روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وفي القاموس التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط والفعل كمنع وسمع أو إذا خاطبت قلت : تعست كمنع وإذا حكيت قلت : تعس كسمع ، ويقال : تعسه الله تعالى وأتعسه ورجل تاعس وتعس ، وانتصابه على المصدر بفعل من لفظه يجب إضماره لأنه للدعاء كسقيا ورعيا فيجري مجرى الأمثال إذا قصد به ذلك ، والجار والمجرور بعده متعلق بمقدر للتبيين عند كثير أي أعني له مثلا فنحو تعسا له جملتان. وذهب الكوفيون إلى أنه كلام واحد ، ولابن هشام كلام في هذا الجار مذكور في بحث لام التبيين فلينظر هناك.

واختلفت العبارات في تفسير ما في الآية الكريمة ، فقال ابن عباس : أي بعدا لهم. وابن جريج. والسدي أي حزنا لهم ، والحسن أي شتما لهم ، وابن زيد أي شقاء لهم ، والضحاك أي رغما لهم ، وحكى النقاش تفسيره بقبحا لهم ، وقال غير واحد : أي عثورا وانحطاطا لهم ، وما ألطف ذكر ذلك في حقهم بعد ذكر تثبيت الأقدام في حق المؤمنين ، وفي رواية عن ابن عباس يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار ، وأكثر الأقوال ترجع إلى الدعاء عليهم بالهلاك.

وجوز الزمخشري في إعرابه وجهين : الأول كونه مفعولا مطلقا لفعل محذوف كما تقدم. والثاني مفعولا به لمحذوف أي فقضى تعسا لهم ، وقدر على الأول القول أي فقال : تعسا لهم ، والذي دعاه لذلك على ما قيل جعل (الَّذِينَ) مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبرا له وهي لا نشاء الدعاء. والإنشاء لا يقع خبرا بدون تأويل ، فإما أن يقدر معها قول أو تجعل خبرا بتقدير قضى ، وجعل قوله تعالى : (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) عطفا على ما قدر.

وفي الكشف المراد من قال : تعسا لهم أهلكهم الله لا أن ثم دعاء وقولا ، وذلك لأنه لا يدعي على شخص إلا وهو مستحق له فإذا أخبر تعالى أنه يدعو عليه دل على تحقق الهلاك لا سيما وظاهر اللفظ أن الدعاء منه عزوجل ، وهذا مجاز على مجاز أعني أن القول مجاز وكذلك الدعاء بالتعس ، ولم يجعل العطف على (تعسا) لأنه دعاء ، و (أَضَلَ) إخبار ، ولو جعل دعاء أيضا عطفا على (تعسا) على التجوز المذكور لكان له وجه انتهى. وأنت تعلم أن اعتبار ما اعتبره الزمخشري ليس لأجل أمر العطف فقط بل لأجل أمر الخبرية أيضا ، فإن قيل بصحة الأخبار بالجملة الإنشائية من غير تأويل استغنى عما قاله بالكلية ، ودخلت الفاء في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط.

وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المفعولية لفعل مقدر يفسره الناصب ـ لتعسا ـ أي أتعس الله الذين كفروا أو تعس الله الذين كفروا تعسا لما سمعت عن القاموس وقد حكي عن أبي عبيدة ، والفاء زائدة في الكلام كما في قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣] ويزيدها العرب في مثل ذلك على توهم الشرط ، وقيل : يقدر الفعل مضارعا معطوفا على قوله تعالى : (يُثَبِّتْ) أي ويتعس الذين إلخ. والفاء للعطف فالمراد اتعاس بعد اتعاس ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠] أو لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال ، وفيه مقال.

(ذلِكَ) أي ما ذكر من التعس والإضلال (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء ، وهذا تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال إذ قد علم من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ سببية مطلق الكفر الداخل فيه الكفر بالقرآن دخولا أوليا لذلك (فَأَحْبَطَ) لأجل ذلك (أَعْمالَهُمْ) التي لو كانوا عملوها التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لأثيبوا عليها ، وذكر الإحباط مع ذكر الإضلال المراد هو منه إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا فيها (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم ، وقوله تعالى : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استئناف بياني كأنه قيل : كيف كانت

٢٠١

عاقبتهم؟ فقيل : أهلك ما يختص بهم من النفس والأهل والمال يقال : دمره أهلكه دمر عليه أهلك ما يختص به فدمر عليه أبلغ من دمره ، وجاءت المبالغة من حذف المفعول وجعله نسيا منسيا والإتيان بكلمة الاستعلاء وهي لتضمن التدمير معنى الإيقاع أو الهجوم أو نحوه (وَلِلْكافِرِينَ) أي لهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم (أَمْثالُها) أمثال عاقبتهم أو عقوبتهم لدلالة ما سبق عليها لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله ، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة ، وقيل : يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين وقد قتلوا وأسروا بأيدي من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم ، والقتل بيد المثل أشد من الهلاك بسبب عام ، وقيل : المراد بالكافرين المتقدمون بطريق وضع الظاهر موضع الضمير كأنه قيل : دمر الله تعالى عليهم في الدنيا ولهم الآخرة أمثالها (ذلِكَ) إشارة إلى ثبوت أمثال عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء ، وقيل : إشارة إلى النصر وهو كما ترى (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي ناصرهم على أعدائهم ، وقرئ «ولي الذين آمنوا» (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب ، ولا يناقض هذا قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [يونس : ٣٠] لأن المولى هناك بمعنى المالك فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الأخروية (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياما قلائل (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) الكاف في موضع نصب إما على الحال من ضمير المصدر كما يقول سيبويه أي يأكلونه أي الأكل مشبها أكل الأنعام ، وإما على أنه نعت لمصدر محذوف كما يقول أكثر المعربين أي أكلا مثل أكل الأنعام ، والمعنى أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر كما تقول للجاهل تعيش كما تعيش البهيمة لا تريد التشبيه في مطلق العيش ولكن في خواصه ولوازمه ، وحاصله أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم ، وقوله تعالى : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي موضع إقامة لهم ، حال مقدر من واو (يَأْكُلُونَ).

وجوز أن يكون استئنافا وكان قوله تعالى : (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ) في مقابلة قوله سبحانه : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لما فيه من الإيماء إلى أنهم عرفوا أن نعيم الدنيا خيال باطل وظل زائل ، فتركوا الشهوات وتفرغوا للصالحات ، فكان عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم وهؤلاء غفلوا عن ذلك فرتعوا في دمنهم كالبهائم حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من درك النيران ، وهذا ما ذكره العلامة الطيبي في بيان التقابل بين الآيتين ، وقال بعض الأجلة : في الكلام احتباك وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولا دليلا على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانيا وذكر التمتع والمثوى ثانيا دليلا على حذف التقلل والمأوى أولا والأول أحسن وأدق ، وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحو هذا المسلك في قوله تعالى : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) وخولف بين الجملتين فعلية واسمية للإيذان بسبق الرحمة والإعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الآن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون.

(وَكَأَيِّنْ) بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ ، وقوله تعالى : (مِنْ قَرْيَةٍ) تمييز لها ، وقوله سبحانه : (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) صفة لقرية كما أن قوله عزوجل : (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) صفة لقريتك ، وقد حذف عنهما المضاف وأجري أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى : (أَهْلَكْناهُمْ) أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب ، وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازا ، وإسناد الإخراج إلى أهل قريته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما عاملوه

٢٠٢

فكانوا بذلك سببا لإخراجه حين أذن الله تعالى عليه الصلاة والسلام بالهجرة منها ، ونظير ذلك أقدمني بلدك حق لي عليك. وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة يحتمل أوجها ثلاثة ، مجازا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملا في معناه الذي وضع له وإن كان موهوما. ومجازا في الطرف إذا كان مستعملا في معنى الحمل على القدوم. واستعارة بالكناية إن كان الحق مستعملا في المقدم ، والشيخ يقول في مثل ذلك : إن الفعل المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام ، وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيا للقدوم ، وارتضاه السالكوتي في حواشي شرح مختصر التلخيص وذب عنه القال والقيل ، وتمام الكلام هناك ، والكلام في الآية على طرز ذاك ، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها ، وعلى طريقته قول النابغة :

كليب لعمري كان أكثر ناصرا

وأيسر جرما منك ضرج بالدم

وقوله تعالى : (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم ، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وهو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضية ، والآية تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولو لا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك» فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) إلخ ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال ، والهمزة لإنكار استوائهما أو لإنكار كون الأمر ليس كما ذكر ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرئ بدونها ، و (من) عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى : (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) عبارة عن أضدادهم من المشركين.

