روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

مقابلته لحبب أو نزل (إِلَيْكُمُ) منزلة مفعول آخر ، و (الْكُفْرَ) تغطية نعم الله تعالى بالجحود ، و (الْفُسُوقَ) الخروج عن القصد ومأخذه ما تقدم ، (وَالْعِصْيانَ) الامتناع عن الانقياد ، وأصله من عصت النواة صلبت واشتدت ، والكلام أعني قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ) إلخ ثناء عليهم بما يردف التحبيب المذكور والتكريه من فعل الأعمال المرضية والطاعات والتجنب عن الأفعال القبيحة والسيئات على سبيل الكناية ليقع التقابل موقعه على ما سلف آنفا ، وقيل : الداعي لذلك ما يلزم على الظاهر من المدح بفعل الغير مع أن الكلام مسوق للثناء عليهم وهو في إيثارهم الإيمان وإعراضهم عن الكفر وأخويه لا في تحبيب الله تعالى الإيمان لهم وتكريهه سبحانه الكفر وما معه إليهم. وأنت تعلم أن الثناء على صفة الكمال اختيارية كانت أولا شائع في عرف العرب والعجم ، والمنكر معاند على أن ذلك واقع على الجماد أيضا ، والمسلم الضروري أنه لا يمدح الرجل بما لم يفعله على أنه فعله ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) [آل عمران : ١٨٨] أما أنه لا يمدح به على أنه صفة له فليس بمسلم فلا تغفل (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) تعليل للأفعال المستندة إليه عزوجل في قوله سبحانه : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ) إلخ وما في البين اعتراض ، وجوز كونه تعليلا للراشدين ، وصح النصب على القول باشتراط اتحاد الفاعل أي من قام به الفعل وصدر عنه موجدا له أولا لما أن الرشد وقع عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تبارك اسمه فإنه لو قيل مثلا حبب إليكم الإيمان فضلا منه وجعل كناية عن الرشد لصح فيحسن أن يقال : أولئك هم الراشدون فضلا ويكون في قوة أولئك هم المحببون فضلا أو لأن الرشد هاهنا يستلزم كونه تعالى شأنه مرشدا إذ هو مطاوع أرشد ، وهذا نظير ما قالوا من أن الإراءة تستلزم رؤية في قوله سبحانه : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الرعد : ١٢] فيتحد الفاعل ويصح النصب ، وجوز كونه مصدرا لغير فعله فهو منصوب إما بحبب أو بالراشدين فإن التحبيب والرشد من فضل الله تعالى وانعامه» وقيل : مفعول به لمحذوف أي يبتغون فضلا (وَاللهُ عَلِيمٌ) مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل (حَكِيمٌ) يفعل كل ما يفعل من أفضال وإنعام وغيرهما بموجب الحكمة.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) أي تقاتلوا ، وكان الظاهر. اقتتلتا بضمير التثنية كما في قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي بالنصح وإزالة الشبهة إن كانت والدعاء إلى حكم الله عزوجل ، والعدول إلى ضمير الجمع لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة فقد روعي في الطائفتين معناهما أولا ولفظهما ثانيا على عكس المشهور في الاستعمال ، والنكتة في ذلك ما قيل : إنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثني الضمير. وقرأ ابن أبي عبلة «اقتتلتا» بضمير التثنية والتأنيث كما هو الظاهر. وقرأ زيد بن علي ، وعبيد بن عمير «اقتتلا» بالتثنية والتذكير باعتبار أن الطائفتين فريقان (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) تعدت وطلبت العلو بغير الحق (عَلَى الْأُخْرى) ولم تتأثر بالنصيحة (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) أي إلى حكمه أو إلى ما أمر سبحانه به وقرأ الزهري حتى «تفي» بغير همز وفتح الياء وهو شاذ كما قالوا في مضارع جاء يجيء بغير همز فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى بفي مضارع وفي شذوذا ، وفي تعليق القتال بالموصول للإشارة إلى علية ما في حيز الصلة أي فقاتلوها لبغيها (فَإِنْ فاءَتْ) أي رجعت إلى أمره تعالى وأقلعت عن القتال حذرا من قتالكم (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) بفصل ما بينهما على حكم الله تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر ، وتقييد الإصلاح هنا بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك بقوله تعالى : (وَأَقْسِطُوا) أي اعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فيجازيهم أحسن الجزاء. وفي الكشاف في الإصلاح بالعدل والقسط تفاصيل ، إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت

٣٠١

بعد الفيئة ما جنت ، وأن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت ، وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها فما جنته ضمنته عند الجميع فمحمل الإصلاح بالعدل على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل ، وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا من أن الفرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال في الكشف ، لأن ما ذكروه من إماتة الأضغان داخل في قوله تعالى : (فَإِنْ فاءَتْ) لأنه من ضرورات التوبة ، فاعمال العدل والقسط إنما يكون في تدارك الفرطات ثم قال : والأولى على قول الجمهور أن يقال : الإصلاح بالعدل أنه لا يضمن من الطرفين فإن الباغي معصوم الدم والمال مثل العادل لا سيما وقد تاب فكما لا يضمن العادل المتلف لا يضمنه الباغي الفائي ، هذا مقتضى العدل لا تخصيص الضمان بطرف دون آخر. والآية نزلت في قتال وقع بين الأوس والخزرج. أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق إليه قال : إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله تعالى فيهم (وَإِنْ طائِفَتانِ) الآية ، وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد الله بن أبي بن سلول فقال ما قال فرد عليه عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه نغضب لكل أصحابه فتقاتلوا فنزلت فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم فاصطلحوا وكان ابن رواحة خزرجيا وابن أبي أوسيا.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان أهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصلح بينهم وقاموا إلى أمر الله عزوجل ، والخطاب فيها على ما في البحر لمن له الأمر وروي ذلك عن ابن عباس وهو للوجوب فيجب الإصلاح ويجب قتال الباغية ما قاتلت وإذا كفت وقبضت عن الحرب تركت ، وجاء في حديث رواه الحاكم. وغيره حكمها إذا تولت قال عليه الصلاة والسلام : «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال : الله تعالى ورسوله أعلم قال : لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها» وذكروا أن الفئتين من المسلمين إذا اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا فالواجب أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقاما على البغي صيرا إلى مقاتلتهما ، وأنهما إذا التحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة واطلاعهما على مراشد الحق فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه فقد لحقتا باللتين اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا ، والتصدي لإزالة الشبهة في الفئة الباغية إن كانت لازم قبل المقاتلة ، وقيل : الخطاب لمن يتأتى منه الإصلاح ومقاتلة الباغي فمتى تحقق البغي من طائفة كان حكم إعانة المبغي عليه حكم الجهاد ، فقد أخرج الحاكم وصححه. والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية يعني (وَإِنْ طائِفَتانِ) إلخ إني لم أقاتل هذه

٣٠٢

الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى ـ يعني بها معاوية ومن معه الباغين ـ على علي كرم الله تعالى وجهه ، وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد احتجاجا بأن عليا كرم الله تعالى وجهه اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد ، والحق أن ذلك ليس على إطلاقه بل إذا خشي من ترك قتالهم مفسدة عظيمة دفعها أعظم من مصلحة الجهاد ، وظاهر الآية أن الباغي مؤمن لجهل الطائفتين الباغية والمبغي عليها من المؤمنين. نعم الباغي على الإمام ولو جائرا فاسق مرتكب لكبيرة إن كان بغيه بلا تأويل أو بتأويل قطعي البطلان. والمعتزلة يقولون في مثله : إنه فاسق مخلد في النار إن مات بلا توبة ، والخوارج يقولون : إنه كافر ، والإمامية أكفروا الباغي على علي كرم الله تعالى وجهه المقاتل له واحتجوا بما روي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «حربك حربي» وفيه بحث. وقرأ ابن مسعود «حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط» (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح ، وإطلاق الاخوة على المؤمنين من باب التشبيه البليغ وشبهوا بالاخوة من حيث انتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية ، وجوز أن يكون هناك استعارة وتشبه المشاركة في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان ، والفاء في قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) للإيذان بأن الاخوة الدينية موجبة للإصلاح ، ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا للمأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه ، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه ، وقيل : المراد بالأخوين الأوس والخزرج اللتان نزلت فيهما الآية سمي كلا منهما أخا لاجتماعهم في الجد الأعلى. وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن بخلاف عنه «إخوانكم» جمعا على وزن غلمان.

