روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ولا يخلو الكلام عن مجاز عليه أيضا ، وأيّا ما كان فسببية العمل لإيراث الجنة ونيلها ليس إلا بفضل الله تعالى ورحمته عزوجل ، والمراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل أحدكم الجنة عمله» ففي إدخال العمل الجنة على سبيل الاستقلال والسببية التامة فلا تعارض.

وأخرج هناد. وعبد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال : تجوزون الصراط بعفو الله تعالى وتدخلون الجنة برحمة الله تعالى وتقتسمون المنازل بأعمالكم فتأمل. وقرئ «ورثتموها» (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الأفراد فقط (مِنْها تَأْكُلُونَ) أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في أشجارها فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا ، وفي الحديث «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها» فمن تبعيضية وجوز كونها ابتدائية ، والتقديم للحصر الإضافي وقيل لرعاية الفاصلة.

ولعل تكرير ذكر المطاعم في القرآن العظيم مع أنها كلا شيء بالنسبة إلى سائر أنواع نعيم الجنة لما كان بأكثرهم في الدنيا من الشدة والفاقة فهو تسلية لهم ، وقيل : إن ذلك لكون أكثر المخاطبين عواما نظرهم مقصور على الأكل والشرب. وتعقب بأنه غير تام للصوفية ، كلام سيأتي في مواضع إن شاء الله عزوجل (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) أي الراسخين في الإجرام الكاملين فيه وهم الكفار فكأنه قيل : إن الكفار (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) وأيد إرادة ذلك بجعلهم قسيم المؤمنين بالآيات في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) [الزخرف : ٦٩] فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين كما ذهب إليه المعتزلة والخوارج ، ولا يضر عدم التعرض لبيان حكمهم بناء على أن المراد بالذين آمنوا المتقون لقوله تعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الزخرف : ٦٨] والقول بأن الذين آمنوا شامل لهم لأن العلة إيمانهم وإسلامهم لا يخفى ما فيه. والظرف متعلق بخالدون وخالدون خبر إن ، وجوز أن يكون الظرف هو الخبر وخالدون فاعله لاعتماده (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا ، والمادة بأي صيغة كانت تدل على الضعف مطلقا (وَهُمْ فِيهِ) أي في العذاب ، وقرأ عبد الله «فيها» أي في جهنم (مُبْلِسُونَ) حزينون من شدة البأس ، قال الراغب : الإبلاس الحزن المعترض من شدة البأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل.

ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته انتهى ، وقد فسر الإبلاس هنا بالسكوت وانقطاع الحجة (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) لسوء اختيارهم ، و (هُمُ) ضمير فصل فيفيد التخصيص ، وقرأ عبد الله. وأبو زيد «الظالمون» بالرفع على أن هم مبتدأ وهو خبره ، وذكر أبو عمر الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر ، وقال أبو زيد : سمعتهم يقرءون «تجدوه عند الله هو خير وأعظم» (١) برفع خير وأعظم ، وقال قيس بن ذريح :

تحن إلى ليلى وأنت تركتها

وكنت عليها بالملا أنت أقدر

وقال سيبويه : بلغنا أن رؤبة كان يقول أظن زيدا هو خير منك يعني بالرفع (وَنادَوْا) أي من شدة العذاب.

وفي بعض الآثار يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه العذاب فيقولون : ادعوا مالكا فيدعون (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي ليمتنا من قضى عليه إذا أماته ، ومرادهم سل ربك أن يقضي علينا حتى نستريح ، واضافتهم الرب إلى ضميره لحثه لا للإنكار ، وهذا لا ينافي الإبلاس على التفسير الأول لأنه صراخ وتمني للموت من فرط الشدة ، وأما على التفسير الثاني أنه وإن نفاه لكن زمان كل غير زمان الآخر فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٢٠.

١٠١

ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا خلاص لهم ولو بالموت ويغوثون أوقاتا لشدة ما بهم. وتعقب بأنه لا يناسب دوام الجملة الاسمية أعني وهم مبلسون وقيل إن نادوا معطوف بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ، ولا يخفى أن تلك الجملة حالية لا تنفك عن الخلود.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود وابن وثاب والأعمش «يا مال» بالترخيم على لغة من ينتظر وقرأ أبو السوار «يا مال» بالترخيم أيضا لكن على لغة من لم ينتظر.

قال ابن جني : وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم فيه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة وبهذا يجاب عن قول ابن عباس وقد حكيت له القراءة به على اللغة الأولى : ما أشغل أهل النار عن الترخيم مشيرا بذلك إلى إنكارها فإن ما للتعجب وفيها معنى الصد يعني أنهم في حالة تشغلهم عن الالتفات إلى الترخيم وترك النداء على الوجه الأكثر في الاستعمال ، وحاصل الجواب أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم لقصد التصرف في الكلام والتفنن فيه كما في قوله :

يحيي رفات العظام بالية

والحق يا مال غير ما تصف

بل للعجز وضيق المجال عن الإتمام كما يشاهد في بعض المكروبين (قالَ) أي مالك (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) مقيمون في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا غيره ، وهذا تقنيط ونكاية لهم فوق ما هم فيه ولا يضر في ذلك علمه بيأسهم إن قلنا به.

وذكر بعض الأجلة أن فيه استهزاء لأنه أقام المكث مقام الخلود والمكث يشعر بالانقطاع لأنه كما قال الراغب ثبات مع انتظار ، ويمكن أن يكون وجه الاستهزاء التعبير بماكثون من حيث إنه يشعر بالاختيار وإجابتهم بذلك بعد مدة.

قال ابن عباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة ، وقال نوف : بعد مائة ، وقيل ثمانين ، وقيل أربعين.

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم ، ولا مانع من خطاب سبحانه الكفرة تقريعا لهم ، وقيل : هو من كلام بعض الملائكة عليهم‌السلام وهو كما يقول أحد خدم الملك للرعية أعلمناكم وفعلنا بكم قيل لا يجوز أن يكون من قول مالك لا لأن ضمير الجمع ينافيه بل لأن مالكا لا يصح منه أن يقوله لأنه لا خدمة له غير خزنه للنار.

وفيه بحث ، وقيل : في (قالَ) ضميره تعالى فالكل مقوله عزوجل ، وقيل : إن قوله تعالى (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) خاتمة حال الفريقين ، وقوله سبحانه لقد إلخ كلام آخر مع قريش والمراد عليه جئناكم في هذه السورة أو القرآن بالحق ، وعلى ما تقدم لقد جئناكم في الدنيا بالحق وهو التوحيد وسائر ما يجب الإيمان به وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولكن أكثركم للحق أي حق كان كارهون لا يقبلونه وينفرون منه وفسر الحق بذلك دون الحق المعهود سواء كان الخطاب لأهل النار أو لقريش لمكان (أَكْثَرَكُمْ) فإن الحق المعهود كلهم كارهون له مشمئزون منه ، وقد يقال : الظاهر العهد وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليدا. وقرئ «لقد جئتكم» وقوله تعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (أَمْ) منقطعة وما فيها معنى بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للانكار فإن أريد بالإبرام الأحكام حقيقة فهي لإنكار الوقوع واستبعاده ، وإن أريد الأحكام صورة فهي لإنكار الواقع واستقباحه أي بل أبرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كيدنا حقيقة لا هم أو فانا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى (أَمْ

١٠٢

يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور : ٤٢] والآية إشارة إلى ما كان منهم من تدبير قتله عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وإلى ما كان منه عزوجل من تدميرهم ، وقيل : هو من تتمة الكلام السابق ، والمعنى أم أبرموا في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته فإنّا مبرمون أمرا في مجازاتهم ، فإن كان ذاك خطابا لأهل النار فإبرام الأمر في مجازاتهم هو تخليدهم في النار معذبين ، وإن كان خطابا لقريش فهو خذلانهم ونصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم فكأنه قيل : فإنا مبرمون أمرا في مجازاتهم وإظهار أمرك ، وفيه إشارة إلى أن إبرامهم لا يفيدهم ، ولا يغني عنهم شيئا والعدول عن الخطاب في أكثركم إلى الغيبة في أبرموا على هذا القيل للإشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم ويؤيده ما ذكر أولا على ما قيل قوله تعالى :

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) لأنه يدل على أن ما أبرموه كان أمرا قد أخفوه فيناسب الكيد دون تكذيب الحق لأن الكفرة مجاهرون فيه والمراد بالسر هنا حديث النفس أي بل أيحسبون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك الكيد (وَنَجْواهُمْ) أي تناجيهم وتحادثهم سرا.

وقال غير واحد : السر ما حدثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي (بَلى) نسمعهما ونطلع عليهما (وَرُسُلُنا) الذي يحفظون عليهم أعمالهم (لَدَيْهِمْ) ملازمون لهم (يَكْتُبُونَ) أي يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر.

