روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي «تؤمنون» بالتاء الفوقانية وهو موافق لقوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ) بحسب الظاهر والصورة وإلا فالمراد هنا الكفار بخلاف ذلك.

وقرأ طلحة «توقنون» بالتاء الفوقانية والقاف من الإيقان (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) كثير الإفك أي الكذب (أَثِيمٍ) كثير الإثم ، والآية نزلت في أبي جهل ، وقيل : في النضر بن الحارث وكان يشتري حديث الأعاجم ويشغل به الناس عن استماع القرآن لكنها عامة كما هو مقتضى كل ويدخل من نزلت فيه دخولا أوليا ، و (أَثِيمٍ) صفة (أَفَّاكٍ) وقوله تعالى : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) صفة أخرى له ، وقيل استئناف ، وقيل حال من الضمير في (أَثِيمٍ) وقوله سبحانه (تُتْلى عَلَيْهِ) حال من (آياتِ اللهِ) ولم يجوز جعله مفعولا ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع كسمعت زيدا يقرأ ، والظاهر أن المراد بتتلى الاستمرار لأنه المناسب للاستبعاد المدلول عليه بقوله عزوجل (ثُمَّ يُصِرُّ) فإن ثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات وهي للتراخي الرتبي ويمكن إبقاؤه على حقيقته إلا أن الأول أبلغ وأنسب بالمقام ، ونظير ذلك في الاستبعاد قول جعفر بن علية :

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثم يزورها

والإصرار على الشيء ملازمته وعدم الانفكاك عنه من الصر وهو الشد ومنه صرة الدراهم ، ويقال : صر الحمار أذنيه ضمهما صرا وأصر الحمار ولا يقال أذنيه على ما في الصحاح وكأن معناه حينئذ صار صارّا أذنيه.

والمراد هنا ثم يقيم على كفره وضلاله (مُسْتَكْبِراً) عن الإيمان بالآيات وهو حال من ضمير (يُصِرُّ) وقوله سبحانه (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) حال بعد حال أو حال من ضمير (مُسْتَكْبِراً) وجوز الاستئناف ، و (كَأَنْ) مخففة من كأن بحذف إحدى النونين واسمها ضمير الشأن ، وقيل : لا حاجة إلى تقديره كما في أن المفتوحة ، والمعنى يصر مستكبرا مثل غير السامع لها (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) على إصراره ذلك ، والبشارة في الأصل الخبر المغير للبشرة خيرا كان أو شرا ، وخصها العرف بالخبر السار فإن أريد المعنى العرفي فهو استعارة تهكمية أو هو من قبيل :

تحية بينهم ضرب وجيع

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها.

(اتَّخَذَها هُزُواً) بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، وجوز أن يكون المعنى وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله تعالى هزوا وذلك نحو اعتراض ابن الزبعري في قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] ومغالطته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله على ما بعض الروايات : خصمتك فضمير (اتَّخَذَها) على الوجهين للآيات ، والفرق بينهما أن (شَيْئاً) على الثاني فيه تخصيص لقرينة (اتَّخَذَها هُزُواً) إذ لا يحتمل إلا ما يحسن أن يخيل فيه ذلك ثم يجعله دستورا للباقي فيقول : الكل من هذا القبيل ، وفرق بين الوجهين أيضا بأن في الأول الاتخاذ قبل التأمل وفي الثاني بعده وبعد تمييز آية عن أخرى ، وقيل : الاستهزاء بما علمه من الآيات إلا أنه أرجع الضمير إلى الآيات لأن الاستهزاء بواحدة منها استهزاء بكلها لما بينها من التماثل ، وجوز أن يرجع الضمير إلى شيء والتأنيث لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية :

نفسي بشيء من الدنيا معلقة

الله والقائم المهدي يكفيها

يعني الشيء وأراد به عتبة جارية للمهدي من حظاياه وكان أبو العتاهية يهواها فقال ما قال. وقرأ قتادة ومطر الوراق «علّم» بضم العين وشد اللام مبنيا للمفعول (أُولئِكَ) إشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من

١٤١

القبائح ، والجمع باعتبار الشمول للكل كما في قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم : ٣٢] كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد ، وأداة البعد للإشارة إلى بعد منزلتهم في الشر.

(لَهُمْ) بسبب جناياتهم المذكورة (عَذابٌ مُهِينٌ) وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله عزوجل (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي من قدامهم لأنهم متوجهون إليها أو من خلفهم لأنهم معرضون عن الالتفات إليها والاشتغال عما ينجيهم منها مقبلون على الدنيا والانهماك في شهواتها ، والوراء تستعمل في هذين المعنيين لأنها اسم للجهة التي يواريها الشخص فتعم الخلف والقدام ، وقيل في توجيه الخلفية : إن جهنم لما كانت تتحقق لهم بعد الأجل جعلت كأنها خلفهم (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ) ولا يدفع (ما كَسَبُوا) أي الذي كسبوه من الأموال والأولاد (شَيْئاً) من عذاب الله تعالى أو شيئا من الإغناء على أن (شَيْئاً) مفعول به أو مفعول مطلق (وَلا مَا اتَّخَذُوا) أي الذي اتخذوه (مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي الأصنام.

وجوز أن تفسر (ما) بما تعمها وسائر المعبودات الباطلة ، والأول أظهر ، وجوز في (ما) في الموضعين أن تكون مصدرية ، وتوسيط حرفي النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم ، وفيه تهكم (وَلَهُمْ) فيما وراءهم من جهنم (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره (هذا) أي القرآن كما يدل عليه ما بعد وكذا ما قبل ك (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا) و (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها هُدىً) في غاية الكمال من الهداية كأنه نفسها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) يعني القرآن أيضا على أن الإضافة للعهد ، وكان الظاهر الإضمار لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظيع حالهم ؛ وجوز أن يراد بالآيات ما يشمله وغيره.

(لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) من أشد العذاب (أَلِيمٌ) بالرفع صفة (عَذابٌ) أخر للفاصلة.