وقرأ ابن سيرين «إخوتكم» جمعا على وزن غلمة ، وروى عبد الوارث عن أبي عمرو القراءات الثلاث ، قال أبو الفتح : وقراءة الجمع تدل على أن قراءة الجمهور لفظها لفظ التثنية ومعناها الجماعة أي كل اثنين فصاعدا من المسلمين اقتتلا ، والإضافة لمعنى الجنس نحو لبيك وسعديك ، ويغلب الاخوان في الصداقة والاخوة في النسب وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من الإصلاح ، والظاهر أن هذا عطف على (فَأَصْلِحُوا) وقال الطيبي : هو تذييل للكلام كأنه قيل : هذا الإصلاح من جملة التقوى فإذا فعلتم التقوى دخل فيه هذا التواصل ، ويجوز أن يكون عطفا على (فَأَصْلِحُوا) أي واصلوا بين أخويكم بالصلح واحذروا الله تعالى من أن تتهاونوا فيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لأجل أن ترحموا على تقواكم أو راجين أن ترحموا عليها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ) أي منكم (مِنْ قَوْمٍ) آخرين منكم أيضا ، فالتنكير في الموضعية للتبعيض ، والسخر الهزؤ كما في القاموس ، وفي الزواجر النظر إلى المسخور منه بعين النقص ، وقال القرطبي : السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أو الاشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته ، وقال بعض : هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته ، واختير أنه احتقاره قولا أو فعلا بحضرته على الوجه المذكور ، وعليه ما قيل المعنى : لا يحتقر بعض المؤمنين بعضا. والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال. وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن نهيرة وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهم ، ولا يضر فيه اشتمالها على نهي النساء عن السخرية كما لا يضر اشتمالها على نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها : كأنه لسان كلب فنزلت ، وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة فنزلت ، وقيل : نزلت بسبب عكرمة بن

٣٠٣

أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، وقيل غير ذلك ؛ وقوله عزوجل : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين فرب اشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره ، وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضا عسى أن يصير المحتقر ـ اسم مفعول ـ عزيز أو يصير المحتقر ذليلا فينتقم منه ، فهو نظير قوله :

لا تهين الفقير علك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه

والقوم جماعة الرجال ولذلك قال سبحانه : (وَلا نِساءٌ) أي ولا يسخر نساء من المؤمنات (مِنْ نِساءٍ) منهن (عَسى أَنْ يَكُنَ) أي المسخورات (خَيْراً مِنْهُنَ) أي من الساخرات ، وعلى هذا جاء قول زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وهو إما مصدر كما في قول بعض العرب : إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما نعت به فشاع في جماعة الرجال ، وإما اسم جمع لقائم كصوم لصائم وزور لزائر ، وأطلق عليه بعضهم الجمع مريدا به المعنى اللغوي وإلا ففعل ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات ، ووجه الاختصاص بالرجال أن القيام بالأمور وظيفتهم كما قال تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٣٤] وقد يراد به الرجال والنساء تغليبا كما قيل في قوم عاد وقوم فرعون أن المراد بهم الذكور والإناث ؛ وقيل : المراد بهم الذكور أيضا ودل عليهن بالالتزام العادي لعدم الانفكاك عادة ، والنساء على ما قال الراغب وغيره وكذا النسوان والنسوة جمع المرأة من غير لفظها ، وجيء بما يدل على الجمع في الموضعين دون المفرد كأن يقال : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة مع أنه الأصل الأشمل الأعم قيل جريا على الأغلب من وقوع السخرية في مجامع الناس فكم من متلذذ بها وكم من متألم منها فجعل ذلك بمنزلة تعدد الساخر والمسخور منه ، وقيل : لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين الجماعة كقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠] وعموم الحكم لعموم علته ، و (عَسى) في نحو هذا التركيب من كل ما أسندت فيه إلى أن والفعل قيل تامة لا تحتاج إلى خبر وأن وما بعدها في محل رفع على الفاعلية ، وقيل : إنها ناقصة وسد ما بعدها مسد الجزأين وله محلان باعتبارين أو محله الرفع ، والتحكم مندفع بأنه الأصل في منصوبها بناء على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر.

وقرأ عبد الله وأبيّ «عسوا أن يكونوا». «وعسين عن أن يكن» فعسى عليها ذات خبر على المشهور من أقوال النحاة ، وفيه الاخبار عن الذات بالمصدر أو يقدر مضاف مع الاسم أو الخبر ، وقيل : هو في مثل ذلك بمعنى قارب وأن وما معها مفعول أو قرب وهو منصوب على إسقاط الجار (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة لأن المؤمنين كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه ، فضمير (تَلْمِزُوا) للجميع بتقدير مضاف ، و (أَنْفُسَكُمْ) عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون جعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم وأطلق الأنفس على الجنس استعارة كما في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] وقوله سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] وهذا غير النهي السابق وإن كان كل منهما مخصوصا بالمؤمنين بناء على أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته ، واللمز التنبيه على معايبه سواء كان على مضحك أم لا؟ وسواء كان بحضرته أم لا كما قيل في تفسيره ، وجعل عطفه عليه من قبيل عطف العام على الخاص

٣٠٤

لإفادة الشمول كشارب الخمر وكل فاسق مذموم ، ولا يتم إلا إذا كان التنبيه المذكور احتقارا ، ومنهم من يقول : السخرية الاحتقار واللمز التنبيه على المعايب أو تتبعها والعطف من قبيل عطف العلة على المعلول وقيل : اللمز مخصوص بما كان من السخرية على وجه الخفية كالإشارة فهو من قبيل عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة ، واختار الزمخشري أن المعنى وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، ففي الحديث «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وتعقب بأنه لا دليل على الاختصاص.

وقال الطيبي : هو من دليل الخطاب لكن ان في هذا الوجه تعسفا والوجه الآخر. يعني ما تقدم. أوجه لموافقته (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) و (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وفي الكشف أخذ الاختصاص من العدول عن الأصل وهو لا يلمز بعضكم بعضا كأنه قيل : ولا تلمزوا من هو على صفتكم من الإيمان والطاعة فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف ، وتعقب قول الطيبي بأن الكلام عليه يفيد العلية والاختصاص معا فيوافق ما سبق ويؤذن بالفرق بين السخرية واللمز وهو مطلوب في نفسه وكأنه قيل : لا تلمزوا المؤمنين لأنهم أنفسكم ولا تعسف فيه بوجه إلى آخر ما قال فليتأمل ، والإنصاف أن المتبادر ما تقدم ، وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه فانفسكم على ظاهره والتجوز في (تَلْمِزُوا) أطلق فيه المسبب على السبب والمراد لا ترتكبوا أمرا تعابون به ، وهو بعيد عن السياق وغير مناسب لقوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا) وكونه من التجوز في الإسناد إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب تكلف ظاهر ، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق لا يدفع كونه مخالفا للظاهر ، وكذا كون المراد به لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم كما في الحديث «من الكبائر أن يشتم الرجل والديه» وفسر بأنه إن شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضا.

