روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

أعلم بهم فافعل بهم ما يستحقونه قيل كان دعاؤه عليه‌السلام اللهم عجل لهم ما يستحقون بإجرامهم ، وقيل : قوله (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إلى قوله (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٥ ـ ٨٨] وإنما ذكر الله سبحانه السبب الذي استوجبوا به الهلاك ليعلم منه دعاؤه والإجابة معا وإن دعاءه كان على يأس من إيمانهم وهذا من بليغ اختصارات الكتاب المعجز.

وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والحسن في رواية وزيد بن علي بكسر همزة إن وخرج على إضمار القول أي قائلا إن هؤلاء إلخ (فَأَسْرِ بِعِبادِي) وهم بنو إسرائيل ومن آمن به من القبط (لَيْلاً) بقطع من الليل ، والكلام بإضمار القول أما بعد الفاء أي فقال أسر إلخ فالفاء للتعقيب والترتيب والقول معطوف على ما قبله أو قبلها كأنه قيل قال : أو فقال إن كان الأمر كما تقول : فاسر إلخ ، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وهو وجوابه مقول القول المقدر مع الفاء أو بدونها على أنه استئناف والإضمار الأول أولى لقلة التقدير مع أن تقدير أن لا يناسب إذ لا شك فيه تحقيقا ولا تنزيلا وجعلها بمعنى إذا تكلف على تكلف وأبو حيان لا يجيز حذف الشرط وإبقاء جوابه في مثل هذا الموضع وقد شنع على الزمخشري في تجويزه ، وقرأ نافع وابن كثير «فاسر» بوصل الهمزة من سرى.

(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم فالجملة مستأنفة لتعليل الأمر بالسرى ليلا ليتأخر العلم به فلا يدركون والتأكيد لتقدم ما يلوح بالخبر (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي ساكنا كما قال ابن عباس يقال رها البحر يرهو رهوا سكن ويقال : جاءت الخيل رهوا أي ساكنة ، قال الشاعر :

والخيل تمزع رهوا في أعنتها

كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد

ويقال افعل ذلك رهوا أي ساكنا على هينة وأنشد غير واحد للقطامي في نعت الركاب :

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة

ولا الصدور على الأعجاز تتكل

والظاهر أنه مصدر في الأصل يؤول باسم الفاعل ، وجوز أن يكون بمعنى الساكن حقيقة وعن مجاهد رهوا أي منفرجا مفتوحا قال أبو عبيدة رها الرجل يرهو رهوا فتح بين رجليه ، وعن بعض العرب أنه رأى جملا فالجا أي ذا سنامين فقال : سبحان الله تعالى رهو بين سنامين قالوا : أراد فرجة واسعة ، والظاهر أيضا أنه مصدر مؤول أو فيه مضاف مقدر أي ذا فرجة قال قتادة : أراد موسى عليه‌السلام بعد أن جاوز البحر هو ومن معه أن يضربه بعصاه حتى يلتئم كما ضربه أولا فانفلق لئلا يتبعه فرعون وجنوده فأمر بأن يتركه رهوا أي مفتوحا منفرجا أو ساكنا على هيئته قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا ولا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) فهو تعليل للأمر بتركه رهوا ، وقيل : رهوا سهلا ، وقيل : يابسا ، وقيل : جددا ، وقيل : غير ذلك والكل بيان لحاصل المعنى ، وزعم الراغب أن الصحيح أن الرهو السعة من الطريق ثم قال : ومنه الرهاء المفازة المستوية ويقال لكل جوبة مستوية يجتمع فيها الماء رهو ومنه قيل : لا شفعة في رهو. والحق أن ما ذكره من جملة إطلاقاته وأما أنه الصحيح فلا وقرئ «أنهم» بالفتح أي لأنهم (كَمْ تَرَكُوا) أي كثيرا تركوا بمصر (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) حسن شريف في بابه ، وأريد بذلك كما روي عن قتادة المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مردويه عن جابر أنه أريد به المنابر ، وروي ذلك عن مجاهد وابن جبير أيضا ، وقيل : السرر في الحجال والأول أولى ، وقرأ ابن هرمز. وقتادة. وابن السميفع. ونافع في رواية خارجة «مقام»

١٢١

بضم الميم (وَنَعْمَةٍ) أي تنعم ، قال الراغب : النعمة بالفتح التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة والنعمة بالكسر الحالة الحسنة وبناؤها بناء التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة وتقال للجنس الصادق بالقليل والكثير واختير هاهنا تفسير النعمة بالشيء المنعم به لأنه أنسب للترك وهي كثيرا ما تكون بهذا المعنى.

وقرأ أبو رجاء «ونعمة» بالنصب وخرج بالعطف على (كَمْ) ، وقيل : هي معطوفة على محل ما قبلها كأنه قيل : كم تركوا جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ونعما (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ففاكه كلابن وتامر ، وقال القشيري : لاهين ، وقرأ الحسن. وأبو رجاء «فكهين» بغير ألف والفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ فالمعنى مستخفين بشكر النعمة التي كانوا فيها.

وقال الجوهري : فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان مزاحا والفكه أيضا الأشر (كَذلِكَ) قال الزجاج : المعنى الأمر كذلك ، والمراد التأكيد والتقرير فيوقف على ذلك فالكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أو الجار والمجرور كذلك ، وقيل : الكاف في موضع نصب أي نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه ، وقول الكلبي : أي كذلك أفعل بمن عصاني ظاهر فيما ذكر ، وقال الزمخشري : الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أي المفهوم مما تقدم أخرجناهم منها (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) عطف على تركوا والجملة معترضة فيما عدا القول الأخير وعلى أخرجناهم فيه ، وقيل : الكاف منصوبة على معنى تركوا تركا مثل ذلك فالعطف على (تَرَكُوا) بدون اعتراض وهو كما ترى ، والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا. ويفسر ذلك قوله تعالى في سورة [الشعراء : ٥٩] (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو ظاهر في أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملكوها وبه قال الحسن.

وقيل : المراد بهم غير بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملكوها وبه قال الحسن.

وقيل : المراد بهم غير بني إسرائيل ممن ملك مصر بعد هلاك القبط وإليه ذهب قتادة قال : لم يرد في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر ولا أنهم ملكوها قط وأول ما في سورة الشعراء بأنه من باب (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) [فاطر : ١١] وقولك : عندي درهم ونصفه فليس المراد خصوص ما تركوه بل نوعه وما يشبهه ، والإيراث : الإعطاء وقيل : المراد من إيراثها إياهم تمكينهم من التصرف فيها ولا يتوقف ذلك على رجوعهم إلى مصر كما كانوا فيها أولا ، وأخذ جمع بقول الحسن وقالوا لا اعتبار بالتواريخ وكذا الكتب التي بيد اليهود اليوم لما أن الكذب فيها كثير وحسبنا كتاب الله تعالى وهو سبحانه أصدق القائلين وكتابه جلّ وعلا مأمون من تحريف المحرفين (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم ، وهو استعارة تمثيلية تخييلية شبه حال موتهم لشدته وعظمته بحال من تبكي عليه السماء والأجرام العظام وأثبت له ذلك والنفي تابع للإثبات في التجوز كما حقق في موضعه ، وقيل : هي استعارة مكنية تخييلية بأن شبه السماء والأرض بالإنسان وأسند إليهما البكاء أو تمثيلية بأن شبه حالهما في عدم تغير حالهما وبقائهما على ما كانا عليه بحال من لم يبك ، وليس بشيء كما لا يخفى على من راجع كلامهم ، وقد كثر في التعظيم لمهلك الشخص بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ونحو ذلك ، قال يزيد بن مفرغ :

الريح يبكي شجوه

والبرق يلمع في غمامه

وقال النابغة :

١٢٢

بكى حارث الجولان من فقد ربه

وحوران منه خاشع متضائل

أراد بهما مكانين معروفين ، وقال جرير :

لما أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشع

وقال الفرزدق يرثي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز :

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

يتعجب من طلوع الشمس وكان من حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة ، والنجوم تروى منصوبة ومرفوعة فالنصب على المغالبة أي تغلب الشمس النجوم في البكاء نحو باكيته فبكيته ، قال جار الله : كان رضي الله تعالى عنه يتهجد بالليل فتبكيه النجوم ويعدل بالنهار فتبكيه الشمس والشمس غالبة في البكاء لأن العدل أفضل من صلاة الليل ، والجوهري جعلها منصوبة بكاسفة أي لا تكسف ضوء النجوم لكثرة بكائها وكأنه جعل خفاء النجوم تحت ضوء الشمس كسفا لها مجازا ، وفيه أن الكسف بالمعنى المذكور غير واضح وتخلل تبكي غير مستفصح وفي حواشي الصحاح الشمس كاسفة ليست بطالعة. وفيها أن نجوم الليل ظرف أي طول الدهر كأنه من باب آتيك الشمس والقمر أي وقتهما كأنه قيل : تبكي ما يطلع النجوم والقمر ، وفيه أن مثل هذا الظرف مسموع لا يثبت إلا بثبت فكيف يعدل إليه مع المعنى الواضح ، وقيل : التقدير تبكي بكاء النجوم فحذف المضاف ، وفيه أنه مما لا يكاد يفهم ، والرفع واضح والقمر منصوب على أنه مفعول معه وهذا استطراد دعانا إليه شهرة البيت مع كثرة الخبط فيه.

وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فالمؤمن إذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ)» وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على وجه الأرض عملا صالحا فتفقدهم فتبكي عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم.

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان والحاكم وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال : «إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحا ثم قرأ الآية» وأخرج ابن المنذر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا (فَما بَكَتْ) إلخ وجعلوا كل ذلك من باب التمثيل.

ومن أثبت كالصوفية للأجرام السماوية والأرضية وسائر الجمادات شعورا لائقا بحالها لم يحتج إلى اعتبار التمثيل وأثبت بكاء حقيقيا لها حسبما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله بالحزن أو نحوه وأثبته لها حسب ذلك أيضا.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بكاء السماء حمرة أطرافها. وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه ، وأخرج عن سفيان الثوري قال : كان يقال هذه الحمرة التي تكون في السماء بكاء السماء على المؤمن ؛ ولعمري ينبغي لمن لم يضحك من ذلك أن يبكي على عقله ، وأنا لا أعتقد أن من ذكر من الأجلة كانوا يعتقدونه ، وقيل : إن الآية على تقدير مضاف أي فما بكت عليهم سكان السماء وهم الملائكة وسكان الأرض وهم المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين.

وروي هذا عن الحسن والأحسن ما تقدم (وَما كانُوا) لما جاء وقت هلاكهم (مُنْظَرِينَ) ممهلين إلى وقت آخر أو إلى يوم القيامة بل عجل لهم في الدنيا (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) بما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا (مِنَ

١٢٣

الْعَذابِ الْمُهِينِ) من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستحيائه نساءهم على الخسف والضيم (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من العذاب على حذف المضاف والتقدير من عذاب فرعون أو جعله عليه اللعنة عين العذاب مبالغة ، وجوز أن يتعلق بمحذوف يقع حالا أي كائنا من جهة فرعون ، وقيل : متعلق بمحذوف واقع صفة أي كائنا أو الكائن من فرعون ولا بأس بهذا إذا لم يعد ذلك من حذف الموصول مع بعض صلته.

وقرأ عبد الله «من عذاب المهين» على إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء. وقرأ ابن عباس من «فرعون» على الاستفهام لتهويل العذاب أي هل تعرفون من فرعون في عتوه وشيطنته فما ظنكم بعذابه ، وقيل : لتحقير فرعون بجعله غير معلوم يستفهم عنه كالنكرة لما فيه في القبائح التي لم يعهد مثلها وما بعد يناسب ما قبل كما لا يخفى.

وأيا ما كان فالظاهر أن الجملة استئناف ، وقيل : إنها مقول قول مقدر هو صفة للعذاب ، وقدر المقول عنده إن كان تعريف العذاب للعهد ومقول إن كان للجنس فلا تغفل (إِنَّهُ كانَ عالِياً) متكبرا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الشر والفساد ، والجار والمجرور إما خبر ثاني لكان أي كان متكبرا مغرقا في الإسراف ، وإما حال من الضمير المستتر في عاليا أي كان متكبرا في حال إغراقه في الإسراف (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي اصطفينا بني إسرائيل وشرفناهم (عَلى عِلْمٍ) أي عالمين باستحقاقهم ذلك أو مع علم منا بما يفرط منهم في بعض الأحوال ، وقيل : عالمين بما يصدر منهم من العدل والإحسان والعلم والإيمان ، ويرجع هذا إلى ما قيل أولا فإن العدل وما معه من أسباب الاستحقاق ، وقيل : لأجل علم فيهم ، وتعقب بأنه ركيك لأن تنكير العلم لا يصادق محزه.

وأجيب بأنه للتعظيم ويحسن اعتباره علة للاختيار (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم كما قال مجاهد وقتادة فالتعريف للعهد أو الاستغراق العرفي فلا يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين هم خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق ، وجوز أن يكون للاستغراق الحقيقي والتفضيل باعتبار كثرة الأنبياء عليهم‌السلام فيهم لا من كل الوجوه حتى يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية ، وقيل : المراد اخترناهم للإيحاء على الوجه الذي وقع وخصصناهم به دون العالمين ، وليس بشيء ، ومما ذكرنا يعلم أنه ليس في الآية تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد لأن الأول متعلق بمحذوف وقع حالا والثاني متعلق بالفعل كقوله :

ويوما على ظهر الكثيب تعذرت

عليّ وآلت حلفة لم تحلل

وقيل : لأن كل حرف بمعنى (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم ، وبعضها وإن أوتيها موسى عليه‌السلام يصدق عليهم أنهم أوتوه لأن ما للنبي لأمته (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون ، وفي (فِيهِ) إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة (إِنَّ هؤُلاءِ) كفار قريش لأن الكلام فيهم ، وذكر قصة فرعون وقومه استطرادي للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة والإنذار عن مثل ما حل بهم ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي بمبعوثين بعدها ، وتوصيفها بالأولى ليس لقصد مقابلة الثانية كما في قولك : حج زيد الحجة الأولى ، ومات.

قال الاسنوي في التمهيد : الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون ، كما تقول : هذا أول ما اكتسبته فقد تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتسب كذا ذكره جماعة منهم الواحدي في تفسيره والزجاج.

ومن فروع المسألة ما لو قال : إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق تطلق إذا ولدته ، وإن لم تلد غيره

١٢٤

بالاتفاق ، قال أبو علي : اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولا أن يكون بعده آخر ، وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه غيره ا ه ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم : إن الأول يضايف الآخر والثاني ويقتضي وجوده بلا شبهة ، والمثال إن صح فإنما هو فيمن نوى تعدد الحج فاخترمته المنية فلحجه ثان باعتبار العزم من قصور الاطلاع وأنه لا حاجة إلى أن يقال : إنها أولى بالنسبة إلى ما بعدها من حياة الآخرة بل هو في حد ذاته غير مقبول لما قال ابن المنير من أن الأولى إنما يقابلها أخرى تشاركها في أخص معانيها ، فكما لا يصح أو لا يحسن أن يقول : جاءني رجل وامرأة أخرى لا يقال الموتة الأولى بالنسبة لحياة الآخرة ، وقيل : إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة ، وذلك قوله عزوجل (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة: ٢٨] فقالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة ، إلا الموتة الأولى دون الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة ، وهذا ما ارتضاه جار الله وأراد أن النفي والإثبات لما كان لرد المنكر المصر إلى الصواب كان منزلا على إنكارهم ، لا سيما والتعريف في الأولى تعريف عهد ، وقوله تعالى : (الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] تفسير للمبهم وهي على نحو هي العرب تقول كذا فيتطابقان والمعهود الموتة التي تعقبتها الحياة الدنيوية ، ولذلك استشهد بقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) إلخ فليس اعتبار الوصف عدولا عن الظاهر من غير حاجة كما قال ابن المنير. وقوله في الاعتراض أيضا : إن الموت السابق على الحياة الدنيوية لا يعبر عنه بالموتة لأن (فِيهَا) لمكان بناء المرة إشعارا بالتجدد والموت السابق مستصحب لم تتقدمه حياة مدفوع كما قال صاحب الكشف ، ثم إنه لا يلزم من تفسير الموتة الأولى بما بعد الحياة في قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) تفسيرها بذلك هنا لأن إيقاع الذوق عليها هناك قرينة أنها التي بعد الحياة الدنيا لأن ما قبل الحياة غير مذوق ، ومع هذا كله الإنصاف أن حمل الموتة الأولى هنا أيضا على التي بعد الحياة الدنيا أظهر من حملها على ما قبل الحياة من العدم بل هي المتبادرة إلى الفهم عند الإطلاق المعروفة بينهم ، وأمر الوصف بالأولى على ما سمعت أولا.