وقرأ غير واحد من السبعة أليم بالجر على أنه صفة (رِجْزٍ) ، وجعله صفة (عَذابٌ) أيضا والجر للمجاورة مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقيل : على قراءة الرفع إن الرجز بمعنى الرجس الذي هو النجاسة ، والمعنى لهم عذاب أليم من تجرع رجس أو شرب رجس والمراد به الصديد الذي يتجرعه الكافر ولا يكاد يسيغه ولا داعي لذلك كما لا يخفى ، وتنوين (عَذابٌ) في المواقع الثلاثة للتفخيم ، ورفعه إما على الابتداء وإما على الفاعلية للظرف (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) بتسخيره تعالى إياه وتسهيل استعمالها فيما يراد بها ، وقيل : بتكوينه تعالى أو بإذنه عزوجل ، وسياق الامتنان يقتضي أن يكون المعنى لتجري الفلك فيه وأنتم راكبوها.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة والغوص والصيد وغيرها (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك ، وهذا أعني (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ) إلخ ذكر تتميما للتقريع ولهذا رتب عليه الأغراض العاجلة فإنه مما يستوجب الشكر غالبا للكافر أيضا فكأنه قيل : تلك الآيات أولى بالشكر ولهذا عقب بما يعم القسمين أعني قوله سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية ، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان والإيقان والشكر (جَمِيعاً) حال من (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أو توكيد له وقوله تعالى : (مِنْهُ) حال من ذلك أيضا ، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعا كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه.

١٤٢

وجوز فيه أوجه أخر. الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل (جَمِيعاً) حينئذ حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعا منه تعالى وقيل : جميعا على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعا ، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيدا لقوله تعالى : (سَخَّرَ) أي إنه عزوجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك ، الثاني أن يجعل (ما فِي السَّماواتِ) مبتدأ ويكون هو خبره و (جَمِيعاً) حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة ويكون (وَسَخَّرَ لَكُمْ) تأكيدا للأول أي سخر وسخر ، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيمانا بكمال التسخير والمنة عليه ، وجملة (ما فِي السَّماواتِ) إلخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة.

واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود ، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكوير : ٣ ـ ٤] فهو مخالف لما ذكره ابن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم ، وقال الرضي : يكون بالفاء أيضا وهو هاهنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وإن لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقا لشدة الاتصال ، واعترض أيضا بأن فيه حذف مفعول «سخر» من غير قرينة وهذا كما ترى ، الثالث أن يكون (ما فِي الْأَرْضِ) مبتدأ و (مِنْهُ) خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق.

وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية ، ولعله إن صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال فيها كل شيء هو من الله تعالى.

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال : فمم خلق هؤلاء؟ قال : لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فأتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال : فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء عزوجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلا لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه ا ه ، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم ، وقال الشيخ إبراهيم الكوراني من الصوفية : إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمور عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جلّ وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض منه تعالى بإيجاده جلّ شأنه ، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور ، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦ ، الزمر : ٦٢] لكن

١٤٣

السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله : ما كان ليأتي بهذا إلخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى: (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من ابن عمرو وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه ا ه ، وعليه عامة أهل الوحدة «وأجاب الأولون» بأن مراد ابن عباس قطع التسلسل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه ابن الزبير. وابن عمرو ، ولا يعكر على هذا قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) [الطور : ٣٥] لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك ، وقد أورد الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية ردا على بعض النصارى في زعمه أن قوله تعالى في عيسى عليه‌السلام : (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] يدل على ما يزعمه فيه عليه‌السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون.

وحكى أبو الفتح. وصاحب اللوامح عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والجحدري. وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرءوا «منّة» بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم ، وحكاها عن ابن عباس أيضا ابن خالويه. لكن قال أبو حاتم : إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس : إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها.

وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة ، وعنه أيضا فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي انعامه وهو فاعل (سَخَّرَ) على الإسناد المجازي كما تقول : كرم الملك العشي أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى ، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى ، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثا حقيقيا مع وجود الفاصل ، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ) عظيمة الشأن كثيرة العدد (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جلّ شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) حذف المقول لدلالة (يَغْفِرُوا) عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه ونقمته فيهم فالرجاء مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم : أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن مجاهد أو لا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها ، والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها.

وقال بعضهم : لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش ، وحكى النحاس. والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه مشرك (١) بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر في كونها مكية كأخواتها. وإرادة فهم أن يبطش به بعد الهجرة لأن المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من المشركين والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل ، ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به لا يبالي بما يترتب عليه.

__________________

(١) قيل هو من غفار ا ه منه.

١٤٤

وهذا أولى في الجواب من أن يقال : إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه ، نعم قيل: إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبيّ غلامه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له : ما حسبك؟ قال : غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال ابن أبيّ : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمّن كلبك يأكلك فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية ؛ وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية ، وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال : إن فنحاصا اليهودي قال : لما أنزل الله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥ ، الحديد : ١١] احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبه حتى رده ونزلت الآية (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تعليل للأمر بالمغفرة ، وجوز أن يكون تعليلا للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه ، والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتنكير للتعظيم ، ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال في نحو يا ابن القوم.

وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو الغافر هنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوما أيما قوم وقوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم ، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية ، و (ما) في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية ، والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة يجزي ، وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيئاتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير : وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات ، وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى ، وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع ، وتعقب بأنه أكثر تكلفا وأشد تمحلا ، والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال : كنا بين يدي عمر رضي الله تعالى عنه فقرأ قارئ هذه الآية فقال : ليجزي عمر بما صنع ، وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن والأعمش وأبو خليد وابن عامر وحمزة والكسائي «لنجزي» بنون العظمة ، وقرئ «ليجزي» بالياء والبناء للمفعول «قوم» بالرفع على أنه نائب الفاعل ، وقرأ شيبة ، وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا أنهما نصبا «قوما» وروي ذلك عن عاصم ، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول : ضرب بسوط زيدا فبما كسبوا نائب الفاعل هاهنا ولا يجيز ذلك الجمهور ، وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزى هو أي الجزاء ، ورد بأنه لا يقام مقامه عند وجود المفعول به أيضا على الصحيح ، وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله تعالى (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) [البينة : ٨] وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه : (وَلِأَبَوَيْهِ) [النساء : ١١] والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك ، وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو على أن «قوما» منصوب بأعني أو جزى مضمرا لدلالة المجهول على أن ثم جازيا واختاره أبو حيان و (لِيَجْزِيَ) حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا

١٤٥

اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)(٣٢)

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ) مالك أموركم (تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم حسبما تقتضيه الحكمة خيرا على الخير وشرا على الشر ، والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) وهو التوراة على أن التعريف للعهد ، وجوز جعله للجنس ليشمل الزبور والإنجيل ولا يضر في ذلك كون الزبور أدعية ومناجاة والإنجيل أحكامه قليلة جدا ومعظم أحكام عيسى عليه‌السلام من التوراة لأن إيتاء الكتاب مطلقا منة (وَالْحُكْمَ) القضاء وفصل الأمور بين الناس لأن الملك كان فيهم واختاره أبو حيان ، أو الفقه في الدين ويقال : لم يتسع فقه الأحكام على نبي ما اتسع على لسان موسى عليه‌السلام ، أو الحكم النظرية الأصلية والعملية الفرعية (وَالنُّبُوَّةَ) حيث كثر فيهم الأنبياء عليهم‌السلام ما لم يكثر في غيرهم (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) المستلذات الحلال وبذلك تتم النعمة وذلك كالمن والسلوى (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر وإظلال الغمام ونظائرهما فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض الوجوه لا من كلها ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم من وجه آخر ومن جهة المرتبة والثواب ، وقيل : المراد بالعالمين عالمو زمانهم.

١٤٦

(آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) دلائل ظاهرة في أمر الدين فمن بمعنى في والبينات الدلائل ويندرج فيها معجزات موسى عليه‌السلام وبعضهم فسرها بها ، وعن ابن عباس آيات من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلامات مبينة لصدقه عليه الصلاة والسلام ككونه يهاجر من مكة إلى يثرب ويكون أنصاره أهلها إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم (فَمَا اخْتَلَفُوا) في ذلك الأمر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بحقيقة الحال فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا لرسوخه (بَغْياً بَيْنَهُمْ) عداوة وحسدا لا شكا فيه (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالمؤاخذة والجزاء (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) أي سنة وطريقة من شرعه إذا سنه ليسلك ، وفي البحر الشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد منه الناس في الأنهار ونحوها فشريعة الدين من ذلك من حيث يرد الناس منها أمر الله تعالى ورحمته والقرب منه عزوجل ، وقال الراغب : الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع وشرعة وشريعة واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ثم قال : قال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة والصدق روي وتطهر ، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء : كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب ، وبالتطهر ما قال عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] والظاهر هنا المعنى اللغوي ، والتنوين للتعظيم أي شريعة عظيمة الشأن (مِنَ الْأَمْرِ) أي أمر الدين ، وجوز أبو حيان كونه مصدر أمر ، والمراد من الأمر والنهي وهو كما ترى (فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي آراء الجهال التابعة للشهوات ، والمراد بهم ما يعم كل ضال ، وقيل : وقيل : هم جهال قريظة. والنضير ، وقيل : رؤساء قريش كانوا يقولون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع إلى دين آبائك.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) من الأشياء أو شيئا من الإغناء أن اتبعتهم والجملة مستأنفة مبينة لعلة النهي (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم.

(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من توليه سبحانه خاصة والإعراض عما سواه عزوجل بالكلية (هذا) أي القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب ، وقيل : الإشارة إلى اتباع الشريعة والكلام من باب التشبيه البليغ ، وجمع الخبر على الوجهين باعتبار تعدد ما تضمنه المبتدأ واتباع مصدر مضاف فيعم ويخبر عنه بمتعدد أيضا ، وقرئ «هذه» أي الآيات (وَهُدىً) جليل من ورطة الضلالة (وَرَحْمَةٌ) عظيمة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) من شأنهم الإيقان بالأمور (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان حال الظالمين والمتقين ، و (أَمْ) منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني ، والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا ينبغي لظهور خلافه ، والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي ، وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم ، وقال الراغب : الاجتراح اكتساب الإثم وأصله من الجراحة كما أن الاقتراف من قرف القرحة ، والظاهر تفسيره هاهنا بالاكتساب لمكان (السَّيِّئاتِ) والمراد بها على ما في البحر سيئات الكفر ، وقوله تعالى : (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) ساد مسد مفعولي الحسبان ، والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله الأول ، وقوله سبحانه : (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مفعوله الثاني ، وقوله عزوجل : (سَواءً) بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل ، وقوله تعالى : (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) فاعل سواء أجري مجرى مستو كما قالوا : مررت برجل سواء هو والعدم ، وضمير الجمع للمجترحين ، والمعنى على إنكار حسبان جعل محيا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين ، ومصب الإنكار استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في المحيا والممات وأولئك تتضاد حالاتهم فإنهم مرحومون حياة لا

١٤٧

موتا ؛ وجوز أن يكون (سَواءً) حالا من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها.

وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك ، نعم يجوز أن يكون (كَالَّذِينَ) جارا ومجرورا في موضع المفعول الثاني و (سَواءً) حالا من الضمير المستتر فيه ، وقيل : يجوز أيضا كونه حالا من ضمير نجعلهم وكذا يجوز كونه المفعول الثاني ، وكون الكاف أو الجار والمجرور حالا من هذا الضمير ، وما ذكر أولا أظهر وأولى ، وجوز كون ضمير الجمع في (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في (كَالَّذِينَ) لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول الثاني وضمير الأول ، والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا ظاهرا في الرزق والصحة في الحياة ، وجوز أن يكون المعنى على إنكار حسبان جعل الحياتين مستويتين لأن المؤمنين على الطاعة وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشرى والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان ، وقيل : به على تقدير كون الضمير للمجترحين أيضا.

ولم يجوز المدقق الإبدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذ المثل هو المشبه و (سَواءً) جار على المشبه والمشبه به.

وقرأ جمهور القراء (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) برفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للابتداء بها والضمير للمجترحين ، والجملة قيل : بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو بدل بعض ، وأيا ما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك ، وأورد عليه شواهد ، قال أبو حيان : لا يتعين فيها البدل ، وقال محمد بن عبد الله الاشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه البسيط في النحو : لا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة بدلا من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف والتأكيد اللفظي.