وقرأ الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو «لا تلمزوا» بضم الميم (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب ، قال في القاموس : التنابز التعاير والتداعي بالألقاب ويقال نبزه ينبزه نبزا بالفتح والسكون لقبه كنبزه والنبز بالتحريك وكذا النزب اللقب وخص عرفا بما يكرهه الشخص من الألقاب.

وعن الرضي أن لفظ اللقب في القديم كان في الذم أشهر منه في المدح ، والنبز في الذم خاصة ، وظاهر تفسير التنابز بالتداعي بالألقاب اعتبار التجريد في الآية لئلا يستدرك ذكر الألقاب ، ومن الغريب ما قيل : التنابز الترامي أي لا تتراموا بالألقاب ويراد به ما تقدم ، والمنهي عنه هو التلقيب بما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له وشينا.

قال النووي : اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما فقد روي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسمع فأتى يوما وهو يقول : تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال لرجل : تنح فلم يفعل فقال : من هذا؟ فقال الرجل : أنا فلان فقال : بل أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا. وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن جبير وابن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله انه يكرهه فنزلت (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله تعالى أن يعير بما سلف من عمله ، وعن ابن مسعود هو أن يقال اليهودي أو النصراني أو المجوسي إذا أسلم يا

٣٠٥

يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي ، وعن الحسن نحوه ، ولعل مأخذه ما روي أنها نزلت في صفية بنت حيي أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال لها : هلا قلت : إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأنت تعلم أن النهي عما ذكر داخل في عموم (لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) على ما سمعت فلا يختص التنابز بقول يا يهودي ويا فاسق ونحوهما ، ومعنى قوله تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب التنابز أن يذكروا بالفسق بعد اتصافهم بالإيمان ، وهو ذم على اجتماع الفسق وهو ارتكاب التنابز والإيمان على معنى لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإيمان يأبى الفسق كقولهم : بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وما يكون في حال الشباب من الميل إلى الجهل وكبر السن.

و (الِاسْمُ) هنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو اللؤم فلا تأبى هذه الآية حمل ما تقدم على النهي عن التنابز مطلقا ، وفيها تسميته فسوقا ، وقيل : (بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بدله كما في قولك للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة ، وفيه تغليظ بجعل التنابز فسقا مخرجا عن الإيمان ، وهذا خلاف الظاهر. وذكر الزمخشري له مبني على مذهبه من أن مرتكب الكبيرة فاسق غير مؤمن حقيقة ، وقيل : معنى النهي السابق لا ينسبن أحدكم غيره إلى فسق كان فيه بعد اتصافه بضده ، ومعنى هذا بئس تشهير الناس وذكرهم بفسق كانوا فيه بعد ما اتصفوا بضده ، فيكون الكلام نهيا عن أن يقال ليهودي أسلم يا يهودي أو نحو ذلك ، والأول أظهر لفظا وسياقا ومبالغة ، والجملة على كل متعلقة بالنهي عن التنابز على ما هو الظاهر ، وقيل : هي على الوجه السابق متعلقة بقوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أو بجميع ما تقدم من النهي ، وعلى هذا اقتصر ابن حجر في الزواجر.

ويستثنى من النهي الأخير دعاء الرجل الرجل بلقب قبيح في نفسه لا على قصد الاستخفاف به والإيذاء له كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته كقول المحدثين : سليمان الأعمش وواصل الأحدب ، وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لعلقمة : تقول أنت ذلك يا أعور ظاهر في أن الاستثناء لا يتوقف على دعاء الضرورة ضرورة أنه لا ضرورة في حال مخاطبته علقمة لقوله يا أعور ، ولعل الشهرة مع عدم التأذي وعدم قصد الاستخفاف كافية في الجواز ، ويقال ما كان من ابن مسعود من ذلك ، والأولى أن يقال في الرواية عمن اشتهر بذلك كسليمان المتقدم روي عن سليمان الذي يقال له الأعمش ، هذا وغوير بين صيغتي (تَلْمِزُوا) و (تَنابَزُوا) لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالا فوقع التفاعل كذا في الزواجر ، وقيل : قيل (تَنابَزُوا) لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين القوم ، ويعلم من الآية أن التلقيب ليس محرما على الإطلاق بل المحرم ما كان بلقب السوء ، وقد صرحوا بأن التلقيب بالألقاب الحسنة مما لا خلاف في جوازه ، وقد لقب أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالعتيق لقوله عليه الصلاة والسلام له : «أنت عتيق الله من النار» وعمر رضي الله تعالى عنه بالفاروق لظهور الإسلام يوم إسلامه ، وحمزة رضي الله تعالى عنه بأسد الله لما أن إسلامه كان حمية فاعتز الإسلام به ، وخالد بسيف الله لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله» إلى غير ذلك من الألقاب الحسنة وألقاب علي كرم الله وجهه أشهر من أن تذكر وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم ويراعى فيها المعنى بخلاف العلم ، ولذلك قال الشاعر : وقلما أبصرت عيناك ذا لقب. إلا ومعناه أن فتشت في لقبه بدخوله في مفهومه لكن الشائع غير ذلك ، وفي الحديث «كنّوا أولادكم» قال عطاء : مخافة الألقاب وقال عمر رضي الله تعالى عنه : أشيعوا الكنى فإنها سنة ، ولنا في

٣٠٦

الكنى كلام نفيس ذكرناه في الطراز المذهب فمن أراده فليرجع (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عما نهى عنه من التنابز أو من الأمور الثلاثة السابقة أو مطلقا ويدخل ما ذكر (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب ، والإفراد أولا والجمع ثانيا مراعاة للفظ ومراعاة للمعنى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) أي تباعدوا منه ، وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له ، وتنكير (كَثِيراً) ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل ، فإن من الظن ما يباح اتباعه كالظن في الأمور المعاشية ، ومنه ما يجب كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات كالواجبات الثابتة بغير دليل قطعي وحسن الظن بالله عزوجل ، ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين ، ففي الحديث «أن الله تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء» وعن عائشة مرفوعا من أسماء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن إن الله تعالى يقول : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) ويشترط في حرمة هذا أن يكون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح وأونست منه الأمانة ، وأما من يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث كالدخول والخروج إلى حانات الخمر وصحبة الغواني الفاجرات وإدمان النظر إلى المرد فلا يحرم ظن السوء فيه وإن كان الظان لم يره يشرب الخمر ولا يزني ولا يعبث بالشباب. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال : كتب إلي بعض اخواني من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه ، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده ، وما كافيت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه ، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظيم البلاء ولا تهاون بالحلف فيهينك الله تعالى ، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ؛ ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه ، وعليك بالصدق وإن قتلك ، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله تعالى ، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.

وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت وظن بالناس ما شئت ، واعلم

٣٠٧

أن ظن السوء إن كان اختياريا فالأمر واضح ، وإذا لم يكن اختياريا فالمنهي عنه العمل بموجبه من احتقار المظنون به وتنقيصه وذكره بما ظن فيه ، وقد قيل نظير ذلك في الحسد على تقدير كونه غير اختياري ، ولا يضر العمل بموجبه بالنسبة إلى الظان نفسه كما إذا ظن بشخص أنه يريد به سوءا فتحفظ من أن يلحقه منه أذى على وجه لا يلحق ذلك الشخص به نقص ، وهو محمل خبر «إن من الحزم سوء الظن» وخبر الطبراني «احترسوا من الناس بسوء الظن» ، وقيل : المنهي عنه الاسترسال معه وترك إزالته بنحو تأويل سببه من خبر ونحوه ، وإلا فالأمر الغير الاختياري نفسه لا يكون مورد التكليف ، وفي الحديث «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثلاث لازمات أمتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل : ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال : إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض» أخرجه الطبراني عن حارثة بن النعمان (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل بالأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقي ، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه ، ومنه قيل لعقوبته الأثام فعال منه كالنكال ، قال الشاعر :

لقد فعلت هذي النوى بي فعلة

أصاب النوى قبل الممات أثامها

والهمزة فيه على ما قال الزمخشري بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها لكونه يضربها في الجملة وإن لم يحبطها قطعا : وتعقب بأن الهمزة ملتزمة في تصاريفه تقول : إثم يأثم فهو آثم وهذا إثم وتلك آثام ، وإن أثم من باب علم ، ووثم من باب ضرب ، وإنه ذكره في باب الهمزة في الأساس ، والواوي متعد وهذا لازم.