وأخرج جماعة عن ابن عباس أن من (كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) هم المشركون ، وروي عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري. وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه ، قيل : ومثله كون (من) الأول عبارة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن المؤمنين ، والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيئ من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح (وَاتَّبَعُوا) في ذلك العمل السيئ ، وقيل : بسبب ذلك التزيين (أَهْواءَهُمْ) الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلا عن حجة تدلك عليها. وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى (من) كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً

٢٠٣

حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ)(١٩)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) إلى آخره استئناف مسوق لشرح إيذانا بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات وترك السيئات ، والمثل الوصف العجيب الشأن وهو مبتدأ باتفاق المعربين ، واختلف في خبره فقيل محذوف فقال النضر بن شميل : تقديره ما تسمعون ، وقوله عزوجل : (فِيها أَنْهارٌ) إلى آخره مفسر له ، وقال سيبويه : تقديره فيما يتلى عليكم أو فيما قصصنا عليك ويقدر مقدما و (فِيها أَنْهارٌ) إلخ بيان لذلك المثل ، وقدره ابن عطية ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف وليس بذاك ، ولعل الأنسب بصدر النظم الكريم تقدير النضر ، وقيل : هو مذكور فقيل هو قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ) إلخ على معنى مثل الجنة وصفتها مضمون هذا الكلام ولا يحتاج مثل هذا الخير إلى رابط.

وقيل هذه الجملة هي الخبر إلا أن لفظ (مَثَلُ) زائد زيادة اسم في قول من قال :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

فالمبتدأ في الحقيقة هو المضاف إليه فكأنه قيل : الجنة فيها أنهار إلخ وليس بشيء ، وقيل : الخبر قوله تعالى الآتي : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام فيه. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله والسلمي «أمثال الجنة» أي صفاتها ، قال ابن جني : وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة لما في مثل من معنى المصدرية ولذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال وبامرأة مثل رجل ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا أنه قرئ «مثال الجنة» ومثال الشيء في الأصل نظيره الذي يقابل به.

(مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغير الطعم والريح لطول مكث ونحوه ، وماضيه أسن بالفتح من باب ضرب ونصر وبالكسر من باب علم حكى ذلك الخفاجي عن أهل اللغة. وفي البحر أسن الماء تغير ريحه يأسن ويأسن ذكره ثعلب في الفصيح ، والمصدر أسون ، وأسن بكسر السين يأسن بفتحها لغة أسنا قاله اليزيدي ، وأسن الرجل بالكسر لا غير إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة منها فغشي عليه أو دار رأسه ومنه قول الشاعر :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

يميد في الريح ميد المائح الأسن

وقرأ ابن كثير. وأهل مكة «أسن» على وزن حذر فهو صفة مشبهة أو صيغة مبالغة ، وقرأ «يسن» بالياء قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمزة (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حاذرا كألبان الدنيا وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لذيذة لهم ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا فإنها لا لذة في نفس شربها وفيها من المكاره والغوائل ما فيها وهي صفة مشبهة مؤنث لذ وصفت بها الخمر لأنها مؤنثة وقد تذكر أو مصدر نعت به بتقدير مضاف أو بجعلها عين اللذة مبالغة على ما هو المعروف في أمثال ذلك ؛ وقرئت بالرفع على أنها صفة (أَنْهارٌ) وبالنصب على أنها مفعول له أي كائنة لأجل اللذة لا لشيء آخر من الصداع وسائر آفات خمور الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) مما يخالفه فلا يخالطه الشمع

٢٠٤

وفضلات النحل وغيرها ، ووصفه بمصفى لأنه الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث كما نص عليه أبو حيان. وغيره ، وهذا على ما قيل تمثيل لما يجري مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها.

وبدئ بالماء لأنه في الدنيا مما لا يستغنى عنه ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر بالرتبة ، وجاء عن ابن عباس أن لبن تلك الأنهار لم يحلب ، وقال سعيد بن جبير : إنه لم يخرج من بين فرث ودم وإن خمرها لم تدسها الرجال بأرجلها وإن عسلها لم يخرج من بطون النحل. وأخرج ابن جرير عن سعد قال : سألت أبا إسحاق عن قوله تعالى : (مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) فقال : سألت عنه الحارث فحدثني أن ذلك الماء تسنيم وقال : بلغني أنه لا تمسه يد وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل الفم.

وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن الكلبي أن نهر دجلة نهر الخمر في الجنة وأن عليه إبراهيم عليه‌السلام ونهر جيحون نهر الماء فيها ويقال له نهر الرب ونهر الفرات نهر اللبن وأنه لذرية المؤمنين ونهر النيل نهر العسل.

وأخرج الحرث بن أبي أسامة في مسنده. والبيهقي عن كعب قال : نهر النيل نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأنت تعلم أن المذكور في الآية لكل أنهار بالجمع والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار ونحوها ، ثم إنها إن صحت لا يبعد تأويلها وإن كانت القدرة الإلهية لا يتعاصاها شيء (وَلَهُمْ فِيها) مع ما ذكر من فنون الأنهار (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي أنواع من كل الثمرات فالجار والمجرور صفة مبتدأ مقدر وقدره بعضهم زوجان وكأنه انتزعه من قوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢] وقيل : (مِنْ) زائدة أي ولهم فيها كل الثمرات (وَمَغْفِرَةٌ) مبتدأ خبره محذوف والجملة عطف على الجملة السابقة أي ولهم مغفرة ، وجوز أن يكون عطفا على المبتدأ قبل بدون قيد فيها لأن المغفرة قبل دخول الجنة أو بالقيد والكلام على حذف مضاف أي ونعيم مغفرة أو جعل المغفرة عبارة عن أثرها وهو النعيم أو مجازا عن رضوان الله عزوجل ، وقد يقال : المراد بالمغفرة هنا ستر ذنوبهم وعدم ذكرها لهم لئلا يستحيوا فتتنغص لذتهم والمغفرة السابقة ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها وحينئذ العطف على المبتدأ من غير ارتكاب شيء مما ذكر ، وقد رأيت نحو هذا بعد كتابته للطبرسي مقتصرا عليه ولعله أولى مما قالوه ، وتنوين (مَغْفِرَةٌ) للتعظيم أي مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها ، وقوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف صفة لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من ربهم ، وقوله عزوجل : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) خبر لمبتدإ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى: (وَالنَّارُ مَثْوىً) لهم ، وجوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه : (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقرير الإنكار المساواة وفيه بعد. وذهب جار الله إلى أنه خبر (مَثَلُ الْجَنَّةِ) وأن ذاك مرتب على الإنكار السابق أعني قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ) إلخ ، والمعنى أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار فالمضافان محذوفان الجزاء بقرينة مقابلة الجنة ولفظ المثل بقرينة تقدمه ومثله كثير ، وفائدة التعرية عن حرف الإنكار أن من اشتبه عليه الأول أعني حال المتمسك بالبينة وحال التابع لهواه فالثاني مثله عنده وإذ ذاك لا يستحق الخطاب ، ونظير ذلك قول حضرمي بن عامر :

أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا

فإنه كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعريه من حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم من قال له :

٢٠٥

أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله وذلك من التسليم الذي يقل تحته كل إنكار ، وجعل قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ) كالتكرير للصلة أي صلة بعد صلة يتضمن تفصيلها لأنه كالتفصيل للموعود ، ولهذا لم يتخلل العاطفة بينهما ، وجوز أن يكون في موضع الحال على أن الظرف في موضع ذلك و (أَنْهارٌ) فاعله لا على أنه مبتدأ والظرف خبر مقدم والجملة الاسمية حال لعدم الواو فيها ، وقد صرحوا بأن الاكتفاء فيها بالضمير غير فصيح ، واعتبارها فعلية بتقدير متعلق الظرف استقر لا يخفى حاله ، وقيل : في الحال ضعف من حيث المعنى لمجيئه مجيء الفضلات وهي أم الإنكار ، وأيضا هو حال من الجنة لا من ضميرها في الصلة وفي العامل تكلف ، ثم الحال غير مقيدة وجعلها مؤكدة وقد علم كونها كذلك من إخباره تعالى فيه أيضا تكلف ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف بياني ، قال في الكشف : وهو الوجه ، والتقدير هي فيها أنهار وكأنه قيل : أنى يكون صفة الجنة وهي كذا وكذا كصفة النار الاستئناف هاهنا بمنزلة قولك : وهي كذا وكذا اعتراضا لما في لفظ المثل من الأشعار بالوصف العجيب ، وليس خبر الجملة السابقة وهو (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) مورد السؤال ليعترض بوقوع الاستئناف قبل مضيه. وأورد أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ لأن (فِيها أَنْهارٌ) جملة برأسها ، والجواب أن تقدير مثلها فيها أنهار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا ثم حذف ولهذا قال في السؤال : كأن قائلا قال : وما مثلها؟ ويجري ما قرر في قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه أمثال بالجمع فيقال : التقدير أمثال الجنة كأمثال جزاء من هو خالد في النار ، ويقدر المضاف الأول جمعا للمطابقة ، ولعمري لقد أبعد جار الله المغزى ، وقد استحسن ما ذكره كثير من المحققين قال صاحب الكشف بعد تقرير جعل (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) خبر لمثل الجنة : هذا هو الوجه اللائح المناسب المساق.

