روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

يكون بها الحق سمع عبده وبصره وجميع قواه لم يقدر على سماع الخطاب فدك ، واعلم أن حديث الحق سبحانه للخلق لا يزال أبدا غير أن من الناس من يفهم أنه حديث كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول : ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق سبحانه معه وكان شيخنا يقول : كان عمر من أهل السماع المطلق الذي يحدثهم الله تعالى في كل شيء ولكن له ألقاب وهو أنه إن أجابوه به تعالى فهو حديث وإن أجابوه بهم فهي محادثة وان سمعوا حديثه سبحانه فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام ، وقد ورد في المتهجدين انهم أهل المسامرة فقد علمت أن الوحي ما يلقيه الله تعالى في قلوب خواص عباده على جهة الحديث فيحصل لهم من ذلك علم بأمر ما فإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب فإن بعض الناس يجدون في قلوبهم علما بأمر ما مثل العلوم الضرورية عند الناس فهو علم صحيح لكن ليس صادرا عن خطاب وكلامنا إنما هو في الخطاب الإلهي والمسمى وحيا فإن الله تعالى جعل هذا الصنف من الوحي كلاما يستفيد به العلم من جاء له.

واعلم أنه لا ينزل على قلوب الأولياء من وحي الإلهام إلا دقائق ممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة لأن الملك لا ينزل بوحي على غير نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي قطعا لأن الشريعة قد استقرت فلم يبق إلا وحي المبشرات وهو الوحي الأعم ويكون من الحق إلا العبد من غير واسطة ويكون أيضا بواسطة والنبوة من شأنها الواسطة فلا بد من واسطة الملك فيها لكن الملك لا يكون حال إلقائه ظاهرا بخلاف الأنبياء عليهم‌السلام فإنهم يرون الملك حال الكلام والولي لا يشهد الملك إلا في غير حال الإلقاء فإن سمع كلامه لم يره وإن رآه لا يكلمه فالعارفون لا ينالون ما فاتهم من النبوة مع بقاء المبشرات عليهم إلا أن الناس يتفاضلون فمنهم من لا يبرح في بشارة الواسطة ومنهم من يرتفع عنها كالأفراد فإن لهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات ولهذا ينكر عليهم الأحكام لأنهم ضاهوا الأنبياء من حيث كونهم يعلمون بما يرونه من تعريفات الحق لهم كأنه شريعة مستقلة في الظاهر وليس ذلك بشريعة إنما هو بيان لها فالمنقطع إنما هو وحي التشريع لا غير أما التعريف لأمور مجملة في السنة فهو باق لهذه الأمة ليكونوا على بصيرة فيما يدعون الناس إليه لأنه خبر إلهي وأخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب على هذا الملهم ، ولا يكون الإلهام إلا في الخير و (فَأَلْهَمَها فُجُورَها) [الشمس : ٨] على معنى إلهامها إياه لتجتنبه كما إلهامها تقواها لتعمل بها ، وأكمل الإلهام أن يلهم اتباع الشرع والنظر في الكتب الإلهية ويقف عند حدودها وأوامرها حتى يزول صدى طبيعته وتنتقش فيها صور العالم ، وأما قوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي إليه فيفهم منه ما قصده من يسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي فتخاطبه تلك الصورة وهي عين الحجاب فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ويعلم أن ذلك حجاب وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب وكل من أدرك صورة التجلي الإلهي يعلم أن ذلك هو الله تعالى فما يزيد صاحب هذا الحال على غيره إلا بمعرفته أن المخاطب له من وراء الحجاب.

وأما قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) فهو ما ينزل به الملك أو ما يجيء به الرسول البشري إلينا إذا نقلا كلام الله تعالى خاصة كالتالين فإن نقلا علما وجداه في أنفسهما وأفصحا عنه فذلك ليس بكلام إلهي ، ومن الأولياء من يعطي الترجمة عن الله سبحانه في حال الإلقاء والوحي الخاص بكل إنسان فيكون المترجم موجدا لصور الحروف اللفظية أو المرقومة ويكون روح تلك الصور كلام الله عزوجل لا غير ، وقد يقول الولي : حدثني قلبي عن ربي يعني به من الوجه الخاص فاعلم ذلك وتأمل ما قررته لك فإنه نفيس والله تعالى يتولى هداك ، وله قدس‌سره كلام كثير في هذا المقام تركناه خوف الإطالة ، ولعل فيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وهو ما

٦١

به الحياة الطيبة الأبدية (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) قبل الإيحاء.

قيل : أشير هذا الإيحاء في هذه النشأة وكان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل حال من أحواله فيها نوع من الوحي والدراية المنفية إذ كان عليه الصلاة والسلام في كينونته وقبل إخراجه منها بتجلي كينونته عزوجل وإلا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي ولا آدم ولا ماء ولا طين ولا يعقل نبي بدون إيحاء (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو التوحيد السليم من زوايا الأغيار ويشير إلى ذلك قوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) تمت السورة بتوفيق الله عزوجل والصلاة والسلام على أول نور أشرق من شمس الأزل وبها والحمد لله تعالى.

٦٢

سورة الزخرف

مكية كما روي عن ابن عباس وحكى ابن عطية إجماع أهل العلم على ذلك ولم ينقل استثناء ، وقال مقاتل : إلا قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) [الزخرف : ٤٥] فإنها نزلت ببيت المقدس كذا في مجمع البيان ، وفي الإتقان نزلت بالسماء ، وقيل : بالمدينة ، وعدد آيها ثمان وثمانون في الشامي وتسع وثمانون في غيره ، ووجه مناسبة مفتتحها لمختتم ما قبلها ظاهر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ

٦٣

يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(٢٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم) الكلام فيه على نحو ما مر في مفتتح يس (وَالْكِتابِ) أي القرآن والمراد به جميعه ، وجوز إرادة جنسه الصادق ببعضه وكله ، وقيل : يجوز أن يراد به جنس الكتب المنزلة أو المكتوب في اللوح أو المعنى المصدري وهو الكتابة والخط ، وأقسم سبحانه بها لما فيها من عظيم المنافع ولا يخفى ما في ذلك ، والأولى على تقدير اسمية (حم) كونه اسما للقرآن وإن يراد ذلك أيضا بالكتاب وهو مقسم به إما ابتداء أو عطفا على (حم) على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم على أن مدار العطف المغايرة في العنوان لكن يلزم على هذا حذف حرف الجر وإبقاء عمله كما في :

أشارت كليب بالأكف الأصابع

ومنع أن يقسم بشيئين بحرف واحد لا يلتفت إليه ومناط تكرير القسم المبالغة في تأكيد الجملة القسمية (الْمُبِينِ) أي المبين لمن أنزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليب كلامهم على أنه من أبان اللازم أو المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة الموضح لأصول ما يحتاج إليه في أبواب الديانة على أنه من أبان المتعدي.

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) جواب للقسم ، والجعل بمعنى التصيير المعدى لمفعولين لا بمعنى الخلق المعدى لواحد لا لأنه ينافي تعظيم القرآن بل لأنه يأباه ذوق المقام المتكلم فيه لأن الكلام لم يسبق لتأكيد كونه مخلوقا وما كان إنكارهم متوجها عليه بل هو مسوق لإثبات كونه قرآنا عربيا مفصلا واردا على أساليبهم لا يعسر عليهم فهم ما فيه ودرك كونه معجزا كما يؤذن به قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تفهموه وتحيطوا بما فيه من النظر الرائق والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية او لقسم بالقرآن على ذلك من الإيمان الحسنة البديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به ولا أهم من وصفه فيقسم عليه كما قال أبو تمام :

وثناياك إنها اغريض

ولآل قوم وبرق وميض

بناء على أن جواب القسم قوله : إنها اغريض ، واستدل بالآية على أن القرآن مخلوق وأطالوا الكلام في ذلك ، وأجيب بأنه إن دل على المخلوقية فلا يدل على أكثر من مخلوقية الكلام اللفظي ولا نزاع فيها.

