روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

قلادة من عصب وسوارين من عاج فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» والمسح بكسر فسكون ثوب من شعر غليظ ، والقلبين تثنية قلب بضم فسكون السوار ، والعصب بفتح فسكون قال الخطابي إن لم يكن الثياب اليمانية فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها ، ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو اطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز.

قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها ، وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك معروفة بين الأمة. وفي البحر بعد حكاية حال عمر رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار قريش ، والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة لو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب ، هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاذْكُرْ) لكفار مكة (أَخا عادٍ) هودا عليه‌السلام (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم (بِالْأَحْقافِ) جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن قاله ابن زيد ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عمان ومهرة ، وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام ، وقال ابن إسحاق : مساكنهم من عمان إلى حضرموت ؛ وقال ابن عطية الصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ارم وبيان الحق فيها.

(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) أي الرسل كما هو المشهور ، وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير بمعنى منذر. وجوز كون (النُّذُرُ) جمع نذير بمعنى الأنذار فيكون مصدرا وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به. وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي من قبله عليه‌السلام (وَمِنْ خَلْفِهِ) أي من بعده وقرئ به ولو لا ذلك لجاز العكس ، والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه. وعن ابن عباس يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه ، فمعنى (مِنْ خَلْفِهِ) من بعد إنذاره ، وعطف (مِنْ خَلْفِهِ) أي من بعده على ما قبله إما من باب علفتها تبنا وماء باردا وفيه أقوال فقيل عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلت النذر من بين يديه وتأتي من خلفه ؛ وقيل إنه مشاكلة ، وقيل : إنه من قبيل الاستعارة بالكناية ، وإما لادخال الآتي في سلك الماضي قطعا بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وجوز أن يقال : المضي باعتبار الثبوت في علم الله تعالى أي وقد خلت النذر في علم الله تعالى يعني ثبت في علمه سبحانه خلو الماضين منهم والآتين ، والجملة إما حال من فاعل (أَنْذَرَ) أي إذ أنذر معلما إياهم بخلو النذر أو مفعوله أي وهم عالمون بإعلامه إياهم ، وهو قريب من أسلوب قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) [البقرة : ٢٨] الآية ، ويجوز أن يكون المعنى أنذرهم على فترة من الرسل ، وهي حال أيضا على تفسير ابن عباس ، وعلم القوم يجوز أن يكون من إعلامه ومن مشاهدتهم أحوال من كانوا في زمانه وسماعهم أحوال من قبله ، وإما اعتراض بين المفسر أعني (أَنْذَرَ قَوْمَهُ) وبين المفسر أعني قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته كأنه قيل : واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله

١٨١

وبعده وهو أن لا تعبدوا إلا الله تنبيها على أنه إنذار ثابت قديما وحديثا اتفقت عليه الرسل عليهم‌السلام عن آخرهم فهو يؤكد قوله تعالى : (وَاذْكُرْ) ويؤكد قوله سبحانه : (أَنْذَرَ قَوْمَهُ) ولذلك توسط ، وهو أيضا مقصود بالذكر بخلاف ما إذا جعل حالا فإنه حينئذ قيد تابع ، وهذا الوجه أولى مما قبله على ما قرره في الكشف ، وجوز بعضهم العطف على (أَنْذَرَ) أي وأعلمهم بذلك وهو كما ترى ، وجعلت (أن) مفسرة لتقدم معنى القول دون حروفه وهو الإنذار والمفسر معموله المقدر ، وجوز كونها مصدرية وكونها مخففة من الثقيلة فقبلها حرف جر مقدر متعلق بأنذر أي أنذرهم بأن لا تعبدوا إلا الله.

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) صفة (يَوْمٍ) وعظمه مجاز عن كونه مهولا لأنه لازم له ، وكون اليوم مهولا باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي ، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي ، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم (قالُوا أَجِئْتَنا) استفهام توبيخي (لِتَأْفِكَنا) أي لتصرفنا ـ كما قال الضحاك ـ من الإفك بمعنى الصرف ، وقيل : أي لتنزيلنا بالإفك وهو الكذب (عَنْ آلِهَتِنا) أي عن عبادتها (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من معاجلة العذاب على الشرك في الدنيا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعدك بنزوله بنا (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ) أي بوقت نزوله أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك (عِنْدَ اللهِ) وحده لا علم لي بوقت نزوله ، والكلام كناية عن أنه لا يقدر عليه ولا على تعجيله لأنه لو قدر عليه وأراده كان له علم به في الجملة فنفي علمه به المدلول عليه بالحصر نفي لمدخليته فيه حتى يطلب تعجيله من الله عزوجل ويدعو به.

وبهذا التقرير علم مطابقة جوابه عليه‌السلام لقولهم : (ائتنا) فيأتيكم به في وقته المقدر له (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إذ لم تنتهوا عن الشرك ، وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» من الإبلاغ.

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) شأنكم الجهل ومن آثار ذلك أنكم تقترحون على ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب ، والفاء في قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) فصيحة أي فأتاهم فلما رأوه ، وضمير النصب قيل راجع إلى (ما) في (بِما تَعِدُنا) وكون المرئي هو الموعود باعتبار المآل والسببية له وإلا فليس هو المرئي حقيقة ، وجوز الزمخشري أن يكون مبهما يفسره (عارِضاً) وهو إما تمييز وإما حال ، ثم قال : وهذا الوجه أعرب أي أبين واظهر لما أشرنا إليه في الوجه الأول من الخفاء وأفصح لما فيه من البيان بعد الإبهام والإيضاح غب التعمية.

وتعقبه أبو حيان بأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب نحو ربه رجلا لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو ، وأما أن الحال توضح المبهم وتفسره فلا نعلم أحدا ذهب إليه ، وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ولا إن الحال يفسر الضمير ويوضحه ، وأنت تعلم جلالة جار الله وإمامته في العربية ، والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء ، ومنه قول الشاعر :

يا من رأى عارضا أرقت له

بين ذراعي وجبهة الأسد

وقول الأعشى :

يا من رأى عارضا قد بت أرمقه

كأنما البرق في حافاته الشعل

(مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي متوجه أوديتهم وفي مقابلتها وهي جمع واحد وأفعلة في جمع فاعل الاسم شاذ نحو ناد

١٨٢

وأندية وجائز للخشبة الممتدة في أعلى السقف وأجوزة والإضافة لفظية كما في قوله تعالى : (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) ولذلك وقعا صفتين للنكرة وأطلق عليها الزمخشري مجازية ووجه التجوز أن هذه الإضافة للتوسع والتخفيف حيث لم تفد فائدة زائدة على ما كان قبل فكما أن إجراء الظرف مجرى المفعول به مجاز كذلك إجراء المفعول أو الفاعل مجرى المضاف إليه في الاختصاص ولم يرد أنها من باب الإضافة لأدنى ملابسة.