وقيل : إنهم وعدوا بعد هذه الموتة موتة القبر وحياة البعث فقوله تعالى عنهم (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) رد للموتة الثانية وفي قوله سبحانه (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) نفي لحياة القبر ضمنا إذ لو كانت بدون الموتة الثانية لثبت النشر ضرورة (فَأْتُوا بِآبائِنا) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أي فأتوا لنا بمن مات من آبائنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في وعدكم ليدل ذلك على صدقكم ودلالة الإيقان إما لمجرد الإحياء بعد الموت وإما بأن يسألوا عنه ، قيل : طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله تعالى فيحيي لهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة النبوة والبعث إذ كان كبيرهم ومستشارهم في النوازل (أَهُمْ خَيْرٌ) في القوة والمنعة (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) هو تبع الأكبر الحميري واسمه أسعد بهمزة ، وفي بعض الكتب سعد بدونها وكنيته أبو كرب وكان رجلا صالحا. أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت : كان تبع رجلا صالحا ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه ، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما ، وأخرج أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» وأخرج ابن عساكر وابن المنذر عن ابن عباس قال : سألت كعبا عن تبع فإني أسمع الله تعالى يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر تبعا فقال : إن تبعا كان رجلا من أهل اليمن ملكا منصورا فسار بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها أحبارا فانطلق بهم نحو اليمن حتى إذا دنا من ملكه طار في الناس أنه هادم الكعبة فقال له : الأحبار : ما هذا الذي تحدث به نفسك فإن هذا البيت لله تعالى وإنك لن تسلط عليه فقال : إن هذا لله تعالى وأنا أحق من حرمه فأسلم من مكانه وأحرم فدخلها محرما فقضى نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعا حتى قدم على قومه فدخل عليه أشرافهم فقالوا : يا تبع أنت

١٢٥

سيدنا وابن سيدنا خرجت من عندنا على دين وجئت على غيره فاختر منا أحد أمرين إما أن تخلينا وملكنا وتعبد ما شئت وإما أن تذر دينك الذي أحدثت وبينهم يومئذ نار تنزل من السماء فقال الأحبار عند ذلك : اجعل بينك وبينهم النار فتواعد القوم جميعا على أن يجعلوها بينهم فجيء بالأحبار وكتبهم وجيء بالأصنام وعمارها وقدموا جميعا إلى النار وقامت الرجال خلفهم بالسيوف فهدرت النار هدير الرعد ورمت شعاعا لها فنكص أصحاب الأصنام وأقبلت النار وأحرقت الأصنام وعمارها وسلّم الآخرون فأسلم قوم واستسلم قوم فلبثوا بعد ذلك عمر تبع حتى إذا نزل بتبع الموت استخلف أخاه وهلك فقتلوا أخاه وكفروا صفقة واحدة ، وفي رواية عن ابن عباس أن تبعا لما أقبل من الشرق بعد أن حبر الحيرة أي بناها ونظم أمرها. وهي بكسر الحاء المهملة وياء ساكنة مدينة بقرب الكوفة. وبنى سمرقند وهي مدينة بالعجم معروفة ، وقيل : إنه هدمها وقصد المدينة وكان قد خلف بها حين سافر ابنا له فقتل غيلة فأجمع على خرابها واستئصال أهلها فجمع له الأنصار وخرجوا لقتاله وكانوا يقاتلوه بالنهار ويقرونه بالليل فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام فبينما هو على ذلك إذ جاءه كعب ، وأسد ابنا عم من قريظة حبران وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومولده بمكة فثناه قولهما عما يريد ثم دعواه إلى دينهما فاتبعهما وأكرمهما فانصرفوا عن المدينة ومعهم نفر من اليهود فقال له في الطريق نفر من هذيل : ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وذهب وفضة بمكة وأرادت هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك فذكر ذلك للحبرين فقالا : ما نعلم لله عزوجل بيتا في الأرض اتخذه لنفسه غير هذا فاتخذه مسجدا وانسك عنده واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك فأكرمه وكساه وهو أول من كسى البيت وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم. وفي رواية أنه قال للحبرين حين قالا له ما قالا : وأنتما ما يمنعكما من ذلك؟ فقالا : أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه‌السلام وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يريقونها عنده وهم نجس أهل شرك فعرف صدقهما ونصحهما فطاف بالبيت ونحر وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل ، وقيل : إنه أراد تخريب البيت فرمي بداء عظيم فكف عنه وكساه.

وأخرج ابن عساكر عن ابن إسحاق أن تبعا أري في منامه أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الوصائل وصائل اليمن فكان فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى بها ولاته من جرهم وأمر بتطهيره وجعل له بابا ومفتاحا. وفي رواية أنه قال أيضا : ولا تقربوه دما ولا ميتا ولا تقربه حائض ، وفي نهاية ابن الأثير في الحديث أن تبعا كسى البيت المسوح فانتفض البيت منه ومزقه عن نفسه ثم كساه الخصف فلم يقبله ثم كساه الانطاع ، وفي موضع آخر منها أن أول من كسى الكعبة كسوة كاملة تبع كساها الانطاع ثم كساها الوصائل والخصف فعل بمعنى مفعول من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء والمراد شيء منسوج من الخوص على ما هو الظاهر ، وقيل : أريد به هاهنا الثياب الغلاظ جدا تشبيها بالخصف المذكور ، والمعافر برود من اليمن منسوبة إلى معافر قبيلة بها ، والميم زائدة ، والوصائل ثياب حمر مخططة يمانية ، والمسوح جمع مسح بكسر الميم وسكون المهملة أثواب من شعر غليظة ، والانطاع جمع نطع بالكسر وبالفتح وبالتحريك بسط من أديم. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن أبي بن كعب قال : لما قدم تبع المدينة ونزل بفنائها بعث إلى أحبار يهود فقال : إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب فقال له : شامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم : أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل مولده بمكة اسمه أحمد وهذه دار هجرته إلى أن قال : قال وما صفته؟ قال : رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينيه حمرة يركب البعير ويلبس الشملة سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره فقال تبع : ما إلى هذا البلد من سبيل وما كان ليكون

١٢٦

خرابها على يدي. وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة ، وقيل : بينه وبين مولده عليه الصلاة والسلام ألف سنة ، والقولان يدلان على أنه قبل مبعث عيسى عليه‌السلام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى ابن مريم ، وهو يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه‌السلام ، والأول أشهر.

ومن حديث عباد بن زياد المري أنه لما أخبره اليهود أنه سيخرج نبي بمكة يكون قراره بهذا البلد. يعني المدينة اسمه أحمد وأخبروه أنه لا يدركه قال للأوس والخزرج :

حدثت أن رسول الملي

ك يخرج حقا بأرض الحرم

ولو مد دهري إلى دهره

لكنت وزيرا له وابن عم

وفي البحر بدل البيت الأول :

شهدت على أحمد أنه

رسول من الله باري النسم

وفيه أيضا رواية عن ابن إسحاق وغيره أنه كتب أيضا كتابا وكان فيه : أما بعد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام فإن أدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة فإني من أمتك الأولين وتابعيك قبل مجيئك وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه‌السلام ، ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد ، وكتب عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبع الأول ودفعه إلى عظيم من الأوس والخزرج وأمره أن يدفعه للنبي عليه الصلاة والسلام أن أدركه.

ويقال : إنه بنى له دارا في المدينة يسكنها إذا أدركه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقدم إليها وأن تلك الدار دار أبي أيوب خالد بن زيد وأن الشعر والكتاب وصلا إليه وأنه من ولد ذلك الرجل الذي دفعا إليه أولا ، ولما ظهر النبي عليه الصلاة والسلام دفعوا الكتاب إليه فلما قرئ عليه قال : مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات.

وجاء أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى عليه صلاة الجنازة وكذا على البراء بن معرور بعد وفاته بشهر يوم قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة كما قال النجم الغيطي وكانت صلاة الجنازة قد فرضت تلك السنة ، وكون هذا هو تبع الأول ويقال له الأكبر هو المذكور في غير ما كتاب ، وذكر عبد الملك بن عبد الله بن بدرون في شرحه لقصيدة ابن عبدون أن أسعد هذا هو تبع الأوسط وذكر أيضا أن ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة وملك بعده عمرو أربعا وستين سنة ، وقال ابن قتيبة حسان وهو الذي قتل زرقاء اليمامة وأباد جديسا وكان ملكه خمسا وعشرين سنة ؛ والتواريخ ناطقة بتقدم تبابعة عليه فإن تبعا يقال لمن ملك اليمن مطلقا كما يقال لملك الترك خاقان ، والروم قيصر ، والفرس كسرى أو لا يسمى به إلا إذا كانت له حمير وحضرموت كما في القاموس أو إلا إذا كانت له حمير وسبأ وحضرموت كما ذكره الطيبي ، والمتصف بذلك غير واحد كما لا يخفى على من أحاط خبرا بالتواريخ. وما تقدم من حكاية أنه هدم سمرقند ذكر عبد الملك خلافه ونسب هدمها إلى شمر بن افريقيس بن أبرهة أحد التبابعة أيضا كان قبل تبع المذكور بكثير قال : إن شمر خرج نحو العراق ثم توجه يريد الصين ودخل مدينة الصغد فهدمها وسميت شمر كند أي شمر خربها وعربت بعد فقيل سمرقند ا ه.

١٢٧

وحكاية البناء يمكن نسبتها إلى شمر هذا فإن كند في لغة أهل أذربيجان ونواحيها على ما قيل بمعنى القرية فسمرقند بمعنى قرية شمر وهو أوفق بالبناء ، وذكر علامة عصره الملا أمين أفندي العمري الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في كتابه شرح ذات الشفاء أن تبعا الذي ذكر سابقا هو ابن حسان وأنه ملك الدنيا كلها وأنه يقال له الرائش لأنه راش الناس بالعطاء ، ولعل ما قاله قول لبعضهم وإلا فقد قال ابن قتيبة : إنه ابن كليكرب.