وقال ابن المنير : في الانتصاف بعد نقله كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها لا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفا ليتعادل. والتقدير مثل ساكن الجنة كمن هو خالد في النار ، ومن هذا النمط قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) [التوبة : ١٩] إلخ ، وما قدرناه لتحصيل التعادل أولى وإن كان فيه كثرة حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك ، والضمير المفرد. أعني «هو». راجع إلى «من» لفظها كما إن ضمير الجمع في قوله سبحانه : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) راجع إليها باعتبار معناها ، والمراد وسقوا ماء حارا مكان تلك الأشربة وفيه تهكم بهم (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) من فرط الحرارة.

روي أنه إذا أدني منهم شوى وجوههم وامتازت فروة رءوسهم فإذا شربوه قطع أمعاءهم ، وهي جمع معى بالفتح والكسر ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ويقال له عفاج وهو مذكر وقد يؤنث (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) هم المنافقون ، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ كما أن جمعه بعد باعتبار المعنى ، قال ابن جريج : كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي لأولي العلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : الواعون لكلامه عليه الصلاة والسلام الراعون له حق رعايته من الصحابة رضي الله تعالى عنهم (ما ذا قالَ آنِفاً) أي ما الذي قال قبيل هذا الوقت ومقصودهم من ذلك الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام ، وجوز أن يكون مرادهم حقيقة الاستعلام إذا لم يلقوا له آذانهم تهاونا به ولذلك ذموا والأول أولى ، قيل : ذلك لابن مسعود ، وعن ابن عباس أنا منهم وقد سميت فيمن سئل وأراد رضي الله تعالى عنه أنه من الذين أوتوا العلم بنص القرآن. وما أحسن ما عبر عن ذلك ، و (آنِفاً) اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له فعل ثلاثي بل استأنف وائتنف ، وذكر الزجاج أنه من استأنفت الشيء إذا ابتدأته وكان أصل معنى هذا أخذت أنفه أي مبدأه ، وأصل الأنف الجارحة المعروفة ثم يسمى به طرف

٢٠٦

الشيء ومقدمه وأشرفه ، وذكر غير واحد أن آنفا من ذلك قالوا : إنه اسم للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها من الأنف بمعنى المتقدم وقد استعير من الجارحة لتقدمها على الوقت الحاضر ، وقيل : هو بمعنى زمان الحال ، وهو على ما ذهب إليه الزمخشري نصب على الظرفية ولا ينافي كونه اسم فاعل كما في بادئ فإنه اسم فاعل غلب على معنى الظرفية في الاستعمال ، وقال أبو حيان : الصحيح أنه ليس بظرف ولا نعلم أحدا من النحاة عده في الظروف وأوجب نصبه على الحال من فاعل (قالَ) أي ما ذا قال مبتدئا أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه ، وإلى ذلك يشير كلام الراغب. وقرأ ابن كثير «أنفا» على وزن فعل (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فعدم توجههم نحو الخير (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) فتوجهوا نحو كل ما لا خير فيه فلذلك كان منهم ما كان.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) إلى طريق الحق (زادَهُمْ) أي الله عزوجل (هُدىً) بالتوفيق والإلهام ، والموصول يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بفعل محذوف يفسره المذكور و (هُدىً) مفعول ثاني لأن زاد قد يتعدى لمفعولين ، ويحتمل أن يكون تمييزا والأول هو الظاهر ، وتنوينه للتعظيم أي هدى عظيما (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي أعطاهم تقواهم إياه جل شأنه بأن خلقها فيهم بناء على ما يقوله الأشاعرة في أفعال العباد أو بأن خلق فيهم قدرة عليها مؤثرة في فعلها بإذنه سبحانه على ما نسبه الكوراني إلى الأشعري وسائر المحققين في أفعال العباد من أنها بقدرة خلقها الله تعالى فيهم مؤثرة بإذنه تعالى ، وقول بعضهم : بأن جعلهم جل شأنه متقين له سبحانه يمكن تطبيقه على كل من القولين ، وقال البيضاوي : أي بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها فالإيتاء عنده مجاز عن البيان أو الإعانة أو هو على حقيقته والتقوى مجاز عن جزائها لأنها سببه أو فيه مضاف مقدر وليس في شيء من ذلك ما يأباه مذهب أهل الحق ، وذكر الزمخشري الثاني والثالث من ذلك ، واختار الطيبي الأول من هذين الاثنين وقال : هو أوفق لتأليف النظم الكريم لأن أغلب آيات هذه السورة الكريمة روعي فيها التقابل فقوبل (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادف ما يزيد في الكفر ، وقوله تعالى (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) بقوله جل وعلا : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) فيحمل على كمال التقوى وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه سبحانه بشر أشره وهو التقوى الحقيقية المعنية بقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] فإن المزيد على مزيد الهدى مزيد لا مزيد عليه ، وفي الترفع عن متابعة الهوى النزوع إلى المولى والعزوب عن شهوات الحياة الدنيا ، ثم في إسناد إيتاء التقوى إليه تعالى وإسناد متابعة الهوى إليهم إيماء إلى معنى قوله تعالى حكاية : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] وتلويح إلى أن متابعة الهوى مرض روحاني وملازمة التقوى دواء إلهي انتهى. وما ذكره من التقابل جار فيما ذكرناه أيضا ، وكذا يجري التقابل على تفسير إيتاء التقوى ببيان ما يتقون لإشعار الكلام عليه بأن ما هم فيه ليس من ارتكاب الهوى والتشهي بل هو أمر حق مبني على أساس قوي ، وتفسير ذلك بإعطاء جزاء التقوى مروي عن سعيد بن جبير وذهب إليه الجبائي ، والكلام عليه أفيد وأبعد عن التأكيد من غير حاجة إلى حمل التقوى على أعلى مراتبها ، وأمر التقابل هين فإنه قد يقال إن قوله تعالى : (اهْتَدَوْا) في مقابلة (اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وقوله سبحانه : (زادَهُمْ هُدىً) في مقابلة (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فليتدبر ، وقيل : فاعل (زادَهُمْ) ضمير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المفهوم من قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وقوله سبحانه : (ما ذا قالَ آنِفاً) وكذا فاعل (آتاهُمْ) أي أعانهم أو بيّن لهم ، والإسناد مجازي ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ، وأيضا إذا كان قوله تعالى : (زادَهُمْ هُدىً) في مقابلة قوله سبحانه : (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فالأولى أن يتحد فاعله مع فاعله ويجري نحو ذلك على ما قاله الطيبي لئلا يلزم التفكيك ، وجوز أن يكون ضميرا عائدا على قول المنافقين فإن ذلك مما يعجب منه

٢٠٧

المؤمن فيحمد الله تعالى على إيمانه ويزيد بصيرة في دينه ، وهو بعيد جدا بل لا يكاد يلتفت إليه.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي القيامة ، وقوله تعالى : (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي تباغتهم بغتة وهي المفاجأة بدل اشتمال من الساعة أي لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ولا بالأخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأحوال فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان الساعة نفسها ، وقوله تعالى : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي علاماتها وأماراتها كما في قوله أبي الأسود الدؤلي :

فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوله تبدو

وهي جمع شرط بالتحريك تعليل لمفاجأتها على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة كذا في إرشاد العقل السليم ، وظاهر كلام الكشاف أنه تعليل للإتيان مطلقا أي ما ينتظرون إلا إتيان الساعة لأنه قد جاء أشراطها وبعد مجيئها لا بد من وقوع الساعة ، وتعليل المقيد دون قيده لا يخلو عن بعد ، قيل : ويقربه هنا أن انتظارهم ليس إلا لإتيان الساعة وتقييده ببغتة ليس إلا لبيان الواقع ، وقال بعض المحققين : هو تعليل لانتظار الساعة لأن ظهور أمارات الشيء سبب لانتظاره ، وفي جعله تعليلا للمفاجأة خفاء لأنها لا تناسب مجيء الأشراط إلا بتأويل ، وأنت تعلم أن البدل هو المقصود فالانتظار لاتيان الساعة بغتة فالتعليل المذكور تعليل للمقيد دون قيده أيضا فكان ما في الإرشاد متعين وإن كان فيه نوع تأويل ، وقوله تعالى : (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) على ما أفاده بعض الأجلة تعجيب من نفع الذكرى عند مجيء الساعة وإنكار لعدم تشمرهم لها ولانتظارهم إياها هزؤا وجحودا ، وفي الإرشاد وقوله تعالى : (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذ كقوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٢٣] أي فكيف لهم ذكراهم على أن (أنى) خبر مقدم و (ذِكْراهُمْ) مبتدأ و (إِذا جاءَتْهُمْ) اعتراض وسط بينهما رمزا إلى غاية سرعة مجيئها ، وإطلاق المجيء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئها مطلقا لا مقيدا بقيد البغتة ، وقيل : (أنى) خبر مقدم لمبتدإ محذوف أي فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما يخبرون به فينكرونه منوطة بالعذاب ولا يخفى حاله ، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة «إن تأتهم» على أنه شرط مستأنف جزاؤه (فَأَنَّى لَهُمْ) إلخ أي إن تأتهم الساعة بغتة إذ قد جاء أشراطها فأنى تنفعهم الذكرى وقت مجيئها ، و (إن) هنا بمعنى إذا لأن إتيان الساعة متيقن ، ولعل الإتيان بها للتعريض بهم وأنهم في ريب منها أو لأنها لعدم تعيين زمانها أشبهت المشكوك فيه وإذا جاءتهم باعتبار الواقع فلا تعارض بينهما كما يتوهم في النظرة الحمقاء.