والمضارع للاستمرار التجددي ، وهو مع فاعله خبر و (لَدَيْهِمْ) حال قدم للفاصلة أو خبر أيضا وجملة المبتدأ والخبر إما عطف على ما يترجم عنه بل أو حال أي نسمع ذلك والحال أن رسلنا يكتبونه ، وإذا كان المراد بالسر حديث النفس فالآية ظاهرة في أن السر والكلام المخيل مسموع له تعالى ، وكذا هي ظاهرة في أن الحفظة تكتبه كغيره من أقوالهم وأفعالهم الظاهرة ، ولا يبعد ذلك بأن يطلعهم الله تعالى عليه بطريق من طرق الاطلاع فيكتبوه.

ومن خص كتابهم بالأمور الغير القلبية خص السر بما حدث به الغير في مكان خال ؛ والظاهر أن حسبانهم ذلك حقيقة ولا يستبعد من الكفرة الجهلة ، فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة عند الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله تعالى يسمع كلامنا فقال واحد : إذا جهرتم وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت (أَمْ يَحْسَبُونَ) الآية.

وقيل : إنهم نزلوا في إقدامهم على الباطل وعدم خوفهم من الله عزوجل منزلة من يحسب أن الله سبحانه لا يسمع سره ونجواه (قُلْ) أي للكفرة تحقيقا للحق وتنبيها لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك ما يعبدون من الملائكة عليهم‌السلام ليس لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوا إليهم وبنوا عليه عبادتهم من كونهم بنات الله سبحانه وتعالى (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي لذلك الولد وكان بمعنى صح كما يقال ما كان لك أن تفعل كذا وهو أحد استعمالاتها ، و «أول» أفعل تفضيل والمفضل عليه المقول لهم ، وجوز اعتبار ذلك مطلقا ، والمراد إظهار الرغبة والمسارعة ، والمنساق إلى الذهن الأول.

ووجه الملازمة أنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشئونه تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز أحرصهم على مراعاة حقوقه وما توجيه من تعظيم ولده سبحانه فإن حق الوالد على شخص يوجب عليه تعظيم ولده لما أن تعظيم الولد تعظيم الوالد. فالمعنى إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه ، وهذرا نفي

١٠٣

لكينونة ولد له سبحانه على أبلغ وجه وهو الطريق البرهاني والمذهب الكلامي ، فإنه في الحقيقة قياس استثنائي استدل فيه بنفي اللازم البين انتفاؤه وهو عبادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للولد على نفي الملزوم وهو كينونة الولد له سبحانه ، وذلك نظير قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] لكنه جيء بأن دون لو لجعل ما في حيزها بمنزلة ما لا قطع بعدمه على طريق المساهلة وإرخاء العنان للتبكيت والإفحام.

وفي الكشف أن في الآية مبالغة من حيث إنه جعل الممكن في نفسه أعني عبادته عليه الصلاة والسلام لما يدعونه ولدا محالا فهو نفي لعبادة الولد على أبلغ وجه حيث جعل مسببا عن محال ثم نفى للولد كذلك من طريق آخر وهو أنه لما لم يعبد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الولد مع كونه أولى بعبادته لو كان دل على نفيه ، ونحوها ذكر في الآية مرويا عن قتادة والسدي والطبري.

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن المعنى قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله تعالى وحده وكذبكم بما تقولون فالمراد من كونه عليه الصلاة والسلام أول العابدين كونهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أول من ينكر ذلك عليهم ، والملازمة في الشرطية باعتبار أن نسبتهم الولد له تعالى تقتضي أن يكذبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يكون أول من ينكره لأنه صاحب الدعوة إلى التوحيد ، وقد خفي ذلك على الإمام فنفى صحة هذا الوجه ، وتكلف بعضهم فقال : إن تسبب الجزاء عن الشرط عليه باعتبار الأولية في العبادة والتوحيد من بينهم فإنهم إذا أطبقوا على ذلك الزعم يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولهم في عبادة الله تعالى وحده لا محالة ، وقيل : إن السببية باعتبار الأخبار والذكر نحو إن تضربني فأنا لا أضربك وهو أولى مما قبله ، والإنصاف أن الارتباط خفي لا يظهر إلا لمجاهد ، وحكى أبو حاتم عن جماعة ولم يسم أحدا منهم أن (الْعابِدِينَ) من عبد يعبد كفرح يفرح إذا أنف من الشيء ، ومنه قوله :

وأعبد أن أهجو كليبا بدارم

وقول الآخر :

متى ما يشاء ذو الود يصرم خليله

ويعبد عليه لا محالة ظالما

أي إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من الولد أو من كونه لله سبحانه ونسبته له عزوجل. وروي نحو هذا عن ابن عباس أخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) فقال : أنا أول من ينفر عن أن يكون لله تعالى ولد ، وأيد ذلك بقراءة السلمي واليماني «العبدين» جمع عبد كحذر وحذرين وهو للمعروف في معنى أنف وقلما يقال فيه عابد ، ومن هنا ضعف ابن عرفة هذا الوجه لما فيه من استعمال ما قل استعماله في كلامهم ، وذكر الخليل في كتاب العين أنه قرئ «العبدين» بسكون الباء تخفيفي العبدين بكسرها ، وقال أبو حاتم : العبد بكسر الباء الشديد الغضب ، وقال أبو عبيدة : العرب تقول عبدني حقي أي جحدني ، وروي عن الحسن وابن زيد وزهير بن محمد وهو رواية عن ابن عباس وقتادة والسدي أيضا أن (إِنْ) نافية أي ما كان للرحمن ولد فانا أول من قال ذلك وعبد ووحد ، و (كانَ) عليه للاستمرار والمقصود استمرار النفي لا نفي الاستمرار والفاء للسببية. وتعقب بأنه خلاف الظاهر مع خفاء وجه السببية أو حسنها ، وزعم مكي أنه لا يجوز لإيهامه نفي الولد فيما مضى وهو كما ترى.

وقرأ عبد الله وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي كما قال القاضي «ولد» بضم الواو وسكون اللام جمع ولد بفتحهما.

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عن وصفهم أو الذي يصفونه به من كونه سبحانه له ولد ، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت

١٠٤

تحت ملكوته تعالى وربوبيته عزوجل كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءا منه سبحانه وهو ينافي وجوب الوجود ، وفي تكرير ذلك الاسم الجليل تفخيم لشأن العرش (فَذَرْهُمْ) فدعهم غير ملتفت إليهم حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي (يَخُوضُوا) في أباطيلهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم فإن ما هم فيه من الأقوال والأفعال ليس إلا من باب الجهل ، والجزم لجواب الأمر (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة عند الأكثرين ، وعن عكرمة. وجماعة أنه يوم بدر وقد وعدوا الهلاك فيه ، وقريب منه تفسيره بيوم الموت ، وقيل : ينبغي تفسيره به دون يوم القيامة لأن الغاية للخوض واللعب إنما هو يوم الموت لانقطاعهما بالموت ، وانتصر للأكثرين بأن يوم القيامة هو اليوم الموعود وبه سمي في لسان الشرع وتفسيره بذاك مخالف لمعروف ولما بعد من ذكر الساعة ، وما ذكر من أمر الانقطاع مدفوع بأن الموت وما بعده في حكم القيامة ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته ومثله قد يراد به الدلالة على طول المدة مع قطع النظر عن الانتهاء فيقال : لا يزال في ضلالة إلى أن تقوم القيامة.

وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو «يلقوا» مضارع لقي ، والآية قيل منسوخة بآية السيف (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) الظرفان متعلقان بإله لأنه صفة بمعنى معبود من أله بمعنى عبد وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو إله وذلك عائد الموصول وحذف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه.

وقال غير واحد : الجار متعلق بإله باعتبار ما ينبئ عنه من معنى المعبودية بالحق بناء على اختصاصه بالمعبود بالحق وهذا كتعلق الجار بالعلم المشتهر بصفة نحو قولك : هو حاتم في طيئ حاتم في تغلب ، وعلى هذا تخرج قراءة عمر وعلي وعبد الله وأبي والحكم بن أبي العالي وبلال بن أبي بردة وابن يعمر وجابر وابن زيد وعمر بن عبد العزيز وأبو شيخ الهنائي وحميد وابن مقسم وابن السميفع «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» فيعلق الجار بالاسم الجليل باعتبار الوصف المشتهر به ، واعتبر بعضهم معنى الاستحقاق للعبادة وعلل ذلك بأن العبادة بالفعل لا تلزم ، وجوز كون الجار والمجرور صلة الموصول ، و «إله» خبر مبتدأ محذوف أيضا على أن الجملة بيان للصلة وأن كونه سبحانه في السماء على سبيل الإلهية لا على معنى الاستقرار.