وأنت تعلم أن الحنابلة ينازعون في ذلك ولهم عن الاستدلال أجوبة مذكورة في كتبهم ، وأخرج ابن مردويه عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس من حضرموت فقال له : يا ابن عباس أخبرني عن القرآن أكلام من كلام الله تعالى أم خلق من خلق الله سبحانه قال : بل كلام من كلام الله تعالى أو ما سمعت الله سبحانه يقول : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] فقال له الرجل أفرأيت قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) قال : كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ بالعربية أما سمعت الله تعالى يقول : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) فتأمل فيه (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي في اللوح المحفوظ على ما ذهب إليه جمع فإنه أم الكتب السماوية أي أصلها لأنها كلها منقولة منه ، وقيل : (أُمِّ الْكِتابِ) العلم الأزلي ، وقيل: الآيات المحكمات والضمير. لحم. أو للكتاب بمعنى السورة أي إنها واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم وهو كما ترى.

٦٤

وقرأ الأخوان «إم» بكسر الهمزة لاتباع الميم أو (الْكِتابِ) فلا تكسر في عدم الوصل (لَدَيْنا) أي عندنا (لَعَلِيٌ) رفيع الشان بين الكتب لإعجازه واشتماله على عظيم الأسرار (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينتسخه غيره أو حاكم على غيره من الكتب وهما خبران لإن ، وفي (أُمِّ الْكِتابِ) قيل متعلق بعلي واللام لما فارقت محلها وتغيرت عن أصلها بطلت صدارتها فجاز تقديم ما في حيزها عليها أو حال منه لأنه صفة نكرة تقدمتها أو من ضميره المستتر و (لَدَيْنا) بدل من (أُمِّ الْكِتابِ) وهما وإن كانا متغايرين بالنظر إلى المعنى متوافقان بالنظر إلى الحاصل أو حال منه أو من الكتاب فإن المضاف في حكم الجزء لصحة سقوطه ، ولعل المختار كون الظرفين في موضع الخبر لمبتدإ محذوف والجملة مستأنفة لبيان محل الحكم كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب ولدينا ، ولم يجوزوا كونهما في موضع الخبر لإن لدخول اللام في غيرهما.

وأيا ما كان فالجملة المؤكدة إما عطف على الجملة المقسم عليها داخلة في حكمها وإما مستأنفة مقررة لعلو شأن القرآن الذي أنبأ الإقسام به على منهاج الاعتراض في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وبعد ما بين سبحانه علو شأن القرآن العظيم وحقق جل وعلا أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب سبحانه ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه فقال جل شأنه : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أي أفننحيه ونبعده عنكم على سبيل الاستعارة التمثيلية من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض شبه حال الذكر وتنحيته بحال غرائب الإبل وذودها عن الحوض إذا دخلت مع غيرها عند الورد ثم استعمل ما كان في تلك القصة هاهنا ، وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم كأنه يتهافت عليهم ، ولو جعل استعارة في المفرد بجعل التنحية ضربا جاز ومن ذلك قول طرفة :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسيف قونس الفرس

وقول الحجاج في خطبته يهدد أهل العراق : لأضربنكم ضرب غرائب الإبل. و (الذِّكْرَ) قيل المراد به القرآن ويروي ذلك عن الضحاك وأبي صالح والكلام على تقدير مضاف أي إنزال الذكر وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر تفخيما ، وقيل : بل هو ذكر العباد بما فيه صلاحهم فهو بمعنى المصدر حقيقة ، وعن ابن عباس. ومجاهد ما يقتضيه ، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه على أحد الرأيين في مثل هذا التركيب أي أنهملكم فننحي الذكر عنكم ، وقال ابن الحاجب : الفاء لبيان ما قبلها وهو جعل القرآن عربيا سبب لما بعدها وهو إنكار أن يضرب سبحانه الذكر عنهم (صَفْحاً) أي إعراضا ، وهو مصدر لنضرب من غير لفظه فإن تنحية الذكر إعراض فنصبه على أنه مفعول مطلق على نهج قعدت جلوسا كأنه قيل : أفنصفح عنكم صفحا أو هو منصوب على أنه مفعول له أو حال مؤول بصافحين بمعنى معرضين ، وأصل الصفح أن تولي الشيء صفحة عنقك ، وقيل : إنه بمعنى الجانب فينتصب على الظرفية أن أفننحيه عنكم جانبا ، ويؤيده قراءة حسان بن عبد الرحمن الضبعي والسميط بن عمير وشبيل بن عذره «صفحا» بضم الصاد وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح كرسل جمع صفوح بمعنى صافحين ، وأبو حيان اختيار أن يكون مفردا بمعنى المفتوح كالسد والسد.

وحكي عن ابن عطية أن انتصاب صفحا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة فيكون العامل فيه محذوفا ، ولا يخفى أنه لا يظهر ذلك ، وأيا ما كان فالمراد إنكار أن يكون الأمر خلاف ما ذكر من إنزال كتاب على لغتهم ليفهموه (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي لأن كنتم منهمكين في الإسراف مصرين عليه على معنى أن الحكمة تقتضي ذكركم وإنزال القرآن عليكم فلا نترك ذلك لأجل أنكم مسرفون لا تلتفتون إليه بل نفعل التفتّم أم لا.

٦٥

وقيل : هو على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا في العذاب الخالد لكننا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين.

وقرأ نافع والاخوان «إن كنتم» بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية ، وإن وإن كانت تستعمل للمشكوك وإسرافهم أمر محقق لكن جيء بها هنا بناء على جعل المخاطب كأنه متردد في ثبوت الشرط شاك فيه قصدا إلى نسبته إلى الجهل بارتكابه الإسراف لتصويره بصورة ما يفرض لوجوب انتفائه وعدم صدوره ممن يعقل ، وقيل : لا حاجة إلى هذا لأن الشرط الإسراف في المستقبل وهو ليس بمتحقق ، ورد بأن إن الداخلة على كان لا تقلبه للاستقبال عند الأكثر ، ولذا قيل : (أَنْ) هنا بمعنى إذ. وأيد بأن علي بن زيد قرأ به وأنه يدل على التعليل فتوافق قراءة الفتح معنى ، ولو سلم فالظاهر من حال المسرف المصرّ على إسرافه بقاؤه على ما هو عليه فيكون محققا في المستقبل أيضا على القول بأنها تقلب كان كغيرها من الأفعال وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه ، وجوز أن يكون الشرط في موقع الحال أي مفروضا اسرافكم على أنه من الكلام المنصف فلا يحتاج إلى تقدير جواب.

وتعقب بأنه إنما يتأتى على القول بأن إن الوصلية ترد في كلامهم بدون الواو والمعروف في العربية خلافه.

وقوله عزوجل (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) تقرير لما قبله ببيان أن إسراف الأمم السالفة لم يمنعه تعالى من إرسال الأنبياء إليهم وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن استهزاء قومه به عليه الصلاة والسلام ، فقد قيل : البلية إذا عمت طابت ، و (كَمْ) مفعول (أَرْسَلْنا) و (فِي الْأَوَّلِينَ) متعلق به أو صفة (نَبِيٍ) وما يأتيهم إلخ للاستمرار وضميره للأولين ، وقوله تعالى : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) نوع آخر من التسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضمير (مِنْهُمْ) يرجع إلى المسرفين المخاطبين لا إلى ما يرجع إليه ضمير (ما يَأْتِيهِمْ) لقوله تعالى : (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي سلف في القرآن غير مرة ذكر قصتهم التي حقها أن تسير مسير المثل ، ونصب (بَطْشاً) على التمييز وجوز كونه على الحال من فاعل (فَأَهْلَكْنا) أي باطشين ، والأول أحسن ، ووصف أولئك بالأشدية لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية ، وقوله تعالى :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) عطف على الخطاب السابق والآيتان أعني قوله تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنا) اعتراض لإفادة التقرير والتسلية كما سمعت ، والمراد ولئن سألتهم من خلق العالم ليسندن خلقه إلى من هو متصف بهذه الصفات في نفس الأمر لا أنهم يقولون هذه الألفاظ ويصفونه تعالى بما ذكر من الصفات ذكره الزمخشري فيما نسب إليه. وهذا حسن وله نظير عرفا وهو أن واحدا لو أخبرك أن الشيخ قال كذا وعنى بالشيخ شمس الأئمة ثم لقيت شمس الأئمة فقلت : إن فلانا أخبرني أن شمس الأئمة قال : كذا مع أن فلانا لم يجر على لسانه إلا الشيخ ولكنك تذكر ألقابه وأوصافه فكذا هاهنا الكفار يقولون : خلقهن الله لا ينكرون ثم إن الله عزوجل ذكر صفاته أي إن الله تعالى الذي يحيلون عليه خلق السموات والأرض من صفته سبحانه كيت وكيت ، وقال ابن المنير : إن (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) من كلام المسئولين وما بعد من كلامه سبحانه. وفي الكشف لا فرق بين ذلك الوجه وهذا في الحاصل فإنه حكاية كلام عنهم متصل به كلامه تعالى على أنه من تتمته وإن لم يكن قد تفوهوا به ، وهذا كما يقول مخاطبك : أكرمني زيد فنقول : الذي أكرمك وحياك أو لجماعة آخرين حاضرين الذي أكرمكم وحياكم فإنك تصل كلامه على أنه من تتمته ولكن لا تجعله من مقوله ، والأظهر من حيث اللفظ ما ذكره ابن المنير وحينئذ يقع الالتفات في (فَأَنْشَرْنا) بعد موقعه ، ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢] إلى قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) [طه : ٥٣] وفي إعادة الفعل في الجواب اعتناء بشأنه ومطابقته للسؤال