وفي شرح قصيدة ابن عبدون أن الرائش لقب الحارث بن بدر أحد التبابعة ، وهو قبل أسعد المتقدم ذكره بزمان طويل جدا ، وهو أيضا ممن ذكر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شعره فقال :

ويملك بعدهم رجل عظيم

نبي لا يرخص في الحرام

يسمى أحمدا يا ليت أني

أعمر بعد مخرجه بعام

ثم إن ملكه الدنيا كلها غير مسلم ، وبالجملة الأخبار مضطربة في أمر التبابعة وأحوالهم وترتيب ملوكهم بل قال صاحب تواريخ الأمم : ليس في التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير لما يذكر من كثرة عدد سنينهم مع قلة عدد ملوكهم فإن ملوكهم ستة وعشرون ومدتهم ألفان وعشرون سنة.

وقال بعض : إن مدتهم ثلاثة آلاف واثنان وثمانون سنة ثم ملك من بعدهم اليمن الحبشة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ، والقدر المعول عليه هاهنا أن تبعا المذكور هو أسعد أبو كرب وأنه كان مؤمنا بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان على دين إبراهيم عليه‌السلام ولم يكن نبيا ، وحكاية نبوته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصح ، وأخباره بمبعثهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقتضيها لأنه علم ذلك من أحبار اليهود وهم عرفوه من الكتب السماوية.

وما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال : ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي لم يثبت ، نعم روى أبو داود والحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ما أدري أذو القرنين هو أم لا» وليس فيه ما يدل على التردد في نبوته وعدمها فإن ذا القرنين ليس بنبي على الصحيح ، ثم إن الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام درى بعد أنه ليس ذا القرنين.

وقال قوم : ليس المراد بتبع هاهنا رجلا واحدا إنما المراد ملوك اليمن ، وهو خلاف الظاهر والأخبار تكذبه ، ومعنى تبع متبوع فهو فعل بمعنى مفعول وقد يجيء هذا اللفظ بمعنى فاعل كما قيل للظل تبع لأنه يتبع الشمس ، ويقال لملوك اليمن أقيال من يقيل فلان أباه إذا اقتدى به لأنهم يقتدى بهم ، وقيل : سمي ملكهم قيلا لنفوذ أقواله وهو مخفف قيل كميت.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل قوم تبع كعاد وثمود أو قبل قريش فهو تعميم بعد تخصيص (أَهْلَكْناهُمْ) استئناف لبيان عاقبة أمرهم هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو بدونه من الضمير المستتر في الصلة أو خبر عن الموصول إن جعل مبتدأ ولم يعطف على ما قبله (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) تعليل لإهلاكهم أي أهلكناهم بسبب كونهم مجرمين فليحذر كفار قريش الإهلاك لإجرامهم.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ

١٢٨

يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ(٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)(٥٩)

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أي ما بين الجنسين وهو شامل لما بين الطبقات.

وقرأ عبيد بن عمير «وما بينهن» فالضمير لمجموع السموات والأرض (لاعِبِينَ) أي عابثين وهو دليل على وقوع الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها (ما خَلَقْناهُما) أي وما بينهما (إِلَّا بِالْحَقِ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما خلقناهما ملتبسين بشيء من الأشياء إلا ملتبسين بالحق فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ، وجوز أن يكون في موضع الحال من المفعول ، والباء للملابسة فيهما ، وجوز أن تكون للسببية ، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء والملابسة أظهر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تذييل وتجهيل فخيم لمنكري الحشر وتوكيد لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [النور : ١٥] ولهذا قال المؤمنون : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) [آل عمران : ١٩١] (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي فصل الحق عن الباطل والمحق عن المبطل بالجزاء أو فصل الشخص عن أحبابه وذوي قرابته (مِيقاتُهُمْ) وقت وعدهم (أَجْمَعِينَ) وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على أنه اسم إن والخبر (يَوْمَ الْفَصْلِ) أي إن ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل وليس مثل إن حراسنا أسدا (يَوْمَ لا يُغْنِي) بدل من (يَوْمَ الْفَصْلِ) أو عطف بيان عند من لا يشترط المطابقة تعريفا وتنكيرا ، وجوز نصبه أعني مقدرا وأن يكون ظرفا لما دل عليه الفصل لا له للفصل بينه وبينه بأجنبي ، وهو مصدر لا يعمل إذا فصل لضعفه أو له على قول من اغتفر الفصل إذا كان المعمول ظرفا كابن الحاجب ، والرضي ، وجوز أبو البقاء كونه صفة لميقاتهم. وتعقب بأنه جامد نكرة لاضافته للجملة فكيف يكون صفة للمعرفة مع أنه لا يصح بناؤه عند البصريين إذا أضيف إلى جملة صدرها معرب وهو المضارع أي يوم لا يجزي (مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) من الأغنياء أي الإجزاء ، فشيئا منصوب على المصدرية يجوز كونه مفعولا به ، ويغني بمعنى يدفع وينفع. وتنكير (شَيْئاً) للتقليل ، والمولى الصاحب الذي من شأنه أن يتولى معونة صاحبه على أموره فيدخل في ذلك ابن العم والحلف والعتيق والمعتق وغيره ، وذكر الخفاجي أنه من الولاية وهي التصرف فيشمل كل من يتصرف في آخر لأمر ما كقرابة وصداقة وهو قريب مما ذكرنا. وأيّا ما كان فليس ذلك من استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد ، ولو سلم أن هناك مشتركا استعمل في أكثر من معنى كانت الآية دليلا لابن الهمام عليه الرحمة في جواز ذلك في النفي فيقال عنده : ما رأيت عينا ويراد العين الباصرة وعين الذهب وغيرها ويعلم من نفي إغناء المولى نفي إغناء غيره من باب أولى.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) الضمير عند جمع المولى الأول ؛ والجمع باعتبار المعنى لأنه نكرة في سياق النفي وهي تعم دون الثاني لأنه أفيد وأبلغ لأن حال المولى الثاني نصرته معلوم من نفي الإغناء السابق ، ولأنه إذا لم ينصر من

١٢٩

استند إليه فكيف هو ، وأيضا وجه جمع الضمير فيه أظهر ، وجوز عوده على الثاني للدلالة على أنه لا ينصره غير مولاه وهو في سياق النفي أيضا وإن لم يكن في ذلك بمرتبة الأول. نعم قيل في وجه الجمع عليهما : إن النكرة في سياق النفي تدل على كل فرد فرد فلا يرجع الضمير لها جمعا.

وأجيب بأنه لا يطرد لأنها قد تحمل على المجموع بقرينة عود ضمير الجمع عليها ، ولعل الأولى عود الضمير على المولى المفهوم من النكرة المنفية ، وقال بعض : لو جعل الضمير للكفار كضمير (مِيقاتُهُمْ) كثرت الفائدة وقلت المئونة فتأمل (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) في محل رفع على أنه بدل من ضمير (يُنْصَرُونَ) أو في محل نصب على الاستثناء منه أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله تعالى وذلك بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه.

وجوز كونه بدلا أو استثناء من (مَوْلًى) وفيه كما في الأول دليل على ثبوت الشفاعة لكن الرجحان للأول لفظا ومعنى ؛ والاستثناء من أي كان متصل ، وقال الكسائي : إنه منقطع أي لكن من رحمه‌الله تعالى فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه ولا إلى ناصر ينصره ، ولا وجه له مع ظهور الاتصال ، نعم إنه لا يتأتى على كون الاستثناء من الضمير وكونه راجعا للكفار فلا تغفل.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي لا ينصر من أراد سبحانه تعذيبه (الرَّحِيمُ) لمن أراد أن يرحمهعزوجل.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) مر معنى الزقوم في الصافات وقرئ «شجرة» بكسر الشين (طَعامُ الْأَثِيمِ) أي الكثير الآثام والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه دون ما يعمه والعاصي المكثر من المعاصي ثم إن المراد به جنس الكافر لا واحد بعينه ، وقال ابن زيد وسعيد بن جبير : إنه هنا أبو جهل ، وليس بشيء ولا دليل على ذلك بما أخرجه سعيد ابن منصور عن أبي مالك من أن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزبد فيقول : تزقموا فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) لما لا يخفى ، ومثله ما قيل : إنه الوليد وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري وابن المنذر عن عوف بن عبد الله أن ابن مسعود أقرأ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) فقال الرجل طعام اليثيم (١) فرددها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول طعام الفاجر؟ قال : نعم قال : فافعل ، وأخرج الحاكم وصححه وجماعة عن أبي الدرداء أنه وقع له مثل ذلك فلما رأى الرجل أنه لا يفهم قال : إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.

واستدل بذلك على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. وتعقبه القاضي أبو بكر في الانتصار بأنه أراد أن ينبهه على أنه لا يريد اليتيم (٢) بل الفاجر فينبغي أن يقرأ (الْأَثِيمِ) وأنت تعلم أن هذا التأويل لا يكاد يتأتى فيما روي عن ابن مسعود فإنه كالنص تجويز الإبدال لذلك الرجل وأبعد منه عن التأويل ما

أخرج ابن مردويه عن أبي أنه كان يقرئ رجلا فارسيا فكان إذا قرأ عليه (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) قال : طعام اليتيم فمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «قل طعام الظلام» فقالها ففصح بها لسانه ، وفي الباب أخبار كثيرة جياد الأسانيد كخبر أحمد من حديث أبي هريرة «أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما غفورا رحيما».