واختير كون (إِلهٌ) في هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف على كونه خبرا آخر للمبتدإ المذكور أو بدلا من الموصول أو من ضميره بناء على تجويزه لأن إبدال النكرة الغير الموصوفة من المعرفة إذا أفادت ما لم يستفد أولا كما هنا جائز حسن على ما قال أبو علي في الحجة لأن البيان هاهنا أتم وأهم فلذا رجح مع ما فيه من التقدير وحينئذ فلا فاصل أجنبي بين المتعاطفين ، ولا يجوز كون الجار والمجرور خبر مقدما وإله مبتدأ مؤخرا للزوم خلو الجملة عن العائد مع فساد المعنى ، وفي الآية نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاص الإلهية به عزوجل لما فيها من تعريف طرفي الإسناد. والموصول في مثل ذلك كالمعرف بالأداة وللاعتناء بكل من إلهيته تعالى في السماء وإلهيته عزوجل في الأرض قيل (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) ولم يقل : وهو الذي في السماء وفي الأرض إله أو هو الذي في السماء والأرض إله ، وحديث الإعادة قيل مما لا يجري هاهنا لأن القاعدة أغلبية كأكثر قواعد العربية.

وقال بعض الأفاضل : يجوز إجراء القاعدة فيه والمغايرة بين الشيئين أعم من أن تكون بالذات أو بالوصف والاعتبار والمراد هنا الثاني ولا شك أن طريق عبادة أهل السماء له تعالى غير طريق عبادة أهل الأرض على ما يشهد به تتبع الآثار فإذا كان إله بمعنى معبود كان معنى الآية أنه تعالى معبود في السماء على وجه ومعبود في الأرض على وجه آخر ، وإن كان بمعنى التحير فيه فالتحير في أهل السماء غير التحير في أهل الأرض فلا جرم تكون أطوارهم مخالفة لأطوار أهل الأرض ، ومن ذلك اختلاف علومهم فإن علوم أهل الأرض إن كانت ضرورية فأكثرها مستندة إلى الحس وإن كانت نظرية كانت مكتسبة من النظر فإذا انسد طريق النظر والحسن عجزوا وتحيروا ولا كذلك أهل السماء

١٠٥

لتنزههم عن الكسب والحسن فتحيرهم على نحو آخر ، أو نقول التحير في إدراك ذاته تعالى وصفاته إنما ينشأ من مشاهدة آثار عظمته وكمال قدرته سبحانه ولا شك أن تلك الآثار في السماء أعظم من الآثار في الأرض وعليه فيجوز أن يكون الإله بمعنى المتحير فيه ويكون مجازا عن عظيم الشأن من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم فيكون المعنى أنه تعالى عظيم الشأن في السماء على نحو وعظيم الشأن في الأرض على نحو آخر ا ه ، ولا يخلو عن شيء كما لا يخفى (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) كالدليل على النفي والاختصاص المشار إليهما فإن من لا يتصف بكمال الحكمة والعلم لا يستحق الإلهية.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) كالهواء ومخلوقات الجو المشاهدة وغيرها (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي العلم بالساعة أي الزمان الذي تقوم القيامة فيه فالمصدر مضاف لمفعوله ، والساعة بمعناها اللغوي وهو مقدار قليل من الزمان ، ويجوز أن يراد بها معناها الشرعي وهو يوم القيامة ، والمحذور مندفع بأدنى تأمل ، وفي تقديم الخبر إشارة إلى استئثاره تعالى بعلم ذلك (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء ، والالتفات إلى الخطاب للتهديد ، وقرأ الأكثر بياء الغيبة والفعل في القراءتين مبني للمفعول ؛ وقرئ بفتح تاء الخطاب والبناء للفاعل ، وقرئ «تحشرون» بتاء الخطاب أيضا والبناء للمفعول (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي ولا يملك آلهتهم الذين يدعونهم (مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله عزوجل ، وقرئ «تدعون» بتاء الخطاب والتخفيف ؛ والسلمي وابن وثاب بها وشد الدال (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) الذي هو التوحيد (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يعلمونه ، والجملة في موضع الحال ، وقيد بها لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعول عليها ، وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الأفراد أولا باعتبار لفظه ، والمراد به الملائكة وعيسى وعزير وأضرابهم صلاة الله تعالى وسلامه عليهم ، والاستثناء قيل : متصل إن أريد بالذين يدعون من دونه كل ما يعبد من دون الله عزوجل ومنفصل إن أريد بذلك الأصنام فقط ، وقيل : هو منفصل مطلقا وعلل بأن المراد نفي ملك الآلهة الباطلة الشفاعة للكفرة ومن شهد بالحق منها لا يملك الشفاعة للمؤمنين فكأنه قيل على تقدير التعميم : ولا يملك الذين يدعونهم من دون الله تعالى كائنين ما كانوا الشفاعة لهم لكن من شهد بالحق يملك الشفاعة لمن شاء الله سبحانه من المؤمنين ؛ فالكلام نظير قولك : ما جاء القوم إلي إلا زيدا جاء إلى عمرو فتأمل.

وقال مجاهد وغيره : المراد بمن شهد بالحق المشفوع فيهم ، وجعل الاستثناء عليه متصلا والمستثنى منه محذوفا كأنه قيل : ولا يملك هؤلاء الملائكة واضرابهم الشفاعة في أحد إلا فيمن وحد عن إيقان وإخلاص ومثله في حذف المستثنى منه قوله :

نجا سالم والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

أي واستدل بالآية على أن العلم مما لا بد منه في الشهادة دون المشاهدة.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) أي سألت العابدين أو المعبودين (لَيَقُولُنَّ اللهُ) لتعذر المكابرة في ذلك من فرط ظهوره ووجه قول المعبودين ذلك أظهر من أن يخفى (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره سبحانه ويشركونه معه عزوجل مع إقرارهم بأنه تعالى خالقهم أو مع علمهم بإقرار آلهتهم بذلك ، والفاء جزائية أي إذا كان الأمر كذلك فإني إلخ ، والمراد التعجب من إشراكهم مع ذلك ، وقيل : المعنى فكيف يكذبون بعد علمهم بذلك فهو تعجب من عبادة غيره تعالى وإنكارهم للتوحيد مع أنه مركوز في فطرتهم ، وأيّاما كان فهو متعلق بما قبله من التوحيد والإقرار بأنه تعالى هو الخالق ، وأما كون المعنى فكيف أو أين يصرفون عن التصديق بالبعث مع أن الإعادة

١٠٦

أهون من الإبداء وجعله متعلقا بأمر الساعة كما قيل فيأباه السياق.

وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «تؤفكون» بتاء الخطاب (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) بحر «قيلة» وهي قراءة عاصم وحمزة والسلمي وابن وثاب. والأعمش.

وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد والحسن وقتادة ومسلم بن جندب برفعه وهي قراءة شاذة.

وقرأ الجمهور بنصبه ، واختلف في التخريج فقيل الجر على عطفه لفظ الساعة في قوله تعالى (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي عنده علم قيله ، والنصب على عطفه على محلها لأنها في محل نصب بعلم المضاف إليها فإنه كما قدمنا مصدر مضاف لمفعوله فكأنه قيل : يعلم الساعة ويعلم قيله ، والرفع على عطفه على (عِلْمُ السَّاعَةِ) على حذف مضاف والأصل وعلم قيله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ونسب الوجه الأول لأبي علي والثالث لابن جني وجميع الأوجه للزجاج وضمير (قِيلِهِ) عليها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المفهوم من قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) والقيل والقال والقول مصادر جاءت بمعنى واحد ، والمنادى وما في حيزه مقول القول ، والكلام خارج مخرج التحسر والتحزن والتشكي من عدم إيمان أولئك القوم ، وفي الإشارة إليهم بهؤلاء دون قوله قومي ونحوه تحقير لهم وتبرّ منهم لسوء حالهم ، والمراد من أخباره تعالى بعلمه ذلك وعيده سبحانه إياهم ، وقيل : الجر على إضمار حرف القسم والنصب على حذفه وإيصال فعله إليه محذوفا والرفع على نحو لعمرك لأفعلن وإليه ذهب الزمخشري وجعل المقول يا رب وقوله سبحانه (إِنَّ هؤُلاءِ) إلخ جواب القسم على الأوجه الثلاثة وضمير (قِيلِهِ) كما سبق ، والكلام إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون وإقسامه سبحانه عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رب لرفع شأنه عليه الصلاة والسلام وتعظيم دعائه والتجائه إليه تعالى ، والواو عنده للعطف أعني عطف الجملة القسمية على الجملة الشرطية لكن لما كان القسم بمنزلة الجملة الاعتراضية صارت الواو كالمضمحل عنها معنى العطف ، وفيه أن الحذف الذي تضمنه تخريجه من ألفاظ شاع استعمالها في القسم كعمرك وايمن الله واضح الوجه على الأوجه الثلاثة ، وأما في غيرها كالقيل هنا فلا يخلو عن ضعف ، وقيل : الجر على أن الواو واو القسم والجواب محذوف أي لننصرنه أو لنفعلن بهم ما نشاء حكاه في البحر وهو كما ترى ، وقيل : النصب على العطف على مفعول يكتبون المحذوف أي يكتبون أقوالهم وأفعالهم وقيله يا رب إلخ وليس بشيء ، وقيل : بشيء ، هو على العطف على مفعول يعلمون أعني الحق أي يعلمون الحق وقيل إلخ ، وهو قول لا يكاد يعقل ، وعن الأخفش أنه على العطف على (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) ورد بأنه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وتعقب أن ما ذكر من الفصل ظاهر وأما ضعف المعنى وتنافر النظم فغير مسلم لأن تقديره أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وأنا لا نسمع قيله إلخ وهو منتظم أتم انتظام ، وعنه أيضا أنه على إضمار فعل من القيل ناصب له على المصدرية والتقدير قال قيله ويؤيده قراءة ابن مسعود «وقال الرسول» والجملة معطوفة على ما قبلها. ورد بأنه لا يظهر فيه ما يحسن عطفه على الجملة قبله وليس التأكيد بالمصدر في موقعه ولا ارتباط لقوله تعالى (فَاصْفَحْ) به ، وقال العلامة الطيبي في توجيهه : إن قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) تقديره وقلنا لك : ولئن سألتهم إلخ وقلت : يا رب يأسا من إيمانهم وإنما جعل غائبا على طريق الالتفات لأنه كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقد نفسه لتحزن عليهم حيث لم ينفع فيهم سعيه واحتشاده ، وقيل : الواو على هذا الوجه للحال وقال بتقدير قد والجملة حالية أي فأنّى يؤفكون وقد قال الرسول يا رب إلخ ، وحاصله فأنّى يؤفكون وقد شكا الرسول عليه الصلاة والإسلام إصرارهم على الكفر وهو خلاف الظاهر ، وقيل : الرفع على الابتداء والخبر يا رب إلى لا يؤمنون أو هو محذوف أي مسموع أو متقبل فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بقيله والجملة حال أو معطوفة ، ولا يخفى ما في ذلك ، والأوجه عندي ما نسب إلى الزجاج ،

