبي بما إذا كانت بمعنى الوقت كما هنا ، وضمير (جَمْعِهِمْ) قيل للسماوات والأرض وما فيهما على التغليب وهو كما ترى ، وقيل : للدواب المفهوم مما تقدم وضمير العقلاء للتغليب المناسب لكون الجمع للمحاسبة ، وقيل : للناس المعلوم من ذلك ولعله الأولى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي فبسبب معاصيكم التي اكتسبتموها ، و (ما) اسم موصوف مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولا صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثيرا لما فيه من معنى الشرط لإشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جيء بالفاء هنا.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر في رواية وشيبة «بما» بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولا يكفي في الإشعار المذكور ، وحكي عن ابن مالك أنه قال : اختلاف القراءتين دل على أن ما موصولة فجيء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطا للمشبه عن المشبه به ، وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناء على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والأخفش وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقا ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١].

وقال أبو البقاء : حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا قيل وآجلا.

وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار. روى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ)».

٤٠