وكخبره من حديث أبي بكرة كله أي القرآن شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو

__________________

(١) بخط المؤلف بالثاء المثلثة.

(٢) بالتاء المثناة ا ه منه.

١٣٠

قولك تعالى وأقبل وأسرع وعجل إلى غير ذلك ، لكن قال الطحاوي : إنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفاظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ ، وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون ، ولعله أن تحقق إبدال من أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام يقال : إنه كان منه قبل الاطلاع على النسخ ومتى لم يجز إبدال كلمة مكان كلمة مؤدية معناها مع الاتحاد عربية فعدم جواز ذلك مع الاختلاف عربية وفارسية مثلا أظهر ، وما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أنه يرى جواز قراءة القرآن بالفارسية بشرط أداء المعاني على كمالها فقد صح عنه خلافه ، وقد حقق الشرنبلالي عليه الرحمة هذه المسألة في رسالة مفردة بما لا مزيد عليه ، وقد تقدم في هذا الكتاب شيء من ذلك فتذكر ، والطعام ما يتناول منه من الغذاء وأصله مصدر فلذا وقع خبرا عن المؤنث ولم يطابق ، وجوز أن يكون ذلك من باب قوله :

إنارة العقل مكسوف بطوع هوى

وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا

فكأنه قيل : إن الزقوم طعام الأثيم (كَالْمُهْلِ) عكر الزيت كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وجاء في حديث رواه الحاكم وغيره عن أبي سعيد مرفوعا وفيه «فإذا قرب إلى وجهه ـ يعني الجهنمي ـ سقطت فروة وجهه» وربما يؤيد بقوله تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج : ٨] مع قوله سبحانه : (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧] وقال بعض : عكر القطران ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصدد ، ومنه ما في حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه ادفنوني في ثوبي هذين فإنما هما للمهل والتراب. وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه ما أذيب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، قيل : وسمي ذلك مهلا لأنه في النار حتى يذوب فهو من المهل بمعنى السكون ، وادعى بعضهم الاشتراك وقد جاء استعماله في كل ما سمعت ، وقرأ الحسن «كالمهل» بفتح الميم وهو لغة فيه ، والجار والمجرور أو الكاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف لبيان حال الطعام أي هو كالمهل أو مثل المهل ، وقوله عزوجل (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) خبر ثان لذلك المبتدأ ، وقيل : حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور فيكون وصفا للطعام أيضا ؛ وقال أبو عبيد : هو حال من المهل ، وقيل : صفة له لأن أل فيه للجنس نحو : أمرّ على اللئيم يسبني ويعتبر داخلا في التشبيه وأنت تعلم أن غليان الطعام في البطن فيه مبالغة أما التشبيه بمهل يغلي في البطن فلا ، وقيل كالمهل أو الكاف خبر ثان لإن وجملة «يغلي في البطون» حال من الزقوم أو الطعام. وتعقب بأنه منع مجيء الحال من المضاف إليه في غير صور مخصوصة ليس هذا منها ومنع مجيئه من الخبر ومن المبتدأ. وأجيب بأن هذا بناء على جواز مجيء الحال من الخبر ومن المبتدأ والمضاف إليه المبتدأ في حكمه وأن ما ذكر من الصور التي يجيء الحال فيها من المضاف إليه لأن المضاف كالجزء في جوز إسقاطه ، ولا يخفى أنه بناء على ضعيف ، وقيل : كالمهل خبر ثان والجملة حال من ضمير الشجرة المستتر فيه ، والتذكير باعتبار كونها طعام الأثيم أو لاكتسابها إياه مما أضيفت إليه نظير ما سمعت في البيت آنفا وهو تكلف مستغنى عنه ، وقيل : الجملة على ذلك خبر مبتدأ محذوف هو ضمير الطعام أو الزقوم فإن كانت الجملة حينئذ مستأنفة فالبحث هين وإن كانت حالية عاد ما مر آنفا ولا أراك تظنه هينا ، وقيل : كالمهل حال من طعام وحاله معلوم ، وبالجملة الوجوه في إعراب الآية كثيرة وأنا أختار منها ما ذكرته أولا.

وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رزين والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وطلحة والحسن في رواية وأكثر السبعة «تغلي» بالتاء الفوقية فكالمهل خبر ثان لأن وجملة «تغلي» خبر ثالث واتحاد المبتدأ والخبر متكفل باتحاد القراءتين معنى فافهم ولا تغفل.

١٣١

(كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) صفة مصدر محذوف أي غليا كغلي الحميم ، وجوز أن يكون حالا ، والحميم ما هو في غاية الحرارة (خُذُوهُ) على إرادة القول والمقول له الزبانية أي ويقال لهم خذوه (فَاعْتِلُوهُ) فجروه بقهر.

قال الراغب : العتل الأخذ بجامع الشيء وجره بقهر ، وبعضهم يعبر بالثوب بدل الشيء وليس ذاك بلازم والمدار على الجر مع الإمساك بعنف.

وقال الأعمش ومجاهد : معنى (اعتلوه) اقصفوه كما يقصف الحطب ، والظاهر عليه التضمين أو تعلق الجار بخذوه ، والمعنى الأول هو المشهور. وقرأ زيد بن علي والحجازيان وابن عامر ويعقوب «فاعتلوه» بضم التاء وروي ذلك عن الحسن وقتادة والأعرج على أنه من باب قعد ، وعلى قراءة الجمهور من باب نصر وهما لغتان (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي وسطه ، وسمي سواء لاستواء بعد جميع أطرافه بالنسبة إليه.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) كأن أصله صبوا فوق رأسه الحميم ، ثم قيل : صبوا فوق رأسه الحميم ، ثم قيل : صبوا فوق رأسه عذابا هو الحميم للمبالغة بجعل العذاب عين الحميم ، وهو مترتب عليه ولجعله مصبوبا كالمحسوس ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف ، وزيد (مِنْ) للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي ويقال : أو قولوا له ذلك استهزاء وتقريعا على ما كان يزعمه.

أخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة قال : لما نزلت (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) قال أبو جهل : ما بين جبليها رجل أعز ولا أكرم مني ، فقال الله تعالى : (ذُقْ) إلخ.

وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة أن أبا جهل قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء لقد علمت أنني أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) وروي أن اللعين قال يوما : يا معشر قريش أخبروني ما اسمي فذكرت له ثلاث أسماء عمر والجلاس وأبو الحكم فقال : ما أصبتم اسمي ألا أخبركم به؟ قالوا : بلى قال : اسمي العزيز الكريم فنزلت (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) الآيات ، وهذا ونحوه لا يدل أيضا على تخصيص حكم الآية به فكل أثيم يدعي دعواه كذلك يوم القيامة ، وقيل : المعنى ذق إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم فما أغنى ذلك عنك ولم يفدك شيئا ، والذوق مستعار للإدراك.

وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما على المنبر والكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى لأنك.

(إِنَّ هذا) أي العذاب أو الأمر الذي أنتم فيه (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) تشكون وتمارون فيه ، وهذا ابتداء كلام منه عزوجل أو من مقول القول والجمع باعتبار المعنى لما سمعت أن المراد جنس الأثيم.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ) في موضع قيام ، والمراد بالقيام الثبات والملازمة كما في قوله تعالى : (ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) [آل عمران : ٧٥] ويكنى به عن الإقامة لأن المقيم ملازم لمكانه ، وهو مراد من قال : في مقام أي موضع إقامة.

وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وزيد بن علي وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وقتادة ونافع وابن عامر «مقام» بضم الميم ومعناه موضع إقامة ، وعلى ما قررنا ترجع القراءتان إلى معنى واحد.

(أَمِينٍ) يأمن صاحبه مما يكره فهو صفة من الأمن وهو عدم الخوف عما هو من شأنه ، ووصف المقام به باعتبار أمن من آمن به فهو إسناد مجازي كما في نهر جار ، وظاهر كلام الزمخشري أن ذلك استعارة من الأمانة كأن المكان مؤتمن وضع عنده ما يحفظه من المكاره ففيه استعارة مكنية وتخييلية ، وقال ابن عطية : فعيل بمعنى مفعول أي

١٣٢

مأمون فيه وليس بذاك ، وجوز أن يكون للنسبة أي ذي أمن (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) بدل من «مقام» بإعادة الجار أو الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور ، وظرفية العيون للمجاورة ، والظاهر أنه بدل اشتمال لا كل وبعض ، وفي ذلك دلالة على نزاهة مكانهم واشتماله على ما يستلذ من المآكل والمشارب.

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) خبر ثان أو حال من الضمير في الجار والمجرور أو استئناف ، والسندس قال ثعلب : الرقيق من الديباج والواحدة سندسة ، والإستبرق غليظه ، وقال الليث : هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز ، ولم يختلف أهل اللغة في أنهما معربان كذا ذكره بعضهم.

وفي الكشاف الإستبرق ما غلظ من الديباج وهو تعريب استبر ، قال الخفاجي : ومعنى استبر في لغة الفرس الغليظ مطلقا ثم خص بغليظ الديباج وعرب ، وقيل : إنه عربي من البراقة ، وأيد بقراءته بوصل الهمزة وهو كما ترى.

