روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة ، وأما النظر في معرفة الله تعالى. أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلى. فقيل : يتعين أن يكون المراد به النظر في الأدلة العقلية فقط ، ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقها إليه لاستلزامه الدور. وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العلم به ، وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها (١) صادقا في دعواه الرسالة. وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن الله تعالى قد أظهر المعجزات على يده تصديقا له في دعواه وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن ثمت إلها على صفة يمكن بها أن يبعث رسولا ككونه حيا عالما مريدا قادرا وهو من معرفة الإله سبحانه فلو استفدنا العلم بوجود الله تعالى وبتلك الصفات من الدلائل السمعية الموقوفة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لزم الدور كما ترى. نعم إذا قيل : إن المكلف بعد ما آمن بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتقد اعتقادا جازما بصدقه في جميع ما جاء به من عند الله تعالى بأي وجه كان ذلك الجزم بالضرورة أو بالنظر أو بالتقليد فله أن يأخذ عقيدته من القرآن من غير تأويل ولا ميل من غير أن ينظر في دليل عقلي كان ذلك كلاما صحيحا لا غبار عليه ، ولا يلزم منه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى ما حصله أولا من المسائل التي يتوقف عليها صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لأن التحصيل الثاني من حيث إن الجائي بدلائلها صادق فيها والتحصيل الأول كان بالنظر العقلي من غير اعتبار صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فاختلفت الحيثية فليفهم والله تعالى أعلم.

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الدنيا (وَمَثْواكُمْ) في الآخرة ، وخص المتقلب بالدنيا والمثوى بالآخرة لأن كل أحد متحرك في الدنيا دائما نحو معاده غير قار وفي الآخرة مقيم لا حركة له نحو دار وراءها ، والمراد من علمه تعالى بذلك تحذيرهم من جزائه وعقابه سبحانه أو الترغيب في امتثال ما يأمرهم جلّ شأنه به والترهيب عما ينهاهم عزوجل عنه على طريق الكناية. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : متقلبكم تصرفكم في حياتكم الدنيا ومثواكم في قبوركم وآخرتكم ، وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم إقامتكم في الأرض ؛ وقال الطبري : وغيره : متقلبكم تصرفكم في يقظتكم ومثواكم منامكم ، وقيل : متقلبكم في معايشكم ومتاجركم ومثواكم حيث تستقرون من منازلكم ، وقيل : متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار.

واختار أبو حيان عمومهما في كل متقلب وفي كل إقامة ، ونحوه ما قيل : المراد يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها.

وقرأ ابن عباس «منقلبكم» بالنون.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ(٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ

__________________

(١) قوله : الذي جاء بها صادقا كذا في النسخ.

٢٢١

أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ(٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٣٨)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) حرصا على الجهاد لما فيه من الثواب الجزيل فالمراد بهم المؤمنون الصادقون (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد. فلو لا : تحضيضية ، وعن ابن مالك أن (لا) زائدة والتقدير لو أنزلت سورة وليس بشيء.

(فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي بطريق الأمر به ، والمراد. بمحكمة. مبينة لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال ، وفسرها الزمخشري بغير منسوخة الأحكام. وعن قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن لا بخصوصية هذه الآية والمتحقق أن آيات القتال غير منسوخة وحكمها باق إلى يوم القيامة. وقيل : محكمة بالحلال والحرام.

وقرئ «نزلت» سورة بالبناء للفاعل من نزل الثلاثي المجرد ورفع «سورة» على الفاعل.

وقرأ زيد بن علي «نزلت» كذلك إلا أنه نصب «سورة محكمة» ، وخرج ذلك على كون الفاعل ضمير السورة ، و «سورة محكمة» نصب على الحال. وقرأ هو وابن عمير «وذكر» مبنيّا للفاعل وهو ضمير تعالى «القتال» بالنصب على أنه مفعول به (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق ، وقيل : ضعف في الدين (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي نظر المحتضر الذي لا يطرف بصره ، والمراد تشخص أبصارهم جبنا وهلعا ، وقيل : يفعلون ذلك من شدة العداوة له عليه الصلاة والسلام ، وقيل : من خشية الفضيحة فإنهم إن تخلفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم ، وقال الزمخشري : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون : لو لا أنزلت سورة في معنى

٢٢٢

الجهاد فإذا أنزلت وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم وسقط في أيديهم كقوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) [النساء : ٧٧] والظاهر ما ذكرناه أولا من أن القائلين هم الذين أخلصوا في إيمانهم وإنما عرا المنافقين ما عرا عند نزول أمير المؤمنين بالجهاد لدخولهم فيهم بحسب ظاهر حالهم ، وقد جوز هو أيضا إرادة الخلص من الذين آمنوا لكن كلامه ظاهر في ترجح ما ذكره أولا عنده والظاهر أن في الكلام عليه إقامة الظاهر مقام المضمر ، وجوز أن يكون المطلوب في قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) إنزال سورة مطلقا حيث كانوا يستأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ ، وروي نحوه عن ابن جريج. أخرج ابن المنذر عنه أنه قال في الآية : كان المؤمنون يشتاقون إلى كتاب الله تعالى وإلى بيان ما ينزل عليهم فيه فإذا نزلت السورة يذكر فيها القتال رأيت يا محمد المنافقين ينظرون إليك إلخ.

(فَأَوْلى لَهُمْ) تهديد ووعيد على ما روي عن غير واحد ، وعن أبي علي أن (أولى) فيه علم لعين الويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن. فالكلام مبتدأ وخبر.

واعترض بأن الويل غير متصرف فيه ، ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة ، وإن القلب خلاف الأصل لا يرتكب إلا بدليل ، وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه ، ثم قيل : إن الاشتقاق الواضح من الولي بمعنى القرب كما في قوله :

تكلفني ليلى وقد شط وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب

يرشد إلى أنه للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل : هلاكا أولى لهم بمعنى أهلكهم الله تعالى هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك ، وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك ، وهو على هذا منصوب على أنه صفة في الأصل لمصدر محذوف وقد أقيم مقامه والجار متعلق به. وفي الصحاح عن الأصمعي أولى له قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد :

فعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثلاث

أي قارب أن يزيد ، قال ثعلب : ولم يقل أحد في (أولى) أحسن مما قاله الأصمعي ، وعلى هذا هو فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق ، وقريب منه ما قيل : إنه فعل ماض وفاعله ضميره عزوجل واللام مزيدة أي أولاهم الله تعالى ما يكرهون أو غير مزيدة أي أدنى الله عزوجل الهلاك لهم ، والظاهر زيادة اللام على ما سمعت عن الأصمعي ، ومن فسره بقرب جوز الأمرين ، وقيل : هو اسم فعل والمعنى وليهم شر بعد شر. وقيل : هو فعلى من آل بمعنى رجع لا أفعل من الولي فهو في الأصل دعاء عليهم بأن يرجع أمرهم إلى الهلاك ، والمراد أهلكهم الله تعالى إلا أن التركيب مبتدأ وخبر ، وقال الرضي : هو علم للوعيد من وليه الشر أي قربه ، والتركيب مبتدأ وخبر أيضا. واستدل بما حكي أبو زيد من قولهم : أولاة بتاء التأنيث على أنه ليس بأفعل تفضيل ولا أفعل فعلى وإنه علم وليس بفعل ثم قال : بل هو مثل أرمل وأرملة إذا سمي بهما ولذا لم ينصرف ، وليس اسم فعل أيضا بدليل أولاة في تأنيثه بالرفع يعني أنه معرب ولو كان اسم فعل كان مبنيا مثله. وتعقب بأنه لا مانع من كون أولاة لفظا آخر بمعناه يرد من ذلك على قائلي ما تقدم أصلا ، وجاء أول أفعل تفضيل وظرفا كقبل وسمع فيه أولة كما نقله أبو حيان ، وقيل : الأحسن كونه أفعل تفضيل بمعنى أحق وأحرى وهو خبر لمبتدإ محذوف يقدر في كل مقام بما يليق به والتقدير هاهنا العقاب أولى لهم ، وروي ذلك عن قتادة ومال إلى هذا القول ابن عطية ، وعلى جميع هذه الأقوال قوله تعالى : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام مستقل محذوف منه أحد