(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) أي من العذاب والكلام على إضمار القول قبله أي قال هود بل هو إلخ لأن الخطاب بينه وبينهم فيما سبق ويؤيده أنه قرئ كذلك وقدره بعضهم قل بل هو إلخ للقراءة به أيضا والاحتياج إلى ذلك لأنه إضراب ولا يصلح أن يكون من مقول من قال هذا عارض ممطرنا وقدر البغوي قال الله بل هو إلخ وينفك النظم الجليل عليه كما لا يخفى. وقرئ «بل ما استعجلتم» أي بل هو ، وقرأ قوم «ما استعجلتم» بضم التاء وكسر الجيم (رِيحٌ) بدل من (مَا) أو من (هُوَ) أو خبر لمبتدإ محذوف أي هي أو هو ريح (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) صفة (رِيحٌ) لكونه جملة بعد نكرة وكذا قوله تعالى (تُدَمِّرُ) أي تهلك (كُلَّ شَيْءٍ) من نفوسهم وأموالهم أو مما أمرت بتدميره (بِأَمْرِ رَبِّها) ويجوز أن يكون مستأنفا ، وقرأ زيد بن علي «تدمر» بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم ، وقرئ كذلك أيضا إلا أنه بالياء ورفع كلّ على أنه فاعل «يدمر» وهو من دمر دمارا أي هلك ، والجملة صفة أيضا والعائد محذوف أي بها أو الضمير من (رَبِّها) ويجوز أن يكون استئنافا كما في قراءة الجمهور وأراد البيان أن لكل ممكن وقتا مقيضا منوطا بأمر بارئه لا يتقدم ولا يتأخر ويكون الضمير من (رَبِّها) لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء وفي ذكر الأمر والرب والإضافة إلى الريح من الدلالة على عظمة شأنه عزوجل ما لا يخفى والفاء في قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) فصيحة أي فجأتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وجعلها بعضهم فاء التعقيب على القول بإضمار القول مسندا إليه تعالى وادعى أنه ليس هناك قول حقيقة بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم وحصول دمارهم من غير ريث وهو كما ترى ، وقرأ الجمهور «لا ترى» بتاء الخطاب «إلّا مساكنهم» بالنصب ، والخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى إلا مساكنهم أو لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ أبو رجاء ومالك بن دينار بخلاف عنهما والجحدري والأعمش وابن أبي إسحاق والسلمي «لا ترى» بالتاء من فوق مضمومة (إِلَّا مَساكِنُهُمْ) بالرفع وجمهور النحاة على أنه لا يجوز التأنيث مع الفصل بإلا إلا في الشعر كقول ذي الرمة :

كأنه جمل هم وما بقيت

إلا النحيزة والألواح والعصب

وقول الآخر وعزاه ابن جني لذي الرمة أيضا :

برى النحز والاجرال ما في غروضها

وما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وبعضهم يجيزه مطلقا وتمام الكلام فيه في محله ، وقرأ عيسى الهمداني «لا يرى» بضم التحتية «إلّا مسكنهم» بالتوحيد والرفع وروي هذا عن الأعمش. ونصر بن عاصم ، وقرئ «لا ترى» بتاء فوقية مفتوحة «إلّا مسكنهم» مفردا منصوبا وهو الواحد الذي أريد به الجمع أو مصدر حذف مضافه أي آثار سكونهم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ) الآية أول ما عرفوا أنه عذاب ما رأوا ما كان خراجا من رحالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوما لهم أنين فأمر الله تعالى الريح فكشفت عنهم

١٨٣

الرمل وطرحتهم في البحر فهو قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ).

وروي أن أول من أبصر العذاب امرأة منهم رأت ريحا فيها كشهب النار ، وروي أن هودا عليه‌السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع ، وعن ابن عباس أنه عليه‌السلام اعتزل ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين به الجلود وتلذه الأنفس ، وأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة ، وكانت كما أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير عن عمرو بن ميمون تجيء بالرجل الغائب ، ومر في سورة الأعراف مما يتعلق بهم ما مر فارجع إليهم إن أردته ، ولما أصابهم من الريح ما أصابهم كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إذا عصفت الريح. أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وعبد بن حميد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عصفت الريح قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به فإذا أخيلت السماء تغير لونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مطرت سري عنه فسألته فقال عليه الصلاة والسلام : لا أدري لعله كما قال قوم عاد هذا عارض ممطرنا» (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) أي قررنا عادا وأقدرناهم ، و (ما) في قوله تعالى : (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) موصولة أو موصولة و (إِنْ) نافية أي في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات كما في قوله تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) [الأنعام : ٦] ولم يكن النفي بلفظ «ما» كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلف المعنى ، ولذا قال من ذهب إلى أن أصل مهما ما ما على أن ما الشرطية مكررة للتأكيد قلبت الألف الأولى هاء فرارا من كراهة التكرار ، وعابوا على المتنبي قوله :

لعمرك ما ما بأن منك لضارب

بأقتل مما بان منك لعائب

أي ما الذي بأن إلخ ، يريد لسانه لا يتقاعد عن سنانه هذا للعائب وذلك للضارب ، وكان يسعه أن يقول : إن ما بان ، وإدخال الباء للنفي لا للعمل على أن إعمال إن قد جاء عن المبرد ، وقيل : (إِنْ) شرطية محذوفة الجواب والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم ، وقيل : إنها صلة بعد ما الموصولة تشبيها بما النافية وما التوقيتية ، فهي في الآية مثلها في قوله :

يرجّي المرء ما أن لا يراه

وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم فيه ، وكونها نافية هو الوجه لأن القرآن العظيم يدل عليه في ما وضع وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث على الاعتبار (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) ليستعملوها فيما خلقت له ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شئون منعمها عزوجل ويداوموا على شكره جلّ شأنه (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ) حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل (وَلا أَبْصارُهُمْ) حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المرسومة في صحائف العالم (وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى (مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا من الإغناء ، و (مِنْ) مزيدة للتوكيد والتنوين للتقليل.

وجوز أن تكون تبعيضية أي ما أغنى بعض الإغناء وهو القليل ، و (ما) في (فَما أَغْنى) نافية وجوز كونها استفهامية. وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة (مِنْ) في الواجب وهو لا يجوز على الصحيح. ورد بأنهم قالوا : تزاد في غير الموجب وفسروه بالنفي والنهي والاستفهام ، وإفراد السمع في النظم الجليل وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات وتعدد مدركات غيره أو لأنه في الأصل مصدر ، وأيضا مسموعهم من الرسل متحد.

١٨٤

(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) ظرف متعلق بالنفي الصريح أو الضمني في قوله تعالى : (فَما أَغْنى) وهو ظرف أريد به التعليل كناية أو مجازا لاستواء مؤدى الظرف والتعليل في قولك : ضربته لإساءته وضربته إذ أساء لأنك إنما ضربته في ذلك الوقت لوجود الإساءة فيه ، وهذا مما غلب في إذ وحيث من بين سائر الظروف حتى كاد يلحق بمعانيهما الوضعية (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف : ٧٠ ، هود : ٣٢].

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٣٥)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكة (مِنَ الْقُرى) كحجر ثمود وقرى قوم صالح ، والكلام بتقدير مضاف أو تجوز بالقرى عن أهلها بقوله تعالى : (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي كررناها (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وأمر (ما) سهل ، والترجي مصروف لغيره تعالى أو (لعل) للتعليل أي لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الإيمان والطاعة (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ) فهلا منعهم من الهلاك الذي وقعوا فيه (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) أي آلهتهم الذين اتخذوهم.

(مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) والضمير الذي قدرناه عائدا هو المفعول الأول لاتخذوا. و (آلِهَةً) هو المفعول الثاني و (قُرْباناً) بمعنى متقربا بها حال أي اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونها متقربا بها إلى الله عزوجل حيث كانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] وفي الكلام تهكم بهم.

وأجار الحوفي كون (قُرْباناً) مفعولا من أجله ، وأجاز هو أيضا وابن عطية ومكي وأبو البقاء كونه المفعول الثاني لاتخذوا. وجعل (آلِهَةً) بدلا منه ، وقال في الكشاف : لا يصح ذلك لفساد المعنى ، ونقل عنه في بيانه أنه لا يصح أن يقال : تقربوا بها من دون الله لأن الله تعالى لا يتقرب به ، وأراد كما في الكشف أنه إذا جعل مفعولا ثانيا يكون المعنى فلو لا نصرهم الذين اتخذوهم قربانا بدل الله تعالى أو متجاوزين عن أخذه تعالى قربانا إليهم وهو معنى فاسد. واعترض عليه بجعل (دُونِ) بمعنى قدام كما قيل به في قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [البقرة : ٢٣١]

١٨٥

وبأنه قد قيل : إن قربانا مفعول له فهو غير مختص بالمتقرب به ، وجاز أن يطلق على المتقرب إليه وحينئذ يلتئم الكلام. وأجيب عن الأول بأنه غير قادح لأنه مع نزارة استعمال دون بمعنى قدام لا يصلح ظرف الاتخاذ لأنه ليس بين يدي الله تعالى وإنما التقرب بين يديه تعالى ولأجله سبحانه ، واتخاذهم قربانا ليس التقرب به لأن معناه تعظيمهم بالعبادة ليشفعوا بين يدي الله عزوجل ويقربوهم إليه سبحانه ، فزمان الاتخاذ ليس زمان التقرب البتة ، وحينئذ ان كان مستقرا حالا لزم ما لزم في الأول.

ولا يجوز أن يكون معمول (قُرْباناً) لأنه اسم جامد بمعنى ما يتقرب به فلا يصلح عاملا كالقارورة وإن كان فيها معنى القرار ، وفيه نظر. وأجيب عن الثاني بأن الزمخشري بعد أن فسر القربان بما يتقرب به ذكر هذا الامتناع على أن قوله تعالى بعد. (بَلْ ضَلُّوا) إلخ ينادي على فساد ذلك أرفع النداء ، وقال بعضهم في امتناع كون (قُرْباناً) مفعولا ثانيا و (آلِهَةً) بدلا منه : إن البدل وإن كان هو المقصود لكن لا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا صحة لقولهم : اتخذوهم من دون الله قربانا أي ما يتقرب به لأن الله تعالى لا يتقرب به بل يتقرب إليه فلا يصح أنهم اتخذوهم قربانا متجاوزين الله تعالى في ذلك ، وجنح بعضهم إلى أنه يصح أن يقال : الله تعالى يتقرب به أي برضاه تعالى والتوسل به جل وعلا. وقال الطيبي : إن الزمخشري لم يرد بفساد المعنى إلا خلاف المعنى المقصود إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهة على زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى كما نطقت به الآيات فتأمل.

وقرئ «قربانا» بضم الراء (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي غابوا عنهم ، وفيه تهكم بهم أيضا كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقد امتنع نصرهم الذي كانوا يؤملونه امتناع نصر الغائب عن المنصور (وَذلِكَ) أي ضلال آلهتهم عنهم (إِفْكُهُمْ) أي أثر إفكهم أي صرفهم عن الحق واتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وأثر افترائهم وكذبهم على الله تعالى أو أثر ما كانوا يفترونه على الله عزوجل ، وقيل : ذلك إشارة إلى اتخاذ الأصنام آلهة أي ذلك الاتخاذ الذي أثره ضلال آلهتهم عنهم كذبهم وافتراؤهم أو والذي كانوا يفترونه وليس بذاك وإن لم يحوج إلى تقدير مضاف. وقرأ ابن عباس في رواية «أفكهم» بفتح الهمزة والافك والأفك مصدران كالحذر والحذر وقرأ ابن الزبير. والصباح بن العلاء الأنصاري وأبو عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان بن مرة ومجاهد وهي رواية عن ابن عباس أيضا «أفكهم» بثلاث فتحات على أن افك فعل ماض وحينئذ الإشارة إلى الاتخاذ أي ذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق ، (وَما كانُوا) قيل عطف على ذلك أو على الضمير المستتر وحسن للفصل أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي كذلك ، والجملة حينئذ معطوفة على الجملة قبلها.

وأبو عياض وعكرمة أيضا كذلك إلا أنهما شددا الفاء للتكثير ، وابن الزبير أيضا. وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه «آفكهم» بالمد فاحتمل أن يكون فاعل فالهمزة أصلية وأن يكون أفعل والهمزة للتعدية أي جعلهم يأفكون ، وجوز أن تكون للوجدان كأحمدته وأن يكون أفعل بمعنى فعل ، وحكى في البحر أنه قرئ «أفكهم» بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب. وأبو الفضل الرازي «آفكهم» اسم فاعل من إفك أي وذلك الاتخاذ صارفهم عن الحق. وقرئ «وذلك إفك مما كانوا يفترون» والمعنى ذلك بعض ما يفترون من الإفك أي بعض أكاذيبهم المفتريات فالافك بمعنى الاختلاف فلا تغفل.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي أملناهم إليك ووجهناهم لك ، والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذا حزبهم أمر نفروا لكفايته ، والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح ، وقد ذكر ذلك جمع من أهل اللغة ، وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى

١٨٦

الأربعين ، وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره هنا بما زاد على العشرة ولا يختص بالرجال ، والأخذ من النفير لا يدل على الاختصاص بهم بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا.

والجار والمجرور صفة (نَفَراً) وقوله تعالى : (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) حال مقدرة منه لتخصصه بالصفة أو صفة له أخرى وضمير الجمع لأنه اسم جمع فهو في المعنى جمع ، ولذا قرئ «صرّفنا» بالتشديد للتكثير ، و (إِذْ) معمولة لمقدر لا عطف على (أَخا عادٍ) أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفرا من الجن مقدرا استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجهلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث إنهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به ومن جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وأمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله ففي ذكر هذه القصة توبيخ لكفار قريش والعرب ، ووقوعها أثر قصة هود وقومه وإهلاك من أهلك من أهل القرى لأن أولئك كانوا ذوي شدة وقوة كما حكي عنهم في غير آية والجن توصف بذلك أيضا كما قال تعالى : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) [النمل : ٣٩] ووصفهم بذلك معروف بين العرب فناسبت ما قبلها لذلك مع ما قيل أن قصة عاد متضمنة ذكر الريح وهذه متضمنة ذكر الجن وكلاهما من العالم الذي لا يشاهد ، وسيأتي الكلام في حقيقتهم.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي القرآن عند تلاوته ، وهو الظاهر وإن كان فيه تجوز ، وقيل : الرسول الله عند تلاوته له ففيه التفات (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) اسكتوا لنسمعه ، وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم (فَلَمَّا قُضِيَ) أتم وفرغ عن تلاوته. وقرأ أبو مجلز وحبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول الله ، وأيد بذلك عود ضمير (حَضَرُوهُ) إليه عليه الصلاة والسلام.

(وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم ، قيل : إنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن ، وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام ، وقيل : من نينوى وهي أيضا من ديار بكر لكنها قريبة من الموصل ، وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم ، وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة المكرمة. فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والشيخان والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس قال : انطلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو وأصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم.

وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا : أنصتوا فلما قضى وفرغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١].

وفي الصحيحين عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم شجرة وكانوا على ما روي عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة. ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسى. ومسى. وشاصر. وماصر. والاردوانيان. وسرق. والأحقم. بميم آخره ، وفي رواية عن كعب الأحقب بالباء ، وذكر صاحب الروض بدل حسى. ومسى. منشئ. وناشئ.

١٨٧

وأخرج ابن جرير والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر : كانوا تسعة عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسلا إلى قومهم ، والخبر السابق يدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه ، وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن علقمة قال قلت لابن مسعود : هل صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال : ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا : استطير أو اغتيل فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم.

وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال : قمت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن وأخذت إداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال : فخط لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : قم هاهنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلا طويلا حتى جاءني مع الفجر فقال لي : هل معك من وضوء قلت : نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت : ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قام يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت : من هؤلاء يا رسول الله؟ قال : جن نصيبين فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن ، وقد أخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن الحبر أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين ، وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك ، فقد أخرج أبو نعيم. والواقدي عن كعب الأحبار قال : انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والاردوانيان. والأحقب جاءوا قومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب فسلم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لساعة من الليل بالحجون.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية : هم اثنا عشر ألفا من جزيرة الموصل ، وفي الكشاف حكاية هذا العدد أيضا وأن السورة التي قرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] ، ونقل في البحر عن ابن عمر. وجابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن] قالوا : لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد ، وأخرج أبو نعيم في الدلائل. والواقدي عن أبي جعفر قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشر من النبوة وفي معناه ما قيل : كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مكث بمكة يوحى إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر.

وقيل : كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء (قالُوا) أي عند رجوعهم إلى قومهم (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) جليل الشأن (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ذكروه دون عيسى عليهما‌السلام لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين ولأن الكتاب المنزل عليه أجل الكتب قبل القرآن وكان عيسى عليه‌السلام مأمورا بالعمل بمعظم ما فيه أو بكله ، وقال عطاء : لأنهم كانوا على اليهودية ويحتاج إلى نقل صحيح ، وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه‌السلام فلذا قالوا ذلك ، وفيه بعد فإن اشتهار أمر عيسى عليه‌السلام وانتشار أمر دينه أظهر من أن يخفى لا سيما على الجن ، ومن هنا قال أبو حيان : إن هذا لا يصح عن ابن عباس (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة أو جميع الكتب الإلهية السابقة (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) من العقائد الصحيحة (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) من الأحكام الفرعية أو ما يعمها وغيرها من العقائد على أنه من ذكر العام بعد الخاص.

١٨٨

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) أرادوا به ما سمعوه من الكتاب ووصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما ، وفي الجمع بينهما ترغيب لهم في الإجابة أي ترغيب ، وجوز أن يكون أرادوا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآمِنُوا بِهِ) أي بداعي الله تعالى أو بالله عزوجل (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم قيل : وهو ما كان خالص حقه عزوجل فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان. وتعقبه ابن المنير بأن الحربي إذا نهب الأموال وسفك الدماء ثم حسن إسلامه جب إسلامه إثم ما تقدم بلا إشكال ثم قال ويقال : إنه لم يرد وعد المغفرة للكافرين على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة وهذا منه فإن لم يكن لاطراده كذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافرين قبض لا بسط فلذلك لم يبسط رجاؤه في مغفرة جملة الذنوب ، وقد ورد في حق المؤمنين كثيرا ، ورده صاحب الإنصاف بأن مقام ترغيب الكافر في الإسلام بسط لا قبض وقد أمر الله تعالى أن يقول لفرعون : (قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] وقد قال تعالى : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] وهي غير مبعضة و «ما» للعموم لا سيما وقد وقعت في الشرط.

وقال بعض أجلة المحققين : إن الحربي وإن كان إذا أسلم لا تبقى عليه تبعة أصلا لكن الذمي إذا أسلم تبقى عليه حقوق الآدميين ، والقوم ـ كما نقل عن عطاء ـ كانوا يهودا فتبقى عليهم تبعاتهم فيما بينهم إذا أسلموا جميعا من غير حرب فلما كان الخطاب معهم جيء بما يدل على التبعيض ، وقيل : جيء به لعدم علم الجن بعد بأن الإسلام يجب إثم ما قبله مطلقا وفيه توقف ، وقد يقال : أرادوا بالبعض الذنوب السالفة ولو لم يقولوا ذلك لتوهم المخاطبون أنهم إن أجابوا داعي الله تعالى وآمنوا به يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر ، وقيل : من زائدة أي يغفر لكم ذنوبكم (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) معد للكفرة ، وهذا ونحوه يدل على أن الجن مكلفون ، ولم ينص هاهنا على ثوابهم إذا أطاعوا وعمومات الآيات تدل على الثواب ، وعن ابن عباس لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها ، ولعل الاقتصار هنا على ما ذكر لما فيه من التذكير بالذنوب والمقام مقام الإنذار فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب ، وقيل : لا ثواب لمطيعيهم إلا النجاة من النار فيقال لهم : كونوا ترابا فيكونون ترابا ، وهذا مذهب ليث بن أبي سليم. وجماعة ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وقال النسفي في التيسير : توقف أبو حنيفة في ثواب الجن في الجنة ونعيمهم لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من العذاب ، وأما نعيم الجنة فموقوف على الدليل.

وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض وليسوا فيها ، وقيل : يدخلون الجنة ويلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذة ذلك ما يصيبه بنو آدم من لذائذهم ، قال النووي في شرح صحيح مسلم : والصحيح أنهم يدخلونها ويتنعمون فيها بالأكل والشرب وغيرهما ، وهذا مذهب الحسن البصري. ومالك بن أنس والضحاك وابن أبي ليلى وغيرهم (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) إيجاب للإجابة بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب وتحقيق لكونهم منذرين وإظهار داعي الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين بأن يقال : يجبه أو يجب داعيه للمبالغة في الإيجاب بزيادة التقرير وتربية المهابة وإدخال الروعة.

وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة أي فليس بمعجز له تعالى بالهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها ، وقوله تعالى : (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى (مَنْ) فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد على الآحاد ، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عامر أنه قرأ وليس لهم بضمير الجمع فإنه لمن باعتبار معناها ، وكذا الجمع

١٨٩

في قوله سبحانه : (أُولئِكَ) بذلك الاعتبار أي أولئك الموصوفون بعدم إجابة داعي الله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ظاهر كونه ضلالا بحيث لا يخفى على أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه (أَوَلَمْ يَرَوْا) الهمزة للإنكار والواو على أحد القولين عطف على مقدر دخله الاستفهام يستدعيه المقام ، والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي لم يتعب بذلك أصلا من عيي كفعل بكسر العين ، ويجوز فيه الإدغام بمعنى تعب كأعيا ، وقال الكسائي : أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز والتحير في الأمر ؛ وأنشدوا :

عيوا بأمرهم كما

عيت ببيضتها الحمامة

أي لم يعجز عن خلقهن ولم يتحير فيه ، واختار بعضهم عدم الفرق ، وقرأ الحسن «ولم يعي» بكسر العين وسكون الياء ، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة كما قالوا في بقي بقي بفتح القاف وألف بعدها وهي لغة طيئ ، ولما بني الماضي على فعل مفتوح العين بني مضارعه على يفعل مكسورها فجاء يعي فلما دخل الجازم حذف الياء فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين فسكنت الياء ، وقوله تعالى : (بِقادِرٍ) في حيز الرفع لأنه خبر أن والباء زائدة فيه ، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي ، وقد أجاز الزجاج ما ظننت أن أحدا بقائم قياسا على هذا ، قال أبو حيان : والصحيح قصر ذلك على السماع فكأنه قيل هنا : أو ليس الله بقادر (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى : (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقريرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود ، ولذا قيل : إن هذا مشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول فكأنه قيل : إحياء الموتى شيء وكل شيء مقدور له فينتج أن إحياء الموتى مقدور له ، ويلزمه أنه تعالى «قادر على أن يحيي الموتى».

وقرأ الجحدري وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وعيسى والأعرج بخلاف عنه ويعقوب «يقدر» بدل (بِقادِرٍ) بصيغة المضارع الدال على الاستمرار وهذه القراءة على ما قيل موافقة أيضا للرسم العثماني.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) ظرف عامله قول مضمر مقوله تعالى : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) أي ويقال : (يَوْمَ يُعْرَضُ) إلخ ، والظاهر أن الجملة معترضة ، وقيل : هي حال ، والتقدير وقد قيل ، وفيه نظر ، وقد مر آنفا الكلام في العرض بطوله ، والإشارة إلى ما يشاهدونه حين العرض من حيث هو من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه ، وقيل : هي إلى العذاب بقرينة التصريح به بعد ، وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده ، وقولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الشعراء : ١٣٨ ، سبأ : ٣٥ ، الصافات : ٥٩].

(قالُوا بَلى وَرَبِّنا) تصديق بحقيته ؛ وأكدوا بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقية ذلك كما في الدنيا وأنى لهم. وعن الحسن أنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل.

(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا ، ومعنى الأمر الإهانة بهم فهو تهكم وتوبيخ وإلا لكان تحصيلا للحاصل ، وقيل : هو أمر تكويني ؛ والمراد إيجاب عذاب غير ما هم فيه وليس بذاك ، والفاء في قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة (فَاصْبِرْ) وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم ، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف

١٩٠

هذه الجملة على إخبار الكفار في الآخرة ؛ وقال : المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل : هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عزوجل ، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه ، و (مِنَ) بيانية كما في (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] والجار والمجرور في موضع الحال من (الرُّسُلِ) فيكون أولو العزم صفة جميعهم ، وإليه ذهب ابن زيد والجبائي وجماعة أي (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ) الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عزوجل عليهم بواسطة أو بدونها. وعن عطاء الخراساني والحسن بن الفضل والكلبي ومقاتل وقتادة وأبي العالية وابن جريج ، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن (مِنَ) للتبعيض فأولو العزم بعض الرسل عليهم‌السلام ، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال ، فقال الحسن بن الفضل : ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] وقيل : تسعة نوح عليه‌السلام صبر على أذى قومه طويلا. وإبراهيم عليه‌السلام صبر على الإلقاء في النار. والذبيح عليه‌السلام صبر على ما أريد به من الذبح. ويعقوب عليه‌السلام صبر على فقد ولده. ويوسف عليه‌السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه‌السلام صبر على البلاء. وموسى عليه‌السلام قال له قومه : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء : ٦١] فقال (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦٢] وداود عليه‌السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه‌السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقيل : سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم‌السلام ، وقيل : ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان ، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال : هم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى عليهم‌السلام وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال. وقول الجلال السيوطي : إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال :

أولو العزم نوح والخليل الممجد

وموسى وعيسى والحبيب محمد

مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسي نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك ، وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ ، والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح وإبراهيم وهود ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رابع لهم ، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولو العزم بعد مختصا بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الإطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل : فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقا كما صبر إخوانك الرسل قبلك (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا (إِلَّا ساعَةً) يسيرة (مِنْ نَهارٍ) لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته. وقرأ أبي «من النهار» وقوله تعالى : (بَلاغٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول ، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة. وأيد تفسير (بَلاغٌ) بتبليغ بقراءة أبي مجلز. وأبي سراج الهذلي «بلغ» بصيغة الأمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبقراءة أبي مجلز أيضا في رواية «بلغ» بصيغة الماضي من التفعيل ، واستظهر أبو حيان كون

١٩١

الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٧ ، النحل : ١١٧] وقال أبو مجلز : (بَلاغٌ) مبتدأ خبره قوله تعالى : (لَهُمْ) السابق فيوقف على (وَلا تَسْتَعْجِلْ) ويبتدأ بقوله تعالى : (لَهُمْ) وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر ؛ والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب ؛ وهو ضعيف جدا لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق (لَهُمْ) بتستعجل. وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى «بلاغا» بالنصب بتقدير بلغ بلاغا أو بلغنا بلاغا أو نحو ذلك. وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه نعت لنهار.

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة ، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها. وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام. وعنه أيضا «يهلك» بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة ، وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت «نهلك» بنون العظمة من الإهلاك «القوم الفاسقين» بالنصب ، وهذه الآية أعني قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ) إلى الآخر جاء في بعض الآثار ما يعشر بأن لها خاصية من بين آي هذه السورة. أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون اللهم إني اسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين».

١٩٢

سورة محمّد

وتسمى سورة القتال ، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء ، وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) [محمد : ١٣] إلى آخره فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليها وقال : «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إليّ ولو لا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك» فأنزل الله تعالى ذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. أعني ما نزل في سفر الهجرة. من المكي اصطلاحا كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام ، وعدة آيها أربعون في البصري وثمان وثلاثون في الكوفي وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما ، والخلاف في قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) [محمد : ٤] وقوله تعالى : (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥] ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب.

وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : نزلت سورة محمد آية فينا وآية في بني أمية ، ولا أظن صحة الخبر. نعم لكفار بني أمية الحظ الأوفر من عمومات الآيات التي في الكفار كما أن لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم المعلى والرقيب من عمومات الآيات التي في المؤمنين ، وأكثر من هذا لا يقال سوى أني أقول : لعن الله تعالى من قطع الأرحام وآذى الآل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ

١٩٣

عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)(١٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه أو منعوا غيرهم عن ذلك على أن صد لازم أو متعد ، قال في الكشف : والأول أظهر لأن الصد عن سبيل الله هو الإعراض عما أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ) [يوسف : ١٠٨] فيطابق قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) وكثير من الآثار تؤيد الثاني ، وفسر الضحاك (سَبِيلِ اللهِ) ببيت الله عزوجل ، وقال : صدهم عنه منعهم قاصديه وليس بذلك.