وذكر بعضهم أن السندس أصله سندي ومعناه منسوب إلى السند المكان المعروف لأن السندس كان يجلب منه فأبدلت ياء النسبة سينا ، وقد مر الكلام في ذلك فتذكر ، ثم إن وقوع المعرب في القرآن العظيم لا ينافي كونه عربيا مبينا. ونقل صاحب الكشف عن جار الله أنه قال : الكلام المنظوم مركب من الحروف المبسوطة في أي لسان كان تركي أو فارسي أو عربي ثم لا يدل على أن العربي أعجمي فكذا هاهنا ، ثم قال صاحب الكشف : يريد أن كون استبر أعجميا لا يلزمه أن يكون إستبرق كذلك. وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» فعلا ماضيا كما في البحر ، والجملة حينئذ قيل معترضة ، وقيل : حال من (سُندُسٍ) والمعنى يلبسون من سندس وقد برق لصقالته ومزيد حسنه (مُتَقابِلِينَ) في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض (كَذلِكَ) أي الأمر كذلك فالكاف في محل رفع على الخبرية لمبتدإ محذوف ، والمراد تقرير ما مر وتحقيقه. ونقل عن جار الله أنه قال : والمعنى فيه أنه لم يستوف الوصف وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف فكأنه قيل : الأمر نحو ذلك وما أشبهه.

وأراد على ما قال المدقق أن الكاف مقحم للمبالغة وذلك مطرد في عرفي العرب والعجم ، وجوز أن يكون في محل نصب على معنى أثبناهم مثل ذلك ، وقوله تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ) على هذا عطف على الفعل المقدر وعلى ما قبل على (يَلْبَسُونَ) والمراد على ما قال غير واحد وقرناهم (بِحُورٍ عِينٍ) وفسر بذلك قيل لأن الجنة ليس فيها تكليف فلا عقد ولا تزويج بالمعنى المشهور ، وقيل : لمكان الباء ، وزوجه المرأة بمعنى أنكحه إياها متعد بنفسه ، وفيه بحث فإن الأخفش جوز الباء فيه فيقال : زوجته بامرأة فتزوج بها ، وأزد شنوءة يعدونه بالباء أيضا ، وفي القاموس زوجته امرأة وتزوجت امرأة وبها أو هي قليلة ، ويعلم مما ذكر أن قول بعض الفقهاء زوجته بها خطأ لا وجه له ، ويجوز أن يقال : إن ذلك التفسير لأن الحور العين في الجنة ملك يمين كالسراري في الدنيا فلا يحتاج الأمر إلى العقد عليهن ، على أنه يمكن أن يكون في الجنة عقد وإن لم يكن فيها تكليف.

وقد أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال : زوجناهم أنكحناهم. ومن الناس من قال بالتكليف فيها بمعنى الأمر والنهي لكن لا يجدون في الفعل والترك كلفة ، نعم المشهور أن لا تكليف فيها ، وبعض ما حرم في الدنيا كنكاح امرأة الغير ونكاح المحارم لا يفعلونه لعدم خطوره لهم ببال أصلا ، والحور جمع حوراء وهي البيضاء كما روي عن ابن عباس والضحاك وغيرهما ، وقيل : الشديدة سواد العين وبياضها ، وقيل : الحوراء ذات الحور وهو سواد المقلة كلها كما في الظباء فلا يكون في الإنسان إلا مجازا. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أن الحوراء التي يحار فيها الطرف. والعين جمع عيناء وهي عظيمة العينين وأكثر الأخبار تدل على أنهن لسن نساء الدنيا ، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلق الحور العين من زعفران» وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أنس بن مالك

١٣٣

مرفوعا نحوه ، وأخرج ابن المبارك عن زيد بن أسلم قال : إن الله تعالى لم يخلق الحور العين من تراب إنما خلقهن من مسك وكافور وزعفران.

وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عائشة قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حور العين خلقهن من تسبيح الملائكة عليهم‌السلام» وهذا إن صح لا يعارض ما قبله إذ لا بد عليه من أن يقال بتجسد المعاني فيجوز تجسد التسبيح وجعله جزءا مما خلقن منه ، وقيل : المراد بهن هنا نساء الدنيا وهن في الجنة حور عين بالمعنى الذي سمعت بل هن أجمل من الحور العين أعني النساء المخلوقات في الجنة من زعفران أو غيره ويعطى الرجل هناك ما كان له في الدنيا من الزوجات ، وقد يضم إلى ذلك ما شاء الله تعالى من نساء متن ولم يتزوجن ، ومن تزوجت بأكثر من واحد فهي لآخر أزواجها أو لأولهم إن لم يكن طلقها في الدنيا أو تخير فتختار من كان أحسنهم خلقا معها أقوال صحح جمع منها الأول ، وتعطى زوجة كافر دخلت الجنة لمن شاء الله تعالى. وقد ورد أن آسية امرأة فرعون تكون زوجة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ عكرمة «بحور عين» بالإضافة وهي على معنى من أي بالحور من العين ، وفي قراءة عبد الله «بعيس عين» والعيساء البيضاء تعلوها حمرة (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ولا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان (آمِنِينَ) من الضرر أي ضرر كان ، وهو حال من ضمير (يَدْعُونَ) وكونه حالا من الضمير في قوله سبحانه : (فِي جَنَّاتٍ) بعيد ، وأبعد منه جعل (يَدْعُونَ) حينئذ صفة الحور والنون فيه ضمير النسوة وزنه يفعلن لما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر مع عدم المناسبة للسياق.

وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) جملة مستأنفة أو حالية وكأنه أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع الموتة الأولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها ، ونظيره قول القائل لمن يستسقيه : لا أسقيك إلا الجمر وقد علم أن الجمر لا يسقى ، ومثله قوله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] فالاستثناء متصل والدخول فرضي للمبالغة ، وضمير (فِيهَا) للجنات ، وقيل : هو متصل والمؤمن عند موته لمعاينة ما يعطاه في الجنة كأنه فيها فكأنه ذاق الموتة الأولى في الجنة ، وقيل متصل وضمير «فيها» للآخرة والموت أول أحوالها ، ولا يخفى ما فيه من التفكيك مع ارتكاب التجوز ، وقيل : الاستثناء منقطع والضمير للجنات أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا ، والأصل اتصال الاستثناء ، وقال الطبراني : إلا بمعنى بعد ، والجمهور لم يثبتوا هذا المعنى لها ، وقال ابن عطية : ذهب قوم إلى أن إلا بمعنى سوى وضعفه الطبري.

وقال أبو حيان : ليس تضعيفه بصحيح بل يصح المعنى بسوى ويتسق. وفائدة الوصف تذكير حال الدنيا. والداعي لما سمعت من الأوجه دفع سؤال يورد هاهنا من أن الموتة الأولى مما مضى لهم في الدنيا وما هو كذلك لا يمكن أن يذوقوه في الجنة فكيف استثنيت؟ وقيل : إن السؤال مبني على أن الاستثناء من النفي إثبات فيثبت للمستثنى الحكم المنفي عن المستثنى منه ومحال أن يثبت للموتة الأولى الماضية الذوق في الجنة ، وأما على قول من جعله تكلما بالباقي بعد الثنيا ، والمعنى لا يذوقون سوى الموتة الأول من الموت فلا إشكال فتأمل. وقرأ عبيد بن عمير «لا يذاقون» مبنيا للمفعول ، وقرأ عبد الله «لا يذوقون فيها طعم الموت» وجاء في الحديث النوم لأنه أخو الموت ، أخرج البزار والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال : «قيل يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال : لا النوم أخو الموت وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون».

(وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) وقرأ أبو حيوة «ووقّاهم» مشدد القاف على المبالغة في التكثير في الوقاية لأن

١٣٤

التفعيل لزيادة المعنى لا للتعدية لأن الفعل متعد قبله (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه تعالى فهو نصب على المصدرية ، وجوز فيه أن يكون حالا ومفعولا له ، وأيا ما كان ففيه إشارة إلى نفي إيجاب أعمالهم الإثابة عليه سبحانه وتعالى. وقرئ «فصل» بالرفع أي ذلك فضل (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه فوز بالمطالب وخلاص من المكاره (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي فإنما سهلنا القرآن (بِلِسانِكَ) أي بلغتك ، وقيل : المعنى أنزلناه على لسانك بلا كتابة لكونه أميا ، وهذا فذلكة وإجمال لما في السورة بعد تفصيل تذكيرا لما سلف مشروحا فيها ، فالمعنى ذكرهم بالكتاب المبين فإنما يسرناه بلسانك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي كي يفهموه ويتذكروا به ويعملوا بموجبه (فَارْتَقِبْ) أي وإن لم يتذكروا فانتظر ما يحل بهم وهو تعميم بعد تخصيص بقوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) [الدخان : ١٠] إلخ (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) منتظرون ما يحل بك كما قالوا : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] وقيل : معناه مرتقبون ما يحل بهم تهكما ، وقيل : هو مشاكلة ، والمعنى أنهم صائرون للعذاب ، وفي الآية من الوعد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى ، وقيل : فيها الأمر بالمتاركة وهو منسوخ بآية السيف فلا تغفل.