وظاهره أنه لا يجوز الإبدال هاهنا ، وفي البحر يظهر لي أنه لا يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ولا صيرت زيدا غلامه منطلق لأن في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولا ثانيا انتقال مما ذكرنا وفيه بحث لا يخفى ، والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلا من الكاف وهو إمام في العربية ، لكن أفاد صاحب الكشف أنه أراد أنه بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذاك لفظا قال : لأنه مفرد دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن يقدر رجالا سواء محياهم ومماتهم مثلا ، والمعنى على البدلية كما سمعت في قراءة النصب ، وجوز كون الجملة مفعولا ثانيا و (كَالَّذِينَ) حال من ضمير (نَجْعَلَهُمْ) ولا يخفى عليك ما علي وما له ، وإذا كان الضمير للمؤمنين فالجملة قيل : حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد ، وتعقب بأن فيه اكتفاء الاسمية الحالية بالضمير وهو غير فصيح على ما قيل : وقيل : استئناف يبين المقتضي للإنكار على حسبان التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون ، وجوز أن تكون بيانا لوجه الشبه المجمل ، وإذا كان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكار والتساوي حينئذ بين حال المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة تعليلا للإنكار في المعنى دالا على عدم المماثلة لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة وأولئك متساوو المحيا

١٤٨

والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك موتا ، وأما الإبدال فقد علم حاله فتأمل.

وقرأ الأعمش «سواء» بالنصب «محياهم ومماتهم» به أيضا ، وخرج الأول على ما سمعت ونصب محياهم ومماتهم على الظرفية لأنهما اسما زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما (سَواءً) أو (نَجْعَلَهُمْ) ، هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن البحر وهو ظاهر ما روي عن الكلبي من أن عتبة. وشيبة. والوليد بن عتبة قالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه. وحمزة رضي الله تعالى عنه. والمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا فنزلت الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) إلخ.

وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدنى تدبر يستنبط منها تباين حاليّ المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ؛ ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى أنها تسمى مبكاة العابدين لذلك ، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبي الضحى قال : قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام.

وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلي فمر بهذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) إلخ فلم يزل يرددها حتى أصبح ، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها : ليت شعري من أي الفريقين أنت.

وقال ابن عطية : إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان ، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح وعمل الصالحات ويكون الإيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها.

ورأيت كثيرا من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال : نحن يوم القيامة أفضل حالا من كثير من العابدين وهذا منهم والعياذ بالله تعالى ضلال بعيد وغرور ما عليه مزيد (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود.

ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن (ساءَ) بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا حكموا به ذلك (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) كأنه دليل على إنكار حسبانهم السابق أو دليل على تساوي محيا كل فريق ومماته وبيان لحكمته على تقدير كون قوله تعالى : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) استئنافا وذلك من حيث إن خلق العالم بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصاف المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات حتما (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) عطف على (بِالْحَقِ) لأنه في معنى العلة سواء كانت الباء للسببية الغائية أو الملابسة ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن المعنى خلقها ملتبسة ومقرونة بالحكمة والصواب دون العبث والباطل وحاصله خلقها لأجل ذلك أو عطف على علة محذوفة مثل ليدل سبحانه بها على قدرته أو ليعدل ، وما موصولة أو مصدرية أي ليجزى كل نفس بالذي كسبته أو بكسبها (وَهُمْ) أي النفوس المدلول عليها بكل نفس (لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وتضعيف عذاب ، والجملة في موضع الحال ، وتسمية ذلك ظلما مع أنه ليس كذلك لأنه منه سبحانه تصرف في ملكه والظلم صرف في ملك الغير بغير إذنه لأنه لو فعله غيره عزوجل كان ظلما فالكلام على الاستعارة التمثيلية أو أنه لما كان مخالفا لوعده سبحانه الحق سماه تعالى ظلما.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على التشبيه البليغ أو الاستعارة ، والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك

١٤٩

مما يقضي منه العجب ، وأبو حيان جعل أرأيت بمعنى أخبرني وقال : المفعول الأول من (اتَّخَذَ) والثاني محذوف يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل «فمن يهديه» والآية نزلت على ما روي عن مقاتل في الحارث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئا إلا ركبه ، وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها ، وعن ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه.

وقال وهب : إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته ، وقال سهل التستري : هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك ، وفي الحديث «العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى».

وقال أبو عمران موسى بن عمران الاشبيلي الزاهد :

فخالف هواها واعصها إن من يطع

هوى نفسه ينزع به شر منزع

ومن يطع النفس اللجوجة ترده

وترم به في مصرع أي مصرع

وقد ذم ذلك جاهلية أيضا ، ومنه قول عنترة :

إني امرؤ سمح الخليقة ماجد

لا أتبع النفس اللجوج هواها

ولعل الأمر غني عن تكثير النقل.

وقرأ الأعرج وأبو جعفر «إلهة» بتاء التأنيث بدل هاء الضمير ، وعن الأعرج أنه قرأ «آلهة» بصيغة الجمع.

قال ابن خالويه : كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه مائلا إليه ، فالظاهر أن آلهة بمعناها من غير تجوز أو تشبيه والهوى بمعنى المهوى مثله في قوله : هواي مع الركب اليمانين مصعد.

(وَأَضَلَّهُ اللهُ) أي خلقه ضالا أو خلق فيه الضلال أو خذله وصرفه عن اللطف على ما قيل (عَلى عِلْمٍ) حال من الفاعل أي أضله الله تعالى عالما سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه.

ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالما بطريق الهدى فهو كقوله تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات.