(وَلا تَجَسَّسُوا) ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم وتستكشفوا عما ستروه ، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللمس فإن من يطلب الشيء يجسه ويلمسه فأريد به ما يلزمه ، واستعمال التفعل للمبالغة وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين «ولا تحسسوا» بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ، ولهذا يقال لمشاعر الإنسان الحواس والجواس بالحاء والجيم ، وقيل التجسس والتحسس متحدان ومعناهما معرفة الأخبار ، وقيل : التجسس بالجيم تتبع الظواهر وبالحاء تتبع البواطن ، وقيل : الأول أن تفحص بغيرك والثاني أن تفحص بنفسك ، وقيل : الأول في الشر والثاني في الخير ، وهذا بفرض صحته غير مراد هنا والذي عليه الجمهور أن المراد على القراءتين النهي عن تتبع العورات مطلقا وعدوه من الكبائر.

أخرج أبو داود وابن المنذر وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته» وفي رواية البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نادى بذلك حتى اسمع العواتق في الخدر. وأخرج أبو داود وجماعة عن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود : قد نهينا عن التجسس فإن ظهر لنا شيء أخذنا به.

وقد يحمل مزيد حب النهي عن المنكر على التجسس وينسى النهي فيعذر مرتكبه كما وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. أخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعس بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال : يا عدو الله أظننت أن الله تعالى يسترك وأنت على معصية؟ فقال : وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه : (وَلا تَجَسَّسُوا) وقد تجسست وقال الله تعالى : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) [البقرة ١٨٩ :] وقد تسورت وقال جل شأنه : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) [النور : ٢٧] ودخلت علي بغير إذن قال عمر رضي الله تعالى عنه : فهل عندكم من خير ان عفوت عنك؟ قال :

٣٠٨

نعم فعفا عنه وخرج وتركه. وفي رواية سعيد بن منصور عن الحسن أنه قال رجل لعمر رضي الله تعالى عنه : إن فلانا لا يصحو فقال : انظر إلى الساعة التي يضع فيها شرابه فأتني فأتاه فقال : قد وضع شرابه فانطلقا حتى استأذنا عليه فعزل شرابه ثم دخلا فقال عمر : والله إني لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا فقال : يا ابن الخطاب وأنت بهذا لم ينهك الله تعالى أن تتجسس؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه ، وذكر بعضهم أن انزجار شربة الخمر ونحوهم إذا توقف على التسور عليهم جاز احتجاجا بفعل عمر رضي الله تعالى عنه السابق وفيه نظر ، وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يخالف ذلك.

أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي أيضا عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر رضي الله تعالى عنه ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقال عمر : وأخذ بيد عبد الرحمن أتدري بيت من هذا؟ هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف الآن شرب قال : أرى أن قد أتينا ما نهى الله تعالى عنه قال الله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) فقد تجسسنا فانصرف عمر رضي الله تعالى عنه عنهم وتركهم ، ولعل القصة إن صحت غير واحدة ، ومن التجسس على ما قال الأوزاعي الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون فهو حرام أيضا.

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت لو كان في أخي ما أقول قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.

والمراد بالذكر الذكر صريحا أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والإشارة ونحوهما إذا أدت مؤدى النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الإفهام ، وهي بالفعل كان تمشي مشية أعظم الأنواع كما قاله الغزالي ، والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به ، وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعا فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعا ليس بغيبة عنده ولا يحرم ، واحتج على ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وما ذكره لا يعول ، عليه والحديث ضعيف وقال أحمد منكر ، وقال البيهقي : ليس بشيء ولو صح فهو محمول على فاجر معلن بفجوره. والمراد بقولنا : غيبته غيبته عن ذلك الذكر سواء كان حاضرا في مجلس الذكر أو لا ، وفي الزواجر لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد ، وقد يقال شمول الغيبة للذكر بالحضور على نحو شمول سجود السهو لما كان عن ترك ما يسجد له عمدا (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى ، الاستفهام التقريري من حيث إنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاء ، وإسناد الفعل إلى ـ أحد ـ إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة ، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، وجعل المأكول أخا للآكل وميتا ، وتعقيب ذلك بقوله تعالى : (فَكَرِهْتُمُوهُ) حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها ، وفي المثل السائر كني عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله لأنها ذكر المثالب وتمزيق الاعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له ، وجعله ميتا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته ، ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها ، وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه وكأنه أولى مما في المثل ، والفاء في (فَكَرِهْتُمُوهُ)

٣٠٩

فصيحة في جواب شرط مقدر ويقدر معه قد أي إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته ، والجزائية باعتبار التبين ، والضمير المنصوب للأكل وقيل : للحم ، وقيل : للميت وليس بذاك ، وجوز كونه للاغتياب المفهوم مما قبل ، والمعنى فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل ، وعبر بالماضي للمبالغة ، وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج لتقدير قد ، وانتصاب (مَيْتاً) على الحال من اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافا لأبي حيان.

وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري وأبو حيوة «فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء ، ورواها الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) قيل عطف على محذوف كأنه قيل : امتثلوا ما قيل لكم واتقوا الله.

وقال الفراء التقدير ان صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا الله فهو عطف على النهي المقدر ، وقال أبو علي الفارسي. لما قيل لهم (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) إلخ كان الجواب لا متعينا فكأنهم قالوا : لا نحب فقيل لهم (فَكَرِهْتُمُوهُ) ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا الله فيكون عطفا على فاكرهوا المقدر ، وقيل : هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبر لفظا أمر معنى كما أشير إليه سابقا ولا يخفى الأولى من ذلك : وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمن اتقى واجتنب ما نهي عنه وتاب مما فرط منه ، وتواب أي مبالغة في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم.

أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا : ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخبار مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال : يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال : ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا فرجع رضي الله تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال: إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت.

وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال : كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما فقالا : إن هذا لنئوم فأيقظاه فقالا : ائت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام ويستأدمانك فقال : إنهما ائتدما فجاءا فقالا : يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثنايا كما فقالا : استغفر لنا يا رسول الله قال : مراه فليستغفر لكما وهذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما ان تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل : هذا والآية دالة على حرمة الغيبة. وقد نقل القرطبي وغيره الإجماع على أنها من الكبائر ، وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنها من الصغائر وهو عجيب منهما لكثرة ما يدل على أنها من الكبائر ، وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة أنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم. وتعقب بأن فشو المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلا عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة ، وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل. على أن الإصرار عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهو كبيرة بالإجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في

٣١٠

عظم الحرج السابق ، مع أن هذا الدليل لا يقاوم تلك الدلائل الكثيرة ، ولعل الأولى في الاستدلال على ذلك ما رواه أحمد. وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة قال : «بينما أنا أماشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو آخذ بيدي ورجل عن يساري فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير وبكى إلى أن قال : وما يعذبان إلا في الغيبة والبول» ولا يتم أيضا ، فقد قال ابن الأثير : المعنى وما يعذبان في أمر كان يكبر عليهما ويشق فعله لو أراداه لا أنه في نفسه غير كبير ، وكيف لا يكون كبيرا وهما يعذبان فيه ، فالحق أنها من الكبائر. نعم لا يبعد أن يكون منها ما هو من الصغائر كالغيبة التي لا يتأذى بها كثيرا نحو عيب الملبوس والدابة ، ومنها ما لا ينبغي أن يشك في أنه من أكبر الكبائر كغيبة الأولياء والعلماء بألفاظ الفسق والفجور ونحوها من الألفاظ الشديدة الإيذاء ، والأشبه أن يكون حكم السكوت عليها مع القدرة على دفعها حكمها ، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفا من الله تعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفا ليحله فيخرج عن مظلمته ، وقال الحسن : يكفيه الاستغفار عن الاستحلال ، واحتج بخبر «كفارة من اغتبته أن تستغفر له» ، وأفتى الخياطي بأنها إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والاستغفار ، وجزم ابن الصباغ بذلك وقال : نعم إذا كان تنقصه عند قوم رجع إليهم وأعلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة وتبعهما كثيرون منهم النووي ، واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره ، وقال الزركشي : هو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه ، وما يستدل به على لزوم التحليل محمول على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحو أثر الذنب بالكلية على الفور ، وما ذكر في غير الغائب والميت أما فيهما فينبغي أن يكثر لهما الاستغفار ، ولا اعتبار بتحليل الورثة على ما صرح به الخياطي وغيره ، وكذا الصبي والمجنون بناء على الصحيح من القول بحرمة غيبتهما.

قال في الخادم : الوجه أن يقال يبقى حق مطالبتهما إلى يوم القيامة أي إن تعذر الاستحلال والتحليل في الدنيا بأن مات الصبي صبيا والمجنون مجنونا ويسقط من حق الله تعالى بالندم ، وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة أم لا؟ وجهان ، والذي رجحه في الإذكار أنه لا بد من معرفتها لأن الإنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة ، وكلام الحليمي. وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن من سمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة ، ويندب لمن سئل التحليل أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل ، وكان جمع من السلف واقتدى بهم والدي عليه الرحمة والرضوان يمتنعون من التحليل مخافة التهاون بأمر الغيبة ، ويؤيد الأول خبر «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال : إني تصدقت بعرضي على الناس».

ومعناه لا أطلب مظلمة منهم ولا أخاصمهم لا أن الغيبة تصير حلالا لأن فيها حقا لله تعالى ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوبه ، وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال : هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل : الإيذاء ، وتنقيص خلق الله تعالى ، وتضييع الوقت بما لا يعني. والأولى تقتضي التحريم ، والثانية الكراهة ، والثالثة خلاف الأولى. وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله.

وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سمع يهوديا أو نصرانيا فله النار» ومعنى سمعه أسمعه ما يؤذيه ولا كلام بعد هذا في الحرمة. وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى وتكره على الثانية وخلاف الأولى على الثالثة ، وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم ؛ وأما ذكره ببدعته فليس مكروها.

وقال ابن المنذر في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير الغيبة : «ذكرك أخاك بما يكره» : فيه دليل على أن من ليس أخا لك من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل ومن أخرجته بدعته إلى غير دين الإسلام لا غيبة له ويجري نحوه في الآية ، والوجه تحريم غيبة الذمي كما تقرر وهو وإن لم يعلم من الآية ولا من الخبر المذكور معلوم بدليل آخر ولا معارضة بين ما ذكر

٣١١

وذلك الدليل كما لا يخفى ، وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب. الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه لا تخفيفه. الثاني الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته. الثالث الاستفتاء فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي : ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له أو ما طريق تحصيل حقي أو نحو ذلك ؛ والأفضل أن يبهمه.

الرابع تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية فتجوز إجماعا بل تحب ، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفي فإن كفى نحو لا يصلح لك فذاك وإن احتاج إلى ذكر عيب ذكره أو عيبين فكذلك وهكذا ولا يجوز الزيادة على ما يكفي ، ومن ذلك أن يعلم من ذي ولاية قادحا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره الخالي من ذلك أو على نصحه وحثه للاستقامة ، والخامس أن يتجاهر بفسقه كالمكاسين وشربه الخمر ظاهرا فيجوز ذكره بما تجاهروا فيه دون غيره إلا أن يكون له سبب آخر مما مر.

السادس للتعريف بنحو لقب كالأعور ، والأعمش فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره. نعم الأولى ذلك إن سهل ويقصد التعريف لا التنقيص ، وأكثر هذه الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مذكورة في محلها كالأحاديث الدالة على قبح الغيبة وعظم آثامها وأكثر الناس بها مولعون ويقولون : هي صابون القلوب وإن لها حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر وهي في الحقيقة كما قال ابن عباس وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم : الغيبة إدام كلاب الناس نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى.

وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) إلخ كما قال أبو حيان وفصله بقوله : جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن ثم نهى ثانيا عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علما بقوله سبحانه : (وَلا تَجَسَّسُوا) ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم فهذه أمور ثلاثة مترتبة ظن فعلم بالتجسس فاغتياب ، وقال ابن حجر عليه الرحمة : إنه تعالى ختم كلا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفا عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالأمر في (اجْتَنِبُوا) ختمت به في (وَاتَّقُوا اللهَ) إلى إلخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) إلخ أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالسخرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالبا انتهى فلا تغفل.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) من آدم وحواء عليهما‌السلام فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب ومن هذا قوله :

الناس في عالم التمثيل أكفاء

أبوهم آدم والأم حواء

وجوز أن يكون المراد هنا إنا خلقنا كل واحد منكم من أب وأم ، ويبعده عدم ظهور ترتب ذم التفاخر بالنسب عليه والكلام مساق له كما ينبئ عنه ما بعد ، وقيل : هو تقرير للاخوة المانعة عن الاغتياب وعدم ظهور الترتب عليه على حاله مع أن ملاءمة ما بعد له دون ملاءمته للوجه السابق لكن وجه تقريره للأخوة ظاهر.

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الشعوب جمع شعب بفتح الشين وسكون العين وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد ، وهو يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة بفتح العين وقد تكسر تجمع البطون ، والبطن تجمع

٣١٢

الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل ، فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة ؛ وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها ، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل النسب واللغة ، ونظم ذلك بعض الأدباء فقال :

قبيلة فوقها شعب وبعدهما

عمارة ثم بطن تلوه فخذ

وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته

ولا سداد لسهم ما له قذذ

وذكر بعضهم العشيرة بعد الفصيلة فقال :

اقصد الشعب فهو أكثر حي

عددا في الحساب ثم القبيلة

ثم يتلوهما العمارة ثم البطن

ثم الفخذ وبعد الفصيلة

ثم من بعدها العشيرة لكن

هي في جنب ما ذكرنا قليله

وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يذكر ما يخالفه ، وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل ، وأيد كون الشعوب في العجم ما في حديث مسروق أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية ؛ فإن الشعوب فيه فسرت بالعجم لكن قيل : وجهه على ما تقدم أن الشعب ما تشعب منه قبائل العرب والعجم فخص بأحدهما ، ويجوز أن يكون جمع الشعوبي وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلا على غيرهم كيهود ومجوس في جمع المجوسي واليهودي ، ومنهم أبو عبيدة وكان خارجيا وقد ألف كتابا في مثالب العرب ، وابن غرسية وله رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه علماء الأندلس برسائل عديدة.