٢٢٣

الجزأين أما الخبر وتقديره خير لهم أو أمثل ، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل. وأما المبتدأ وتقديره الأمر أو أمرنا طاعة أي الأمر المرضي لله تعالى طاعة ، وقيل : أي أمرهم طاعة معروفة وقول معروف أي معلوم حاله أنه خديعة ، وقيل : هو حكاية قولهم قبل الأمر بالجهاد أي قالوا أمرنا طاعة ويشهد له قراءة أبي «يقولون طاعة وقول معروف» وذهب بعض إلى أن (أولى) أفعل تفضيل مبتدأ و (لَهُمْ) صلته واللام بمعنى الباء و (طاعَةٌ) خبر كأنه قيل فأولى بهم من النظر إليك نظر المغشيّ عليه من الموت طاعة وقول معروف ، وعليه لا يكون كلاما مستقلا ولا يوقف على (لَهُمْ) ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل : إن (طاعَةٌ) صفة لسورة في قوله تعالى (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) والمراد ذات طاعة أو مطاعة. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لحيلولة الفصل الكثير بين الصفة والموصوف (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جد والجد أي الاجتهاد لأصحاب الأمر إلا أنه أسند إليه مجازا كما في قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان :١٧] ومنه قول الشاعر :

قد جدت الحرب بكم فجدوا

والظاهر أن جواب «إذا» قوله تعالى : (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) وهو العامل فيها ولا يضر اقترانه بالفاء ولا تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها في مثله كما صرحوا به ، وهذا نحو إذا جاء الشتاء فلو جئتني لكسوتك ، وقيل : الجواب محذوف تقديره فإذا عزم الأمر كرهوا أو نحو ذلك قاله قتادة. وفي البحر من حمل (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) على أنهم يقولون ذلك خديعة قدر فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا ، ولعل من يجعل القول السابق للمؤمنين في ظاهر الحال وهم المنافقون جوز هذا التقدير أيضا ، وقدر بعضهم الجواب فاصدق وهو كما ترى ، وأيا ما كان فالمراد فلو صدقوا الله فيما زعموا من الحرص على الجهاد ولعلهم أظهروا الحرص عليه كالمؤمنين الصادقين ، وقيل : في قوله : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ، وقيل : في إيمانهم (لَكانَ) أي الصدق (خَيْراً لَهُمْ) مما ارتكبوه وهذا مبني على ما في زعمهم من أن فيه خيرا وإلا فهو في نفس الأمر لا خير فيه.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ) خطاب لأولئك الذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع ، وهل للاستفهام والأصل فيه أن يدخل الخبر للسؤال عن مضمونه والإنشاء الموضوع له عسى ما دل عليه بالخبر أي فهل يتوقع منكم وينتظر (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أمور الناس وتأمرتم عليهم فهو من الولاية والمفعول به محذوف وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي العالية والكلبي (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) تناحرا على الولاية وتكالبا على جيفة الدنيا والمتوقع كل من يقف على حالهم إلا الله عزوجل إذ لا يصح منه سبحانه ذلك والاستفهام أيضا بالنسبة إلى غيره جلّ وعلا فالمعنى إنكم لما عهد منكم من الأحوال الدالة على الحرص على الدنيا حيث أمرتم بالجهاد الذي هو وسيلة إلى ثواب الله تعالى العظيم فكرهتموه وظهر عليكم ما ظهر أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف حالكم يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض إلخ.

وفسر بعضهم التولي بالإعراض عن الإسلام فالفعل لازم أي فهل عسيتم إن أعرضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات ، وتعقب بأن الواقع في حيز الشرط في مثل هذا المقام لا بد أن تكون محذوريته باعتبار ما يتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته ولا ريب في أن الأعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة في التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد ، ويؤيد الأول قراءة بعض «ولّيتم» مبنيا المفعول وكذا قراءته عليه الصلاة والسلام على ما ذكر في الحبر ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه. ورويس. ويعقوب «تولّيتم» بالبناء للمفعول أيضا بناء على أن

٢٢٤

المعنى تولاكم الناس واجتمعوا على موالاتكم ، والمراد كنتم فيهم حكاما ، وقيل : المعنى تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم واستظهر أبو حيان تفسيره بالإعراض إلا أنه قال : المعنى إن أعرضتم عن امتثال أمر الله تعالى في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام على أعدائهم وتقطعوا أرحامكم لأن من أرحامكم كثيرا من المسلمين فإذا لم تعينوهم قطعتم ما يبينكم وبينهم من الرحم.

وتعقب بأن حمل الإفساد على الإفساد بعدم المعونة فيه خفاء ، وكذا الإتيان بأن عليه دون إذا من حيث إن الإعراض عن امتثال أمر الله تعالى في القتال كالمحقق من أولئك المنافقين فتأمل ، و (أَنْ تُفْسِدُوا) خبر عسى. و (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) اعتراض ، وجواب أن محذوف يدل عليه ما قبله ، وزعم بعضهم أن الأظهر جعل (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) حالا مقدرة ، وفيه أن الشرط بدون الجواب لم يعهد وقوعه حالا في غير أن الوصلية وهي لا تفارق الواو ، والحاق الضمائر بعسى كما في سائر الأفعال المتصرفة لغة أهل الحجاز ، وبنو تميم لا يلحقونها به ويلتزمون دخوله على أن والفعل فيقولون الزيدان عسى أن يقوما والزيدون عسى أن يقوموا ، وذكر الإمام هاتين اللغتين ثم قال : وأما قول من قال : عسى أنت تقوم وعسى أنا أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه فإن كان مقصوده حكاية لغة ثالثة هي انفصال الضمير فنحن لا نعلم أحدا من نقلة اللسان العربي ذكرها وإن كان غير ذلك فليس فيه كثير جدوى.

وقرأ نافع «عسيتم» بكسر السين المهملة ، وهو غريب. وقرأ عمرو في رواية. وسلام ويعقوب وأبان وعصمة «تقطعوا» بالتخفيف مضارع قطع ، والحسن «تقطّعوا» بفتح التاء والقاف وشد الطاء وأصله تتقطعوا بتاءين حذفت أحدهما ونصبوا «أرحامكم» على إسقاط الحرف أي في أرحامكم لأن تقطع لازم (أُولئِكَ) إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات إيذان بأن ذكر هناتهم أوجب إسقاطهم عن درجة الخطاب ولو على جهة التوبيخ وحكاية أقوالهم الفظيعة لغيرهم ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم من رحمته عزوجل (فَأَصَمَّهُمْ) عن استماع الحق لتصامهم عنه لسوء اختيارهم (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق وجاء التركيب (فَأَصَمَّهُمْ) ولم يأت فأصم آذانهم كما جاء (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أو وأعماهم كما جاء فأصمهم ، قيل : لأن الأذن لو أصيبت بقطع أو قلع لسمع الكلام فلم يحتج إلى ذكر الأذن والبصر وهو العين لو أصيب لامتنع الإبصار فالعين لها مدخل في الرؤية والأذن لا مدخل لها في السمع انتهى وهو كما ترى.

وقال الخفاجي : لأنه إذا ذكر الصمم لم يبق حاجة إلى ذكر الآذان ، وأما العمى فلشيوعه في البصر والبصيرة حتى قيل : إنه حقيقة فيهما وهو ظاهر ما في القاموس فإذا كان المراد أحدهما حسن تقييده.

وقيل في وجه ذلك بناء على كون العمى حقيقة فيما كان في البصر إن نحو أعمى الله أبصارهم بحسب الظاهر من باب أبصرته بعيني وهو يقال في مقام يحتاج إلى التأكيد ، ولما كان أولئك الذين حكى حالهم في أمر الجهاد غير ظاهر إعماؤهم ظهور إصمامهم كيف وفي الآيات السابقة ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالمسموع من القرآن وهو من آثار إصمامهم وليس فيها ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالآيات المرئية المنصوبة في الأنفس والآفاق الذي هو من آثار إعمائهم ناسب أن يسلك في كل من الجملتين ما سلك مع ما في سلوكه في الأخير من رعاية الفواصل وهو أدق مما قبل ، هذا والأرحام جمع رحم بفتح الراء وكسر الحاء وهي على ما في القاموس القرابة أو أصلها وأسبابها ، وقال الراغب : الرحم رحم المرأة أي بيت منبت ولدها ووعاؤه ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة ، ويقال للأقارب ذوو رحم كما يقال لهم أرحام ، وقد صرح ابن الأثير بأن ذا الرحم يقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء ؛ والمذكور في كتبها تفسيره بكل قريب ليس بذي سهم ولا عصبة وعدوا من