ومن باب الإشارة في الآيات : ما ذكروه في قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) إلى آخر القصة من تطبيق ذلك على ما في الأنفس ، وهو مما يعلم مما ذكرناه في باب الإشارة من هذا الكتاب غير مرة فلا نطيل به ، وقالوا في قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) إنه إشارة إلى الوحدة كقوله عزوجل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣] وأفصح بعضهم فقال : الحق هو عزوجل والباء للسببية أي ما خلقناهما إلا بسبب أن تكون مرايا لظهور الحق جلّ وعلا ، ومن جعل منهم الباء للملابسة أنشد :

رق الزجاج وراقت الخمر

فتشاكلا وتشابه الأمر

فكأنما خمر ولا قدح

وكأنما قدح ولا خمر

والعبارة ضيقة والأمر طور ما وراء العقل والسكوت أسلم ، وقالوا في شجرة الزقوم : هي شجرة الحرص وحب الدنيا تظهر يوم القيامة على أسوأ حال وأخبث طعم ، وقالوا (الْمَوْتَةَ الْأُولى) ما كان في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر وهو المشار إليه بموتوا قبل أن تموتوا فمن مات ذلك الموت حيي أبدا الحياة الطيبة التي لا يمازجها شيء من ماء الألم الجسماني والروحاني وذلك هو الفوز العظيم ، والله تعالى يقول الحق وهو سبحانه يهدي السبيل.

١٣٥

سورة الجاثية

وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر كما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها ، وهي مكية قال ابن عطية : بلا خلاف ، وذكر الماوردي إلا (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) [الجاثية : ١٤] الآية فمدنية ، وحكى هذا الاستثناء في جمال القراء عن قتادة ، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في «حم» هل هي آية مستقلة أو لا ، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إن جعل اسما للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم ، وقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة ، وقوله سبحانه : (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) صلته أو خبر ثالث أو حال من (تَنْزِيلُ) عاملها معنى الإشارة أو من (الْكِتابِ) الذي هو مفعول معنى عاملها المضاف ، وقيل : (حم) مبتدأ وهذا خبره والكلام على المبالغة أيضا أو تأويل (تَنْزِيلُ) بمنزل ،

١٣٦

والإضافة من إضافة الصفة لموصوفها ، واعتبار المبالغة أولى أي المسمى به تنزيل إلخ. وتعقب بأن الذي يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها ، وجوز جار الله جعل «حم» مبتدأ بتقدير مضاف أي تنزيل حم و (تَنْزِيلُ) المذكور خبره و (مِنَ اللهِ) صلته ، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إيذانا بأنه الكتاب الكامل إن أريد بالكتاب السورة ، وفيه تفخيم ليس في تنزيل حم تنزيل من الله ، ولهذا لما لم يراع في حم السجدة هذه النكتة عقب بقوله تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ) [فصلت : ٣] ليفيد هذه الفائدة مع التفنن في العبارة ، وإن أريد الكتاب كله فللإشعار بأن تنزيله كإنزال الكل في حصول الغرض من التحدي والتهدي ، فدعوى عراء هذا الوجه عن فائدة يعتد بها عراء عن إنصاف يعتد به ، وإن جعل تعديدا للحروف فلا حظ له من الإعراب وكان (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف بعده على ما قاله جار الله ، وقيل : (حم) مقسم به ففيه حرف جر مقدر وهو في محل جر أو نصب على الخلاف المعروف فيه و (تَنْزِيلُ) نعت مقطوع فهو خبر مبتدأ مقدر والجملة مستأنفة وجواب القسم قوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) وهو على ما تقدم استئناف للتنبيه على الآيات التكوينية ، وجوز أن يكون (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) مبتدأ وخبرا والجملة جواب القسم ، وهو خلاف الظاهر ، وقيل : يقدر (حم) على كونه مقسما به مبتدأ محذوف الخبر أي حم قسمي ويكون «تنزيل» نعتا له غير مقطوع ، وعلى سائر الأوجه قوله سبحانه : (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) نعت للاسم الجليل.

وجوز الإمام كونه صفة للكتاب إلا أنه رجح الأول بعد احتياجه إلى ارتكاب المجاز مع زيادة قرب الصفة من الموصوف فيه ، وأوجبه أبو حيان لما في الثاني من الفصل بين الصفة والموصوف الغير الجائز.

وقوله عزوجل : «إن في السموات» إلخ يجوز أن يكون بتقدير مضاف أي إن في خلق السموات كما رواه الواحدي عن الزجاج لما أنه قد صرح به في آية أخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ويناسبه قوله عزوجل :

(وَفِي خَلْقِكُمْ) إلى آخره ، ويجوز أن يكون على ظاهره وحينئذ يكون على أحد وجهين. أحدهما إن فيهما لآيات أي ما فيهما من المخلوقات كالجبال والمعادن والكواكب والنيرين وعلى هذا يكون قوله سبحانه (وَفِي خَلْقِكُمْ) من عطف الخاص على العام. والثاني أن أنفسهما لآيات لما فيها من فنون الدلالة على القادر الحكيم جل شأنه ، وهذا أظهر وهو أبلغ من أن يقال : إن في خلقهما لآيات وإن كان المعنى آئلا إليه ، و (فِي خَلْقِكُمْ) خبر مقدم وقوله سبحانه : (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) عطف على خلق ، وجوز في (ما) كونها مصدرية وكونها موصولة إما بتقدير مضاف أي وفي خلق ما ينشره ويفرقه من دابة أو بدونه.

وجوز عطفه على الضمير المتصل المجرور بالإضافة وما موصولة لا غير على الظاهر ، وهو مبني على جواز العطف على الضمير المتصل المجرور من غير إعادة الجار وذلك مذهب الكوفيين ويونس والأخفش ؛ قال أبو حيان : وهو الصحيح ، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين ، ومذهب سيبويه وجمهور البصريين منع العطف المذكور سواء كان الضمير مجرورا بالحرف أو بالإضافة لشدة الاتصال فأشبه العطف على بعض الكلمة.

وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل في باب الوقف منه أن بعض النحويين يجوزون العطف في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل واحد منهما بمعناه فلم يشتد اتصال فيه اشتداده مع الحرف وأجاز الجرمي والزيادي العطف إذ أكد الضمير المتصل بمنفصل نحو مررت بك أنت وزيد وقوله تعالى (آياتٌ) مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على جملة (إِنَّ فِي السَّماواتِ) إلخ. وقرأ أبي

١٣٧

وعبد الله «لآيات» باللام كذا في البحر ولم يبين أن آيات مرفوع أو منصوب ، فإن كان منصوبا فاللام زائدة في اسم إن المتقدم عليه خبرها وهو أحد مواضع زيادته المطردة الكثيرة ، وإن كان مرفوعا فهي زائدة في المبتدأ ويقل زيادتها فيه ، وحسن زيادتها هنا تقدم أن في الجملة المعطوف عليها فهو كقوله :

إن الخلافة بعدهم لذميمة

وخلائف ظرف لمما أحقر

وقرأ زيد بن علي «آية» بالإفراد. وقرأ الأعمش والجحدري وحمزة والكسائي ويعقوب «آيات» بالجمع والنصب على أنها عطف على «آيات» السابق الواقع اسما لأن و (فِي خَلْقِكُمْ) معطوف على (فِي السَّماواتِ) فكأنه قيل : وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالجر على إضمار في ، وقد قرأ عبد الله بذكره. وجاء حذف الجار مع إبقاء عمله كما في قوله :

إذا قيل أي الناس شر قبيلة

أشارت كليب بالأكف الأصابع

وحسن ما هنا ذكر الجار في الآيتين قبل. وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ خبره (آياتٌ) بعد والمراد باختلافهما تعاقبهما أو تفاوتهما طولا وقصرا ، وقيل : اختلافهما في أن أحدهما نور والآخرة ظلمة (وَما أَنْزَلَ اللهُ) عطف على (اخْتِلافِ مِنَ السَّماءِ) جهة العلو ، وقيل : السحاب ، وقيل : الجرم المعروف بضرب من التأويل.

(مِنْ رِزْقٍ) من مطر ، وسمي رزقا لأنه سببه فهو مجاز ، ولو لم يؤول صح لأنه في نفسه رزق أيضا.

(فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بأن أخرج منها أصناف الزرع والثمرات والنبات ، والسببية عادية اقتضتها الحكمة (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) من جهة إلى أخرى ومن حال إلى حال ، وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة ، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار.

وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى «وتصريف الريح» بالإفراد (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور أعني «في اختلاف» على ما سمعت ، والجملة معطوفة على ما قبلها. وقيل : إن (اخْتِلافِ) بالجر عطف على (خَلْقِكُمْ) المجرور بفي قبله و (آياتٌ) عطف على آيات السابق المرفوع بالابتداء ، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين ، ومن الناس من يمنعه وهم أكثر البصريين ، ومنهم من يجيزه وهم أكثر الكوفيين ، ومنهم من يفصل فيقول : وهو جائز في نحو قولك : في الدار زيد والحجرة عمرو وغير جائز في نحو قولك : زيد في الدار وعمرو الحجرة لأن الأول يلي المجرور فيه العاطف فقام العاطف مقام الجار ، والثاني لم يل فيه المجرور العاطف فكان فيه إضمار الجار من غير عوض ، وتمام الكلام في هذه المسألة في محله ؛ وقيل : إن (اخْتِلافِ) عطف على المجرور قبله و (آياتٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هي آيات ؛ واختاره من لم يجوز العطف على معمولي عاملين ويقول بضعف حذف الجار مع بقاء عمله وإن تقدمه ذكر جار.

وقال أبو البقاء : (آياتٌ) مرفوع على التأكيد لآيات السابق وهم يعيدون الشيء إذا طال الكلام في الجملة للتأكيد والتذكير. وتعقب بأن ذلك إنما يكون بعين ما تقدم واختلاف الصفات يدل على تغاير الموصوفات فلا وجه للتأكيد ، وأيضا فيه الفصل بين المعطوف المجرور والمعطوف عليه وبين المؤكد والمؤكد وهو إن جاز يورث تعقيدا ينافى فصاحة القرآن العظيم. وقرأ آيات هنا بالنصب من قرأها هناك به فهي مفعول لفعل محذوف أي أعني آيات ،

١٣٨

وقيل : العاطف في قوله تعالى (وَاخْتِلافِ) عطف اختلاف على المجرور بفي قبل وعطفها على اسم إن وهو مبني على جواز العطف على معمولي عاملين ، وقال أبو البقاء : هي منصوبة على التأكيد والتكرير لاسم إن نحو بثوبك دما وبثوب زيد دما ، ومر آنفا ما فيه.

وقال بعضهم : إنها اسم إن مضمرة وهي قد تضمر ويبقى عملها ، ذكر أبو حيان في الارتشاف في الكلام على أن من خير الناس أو خيرهم زيد أن محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي ذهب إلى نصب خيرهم ورفع زيد فاسم إن محذوف وأو خيرهم منصوب بإضمار إن لدلالة إن المذكورة تقديره إن من خير الناس زيدا وإن خيرهم زيد. وقد أقر الشاطبي تخريج النصب في الآية على ذلك لكن نقله السفاقسي عن أبي البقاء ورده بأن إن لا تضمر.

وقال ابن هشام في آخر الباب الرابع من المغني : إنه بعيد ، والظاهر أنه لا بد عليه من إضمار الجار في (اخْتِلافِ) وحينئذ لا يخفى حاله ، وسائر القراءات مروية هنا عمن رويت عنه فيما تقدم ، وتنكير (آياتٌ) في الآيات للتفخيم كما وكيفا ، والمعنى إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنها لا بد لها من صانع فآمنوا بالله تعالى وأقروا ، وإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى أخرى وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بعد موتها وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا وشدة وضعفا وحرارة وبرودة عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم كذا في الكشاف ومنه يعلم نكتة اختلاف الفواصل.

وفي الكشف أنه ذكر ما حاصله أنه على سبيل الترقي وهو يوافق ما عليه الصوفية وغيرهم من أن الإيقان مرتبة خاصة في الإيمان ، ثم العقل لما كان مدارهما أي الإيمان والإيقان ونعني به العقل المؤيد بنور البصيرة جعله لخلوص الإيقان من اعتراء الشكوك من كل وجه ففي استحكامه كل خير ، وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث من تقديم ما هو أقدم وجودا ، ولا يلزم أن تكون الآية الثانية أعظم من الأولى ولا الثالثة من الثانية لما ذكره من أن الجامع بين النظرين موقن وبين الثلاثة عاقل على أنها كذلك في تحصيل هذا الغرض فإن كانت أعظم من وجه آخر فلا بأس فإن النظر إلى حال نفسه وما هو من نوعه ثم جنسه من سائر الأناسي والحيوان للقرب والتكرر وكثرة العدد أدخل في انتفاء الشك وحصول اليقين وإن كان النظر في السماء والأرض أتم دلالة على كمال القدرة والعلم فذلك لا يضر ولا هو المطلوب هاهنا ثم النظر إلى الاختلاف المذكور أدل على استحكام ذلك اليقين من حيث إنه يتجدد حينا فحينا ويبعث على النظر والاعتبار كلما تجدد هذا ، والتحقيق أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السموات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه ، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين ، أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد من أن يكون جامعا انتهى ، وهو كلام نفيس جدا.

وقال الإمام في ترتيب هذه الفواصل : أظن أن سببه أنه قيل إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل كنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل ، ولا يخفى أنه فاته ذلك التحقيق ولم يختر الترقي وهو بالاختيار حقيق ، والمغايرة بين ما هنا وما في سورة [البقرة : ١٦٤] (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه ، وذكر الإمام في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل (تِلْكَ آياتُ اللهِ) مبتدأ وخبر ، وقوله تعالى : (نَتْلُوها عَلَيْكَ) حال عاملها معنى

١٣٩

الإشارة نحو (هذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] على المشهور ، وقيل : هو الخبر و (آياتُ اللهِ) بدل أو عطف بيان وقوله سبحانه : (بِالْحَقِ) حال من فاعل (نَتْلُوها) أو من مفعوله أي نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق فالباء للملابسة ويجوز أن تكون للسببية الغائية ، والمراد بالآيات المشار إليها إما آيات القرآن أو السورة أو ما ذكر قبل من السموات والأرض وغيرهم فتلاوتها بتلاوة ما يدل عليها ، وفسرت بالسرد أي نسردها عليك.

وقال ابن عطية : الكلام بتقدير مضاف أي نتلو شأنها وشأن العبرة بها. وقرئ «يتلوها» بالياء على أن الفاعل ضميره تعالى والمراد على القراءتين تلاوتها عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة الملك عليه‌السلام (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) هو من باب قولهم : أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإعجاب أي فبأي حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون ، وفيه دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان ولا آية أدل من هذه الآية ، وتفخيم شأن الآيات من اسم الإشارة وإضافتها إلى الله عزوجل ، وجعل «نتلوها» حالا مع ضمير التعظيم ثم تكرير الاسم الجليل للنكتة المذكورة وإضافتها إليه بواسطة الضمير مرة أخرى ، وقد ذكر ذلك الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة والعطف ، والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في أعجبني زيد كرمه بغير واو على البدل وهذا قلب لحقائق النحو ، وإنما المعنى في المثال إن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان لا إعجاب واحد وهو مبني على عدم التعمق في فهم كلام جار الله.

ومن تعمق فيه لا يرى أنه قائل بالإقحام وإنما بيان حاصل المعنى يوهمه ، وبين هذه الطريقة وطريقة البدل مغايرة تامة ، فقد ذكر أن فائدة هذه الطريقة وهي طريقة إسناد الفعل إلى شيء والمقصود إسناده إلى ما عطف عليه قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه من جهة الدلالة على أنه صار من التلبس بحيث يصح أن يسند أوصافه وأفعاله وأحواله إلى الأول قصدا لأنه بمنزلته ولا كذلك البدل لأن المقصود فيه بالنسبة هو الثاني فقط وهنا هما مقصودان ، فإن قلت : إذا لم يكن ذلك الوصف منسوبا للمعطوف عليه لزم إقحامه كما قال أبو حيان ، وما يذكر من المبالغة لا يدفع المحذور ، وعلى فرض تسليمه فدلالته على ما ذكر بأي طريق من طرق الدلالة المشهورة.

أجيب بأنه غير منسوب إليه في الواقع لكن لما كان بينهما ملابسة تامة من جهة ما ككون الآيات هاهنا بإذنه تعالى أو مرضية له عزوجل جعل كأنه المقصود بالنسبة وكني بها عن ذلك الاختصاص كناية إيمائية ثم عطف عليه المنسوب إليه وجعل تابعا فيها وبهذا غاير البدل مغايرة تامة غفل عنها المعترض فالنسبة بتمامها مجازية كذا قرره بعض المحققين.

وقال الواحدي : أي فبأي حديث بعد حديث الله أي القرآن وقد جاء إطلاقه عليه في قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث ، وقوله سبحانه : (وَآياتِهِ) عطف عليه لتغايرهما إجمالا وتفصيلا لأن الآيات هي ذلك الحديث ملحوظ الأجزاء ، وإن أريد ما بين فيه من الآيات والدلائل فليس من عطف الخاص على العام لأن الآيات ليست من القرآن وإنما وجه دلالتها وإيرادها منه فيكون في هذا الوجه الدلالة أيضا على حال البيان والمبين كما في الوجه الأول ، وقال الضحاك : أي فبأي حديث بعد توحيد الله ولا يخفى أنه بظاهره مما لا معنى له فلعله أراد بعد حديث توحيده تعالى أي الحديث المتضمن ذلك أو هو بعد تقدير المضاف من باب أعجبني زيد وكرمه ، وأيا ما كان فالفاء في جواب شرط مقدر والظرف صفة «حديث» وجوز أن يكون متعلقا بيؤمنون قدم للفاصلة.

١٤٠