وقيل : الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان ، وقال قتادة ومجاهد والضحاك : الشعب النسب إلا بعد والقبيلة الأقرب ، وقيل : الشعوب الموالي والقبائل العرب ، وقال أبو روق : الشعوب الذين ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم (لِتَعارَفُوا) علة للجعل أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب والتوارث لا لتفاخروا بالآباء والقبائل ، والحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر والسكوت في معرض البيان. وقرأ الأعمش «لتتعارفوا» بتاءين على الأصل ، ومجاهد. وابن كثير في رواية وابن محيصن بإدغام التاء في التاء ، وابن عباس وأبان عن عاصم «لتعرفوا» بكسر الراء مضارع عرف ، قال ابن جني : والمفعول محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه كقوله :

وما علم الإنسان إلا ليعلما

أي ليعلم ما علمه وما أعذب هذا الحذف وما أغربه لمن يعرف مذهبه.

واختير في المفعول المقدر قرابة بعضكم من بعض ، وقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف الحقيقي كأنه قيل : إن أكرمكم عند الله تعالى والأرفع منزلة لديه عزوجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى. وقرأ ابن عباس «أن» بفتح الهمزة على حذف لام التعليل كأنه قيل : لم لا تتفاخروا بالأنساب؟ فقيل : لأن أكرمكم عند الله تعالى أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلى فعليه بها.

وفي البحر أن ابن عباس قرأ «لتعرفوا وأن أكرمكم» بفتح الهمزة فاحتمل أن يكون «أن أكرمكم» إلخ معمولا لتعرفوا وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر وهو أجود من حيث المعنى ، وأما إن كانت لام كي فلا يظهر المعنى

٣١٣

إذ ليس جعلهم شعوبا وقبائل لأن يعرفوا أن أكرمهم عند الله تعالى أتقاهم فإن جعلت مفعولا لتعرفوا محذوفا أي لتعرفوا الحق لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ساغ في اللام ان تكون لام كي ا ه وهو كما ترى.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بكم وبأعمالكم (خَبِيرٌ) بباطن أحوالكم. روي أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على الكعبة فغضب الحارث بن هشام. وعتاب بن أسيد وقالا : أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة فنزلت.

وعن ابن عباس سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا ابن فلانة فوبخه النبي عليه الصلاة والسلام وقال : إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى ونزلت وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه وعن البيهقي في سننه عن الزهري قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا : يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية.

قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة وكان حجام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي رواية ابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال : أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ونزلت (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية في ذلك ، وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله عليه الصلاة والسلام فاشتراه رجل فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال : محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقال : هو لما به فجاءه وهو في ذمائه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت ، وفي القلب من صحة هذا شيء والله تعالى أعلم. وقد دلت على أنه لا ينبغي التفاخر بالأنساب وبذلك نطقت الأخبار. أخرج ابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان. وعبد بن حميد. والترمذي. وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وقال : الحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) إلى قوله تعالى : (خَبِيرٌ) ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، وأخرج البيهقي وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ألا هل بلغت؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : فليبلغ الشاهد الغائب ، وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند الله أتقاكم فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه» وأخرج أحمد وجماعة نحوه لكن ليس فيه «فمن أتاكم» إلخ.

وأخرج البزار عن حذيفة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان» وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله يوم القيامة أيها الناس إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان وإني اليوم أرفع نسبي واضع نسبكم ألا إن أوليائي المتقون» وأخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه نحوه مرفوعا.

وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والبغوي وابن قانع والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي ريحانة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكبرا فهو عاشرهم في النار» وأخرج

٣١٤

البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الناس أكرم؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا : نعم قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه ، ولا من جهة الفاعل لأنه هو الله تعالى الواحد ، فليس للنسب شرف يعول عليه ويكون مدارا للثواب عند الله عزوجل ، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى وبها تكمل النفس وتتفاضل الأشخاص ، وهذا لا ينافي كون العرب أشرف من العجم وتفاوت كل من العرب والعجم في الشرف ، فقد ذكروا أن الفرس أشرف من النبط ، وبنو إسرائيل أفضل من القبط. وأخرج مسلم. وغيره عن واثلة بن الأسقع قال : «قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» لأن ذلك ليس إلا باعتبار الخصال الحميدة ، فشرف العرب على العجم مثلا ليس إلا باعتبار أن الله تعالى امتازهم على من سواهم بفضائل جمة وخصال حميدة كما صحت به الأحاديث ، وقد جمع الكثير منها العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه مبلغ الأرب في فضائل العرب ، ولا نعني بذلك أن كل عربي ممتاز على كل عجمي بالخصال الحميدة بل إن المجموع ممتاز على المجموع ، ثم إن أشرف العرب نسبا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها لأنهم ينسبون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صرح به جمع من الفقهاء. وأخرج الطبراني عن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم» وفي رواية له عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «كل ابن أنثى كان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا عصبتهم وأنا أبوهم» ونوزع في صحة ذلك ، ورمز الجلال السيوطي للأول بأنه حسن ، وتعقب وليس الأمر موقوفا على ما ذكر لظهور دليله. وقد أخرج أحمد. والحاكم في المستدرك عن المسور بن مخرمة ولا كلام فيه. قال : «قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وإن الأنساب كلها تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري» وحديث بضعية فاطمة رضي الله تعالى عنها مخرج في صحيح البخاري أيضا ، قال الشريف السمهودي : ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا غاية الشرف لأولادها ، وعدم انقطاع نسبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء أيضا في حديث أخرجه ابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا بلفظ «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة الا نسبي وصهري» والذهبي وإن تعقبه بقوله فيه ابن وكيع لا يعتمد لكن استدرك ذلك بأنه ورد فيه مرسل حسن ، ويعلم مما ذكر ونحوه. كما قال المناوي. عظيم نفع الانتساب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعارضه ما في أخبار أخر من حثه عليه الصلاة والسلام لأهل بيته على خشية الله تعالى واتقائه سبحانه وأنه عليه الصلاة والسلام لا يغني عنهم من الله تعالى شيئا حرصا على إرشادهم وتحذيرا لهم من أن يتكلوا على النسب فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين ، وليجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب ، ورعاية لمقام التخويف خاطبهم عليه الصلاة والسلام بقوله : «لا أغني عنكم من الله شيئا» والمراد لا أغني عنكم شيئا بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله تعالى به من نحو شفاعة فيكم ومغفرة منه تعالى لكم ، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا بتمليك الله تعالى ، والله سبحانه يملكه نفع أمته والأقربون أولى بالمعروف.