٢٢٥

ذلك أولاد الأخوات لأبوين أو لأب وعمات الآباء وظاهر كلام الأئمة في قوله عليه الصلاة والسلام من ملك ذا رحم محرم فهو حر دخول الأبوين والولد في ذي الرحم لغة حيث أجمعوا على أنهم يعتقون على من ملكهم لهذا الخبر وإن اختلفوا في عتق غيرهم ، وصرح ابن حجر الهيثمي في الزواجر بأن الأولاد من الأرحام وظاهر عطف الأقربين على الوالدين في الآية يقتضي عدم دخولهما في الأقارب فلا يدخلون في الأرحام لأنهم كما قالوا الأقارب ، وكلام فقهائنا نص في عدم دخول الوالدين والولد في ذلك حيث قالوا : إذا أوصى لأقاربه أو لذوي قرابته أو لأرحامه فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم ولا يدخل الوالدان والولد ، وأما الجد وولد الولد فنقل أبو السعود عن العلامة قاسم عن البدائع أن الصحيح عدم دخولهما ، واختاره في الاختيار وعلله بأن القريب من يتقرب إلى غيره بواسطة غيره وتكون الجزئية بينهما منعدمة ، وفي شرح الحموي أن دخولهما هو الأصح. وفي متن المواهب وأدخل أي محمد الجد والحفدة وهو الظاهر عنهما ، وذكر أن مثل الجد والجدة وقد يقال : إن عدم دخول الوالدين والولد في ذلك وكذا الجد والحفدة عند من يقول بعدم دخولهم ليس لأن اللفظ لا يصدق عليهم لغة بل لأنه لا يصدق عليهم عرفا وهم اعتبروا العرف كما قال الطحطاوي في أكثر مسائل الوصية. وفي جامع الفصولين أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف ، وما ذكره في المعراج من خبر من سمى والده قريبا عقه لا يدل على أنه ليس قريبا لغة بل هو بيان حكم شرعي مبناه أن في ذلك إيذاء للوالد وحطا من قدره عرفا ، وهذا كما لو ناداه باسمه وكان يكره ذلك ، وأمر العطف في الآية الكريمة سهل لجواز عطف العام على الخاص كعطف الخاص على العام ، فالذي يترجح عندي أن الأرحام كما صرحوا به الأقارب بالقرابة الغير السببية والمراد ما يقابل الأجانب ويدخل فيهم الأصول والفروع والحواشي من قبل الأب أو من قبل الأم وحرمة قطع كل لا شك فيها لأنه على ما قلنا رحم ، والآية ظاهرة في حرمة قطع الرحم. وحكى القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على حرمة قطعها ووجوب صلتها ، ولا ينبغي التوقف في كون القطع كبيرة ، والعجب من الرافعي عليه الرحمة كيف توقف في قول صاحب الشامل : إنه من الكبائر ، وكذا تقرير النووي قدس‌سره له على توقفه ، واختلف في المراد بالقطيعة فقال أبو زرعة : ينبغي أن تختص بالإساءة ، وقال غيره : هي ترك الإحسان ولو بدون إساءة لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما ، والصلة إيصال نوع من أنواع الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد فالقطيعة ضدها فهي ترك الإحسان. ونظر فيه الهيثمي بناء على تفسير العقوق بأن يفعل مع أحد أبويه ما لو فعله مع أجنبي كان محرما صغيرة فينتقل بالنسبة إلى أحدهما كبيرة وان الأبوين أعظم من بقية الأقارب ثم قال : فالذي يتجه ليوافق كلامهم وفرقهم بين العقوق وقطع الرحم أن المراد بالأول أن يفعل مع أحد الأبوين ما يتأذى به فإن كان التأذي ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير وبالثاني قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان بغير عذر شرعي لأن قطع ذلك يؤدي إلى إيحاش القلوب وتأذيها ، فلو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب ؛ ولو فرض أن الإنسان لم يقطع عن قريبه ما ألفه منه من الإحسان لكنه فعل معه محرما صغيرة أو قطب في وجهه أو لم يقم له في ملأ ولا عبأ به لم يكن ذلك فسقا بخلافه مع أحد الأبوين لأن تأكد حقهما اقتضى أن يتميزا على بقية الأقارب بما لا يوجد نظيره فيهم وعلى ضبط الثاني بما ذكرته فلا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه منه قريبه مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيارة أو غير ذلك فقطع ذلك كله بعد فعله لغير عذر كبيرة ، وينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به أو تجدد احتياجه إليه أو أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه لكونه أحوج أو أصلح ، فعدم الإحسان إلى القريب أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب لأنه إنما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي عليه ، وواضح أن القريب لو ألف

٢٢٦

منه قدرا معينا من المال يعطيه إياه كل سنة مثلا فنقصه لا يفسق بذلك بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر ، وأما عذر الزيارة فينبغي ضبطه بعذر الجمعة لجامع أن كلّا فرض عين وتركه كبيرة ؛ وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة فهو أن لا يجد من يثق به في أداء ما يرسله معه ، والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت ، والأولاد والأعمام من الأرحام وكذا الخالة فيأتي فيهم وفيها ما تقرر من الفرق بين قطعهم وعقوق الوالدين ، وأما قول الزركشي : صح في الحديث أن الخالة بمنزلة الأم وأن عم الرجل صنو أبيه وقضيتهما أنهما مثل الأب والأم حتى في العقوق فبعيد جدا ويكفي مشابهتهما في أمر ما كالحضانة تثبت للخالة كما تثبت للأم وكذا المحرمية وكالإكرام في العم والمحرمية وغيرهما مما ذكر انتهى المراد منه ، ولو قيل : إن الصغيرة تعد كبيرة لو فعلت مع القريب لكنها دون ما لو فعلت مع أحد الأبوين لم يبعد عندي لتفاوت قبح السيئات بحسب الإضافات بل لا يبعد على هذا أن يكون قبح قطع الرحم متفاوتا باعتبار الشخص القاطع وباعتبار الشخص المقطوع ومتى سلم التفاوت فليقل به في العقوق ويكون عقوق الأم أقبح من عقوق الأب وكذا عقوق الولد الذي يعبأ به أقبح من عقوق الولد الذي لا يعبأ به ويتفرع من ذلك ما يتفرع مما لا يخفى على فقيه. واستدل بالآية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على منع بيع أم الولد. روى الحاكم في المستدرك وصححه. وابن المنذر عن بريدة قال : كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا فسأل فقيل : جارية من قريش تباع أمها فأرسل يدعو المهاجرين والأنصار فلم تمض ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فهل تعلمونه كان مما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القطيعة قالوا : لا قال : فإنها قد أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) ثم قال : وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ فيكم قالوا فاصنع ما بدا لك فكتب في الآفاق أن لا تباع أم حر فإنها قطيعة رحم وأنه لا يحل واستدل بها أيضا على جواز لعن يزيد عليه من الله تعالى ما يستحق نقل البرزنجي في الإشاعة والهيثمي في الصواعق أن الإمام أحمد لما سأله ولده عبد الله عن لعن يزيد قال كيف لا يلعن من لعنه الله تعالى في كتابه فقال عبد الله قد قرأت كتاب الله عزوجل فلم أجد فيه لعن يزيد فقال الإمام إن الله تعالى يقول : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) الآية وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد انتهى.

وهو مبني على جواز لعن العاصي المعين من جماعة لعنوا بالوصف ، وفي ذلك خلاف فالجمهور ، على أنه لا يجوز لعن المعين فاسقا كان أو ذميا حيا كان أو ميتا ولم يعلم موته على الكفر لاحتمال أن يختم له أو ختم له بالإسلام بخلاف من علم موته على الكفر كأبي جهل.

وذهب شيخ الإسلام السراج البلقيني إلى جواز لعن العاصي المعين لحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» وفي رواية «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح» واحتمال أن يكون لعن الملائكة عليهم‌السلام إياها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا : لعن الله من باتت مهاجرة فراش زوجها بعيد وإن بحث به معه ولده الجلال البلقيني.

وفي الزواجر لو استدل لذلك بخبر مسلم «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال : لعن الله من فعل هذا» لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد الجنس وفيه ما فيه انتهى.

وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكة فقد روى الطبراني بسند حسن «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل» والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت ورضاه بقتل

٢٢٧

الحسين على جده وعليه الصلاة والسلام واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه وإن كانت تفاصيله آحادا ، وفي الحديث «ستة لعنتهم (١) وفي رواية : لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة المحرف لكتاب الله ـ وفي رواية ـ : الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل من عترتي والتارك لسنتي» وقد جزم بكفره وصرح بلعنه جماعة من العلماء منهم الحافظ ناصر السنة ابن الجوزي وسبقه القاضي أبو يعلى ، وقال العلامة التفتازاني : لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه ، وممن صرح بلعنه الجلال السيوطي عليه الرحمة وفي تاريخ ابن الوردي. وكتاب الوافي بالوفيات أن السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي. والحسين رضي الله تعالى عنهما والرءوس على أطراف الرماح وقد أشرفوا على ثنية جيرون فلما رآهم نعب غراب فأنشأ يقول :

لما بدت تلك الحمول وأشرفت

تلك الرءوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني أنه قتل بمن قتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر كجده عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما وهذا كفر صريح فإذا صح عنه فقد كفر به ومثله تمثله بقول عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه :

ليت أشياخي

الأبيات ، وأفتى الغزالي عفا الله عنه بحرمة لعنه وتعقب السفاريني من الحنابلة نقل البرزنجي والهيثمي السابق عن أحمد رحمه‌الله تعالى فقال : المحفوظ عن الإمام أحمد خلاف ما نقلا ، ففي الفروع ما نصه ومن أصحابنا من أخرج الحجاج عن الإسلام فيتوجه عليه يزيد ونحوه ونص أحمد خلاف ذلك وعليه الأصحاب ، ولا يجوز التخصيص باللعنة خلافا لأبي الحسين وابن الجوزي وغيرهما ، وقال شيخ الإسلام : يعني والله تعالى أعلم ابن تيمية ظاهر كلام أحمد الكراهة ، قلت : والمختار ما ذهب إليه ابن الجوزي. وأبو حسين القاضي. ومن وافقهما انتهى كلام السفاريني. وأبو بكر بن العربي المالكي عليه من الله تعالى ما يستحق أعظم الفرية فزعم أن الحسين قتل بسيف جده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله من الجهلة موافقون على ذلك (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف : ٥].