(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) مانعة عن الاستبصار والاعتبار والكلام على التمثيل ، وقرأ عبد الله. والأعمش (غِشاوَةً) بفتح الغين وهي لغة ربيعة ، والحسن وعكرمة وعبد الله أيضا بضمها وهي لغة عكلية ، وأبو حنيفة وحمزة والكسائي وطلحة ومسعود بن صالح والأعمش أيضا «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين ، وابن مصرف. والأعمش أيضا كذلك إلا أنهما كسرا الغين (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي من بعد إضلاله تعالى إياه ، وقيل : المعنى فمن يهديه غير الله سبحانه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي ألا تلاحظون فلا تذكرون ، وقرأ الجحدري «تذكرون» بالتخفيف ، والأعمش «تتذكرون» بتاءين على الأصل (وَقالُوا) بيان لأحكام إضلالهم والختم على سمعهم وقلوبهم وجعل غشاوة على أبصارهم فالضمير لمن باعتبار معناه أو للكفرة (ما هِيَي) أي ما الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) التي نحن فيها ، ويجوز أن يكون الضمير للحال والحياة الدنيا من جملة الأحوال فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه أيضا لاستثناء حال الحياة الدنيا من أعم الأحوال ولا حاجة إلى تقدير حال مضافا بعد أداة الاستثناء أي ما الحال إلا حال الحياة الدنيا (نَمُوتُ وَنَحْيا) حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير إلا أن تأخير نحيي الله في النظم الجليل للفاصلة أي تموت طائفة وتحيا طائفة ولا حشر أصلا ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وليس بذاك ، وقيل : أرادوا بالموت عدم الحياة السابق على نفخ الروح فيهم أي نكون نطفا وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك ، وقيل : أرادوا بالحياة بقاء النسل والذرية

١٥٠

مجازا كأنهم قالوا : نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا وذرارينا ، وقيل : أرادوا يموت بعضنا ويحيا بعض على أن التجوز في الإسناد ، وجوز أن يريدوا بالحياة على سبيل المجاز إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من عبدة الأصنام ولا يخفى بعد ذلك ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ونحيا» بضم النون (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي طول الزمان فالدهر أخص من الزمان وهو الذي ارتضاه السعد ، ولهم في ذلك كلام طويل ، وقال الراغب : الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة ، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة ، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة ودهر فلان مدة حياته ، ويقال : دهر فلانا نائبة دهرا أي نزلت به حكاه الخليل فالدهر هاهنا مصدر.

وذكر بعض الأجلة أن الدهر بالمعنى السابق منقول من المصدر وأنه يقال : دهره دهرا أي غلبه وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عزوجل وكانوا يسندون الحوادث مطلقا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى ، وإشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر وهؤلاء معترفون بوجود الله تعالى فهم غير الدهرية فإنهم مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجوده سبحانه وتعالى «عما يقولون علوا كبيرا» والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير ، ولا يبعد أن يكون الزمان عندهم مقدار حركة الفلك كما ذهب إليه معظم الفلاسفة. وقد جاء النهي عن سب الدهر. أخرج مسلم «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر» وأبو داود. والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم قال الله عزوجل : «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر أنا الدهر أقلب ليله ونهاره» والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم أيضا يقول الله عزوجل : «استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وا دهراه وأنا الدهر» والبيهقي «لا تسبوا الدهر قال الله عزوجل : أنا الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك» ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله عزوجل.

وعد بعضهم سبه كبيرة لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وهو كفر ، وما أدى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كفرا(١).

وكلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروه لا حرام فضلا عن كونه كبيرة ، والذي ينجه في ذلك تفصيل وهو أن من سبه فإن أراد به الزمن فلا كلام في الكراهة ، أو الله عزوجل فلا كلام في الكفر ، ومثله إذا أراد المؤثر الحقيقي فإنه ليس إلا الله سبحانه ؛ وإن أطلق فهذا محل التردد لاحتمال الكفر وغيره وظاهر كلامهم هنا أيضا الكراهة لأن المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى كما قال بعض الأجلة إنما هو بطريق التجوز.

ومن الناس من قال : إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرا فيما نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب ، وفيه نظر لأن اعتقاد ذلك كفر ولي الكلام فيه ، وأنكر بعضهم كون ما في حديث أبي داود. والحاكم «فإني أنا الدهر» بضم الراء وقال : لو كان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان يرويه «فإني أنا الدهر» بفتح الراء ظرفا لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طول الزمان وممره ، وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو الدهر تبطل ما زعمه ، ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء. ولا يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز ، وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم غير الأول وأنه مصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أي

__________________

(١) قوله فأدنى مراتبه أن يكون كفرا كذا بالأصل ولعل الأولى أن يكون كبيرة.

١٥١

المصرّف المدبر المفيض لما يحدث ، وفيه بعد.

وقرأ عبد الله «إلّا دهر» وتأويله إلا دهر يمر (وَما لَهُمْ بِذلِكَ) أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر (مِنْ عِلْمٍ) مستند إلى عقل أو نقل (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة ، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الناطقة بالحق الذي من جملته البعث (بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على ما نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى :

(إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في أنا نبعث بعد الموت أي ما كان متمسكا لهم شيء من الأشياء إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة ، وتسميته حجة لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو أنه من قبيل : تحية بينهم ضرب وجيع. أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة ، والمراد نفي أن يكون لهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا امتناعه بتعد لتمتنع الإعادة إذا قامت القيامة ، والخطاب في (ائْتُوا) و (كُنْتُمْ) للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به ، وجوز أن يكون له عليه الصلاة والسلام وللأنبياء عليهم‌السلام الجائين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة.

وقال ابن عطية : (ائْتُوا) و (كُنْتُمْ) من حيث المخاطبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه الصلاة والسلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه‌السلام ، وهو كما ترى.

وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد وعاصم فيما روى هارون وحسين عن أبي بكر عنه «حجّتهم» بالرفع على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول الباطل ، وجواب (إِذا) ما كان إلخ ، ولم تقترن بالفاء وإن كانت لازمة في المنفي بما إذا وقعت جواب الشرط لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرطية ، وهو سر قول أبي حيان : إن إذا خالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيا بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد معها من الفاء نحو إن تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى الحجج الباطلة خلافا لابن هشام. واستدل بوقوع ما ذكر جوابا على أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل بالفرق ، ولعل من قال بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع في غيره ، ثم إن المعنى على الاستقبال لمكان (إِذا) أي ما تكون حجتهم إلا أن يقولوا ذلك.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) ابتداء (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي فيه وجوز كون الفعل مضمنا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في جمعكم فإن من قدر على البدء وقدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها ، وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافيا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استدراك من قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) وهو من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بيان للاختصاص المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما بالله عزّ