١٠٧

والاعتراض عليه بالفصل هين ، وبضعف المعنى والتنافر غير مسلم ، ففي الكشف بعد ذكر تخريج الزجاج الجر أن الفاصل أعني من قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ـ إلى ـ (يُؤْفَكُونَ) يصلح اعتراضا لأن قوله سبحانه (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) مرتبط بقوله تعالى : (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) على ما لا يخفى ، والكلام مسوق للوعيد البالغ بقوله تعالى : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إلى قوله عزوجل : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) متصل بقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) اتصال العصا بلحاها ، وقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) خطاب لمن يتأتى منه السؤال تتميم لذلك الكلام باستحقاقهم ما أوعدوه لعنادهم البالغ ، ومنه يظهر وقوع التعجب في قوله سبحانه (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) وعلى هذا ظهر ارتباط وعلم قيله بقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وأن الفاضل متصل بهما اتصالا يجل موقعه ، ومن هذا التقرير يلوح أن ما ذهب إليه الزجاج في الأوجه الثلاثة حسن ، ولك أن ترجحه على ما ذهب إليه الأخفش بتوافق القراءتين ، وأن حمل (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) على الخطاب المتروك إلى غير معين أوفق بالمقام من حمله على خطابه عليه الصلاة والسلام وسلامته من إضمار القول قبل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) مع أن السياق غير ظاهر الدلالة عليه ا ه ، وهو أحسن ما رأيته للمفسرين في هذا المقام. وقرأ أبو قلابة «يا رب» بفتح الباء ووجه ظاهر (فَاصْفَحْ) فأعرض (عَنْهُمْ) ولا تطمع في إيمانهم ، وأصل الصفح ليّ صفحة العنق فكني به عن الإعراض.

(وَقُلْ) لهم (سَلامٌ) أي امري سلام تسلم منكم ومتاركة فليس ذلك أمرا بالسلام عليهم والتحية وإنما هو أمر بالمتاركة ، وحاصله إذا أبيتم القبول فأمري التسلم منكم ، واستدل بعضهم بذلك على جواز السلام على الكفار وابتدائهم بالتحية ، أخرج ابن أبي شيبة. عن شعيب بن الحبحاب قال : كنت مع علي بن عبد الله البارقي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه قال شعيب : فقلت : إنه يهودي أو نصراني فقرأ علي آخر سورة الزخرف (وَقِيلِهِ يا رَبِ) إلى الآخر ، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول أنت في ابتداء أهل الذمة بالسلام؟ فقال : ما أرى بأسا أن نبتدئهم قلت لم؟ قال : لقوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) ومما ذكرنا يعلم ضعفه ، وقال السدي المعنى قل خيرا بدلا من شرهم ، وقال مقاتل : اردد عليهم معروفا ، وحكى الماوردي أي قل ما تسلم به من شرهم والكل كما ترى والحق ما قدمنا (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) حالهم السيئة وإن تأخر ذلك وهو وعيد من الله سبحانه لهم وتسلية لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ أبو جعفر والحسن والأعرج ونافع وهشام «تعلمون» بتاء الخطاب على أنه داخل في حيز (قُلْ) وإن أريد من الآية الكف عن القتال فهي منسوخة وإن أريد الكف عن مقابلتهم بالكلام فليست بمنسوخة والله تعالى أعلم.

١٠٨

سورة الدّخان

مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم واستثنى بعض قوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [الدخان : ١٥] وآيها كما قال الداني تسع وخمسون في الكوفي وسبع في البصري وست في عدد الباقين. واختلافها على ما في مجمع البيان أربع آيات (حم) [الدخان : ١] و (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ) [الدخان : ٣٤] كوفي (شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) [الدخان : ٤٣] عراقي شامي والمدني الأول في (الْبُطُونِ) [الدخان : ٤٥] عراقي مكي والمدني الأخير. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عزوجل ختم ما قبل بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الإنذار الشديد وذكر سبحانه هناك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) [الزخرف : ٨٨] وهنا نظيره فيما حكي عن أخيه موسى عليهما الصلاة والسلام بقوله تعالى (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) [الدخان : ٢٢] وأيضا ذكر فيما تقدم (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) [الزخرف : ٨٩] وحكى سبحانه عن موسى عليه‌السلام (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) [الدخان : ٢٠ ، ٢١] وهو قريب من قريب إلى غير ذلك ، وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود الذاريات والطور والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزمل ولا أقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان ، وورد بفضلها أخبار.

أخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» وأخرج المذكورون عنه أيضا يرفعه من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له» وفي رواية للبيهقي وابن الضريس عنه مرفوعا «من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفورا له» وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قرأ سورة الدخان في ليلة غفر له ما تقدم من ذنبه» وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أو يوم جمعة بنى الله تعالى له بيتا في الجنة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)

١٠٩

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)(١٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الكلام فيه كالذي سلف في السورة السابقة.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعول عليه (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي ليلة القدر على ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد ، وابن زيد والحسن وعليه أكثر المفسرين والظواهر معهم ، وقال عكرمة. وجماعة : هي ليلة النصف من شعبان. وتسمى ليلة الرحمة والليلة المباركة وليلة الصك وليلة البراءة ، ووجه تسميتها بالأخيرين أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة والصك كذلك أن الله عزوجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة والصك في هذه الليلة. وظاهر كلامهم هنا أن البراءة وهي مصدر برىء براءة إذا تخلص تطلق على صك الأعمال والديون وما ضاهاها وأنه ورد في الآثار ذلك وهو مجاز مشهور وصار بذلك كالمشترك ، وفي المغرب بريء من الدين والعيب براءة ، ومنه البراءة لخط الإبراء والجمع براءات وبروات عامية ا ه.

وأكثر أهل اللغة على أنه لم يسمع من العرب وأنه عامي صرف وإن كان من باب المجاز الواسع.

قال ابن السيد في المقتضب البراءة في الأصل مصدر برىء براءة ، وأما البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فتسميتها بذلك إما على أنها من بريء من دينه إذا أداه وبرئت من الأمر إذا تخليت منه فكأن المطلوب منه أمر تبرأ إلى الطالب أو تخلى ، وقيل : أصله أن الجاني كان إذا جنى وعفا عنه الملك كتب له كتاب أمان مما خافه فكان يقال : كتب السلطان لفلان براءة ثم عمم ذلك فيما كتب من أولي الأمر وأمثالهم ا ه.

وذكروا في فضل هذه الليل أخبارا كثيرة ، منها ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي كرم الله وجهه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول : ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر» وما أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه عن عائشة قالت : «فقدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال يا عائشة: أكنت تخافين أن يحيف الله تعالى عليك ورسوله؟ قلت : ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك ، فقال : إن الله عزوجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب». وما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس» وذكر بعضهم فيها صلاة مخصوصة وأنها تعدل عشرين حجة مبرورة وصيام عشرين سنة مقبولا ، وروي في ذلك حديثا طويلا عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وقد أخرجه البيهقي ثم قال : يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعا وهو منكر وفي رواته مجهولون وأطال الوعاظ الكلام في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها ، وذكروا عدة أخبار في أن الآجال تنسخ فيها. وفي الدر المنثور طرف غير يسير من ذلك وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى. وفي البحر قال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا يصح فيها شيء ولا نسخ الآجال فيها ولا يخلو من مجازفة والله تعالى أعلم.