قال ابن الجوزي عليه الرحمة في كتابه السر المصون : من الاعتقادات العامة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة أن يقولوا : إن يزيد كان على الصواب وإن الحسين رضي الله تعالى عنه أخطأ في الخروج عليه ولو نظروا في السير لعلموا كيف عقدت له البيعة وألزم الناس بها ولقد فعل في ذلك كل قبيح ثم لو قدرنا صحة عقد البيعة فقد بدت منه بواد كلها توجب فسخ العقد ولا يميل إلى ذلك إلا كل جاهل عامي المذهب يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة. هذا ويعلم من جميع ما ذكره اختلاف الناس في أمره فمنهم من يقول : هو مسلم عاص بما صدر منه مع العترة الطاهرة لكن لا يجوز لعنه ، ومنهم من يقول : هو كذلك ويجوز لعنه مع الكراهة أو بدونها ومنهم من يقول : هو كافر ملعون ، ومنهم من يقول : إنه لم يعص بذلك ولا يجوز لعنه وقائل هذا ينبغي أن ينظم في سلسلة أنصار يزيد وأنا أقول : الذي يغلب على ظني أن الخبيث لم يكن مصدقا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن مجموع ما فعل مع أهل حرم الله تعالى وأهل حرم نبيه عليه الصلاة والسلام وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على

__________________

(١) قوله «ستة لعنتهم» كذا في النسخ والمعدود فيها خمس سقط منها «والمستحل لحرم الله».

٢٢٨

عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر ، ولا أظن أن أمره كان خافيا على أجلة المسلمين إذا ذاك ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلا الصبر ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولو سلّم أن الخبيث كان مسلما فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان ، وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ولو لم يتصور أن يكون له مثل من الفاسقين ، والظاهر أنه لم يتب ، واحتمال توبته أضعف من إيمانه ، ويلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة فلعنة الله عزوجل عليهم أجمعين ، وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم ومن مال إليهم إلى يوم الدين ما دمعت عين على أبي عبد الله الحسين ، ويعجبني قول شاعر العصر ذو الفضل الجلي عبد الباقي أفندي العمري الموصل وقد سئل عن لعن يزيد اللعين :

يزيد على لعني عريض جنابه

فأغدو به طول المدى ألعن اللعنا

ومن كان يخشى القال والقيل من التصريح بلعن ذلك الضليل فليقل : لعن الله عزوجل من رضي بقتل الحسين ومن آذى عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير حق ومن غصبهم حقهم فإنه يكون لاعنا له لدخوله تحت العموم دخولا أوليا في نفس الأمر ، ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى ابن العربي المار ذكره وموافقيه فإنهم على ظاهر ما نقل عنهم لا يجوزون لعن من رضي بقتل الحسين رضي الله تعالى عنه ، وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي لا يلاحظونه ولا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) تمثيل لعدم وصول الذكر إليها وانكشاف الأمر لها فكأنه قيل : أفلا يتدبرون القرآن إذ وصل إلى قلوبهم أم لم يصل إليها فتكون أم متصلة على مذهب سيبويه ، وظاهر كلام بعض اختياره.

وذهب أبو حيان وجماعة إلى أنها منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخ بترك التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبر والتفكر ، والهمزة للتقرير ، وتنكير القلوب لتهويل حالها وتفظيع شأنها وأمرها في القساوة والجهالة كأنه قيل : على قلوب منكرة لا يعرف حالها ولا يقادر قدرها في القساوة وقيل : لأن المراد قلوب بعض منهم وهم المنافقون فتنكيرها للتبعيض أو للتنويع كما قيل ، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة ، وقرى «إقفالها» بكسر الهمزة ، وهو مصدر من الأفعال و «أقفلها» بالجمع على أفعل.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، قال ابن عباس ، وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم ، وفي إرشاد العقل السليم هم المنافقون الذين وصفوا فيما سلف بمرض القلوب وغيره من قبائح الأحوال فإنهم قد كفروا به عليه الصلاة والسلام (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة القاهرة.

وأخرج عبد الرزاق ، وجماعة عن قتادة أنه قال : هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب يعرفون بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل ثم يكفرون به عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا) إلخ اليهود ارتدوا عن الهدى بعد أن عرفوا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي ، والمختار ما تقدم ، وأيّا ما كان فالموصول اسم ان وجملة قوله تعالى : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) خبرها كقولك : إن زيدا عمرو مر به أي سهل لهم ركوب العظائم من السول بفتحتين وهو الاسترخاء استعير للتسهيل أي لعده سهلا هينا حتى لا يبالى به كأنه شبه بإرخاء ما كان مشدودا ، وقيل : أي حملهم على الشهوات من السول وهو التمني ، وأصله حملهم على سؤلهم أي ما يشتهونه

٢٢٩

ويتمنونه فالتفعيل للحمل على المصدر كغربه إذا حمله على الغربة إلا أنهم جعلوا المصدر بمعنى اسم المفعول ، ونقل ذلك عن ابن السكيت.

واعترض بأن السول بمعنى التمني من السؤال فهو مهموز والتسويل واوي ومعناه التزيين فلا مناسبة لا لفظا ولا معنى فالقول باشتقاق سول منه خطأ ، ورد بأن السول من السؤال وله استعمالان فيكون مهموزا وهو المعروف ومعتلا يقال سأل يسأل كخاف يخاف وقالوا منه : يتساولان بالواو فيجوز كون التسويل من السول على هذه اللغة أو هو على المشهورة خفف بقلب الهمزة ثم التزم ، ونظيره تدير من الدار لاستمرار هذا الذي أظهره سبحانه لتفضيحهم ، وقال الإمام : الأظهر أن يقال المراد يعلم سبحانه ما في قلوبهم من العلم بصدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه ما لا يخفى ، والجملة اعتراض مقرر لما قبله متضمن للوعيد ، والفاء في قوله سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، «وكيف» منصوب بفعل محذوف هو العامل في الظرف كأنه قيل : يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل فكيف يفعلون إذا توفتهم الملائكة ، وقيل : مرفوع على أنه خبر لمبتدإ محذوف أي فكيف حالهم أو حيلتهم إذا توفتهم إلخ ، وزعم الطبري أن التقدير فكيف علمه تعالى بأسرارهم إذا توفتهم إلخ ، وليس بشيء ، ووقت التوفي هو وقت الموت ، والملائكة عليهم‌السلام ملك الموت وأعوانه. وقرأ الأعمش «توفاهم» بالألف بدل التاء فاحتمل أن يكون ماضيا وأن يكون مضارعا حذف منه أحد تاءيه والأصل تتوفاهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) حال من الملائكة ، وجوز كونه حالا من ضمير (تَوَفَّتْهُمُ) وضعفه أبو حيان ، وهو على ما قيل تصوير لتوفيهم على أهول الوجوه وأفظعها وإبراز لما يخافون منه ويجبنون عن القتال لأجله فإن ضرب الوجوه والأدبار في القتال والجهاد مما يتقى ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره ، والكلام على الحقيقة عنده ولا مانع من ذلك وإن لم يحس بالضرب من حضر وما ذلك إلا كسؤال الملكين وسائر أحوال البرزخ.