٦٦

من حيث المعنى على ما زعم أبو حيان لا من حيث اللفظ قال : لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ لكان بالاسم مبتدأ دون الفعل بأن يقال : العزيز العليم خلقهن (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) مكانا ممهدا أي موطأ ومآله بسطها لكم تستقرون فيها ولا ينافي ذلك كريتها لمكان العظم ، وعن عاصم أنه قرأ «مهدا» بدون ألف (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) طرقا تسلكونها في أسفاركم (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بمقدار تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ولا يعلم مقدار ما ينزل من ذلك في كل سنة على التحقيق إلا الله عزوجل ، والآلة التي صنعها الفلاسفة في هذه الأعصار المسماة بالأودوميتر يزعمون أنه يعرف بها مقدار المطر النازل في كل بلد من البلاد في جميع السنة لا تفيد تحقيقا في البقعة الواحدة الصغيرة فضلا عن غيرها كما لا يخفى على المنصف. وفي البحر بقدر أي بقضاء وحتم في الأزل ، والأول أولى (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أي أحيينا بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً) خالية عن النماء والنبات بالكلية.

وقرأ أبو جعفر وعيسى «ميّتا» بالتشديد ، وتذكيره لأن البلدة في معنى البلد والمكان ، قال الجلبي : لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير (مَيْتاً) إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية ، وفي الكلام استعارة مكنية أو تصريحية.

والالتفات في (أنشرنا) إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الانشار الذي هو في الحقيقة إخراج من الأرض وهو صفة مصدر محذوف أي انشارا كذلك (تُخْرَجُونَ) أي تبعثون من قبوركم أحياء ، وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث ، وفي ذلك من الرد على منكريه ما فيه.

وقرأ ابن وثاب وعبد الله بن جبير وعيسى وابن عامر والأخوان «تخرجون» مبينا للفاعل.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي أصناف المخلوقات فالزوج هنا بمعنى الصنف لا بمعناه المشهور ، وعن ابن عباس الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى ، وقيل : كل ما سوى الله سبحانه زوج لأنه لا يخلو من المقابل كفوق وتحت ويمين وشمال وماض ومستقبل إلى غير ذلك والفرد المنزع عن المقابل هو الله عزوجل ، وتعقب بأن دعوى اطراده في الموجودات بأسرها لا تخلو عن النظر.

ولعل من قال : كل ما سوى الله سبحانه زوج لم يبن الأمر على ما ذكر وإنما بناه على أن الواجب جلّ شأنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه سبحانه بوجه من الوجوه لا عقلا ولا خارجا ولا كذلك شيء من الممكنات مادية كانت أو مجردة (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي ما تركبونه ، فما موصولة والعائد محذوف ، والركوب بالنظر إلى الفلك يتعدى بواسطة الحرف وهو في كما قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) [العنكبوت : ٦٥] بخلافه لا بالنظر إليه فإنه يتعدى بنفسه كما قال سبحانه : (لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨] إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة فالتجوز الذي يقتضيه التغليب بالنسبة إلى المتعلق أو غلب المخلوق للركوب على المصنوع له لكونه مصنوع الخالق القدير أو الغالب على النادر فالتجوز في (ما) وضميره الذي تعدى الركوب إليه بنفسه دون النسبة إلى المفعول ولتغليب ما ركب من الحيوان على الفلك (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) حيث عبر عن القرار على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير. لما تركبون. وأفرد رعاية للفظ ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه ، والظاهر أن لام (لِتَسْتَوُوا) لام كي ، وقال الحوفي : من أثبت لا بالصيرورة جاز له أن

٦٧

يقول به هنا ، وقال ابن عطية : هي لام الأمر ، وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب ، وقد اختلف في أمره فقيل : إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحفظ إلا في قراءة شاذة نحو «فبذلك فلتفرحوا» (١) أو شعر نحو قوله :

لتقم أنت يا بن خير قريش

وما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام : لتأخذوا مصافكم يحتمل أنه من المروي بالمعنى ، وقال الزجاج : إنها لغة جيدة ، وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين.

(ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم على ما قال الزمخشري ، وحاصله أن الذكر يتضمن شعور القلب والمرور على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكرا باللسان مع شعور من القلب ، وأما الاعتراف والاستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الإحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وإن كان ذلك التقرير سديدا أيضا ، ومنه يظهر إيثاره على ثم تحمدوا إذا استويتم ، ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى.

ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمر عجيب قال سبحانه : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي وتقولوا سبحان الذي ذلّله وجعله منقادا لنا متعجبين من ذلك ، وليس الإشارة للتحقير بل تصوير الحال وفيها مزيد تقرير لمعنى التعجب ، والكلام وإن كان إخبارا على ما سمعت أولا يشعر بالطلب.

أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مجلز قال : رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلا ركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا فقال : أو بذلك أمرت؟ فقال : فكيف أقول؟ قال : الحمد لله الذي هدانا للإسلام الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحمد لله الذي جعلني في خير أمة أخرجت للناس ثم تقول : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ـ إلى ـ مُقْرِنِينَ) وهذا يومئ إلى أن ليس المراد من النعمة نعمة التسخير ، وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الإسلام.

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ثلاثا والله أكبر ثلاثا سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له : مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت : يا رسول الله مم ضحكت؟ فقال : يتعجب الرب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ، وفي حديث أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون ، وفي حديث أخرجه أحمد. وغيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله تعالى إذا ركبتموه كما أمركم ، وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك ، وذكر بعضهم أنه يقال : إذا ركبت السفينة (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) ـ إلى ـ (رَحِيمٌ) [هود : ٤١] ويقال : عند النزول منها «اللهم أنزلنا

__________________

(١) في سورة يونس ، الآية : ٥٨ «فبذلك فليفرحوا».

٦٨

منزلا مباركا وأنت خير المنزلين» (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين ، وأنشد قطرب لعمرو بن معديكرب :

لقد علم القبائل ما عقيل

لنا في النائبات بمقرنينا

وهو من أقرن الشيء إذا أطاقه ، قال ابن هرمة :

وأقرنت ما حملتني ولقلما

يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر

وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف ألا ترى إلى قولهم في الضعيف لا تقرن به الصعبة ، والقرن الحبل الذي يقرن به ، قال الشاعر :

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما يضبط به الدابة والفلك وإنما الله تعالى هو الذي سخر ذلك وضبطه لنا.

أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا : سبحانه الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وكان فيهم رجل له ناقة رزام فقال : أما أنا فلهذه مقرن فقمصت به فصرعته فاندقت عنقه ، وقرئ «مقرّنين» بتشديد الراء مع فتحها وكسرها وهما بمعنى المخفف.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي راجعون ، وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من السير ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ولا يأتي بما ينافيها ، ومن ضرورة ذلك أن يكون ركوبه لأمر مشروع ، وفيه إشارة إلى أن الركوب مخطرة فلا ينبغي أن يغفل فيه عن تذكر الآخرة.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) متصل بقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) إلى آخره فهو حال من فاعل (لَيَقُولُنَ) بتقدير قد أو بدونه ، والمراد بيان أنهم مناقضون مكابرون حيث اعترفوا بأنه عزوجل خالق السموات والأرض ثم وصفوه سبحانه بصفات المخلوقين وما يناقض كونه تعالى خالقا لهما فجعلوا له سبحانه جزءا وقالوا : الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وعبر عن الولد بالجزء لأنه بضعة ممن هو ولد له كما قيل : أولادنا أكبادنا ، وفيه دلالة على مزيد استحالته على الحق الواحد الذي لا يضاف إليه انقسام حقيقة ولا فرضا ولا خارجا ولا ذهنا جلّ شأنه وعلا ، ولتأكيد أمر المناقضة لم يكتف بقوله تعالى : (جُزْءاً) وقيل (مِنْ عِبادِه) لأنه يلزمهم على موجب اعترافهم أن يكون ما فيهما مخلوقه تعالى وعبده سبحانه إذ هو حادث بعدهما محتاج إليهما ضرورة.