وفي الكشف «إذا» على هذه القراءة لمجرد الظرفية لئلا يلزم التمانع بين (إِذا جاءَتْهُمْ) و «إن تأتهم» وفي الإتيان بأن مع الجزم بالوقوع تقوية أمر التوبيخ والإنكار كما لا يخفى انتهى ، وعلى ما ذكرنا لا يحتاج إلى جعل إذا لمجرد الظرفية.

وقرأ الجعفي. وهارون عن أبي عمرو «بغتّة» بفتح الغين وشد التاء ، قال صاحب اللوامح : وهي صفة وانتصابها على الحال ولا نظير لها في المصادر ولا في الصفات بل في الأسماء نحو الجربة وهي القطيع من حمر الوحش ، وقد يسمى الأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين جربة ، والشربة وهي اسم موضع وكذا قال أبو العباس بن الحاج من أصحاب أبي علي الشلوبين في كتابه المصادر ، وقال الزمخشري : وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو وان يكون الصواب بغتة بفتح الغين من غير تشديد كقراءة الحسن فيما تقدم.

٢٠٨

وتعقبه أبو حيان بأن هذا على عادته في تغليط الرواة ، والظاهر أن المراد بأشراط الساعة هنا علاماتها التي كانت واقعة إذ ذاك وأخبروا أنها علامات لها كبعثة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى» وأراد عليه الصلاة والسلام مزيد القرب بين مبعثه والساعة فإن السبابة تقرب من الوسطى طولا فينا وهكذا فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وزعم بعضهم أن أمر الطول والقصر في وسطاه وسبابته عليه الصلاة والسلام على عكس ما فينا خطأ لا يلتفت إليه إلا أن يكون أراد ذلك في أصابع رجليه الشريفة صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأخرج أحمد عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بعثت أنا والساعة جميعا وإن كادت لتسبقني» وهذا أبلغ في إفادة القرب وعدوا منها انشقاق القمر الذي وقع له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدخان الذي وقع لأهل مكة وأما أشراطها مطلقا فكثيرة الفت فيها كتب مختصرة ومطولة وهي تنقسم إلى مضيقة لا تبقى الدنيا بعد وقوعها إلا أيسر يسير كخروج المهدي رضي الله تعالى عنه على ما يقول أهل السنة دون ما يقوله الشيعة القائلون بالرجعة فإن الدنيا عندهم بعد ظهوره تبقى مدة معتدا بها وكنزول عيسى عليه‌السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك ، وغير مضيقة وهي أكثر الأشراط ككون الحفاة الرعاة رءوس الناس وتطاولهم في البنيان وفشو الغيبة وأكل الربا وشرب الخمر وتعظيم رب المال وقلة الكرام وكثرة اللئام وتباهي الناس في المساجد واتخاذها طرقا وسوء الجوار وقطيعة الأرحام وقلة العلم وأن يوسد الأمر إلى غير أهله وأن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع إلى ما يطول ذكره.

ومن وقف على الكتب المؤلفة في هذا الشأن واطلع على أحوال الأزمان رأى أن أكثر هذه العلامات قد برزت للعيان وامتلأت منها البلدان ، ومع هذا كله أمر الساعة مجهول ورداء الخفاء عليه مسدول. وقصارى ما ينبغي أن يقال : إن ما بقي من عمر الدنيا أقل قليل بالنسبة إلى ما مضى ، وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام خطب أصحابه بعد العصر حين كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا أسف. أي شيء. فقال «والذي نفس محمد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه وما بقي منه إلا اليسير» ولا ينبغي أن يقال : إن الألف الثانية بعد الهجرة وهي الألف التي نحن فيها هي ألف مخضرمة أي نصفها من الدنيا ونصفها الآخر من الآخرة ، وقال الجلال السيوطي في رسالة سماها الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف : الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها ألف سنة وبني الأمر على ما ورد من أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث في آخر الألف السادسة وأن الدجال يخرج على رأس مائة وينزل عيسى عليه‌السلام فيقتله ثم يمكث في الأرض أربعين سنة وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة وأن بين النفختين أربعين سنة ، وذكر الأحاديث والأخبار في ذلك.

وفي بهجة الناظرين وآيات المستدلين قد احتج كثير من العلماء على تعيين قرب زمانها بأحاديث لا تخلو عن نظر فمنهم من قال : بقي منها كذا ، ومنهم من قال : يخرج الدجال على رأس كذا وتطلع الشمس على رأس كذا ، وأفرد الحافظ السيوطي رسالة لذلك كله وقال : تقوم الساعة في نحو الألف والخمسمائة ، وكل ذلك مردود وليس للمتكلمين في ذلك إلا ظن وحسبان لا يقوم عليه من الوحي برهان انتهى ، ونقله السفاريني في البحور الزاخرة في علوم الآخرة ، وذكر السيوطي عدة أخبار في كون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، أولها ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسنده عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا

٢٠٩

عليها فهم في الباب الأول من جهنم» وساق بقية الحديث ، وفيه «وأطولهم مكثا فيه من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة» الحديث وتعقبه السفاريني بقوله : ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه صفة النار أن هذا الحديث خرجه ابن أبي حاتم. وغيره ، وخرجه الاسماعيلي مطولا ، وقال الدارقطني في كتاب المختلف : هو حديث منكر وذكر علله ، ومما ذكره السيوطي في ذلك ما نقل هو ضعف إسناد رفعه ، وقد يرد عليه بأنه قد مضى من زمن البعثة إلى يومنا هذا ألف ومائتان وثماني وستون سنة وإذا ضم إليها ما ذكره من سني مكث عيسى عليه‌السلام وبقاء الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها وما بين النفختين وهي مائتا سنة تصير ألفا وأربعمائة وثماني وسبعين فيبقى من المدة التي ذكرها اثنتان وعشرون سنة وإلى الآن لم تطلع الشمس من مغربها ولا خرج الدجال الذي خروجه قبل طلوعها من مغربها بعدة سنين ولا ظهر المهدي الذي ظهوره قبل الدجال بسبع سنين ولا وقعت الأشراط التي قبل ظهور المهدي ، ولا يكاد يقال : إنه يظهر بعد خمس عشرة سنة ويظهر الدجال بعدها بسبع سنين على رأس المائة الثالثة من الألف الثانية لأن قبل ذلك مقدمات تكون في سنين كثيرة ، فالحق أنه لا يعلم ما بقي من مدة الدنيا إلا الله عزوجل وأنه وإن طال أقصر قصير وما متاع الحياة الدنيا إلا قليل ، وكذا فيما أرى مبدأ خلقها لا يعلمه إلا الله تعالى وما يذكرونه في المبدأ لو صح فإنما هو في مبدأ خلق الخليفة آدم عليه‌السلام لا مبدأ خلق السماء والأرض والجبال ونحوها.

وحكى الشيخ محيي الدين قدس‌سره عن إدريس عليه‌السلام وقد اجتمع معه اجتماعا روحانيا وسأله عن العالم أنه قال : نحن معاشر الأنبياء نعلم أن العالم حادث ولا نعلم متى حدث. والفلاسفة على المشهور يزعمون أن من العالم ما هو قديم بالشخص وما هو قديم بالنوع مع قولهم بالحدوث الذاتي ولا يدثر عندهم. وذهب الملا صدر الشيرازي أنهم لا يقولون إلا بقدم العقول المجردة دون عالم الأجسام مطلقا بل هم قائلون بحدوثها ودثورها وأطال الكلام على ذلك في الأسفار وأتى بنصوص أجلتهم كأرسطو وغيره. وحكى البعض عنهم أنه خلق هذا العالم الذي نحن فيه وهو عالم الكون والفساد والطالع السنبلة ويدثر عند مضي ثمانية وسبعين ألف سنة وذلك عند مضي مدة سلطان كل من البروج الاثني عشر ووصول الأمر إلى برج الميزان وزعموا أن مدة سلطان الحمل اثنا عشر ألف سنة ومدة سلطان الثور أقل بألف وهكذا إلى الحوت.