والآية عامة لكل من اتصف بعنوان الصلة ، وقال ابن عباس : هم أي الذين كفروا وصدوا على الوجه الثاني في (صَدُّوا) المطعمون يوم بدر الكبرى ، وكأنه عنى من يدخل في العموم دخولا أوليا ، فإن أولئك كانوا صادين بأموالهم وأنفسهم فصدهم أعظم من صد غيرهم ممن كفر وصد عن السبيل ، وأول من أطعم منهم. على ما نقل عن سيرة ابن سيد الناس. أبو جهل عليه اللعنة نحر لكفار قريش حين خرجوا من مكة عشرا من الإبل ، ثم صفوان بن أمية نحر تسعا بعسفان ، ثم سهل بن عمرو نحر بقديد عشرا ثم شيبة بن ربيعة وقد ضلوا الطريق نحر تسعا ثم عتبة بن ربيعة نحر عشرا ، ثم مقيس الجمحي بالأبواء نحر تسعا ، ثم العباس نحر عشرا ، والحرث بن عامر نحر تسعا ، وأبو البختري على ماء بدر نحر عشرا ، ومقيس تسعا ؛ ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم ، وقيل : كانوا ستة نفر نبيه ومنبه ابنا الحجاج وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل والحارث ابنا هشام ، وضم مقاتل إليهم ستة أخرى وهم عامر بن نوفل. وحكيم بن حزام. وزمعة بن الأسود. والعباس بن عبد المطلب. وصفوان بن أمية. وأبو سفيان بن حرب أطعم كل واحد منهم يوما الأحابيش والجنود يستظهرون بهم على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ينافي عد أبي سفيان إن صحت الرواية من أولئك كونه مع العير لأن المراد بيوم بدر زمن وقعتها فيشمل من أطعم في الطريق وفي مدتها حتى انقضت ، وقال مقاتل : هم اثنا عشر رجلا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر ، وقيل : هم شياطين من أهل الكتاب صدوا من أراد منهم أو من غيرهم عن الدخول في الإسلام.

والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا نفع أصلا لا بمعنى أنه سبحانه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنه عزوجل حكم ببطلانها وضياعها وأريد بها ما كانوا يعملونه من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم.

وجوز أن يكون المعنى جعلها ضلالا أي غير هدى حيث لم يوفقهم سبحانه لأن يقصدوا بها وجهه سبحانه أو

١٩٤

جعلها ضالة أي غير مهتدية على الإسناد المجازي ، ومن قال الآية في المطعمين وأضرابهم قال : المعنى أبطل جلّ وعلا ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالإنفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى محاربته عليه الصلاة والسلام وغيره بنصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإظهار دينه على الدين كله ، ولعله أوفق بما بعده ، وكذا بما قيل إن الآية نزلت ببدر.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال ابن عباس فيما أخرجه عنه جماعة منهم الحاكم وصححه هم أهل المدينة الأنصار ، وفسر رضي الله تعالى عنه (الَّذِينَ كَفَرُوا) بأهل مكة قريش ، وقال مقاتل : هم ناس من قريش ، وقيل : مؤمنو أهل الكتاب ، وقيل : أعم من المذكورين وغيرهم فإن الموصول من صيغ العموم ولا داعي للتخصيص (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) من القرآن ، وخص بالذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيها على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وانه الأصل في الكل ولذلك أكد بقوله تعالى : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) وهو جملة معترضة بين المبتدأ والخبر مفيدة لحصر الحقية فيه على طريقة الحصر في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) وقولك : حاتم الجواد فيراد بالحق ضد الباطل ، وجوز أن يكون الحصر على ظاهره والحق الثابت ، وحقية ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام لكونه ناسخا لا ينسخ وهذا يقتضي الاعتناء به ومنه جاء التأكيد ، وأيا ما كان فقوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) حال من ضمير (الْحَقُ) وقرأ زيد بن علي. وابن مقسم «نزل» مبنيا للفاعل. والأعمش «أنزل» معدى بالهمزة مبنيا للمفعول ، وقرئ «أنزل» بالهمز مبنيا للفاعل «ونزل» بالتخفيف (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي سترها بالإيمان والعمل الصالح ، والمراد إزالتها ولم يؤاخذهم بها (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد ، وتفسير البال بالحال مروي عن قتادة وعنه تفسيره بالشأن وهو الحال أيضا أو ما له خطر ، وعليه قول الراغب : البال الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا بالة أي ما اكترثت به ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل أمر ذي بال» الحديث ويكون بمعنى الخاطر القلبي ويتجوز به عن القلب كما قال الشهاب. وفي البحر حقيقة البال الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ومن صلح قلبه صلحت حاله ، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع له ، وحكى عن السفاقسي تفسيره هنا بالفكر وكأنه لنحو ما أشير إليه ، وهو كما في البحر أيضا مما لا يثنى ولا يجمع وشذ قولهم في جمعه بآلات (ذلِكَ) إشارة إلى ما مر من الإضلال والتكفير والإصلاح وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ذلك كائن بسبب اتباع الأولين الباطل واتباع الآخرين الحق ؛ والمراد بالحق والباطل معناهما المشهور.

وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد تفسير (الْباطِلَ) بالشيطان. وفي البحر قال مجاهد : الباطل الشيطان وكل ما يأمر به و (الْحَقَ) هو الرسول والشرع ، وقيل : الباطل ما لا ينتفع به ، وجوز الزمخشري كون ذلك خبر مبتدأ محذوف و (بِأَنَ) إلخ في محل نصب على الحال ، والتقدير الأمر ذلك أي كما ذكر ملتبسا بهذا السبب.

والعامل في الحال إما معنى الإشارة وإما نحو أثبته وأحقه فإن الجملة تدل على ذلك لأنه مضمون كل خبر وتعقبه أبو حيان بأن فيه ارتكابا للحذف من غير داع له ، والجار والمجرور أعني (مِنْ رَبِّهِمْ) في موضع الحال على كل حال ، والكلام أعني قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَ) إلى قوله سبحانه : (مِنْ رَبِّهِمْ) تصريح بما أشعر به الكلام السابق من السببية لما فيه من البناء على الموصول ، ويسميه علماء البيان التفسير ، ونظيره ما أنشده الزمخشري لنفسه :

به فجع الفرسان فوق خيولهم

كما فجعت تحت الستور العواتق

تساقط من أيديهم البيض حيرة

وزعزع عن أجيادهن المخانق

فإن فيه تفسيرا على طريق اللف والنشر كما في الآية وهو من محاسن الكلام (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضرب

١٩٥

البديع (يَضْرِبُ اللهُ) أي يبين (لِلنَّاسِ) أي لأجلهم (أَمْثالَهُمْ) أي أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال ، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم ، واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم ، وجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيل والتشبيه بأن جعل سبحانه اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين وتكفير السيئات مثلا لفوزهم والإشارة بذلك لما تضمنه الكلام السابق ، وجوز كون ضمير (أَمْثالَهُمْ) للناس ؛ والفاء في قوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام أي إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحارب (فَضَرْبَ الرِّقابِ) وقال الزمخشري : (لَقِيتُمُ) من اللقاء وهو الحرب و (ضرب) نصب على المصدرية لفعل محذوف والأصل اضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدرية وأنيب منابه مضافا إلى المفعول ، وحذف الفعل الناصب في مثل ذلك بما أضيف إلى معموله واجب ، وهو أحد مواضع يجب فيها الحذف ذكرت في مطولات كتب النحو ، وليس منها نحو ضربا زيدا على ما نص عليه ابن عصفور.