والمراد بالوجه والدبر قيل العضوان المعروفان. أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال : يضربون وجوههم وأستاههم ولكن الله سبحانه كريم يكنى ، وقال الراغب وغيره : المراد القدام والخلف ، وقيل : وقت التوفي وقت سوقهم في القيامة إلى النار والملائكة ملائكة العذاب يومئذ ، وقيل : هو وقت القتال والملائكة ملائكة النصر تضرب وجوههم إن ثبتوا وأدبارهم إن هربوا نصرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلا القولين كما ترى (ذلِكَ) التوفي الهائل (بِأَنَّهُمُ) أي بسبب أنهم (اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الكفر والمعاصي (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) ما يرضاه عزوجل من الإيمان والطاعات حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع إخوانهم اليهود ، وقيل : ما أسخط الله كتمان نعت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضوانه ما يرضيه سبحانه من إظهار ذلك ، وهو مبني على أن ما تقدم إخبار عن اليهود وقد سمعت ما فيه ، ولما كان اتباع ما أسخط الله تعالى مقتضيا للتوجه ناسب ضرب الوجه وكراهة رضوانه سبحانه مقتضيا للاعراض ناسب ضرب الدبر ففي الكلام مقابلة بما يشبه اللف والنشر (فَأَحْبَطَ) لذلك (أَعْمالَهُمْ) التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات ، وجوز أن يراد ما كان بعد من أعمال البر التي لو عملوها حال الإيمان لانتفعوا بها.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشنيعة وصفوا بوصفهم السابق لكونه مدارا لما نعى عليهم بقوله تعالى : (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) فأم منقطعة وأن مخففة من أن واسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبرها ، والأضغان جمع ضغن وهو الحقد وقيده الراغب بالشديد وقد ضغن بالكسر وتضاغن القوم واضطغنوا أبطنوا الأحقاد ، ويقال : اضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك وأنشد الأحمر :

كأنه مضطغن صبيا

٢٣٠

وفرس ضاغن لا يعطي ما عنده من الجري إلا الضرب ، وأصل الكلمة من الضغن وهو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء ، قال بشر : كذات الضغن تمشي في الرقاق. وأنشد الليث : القلب في ديار وكذلك تحيز لاستمرار القلب في حيز ويكون مآل المعنى على هذا حملهم على الشهوات.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «سوّل لهم» مبنيا للمفعول وخرج ذلك على تقدير مضاف أي كيد الشيطان سول لهم ، وجوز تقديره سول كيده لهم فحذف وقام الضمير المجرور مقامه فارتفع واستتر ، قيل : وهو أولى لأنه تقدير في وقت الحاجة ولا يخفى أن الأول أقل تكلفا.

(وَأَمْلى لَهُمْ) أي ومد لهم الشيطان في الأماني والآمال ، ومعنى المد فيها توسيعها وجعلها ممدودة بنفسها أو بزمانها بأن يوسوس لهم بأنكم تنالون في الدنيا كذا وكذا مما لا أصل له حتى يعوقهم عن العمل ، وأصل الإملاء الإبقاء ملاوة من الدهر أي برهة ، ومنه قيل : المعنى وعدهم بالبقاء الطويل ، وجعل بعضهم فاعل «أملى» ضميره تعالى ، والمعنى أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة ؛ وفيه تفكيك لكن أيد بقراءة مجاهد وابن هرمز والأعمش وسلام ويعقوب «وأملي» بهمزة المتكلم مضارع أملى فإن الفاعل حينئذ ضميره تعالى على الظاهر والأصل توافق القراءتين ، وجوز أن يكون ماضيا مجهولا من المزيد سكن آخره للتخفيف كما قالوا في بقي بقي بسكون الياء.

وعلى الظاهر جوز أن تكون الواو للاستئناف وأن تكون للحال ويقدر مبتدأ بعدها أي وأنا أملي لئلا يكون شاذا كقمت وأصك وجهه ، وجوزت الحالية في قراءة الجمهور أيضا على جعل الفاعل ضميره تعالى فحينئذ تقدر قد على المشهور. وقرأ ابن سيرين والجحدري وشيبة وأبو عمرو وعيسى «وأملي» بالبناء للمفعول. فلهم : نائب الفاعل أي أمهلوا ومد في أعمارهم ، وجوز أن يكون ضمير الشيطان والمعنى أمهل الشيطان لهم أي جعل من المنظرين إلى يوم القيامة لأجلهم ففيه بيان لاستمرار ضلالهم وتقبيح حالهم (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم لا إلى الإملاء كما نقل عن الواحدي ولا إلى التسويل كما قيل لأن شيئا منهما ليس مسببا من القول الآتي ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (قالُوا) يعني المنافقين (لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) هم بنو قريظة. والنضير من اليهود الكارهين لنزول القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله على أحد منهم (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي في بعض أموركم وأحوالكم وهو ما حكي عنهم في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) [الحشر : ١١] وقيل : في بعض ما تأمرون به كالتناصر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : القائلون اليهود الكافرون به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما وجدوا نعته الشريف في كتابهم والمقول لهم المنافقون كان اليهود يعدونهم النصرة إذا أعلنوا بعداوة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وقيل : القائلون أولئك اليهود والمقول لهم المشركون كانوا يعدونهم النصرة أيضا إذا حاربوا. وتعقب كلا القولين بأن كفر اليهود به عليه الصلاة والسلام ليس بسبب هذا القول ولو فرض صدوره عنهم على رأي القائل بل من حيث إنكارهم بعثه عليه الصلاة والسلام وقد عرفوه كما عرفوا أبناءهم وآباءهم ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم : إن القائلين هم المنافقون واليهود والمقول لهم المشركون ، وما فسرنا به الآية الكريمة مروي عن الحبر رضي الله تعالى عنه (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي إخفاءهم ما يقولونه لليهود أو كل قبيح ويدخل ذلك دخولا أوليا. وقرأ الجمهور «أسرارهم» بفتح الهمزة أي يعلم الأشياء التي يسرونها ومنها قولهم :

إن قناتي من صليبات القنا

ما زادها التثقيف إلا ضغنا

والحقد في القلب يشبه به : وقال الليث ، وقطرب : الضغن العداوة قال الشاعر :

٢٣١

قل لابن هند ما أردت بمنطق

ساء الصديق وشيد الأضغانا

وهذا لا ينافي الأول لأن الحقد العداوة لأمر يخفيه المرء في قلبه ، والإخراج مختص بالأجسام ، والمراد به هنا الإبراز أي بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين انه لن يبرز الله تعالى أحقادهم ويظهرها للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فتبقى مستورة ، والمعنى أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال. (وَلَوْ نَشاءُ) إراءتك إياهم (لَأَرَيْناكَهُمْ) أي لعرفناكهم على أن الرؤية علمية (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) تفريع لمعرفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تعريف الله عزوجل ، ويجوز أن تكون الرؤية بصرية على أن المعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرفهم معرفة متفرعة على إراءته إياهم ، والالتفات إلى نون العظمة للإيماء إلى العناية بالإراءة ، والسيما العلامة ، والمعنى هنا على الجمع لعمومها بالإضافة لكنها أفردت للإشارة إلى أن علاماتهم متحدة الجنس فكأنها شيء واحد أي فلعرفتهم بعلامات نسمهم بها ؛ ولام (فَلَعَرَفْتَهُمْ) كلام لأريناكهم الواقعة في جواب لو لأن المعطوف على الجواب جواب ، وكررت في المعطوف للتأكيد ، وأما التي في قوله ، تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فواقعة في جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على الجملة الشرطية و (لَحْنِ الْقَوْلِ) أسلوب من أساليبه مطلقا ، أو المائلة عن الطريق المعروفة كان يعدل عن ظاهره من التصريح إلى التعريض والإبهام ، ولذا سمي خطأ الإعراب به لعدوله عن الصواب ، وقال الراغب : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالا ، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود من حيث البلاغة ، وإليه أشار بقوله الشاعر عند أكثر الأدباء :

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

وإياه قصد بقوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) وفي البحر يقال : لحنت له بفتح الحاء ألحن لحنا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره ، ولحنه هو بالكسر فهمه والحنته أنا إياه ولاحنت الناس فاطنتهم ، وقيل : لحن القول الذهاب عن الصواب ، وعن ابن عباس (لَحْنِ الْقَوْلِ) هنا قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب وكان هذا الذي ينبغي منهم ، وقال بعض من فسره بالأسلوب المائل عن الطريق المعروفة : إنهم كانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح وكانوا أيضا يتكلمون بما يشعر بالاتباع وهم بخلاف ذلك كقولهم إذا دعاهم المؤمنون إلى نصرهم : انا معكم ، وبالجملة أنهم كانوا يتكلمون بكلام ذي دسائس وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرفهم بذلك ، وعن أنس رضي الله تعالى عنه ما خفي بعد هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء من المنافقين كان عليه الصلاة والسلام يعرفهم بسيماهم ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق. وفي دعواه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرفهم بسيماهم أشكال فإن (لَوْ) ظاهرها عدم الوقوع بل المناسب معرفتهم من لحن القول ، وكأنه حمله على أنه وعد بالوقوع دال على الامتناع فيما سلف ، ولقد صدق وعده واستشهد عليه بما اتفق في بعض الغزوات ، ولا تنحصر السيما بالكتابة بل تكون بغيرها أيضا مما يعرفهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرف القائف حال الشخص بعلامات تدل عليه ، وكثيرا ما يعرف الإنسان محبه ومبغضه من النظر ويكاد النظر ينطق بما في القلب ، وقد شاهدنا غير واحد يعرف السني والشيعي بسمات في الوجه ، وإن صح أن بعض الأولياء قدست أسرارهم كان يعرف البر والفاجر والمؤمن والكافر ويقول أشم من فلان رائحة الطاعة ومن فلان رائحة المعصية ومن فلان رائحة الإيمان ومن فلان رائحة الكفر ويظهر الأمر حسبما أشار فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك المعرفة أولى وأولى ؛ ولعلها بعلامات وراء طور عقولنا ، والنور المذكور في خبر «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» متفاوت الظهور بحسب القابليات وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتمه ، وذكروا من علامات النفاق بغض علي كرم الله تعالى وجهه.