فعلى هذا لا بأس بقوله الرجل : أنا من ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه التحدث بالنعمة أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية. وقد نقل المناوي عن ابن حجر أنه قال نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التفاخر بالأنساب موضعه مفاخرة تقتضي تكبرا

٣١٥

واحتقار مسلم ، وعلى ما ذكرناه أولا جاء قوله عليه الصلاة والسلام «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل» الحديث ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» إلى غير ذلك ، ومع شرف الانتساب إليه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لمن رزقه أن يجعله عاطلا عن التقوى ويدنسه بمتابعة الهوى ، فالحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن ، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وربما ينكر نسبه. وعليه قيل لشريف سيئ الأفعال :

قال النبي مقال صدق لم يزل

يحلو لدى الاسماع والأفواه

إن فاتكم أصل امرئ ففعاله

تنبئكم عن أصله المتناهي

وأراك تسفر عن فعال لم تزل

بين الأنام عديمة الأشباه

وتقول إني من سلالة أحمد

أفأنت تصدق أم رسول الله

ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل ، كما يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير أنه كان فاسقا ظاهر الفسق وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل فأكب الناس على تعظيمه فاتفق أن خرج يوما من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون به فلقيه الشريف سكران فكان الناس يطردونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال : يا أسود الحوافر والمشافر يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذل وأنت تجل وأهان وأنت تعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده ومعفو عنه وإن خرج عن حده ، ولكن أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت ؛ وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيك ، ولهذا ونحوه قيل :

ولا ينفع الأصل من هاشم

إذا كانت النفس من باهله

أي لا ينفع في الامتياز على ذوي الخصال السنية إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية ردية ومن الكمالات عرية ، فإن باهلة في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها ، وقيل : بنو باهلة وهم قوم معروفون بالخساسة ، قيل : كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دسوماتها فاستنقصتهم العرب جدا حتى قيل لعربي أترضى أن تكون باهليا وتدخل الجنة فقال : لا إلا بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي ، وقيل :

إذا قيل للكلب يا باهلي

عوى الكلب من شؤم هذا النسب

ولم يجعلهم الفقهاء لذلك أكفاء لغيرهم من العرب لكن لا يخلو ذلك من نظر ، فإن النص أعني «إن العرب بعضهم أكفاء لبعض» لم يفصل مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم وقد أطلق ؛ وليس كل باهلي كما يقولون بل فيهم الأجواد ، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق الكل اللهم إلا أن يقال : مدار الكفاءة وعدمها على العار وعدمه في المعروف بين الناس. فمتى عدوا الباهلية عارا وشاع استنقاصها فيما بينهم وأبتها نفوسهم اعتبر ذلك وإن لم يكن عن أصل أصيل ، وهذا نظير ما ذكروا فيما إذا اشترى الشخص دارا فتبين أن الناس يستشئمونها أنه بالخيار مع قول الجل من العلماء بنفي الشؤم المتعارف بين الناس اعتبارا لكون ذلك مما ينقص الثمن بين الناس وإن لم يكن له أصل فتأمله ، وبالجملة شرف النسب مما اعتبر جاهلية وإسلاما ، أما جاهلية فأظهر من

٣١٦

أن يبرهن عليه ، وأما إسلاما فيدل عليه اعتبار الكفاءة في النسب في باب النكاح على الوجه المفصل في كتب الفقه ، ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الإمام مالك والثوري والكرخي من الحنفية ، وبعض ما تقدم من الأخبار يؤيد كلامهم لكن أجيب عنه في محله ، وكذا يدل عليه ما ذكروه في بيان شرائط الإمامة العظمى من أنه يشترطها فيها كون الإمام قرشيا ، وقد أجمعوا على ذلك كما قال الماوردي ، ولا اعتبار بضرار. وأبي بكر الباقلاني حيث شذا فجوزاها في جميع الناس ، وقال الشافعية : فإن لم يوجد قرشي أي مستجمع لشروط الإمامة اعتبر كون الإمام كنانيا من ولد كنانة بن خزيمة ، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه‌السلام ، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل عليه‌السلام إلى غير ذلك ، ومع هذا كله فالتقوى التقوى فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل ، ويكفي في هذا الفصل قوله تعالى لنوح عليه‌السلام في ابنه كنعان : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦] وقوله عليه الصلاة والسلام : «سلمان منا أهل البيت» فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي الله تعالى ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته ليكون قد زاد على الزبد شهدا وعلق على جيد الحسناء عقدا ؛ ولا يكتفى بمجرد الانتساب إلى جدود سلفوا ليقال له : نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا ، وقد ابتلى كثير من الناس بذلك فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عري كالإبرة من كل كمال. ويقول : كان أبي كذا وكذا وذاك وصف أبيه فافتخاره به نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه ، ومن هنا قيل :

وأعجب شيء إلى عاقل

أناس عن الفضل مستأخره

إذا سئلوا ما لهم من علا

أشاروا إلى أعظم ناخرة

وقال الفاضل السري عبد الباقي أفندي العمري :

أقول لمن غدا في كل وقت

يباهينا بأسلاف عظام

أتقنع بالعظام وأنت تدري

بأن الكلب يقنع بالعظام

وما ألطف قوله :

لم يجدك الحسب العالي بغير تقى

مولاك شيئا فحاذر واتق الله

وابغ الكرامة في نيل الفخار به

فأكرم الناس عند الله أتقاها

وأكثر ما رأينا ذلك الافتخار البارد عند أولاد مشايخ الزوايا الصوفية فإنهم ارتكبوا كل رذيلة وتعروا عن كل فضيلة ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البرية واحتقروا أناسا فاقوهم حسبا ونسبا وشرفوهم أما وأبا وهذا هو الضلال البعيد والحمق الذي ليس عليه مزيد ، ولو لا خشية السأم لأطلقنا في هذا الميدان عنان كميت القلم على أن فيما ذكرنا كفاية لمن أخذت بيده العناية والله تعالى أعلم.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام وقلوبهم دغلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ، ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون بذكر ذلك الصدقة ويمنون به على النبي عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هم مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا : آمنا فاستحقينا الكرامة فرد الله تعالى عليهم ، وأيا ما كان فليس المراد بالأعراب العموم كما قد صرح به قتادة. وغيره ، والحلق الفعل علامة التأنيث لشيوع اعتبار التأنيث في الجموع حتى قيل :

٣١٧

لا تبالي بجمعهم

كل جمع مؤنث

والنكتة في اعتباره هاهنا الإشارة على قلة عقولهم على عكس ما روعي في قوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ) [يوسف : ٣٠].

(قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) إكذاب لهم بدعوى الإيمان إذ هو تصديق مع الثقة وطمأنينة القلب ولم يحصل لهم وإلا لما منوا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وهو ضد الحرب وما كان من هؤلاء مشعر به ، وكان الظاهر لم تؤمنوا ولكن أسلمتم أو لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا لتحصل المطابقة لكن عدل عن الظاهر اكتفاء بحصولها من حيث المعنى مع إدماج فوائد زوائد ، بيان ذلك أن الغرض المسوق له الكلام توبيخ هؤلاء في منّهم بإيمانهم بأنهم خلوا عنه أولا وبأنهم الممتنون إن صدقوا ثانيا ، فالأصل في الإرشاد إلى جوابهم قل كذبتم ولكن أخرج إلى ما هو عليه المنزل ليفيد عدم المكافحة بنسبة الكذب ، وفيه حمل له عليه الصلاة والسلام على الأدب في شأن الكل ليصير ملكة لأتباعه وأن لا يلبسوا جلد النمر لمن يخاطبهم به وتلخيص ما كذبوا فيه.