وقيل : الجزء اسم للإناث يقال : أجزأت المرأة إذ ولدت أنثى ، وأنشد قول الشاعر :

إن أجزأت حرة يوما فلا عجب

قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا

وقوله :

زوجتها من بنات الأوس مجزئة

للعوسج اللدن في أنيابها زجل

وجعل ذلك الزمخشري من بدع التفاسير وذكر أن ادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث كذب عليهم ووضع مستحدث منخول وأن البيتين مصنوعان ، وقال الزجاج : في البيت الأول لا أدري قديم أم مصنوع.

ووجه بعضهم ذلك بأن حواء خلقت من جزء آدم عليه‌السلام فاستعير لكل الإناث.

٦٩

وقرأ أبو بكر عاصم «جزأ» بضمتين ، ثم للكلام وإن سيق للفرض المذكور يفهم منه كفرهم لتجسيم الخالق تعالى والاستخفاف به جلّ وعلا حيث جعلوا له سبحانه أخس النوعين بل إثبات ذلك يستدعي الأماكن المؤذن بحدوثه تعالى فلا يكون إلها ولا بارئا ولا خالقا تعالى عما يقولون وسبحانه عما يصفون ، وليس الكلام مساقا لتعديد الكفران كما قيل. وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) لا يقتضيه فإن المراد المبالغة في كفران النعمة وهي في إنكار الصانع أشد من المبالغة في كفرهم به كما أشير إليه ، و (مُبِينٌ) من أبان اللازم أي ظاهر الكفران ، وجوز أن يكون من المتعدي أي مظهر كفرانه (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ أَمِ) مقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال والهمزة للإنكار والتعجيب من شأنهم ، وقوله تعالى : (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) إما عطف على «اتخذ» داخل في حكم الإنكار والتعجب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه ، والالتفات إلى خطابهم لتشديد الإنكار أي بل اتخذ سبحانه من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما على معنى هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه سبحانه جائزة فرضا أما تفطنتم لما ارتكبتم من الشطط في القسمة وقبح ما ادعيتم من أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك له جلّ شأنه شرهما وأدناهما فما أنتم إلا في غاية الجهل والحماقة ، وتنكير بنات وتعريف البنين لقرينة ما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة ، وقوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) قيل : حال وارتضاه العلامة الثاني على معنى أنهم نسبوا إليه تعالى ما ذكروا من حالهم أن أحدهم إذا بشر به اغتم ، وقيل : استئناف مقرر لما قبله ، وجوز عطفه على ما قبله وليس بذاك. والالتفات للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنه وتحكي لغيرهم تعجيبا ، والجملة الاسمية في موضع الحال أي إذا أخبر أحدهم بجنس ما جعله مثلا للرحمن جل شأنه وهو جنس الإناث لأن الولد لا بد أن يجانس الولد ويماثله صار وجهه أسود في الغاية لسوء ما بشر به عنده والحال هو مملوء من الكرب والكآبة ، وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت :

ما لأبي حمزة لا يأتينا

يظل في البيت الذي يلينا

غضبان أن لا نلد البنينا

وليس لنا من أمرنا ما شينا

وإنما نأخذ ما أعطينا

وقرئ «مسودّ» بالرفع و «مسواد» بصيغة المبالغة من اسواد كاحمار مع الرفع أيضا على أن في (ظَلَ) ضمير المبشر ووجهه مسود أو مسواد جملة واقعة موقع الخبر ، والمعنى صار المبشر مسود الوجه وقيل : الضمير المستتر في (ظَلَ) ضمير الشأن والجملة خبرها ، وقيل : الفعل تام والجملة حالية والوجه ما تقدم ، وقوله تعالى :

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) تكرير للإنكار و (مَنْ) منصوبة المحل بمضمر معطوف على (جَعَلُوا) وهناك مفعول محذوف أيضا أي أو جعلوا له تعالى من شأنه أن يتربى في الزينة وهن البنات كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : ولذا فالهمزة لإنكار الواقع واستقباحه.

وجوز انتصاب (مَنْ) بمضمر معطوف على (اتَّخَذَ) فالهمزة حينئذ لإنكار الوقوع واستبعاده ، واقحامها بين المعطوفين لتذكير ما في أم المنقطعة من الإنكار ، والعطف للتغاير العنواني أي أو اتخذ سبحانه من هذه الصفة الذميمة ولدا (وَهُوَ) مع ما ذكر من القصور (فِي الْخِصامِ) أي الجدال الذي لا يكاد يخلو عنه إنسان في العادة (غَيْرُ مُبِينٍ) غير قادر على تقرير دعواه وإقامته حجته لنقصان عقله وضعف رأيه ، والجار متعلق بمبين ، وإضافة (غَيْرُ) لا تمنع عمل ما بعدها فيه لأنه بمعنى النفي فلا حاجة لجعله متعلقا بمقدر ، وجوز كون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من حاله كيت وكيت ولده عزوجل ، وجعل بعضهم خبره جعلوه ولدا لله سبحانه وتعالى أو اتخذه جلّ وعلا ولدا ، وعن ابن زيد

٧٠

أن المراد بمن ينشأ في الحلية الأصنام قال : وكانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة ويجعلون الحلي على كثير منها ، وتعقب بأنه يبعد هذا القول قوله تعالى : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإبانة كقوله :

على لاحب لا يهتدى بمناره

وعندي أن هذا القول بعيد في نفسه وأن الكلام أعني قوله سبحانه : (أَمِ اتَّخَذَ) إلى هنا وارد لمزيد الإنكار في أنهم قوم من عادتهم المناقضة ورمي القول من غير علم ، وفي المجيء بأم المنقطعة وما في ضمنها من الإضراب دليل على أن معتمد الكلام إثبات جهلهم ومناقضتهم لا إثبات كفرهم لكنه يفهم منه كما سمعت وتسمع إن شاء الله تعالى ، وقرأ الجحدري في رواية «ينشأ» مبنيا للمفعول مخففا ، وقرأ الحسن في رواية أيضا «يناشأ» على وزن يفاعل مبنيا للمفعول. والمناشاة بمعنى الإنشاء كالمغالاة بمعنى الإغلاء ، وقرأ الجمهور «ينشأ» مبنيا للفاعل ، والآية ظاهرة في أن النشوء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام وأنه من صفات ربات الحجال فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه ويربأ بنفسه عنه ويعيش كما قال عمر رضي الله تعالى عنه : اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى ، وقوله تعالى :

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي سموا وقالوا : إنهم إناث ، قال الزجاج : الجعل في مثله بمعنى القول والحكم على الشيء تقول : جعلت زيدا أعلم الناس أي وصفته بذلك وحكمت به ، واختار أبو حيان أن المعنى صيروهم في اعتقادهم إناثا اعتراض وارد لإثبات مناقضتهم أيضا وادعاء ما لا علم لهم به المؤيد لجعله معتمد الكلام على ما سبق آنفا فإنهم أنثوهم في هذا المعتقد من غير استناد إلى علم فارشد إلى أن ما هم عليه من إثبات الولد مثل ما هم عليه من تأنيث الملائكة عليهم‌السلام في أنهما سخف وجهل كانا كفرين أولا ، نعم هما في نفس الأمر كفران ، أما الأول فظاهر. وأما الثاني فللاستخفاف برسله سبحانه أعني الملائكة وجعلهم أنقص العباد رأيا وأخسهم صنفا وهم العباد المكرمون المبرءون من الذكورة والأنوثة فإنهما من عوارض الحيوان المتغذي المحتاج إلى بقاء نوعه لعدم جريان حكمة الله تعالى ببقاء شخصه وليس ذلك عطفا على قوله سبحانه : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) لما علمت من أن الجملة في موضع الحال من فاعل (لَيَقُولُنَ) ولا يحسن بحسب الظاهر أن يقال. (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وقد جعلوا الملائكة إناثا ، وقرئ «عبيد» جمع عبد وكذا «عباد» وقيل : عباد جمع عابد كصائم وصيام وقائم وقيام ، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والابنان ونافع «عند الرحمن» ظرفا وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة ، والكلام على الاستعارة في المشهور لاستحالة العندية المكانية في حقه سبحانه ، وقرأ أبي عبد الرحمن بالباء مفرد عباد ، والمعنى على الجمع بإرادة الجنس.