١١٠

والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملة إلى السماء الدنيا من اللوح فالإنزال المنجم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا وروي هذا عن ابن جرير وغيره ، وذكر أن المحل الذي أنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال : نزل القرآن جملة على جبريل عليه‌السلام وكان جبريلعليه‌السلام يجيء به بعد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال غير واحد : المراد ابتداء إنزاله في تلك الليلة على التجوز في الطرف أو النسبة واستشكل ذلك بأن ابتداء السنة المحرم أو شهر ربيع الأول لأنه ولد فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنه اعتبر التاريخ في حياته عليه الصلاة والسلام إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وهو الأصح ، وقد كان الوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس الأربعين سنة من مدة عمره عليه الصلاة والسلام على المشهور من عدة أقوال فكيف يكون ابتداء الإنزال في ليلة القدر من شهر رمضان أو في ليلة البراءة من شعبان.

وأجيب بأن ابتداء الوحي كان مناما في شهر ربيع الأول ولم يكن بإنزال شيء من القرآن والوحي يقظة مع الإنزال كان في يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان ، وقيل لسبع منه ، وقيل لأربع وعشرين ليلة منه ، وأنت تعلم كثرة اختلاف الأقوال في هذا المقام فمن يقول بابتداء إنزاله في شهر يلتزم منها ما لا يأباه.

واختلف في أول ما نزل منه ، ففي صحيح مسلم أنه (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١] وتعقبه النووي في شرحه فقال : إنه ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] كما صرح به في حديث عائشة ، وأما (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة ، عن جابر.

وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر ا ه والكلام في ذلك مستوفى في الإتقان فليرجع إليه من أراده.

ووصف الليلة بالبركة لما أن إنزال القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وفضيلة العبادة أو لما فيها من ذلك وتقدير الأرزاق وفصل الأقضية كالآجال وغيرها وإعطاء تمام الشفاعة له عليه الصلاة والسلام ، وهذا بناء على أنها ليلة البراءة ، فقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله تعالى شراد البعير ، وأياما كان فقد قيل : إن التعليل إنما يحتاج إليه بناء على القول بما اختاره العز بن عبد السلام من أن الأمكنة والأزمنة كلها متساوية في حد ذاتها لا يفضل بعضها بعضا إلا بما يقع فيها من الأعمال ونحوها ، وزاد بعضهم أو يحل لتدخل البقعة التي ضمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها أفضل البقاع الأرضية والسماوية حتى قيل وبه أقول إنها أفضل من العرش.

والحق أنه لا يبعد أن يخص الله سبحانه بعضها بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعيا إلى إقدام المكلف على الأعمال فيها أو لحكمة أخرى ، وجملة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) جواب القسم ، وفي ذلك مبالغة نحو ما في قوله : وثناياك إنها إغريض.

وقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) استئناف يبين المقتضي للإنزال ، وقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) استئناف أيضا لبيان التخصيص بالليلة المباركة فكأنه قيل : أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزاله

١١١

في تلك الليلة المباركة لأنه من الأمور الدالة على الحكم البالغة وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ففي الكلام لفّ ونشر ، واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين مما لا داعي إليه ، وقيل : إن جملة (فِيها يُفْرَقُ) إلخ صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض لا يضر الفصل به بل لا يعد الفصل به فصلا ، وقيل إن قوله تعالى (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) هو جواب القسم وما بينهما اعتراض وإليه ذهب ابن عطية زاعما أنه لا يجوز جعل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) جوابا له فيه من القسم بالشيء على نفسه.

واعترض بأن قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) يكون حينئذ من تتمة الاعتراض فلا يحسن تأخره عن المقسم عليه ولا يدفعه أن هذه الجملة مستأنفة لا صفة أخرى لأنه استئناف بياني متعلق بما قبل كما سمعت آنفا فلا يليق الفصل أيضا كما لا يخفى على من له ذوق سليم ، وما ذكر من حديث القسم بالشيء على نفسه فقد أشرنا إلى جوابه ، وقيل إنّ قوله سبحانه : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) جواب آخر للقسم وفيه تعدد المقسم عليه من غير عطف ولم نر من تعرض له ، ومعنى يفرق يفصل ويلخص ، والحكيم بمعنى المحكم لأنه لا يبدل ولا يغير بعد إبرازه للملائكة عليهم‌السلام بخلافه قبله وهو في اللوح فإن الله تعالى يمحو منه ما يشاء ويثبت.

وجوز أن يكون بمعنى المحكوم به ونسبته إلى الأمر عليها حقيقة ، ويجوز أن يكون المعنى كل أمر ملتبس بالحكمة والأصل حكيم صاحبه فتجوز في النسبة ، وقيل : إن حكيم للنسبة كتامر ولابن وقد أبهم سبحانه هذا الأمر.

وأخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال : كنت عند الحسن فقال له رجل : يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال : إي والله إنها لفي كل رمضان وإنها لليلة يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها ، وروي هذا التعميم عن غير واحد من السلف.

وأخرج البيهقي عن أبي الجوزاء فيها يفرق كل أمر حكيم هي ليلة القدر يجاء بالديوان الأعظم السنة إلى السنة فيغفر الله تعالى شأنه لمن يشاء ألا ترى أنه عزوجل قال (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وفيه بحث ، وإلى مثل ذلك التعميم ذهب بعض من قال : إن الليلة المباركة هي ليلة البراءة ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة أنه قال في الآية : في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد ، وفي كثير من الأخبار الاقتصار على قطع الآجال ، أخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخفش قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى» وأخرج الدينوري في المجالسة عن راشد بن سعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في ليلة النصف من شعبان يوحي الله تعالى إلى ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة» ونحوه كثير ، وقيل : يبدءان في استنساخ كل أمر حكيم من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل عليه‌السلام ونسخة الحروب إلى جبرائيل عليه‌السلام وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال إلى إسماعيل عليه‌السلام صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت.

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقضى الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان وتسلم إلى أربابها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. واعترض بما ذكر على الاستدلال بالظواهر على أن الليلة المذكورة هي ليلة القدر لا

١١٢

ليلة النصف من شعبان ومن تدبر علم أنه لا يخدش الظواهر ، نعم حكي عن عكرمة أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر ويلزمه تأويل ما يأبى ظاهره ذلك فتدبر ، وسيأتي إن شاء الله عزوجل الكلام في هذا المقام مستوفى على أتم وجه في تفسير سورة القدر وهو سبحانه الموفق.

وقرأ الحسن والأعرج والأعمش «يفرق» بفتح الياء وضم الراء «كلّ» بالنصب أي يفرق الله تعالى ، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري عنه «نفرّق» بالنون «كلّ» بالنصب وفيما ذكر أبو علي الأهوازي عنه بفتح الياء وكسر الراء ونصب «كلّ» ورفع «حكيم» على أنه الفاعل بيفرق ، وقرأ الحسن. وزائدة عن الأعمش «يفرّق» بالتشديد وصيغة المفعول وهو للتكثير وفيه رد على قول بعض اللغويين كالحريري أن الفرق مختص بالمعاني والتفريق بالأجسام.

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) نصب على الاختصاص وتنكيره للتفخيم ، والجار والمجرور في موضع الصفة له وتعلقه بيفرق ليس بشيء ، والمراد بالعندية أنه على وفق الحكمة والتدبير أي أعني بهذا الأمر أمرا فخيما حاصلا على مقتضى حكمتنا وتدبيرنا وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه ، وجوز كونه حالا من ضمير أمر السابق المستتر في حكيم الواقع صفة له أو من «أمر» نفسه ، وصح مجيء الحال منه مع أنه نكرة لتخصصه بالوصف على أن عموم النكرة المضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف ، وقول السمين : إن فيه القول بالحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة في النحو صادر عن نظر ضعيف لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه بأن يقال : يفرق أمر حكيم على إرادة عموم النكرة في الإثبات كما في قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] وقيل : حال من (كُلُ) وأيا ما كان فهو مغاير لذي الحال لوصفه بقوله تعالى : (مِنْ عِنْدِنا) فيصح وقوعه حالا من غير لغوية فيه.

وكونها مؤكدة غير متأت مع الوصفية كما لا يخفى على ذي الذهن السليم ، وهو على هذه الأوجه واحد الأمور وجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي على أنه واحد الأوامر فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية لفعل مضمر من لفظه أي أمرنا أمرا من عندنا ، والجملة بيان لقوله سبحانه : (يُفْرَقُ) إلخ ، وقيل : إما أن يكون نصبا على المصدرية ليفرق لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه وكذلك أمره عزوجل به كأنه قيل : يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرا فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل بمعنى الأمر ، وإما أن يكون على الحالة من فاعل (أَنْزَلْناهُ) أو مفعوله أي إنا أنزلناه آمرين أمرا أو حال كون الكتاب أمرا يجب أن يفعل ؛ وفي جعل الكتاب نفس الأمر لاشتماله عليه أيضا تجوز فيه فخامة ، وتعقب ذلك في الكشف فقال : فيه ضعف للفصل بالجملتين بين الحال وصاحبها على الثاني ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة على الأول.