ومن الدليل على أنه الأصل قوله تعالى في الآية التالية : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) تعريضا بأن الكذب منحصر فيهم ، وأوثر على لا تقولوا آمنا لاستهجان ذلك لا سيما من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث للدعوة إلى الإيمان ، على أن إفادة (لَمْ تُؤْمِنُوا) لمعنى كذبتم أظهر من إفادة لا تقولوا آمنا كما لا يخفى ، ثم قوبل بقوله سبحانه : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) كأنه قيل : قل لم تؤمنوا فلا تكذبوا ولكن قولوا أسلمنا لتفوزوا بالصدق إن فاتكم الإيمان والتصديق ولو قيل : ولكن أسلمتم لم يؤد هذا المعنى ، وفيه تلويح بأن إسلامهم وهو خلو عن التصديق غير معتد به ولو قيل ولكن أسلمتم لكان ذلك موهما أن ذلك معتد به والمطلوب كماله بالإيمان ولا يحتاج هذا إلى أن يقال : القول في المنزل مستعمل في معنى الزعم ، وقيل : في الآية احتباك. والأصل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا فحذف من كل من الجملتين ما أثبت في الأخرى والأول أبلغ وألطف (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) حال من ضمير (قُولُوا) كأنه قيل : قولوا أسلمنا ما دمتم على هذه الصفة ، وفيه إشارة إلى توقع دخول الإيمان في قلوبهم بعد فليس هذا النفي مكررا مع قوله تعالى : (لَمْ تُؤْمِنُوا) وقيل : الجملة مستأنفة ولا تكرار أيضا لأن لما تفيد النفي الماضي المستمر إلى زمن الحال بالإجماع وتفيد أن منفيها متوقع خلافا لأبي حيان و ـ لم ـ لا تفيد شيئا من ذلك بلا خلاف فلا حاجة في دفع التكرار إلى القول بالحالية وجعل الجملة توقيتا للقول المأمور به (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالإخلاص وترك النفاق (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ) لا ينقصكم (شَيْئاً) من أجورها أو شيئا من النقص يقال لاته يليته ليتا إذا نقصه ، ومنه ما حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو «لا يألتكم» من ألت يألت بضم اللام وكسرها ألتا وهي لغة أسد وغطفان ، قال الحطيئة :

أبلغ سراة بني سعد مغلغلة

جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا

والأولى لغة الحجاز والفعل عليها أجوف وعلى الثانية مهموز الفاء ، وحكى أبو عبيدة ألات يليت (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فرط من المطيعين (رَحِيمٌ) بالتفضل عليهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكوا من ارتاب مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة وجعل عدم الارتياب متراخيا عن الإيمان مع أنه لا ينفك عنه لإفادة نفي الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل : آمنوا ثم لم يعترهم ما يعتري الضعفاء بعد حين ، وهذا لا يدل على أنهم كانوا مرتابين أولا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم يحدث لهم ارتياب ثانيا ، والحاصل آمنوا ثم لم يحدث لهم ريبة فالتراخي زماني ، وقال بعض الأجلة : عطف عدم الارتياب على الإيمان من باب (مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨] تنبيها على أنه الأصل في الإيمان فكأنه شيء آخر أعلى منه كائن فيه ، وأوثر (ثُمَ) على الواو

٣١٨

للدلالة على أن هذا الأصل حديثه وقديمه سواء في القوة والثبات فهو أبدا على طراوته لا أنه شيء واحد مستمر فيكون كالشيء الخلق بل هو متجدد طري حينا بعد حين ، ولا بأس بأن يجعل ترشيحا لما دل عليه معنى العطف لما جعل مغايرا نبه على أنه ليس تغاير ما بين الاستمرار والحدوث بل تغاير شيئين مختلفين ليدل على المعنى المذكور وأنهم في زيادة اليقين آنا فآنا ، أما عند من يقول فيه بالقوة والضعف فظاهر ، وأما من لم يقل به فلانضمام العيان إلى البيان ، والفرق بين الاستمرارين أن الاستمرار على الأول استمرار المجموع نحو قوله تعالى : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠ ، الأحقاف : ١٣] أي استمر بذلك إيمانهم مع عدم الارتياب ، وعلى الثاني الاستمرار معتبر في الجزء الأخير ، وهذا الوجه أوجه ، وأيا ما كان ففي الكلام تعريض بأولئك الأعراب (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) في طاعته عزوجل على تكثير فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا كالحج والجهاد ، وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ويجوز بأن يقال : قدم الأموال لحرص الكثير عليها حتى أنهم يهلكون أنفسهم بسببها مع أنه أوفق نظرا إلى التعريض بأولئك حيث إنهم لم يكفهم أنهم لم يجاهدوا بأموالهم حتى جاءوا أو أظهروا الإسلام حبا للمغانم وعرض الدنيا ومعنى (جاهَدُوا) بذلوا الجهد أو مفعوله مقدر أي العدو أو النفس والهوى (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة (هُمُ الصَّادِقُونَ) أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا أولئك الأعراب. روي أنه لما نزلت الآية جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي أتخبرونه سبحانه وتعالى بذلك بقولكم آمنا. فتعلمون. من علمت به فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر ، وقيل : إنه تعدى به لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور فيفيد مبالغة من حيث إنه جار مجرى المحسوس وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) حال من مفعول (تُعَلِّمُونَ) وفيه من تجهيلهم ما لا يخفى ، وقوله سبحانه : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعتدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته ، وقال الراغب : هي النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وثقلها عظمها أو المشقة في تحملها ، و (أَنْ أَسْلَمُوا) في موضع المفعول. ليمنون. لتضمينه معنى الاعتداد أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر أي يمنون عليك بإسلامهم ، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) فهو إما على معنى لا تعتدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم ، وجوز أبو حيان أن يكون (أَنْ أَسْلَمُوا) مفعولا من أجله أي يتفضلون عليك لأجل إسلامهم (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي ما زعمتم في قولكم آمنا فلا ينافي هذا قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أو الهداية مطلق الدلالة فلا يلزم إيمانهم وينافي نفي الإيمان السابق.

وقرأ عبد الله. وزيد بن علي «إذ هداكم» بإذ التعليلية ، وقرئ «إن هداكم» بإن الشرطية (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في ادعاء الإيمان فهو متعلق الصدق لا الهداية فلا تغفل ؛ وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم ، ولا يخفى ما في سياق الآية من اللطف والرشاقة ، وذلك أن الكائن من أولئك الأعراب قد سماه الله تعالى إسلاما إظهارا لكذبهم في قولهم : آمنا أي أحدثنا الإيمان في معرض الامتنان ونفى سبحانه أن يكون كما زعموا إيمانا فلما منوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان منهم قال سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام : يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به من حديثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام فقل لهم : لا تعتدوا علي إسلامكم أي حديثكم المسمى

٣١٩

إسلاما عندي لا إيمانا ، ثم قال تعالى : بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم ، وفي قوله تعالى : (إِسْلامَكُمْ) بالإضافة ما يدل على أن ذلك غير معتد به وأنه شيء يليق بأمثالهم فأنى يخلق بالمنة ، وللتنبيه على أن المراد بالإيمان الإيمان المعتد به لم يضفه عزوجل ، ونبه سبحانه بقوله جل وعلا : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) على أن ذلك كذب منهم ، واللطف في تقديم التكذيب ثم الجواب عن المن مع رعاية النكت في كل من ذلك ، وتمام الحسن في التذييل بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما غاب فيهما (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه سبحانه ما في ضمائركم ، وذلك ليدل على كذبهم وعلى اطلاعه عزوجل خواص عباده من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه رضي الله تعالى عنهم. وقرأ ابن كثير. وابان ، عن عاصم «يعملون» بياء الغيبة والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في بعض الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) إلخ إشارة إلى لزوم العمل بالشرع ورعاية الأدب وترك مقتضيات الطبع ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبإ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً) من القلوب وصفاتها (بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا) صباح يوم القيامة (عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) إلخ يشير إلى رسول الإلهام الرباني في الأنفس بلهم فجورها وتقواها ، ويشير قوله تعالى : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) إلى أن النفس إذا ظلمت القلب باستيلاء شهواتها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة عفي عنها لأنها هي المطية إلى باب الله عزوجل (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إشارة إلى رعاية حق الاخوة الدينية ومنشأ نطفها صلب النبوة وحقيقتها نور الله تعالى فإصلاح ذات بينهم برفع حجب أستار البشرية عن وجوه القلوب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب فيصيروا كنفس واحدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) يشير إلى ترك الإعجاب بالنفس والنظر إلى أحد بعين الاحتقار فإن الظاهر لا يعبأ به والباطن لا يطلع عليه فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية لله الملك المتعال ، وفيه إرشاد إلى كيفية مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت الإشارة إليه ، هذا ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه.

٣٢٠