١٥٢

وجلّ إثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) قال الزمخشري : العامل في (يَوْمَ تَقُومُ) يخسر ويومئذ بدل من يوم تقول وحكاه ابن عطية عن جماعة ، وتقديم الظرف على الفعل للحصر لأن كل خسران عند الخسران في ذلك اليوم كلا خسران ، وفيه أيضا رعاية الفواصل على ما قيل ، وتعقب حديث الإبدال بأن التنوين في (يَوْمَئِذٍ) عوض عن الجملة المضاف إليها ، والظاهر أنها تقدر بقرينة ما قبل (تَقُومُ السَّاعَةُ) فيقال ويوم تقوم الساعة يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فيكون تأكيدا لا بدلا إذ لا وجه له. ولذا قيل : إنه بالتأكيد أشبه ، وقول أبي حيان : إن كان بدلا توكيديا وهو قليل جاز وإلا فلا لا يسمن ولا يغني ؛ وتكلف بعضهم فزعم أن اليوم الثاني بمعنى الوقت الذي هو جزء من يوم قيام الساعة فهو بدل بعض معه عائد مقدر ولما كان فيه ظهور خسرانهم كان هو المقصود بالنسبة ، وقالت فرقة : العامل في (يَوْمَ تَقُومُ) ما يدل عليه الملك قالوا : وذلك أن يوم القيامة أمر ثالث ليس بالسماء ولا بالأرض لتبدلهما فكأنه قيل. ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم الساعة ، و (يَوْمَئِذٍ) منصوب بيخسر والجملة استئناف وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض ، وقيل : يجوز أن يكون عطفا على ظرف معمول لملك المذكور كأنه قيل : لله ملك السموات والأرض اليوم ويوم تقوم الساعة وهو كما ترى ، و (الْمُبْطِلُونَ) الداخلون في الباطل ، ولعل المراد به أعظم أنواعه وهو الكفر (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ) من الأمم المجموعة (جاثِيَةً) باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر لما يكره ، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة ، وعن قتادة جماعات من الجثوة مثلثة الجيم وهي الجماعة تجتمع على جثى أي تراب مجتمع ، وعن مؤرج السدوسي جاثية خاضعة بلغة قريش ، والخطاب في (تَرى) لمن يصح منه الرؤية أو لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام وهي بصرية ، و (جاثِيَةً) حال وجوز أن تكون صفة ولو كانت علمية كانت مفعولا ثانيا ، وقرئ «جاذية» بالذال والجذو أشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه ، وجوز أن يكون الجاذي بمعنى الجاثي أبدلت ثاؤه ذالا فإن الثاء والذال متقارضان كما قيل شحاث وشحاذ (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب ، وأفرد على إرادة الجنس وإلا فلكل واحد من كل أمة صحيفة فيها أعماله ، وقيل : المراد كتاب نبيها تدعى إليه لينظر هل عملت به أو لا وحكي ذلك عن يحيى بن سلام إلا أنه حمل كل أمة على كل أمة كافرة والظالم العموم ، وقيل : المراد بذلك اللوح المحفوظ أي تدعى إلى ما سبق لها فيه ، وقرأ يعقوب «كلّ» بالنصب وخرج على أنه بدل من كل الأول ، وجملة (تُدْعى) صفة ، وإبدال الأمة المدعوة إلى كتابها من الأمة الجاثية حسن وجاء ذلك من الوصف ، ويقال مثل ذلك فيما إذا كانت الجملة حالا ، وإذا كانت الرؤية علمية وجملة (تُدْعى) مفعولا ثانيا فالظاهر أنه تأكيد ، وجعله تأكيدا مع كون الجملة صفة فيه تخلل التأكيد بين الوصفين وهو كما في الكشف غير مستحسن (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) مقول قول مقدر وهو حال أو خبر بعد خبر.

وفي الكلام مضاف مقدر أي جزاء ما كنتم إلخ أو هو من المجاز ، وقوله تعالى : (هذا كِتابُنا) إلى آخره من تمام ما يقال حينئذ ، والإشارة إلى الكتاب الذي تدعى إليه الأمة المقول لها ذلك ، وهو إذا كان صحيفة الأعمال فإضافته إلى ضميره جلّ شأنه لأدنى ملابسة على التجوز في النسبة الإضافية فإنه تعالى الذي أمر الكتبة أن يكتبوا فيه أعمالهم ، وإن كان الكتاب المنزل على نبي تلك الأمة أو اللوح المحفوظ فأمر الإضافة ظاهر ، وضمير العظمة على سائر الأوجه لتفخيم شأن الكتاب ، وجوز أن يكون الضمير للكتبة والإضافة فيه حقيقية قيل : ويأباه (نَسْتَنْسِخُ) إلا أن يجعل بمعنى ننسخ ونكتب وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه ، والأظهر عندي حمل الكتاب في الموضعين على صحيفة الأعمال

١٥٣

واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبر ، وقوله سبحانه (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ) أي يشهد عليكم (بِالْحَقِ) من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال أو مستأنف ، و (بِالْحَقِ) حال من فاعل (يَنْطِقُ) وقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) إلى آخره تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي إنا كنا فيما قبل نستنسخ الملائكة أي نجعلها تنسخ وتكتب (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة ، وحقيقة النسخ كتابة من أصل ينظر فيه فكان أفعال العباد هي الأصل على ما في البحر ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال : اكتب قال : ما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ورزق مقسوم حلال أو حرام ثم ألزم كل شيء من ذلك بيانه دخوله في الدنيا متى ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزّانا فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فني الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فتقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فترجع فيجدونه قد مات ثم قال ابن عباس ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الآية فذكر نحو ما سمعت ثم قال : هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب ، وكون الاستنساخ من اللوح قد رواه جماعة عنه ، وما ذكرناه يصحح أن يكون هذا القول من الملائكة بدون تأويل (نَسْتَنْسِخُ) بننسخ كما لا يخفى ، وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) إلى آخره تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى : (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أو يجزون من الوعد والوعيد ، والمراد بالرحمة الجنة مجازا والظرفية على ظاهرها ، وقيل : المراد بالرحمة ما يشمل الجنة وغيرها والأول أظهر (ذلِكَ) الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى : (هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي فيقال لهم بطريق التقريع والتوبيخ : ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فجواب أما القول المقدر ، وحذف اكتفاء بالمقصود وهو المقول وحذفه كثير مقيس حتى قيل هو البحر حدث عنه ، وحذف المعطوف عليه لقرينة الفاء العاطفة وأن تلاوة الآيات تستلزم إتيان الرسل معنى ، وهذا على ما ذهب إليه الزمخشري والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والفاء على نية التقدير ، والتقدير فيقال لهم : ألم تكن إلخ فليس هناك سوى حذف القول ، وفي الكشف لو حمل على أن المحذوف فيوبخون لدلالة ما بعده عليه ، وفائدة هذا الأسلوب مع أن الأصل فيدخلهم في عذابه الدلالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون بعد في الموقف معذبون بالتوبيخ لكان وجها (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بها (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) قوما عادتهم الإجرام (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) أي وما وعده سبحانه من الأمور الآتية أو وعده تعالى بذلك (حَقٌ) أي كائن هو أو متعلقه لا محالة ففي الكلام تجوز إما في الطرف أو في النسبة.