وقرأ الأعمش «عباد» بالجمع والنصب حكاها ابن خالويه وقال : هي في مصحف ابن مسعود كذلك ، وخرج أبو حيان النصب على إضمار فعل أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن ، وقرأ زيد بن علي «أنثا» بضمتين ككتب جمع إناثا فهو جمع الجمع ، وعلى جميع القراءات الحصر إذا سلّم إضافي فلا يتم الاستدلال به على أفضلية الملك على البشر.

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم فشاهدوهم إناثا حتى يحكموه بأنوثتهم فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة ، وهذا كقوله تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) [الصافات : ١٥٠] وفيه تجهيل لهم وتهكم بهم ، وإنما لم يتعرض لنفي الدلائل النقلية لأنها في مثل هذا المطلب مفرعة على القول بالنبوة وهم الكفرة الذين لا يقولون بها ولنفي الدلائل العقلية لظهور انتفائها والنفي المذكور أظهر في التهكم فافهم ، وقرأ نافع «أأشهدوا» بهمزة

٧١

داخلة على أشهد الرباعي المبني للمفعول ، وفي رواية أنه سهل هذه الهمزة فجعلها بين الهمزة والواو وهي رواية عن أبي عمرو ، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس ومجاهد ، وفي أخرى أنه سهلها وأدخل بينها وبين الأولى ألفا كراهة اجتماع همزتين ونسبت إلى جماعة ، والاكتفاء بالتسهيل أوجه ، وقرأ الزهري وناس «أشهدوا» بغير استفهام مبنيا للمفعول رباعيا فقيل المعنى على الاستفهام نحو قوله :

قالوا تحبها قلت بهرا

وهو الظاهر ، وقيل : على الاخبار ، والجملة صفة (إِناثاً) وهم وإن لم يشهدوا خلقهم لكن نزلوا لجراءتهم على ذلك منزلة من أشهد أو المراد أنهم أطلقوا عليهم الإناث المعروفات لهم اللاتي أشهدوا خلقهن لا صنفا آخر من الإناث ؛ ولا يخفى ما في كلا التأويلين من التكلف (سَتُكْتَبُ) في ديوان أعمالهم (شَهادَتُهُمْ) التي شهدوا بها على الملائكة عليهم‌السلام ، وقيل : سألهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدريكم أنهم إناث فقالوا : سمعنا ذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال الله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) عنها يوم القيامة ، والكلام وعيد لهم بالعقاب والمجازاة على ذلك والسين للتأكيد ، وقيل : يجوز أن تحمل على ظاهرها من الاستقبال ويكون ذلك إشارة إلى تأخير كتابة السيئات لرجاء التوبة والرجوع كما ورد في الحديث إن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أراد أن يكتبها قال له : توقف فيتوقف سبع ساعات فإن استغفر وتاب لم يكتب فلما كان ذلك من شأن الكتابة قرنت بالسين ، وكونهم كفارا مصرين على الكفر لا يأباه. وقرأ الزهري «سيكتب» بالياء التحتية مبنيا للمفعول ، وقرأ الحسن كالجمهور إلا أنه قرأ «شهاداتهم» بالجمع وهي قولهم : إن لله سبحانه جزء وإن له بنات وإنها الملائكة ، وقيل : المراد ما أريد بالمفرد والجمع باعتبار التكرار ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجحدري والأعرج «سنكتب» بالنون مبنيا للفاعل «شهادتهم» بالنصب والإفراد.

وقرأت فرقة «سيكتب» بالياء التحتية مبنيا للفاعل وبإفراد «شهادتهم» ونصبها أي سيكتب الله تعالى شهادتهم.

وقرئ «يسّاءلون» من المفاعلة للمبالغة (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) عطف على قوله سبحانه : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ) إلخ إشارة إلى أنه من جنس ادعائهم أنوثة الملائكة في أنهم قالوه من غير علم ، ومرادهم بهذا القول على ما قاله بعض الأجلة الاستدلال بنفي مشيئة الله تعالى ترك عبادة الملائكة عليهم‌السلام على امتناع النهي عنها أو على حسنها فكأنهم قالوا : إن الله تعالى لم يشأ ترك عبادتها الملائكة ولو شاء سبحانه ذلك لتحقق بل شاء جل شأنه العبادة لأنها المتحققة فتكون مأمورا بها أو حسنة ويمتنع كونها منهيا عنها أو قبيحة ، وهو استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا فلذلك جهلوا بقوله سبحانه : (ما لَهُمْ بِذلِكَ) القول على الوجه الذي قصدوه منه ، وحاصله يرجع إلى الإشارة إلى زعمهم أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها أو حسن ما تعلقت به (مِنْ عِلْمٍ) يستند إلى سند ما.

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يكذبون كما فسره به غير واحد ، ويطلق الخرص على الحزر وهو شائع بل قيل : إنه الأصل وعلى كل هو قول عن ظن وتخمين ، وقوله تعالى :

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) إضراب عن نفي أن يكون لهم بذلك علم من طريق العقل إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل ؛ فأم منقطعة لا متصلة معادلة لقوله تعالى : (أَشَهِدُوا) كما قيل لعبده

٧٢

وضمير (قَبْلِهِ) للقرآن لعلمه من السياق أو الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسين مستمسكون للتأكيد لا للطلب أي بل آتيناهم كتابا من قبل القرآن أو من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينطق بصحة ما يدعونه فهم بذلك الكتاب متمسكون وعليه معولون ، وقوله جلّ وعلا :

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) إبطال لأن يكون لهم حجة أصلا أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم ، والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي كالرحلة للرجل العظيم الذي يقصد في المهمات يقال : فلان لا أمة له أي لا دين ولا نحلة ، قال الشاعر : وهل يستوي ذو أمة وكفور. وقال قيس بن الحطيم :

كنا على أمة آبائنا

ويقتدي بالأول الآخر

وقال الجبائي : الأمة الجماعة والمراد وجدنا آباءنا متوافقين على ذلك ، والجمهور على الأول وعليه المعول ، ويقال فيها إمة بكسر الهمزة أيضا وبها قرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والجحدري.

وقرأ ابن عياش «أمّة» بفتح الهمزة ، قال في البحر : أي على قصد وحال ، و (عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) قيل خبران لأن ، وقيل : (عَلى آثارِهِمْ) صلة (مُهْتَدُونَ) و (مُهْتَدُونَ) هو الخبر ، هذا وجعل الزمخشري الآية دليلا على أنه تعالى لم يشإ الكفر من الكافر وإنما شاء سبحانه الإيمان ، وكفر أهل السنة القائلين بأن المقدورات كلها بمشيئة الله تعالى ، ووجه ذلك بأن الكفار لما ادعوا أنه تعالى شاء منهم الكفر حيث قالوا : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ) إلخ أي لو شاء جل جلاله منا أن نترك عبادة الأصنام تركناها رد الله تعالى ذلك عليهم وأبطل اعتقادهم بقوله سبحانه : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) إلخ فلزم حقيقة خلافه وهو عين ما ذهب إليه ، والجملة عطف على قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أو على (جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ) إلخ فيكون ما تضمنته كفرا آخر ويلزمه كفر القائلين بأن الكل بمشيئته عزوجل ، ومما سمعت يعلم رده ، وقيل : في رده أيضا : يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أصل الدعوى وهو جعل الملائكة عليهم‌السلام بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا دون ما قصدوه من قولهم : (لَوْ شاءَ) إلخ وما ذكر بعد أصل الدعوى من تتمتها فإنه حكاية شبهتهم المزيفة لأن العبادة للملائكة وإن كانت بمشيئته تعالى لكن ذلك لا ينافي كونها من أقبح القبائح المنهي عنها وهذا خلاف الظاهر.