وذكر غير واحد أن فيما ذكر اختصارا وتأكيدا ولا كلام في الاختصار ، وأما التأكيد فظاهر القول به أن المصدر بعد حذف عامله مؤكد ، وقال الحمصي في حواشي التصريح : إن المصدر في ذلك مؤكد في الأصل وأما الآن فلا لأنه صار بمنزلة الفعل الذي سد هو مسده فلا يكون مؤكدا بل كل مصدر صار بدلا من اللفظ بالفعل لا يكون مؤكدا ولا مبينا لنوع ولا عدد ، وضرب (الرِّقابِ) مجاز مرسل عن القتل ، وعبر به عنه إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن وتصويرا له بأشنع صورة لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى ، وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أوقعتم القتل بهم بشدة وكثرة على أن ذلك مستعار من ثخن المائعات لمنعه عن الحركة ، والمراد حتى إذا أكثرتم قتلهم وتمكنتم من أخذ من لم يقتل (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي فأسروهم واحفظوهم ، فالشد وكذا ما بعد في حق من أسر منهم بعد اثخانهم لا للمثخن إذ هو بالمعنى السابق لا يشد ولا يمن عليه ولا يفدى لأنه قد قتل أو المعنى حتى إذا أثقلتموهم بالجراح ونحوه بحيث لا يستطيعون النهوض فأسروهم واحفظوهم ؛ فالشد وكذا ما بعد في حق المثخن لأنه بهذا المعنى هو الذي لم يصل إلى حد القتل لكن ثقل عن الحركة فصار كالشيء الثخين الذي لم يسل ولم يستمر في ذهابه ، والإثخان عليه مجاز أيضا ، و (الْوَثاقَ) في الأصل مصدر كالخلاص وأريد به هنا ما يوثق به. وقرئ «الوثاق» بالكسر وهو اسم لذلك ، ومجيء فعال اسم آلة كالحزام والركاب نادر على خلاف القياس ، وظاهر كلام البعض أن كلا من المفتوح والمكسور اسم لما يوثق به ، ولعل المراد بيان المراد هنا.

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما تمنون منا وإما تفدون فداء ، والكلام تفصيل لعاقبة مضمون ما قبله من شد الوثاق ، وحذف الفعل الناصب للمصدر في مثل ذلك واجب أيضا ، ومنه قوله :

لأجهدن فإما درء واقعة

تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل

وجوز أبو البقاء كون كل من (مَنًّا) و (فِداءً) مفعولا به لمحذوف أي أولوهم منّا أو اقبلوا منهم فداء ، وليس كما قال أبو حيان إعراب نحوي. وقرأ ابن كثير في رواية شبل «وإمّا فدى» بالفتح والقصر كعصا. وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز قصره لأنه مصدر فأديته ، قال الشهاب : ولا عبرة به فإن فيه أربع لغات الفتح والكسر مع المد والقصر ولغة

١٩٦

خامسة البناء مع الكسر كما حكاه الثقات انتهى ، وفي الكشف نقلا عن الصحاح الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور. ومن العرب من يكسر الهمزة أي يبنيه على الكسر إذا جاوز لام الجر خاصة لأنه اسم فعل بمعنى الدعاء ، وأنشد الأصمعي بيت النابغة مهلا فداء لك. وهذا الكسر مع التنوين كما صرح به في البحر ، وظاهر الآية. على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم. امتناع القتل بعد الأسر وبه قال الحسن. وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عنه أنه قال : أتى الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يقتله فقال ابن عمر : ليس بهذا أمرنا إنما قال الله تعالى : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وفي حكم الأسارى خلاف فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث التي قالت فيه أخته أبياتا منها تخاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ما كان ضرك لو مننت وربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

ولأن في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية ، وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فإن فعل بلا ملجئ كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن لا يضمن شيئا ، وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام ، وإن شاء تركهم ذمة أحرارا للمسلمين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه ذلك في أهل السواد إلا أسارى مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استرقاقهم بل الحكم فيهم إما الإسلام أو السيف ، وإن أسلم الأسارى بعد الأسر لا يقتلهم لاندفاع شرهم بالإسلام ، ولكن يجوز استرقاقهم فإن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي وقد وجد بعد انعقاد سبب الملك وهو الاستيلاء على الحربي غير المشرك من العرب ، بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم ، ولا يفادى بالأسارى في إحدى الروايتين عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حربا علينا ، ودفع شر حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط ، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين.

والرواية الأخرى عنه أنه يفادى وهو قول محمد وأبي يوسف والإمام الشافعي ومالك وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم ، ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم ، وهذه رواية السير الكبير ، قيل : وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها ، وعند محمد تجوز بكل حال. ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة وما ذكر من الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم لأنه ضرر شخص واحد فيقوم بدفعه واحد مثله ظاهرا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح.

ثم إنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وعبد بن حميد وابن جرير عن عمران ابن حصين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ويحتج لمحمد بما أخرجه مسلم أيضا عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة قال : خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمره علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن قال فلقيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغد في السوق فقال : يا سلمة هب لي المرأة يعني التي نفله أبو بكر إياها. فقلت : يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا ، ثم لقيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغد في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك» فقلت : هي لك يا رسول الله فو الله ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة ، ولا يفادى بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه

١٩٧

يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر ، وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علينا. وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة. قيل : استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال. وأما المن على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة ومالك وأحمد ، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع على ما ذكره ابن إسحاق بسنده. وأبو دواد من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلته بها على أبي العاص حين بنائه عليها فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لأصحابه : «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها» ففعلوا ذلك مغتبطين به ، ورواه الحاكم وصححه وزاد «وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ففعل» ومنّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ثمامة بن أثال ابن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه ، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام : «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى ـ يعني أسارى بدر ـ لتركتهم له» فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم ، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة ، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعا. واستدل أيضا بالآية التي تحت فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء ، والظاهر إن المراد بالمن الإطلاق مجانا ؛ وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر ، وبعض النفوس يجد طعم الآلاء أحلى من هذا المن. وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن ، وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضا قبل السورة.

والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في الدر المنثور ، وقال العلامة ابن الهمام : قد يقال إن ذلك ـ يعني ما في سورة براءة ـ في حق غير الأسارى بدليل جواز الاسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم ، وما ذكره في جواز الاسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره ، قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

ومن نسج داود موضونة

تساق إلى الحرب عيرا فعيرا

وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية ، ويجوز أن يكون في (الْحَرْبُ) استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلا ، وكلام الكشاف أميل إليه ، وقيل : هي أحمال المحارب أضيفت للحرب تجوزا في النسبة الإضافية وتغليبا لها على الكراع ، وإسناد الوضع للحرب مجاري أيضا وليس بذاك. وعد بعض الأماثل الكلام تمثيلا ، والمراد حتى تنقضي الحرب وقال : يجوز أن يكون إرادة ذلك من باب المجاز المتفرع على الكناية كما في قوله : فألقت عصاها واستقر بها النوى. فإنه كنى به عن انقضاء السفر والإقامة ، قيل : الأوزار جمع وز بمعنى إثم وهو هنا الشرك والمعاصي ، و «تضع» بمعنى تترك مجازا ، وإسناده

١٩٨

للحرب مجاز أو بتقدير مضاف ، والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ، وفيه أنه لا يستحسن إضافة الأوزار بمعنى الآثام إلى الحرب ، و (حَتَّى) عند الشافعي عليه الرحمة ومن قال نحو قوله : غاية للضرب ، والمعنى اضربوا أعناقهم حتى تنقضي الحرب ، وليس هذا بدلا من الأول ولا تأكيدا له بناء على ما قرروه من أن حتى الداخلة على إذا الشرطية ابتدائية أو غاية للشد أو للمن والفداء معا أو للمجموع من قوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) إلخ بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم ، وقيل : بنزول عيسى عليه‌السلام ، وروي ذلك عن سعيد بن جبير. والحسن ، وفي الحديث ما يؤيده أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن نفيل قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جاء رجل فقال : يا رسول الله إن الخيل قد سيبت ووضع السلاح وزعم أقوام أن لا قتال وإن قد وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبوا فالآن جاء القتال ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم يزيغ الله تعالى قلوب قوم ليرزقهم منهم وتقاتلون حتى تقوم الساعة ولا تزال الخيل معقودا في نواصيها الخير حتى تقوم الساعة ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج» وهي عند من يقول : لا منّ ولا فداء اليوم غاية للمن والفداء إن حمل على الحرب على حرب بدر بجعل تعريفه للعهد ، والمعنى المن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها ، وغاية للضرب والشد إن حملت على الجنس ، والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة ، ولا تجعل غاية للمن والفداء مع إرادة الجنس.

وفي زعم جوازه والتزام النسخ كلام فتأمل (ذلِكَ) أي الأمر ذلك أو افعلوا ذلك فهو في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أو في محل نصب مفعول لفعل كذلك ، والإشارة إلى ما دل عليه قوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) إلخ لا إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا لأن افعلوا لا يقع على جميع السالف وعلى الرفع ينفك النظم الجليل إن لم يحمل عليه لأن ما بعد كلام فيهم (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق أو موت جارف (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ولكن أمركم سبحانه بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فينالوا الثواب ويخلد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الجسيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم عزوجل ببعض انتقامه سبحانه فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه ؛ واللام متعلقة بالفعل المقدر الذي ذكرناه (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي استشهدوا.

وقرأ الجمهور «قاتلوا» أي جاهدوا ، والجحدري بخلاف عنه «قتلوا» بفتح القاف والتاء بلا ألف ، وزيد بن ثابت والحسن وأبو رجاء وعيسى والجحدري أيضا «قتّلوا» بالبناء للمفعول وشد التاء.

(فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) فلن يضيعها سبحانه ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «يضلّ» مبنيا للمفعول «أعمالهم» بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرئ «يضلّ» بفتح الياء من ضل «أعمالهم» بالرفع على الفاعلية. والآية قال قتادة : كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن أبي حاتم ذكر لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ اعل هبل ونادى المسلمون الله أعلى وأجل فنادى المشركون يوم بيوم بدر وان الحرب سجال لنا عزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء مرزوقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون» ومنه يعلم وجه قراءة «قتلوا» بصيغة التفعيل (سَيَهْدِيهِمْ) سيوصلهم إلى ثواب تلك الأعمال من النعيم المقيم والفضل العظيم ، وهذا كالبيان لقوله سبحانه : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أو سيثبت جلّ شأنه في الدنيا هدايتهم ، والمراد الوعد بأن يحفظهم سبحانه ويصونهم عما يورث الضلال وحبط الأعمال ، وهو كالتعليل لذلك ، ويجوز أن يكون كالبيان له أيضا.

١٩٩

(وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي شأنهم ، قال الطبرسي : المراد إصلاح ذلك في العقبى فلا يتكرر مع ما تقدم لأن المراد به إصلاح شأنهم في الدين والدنيا فلا تغفل (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه أو استئناف كما قال أبو البقاء ، والتعريف في الآخرة. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال : يهدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله تعالى لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا ، وفي الحديث «لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا» وذلك بإلهام منه عزوجل ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال : بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمل الشخص في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه الشخص حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه.

وورد في بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا إلى منزله فيها ، وقيل : إنه تعالى رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف ، وقيل : تعريفها تحديدها يقال : عرف الدار وأرفها أي حددها أي حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة ، وقيل : أي شرفها لهم ورفعها وعلاها على أن عرفها من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها ، وعن ابن عباس في رواية عطاء. وروي عن مؤرج أي طيبها لهم على أنه من العرف وهو الريح الطيبة هاهنا ، ومنه طعام معرف أي مطيب ، وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل ، وعن الجبائي أن التعريف في الدنيا وهو بذكر أوصافها ، والمراد أنه تعالى لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها :

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وعلى هذا المراد قيل :

اشتقاقه من قبل رؤيته كما

تهوى الجنان بطيّب الأخبار

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي دينه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا على أن الكلام على تقدير مضاف بل على أن نصرة الله فيه تجوز في النسبة فنصرته سبحانه نصرة رسوله ودينه إذ هو جل شأنه وعلا المعين الناصر وغيره سبحانه المعان المنصور (يَنْصُرْكُمْ) على أعدائكم ويفتح لكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في مواطن الحرب ومواقفها أو على محجة الإسلام ، والمراد يقويكم أو يوفقكم للدوام على الطاعة.

وقرأ المفضل عن عاصم «ويثبت» مخففا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) من تعس الرجل بفتح العين تعسا أي سقط على وجهه ، وضده انتعش أي قام من سقوطه. وقال شمر وابن شميل وأبو الهيثم وغيرهم : تعس بكسر العين ، ويقال : تعسا له ونكسا على أن الأول. كما قال ابن السكيت. بمعنى السقوط على الوجه والثاني بمعنى السقوط على الرأس ، وقال الحمصي في حواشيه على التصريح : تعس تعسا أي لا انتعش من عثرته ونكسا بضم النون وقد تفتح إما في لغة قليلة وإما اتباعا لتعسا ، والنكس بالضم عود المرض بعد النقه ، ويراد بذلك الدعاء ، وكثر في الدعاء على العاثر تعسا له ، وفي الدعاء له لعا له أي انتعاشا وإقامة ، وأنشدوا قول الأعشى يصف ناقة :

كلفت مجهولة نفسي وشايعني

همي عليها إذا ما آلها لمعا

بذات لوث عفرناة إذا عثرت

فالتعس أولى لها من أن أقول لعا

وقال ثعلب وابن السكيت أيضا : التعس الهلاك ، ومنه قول مجمع بن هلال :

تقول وقد أفردتها من حليلها

تعست كما أتعستني يا مجمع

٢٠٠