ووجهه أن تخص بالقرآن ولا يجعل قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ) علة للإنزال في الليلة بل هو تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) على معنى فيها أنزل الكتاب المبين الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه جعل الكتاب كله أمرا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة حسنة ، ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفا.

وقال الخفاجي في أمر الفصل : إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أمر» بالرفع وهي تنصر كون انتصابه في قراءة الجمهور على الاختصاص لأن الرفع عليه فيها ، وقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) تعليل ليفرق أو لقوله تعالى : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ورحمة مفعول به لمرسلين وتنوينها للتفخيم ، والجار والمجرور في موضع الصفة لها ، وإيقاع الإرسال عليها هنا كإيقاعه عليها في قوله سبحانه : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٢] والمعنى على ما في الكشاف يفصل في هذه الليلة كل أمر لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا وفصل

١١٣

كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة أي إن المقصود الأصلي بالذات من ذلك الرحمة أو تصدر الأوامر من عندنا لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته تعالى من باب الرحمة أيضا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع ، وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلا لقوله سبحانه : أمرا من عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر مقابل النهي وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية.

وفي الكشف أن قوله : يفصل إلخ أو تصدر الأوامر إلخ تبيين لمعنى التعليل على التفسيرين في (يُفْرَقُ) لأنه أما بمعنى الفصل على الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها أو بمعنى يؤمر والشأن المطلوب يكون مأمورا به لا محالة فحاصله يرجع إلى قوله : أو تصدر الأوامر من عندنا لا لوجهي التعليل من تعلقه بيفرق أو بأمرا فإن تعلقه بأمرا إنما يصح إذا نصب على الاختصاص وإذ ذاك ليس الأمر ما يقابل النهي لأن الأمر إذا كان المقابل فهو إما مصدر وإنما يعلل فعله وإما حال مؤكدة فيكون راجعا إلى تعليل الإنزال المخصوص وليس المقصود وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه بأمرا لأن المعنى الأول يصلح تفسيرا له أيضا انتهى.

والظاهر كون ذلك تبيينا لوجهي التعليل ، وما ذكر في نفيه لا يخلو عن بحث كما يعرف بالتأمل ، واعتبار العادة في بيان المعنى جاء من كنا فإنه يقال : كان يفعل كذا لما تكرر وقوعه وصار عادة كما صرحوا به في الكتب الحديثية وغيرها ولإفادة ذلك عدل عن إنا مرسلون الاخصر وقوله سبحانه : (مِنْ رَبِّكَ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير والأصل منا فجيء بلفظ الرب مضافا إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه تخصيص الخطاب به صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا له عليه الصلاة والسلام ودلالة على أن كونه سبحانه ربك وأنت مبعوث رحمة للعالمين مما يقتضي أن يرسل الرحمة.

وقال الطيبي : خص الخطاب برسوله عليه الصلاة والسلام والمراد العموم ، والأصل من ربكم وجيء بلفظ الرب ليؤذن بأن المربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين وليكون تمهيده يبتنى عليه التعليل الآتي المتضمن للتعريض بواسطة الحصر بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا وتعقب بأنه لو أريد العموم لفاتت النكتة المذكورة ولزم أن يدخل المؤمنون في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) وما بعده وليس المعنى عليه وفي القلب منه شيء وفسر بعضهم الرحمة المرسلة بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يخفى أن صحة التعليل تأبى ذلك.

وجوز أن يكون قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) بدلا من قوله سبحانه : إنا كنا منذرين الواقع تعليلا لإنزال الكتاب بدل كل أو اشتمال باعتبار الإرسال والإنذار ، ويكون (رَحْمَةً) حينئذ مفعولا له أي أنزلنا القرآن لأن عادتنا إرسال الرسل والكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم واختيار كون الرحمة مفعولا له ليتطابق البدل والمبدل منه إذ معنى المبدل منه فاعلين الإنذار ويطابقه فاعلين الإرسال ولم يجوز كونها كذلك على وجه التعليل بل أوجب كونها مفعولا به ليصح إذ لو قيل فيها تفصيل كل شأن حكيم لأنا فاعلون الإرسال لأجل الرحمة لم يفد أن الفصل رحمة ولا أنه سبحانه مرسل فلا يستقيم التعليل قيل وينصر نصب رحمة على المفعول قراءة الحسن وزيد بن علي برفعها لأن الكلام عليه جملة مستأنفة أي هي (رَحْمَةً) تعليلا للإرسال فيلائم القول بأنها في قراءة النصب مفعول له وليطابق قراءتهما في كون معنى (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) إنا كنا فاعلين الإرسال ، وقال بعض أجلة المحققين : إن القول بأنه تعليل أظهر من القول بأنه بدل ليكون الكلام على نسق في التعليل غب التعليل ، ولما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال ولوقوع الفصل ، وأشار على ما قيل بما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال بأن المبدل منه غير مقصود وأنه في حكم السقوط وهاهنا ليس كذلك ، وتعقب هذا بأنه أغلبي لا مطرد وقوله : لوقوع الفصل أي بين البدل والمبدل منه بأن الفاصل غير أجنبي فلا يضر الفصل به فتدبر ، وجوز كون رحمة مصدرا لرحمنا مقدر وكونها حالا من ضمير

١١٤

(مُرْسِلِينَ) وكونها بدلا من (أَمْراً) فلا تغفل (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لكل مسموع فيسمع أقوال العباد (الْعَلِيمُ) لكل معلوم فيعلم أحوالهم ، وتوسيط الضمير مع تعريف الطرفين لإفادة الحصر ، والجملة تحقيق لربوبيته عزوجل وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته ، وفي تخصيص (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) على ما قال الطيبي إدماج لوعيد الكفار ووعد المؤمنين الذين تلقوا الرحمة بأنواع الشكر (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بدل من (رَبِّكَ) أو بيان أو نعت.

وقرأ غير واحد من السبعة والأعرج وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وشيبة بالرفع على أنه خبر آخر لإن أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب ، والجملة مستأنفة لإثبات ما قبلها وتعليله (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم ممن عنده شيء من الإيقان وطرف من العلوم اليقينية على أن الوصف المتعدي منزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى ما يتعلق به ، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من أهل الإيقان علمتم كونه سبحانه رب السموات والأرض لأنه من أظهر اليقينيات دليلا وحينئذ يلزمكم القول بما يقتضيه مما ذكر أولا ، ويجوز أن يكون مفعوله مقدرا أي إن كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم عمن خلق السموات والأرض فقلتم الله تعالى خلقهن ، والجواب أيضا محذوف أي إن كنتم موقنين في إقراركم بذلك علمتم ما يقتضيه مما تقدم لظهور اقتضائه إياه ، وجعل غير واحد الجواب على الوجهين تحقق عندكم ما قلناه ، ولم يجوزوا جعله مضمون (رَبِّ السَّماواتِ) إلخ لأنه سبحانه كذلك أيقنوا أم لم يوقنوا فلا معنى لجعله دالا عليه ، وكذا جعله مضمون ما بعد بل هذا مما لا يحسن باعتبار العلم أيضا.

وفي هذا الشرط تنزيل إيقانهم منزلة عدمه لظهور خلافه عليهم ، وهو مراد من قال : إنه من باب تنزيل العالم منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم ، قيل : ولا يصح أن يقال : إنهم نزلوا منزلة الشاكرين لمكان قوله سبحانه بعد : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) ولا أرى بأسا في أن يقال : إنهم نزلوا أولا كذلك ثم سجل عليهم بالشك لأنهم وإن أقروا بأنه عزوجل رب السموات والأرض لم ينفكوا عن الشك لإلحادهم في صفاته سبحانه وإشراكهم به تعالى شأنه.

وجوز أن يكون (مُوقِنِينَ) مجازا عن مريدين الإيقان والجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مريدين الإيقان فاعلموا ذلك ، وفيه بعد ، وأما جعل (إِنْ) نافية كما حكاه النيسابوري فليس بشيء كما لا يخفى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، وقيل : خبر لمبتدإ محذوف أي هو سبحانه لا إله إلا هو ؛ وجملة المبتدأ وخبره مستأنفة مقررة لذلك ، وقيل : خبر آخر لإن على قراءة «رب السموات» بالرفع وجعله خبرا ، وقيل : خبر له على تلك القراءة وما بينهما اعتراض (يُحْيِي وَيُمِيتُ) مستأنفة كما قبلها ، وكذا قوله تعالى : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بإضمار مبتدأ أو بدل من (رَبِّ السَّماواتِ) على تلك القراءة أو بيان أو نعت له ، وقيل : فاعل ليميت ، وفي (يُحْيِي) ضمير راجع إليه والكلام من باب التنازع أو إلى (رَبِّ السَّماواتِ) ، وقيل : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) خبر آخر لرب السموات وكذا (رَبُّكُمْ) وقيل : هما خبران آخران لإن ، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم والحسن وأبو موسى وعيسى بن سليمان وصالح كلاهما عن الكسائي بالجر بدلا من «رب السموات» على قراءة الجر ، وقرأ أحمد بن جبير الانطاكي بالنصب على المدح.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) إضراب ابطالي أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه ، وتنوين «شكّ» للتعظيم أي في شك عظيم (يَلْعَبُونَ) لا يقولون ما يقولون مما هو مطابق لنفي الأمر عن جد وإذعان بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم.