وقال بعض الأجلة : إن كفرهم بذلك لأنهم قالوه على جهة الاستهزاء ، ورده الزمخشري بأن السياق لا يدل على أنهم قالوه مستهزءين ؛ على الله تعالى قد حكى عنهم على سبيل الذم والشهادة بالكفر أنهم جعلوا له سبحانه جزءا وأنه جلّ وعلا اتخذ بنات واصطفاهم بالبنين وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا وأنهم عبدوهم وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء لكان النطق بالمحكيات قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدوا بالنطق به مدحا لهم من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء فبقي أن يكونوا جادين ويشترك كلها في أنها كلمات كفر ، فإن جعلوا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله فما بهم إلا تعويج كتاب الله تعالى ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزأ لم يكن لقوله سبحانه : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) إلخ معنى لأن الواجب فيمن تكلم بالحق استهزاء أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب ، ولا يخفى أن رده بأنه لا يدل عليه السياق صحيح ، وأما ما ذكر من حكاية الله سبحانه والتعويج فلا لأنه تعالى ما حكى عنهم قولا أولا بل أثبت لهم اعتقادا يتضمن قولا أو فعلا وقد بين أنهم مستخفون في ذلك العقد كما أنهم مستخفون في هذا القول فقوله : لو نطقوا إلخ لا مدخل له في السابق وليس

٧٣

فيه تعويج البتة من هذا الوجه وكذلك قوله : لم يكن لقوله تعالى : (ما لَهُمْ) إلخ معنى مردود لأن الاستهزاء باب من الجهل كما يدل عليه قول موسى عليه‌السلام (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقد تقدم في [البقرة : ٦٧] ، وأما الكذب فراجع إلى مضمونه والمراد منه كما سمعت فمن قال لا إله إلا الله استهزاء مكذب فيما يلزم من أنه إخبار عن إثبات التعدد لأنه إخبار عن التوحيد فافهم كذا في الكشف.

وفيه أيضا أن قولهم : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ) إلخ فهم منه كونه كفرا من أوجه. أحدها أنه اعتذار عن عبادتهم الملائكة عليهم‌السلام التي هي كفر وإلزام أنه إذا كان بمشيئته تعالى لم يكن منكرا.

والثاني أن الكفر والإيمان بتصديق ما هو مضطر إلى العلم بثبوته بديهة أو استدلالا متعلقا بالمبدإ والمعاد وتكذيبه لا بإيقاع الفعل على وفق المشيئة وعدمه.

والثالث أنهم دفعوا قول الرسول بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة ثم إنهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى شأنه فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم للعباد وشاء سبحانه جحودهم وشاء جلّ وعلا دخولهم النار فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى في مثله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] وفيه أنهم يعجزون الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا ما أمر سبحانه وبه ولا ينهى جل شأنه إلا وهو سبحانه لا يريده وهذا تعجيز من وجهين. إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه ؛ وهذا بعينه مذهب إخوانهم من القدرية ؛ ولهذه النكتة جعل قولهم : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) معتمد الكلام ولم يقل : وعبدوا الملائكة وقالوا : لو شاء ونظير قولهم في أنه إنما أتى به لدفع ما علم ضرورة قوله تعالى عنهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون : ٢٤] فالدفع كفر والتعجيز كفر في كفر ، وقوله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يحتمل أن يرجع إلى جميع ما سبق من قوله تعالى (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ) إلى هذا المقام ويحتمل أن يرجع إلى الأخير فقد ثبت أنهم قالوه من غير علم وهو الأظهر للقرب وتعقيب كل بإنكار مستقل وطباقه لما في الأنعام ، وقوله سبحانه : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) على هذا التكذيب المفهوم منه راجع إلى استنتاج المقصود من هذه اللزومية فقد سبق أنها عليهم لا لهم ولوح إلى طرف منه في سورة الأنعام أو إلى الحكم بامتناع الانفكاك مع تجويز الحاكم الانفكاك حال حكمه فإن ذلك يدل على كذبه وإن كان ذلك الحكم في نفسه حقا صحيحا يحق أن يعلم كما تقول زيد قائم قطعا أو البتة وعندك احتمال نقيضه.

وليس هذا رجوعا إلى مذهب من جعل الصدق بطباقه للمعتقد فافهم ، على أنه لما كان اعتذارا على ما مر صح أن يرجع التكذيب إلى أنه لا يصلح اعتذارا أي إنهم كاذبون في أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها ، وهذا ما آثره الإمام. والعلامة. والقاضي ، والظاهر ما قدمناه. وتعقيب الخرص على وجه البيان أو الاستئناف عن قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) في سورة الأنعام دليل على ما أشرنا فقد لاح للمسترشد أن الآية تصلح حجة لأهل السنة لا للمعتزلة ؛ وقال في آية سورة الأنعام : إن قولهم هذا إما لدعوى المشروعية ردا للرسل أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون ، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك.

ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم‌السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية ، وظاهر الآية مسوق

٧٤

لهذا المعنى ، والثاني على ما فيه من حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك فهو يؤكد دفع القدر لا أنه يحققه وإليه الإشارة بقوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩] ثم إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن العلم وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله سبحانه فرع العلم بذاته جل وعلا والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون ، ونقل العلامة الطيبي نحوا من الكلام الأخير عن إمام الحرمين عليه الرحمة في الإرشاد ا ه.

وقد أطال العلماء الأعلام الكلام في هذا المقام وأرى الرجل سقى الله تعالى مرقده صيب الرضوان قد مخض كل ذلك وأتى بزبده بل لم يترك من التحقيق شيئا لمن أتى من بعده فتأمل والله عزوجل هو الموفق.

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ(٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ)(٤٤)

(وَكَذلِكَ) أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة مطلقا وتشبثهم بذيل التقليد ، وقوله سبحانه : (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) استئناف مبين لذلك دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم لأسلافهم وأن متقدميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد (قالَ) حكاية لما

٧٥

جرى بين المنذرين وبين أممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أي قال : كل نذير من أولئك المنذرين لأمته (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم (بِأَهْدى) بدين أهدى (مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء ، وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الإنصاف.

وقرأ الأكثرون «قل» على أنه حكاية أمر ماض أوحي إلى كل نذير أي فقيل أو قلنا للنذير قل إلخ ، واستظهر في البحر كونه خطابا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والظاهر هو ما تقدم لقوله تعالى :

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فإنه ظاهر جدا في أنه حكاية عن الأمم السالفة أي قال كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلتم به إلخ وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما قرر في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١].

وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة والسلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر المنذرين وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجماعهم عليهم‌السلام عليه كما في نحو قوله تعالى : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٢٣] تمحل بعيد ، وأيضا يأباه ظاهر قوله سبحانه : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) فإن ظاهره كون الانتقام بعذاب الاستئصال وصاحب البحر يحمله على الانتقام بالقحط والقتل والسبي والجلاء.

وقرأ أبي وأبو جعفر وشيبة وابن مقسم والزعفراني وغيرهم «أو لو جئناكم» بنون المتكلمين وهي تؤيد ما ذهبنا إليه والأمر بالنظر فيما انتهى إليه حال المكذبين تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرشاد إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه إياه عليه الصلاة والسلام (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) أي واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام (لِأَبِيهِ) آزر (وَقَوْمِهِ) المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله :

(إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) وتمسك بالبرهان ، والكلام تمهيد لما أهل مكة فيه من العناد والحسد والإباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا أباهم الأفضل الأعلم الذي هم يفتخرون بالانتماء إليه وهو إبراهيم عليه‌السلام فكأنه بعد تعييرهم على التقليد يعيرهم على أنهم مسيئون في ترك اختياره أيضا. وبراء مصدر كالطلاق نعت به مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث.

وقرأ الزعفراني والقورصي عن أبي جعفر وابن المناذري عن نافع «براء» بضم الباء هو اسم مفرد كطوال وكرام بضم الكاف ، وقرأ الأعمش «بري» وهو وصف كطويل وكريم وقراءة العامة لغة العالية وهذه لغة نجد.