ونقل البكري عن هرمس أنه زعم أنه لم يكن في سلطان الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان سلطان الأسد تكونت دواب الماء وهوام الأرض فلما كان سلطان الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع فلما كان سلطان السنبلة تولد الإنسانان الأولان ادمانوس وحوانوس ، وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك التي هي ثلاثمائة وستون درجة وقطعها لكل درجة على قول كثير منهم في مائة سنة فتكون مدته ستا وثلاثين ألف سنة وكل ذلك خبط لا دليل عليه. ومن أعجب ما رأيت ما زعمه بعض الإسلاميين من أن الساعة تقوم بعد ألف وأربعمائة وسبع سنين أخذا من قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) وقوله سبحانه (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧] بناء على أن عدة حروف (بَغْتَةً) بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وسبع ويوشك أن يقول قائل : هي ألف وثمانمائة واثنان وبحسب تاء التأنيث أربعمائة لا خمسة فإنه رأى بعض أهل الحساب كما في فتاوى خير الدين الرملي ويجيء آخر ويقول : هي أكثر من ذلك أيضا ويعتبر بسط الحروف على نحو ما قالوا في اسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه متضمن عدة المرسلين عليه‌السلام ، وأنت تعلم أن مثل ذلك مما لا ينبغي لعاقل أن يعول عليه أو يلتفت إليه ، والحزم الجزم بأنه لا يعلم ذلك إلا اللطيف الخبير (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) مسبب عن مجموع القصة

٢١٠

من مفتتح السورة لا عن قوله تعالى : هل (يَنْظُرُونَ) كأنه قيل : إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فهو من موجبات السعادة ، وفسر الأمر بالعلم بالثبات عليه لأن علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوحيد لا يجوز أن يترتب على ما ذكره سبحانه من الأحوال فإنه عليه الصلاة والسلام موحد عن علم حال ما يوحى إليه ولأن المعنى فتمسك بما أنت فيه من موجبات السعادة لا بطلب السعادة ، وقال بعض الأفاضل : إن الثبات أيضا حاصل له عليه الصلاة والسلام فأمره بذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم تذكير له بما أنعم الله تعالى عليه توطئة لما بعده ، وتعقب بأن المراد بالثبات الاستمرار وهو بالنظر إلى الأزمنة الآتية وذلك وإن كان مما لا بد من حصوله له عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة لكن المعصوم يؤمر وينهى فيأتي بالمأمور ويترك المنهي ولا بد للعصمة والأمر في قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) قيل على معنى الثبات أيضا ، وجعل الاستغفار كناية عما يلزمه من التواضع وهضم النفس والاعتراف بالتقصير لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم أو مغفور لا مصرّ ذاهل عن الاستغفار ، وقيل : التحقيق أنه توطئة لما بعده من الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات ؛ ولعل الأولى إبقاؤه على الحقيقة من دون جعله توطئة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر الاستغفار ، أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن الأغر المزني رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» وأخرج النسائي وابن ماجه وغيرهما عن أبي موسى قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مائة مرة» وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «إنا كنا لنعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجلس يقول : رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة» وفي لفظ «التواب الغفور» إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة.

والذنب بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام ترك ما هو الأولى بمنصبه الجليل ورب شيء حسنة من شخص سيئة من آخر كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ؛ وقد ذكروا أن لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل لحظة عروجا إلى مقام أعلى مما كان فيه فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنبا بالنسبة إلى ما عرج إليه فيستغفر منه ، وحملوا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «إنه ليغان على قلبي» الحديث وفيه أقوال أخر ، وقوله تعالى : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) على حذف مضاف بقرينة ما قبل أي ولذنوب المؤمنين. وأعيد الجار لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنبه عليه الصلاة والسلام فإنها معاص كبائر وصغائر وذنبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل ، ولا يبعد أن يكون بالنسبة إليهم من أجل حسناتهم ، قيل : وفي حذف المضاف وتعليق الاستغفار بذواتهم إشعار بفرط احتياجهم إليه فكأن ذواتهم عين الذنوب وكذا فيه إشعار بكثرتها ، وجوز بعضهم كون الاستغفار للمؤمنين بمعنى طلب المغفرة لهم وطلب سببها كأمرهم بالتقوى ، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع أن في صحته كلاما ، فالظاهر إبقاء اللفظ على حقيقته.

وفي تقديم الأمر بالتوحيد إيذان بمزيد شرف التوحيد فإنه أساس الطاعات ونبراس العبادات ، وفي الكلمة الطيبة أبحاث شريفة ولطائف منيفة لا بأس بذكر بعضها وإن تقدم شيء من ذلك فنقول : المشهور أن إلا للاستثناء والاسم الجليل بدل من محل اسم لا النافية للجنس وخبر (لا) محذوف ، واستشكل الإبدال من جهتين أولاهما أنه بدل بعض وليس معه ضمير يعود على المبدل منه وهو شرط فيه ؛ وأجيب بمنع كونه شرطا مطلقا بل هو شرط حيث لا تفهم البعضية بقرينة وهاهنا قد فهمت بقرينة الاستثناء ثانيتهما أن بين المبدل منه والبدل مخالفة فإن الأول منفي والثاني موجب.

وأجاب السيرافي بأنه بدل عن الأول في عمل العامل والتخالف نفيا وإيجابا لا يمنع البدلية لأن مذهب البدل أن

٢١١

يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وقد تتخالف الصفة والموصوف في ذلك نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب على أنه لو قيل : إن البدل في الاستثناء قسم على حياله مغاير لغيره من الإبدال لكان له وجه.

واستشكل أمر الخبر بأنه ان قدر ممكن يلزم عدم إثبات الوجود بالفعل للواحد الحقيقي تعالى شأنه أو موجود يلزم عدم تنزيهه تعالى عن إمكان الشركة وتقدير خاص مناسب لا قرينة عليه قيل : ولصعوبة هذا الاشكال ذهب صاحب الكشاف وأتباعه إلى أن الكلمة لا غير محتاجة إلى خبر وجعل (إِلَّا اللهُ) مبتدأ و (لا إِلهَ) خبره والأصل الله إله أي معبود بحق لكن لما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصود هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم خبره. وتعقب بأنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه بناء الخبر مع لا وهي لا يبني معها إلا المبتدأ ، وأيضا لو كان الأمر كذلك لم يكن لنصب الاسم الواقع بعدها وجه وقد جوزه جماعة.

وقال بعض الأفاضل : إن لا إله إلا الله على هذا المذهب قضية معدولة الطرفين بمنزلة غير الحي لا عالم بمعنى الحي عالم ولا يدفع الاعتراض كما لا يخفى ، وقال بعضهم : إن الخبر هو (إِلَّا اللهُ) أعني إلا مع الاسم الجليل وأورد عليه أن الجنس مغاير لكل من أفراده فكيف يصدق حينئذ سلب مغايرة فرد عنه اللهم إلا أن يقال : إن ذلك بناء على تضمين معنى من وإن المفهوم منه أنه انتفى من هذا الجنس غير هذا الفرد ، والوجه كما قيل أن يقال : إن المغايرة المنفية هي المغايرة في الوجود لا المغايرة في المفهوم حتى لا يصدق ، ولا شك أن المراد من الجنس المنفي بلا هذه هو المفهوم من غير اعتبار حصوله في الأفراد كلها أو بعضها فيكون محمولا لا بمعنى اعتبار عدم حصوله فيها أصلا حتى لا يصح حمله إذ لا يلزم من عدم اعتبار شيء اعتبار عدمه ومتى تحقق الحمل تحقق عدم المغايرة في الوجود فتدبره.

وقال بعضهم : لا خبر للا هذه أصلا على ما قاله بنو تميم فيها ، وأورد عليه أنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ولا يبعد أن يقال : إن القول بعدم احتياج لا إلى الخبر لا يخرج المركب منها ومن اسمها عن العقد وذلك لأن معنى المركب نحو لا رجل على هذا التقدير انتفى هذا الجنس فإذا قلنا : لا رجل إلا حاتم كان معناه انتفى هذا الجنس في غير هذا الفرد ويخدشه ان تركب الكلام من الحرف والاسم مما ليس إليه سبيل ، وربما يدفع بما قيل في النداء مثل يا زيد من أنه قائم مقام ادعوه ، والشريف العلامة قدس‌سره صرح في بيان ما نقل عن بني تميم من عدم إثبات خبر لا هذه بأنه يحتمل أن يكون بناء على أن المفهوم من التركيب كما ذكر آنفا انتفاء هذا الجنس ثم إن كلمة الا على هذا التقدير بمعنى غير ولا مجال لكونها للاستثناء لا لما يتوهم من التناقض بناء على أن سلب الجنس عن كل فرد فرد ينافي إثباته لواحد من أفراده فإنه مدفوع بنحو ما اختاره نجم الأئمة في دفع التناقض المتوهم في مثل ما قام القوم إلا زيدا لوجوب شمول القوم المنفي عنهم الفعل لزيد المثبت هو له فيما يتبادر بأن يقال : إن الجنس الخارج عنه هذا الفرد منتف في ضمن كل ما عداه ولا لما قد يتوهم من عدم تناول الجنس المنفي لما هو بعد إلا وهو شرط الاستثناء لما عرفت من الفرق بين الجنس بدون اعتبار حصوله في الأفراد وبينه مع اعتبار عدم حصوله فيها بل لأنها لو كانت للاستثناء لما أفاد الكلام التوحيد لأنه يكون حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفائه في افراد غير خارج عنها ذلك الفرد فأين التوحيد ، فالواجب حملها على معنى غير وجعلها تابعة لمحل اسم لا بدلا عنه أو صفة كما في قوله :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

٢١٢

كذا رأيته في بعض نسخ قديمة وذكره بعض شيوخ مشايخنا العلامة الطبقجلي في رسالته شرح الكلمة الطيبة ولم يتعقبه بشيء ، وعندي أن ما ذكر في نفي الكون إلا للاستثناء على ذلك التقدير لا يخلو عن نظر. ثم إنه قيل : إذا كان مضمون المركب على ذلك التقدير إن هذا الجنس منتف فيما عدا هذا الفرد كانت القضية شخصية ولها لازم هو قضية كلية. أعني قولنا كل ما يعتبر فردا له سوى هذا الفرد فهو منتف. ولا استبعاد في شيء من ذلك.