وقرأ الأعرج وعمرو بن قائد «وإذا قيل أنّ» بفتح الهمزة على لغة سليم (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) برفع «الساعة» في قراءة الجمهور على العطف على محل إن واسمها على ما ذهب إليه أبو علي وتبعه الزمخشري ، ومن زعم أن لاسم إن موضعا جوز العطف عليه هنا ، وزعم أبو حيان أن الصحيح أنه لا يجوز كلا الوجهين وعليه فجملة (السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) عطف على الجملة السابقة ، وقرأ حمزة (وَالسَّاعَةُ) بالنصب عطفا على اسم أن وروي ذلك عن الأعمش وأبي عمرو وأبي حيوة وعيسى والعبسي والمفضل ، وذكر أمر الساعة وإنها لا ريب في وقوعها مع أنها من جملة ما وعد الله تعالى اعتناء بأمر البعث المقصود بالمقام (قُلْتُمْ) لغاية عتوكم : (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي أي شيء هي استغرابا لها جدا كما يؤذن به جمع (ما نَدْرِي) مع الاستفهام.

١٥٤

(إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) استشكل ذلك لما أنه استثناء مفرغ وقد قالوا : لا يجوز تفريغ العامل إلى المفعول المطلق المؤكد فلا يقال : ما ضربت إلا ضربا لأنه بمنزلة ما ضربت إلا ضربت ، وقال الرضي : إن الاستثناء المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مقدر معرب بإعراب المستثنى مستغرق لذلك الجنس حتى يدخل فيه المستثنى بيقين ثم يخرج بالاستثناء وليس مصدر نظن محتملا مع الظن غيره حتى يخرج الظن منه ، وكذا يقال في ما ضربت إلّا ضربا ونحوه وهذا مراد من قال : إنه من قبيل استثناء الشيء من نفسه. واختلفوا في حله فقيل : إن معنى ما نظن ما نفعل الظن كما في نحو قيم وقعد وحينئذ يصح الاستثناء ويتغاير مورد النفي والإيجاب من حيث التقدير والتجوز في الاستثناء من العام المقدر وجعل (نَظُنُ) في معنى نفعل الفعل لا نفعل الظن كأنه قيل : ما نفعل فعلا إلا الظن ، وكذا يقال في أمثاله ومنها قول الأعشى :

وحل به الشيب أثقاله

وما اغتره الشيب إلا اغترارا

وارتضاه صاحب الكشف ، وقيل : ما نظن بتأويل ما نعتقد ويكون (ظَنًّا) مفعولا به أي ما نعتقد شيئا إلا ظنا ، وارتضاه أبو حيان. وتعقب بأن ظاهر حالهم أنهم مترددون لا معتقدون. وأجيب بأن الاعتقاد المنفي لا ينافي ظاهر حالهم بل يقررها على أتم وجه ، وقيل المستثنى ظن أمر الساعة والمستثنى منه مطلق الظن كأنه قيل لا ظن ولا تردد لنا إلا ظن أمر الساعة والتردد فيه فالكلام لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة ، وقال الرضي : إن ما ضربت إلا ضربا يحتمل التعدد من حيث توهم المخاطب إذ ربما تقول ضربت وقد فعلت غير الضرب مما يجري مجراه من مقدماته كالتهديد فتدفع ذلك وتقول ضربت ضربا فهو نظير جاء زيد زيد فلما كان ضربت محتملا للضرب وغيره من حيث التوهم صار كالمتعدد الشامل للضرب وغيره ، وحاصله أن الضرب لما احتمل قبل التأكيد والاستثناء فعلا آخر حمل على العموم بقرينة الاستثناء فيكون المعنى ما فعلت شيئا إلا ضربا ، وهكذا (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) وهذا كالمتحد مع ما ذكرناه أولا ، ورد بأن الاستثناء يقتضي الشمول المحقق ولا يكفي فيه الاحتمال المحقق فضلا عن المتوهم.

وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا تجرد الفعل لمعنى عام صار الشمول محققا على أن عدم كفاية الشمول الفرضي غير مسلم كما يعرفه من يتتبع موارده ، وذهب ابن يعيش. وأبو البقاء إلى أنه على القلب والتقديم والتأخير الأصل إن نحن إلا نظن ظنا وحكي ذلك عن المبرد ، وقد حمل عليه ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب : ليس الطيب إلا المسك بالرفع فقال : الأصل ليس إلا الطيب المسك ليكون اسم ليس ضمير الشأن وما بعد إلا مبتدأ وخبرا في موضع الخبر لها ، ورده الرضي وقال : إنه تكلف لما فيه من التعقيد المخلّ بالفصاحة.

والمثال المحكي وارد على لغة بني تميم فإنهم عاملوا ليس معاملة ما فأهملوها لانتقاض النفي بإلا ، وقيل (ظَنًّا) مفعول مطلق لفعل محذوف والمستثنى محذوف والتقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا.