وقرأ الأعمش أيضا «إنّي» بنون مشددة دون نون الوقاية (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) استثناء متصل إن قلنا إن ما عامة لذوي العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام وليس هذا من الجمع بين الله تعالى وغيره سبحانه الذي يجب اجتنابه لما فيه من إيهام التسوية بينه سبحانه وبين غيره جل وعلا لظهور ما يدل على خلاف ذلك في الكلام أو منقطع بناء على أن ما مختصة بغير ذوي العلم وأنه لا يناسب التغليب أصلا وأنهم لم يكونوا يعبدونه تعالى أو أنهم كانوا يعبدونه عزوجل إلا أن عبادته سبحانه مع الشرك في حكم العدم ، وعلى الوجهين محل الموصول النصب ، وأجاز الزمخشري أن يكون في محل جر على أنه بدل من ما المجرور بمن ، وفيه بحث لأنه يصير استثناء من الموجب ولم يجوزوا فيه البدل ، ووجهه أنه في معنى النفي لأنه معنى (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) لا أعبد ما تعبدون فهو نظير قوله تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] إلا أن ذلك في المفرغ وهذا فيما ذكر فيه المستثنى منه وهم لا يخصونه بالمفرغ ولا بألفاظ مخصوصة أيضا كأبى وقلما ، نعم إن أبا حيان يأبى إلا أنه موجب ولا يعتبر النفي معنى ،

٧٦

وأجاز أيضا أن تكون (إِلَّا) صفة بمعنى غير على أن (ما) في ما (تَعْبُدُونَ) نكرة موصوفة والتقدير إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فهو نظير قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء: ٢٢] واعتبار ما نكرة موصوفة بناء على أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وكذا اعتبارها بمعنى الجمع بناء على اشتراط كون النكرة الموصوفة بها كذلك ، والمسألة خلافية ، فمن النحويين من قال إن ألا يوصف بها المعرفة والنكرة مطلقا وعليه لا يحتاج إلى اعتبار كون ما نكرة بمعنى آلهة ، وفي جعل الصلة (فَطَرَنِي) تنبيه على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق للعابد (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) يثبتني على الهداية فالسين للتأكيد لا للاستقبال لأنه جاء في الشعراء يهدين بدونها والقصة واحدة ، والمضارع في الموضعين للاستمرار ، وقيل : المراد (سَيَهْدِينِ) إلى وراء ما هداني إليه أولا فالسين على ظاهرها والتغاير في الحكاية والمحكي بناء على تكرر القصة (وَجَعَلَها) الضمير المرفوع المستتر لإبراهيم عليه‌السلام أو لله عزوجل والضمير المنصوب لكلمة التوحيد أعني لا إله إلا الله كما روي عن قتادة ومجاهد والسدي ويشعر بها قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) إلخ ، وجوز أن يعود على هذا القول نفسه وهو أيضا كلمة لغة (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) في ذريته عليه‌السلام فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيدهعزوجل.

وقرأ حميد بن قيس «كلمة» بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة فيها ، وقرئ «في عقبه» بسكون القاف تخفيفا و (عَقِبِهِ) أي من عقبه أي خلفه ومنه تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعاقب لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) تعليل للجعل أي جعلها باقية في عقبه كي يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحد أو بسبب بقائها فيهم ، والضميران للعقب وهو بمعنى الجمع ، والأكثرون على أن الكلام بتقدير مضاف أي لعل مشركيهم أو الإسناد من إسناد ما للبعض إلى الكل وأولو لعل بناء على أن الترجي من الله سبحانه وهو لا يصح في حقه تعالى أو منه عليه‌السلام لكنه من الأنبياء في حكم المتحقق ويجوز ترك التأويل كما لا يخفى بل هو الأظهر إذا كان ذاك من إبراهيم عليه‌السلام.

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) أي أهل مكة المعاصرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآباءَهُمْ) بالمد في العمر والنعمة (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) دعوة التوحيد أو القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرات أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج القاطعات ، والمراد بالتمتيع ما هو سبب له من استمتاعهم بما متعوا واشتغالهم بذلك عن شكر المنعم وطاعته والغاية لذلك فكأنه قيل : اشتغلوا حتى جاء الحق وهي غاية له في نفس الأمر لأن مجيء الرسول مما ينبه عن سنة الغفلة ويزجر عن الاشتغال بالملاذ لكنهم عكسوا فجعلوا ما هو سبب للتنصل سببا للتوغل فهو على أسلوب قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله سبحانه : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ١ ـ ٤] ، و (بَلْ مَتَّعْتُ) إضراب عن قوله جل شأنه (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) كأنه قيل بل متعت مشركي مكة وأشغلتهم بالملاهي والملاذ فاشتغلوا فلم يرجعوا أو فلم يحصل ما رجاه من رجوعهم عن الشرك ، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي سمعت وشروع في المقصود لكن روعي فيه المناسبة بما قرب من جملة الإضراب أعني (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وفي الحواشي الشهابية أنه إضراب عن قوله تعالى : (وَجَعَلَها) إلخ أي لم يرجعوا فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أعطيتهم نعما أخر غير الكلمة الباقية لأجل أن يشكروا منعمها ويوحدوه فلم يفعلوا بل زاد طغيانهم لاغترارهم أو التقدير ما اكتفيت في هدايتهم بجعل الكلمة باقية فيهم بل متعتهم وأرسلت رسولا. وقرأ قتادة والأعمش (بَلْ مَتَّعْتُ) بتاء الخطاب ورواها يعقوب عن نافع وهو من كلامه تعالى على سبيل التجريد لا الالتفات وإن قيل به في مثله أيضا كأنه تعالى اعترض بذلك على نفسه جل شأنه في قوله سبحانه : (وَجَعَلَها) إلخ لا لتقبيح فعله سبحانه بل لقصد زيادة توبيخ

٧٧

المشركين كما إذا قال المحسن على من أساء مخاطبا لنفسه : أنت الداعي لإساءته بالإحسان إليه ورعايته فيبرز كلامه في صورة من يعترض على نفسه ويوبخها حتى كأنه مستحق لذلك وفي ذلك من توبيخ المسيء ما فيه ، وقال صاحب اللوامح : هو من كلام إبراهيم عليه‌السلام ومناجاته ربه عزوجل ، وقال في البحر : الظاهر أنه من مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى قل يا رب متعت ، والأول أولى وهو الموافق للأصل المشهور ، وقرأ الأعمش «متّعنا» بنون العظمة.

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد (قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به فسموا القرآن سحرا وكفروا به واستحقروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي من إحدى القريتين مكة والطائف أو من رجالهما فمن ابتدائية أو تبعيضية ، وقرئ «رجل» بسكون الجيم (عَظِيمٍ) بالجاه والمال قال ابن عباس : الذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي والذي من الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ، وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة وكنانة ابن عبد ياليل ، وقال قتادة : الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول : لو كان ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا لنزل علي أو على أبي مسعود يعني عروة بن مسعود وكان يكنى بذلك ، وهذا باب آخر من إنكارهم للنبوة وذلك أنهم أنكروا أولا أن يكون النبي بشرا ثم لما بكتوا بتكرير الحجج ولم يبق عندهم تصور رواج لذلك جاءوا بالإنكار من وجه آخر فتحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين وقولهم هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة لأنهم لم يقولوا هذه المقالة تسليما بل إنكارا كأنه قيل : هذا الكذب الذي يدعيه لو كان حقا لكان الحقيق به رجل من القريتين عظيم وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية دون التزخرف بالزخارف الدنيوية ، وقوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن العظيم على من أرادوا ، والرحمة يجوز أن يكون المراد بها ظاهرها وهو ظاهر كلام البحر ونزل تعيينهم لمن ينزل عليه الوحي منزلة التقسيم لها وتدخل النبوة فيها ، ويجوز أن يكون المراد بها النبوة وهو الأنسب لما قبل وعليه أكثر المفسرين ، وفي إضافة الرب إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تشريفه عليه الصلاة والسلام ما فيه ، وفي إضافة الرحمة إلى الرب إشارة إلى أنها من صفات الربوبية (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) أسباب معيشتهم.

وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وسفيان «معايشهم» على الجمع (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في الرزق وسائر مبادئ المعاش (دَرَجاتٍ) متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة فمن ضعيف وقوي وغني وفقير وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ليستعمل بعضهم بعضا في مصالحهم ويستخدموهم في مهنهم ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية وهو على طرف التمام بهذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها ، والسخري على ما سمعت نسبة إلى السخرة وهي التذليل والتكليف ، وقال الراغب : السخري هو الذي يقهر أن يتسخر بإرادته ، وزعم بعضهم أنه هنا من السخر بمعنى الهزء أي ليهزأ الغني بالفقير واستبعده أبو حيان. وقال السمين : إنه غير مناسب للمقام.

٧٨

وقرأ عمرو بن ميمون وابن محيصن وابن أبي ليلى وأبو رجاء والوليد بن مسلم «سخريا» بكسر السين والمراد به ما ذكرنا أيضا ، وفي قوله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا) إلخ ما يزهد في الانكباب على طلب الدنيا ويعين على التوكل على الله عزوجل والانقطاع إليه جل جلاله :

فاعتبر نحن قسمنا بينهم

تلقه حقا وبالحق نزل

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) أي النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين ، وقيل : الهداية والإيمان ، وقال قتادة ، والسدي : الجنة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا الدنية فالعظيم من رزق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنيء الفاني.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) استئناف مبين لحقارة متاع الدنيا ودناءة قدره عند الله عزوجل ، والمعنى أن حقارة شأنه بحيث لو لا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر ويطبقوا عليه لأعطيناه على أتم وجه من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة ، فكراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع كل كافر والبسط عليه لا أن المانع كون متاع الدنيا له قدر عندنا ، والكراهة المذكورة هي وجه الحكمة في ترك تنعيم كل كافر وبسط الرزق عليه فلا محذوف في تقديرها ؛ وليس ذلك مبنيا على وجوب رعاية المصلحة وإرادة الإيمان من الخلق ليكون اعتزالا كما ظن ، وكأن وجه كون البسط على الكفار سببا للاجتماع على الكفر مزيد حب الناس للدنيا فإذا رأوا ذلك كفروا لينالوها ، وهذا على معنى أن الله تعالى شأنه علم أنه لو فعل ذلك لدعا الناس إذ ذاك حبهم للدنيا إلى الكفر ، فلا يقال : إن كثيرا من الناس اليوم يتحقق الغنى التام لو كفر ولا يكفر ولو أكره عليه بالقتل ، وكون المراد بالأمر الواحد الذي يقتضيه كونهم أمة واحدة فإنه بمعنى اجتماعهم على أمر واحد الكفر بقرينة الجواب ، و (لِبُيُوتِهِمْ) بدل اشتمال من قوله تعالى : (لِمَنْ يَكْفُرُ) واللام فيهما للاختصاص أو هما متعلقان بالفعل لا على البدلية ولام لمن صلة الفعل لتعديه باللام فهو بمنزلة المفعول به ولام (لِبُيُوتِهِمْ) للتعليل فهو بمنزلة المفعول له ، ويجوز أن تكون الأولى للملك والثانية للاختصاص كما في قولك : وهبت الحبل لزيد لدابته وإليه ذهب ابن عطية ، ولا يجوز على تقدير اختلاف اللامين معنى البدلية إذ مقتضى إعادة العامل في البدل الاتحاد في المعنى وإلى هذا ذهب أبو حيان ، وقال الخفاجي : لا مانع من أن يبدل المجموع من المجموع بدون اعتبار إعادة ، والسقف جمع سقف كرهن جمع رهن ، وعن الفراء أنه جمع سقيفة كسفن جمع سفينة ، والمعارج جمع معرج وهو عطف على (سُقُفاً) أي ولجعلنا لهم مصاعد عليها يعلون السطوح والعلالي وكأن المراد معارج من فضة بناء على أن العطف ظاهر في التشريك في القيد وإن تقدم ، وقال أبو حيان : لا يتعين ذلك ، وقرأ أبو رجاء «سقفا» بضم السين وسكون القاف تخفيفا وفي البحر هي لغة تميم.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين والسكون على الإفراد لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وما فوقه وهو المراد بقرينة البيوت ؛ وقرئ بفتح السين والقاف وهي لغة في سقف وليس ذلك تحريك ساكن لأنه لا وجه له.

وقرئ «سقوفا» وهو جمع سقف كفلوس جمع فلس ، وقرأ طلحة «معاريج» جمع معراج (وَلِبُيُوتِهِمْ) أي ولجعلنا لبيوتهم ، وتكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير ولأنه ابتداء أية (أَبْواباً وَسُرُراً) أي من فضة على ما سمعت ، وقرئ «سررا» بفتح السين والراء وهي لغة لبني تميم وبعض كلب وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسما باتفاق وصفه نحو ثوب جديد وثياب جدد باختلاف بين النحاة (عَلَيْها) أي على السرر (يَتَّكِؤُنَ) كما هو شأن الملوك لا يهمهم شيء (وَزُخْرُفاً) قال الحسن : أي نقوشا وتزاويق ، وقال ابن زيد : الزخرف أثاث البيت وتجملاته وهو

٧٩

عليهما عطف على (سُقُفاً). وقال ابن عباس وقتادة والشعبي والسدي والحسن أيضا في رواية الزخرف الذهب ، وأكثر اللغويين ذكروا له معنيين هذا والزينة فقيل الظاهر أنه حقيقة فيهما ، وقيل : إنه حقيقة في الزينة ولكون كمالها بالذهب استعمل فيه أيضا ، ويشير إليه كلام الراغب قال : الزخرف الزينة المزوقة ومنه قيل للذهب زخرف ، وفي البحر جاء في الحديث إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان ، وقال ابن عطية : الحسن أحمر والشهوات تتبعه ؛ ولبعض شعراء المغرب :

وصبغت درعك من دماء كماتهم

لما رأيت الحسن يلبس أحمرا

وهو على هذا عطف على محل (مِنْ فِضَّةٍ) كأن الأصل سقفا من فضة وزخرف يعني بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفا على المحل ، وجوز عطفه على (سُقُفاً) أيضا (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة الا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا وفي معناه ما قرئ «وما كل ذلك إلا متاع لدنيا» وقرأ الجمهور «لما» بفتح اللام والتخفيف على أن (إِنْ) هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها وما زائدة أو موصولة بتقدير لما هو متاع كما في قوله تعالى : «تماما على الذي أحسن» في قراءة من رفع النون ، وقرأ رجاء وفي التحرير أبو حيوة «لما» بكسر اللام والتخفيف على أن (إِنْ) هي المخففة واللام حرف جر وما موصولة في محل جر بها والجار والمجرور في موضع الخبر لكل وصدر الصلة محذوف كما سمعت آنفا.

وحق التركيب في مثله الإتيان باللام الفارقة فيقال للما : متاع لكنها حذفت لظهور إرادة الإثبات كما في قوله :

أنا ابن أباة الضيم من آل مالك

وإن مالك كانت كرام المعادن

بل لا يجوز في البيت إدخال اللام كما لا يخفى على النحوي (وَالْآخِرَةُ) أي بما فيها من فنون النعيم التي لا يحيط بها نطاق البيان (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) خاصة لهم ، والمراد بهم من اتقى الشرك ، وقال غير واحد : من اتقى ذلك والمعاصي ، وفي الآية من الدلالة على التزهيد في الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى ما فيها ، وقد أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعدة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» وعن علي كرم الله تعالى وجهه : الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم ، هذا واستدل بعضهم بقوله تعالى : (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً) على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت (وَمَنْ يَعْشُ) أي يتعام ويعرض (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) وهو القرآن ، وإضافته إلى الرحمن للإيذان بنزوله رحمة للعالمين ، وجوز أن يكون مصدرا أضيف إلى المفعول أي من يعش عن أن يذكر الرحمن. وأن يكون مصدرا أضيف إلى الفاعل أي عن تذكير الرحمن عباده سبحانه ، وقرأ يحيى بن سلام البصري «يعش» بفتح الشين كيرض أي يعم يقال : عشى كرضي إذا حصلت الآفة في بصره وعشا كغزا إذا نظر نظر العشى لعارض قال الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

أي تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء ولو لم يكن كذلك لم يكن لكلمة الغاية موقع وأظهر منه في المقصود قول حاتم :

أعشو إذا ما جارتي برزت

حتى يواري جارتي الخدر

٨٠