وذهب الكثير إلى تقدير الخبر موجود وأجاب عن الإشكال بأنه يلزم نفي الإمكان العام من جانب الوجود عن الآلهة غير الله تعالى وذلك مبني على مقدمة قطعية معلومة للعقلاء هي أن المعبود بالحق لا يكون إلا واجب الوجود فيصير المعنى لا معبود بحق موجود إلا الله وإذا ليس موجودا ليس ممكنا لأنه لو كان ممكنا لكان واجبا بناء على المقدمة القطعية فيكون موجودا ، وقد أفادت الكلمة الطيبة أنه ليس بموجود فليس بممكن لأن نفي اللازم يدل على نفي الملزوم. واعترض بأن المقدمة القطعية وإن كانت صحيحة في نفس الأمر لكنها غير مسلمة عند المشركين لأنهم يعبدون الأصنام ويعتقدونها آلهة مع اعترافهم بأنها ممكنة محتاجة إلى الصانع (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] فيمكن أن يعترف المكلف بالكلمة الطيبة ويعتقد أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فيمكن عنده وجود آلهة غير الله تعالى فلا يكون التلفظ بالكلمة نصا على إيمانه ولو كانت المقدمة المذكورة مسلمة عند الكل لأمكن أن يقدر الخبر من أول الأمر موجود بالذات أي لا إله موجود بالذات إلا الله وإذا لم يكن غيره تعالى موجودا بالذات لم يكن مستحقا للعبادة لأن المستحق لها لا يكون إلا واجبا لذاته.

وقد قرر الجواب بوجهين آخرين : الأول أن لا إله موجود قضية سالبة حملية لا بد لها من جهة وهي الإمكان العام فيكون المعنى أن الجانب المخالف للسلب وهو إثبات الوجود ليس ضروريا للآلهة إلا الله تعالى فإنه موجود بالإمكان العام أي جانب السلب ليس ضروريا له تعالى فيكون الوجود ضروريا له سبحانه تحقيقا للتناقض بين المستثنى والمستثنى منه. الثاني أن لا إله موجود بالإمكان العام سالبة كلية ممكنة عامة فيكون المتحصل بالاستثناء الذي هو نقيض موجبة جزئية ضرورية أي الله موجود بالضرورة. وأورد على التقريرين أنهما إنما يتمان إذا كان كل من طرفي المستثنى والمستثنى منه قضية مستقلة وهو ممنوع ، والصحيح عند أهل العربية أنهما كلام واحد مقيد بالاستثناء فلا يجري فيهما أحكام الناقض إلا أن يؤول بالمعنى اللغوي ، وأيضا جعل الله موجود بالضرورة قضية جزئية فيه تساهل ، وقيل : يمكن أن يقال الخبر المقدر هو الموجود مطلقا سواء كان بالفعل أو بالإمكان على استعمال المشترك في كلا معنييه أو على تأويله بما يطلق عليه اسم الموجود وهو كما ترى ، وقيل : يجوز تقديره ممكن ونفي الإمكان يستلزم نفي الوجود لأن الإله واجب الوجود وإمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد من الكلمة الطيبة إمكانه يستفاد منه وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود ، ويعلم ما فيه مما مر فلا تغفل ، وقال بعضهم : الخبر المقدر مستحق للعبادة ، فالمعنى لا إله مستحق للعبادة إلا الله ، ولا محذور فيه. واعترض بأن هذا كون خاص ولا بد في حذفه من قرينة ولا قرينة فلا يصح الحذف. وأجيب بأنها كنار على علم لأن الإله بمعنى المعبود فدل على العبادة واستحقاقها ، يؤيده ملاحظة المقام واعتبار حال المخاطبين لأن هذه الكلمة الطيبة واردة لرد اعتقاد المشركين الزاعمين أن الأصنام تستحق العبادة.

واعترض أيضا بأنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا أي لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة ، وأيضا يمكن أن يقال : المراد إما نفي إله مستحق للعبادة غيره تعالى بالفعل أو بالإمكان فعلى الأول لا ينفي إمكان إله مستحق للعبادة أيضا غيره عزوجل وعلى الثاني لا يدل على استحقاقه قال للعبادة بالفعل. ورد بأن

٢١٣

وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ولذا فرعوا عليه كثيرا منها فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم التبجيل ، ولا معنى لاستحقاق العبادة إلا ذلك فإذا لم يستحق غيره تعالى العبادة لم يوجد واجب وجود غيره سبحانه وإلا لاستحق العبادة قطعا ، وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا فثبت أن نفي استحقاق العبادة يستلزم نفي التعدد جزما.

وتعقب بأن فيه البناء على أن الإله لا يكون إلا واجب الوجود ، وقد سمعت أنها وإن كانت قطعية الصدق في نفس الأمر إلا أنها غير مسلمة عند المشركين. ومن المحققين من قال : إنه لا يلتفت إلى عدم تسليمهم لمكابرتهم ما عسى أن يكون بديهيا. نعم ربما يقال : إن الكلمة الطيبة على ذلك التقدير إنما تدل على نفي المعبود بالفعل بناء على ما قرر في المنطق أن ذات الموضوع يجب اتصافه بالعنوان بالفعل ، ويجاب بمنع وجوب ذلك بل يكفي الاتصاف بالإمكان كما صرح به الفارابي ، وأما ما نقل عن الشيخ فمعناه كونه بالفعل بحسب الفرض العقلي لا بحسب نفس الأمر كما تدل عليه عبارته في الشفاء والإشارات فيرجع إلى معنى الإمكان.

والفرق بين المذهبين أن في مذهب الشيخ زيادة اعتبار ليست في مذهب الفارابي وهي أن الشيخ اعتبر مع الإمكان بحسب نفس الأمر فرض الاتصاف بالفعل ولم يعتبره الفارابي ، وبالجملة إن الاتصاف بالفعل غير لازم فكل ما يمكن اتصافه بالمعبودية داخل في الحكم بأنه لا يستحق العبادة ، ولما كانت القضية سالبة صدقت وإن لم يوجد الموضوع ، ولعل التحقيق في هذا المقام أن الكلمة الطيبة جارية بين الناس على متفاهم اللغة والعرف لا على الاصطلاحات المنطقية والتدقيقات الفلسفية ، وهي كلام ورد في رد اعتقاد المشرك الذي اعتقد أن آلهة غير الله سبحانه تستحق العبادة فإذا اعترف المشرك بمضمونه من أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا الله تعالى علم من ظاهر حاله الإيمان ، ولهذا اكتفى به الشارع عليه الصلاة والسلام ، وأما الكافر الذي يعتقد إمكان وجود ذات تستحق العبادة بعد فلا تكفي هذه الكلمة الطيبة في إيمانه كما لا تكفي في إيمان من أنكر النبوة أو المعاد أو نحو ذلك مما يجب الإيمان به بل لا بد من الاعتراف بالحكم الذي أنكره ولا محذور في ذلك ، ولما كان الكفرة الذين يعتقدون أن آلهة غير الله تعالى تستحق العبادة هم المشهورون دون من يعتقد إمكان وجودها بعد اعتبرت الكلمة علما للتوحيد بالنسبة إليهم.

ويعلم من هذا أنه لو قدر الخبر المحذوف من أول الأمر موجود أمكن دفع الإشكال بهذا الطريق أعني متفاهم اللغة وعرف الناس من الأوساط ، وأما أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فلا يلزم من الكلمة الطيبة حينئذ نفى إمكان آلهة غير الله تعالى فمما لا يسبق إلى الأفهام ولا يكاد يوجد كافر يعتقد نفي وجود إله غيره تعالى مع اعتقاده إمكان وجود إله غيره سبحانه بعد ذلك ، ومن الناس من أيد تقدير الخبر كذلك بأن الظاهر أن لا نافية للجنس ونفي الماهية نفسها بدون اعتبار الوجود واتصافها به كنفي السواد نفسه لا نفي وجوده عنه بعيد ، فكما أن جعل الشيء باعتبار الوجود إذ لا معنى لجعل الشيء وتصييره نفسه فكذلك نفيه ورفعه أيضا باعتبار رفع الوجود عنه. وتعقب بأن هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل ، وأما النظر الدقيق فقد يحكم بخلافه لأن نفي الماهية باعتبار الوجود ينتهي بالآخرة إلى نفي ماهية ما باعتبار نفسها ، وذلك لأن نفي اتصافها بالوجود لا يكون باعتبار اتصاف ذلك الاتصاف به إلى ما لا يتناهى ، فلا بد من الانتهاء إلى اتصاف منتف بنفسه لا باعتبار اتصافه بالوجود دفعا للتسلسل ، وقيل : الظاهر أن نفي الأعيان كما في الكلمة الطيبة إنما هو باعتبار ذلك ، وأما غيرها فتارة وتارة فتدبر ، و (إِلَّا) على التقدير المذكور للاستثناء ورفع الاسم الجليل على ما سمعت من المشهور ، وقيل : هي فيه بمعنى غير صفة الاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى موجود.