٢٣٢

فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ببغضهم علي ابن أبي طالب. وأخرج هو وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري ما يؤيده ، وعندي أن بغضه رضي الله تعالى عنه من أقوى علامات النفاق فإن آمنت بذلك فيا ليت شعري ما ذا تقول في يزيد الطريد أكان يحب عليا كرم الله تعالى وجهه أم كان يبغضه ، ولا أظنك في مرية من أنه عليه اللعنة كان يبغضه رضي الله تعالى عنه أشد البغض وكذا يبغض ولديه الحسن والحسين على جدهما وأبويهما وعليهما الصلاة والسلام كما تدل على ذلك الآثار المتواترة معنى ، وحينئذ لا مجال لك من القول بأن اللعين كان منافقا ، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة علامات النفاق غير ما ذكر كقوله عليه الصلاة والسلام : «علامات المنافق ثلاث» الحديث لكن قال العلماء هي علامات للنفاق العملي لا الإيماني ، وقيل : الحديث خارج مخرج التنفير عن اتصاف المؤمن المخلص بشيء منها لما أنها كانت إذ ذاك من علامات المنافقين. واستدل بقوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) من جعل التعريض بالقذف موجبا الحد ، ولا يخفى حاله (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم عليها بحسب قصدكم وهذا على ما قيل وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين ؛ وقيل : وعيد للمنافقين وإيذان لهم بأن المجزى عليه ما يقصدونه لا ما يعرضون أو يورون به ، واستظهر أنه خطاب عام فهو وعد ووعيد ، وحمل على العموم قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالأمر بالجهاد ونحوه من التكاليف الشاقة (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) على مشاق التكاليف علما فعليا يتعلق به الجزاء ، وفي معناه ما قيل : أي حتى يظهر علمنا ، وقال ابن الحاجب في ذلك : العلم يطلق باعتبار الرؤية والشيء لا يرى حتى يقع يعني على المشهور وهو هنا بمعنى ذلك أو بمعنى المجازاة ، والمعنى حتى نجازي المجاهدين منكم والصابرين (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) فيظهر حسنها وقبيحها ، والكلام كناية عن بلاء أعمالهم فإن الخبر حسنه وقبيحه على حسب المخبر عنه فإذا تميز الحسن عن الخبر القبيح فقد تميز المخبر عنه وهو العمل كذلك ، وهذا أبلغ من نبلو أعمالكم ، والظاهر عموم الأخبار ، وجوز كون المراد بها اخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم للمؤمنين على أن إضافتها للعهد أي ونبلو أخبار إيمانكم وموالاتكم فيظهر صدقها وكذبها. وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة المسندة إلى ضمير العظمة بالياء ، وقرأ رويس «ونبلو» بالنون وسكون الواو ، والأعمش بسكونها وبالياء فالفعل مرفوع بضمة مقدرة بتقدير ونحن نبلو والجملة حالية ، وجوز أن يكون منصوبا كما في قراءة الجمهور سكن للتخفيف كما في قوله :

أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) صاروا في شق غير شقه ، والمراد عادوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) لما شاهدوا من نعته عليه الصلاة والسلام في التوراة أو بما ظهر على يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات ونزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات وهم بنو قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر وقد تقدم ذكرهم ، وقيل : أناس نافقوا بعد أن آمنوا (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) بكفرهم وصدهم (شَيْئاً) من الأشياء أو شيئا من الضرر أو لن يضروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاقته شيئا ؛ وقد حذف المضاف لتعظيمه عليه الصلاة والسلام بجعل مضرته وما يلحقه كالمنسوب إلى الله تعالى وفيه تفظيع مشاقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) في مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى ومشاقة رسوله عليه الصلاة والسلام فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم ونحو ذلك ، وجوز أن يراد أعمالهم التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) قيل : إن بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا كأنهم منوا بذلك فنزلت فيهم هذه وقوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا)

٢٣٣

[الحجرات : ١٧] ومن هنا قيل المعنى لا تبطلوا أعمالكم بالمن بالإسلام ، وعن ابن عباس بالرياء والسمعة وعنه أيضا بالشك والنفاق ، وقيل : بالعجب فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، وقيل : المراد بالأعمال الصدقات أي تبطلوها بالمن والأذى ، وقيل : لا تبطلوا طاعاتكم بمعاصيكم ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير. عن قتادة أنه قال في الآية : من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى ، وأخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة. وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فخافوا أن يبطل الذنب العمل ، ولفظ عبد بن حميد فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم ، وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كنا معاشر أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا : قد هلك حتى نزلت هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له ، واستدل المعتزلة بالآية على أن الكبائر تحبط الطاعات بل الكبيرة الواحدة تبطل مع الإصرار الأعمال ولو كانت بعدد نجوم السماء ، وذكروا في ذلك من الأخبار ما ذكروا. وفي الكشف لا بد في هذا المقام من تحرير البحث بأن يقال : إن أراد المعتزلة أن نحو الزنا إذا عقب الصلاة يبطل ثوابها مثلا فهذا لا دليل عليه نقلا وعقلا بل هما متعادلان على ما دل عليه صحاح الأحاديث ، وكفى بقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] حجة بالغة ، وإن أرادوا أن عقابه قد يكبر حتى لا يعادله صغار الحسنات فهذا صحيح والكلام حينئذ في تسميته إحباطا ، ولا بأس به لكن عندنا أن هذا الإحباط غير لازم وعندهم لازم ، وهو مبني على جواز العفو وهي مسألة أخرى ، وأما الكبيرة التي تختص بذلك العمل كالعجب ونحو المن والأذى بعد التصدق فهي محبطة لا محالة اتفاقا ، وعليه يحمل ما نقل من الآثار ، ومن لا يسميه إحباطا لأنه يجعله شرطا للقبول والإحباط أن يصير الثواب زائلا وهذا لا يتأتى إذا لم يثبت له ثواب فله ذلك ، وهو أمر يرجع إلى الاصطلاح انتهى وهو من الحسن بمكان ؛ وإعادة الفعل في «وأطيعوا الرسول» للاهتمام بشأن إطاعته عليه الصلاة والسلام (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) امتنعوا عن الدخول في الإسلام وسلوك طريقه أوصدوا الناس عنه (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) نزلت في أهل القليب كما قيل ، وحكمها عام كما قال غير واحد في كل من مات على كفره ، وهو ظاهر على التفسير الأول لصدوا عن سبيل الله ، وأما على التفسير الثاني له فقيل عليه : إن العموم مع تخصيص الكفر بصد الناس عن الإسلام محل نظر ؛ ويفهم من كلام بعض الأجلة أن العموم لأن مدار عدم المغفرة هو الاستمرار على الكفر حسبما يشعر اعتباره قيدا في الكلام فتدبر. واستدل بمفهوم الآية بعض القائلين بالمفهوم على أنه تعالى قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه (فَلا تَهِنُوا) أي إذا علمتم أن الله تعالى مبطل أعمالهم ومعاقبهم فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم ولا تظهروا ضعفا ، فالهاء فصيحة في جواب شرط مفهوم مما قبله ، وقيل : هي لترتيب النهي على ما سبق من الأمر بالطاعة (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) عطف على (تَهِنُوا) داخل في حيز النهي أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح خورا وإظهارا للعجز فإن ذلك إعطاء الدنية ، وجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن فيعطف المصدر المسبوك على مصدر متصيد مما قبله كقوله : لا تنه عن خلق وتأتي مثله. واستدل الكيا بهذا النهي على منع مهادنة الكفار إلا عند الضرورة. وعلى تحريم ترك الجهاد إلا عند العجز ، وقرأ السلمي «وتدّعوا» بتشديد الدال من ادعى بمعنى دعا ، وفي الكشاف ذكر لا في هذه القراءة ، ولعلي ذلك رواية أخرى ، وقرأ

٢٣٤

الحسن وأبو رجاء والأعمش : وعيسى وطلحة وحمزة وأبو بكر «السلم» بكسر السين (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي الأغلبون ، والعلو بمعنى الغلبة مجاز مشهور ، والجملة حالية مقررة لمعنى النهي مؤكدة لوجوب الانتهاء وكذا قوله تعالى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي ناصركم فإن كونهم الأغلبين وكونه عزوجل ناصرهم من أقوى موجبات الاجتناب عما يوهم الذل والضراعة.