وجوز أن تكون هي الخبر والظرف متعلق بالفعل قدم للفاصلة ، والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم وعدم التفاتهم ، والفاء في قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ) لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم في شك يلعبون مما

١١٥

يوجب ذلك حتما أي فانتظر لهم (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي يوم تأتي بجدب ومجاعة فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه فيتوهم ذلك فإطلاق الدخان على ذلك المرئي باعتبار أن الرائي يتوهمه دخانا ، ولا يأباه وصفه بمبين وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز من باب ذكر المسبب وإرادة السبب أو لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار لقلة الأمطار المسكنة له فهو كناية عن الجدب وقد فسر أبو عبيدة الدخان به ، وقال القتبي : يسمى دخانا ليبس الأرض حتى يرتفع منها ما هو كالدخان ، وقال بعض العرب : نسمي الشر الغالب دخانا ، ووجه ذلك بأن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه ، وأريد به هنا الجدب ومعناه الحقيقي معروف ، وقياس جمعه في القلة أدخنة وفي الكثرة دخنان نحو غراب وأغربة وغربان ، وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا : دواخن كأنه جمع داخنة تقديرا ، وقرينة التجوز فيه هنا حالية كما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخبر ، والمراد باليوم مطلق الزمان وهو مفعول به لارتقب أو ظرف له والمفعول محذوف أي ارتقب وعد الله تعالى في ذلك اليوم وبالسماء جهة العلو ، وإسناد الإتيان بذلك إليهما من قبيل الإسناد إلى السبب لأنه يحصل بعدم إمطارها ولم يسند إليه عزوجل مع أنه سبحانه الفاعل حقيقة ليكون الكلام مع سابقه المتضمن إسناد ما هو رحمة إليه تعالى شأنه على وزان قوله تعالى (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] وتفسير الدخان بما فسرناه به مروي عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل وهو اختيار الفراء والزجاج.

وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، أخرج أحمد والبخاري وجماعة عن مسروق قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني تركت رجلا في المسجد يقول في هذه الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ) إلخ : يغشى الناس قبل يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام فغضب وكان متكئا فجلس ثم قال : من علم منكم علما فليقل به ، ومن لم يكن يعلم فليقل الله تعالى أعلم. فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله تعالى أعلم ، وسأحدثكم عن الدخان إن قريشا لما استصعبت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبطئوا عن الإسلام قال : اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينه كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله تعالى (فَارْتَقِبْ) ـ إلى ـ (أَلِيمٌ) فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : يا رسول الله استسق الله تعالى لمضر فاستسقى لهم عليه الصلاة والسلام ، فسقوا فأنزل الله تعالى (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [الدخان : ١٥] الخبر. وفي رواية أخرى صحيحة أنه قال : لما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الناس إدبارا قال : اللهم سبعا كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام ، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا : يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله تعالى فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال : اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقي الناس حولهم قال : فقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم الحديث ، وظاهره يدل كما في تاريخ ابن كثير على أن القصة كانت بمكة فالآية مكية.

وفي بعض الروايات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها وقعت مرتين ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال في هذا الدخان : كان في يوم فتح مكة وفي البحر عنه أنه قال (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة ، وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه قال : كان يوم فتح مكة دخان ، وهو قول الله تعالى (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ

١١٦

مُبِينٍ) ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما ، وقال علي كرم الله تعالى وجهه وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وزيد بن علي والحسن : إنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.

وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعا أول الآيات الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان ، قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) وقال : يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ، فالدخان على ظاهره والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان.

وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن ابن مسعود أنه كان يقول : هما دخانان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشق مسامعه فيبعث الله تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس ، ولا أظن صحة هذه الرواية عنه.

وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله ، وقيل : المراد بيوم تأتي السماء إلخ يوم القيامة فالدخان يحتمل أن يراد به الشدة والشر مجازا وأن يراد به حقيقته.

وقال الخفاجي : الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى : (تَأْتِي السَّماءُ) إلى آخره استعارة تمثيلية إذ لا سماء لأنه يوم تشقق فيه السماء فمفرداته على حقيقتها ، وأنت تعلم أنه لا مانع من القول بأن السماء كما سمعت أولا بمعنى جهة العلو سلمنا أنها بمعنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن يكون حين يخرج الناس من القبور مثلا بل لا مانع من القول بأن المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها إليه بعد تشققها وعودها إلى ما كانت عليه أولا كما قال سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] ويكون فناؤها بعد صيرورتها دخانا.

هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولا لأنه أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به ، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه (فَارْتَقِبْ يَوْمَ) إلخ ، للدلالة على أنهم أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران (يَغْشَى النَّاسَ) أي يحيط أنهم والمراد بهم كفار قريش ومن جعل الدخان ما هو من أشراط الساعة حمل الناس على من أدركه ذلك الوقت ، ومن جعل ذلك يوم القيامة حمل الناس على العموم ، والجملة صفة أخرى للدخان.

وقوله تعالى : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) في موضع نصب بقول مقدر وقع حالا أي قائلين أو يقولون هذا إلخ. والإشارة للتفخيم ، وقيل : يجوز أن يكون هذا عذاب أليم إخبارا منه عزوجل تهويلا للأمر كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذبيح (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [الصافات : ١٠٦] فهو استئناف أو اعتراض والإشارة بهذا للدلالة على قرب وقوعه وتحققه ، وما تقدم أولى ، وقوله سبحانه : (رَبَّنَا) إلى آخره كما صرح به غير واحد من المفسرين وعد منهم بالإيمان إن كشف جلّ وعلا عنهم العذاب ، فكأنهم قالوا : ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا لكن عدلوا عنه إلى ما في المنزل إظهارا لمزيد الرغبة وحملوه على ذلك لما في بعض الروايات أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناشده الرحم وواعده إن دعا لهم وزال ما بهم آمنوا والمراد بقوله سبحانه وتعالى :

١١٧

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) نفي صدقهم في الوعد وأن غرضهم إنما هو كشف العذاب والخلاص أي كيف يتذكرون أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم.

(وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم من ذلك في إيجابهما حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ظاهر أمر رسالته بالآيات والمعجزات التي تخر لها صم الجبال أو مظهر لهم مناهج الحق بذلك (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي عن ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو هو والجملة عطف على قوله تعالى و (قَدْ جاءَهُمْ) إلى آخره ، وعطفها على قوله سبحانه : (رَبَّنَا) إلخ لأنه على معنى قالوا : (رَبَّنَا) إلخ ليس بذاك ، وثم للاستبعاد والتراخي الرتبي وإلا فهم قد تولوا ريثما جاءهم وشاهدوا منه ما شاهدوا مما يوجب الإقبال إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقالُوا) مع ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام.

(مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي قالوا تارة : يعلمه عداس غلام رومي لبعض ثقيف وأخرى مجنون أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا ولم يقل ومجنون بالعطف لأن المقصود تعديد قبائحهم وقرأ زر بن حبيش معلم بكسر اللام فمجنون صفة له وكأنهم أرادوا رسول مجنون وحاشاه ثم حاشاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٣٧)

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) جواب من جهته تعالى عن قولهم وإخبار بالعود على تقدير الكشف أي إن كشفنا عنكم العذاب كشفا قليلا أو زمانا قليلا عدتم ، والمراد على ما قيل عائدون إلى الكفر ؛ وأنت تعلم أن عودهم إليه يقتضي إيمانهم وقد مر أنهم لم يؤمنوا وإنما وعدوا الإيمان فإما أن يكون وعدهم منزلا منزلة إيمانهم أو المراد عائدون إلى الثبات على الكفر أو على الإقرار والتصريح به وقال قتادة : هذا توعد بمعاد الآخرة وهو خلاف الظاهر جدا ومن قال : إن الدخان يوم القيامة قال إن قوله سبحانه : (إِنَّا كاشِفُوا) إلى آخره وعد بالكشف على نحو قوله عزوجل : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ومن قال المراد به ما هو من أشراط الساعة قال بإمكان الكشف وعدم انقطاع التكليف عند ظهوره وإن كان من الأشراط بل جاء في بعض الآثار أنه يمكث أربعين يوما وليلة فيكشف عنهم

١١٨

فيعودون إلى ما كانوا عليه من الضلال ، وحمله على ما روي عن ابن مسعود ظاهر الاستقامة لا قيل فيه ولا قال ، وقوله سبحانه : (وَقَدْ جاءَهُمْ) إلخ قوي الملاءمة له وهو بعيد الملاءمة للقول المروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه فقد احتيج في تحصيلها إلى جعل الإسناد من باب إسناد حال البعض إلى الكل أو حمل الناس على الكفار الموجودين في ذلك الوقت والأمر على القول بأنه ما كان في فتح مكة أهون إلا أنه مع ذلك ليس كقول ابن مسعود فتأمل (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) هو يوم بدر عند ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن أبي بن كعب ومجاهد والحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وقتادة وعطية ، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس.

وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد بسند صحيح عن عكرمة. قال : قال ابن عباس قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة ونقل في البحر حكاية أنه يوم القيامة عن الحسن وقتادة أيضا.

والظرف معمول لما دل عليه قوله تعالى : (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي إنا ننتقم يوم إذ إنا منتقمون ، وقيل لمنتقمون ورده الزجاج وغيره بأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها ، وقيل لعائدون على معنى إنكم لعائدون إلى العذاب يوم نبطش.

وقيل بكاشفوا العذاب وليس بشيء وقيل لذكرهم أو اذكر مقدرا ، وقيل هو بدل من (يَوْمَ تَأْتِي) إلخ.

وقرئ «نبطش» بضم الطاء وقرأ الحسن وأبو رجاء وطلحة بخلاف عنه (نَبْطِشُ) بضم النون من باب الأفعال على معنى نحمل الملائكة عليهم‌السلام على أن يبطشوا بهم أو نمكنهم من ذلك فالمفعول به محذوف للعلم وزيادة التهويل ، وجعل البطشة على هذا مفعولا مطلقا على طريقة أنبتكم نباتا ، وقال ابن جني ، وأبو حيان : هي منصوبة بفعل مضمر يدل عليه الظاهر أي يوم نبطش من نبطشه فيبطش البطشة الكبرى ، وقال ابن جني : ولك أن تنصبها على أنها مفعول كأنه به قيل : يوم نقوي البطشة الكبرى عليهم ونمكنها منهم كقولك : يوم نسلط القتل عليهم ونوسع الأخذ منهم ، وفي القاموس بطش به ويبطش ويبطش أخذ بالعنف والسطوة كابطشه والبطش الأخذ الشديد في كل شيء والبأس ا ه فلا تغفل (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي امتحناهم بإرسال موسى عليه‌السلام إليهم على أنه من فتن الفضة عرضها على النار فيكون بمعنى الامتحان وهو استعارة والمراد عاملناهم معاملة الممتحن ليظهر حالهم لغيرهم أو أوقعناهم في الفتنة على أنه بمعناه المعروف والمراد بالفتنة حينئذ ما يفتن به الشخص أي يغتر ويغفل عما فيه صلاحه كما في قوله تعالى : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال : ٢٨] وفسرت هنا بالإمهال وتوسيع الرزق.

وفسر بعضهم الفتنة بالعذاب ثم تجوز به عن المعاصي التي هي سبب وهو تكلف ما لا داعي له.

وقرئ «فتّنّا» بتشديد التاء إما لتأكيد معناه المصدري أو لتكثير المفعول أو الفعل.

(وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي مكرم معظم عند الله عزوجل أو عند المؤمنين أو عنده تعالى وعندهم أو كريم في نفسه متصف بالخصال الحميدة والصفات الجليلة حسبا ونسبا ، وقال الراغب : الكرم إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه ، ونقل عن بعض العلماء أن الكرم كالحرية إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن الصغيرة والكبيرة والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة. وقال الخفاجي : أصل معنى الكريم جامع المحامد والمنافع وادعى لذلك أن تفسيره به أحسن من تفسيره بالتفسيرين السابقين (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أطلقوهم وسلموهم إلي ، والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون مستعبدهم ، والتعبير عنهم بعباد الله تعالى للإشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه ، والأداء مجاز عما ذكر ، وهذا كقوله عليه‌السلام فأرسل معنى بنا إسرائيل ولا تعذبهم وروي ذلك عن ابن زيد ومجاهد وقتادة أو أدوا إلى حق الله تعالى من الإيمان وقبول

١١٩

الدعوى يا عباد الله على أن مفعول (أَدُّوا) محذوف وعباد منادى وهو عام لبني إسرائيل والقبط ، والأداء بمعنى الفعل للطاعة وقبول الدعوى وروي هذا عن ابن عباس ، وأن عليهما قيل مصدرية قبلها حرف جر مقدر متعلق بجاءهم أي بأن أدوا ، وتعقب بأنه لا معنى لقولك : جاءهم بالتأدية إلى ، وحمله على طلب التأدية إلى لا يخلو عن تعسف ورد بأنه بتقدير القول وهو شائع مطرد فتقديره بأن قال أدوا إلي ولا يخلو عن تكلف ما ومع هذا الأمر مبني على جواز وصل المصدرية بالأمر والنهي وهو غير متفق عليه ، نعم الأصح الجواز.

وقيل : هي مخففة من الثقيلة ، وتعقب بأنها حينئذ يقدر معها ضمير الشأن ومفسره لا يكون إلا جملة خبرية وأيضا لا بد أن يقع بعدها النفي أو قد أو السين أو سوف أو لو وأن يتقدمها فعل قلبي ونحوه وأجيب بأن مجيء الرسول يتضمن معنى فعل التحقيق كالإعلام والفصل المذكور غير متفق عليه ، فقد ذهب المبرد تبعا للبغاددة إلى عدم اشتراطه ، والقول بأنه شاذ يصان القرآن عن مثله غير مسلم واشتراط كون مفسر ضمير الشأن جملة خبرية فيه خلاف على ما يفهم من كلام بعضهم ، ولم يذكر في المغني في الباب الرابع في الكلام على ضمير الشأن إلا اشتراط كون مفسره جملة ولم يشترط فيها الخبرية ولم يتعرض لخلاف ، نعم قال في الباب الخامس : النوع الثامن اشتراطهم في بعض الجملة الخبرية وفي بعضها الإنشائية وعد من الأول خبران وضمير الشأن لكنه قال بعد : وينبغي أن يستثنى من ذلك في خبري أن وضمير الشأن خبر أن المفتوحة إذا خففت فإنه يجوز أن يكون جملة دعائية كقوله تعالى (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) [النور : ٩] في قراءة من قرأ أن وغضب بالفعل والاسم الجليل فاعل.

وحقق بعض الأجلة أن الإخبار عن ضمير الشأن بجملة إنشائية جائز عند الزمخشري أو هي مفسرة وقد تقدم ما يدل على القول دون حروفه لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة وكأن التفسير لمتعلقه المقدر أي جاءهم بالدعوة وهي أن أدوا إلى عباد الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) ولا تستكبروا عليه سبحانه بالاستهانة بوحيه جلّ شأنه ورسوله عليه‌السلام (وَأَنْ) كالتي قبلها ، والمعنى على المصدرية بكفكم عن العلو على الله تعالى (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) تعليل للنهي أي آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها أو موضحة صدق دعواي و (آتِيكُمْ) على صيغة الفاعل أو المضارع ، ولا يخفى حسن ذكر الأمين مع الأداء والسلطان مع العلاء ، وذكر أن في الأول ترشيحا للاستعارة المصرحة أو المكنية بجعلهم كأنهم مال للغير في يده أمره بدفعه لمن يؤتمن عليه وفي الثاني تورية عن معنى الملك مرشحة بقوله (لا تَعْلُوا) وقرأت فرقة «أنّي» بفتح الهمزة فقيل هو أيضا على تعليل النهي بتقدير اللام ، وقيل : هو متعلق بما دخله النهي نظير قولك لمن غضب من قول الحق له لا تغضب لأن قيل لك الحق (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي التجأت إليه تعالى وتوكلت عليه جل شأنه (أَنْ تَرْجُمُونِ) من أن ترجموني أي تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني ، وروي هذا عن قتادة وجماعة قيل : لما قال : أن لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل فقال ذلك ، وفي البحر أن هذا كان قبل أن يخبره عزوجل بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه : فلا يصلون إليكما والجملة عطف على الجملة المستأنفة ، وقرأ أبو عمرو والأخوان عت بإدغام الذال في التاء (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضوا لي بسوء فليس ذلك جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلاحكم ، وقيل : المعنى وإن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا واقطعوا أسباب الوصلة عني ، ففي الكلام حذف الجواب وإقامة المسبب عنه مقامه والأول أوفق بالمقام ، والاعتزال عليه عبارة عن الترك وإن لم تكن مفارقة بالأبدان (فَدَعا رَبَّهُ) بعد أن أصروا على تكذيبه عليه‌السلام (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي بأن هؤلاء إلخ فهو بتقدير الباء صلة الدعاء كما يقال دعا بهذا الدعاء ، وفيه اختصار كأنه قيل : إن هؤلاء قوم مجرمون تناهى أمرهم في الكفر وأنت

١٢٠