٢١٤

واعترض بأن المقصود من الكلام أمران : نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه ، وهو إنما يتم إذا كانت لا فيه للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق أما إن كانت بمعنى غير فلا يفيد بمنطوقه إلا نفي الألوهية عن غيره تعالى سبحانه وفي كون إثباتها له تعالى بالمفهوم ويكتفي به بحث لأن ذلك إن كان مفهوم لقب فلا عبرة عند القائلين بالمفهوم على الصحيح خلافا للدقاق. والصيرفي من الشافعية ، وابن خويزمنداد من المالكية ، ومنصور بن أحمد من الحنابلة ، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه بل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم يقل بشيء من مفاهيم المخالفة أصلا ، وأنت تعلم أن ما ذكره من إفادة الكلمة الطيبة إثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه عزوجل على تقدير كون إلا للاستثناء غير مجمع عليه أيضا فإن الاستثناء من النفي ليس بإثبات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وجعل الإثبات في كلمة التوحيد بعرف الشرع ، وفي المفرغ نحو ما قام إلا زيد بالعرف العام ، وما له وما عليه في كتب الأصول فلا تغفل ، وتمام الكلام فيما يتعلق بإعراب هذه الكلمة الطيبة في كتب العربية ، وقد ذكرنا ذلك في تعليقاتنا على شرح السيوطي للألفية ، وهي عند السادة الصوفية قدست أسرارهم جامعة لجميع مراتب التوحيد ودالة عليها إما منطوقا أو بالاستلزام ، ومراتبه أربع : الأولى توحيد الألوهية. الثانية توحيد الأفعال. الثالثة توحيد الصفات ، وإن شئت قلت : توحيد الوجوب الذاتي فإنه يستلزم سائر الصفات الكمالية كما فرعها عليه بعض المحققين. الرابعة توحيد الذات وإن شئت قلت : توحيد الوجود الحقيقي فإن المآل واحد عندهم ، وبيان ذلك أن لا إله إلا الله منطوقه. على ما يتبادر إلى الأذهان وذهب إليه المعظم. قصر الألوهية على الله تعالى قصرا حقيقيا أي إثباتها له تعالى بالضرورة ونفيها عن كل ما سواه سبحانه كذلك وهو يستلزم توحيد الأفعال. وتوحيد الصفات. وتوحيد الذات. أما الأول الذي هو قصر الخالقية فيه تعالى فلأن مقتضى قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله عزوجل هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء فإن كل من لا يكون خالقا لكل شيء لا يكون نافعا ضارا على الإطلاق وكل من لا يكون كذلك لا يستحق أن يعبده كل مخلوق لأن العبادة هي الطاعة والانقياد والخضوع ومن لا يملك نفعا ولا ضرا بالنسبة إلى بعض المخلوقين لا يستحق أن يعبده ذلك البعض ويطيعه وينقاد له ، فإن من لا يقدر على إيصال نفع إلى شخص أو دفع ضر عنه لا يرجوه ، ومن لا يقدر على إيصال ضر إليه لا يخافه ، وكل من لا يخاف ولا يرجى أصلا لا يستحق أن يعبد ؛ وهو ظاهر لكن الذي يقتضيه قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله تعالى هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو الخالق لكل شيء وهو المطلوب ، وأما الثاني فلأن الكلمة الطيبة تدل على أن الألوهية ثابتة له تعالى ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك ومنتفية عن غيره انتفاء كذلك ، وكل ما كان كذلك فهي دالة على أنه عزوجل واجب الوجود ، وأن كل موجود سواه تعالى ممكن الوجود ؛ وكل ما كان كذلك كان وجوب الوجود مقصورا عليه تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب ، أما دلالتها على أنه عزوجل واجب الوجود فلأن الألوهية لا تكون إلا لموجود حقيقة اتفاقا ، وكل ما لا يكون صفة إلا لموجود إذا دل كلام على أنه ثابت لشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا فقد دل على أن الوجود ثابت لذلك الشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان موجودا لذاته وهو المعني بواجب الوجود لذاته ، وحيث دلت على ثبوت الألوهية ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك فقد دلت على وجوب وجوده تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب.

وأما دلالتها على أن كل موجود سواه فهو ممكن الوجود فلأن موجودا ما سواه لو كان واجب الوجود لذاته لكان مستحقا أن يعبد لكنها قد دلت على أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله فقد دلت على أنه لا واجبا وجوده

٢١٥

لذاته إلا الله تعالى فكل ما سواه فهو ممكن وهو المطلوب ، أو يقال : إنها قد دلت على أنه تعالى هو النافع الضار على الإطلاق فهو الجامع لصفات الجلال والإكرام فهو سبحانه المتصف بصفات الكمال كلها وهو المطلوب. وأما الثالث فقد قال حجة الإسلام الغزالي في باب الصدق من الاحياء : كل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه‌السلام : يا عبيد الدنيا ، وقال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة» سمي كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له ، وقال في باب الزهد منه : من طلب غير الله تعالى فقد عبده ؛ وكل مطلوب معبود ، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه ، وقال في الباب الثالث من كتاب العلم منه. كل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبودا قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى» انتهى.

ومن المعلوم أنه ما في الوجود شيء إلا وهو مطلوب لطالب ما وقد صح بما مر إطلاق الإله عليه ولا إله إلا الله فما في الوجود حقيقة إلا الله ومنهم من قرر دلالة الكلمة الطيبة على توحيد الذات ونفي وجود أحد سواه عزوجل بوجه آخر ، وهو أن (إِلَّا) بمعنى غير بدل من الإله المنفي فيكون النفي في الحقيقة متوجها إلى الغير ونفي الغير توحيد حقيقي عندهم. وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتل التوحيد لاح لك أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاح الإسلام وأساس الدين ومهداة الأنام : وفي حديث أخرجه أبو نعيم عن عياض الأشعري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا إله إلا الله كلمة كريمة ولها عند الله مكان جمعت وسولت (١) من قالها صادقا من قلبه دخل الجنة» وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله تعالى من قالها مخلصا استوجب الجنة» وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة» وحديث البطاقة أشهر من أن يذكر ، وكذا الحديث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليهم‌السلام ، وجاء «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة» أي بلا حساب وإلا فما الفرق بين ذلك ومن قالها ولم تكن آخر كلامه من الدنيا ، وبالجملة إن فضلها لا يحصى وإنها لتوصل قائلها إلى المقام الأقصى ، وقد ألفت كتب في فضلها وكيفية النطق بها وآداب استعمالها فلا نطيل الكلام في ذلك. بقي هاهنا بحث وهو أن المسلمين أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وإن اختلفوا في كونه شرعيا أو عقليا ، وأما النظر في معرفته تعالى لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية فقد قال العلامة التفتازاني في شرح المقاصد : لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوبه لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق الذي هو المعرفة ، وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا أن كان وجوب الواجب المطلق شرعيا كما هو رأي الأصحاب وعقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال ، أما كون النظر مقدورا فظاهر ، وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية ، ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به ، وظاهر كلام السند في شرح المواقف إجماع المسلمين كافة على ذلك أيضا. والحق وقوع الخلاف في وجوب النظر كما يدل عليه كلام ابن الحاجب في مختصره ، والعضد في شرحه ، وكلام التاج السبكي في جمع الجوامع ، والجلال المحلي في شرحه ، وقول شيخ الإسلام في حاشيته عليه : محل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى منها أما النظر فيها فواجب إجماعا كما ذكره السعد التفتازاني كغيره اعترضه المحقق ابن قاسم العبادي في حاشيته الآيات

__________________

(١) قوله وسولت كذا في غير نسخة بسين مهملة ولام وليراجع مستخرج أبي نعيم.

٢١٦

البينات بقوله : إن الظاهر أن ما نقله السعد من الإجماع على وجوب النظر في معرفة الله تعالى غير مسلم عند الشارح وغيره ، ألا ترى إلى تمثيل الشارح لمحل الخلاف بقول : كحدوث العالم ووجود الباري تعالى وما يجب له جل شأنه وما يمتنع عليه سبحانه من الصفات فإن قوله : ووجود الباري تعالى إلخ يتعلق بمعرفته عزوجل إلى آخر ما قال. نعم قال كثير ورجحه الإمام الرازي. والآمدي : إنه يجب النظر في مسائل الاعتقاد ومعرفة الله تعالى أسها فيجب فيها بالأولى ، وقالوا في ذلك. لأن المطلوب اليقين لقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وقد علم ذلك ، وقال تعالى للناس : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف : ١٥٨] ويقاس غير الوحدانية عليها ، ولا يتم الاستدلال إلا بضم توقف حصول اليقين على النظر. وهؤلاء لم يجوزوا التقليد في الأصول وهو أحد أقوال في المسألة. ثانيها قول العنبري. إنه يجوز التقليد فيها بالعقد الجازم ولا يجب النظر لها لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي في الإيمان بالعقد الجازم ويقاس غير الإيمان عليه.

والمراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي بذلك نظرا إلى ظاهر الحال فإن الخبر كما صرح به المحقق عيسى الصفوي في شرحه للفوائد الغياثية على ما نقله عنه تلميذه ابن قاسم العبادي في الآيات البينات دال وضعا على صورة ذهنية على وجه الإذعان تحكي الحال الواقعية ، ولا شك أن لا إلا الله محمد رسول الله من قسم الخبر فهما دالان وضعا على أن قائلهما ولو تحت ظلال السيف معتقد لمضمونهما على وجه الإذعان ، وعدم كونه معتقدا في نفس الأمر احتمال عقلي ، والمطلع على ما في القلوب علام الغيوب. وثالث الأقوال إنه يجب التقليد بالعقد الجازم ويحرك النظر لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان بخلاف التقليد وهذا ليس بشيء أصلا. والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر على طريق المتكلمين بل صرح كما في الجواب العتيد للكوراني بأن المعتبر هو النظر على طريق العامة ، والظاهر أنه ليس مظنة الوقوع فيما ذكر ، وهل القائل بوجوبه من أولئك جاعل له شرطا لصحة الإيمان أم لا ففيه خلاف. فيفهم من بعض عبارات شرح الأربعين لابن حجر أنه جاعل له كذلك فلا يصح إيمان المقلد عنده ، بل يفهم منها أن النظر المعتبر عند ذلك هو النظر على طريق المتكلمين ، وكلام الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع صريح في أن القائلين بوجوب النظر غير أبي هاشم ليسوا جاعلين النظر شرطا لصحة الإيمان ولا زاعمين بطلان إيمان المقلد بل هو صحيح عندهم مع الإثم بترك النظر الواجب. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى نقل الإمام حجة الإسلام في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة نقل الاشتراط عن طائفة من المتكلمين من رده.

وأما ما نقل عن الشيخ الأشعري من الاشتراط وأنه لا يصح إيمان المقلد فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري ، وقال التاج السبكي : التحقيق أنه إن كان التقليد أخذا بقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكفي ، وإن كان جزما فيكفي خلافا لأبي هاشم. والظاهر أن القائل بكفاية التقليد مع الجزم يمنع القول بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويقول : إنها قد تحصل بالإلهام أو التعليم أو التصفية فمن حصل له العقد الجازم بما يجب عليه اعتقاده فقد صح إيمانه من غير إثم لحصول المقصود ، ومن لم يحصل له ذلك ابتداء أو تقليدا أو ضرورة فالنظر عليه متعين (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [الكهف ٥٧].

ويكفي دليلا للصحة اكتفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم من عوام العجم كأجلاف العرب وإن أسلم أحدهم تحت ظل السيف بمجرد الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله الدال بحسب ظاهر حالهم على أنهم يعتقدون مضمون ذلك ويذعنون له ، ولو كان الاستدلال فرضا لأمروا به بعد النطق بالكلمتين أو علموا الدليل ولقنوه كما لقنوهما وكما علموا سائر الواجبات ، ولو وقع ذلك لنقل إلينا فإنه من أهم مهمات الدين ، ولم ينقل أنهم أمروا أحدا

٢١٧

منهم أسلم بترديد نظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجئوا أمره حتى ينظر فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك فرض العين من غير عذر ، فلا يكون تاركه آثما فضلا عن أن يكون بتركه غير صحيح الإيمان ، ويشهد لذلك ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسامة بن زيد عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك من أهل فدك وغيره من الأخبار الكثيرة. وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصول من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم ـ أي العوام ـ واجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا كما قال الأعرابي : البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجئوا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على أن النظر ليس واجبا على الأعيان ولا على أن تاركه غير آثم دعوى لا دليل عليها ، وحكاية الأعرابي إن كانت مسوقة للاستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالما بدليل إجمالي ، ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود ، على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة. والجلال المحلي ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال : إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيرا من المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقا ، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥]. (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) [الصافات : ٣٦] وقول بعضهم في بعض الحروب : اعل هبل اعل هبل ؛ وما ذكره المحقق العضد في شرح المختصر من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال : إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه : أحدها أنه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم ثانيها أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلف فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال. ثالثها أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا سبيل إلا الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض إنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليله لم يبق تقليدا تعقبه العلامة الكوراني فقال : فيه بحث ، أما في الوجه الأول فلأن من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ على شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السموات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقا فإن الكذب لا يلزم أحدا اعتقاده ، وأما من أخبر بالأكاذيب فاعتقدها فهو لم يعتقد إلا أكاذيب والأكاذيب ليس من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر ، وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول : إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيدا للعلم ولا كل ناظر مصيبا ، فإذا لم يكن النظر موجبا للعلم مطلقا وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول : ليس كل تقليد مفيدا للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح ، وهو أن يقلد عالما بمسائل معرفة الله تعالى صادقا فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقا ، وأما في الثالث فلأنا نختار أن علمه بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا : ممنوع لقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥] وقد روي مرفوعا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة والسلام : «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح» فصرح صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا

٢١٨

استدلال ، وقد صرح بعض أكابر المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم ضروري وجدوه في نفوسهم لم يقدروا على دفعه وبأن من أهل الفترة من وجد كذلك بل قد صرح بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل ومن لم يؤمن مع الدليل ، وقلما يوثق بإيمان من آمن عن دليل فإنه معرض للشبه القادحة فيه.

وفي الباب المائة والاثنين والسبعين والمائة والسابع والسبعين والمائتين والسابع والسبعين من الفتوحات المكية ما يؤيد ذلك ، وقال الإمام حجة الإسلام في فيصل التفرقة : من أشد الناس غلوا وانحرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر فهؤلاء ضيقوا رحمة الله تعالى الواسعة على عباده أولا ، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين ، ثم جهلوا ما تواترت به السنة ثانيا إذ ظهر من عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها ، ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد ، لا بل الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهداية من عنده ، تارة بتنبه في الباطل لا يمكن التعبير عنه ، وتارة بسبب رؤيا في المنام ، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته ، وتارة بقرينة حال، فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاحدا له منكرا فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة قال : والله ما هذا وجه كذاب ، وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم ، وجاء آخر فقال : أنشدك الله بعثك الله نبيا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى إني والله الله بعثني نبيا فصدقه بيمينه وأسلم ، فهذا وأمثاله من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدو أنوار الإيمان أولا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب ، وليت شعري من نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة إحضاره أعرابيا أسلم وقوّله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، وإن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدرة كلاهما زائد على الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين ، ولست أقول : لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها. نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضا وساق الكلام إلى أن قال: والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتمل عليه القرآن حق اعتقادا جزما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته ، فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها اه.

وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطوله ، ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلوب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لا سيما إذا كان المخبر هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة والسلام أن يقذف في قلبه صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك ، فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما

٢١٩

أخبر به علما ضروريا إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضا ، فإن الدليل قد قام على جواز حصول العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة ، وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في شرح المقاصد من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض لا يخلو عن نظر على ما قيل ، لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختياريا ، وقد صرحوا أن التكليف بما ليس باختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الاختيارية وإن التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفا بما يتوقف هو عليه من النظر الاختياري ، فالإيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختياريا بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفا به ، وما مراد السعد ومن وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث إنها مكلف بها كما يشير إليه قوله : لا مخرج عنه لأحد من المكلفين ، وكون ذلك مكلفا به باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الاستعداد لإفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر. نعم لست أنكر أن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم‌السلام على ما سمعت عن بعضهم ، وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمى نحو هذه المعرفة تقليدية ، وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه ، وأذهب إلى النظر في الدليل مطلقا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به ، وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه ، وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها ، وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلّم أن من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الإيمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلّم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئا ، وكل من لم يترك واجبا معينا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب ، وكما يحتمل عقلا إن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلا أن يحصل له الدليل على ما جزم قبل عروض شبهة ولعل هذا الاحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع.

وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا علمت أن الاستدلال بقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) على وجوب النظر فيه نظر لتوقفه على صحة قولهم : إن العلم لا يحصل إلا بالنظر وقد سمعت ما فيه. ويقوي ذلك إذا قلنا : إن علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والاستمرار على ما هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه من اجتناب ما يخل بالعلم ، وقد يقال : يجوز أن يكون الاستدلال نظرا إلى ظاهر اللفظ من حيث إنه أمر بالعلم بالوحدانية فلا بد أن يكون مقدورا بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه ، وحيث انتفى كونه مقدورا بنفسه تعين كونه مقدورا باعتبار ما يحصل هو منه ، والظاهر أنه النظر.

وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببا من أسباب العلم أيضا لم يتم هذا وإن لم يكن سببا تم فتأمل ، ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الاعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية ، فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممكن أخبر

٢٢٠