وقال أبو حيان : يجوز أن يكونا جملتين مستأنفتين أخبروا أولا أنهم الأعلون وهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها وهي كون الله تعالى معهم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) قال : ولن يظلمكم ، وقيل : ولن ينقصكم ، وقيل : ولن يضيعها ، وهو كما قال أبو عبيد. والمبرد من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبته ماله وذهبت به ، قال الزمخشري : وحقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد ، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو من فصيح الكلام ، وفيه هنا من الدلالة على مزيد لطف الله تعالى ما فيه ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» والظاهر على ما ذكره أنه لا بد من تضمين وترته معنى السلب ونحوه ليتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه ، وفي الصحاح أنه من الترة وحمله على نزع الخافض أي جعلته موتورا لم يدرك ثاره في ذلك كأنه نقصه فيه وجعله نظير دخلت البيت أي فيه وهو سديد أيضا.

وجوز بعضهم (يتر) هاهنا متعديا لواحد و (أَعْمالَكُمْ) بدل من ضمير الخطاب أي لن يتر أعمالكم من ثوابها والجملة قيل معطوفة على قوله تعالى : (مَعَكُمْ) وهي وإن لم تقع حالا استقلالا لتصديرها بحرف الاستقبال المنافي للحال على ما صرح به العلامة التفتازاني وغيره لكنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره ، وقيل : المانع من وقوع المصدرة بحرف الاستقبال حالا مخالفته للسماع وإلا فلا مانع من كونها حالا مقدرة مع أنه يجوز أن تكون (لَنْ) لمجرد تأكيد النفي ، والظاهر أن المانعين بنوا المنع على المنافاة وإنها إذا زالت باعتبار أحد الأمرين فلا منع لكن قيل : إن الحال المقصود منها بيان الهيئة غير الحال الذي هو أحد الأزمنة والمنافاة إنما هي بين هذا الحال والاستقبال. وهذا نظير ما قال مجوزو مجيء الجملة الماضية حالا بدون قد ، وما لذلك وما عليه في كتب النحو ، وإذا جعلت الجملة قبل مستأنفة لم يكن إشكال في العطف أصلا.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا ثبات لها ولا اعتداد بها (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) عطف على الجزاء والإضافة للاستغراق ، والمعنى إن تؤمنوا لا يسألكم جميع أموالكم كما يأخذ من الكافر جميع ماله ، وفيه مقابلة حسنة لقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) كأنه قيل : يعطكم كل الأجور ويسألكم بعض المال وهو ما شرعه سبحانه من الزكاة ، وقول سفيان بن عيينة أي لا يسألكم كثيرا من أموالكم إنما يسألكم ربع العشر فطيبوا أنفسكم بيان لحاصل المعنى ، وقيل : أي لا يسألكم ما هو ما لكم حقيقة وإنما يسألكم ماله عزوجل وهو المالك لها حقيقة وهو جل شأنه المنعم عليكم بالانتفاع بها ، وقيل : أي لا يسألكم أموالكم لحاجته سبحانه إليها بل ليرجع إنفاقكم إليكم ، وقيل : أي لا يسألكم الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة كما قال تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] ووجه التعليق عليها غير ظاهر وفي بعضها أيضا ما لا يخفى (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي أموالكم (فَيُحْفِكُمْ) فيجهدكم بطلب الكل فإن الإحفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال : أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح وأحفى شاربه استأصله وأخذه أخذا متناهيا ، وأصل ذلك على ما قال الراغب من أحفيت الدابة جعلته حافيا أي منسحج الحافر والبعير جعلته منسحج الفرسن من المشي حتى يرق (تَبْخَلُوا) جواب

٢٣٥

الشرط ، والمراد بالبخل هنا ترك الإعطاء إذ هو على المعنى المشهور أمر طبيعي لا يترتب على السؤال (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي أحقادكم لمزيد حبكم للمال وضمير (يُخْرِجْ) لله تعالى ويعضده قراءة يعقوب. ورويت أيضا عن ابن عباس «ونخرج» بالنون مضمومة ، وجوز أن يكون للسؤال أو للبخل فإنه سبب إخراج الأضغان والإسناد على ذلك مجازي. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ويخرج» بالرفع على الاستئناف ، وجوز جعل الجملة حالا بتقدير وهو يخرج وحكاها أبو حاتم عن عيسى ، وفي اللوامح عن عبد الوارث عن أبي عمرو (وَيُخْرِجْ) بالياء التحتية وفتحها وضم الراء والجيم «أضغانكم» بالرفع على الفاعلية.

وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب بن المتوكل واليماني «وتخرج» بتاء التأنيث ورفع «أضغانكم» ، وقرئ «ويخرج» بضم الياء التحتية وفتح الراء «أضغانكم» رفعا على النيابة عن الفاعل وهي كروية عن عيسى إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن فالواو عاطفة على مصدر متصيد أي يكن بخلكم وإخراج أضغانكم.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي أنتم أيها المخاطبون هؤلاء الموصوفون بما تضمنه قوله تعالى : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) إلخ ، والجملة مبتدأ وخبر وكررت ها التنبيهية للتأكيد ، وقوله سبحانه : (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إلخ استئناف مقرر ومؤكد لذلك لاتحاد محصل معناهما فإن دعوتهم للإنفاق هو سؤل الأموال منهم وبخل ناس منهم هو معنى عدم الإعطاء المذكور مجملا أولا أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين فإن اسم الإشارة يكون موصولا مطلقا عند الكوفيين وأما البصريون فلم يثبتوا اسم الإشارة موصولا إلا إذا تقدمه ما الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باختلاف ، والإنفاق في سبيل الله تعالى هو الإنفاق المرضي له تعالى شأنه مطلقا فيشمل النفقة للعيال والأقارب والغزو وإطعام الضيوف والزكاة وغير ذلك وليس مخصوصا بالإنفاق للغزو أو بالزكاة كما قيل.

(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي ناس يبخلون (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) فلا يتعدى ضرر بخله إلى غيرها يقال : بخلت عليه وبخلت عنه لأن البخل فيه معنى المنع ومعنى التضييق على من منع عنه المعروف والأضرار فناسب أن يعدى بعن للأول وبعلى للثاني ، وظاهر أن من منع المعروف عن نفسه فأضراره عليها فلا فرق بين اللفظين في الحاصل ، وقال الطيبي : يمكن أن يقال يبخل عن نفسه على معنى يصدر البخل عن نفسه لأنها مكان البخل ومنبعه كقوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) [الحشر : ٩ ، التغابن : ١٦] وهو كما ترى (وَاللهُ الْغَنِيُ) لا غيره عزوجل (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) الكاملون في الفقر فما يأمركم به سبحانه فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المنافع التي لا تقتضي الحكمة إيصالها بدون ذلك فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم ، وقوله تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عطف على قوله سبحانه : (إِنْ تُؤْمِنُوا) أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يخلق مكانكم قوما آخرين وهو كقوله تعالى : (يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [إبراهيم : ١٩] (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما.

وثم للتراخي حقيقة أو لبعد المرتبة عما قبل ، والمراد بهؤلاء القوم أهل فارس ، فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط. والبيهقي في الدلائل والترمذي وهو حديث صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة قال : «تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) إلخ فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونون أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس».

وجاء في رواية ابن مردويه عن جابر الدين بدل الإيمان ، وقيل : هم الأنصار ، وقيل : أهل اليمن ، وقيل: كندة.

٢٣٦

والنخع ، وقيل : العجم ، وقيل : الروم ، وقيل : الملائكة وحمل القوم عليهم بعيد في الاستعمال ، وحيث صح الحديث فهو مذهبي.

والخطاب لقريش أو لأهل المدينة قولان والظاهر أنه للمخاطبين قبل والشرطية غير واقعة ، فعن الكلبي شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم والله تعالى أعلم. ومما قاله بعض أرباب الإشارة في بعض الآيات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) نصرة الله تعالى من العبد على وجهين صورة ومعنى ، أما نصرته تعالى في الصورة فنصرة دينه جل شأنه بإيضاح الدليل وتبيينه وشرح فرائضه وسننه وإظهار معانيه وأسراره وحقائقه ثم بالجهاد عليه وإعلاء كلمته وقمع أعدائه ؛ وأما نصرته في المعنى فبافناء الناسوت في اللاهوت ، ونصرة الله سبحانه للعبد على وجهين أيضا صورة ومعنى ، أما نصرته تعالى للعبد في الصورة فبإرسال الرسل وإنزال الكتب وإظهار المعجزات والآيات وتبيين السبل إلى النعيم والجحيم ، ثم بالأمر بالجهاد الأصغر والأكبر وتوفيق السعي فيهما طلبا لرضاه عزوجل ، وأما نصرته تعالى له في المعنى فبافناء وجوده في وجوده سبحانه بتجلي صفات جماله وجلاله (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) يشير إلى جنة قلوب أرباب الحقائق الذين اتقوا عما سواه جل وعلا (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) هو ماء الحياة الروحانية لم يتغير بطول المكث (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ) وهو العلم الحقاني الذي هو غذاء الأرواح أو لبن الفطرة التي فطر الناس عليها (لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بحموضة الشكوك والأوهام أو الأهواء والبدع (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وهي خمر الشوق والمحبة :

يقولون لي صفها فأنت بوصفها

خبير أجل عندي بأوصافها علم

صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى

ونور ولا نار وروح ولا جسم

(وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ) وهو عسل الوصال (مُصَفًّى) عن كدر الملال وخوف الزوال (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) اللذائذ الروحانية (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ستر لذنب وجودهم كما قيل :

وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

(كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) نار الجفاء (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) وهو ماء الخذلان (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) من الحرمان (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) وهي ظلمة في وجوههم تدرك بالنظر الإلهي قيل : المؤمن ينظر بنور الفراسة والعارف بنور التحقيق والنبي عليه الصلاة والسلام ينظر بالله عزوجل ، وقيل : كل من رزق قرب النوافل ينظر به تعالى لحديث «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث وحينئذ يبصر كل شيء ، ومن هنا كان بعض الأولياء الكاملين يرى على ما حكي عنه أعمال العباد حين يعرج بها وسبحان السميع البصير اللطيف الخبير.

٢٣٧

سورة الفتح

نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا في المدينة نفسها وهو الصحيح. أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال : «أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي عام ست بعد الهجرة وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة فأقام بها بضعة عشر يوما ، وقيل : عشرين يوما ثم قفل عليه الصلاة والسلام فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى فأخبرنا أنه أنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] وأخرج أحمد والبخار والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : «كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل في شيء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ١ ، ٢] وفي حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود. وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية أيضا وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته ، وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان ، ونقل ذلك عن البقاعي ، وضجنان بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس جبل قرب مكة ، وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة ، ومثل ذلك يعد مدنيا على المشهور وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار ، والمكي ما نزل قبل الهجرة ، وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها كما قال الجلال السيوطي نواحيها كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة ؛ والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها كما قال أيضا نواحيها كأحد. وبدر. وسلع فلا بل يعد على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا ، فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر ، وهي تسع وعشرون آية بالإجماع ، ولا يخفى حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال ، وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه ، وقد ذكر أيضا في الأول الأمر بالاستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة ، وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف وكني عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها ، وستعرفها إن شاء الله تعالى إلى غير ذلك. وفي البحر وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) [محمد : ٣٨] الآية وهو خطاب لكفار قريش أخبر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفتح العظيم وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال وأمن كل من كان بمكة وصارت دار إيمان وفيه ما لا يخفى. وفي الأخبار السابقة ما يدل على جلالة قدرها. وفي حديث مجمع بن جارية الذي أخرجه

٢٣٨

عنه ابن سعد لما نزل بها جبريل عليه‌السلام قال : نهنيك يا رسول الله فلما هناه جبريل عليه‌السلام هناه المسلمون ، ويحكى أنه من قرأها أول ليلة من رمضان حفظ ذلك العام ولم يثبت ذلك في خبر صحيح والله تعالى أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً(٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) إخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور وروي ذلك عن ابن عباس وانس والشعبي والزهري قال ابن عطية : وهو الصحيح ، وأصل الفتح إزالة الاغلاق ، وفتح البلد كما في الكشاف الظفر به عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح ، وسمي ذلك الصلح فتحا لاشتراكهما في الظهور والغلبة على المشركين فإنهم كما قال الكلبي ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم ، وعن ابن عباس أن المسلمين رموهم أي بسهام وحجارة كما قيل حتى أدخلوهم ديارهم أو لأن ذلك الصلح صار سببا لفتح مكة ، قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام ، قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها ، والتسمية على الأول من باب الاستعارة التبعية كيفما قررت ، وعلى الثاني من باب المجاز المرسل سواء قلنا إنه في مثل ما ذكر تبعي أم لا حيث سمي السبب باسم المسبب ، ولا مانع من أن يكون بين شيئين نوعان من العلاقة فيكون استعمال أحدهما في الآخر باعتبار كل نوعا من المجاز كما في المشفر والشفة الغليظة لإنسان ، وإسناد الفتح المراد به الصلح الذي هو فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه عزوجل مجاز من إسناد ما للقابل للفاعل الموجود ، وفي ذلك من تعظيم شأن الصلح والرسول عليه الصلاة والسلام ما فيه ؛ لا يقال : قد تقرر في الكلام أن الأفعال كلها مخلوقة له تعالى فنسبة الصلح إليه سبحانه إسناد إلى ما هو له فلا مجاز لأنا نقول : ما هو له عبارة عما كان الفعل حقه أن يسند إليه في العرف سواء كان مخلوقا له تعالى أو لغيره عزوجل كما صرح به السعد في المطول وكيف لا ولو كان كذلك لكان إسناد جميع الأفعال إلى غيره تعالى مجازا وإليه تعالى حقيقة كالصلاة والصيام وغيرهما.

وقال المحقق ميرزا جان : يمكن توجيه ما في الآية الكريمة على أنه استعارة مكنية أو على أن يراد خلق الصلح

٢٣٩

وإيجاده أو على أن يكون المجاز في الهيئة التركيبية الموضوعة للإسناد إلى ما هو له فاستعملت في الإسناد إلى غيره أو على أن يكون من قبيل الاستعارة التمثيلية ، والأوجه الأربعة جارية في كل ما كان من قبيل المجاز العقلي كأنبت الربيع البقل ، وقد صرح القوم بالثلاثة الأول منها ، وزعم بعض أن الصلح مما يسند إليه تعالى حقيقة فلا يحتاج إلى شيء من ذلك وفيه ما فيه ، ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح ويكون الفتح مجازا عن ذلك وإسناده إليه تعالى حقيقة ، وقد خفي كون ما كان في الحديبية فتحا على بعض الصحابة حتى بينه عليه الصلاة والسلام. أخرج البيهقي عن عروة قال : «أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا وعكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح ، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا ، وفائدة الخبر بالفتح على الوجهين بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم ذلك وكذا يعلم لازم الفائدة كذا قيل.

وحمل الغير على من لم يحضر الفتح من الصحابة وغيرهم لأن الحاضرين علموا ذلك قبل النزول ، وقيل : الحاضر إنما علم وقوع الصلح أو كون المشركين بحيث طلبوه ولم يعلم كونه فتحا كما يشعر به الخبر ، وإن سلم أنه علم ذلك لكنه لم يعلم عظم شأنه على ما يشعر به إسناده إلى نون العظمة والإخبار به بذلك الاعتبار.

وقال بعض المحققين : لعل المقصود بالإفادة كون ذلك للمغفرة وما عطف عليها فيجوز أن تكون الفائدة بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ، وأقول : قد صرحوا بأنه كثيرا ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أو لازمه نحو (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) [آل عمران : ٣٦] (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٤] (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ٥٩] الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجوز أن يكون الغرض من إيرادها هاهنا الامتنان دون إفادة الحكم أو لازمه ولا مجاز في ذلك ونحوه على ما أشار إليه العلامة عبد الحكيم السالكوتي في حواشيه على المطول.

وصرح في الرسالة الجندية بأن الهيئة التركيبية الخبرية في نحو ذلك منقولة إلى الإنشائية وان المجاز في الهيئة فقط لا في الأطراف ولا في المجموع وهو مجاز مفرد عند صاحب الرسالة والكلمة أعظم من اللفظ الحقيقي والحكمي ، وبعضهم يقول : هو مجاز مركب ولا ينحصر في التمثيلية ، وتحقيقه في موضعه.

والتأكيد بأن للاعتناء لا لرد الإنكار وقيل لأن الحكم لعظم شأنه مظنة للإنكار. وقيل : لأن بعض السامعين منكر كون ما وقع فتحا ، ويقال في تكرير الحكم نحو ذلك ، وقال مجاهد : المراد بالفتح فتح خيبر وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام ، وكان خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال ابن إسحاق ورجحه الحافظ ابن حجر في بقية المحرم سنة سبع وأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها ونقل عن مالك وجزم به ابن حزم أنه كان في آخر سنة ست ، وجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو شهر ربيع الأول ، وقول الشيخ أبي حامد في التعليقة : إن غزوة خيبر كانت سنة خمس وهم ، وقول ابن سعد. وابن أبي شيبة رواية عن أبي سعيد الخدري ، انها كانت لثمان عشرة من رمضان خطأ ، ولعل الأصل كانت حنين فحرف ومع

٢٤٠