وحكي عن المبرد أيضا وفيه حذف إن واسمها وخبرها وإبقاء المصدر وذلك لا يجوز ، وفيه أيضا من التعقيد المخل بالفصاحة ما فيه ، ولا أظن صحة حكايته عن المبرد لغاية برودته ، وجوز صاحب التقريب أن يكون المراد إن نظن إلا ظنا ضعيفا فهو مصدر مبين للنوع حذفت صفته كما صرح به في البحر لا مؤكد ، وهذا يوافق ما ذكره الإمام السكاكي في بحث أن التنكير قد يكون للتحقير. وتعقب بأن قوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) يأباه فإن مقابل الاستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه ، وقد صرح غير واحد بأن هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها والمراد بها استمرار النفي وتأكيده ، قيل : والمعنى وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة أي لا نتيقن إمكانها أصلا فضلا عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله تعالى : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) فقولهم ذلك رد لهذا ، ولعل المثبتين لأنفسهم

١٥٥

الظن من غير إيقان بأمر الساعة غير القائلين إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون للبعث جازمون بنفي الساعة فيكون الكفرة صنفين صنف جازمون بنفيها كأئمتهم وصنف مترددون متحيرون فيها فإذا سمعوا ما يؤثر عن آبائهم أنكروها وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم فترددوا.

ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال فهو مضطرب مختلف الحالات تارة يجزم بالنفي فيقول : إن هي إلا حياتنا الدنيا وأخرى يظن فيقول إن نظن إلا ظنا ، وقيل : الجزم هناك بنفي وقوعها والظن من غير إيقان هنا بمجرد إمكانها فهم مترددون بإمكانها الذاتي جازمون بعدم وقوعها بالفعل فتأمل.

«تم الجزء الخامس والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس والعشرون وأوله (وبدا لهم)».

١٥٦

الجزء السادس والعشرون

١٥٧
١٥٨

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ(٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٣٧)

(وَبَدا لَهُمْ) أي ظهر لهم حينئذ (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي قبائح أعمالهم أي عقوباتها فإن العقوبة تسوء صاحبها وتقبح عنده أو سيئات أعمالهم أي أعمالهم السيئات على أن تكون الإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف والكلام على تقدير مضاف أي ظهر لهم جزاء ذلك أو أن يراد بالسيئات جزاؤها من باب إطلاق السبب على المسبب ، وقيل : المراد ظهر لهم الجهات السيئة الغير الحسنة عقلا لأعمالهم أي جهات قبحها العقلي التي خفيت عليهم في الدنيا بتزيين الشيطان ؛ وهو قول بالحسن والقبح العقليين في الأفعال ، و (ما) موصولة ، وجوز أن تكون مصدرية فلا تغفل (وَحاقَ) أي حل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من الجزاء والعقاب.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) نترككم في العذاب من باب إطلاق السبب على المسبب لأن من نسي شيئا تركه أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به على أن ثم استعارة تمثيلية ، وجوز أن يكون استعارة مكنية في ضمير الخطاب.

(كَما نَسِيتُمْ) في الدنيا (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي كما تركتم عدته وهي التقوى والإيمان به أو كما لم تبالوا أنتم بلقائه ولم تخطروه ببال كالشيء الذي يطرح نسيا منسيا ، وجوز أن يكون التعبير بنسيانه لأن علمه مركوز في فطرتهم أو لتمكنهم منه بظهور دلائله ففي النسيان الأول مشاكلة ، وإضافة (لِقاءَ) إلى ـ يوم ـ من إضافة المصدر إلى ظرفه فهي على معنى في والمفعول مقدر أي لقاءكم الله تعالى وجزاءه سبحانه في يومكم هذا ، وقال العلامة التفتازاني : (لِقاءَ يَوْمِكُمْ) ك (مَكْرُ اللَّيْلِ) [سبأ : ٣٣] من باب المجاز الحكمي فلذا أجري المضاف إليه مجرى المفعول به ، وإنما لم يجعل من إضافة المصدر إلى المفعول به حقيقة لأن التوبيخ ليس على نسيان لقاء اليوم نفسه بل نسيان ما فيه من الجزاء.

١٥٩

وقال بعض الأجلة : لا يخفى أن لقاء اليوم يجوز أن يكون كناية عن لقاء جميع ما فيه وهو أنسب بالمقام لأن السياق لإنكار البعث (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها.

(ذلِكُمْ) العذاب (بِأَنَّكُمُ) بسبب أنكم (اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) أي مهزوءا بها ولم ترفعوا لها رأسا (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فحسبتم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي النار. وقرأ الحسن وابن وثاب وحمزة والكسائي «لا يخرجون» مبنيا للفاعل ، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم أو بنقلهم من مقام الخطابة إلى غيابه النار ، وجوز أن يكون هذا ابتداء كلام فلا التفات.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي يطلب منهم أن يعتبوا ربهم سبحانه أي يزيلوا عتبه جلّ وعلا ، وهو كناية عن إرضائه تعالى أي لا يطلب منهم إرضاؤه عزوجل لفوات أوانه ، وقد تقدم في الروم. والسجدة أوجه أخر في ذلك فتذكر (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تفريع على ما احتوت عليه السورة الكريمة ، وقد احتوت على آلاء الله تعالى وأفضاله عزوجل واشتملت على الدلائل الآفاقية والأنفسية وانطوت على البراهين الساطعة والنصوص اللامعة في المبدأ والمعاد ، واللام للاختصاص ، وتقديم الخبر لتأكيده ، وتعريف الحمد للاستغراق أو الجنس ، والجملة إخبار عن استحقاقه تعالى لما تدل عليه ، وجوز أن يراد الإنشاء ، وتمام الكلام قد تقدم في الفاتحة ، وفي التفريع المذكور على ما قال بعض الأجلة إشارة إلى أن كفرهم لا يؤثر شيئا في ربوبيته تعالى ولا يسد طريق إحسانه ورحمته عزوجل. ومن يسد طريق العارض الهطل. وإنما هم ظلموا أنفسهم ، وإجراء ما جرى من الصفات الدالة على إنعامه تعالى عليه عزوجل كالدليل على استحقاقه تعالى الحمد واختصاصه به جلّ وعلا ؛ وقوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) بدل مما قبل ؛ وفي تكرير لفظ الرب تأكيد وإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل بطريق الأصالة. وقرأ ابن محيصن برفعه على المدح بإضمار هو (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) فيه من الاختصاص ما في (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) والكبرياء قال ابن الأثير : العظمة والملك ، وقال الراغب : الترفع عن الانقياد ، وقيل : هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ، وقوله تعالى : (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في موضع الحال أو متعلق ـ بالكبرياء ـ والتقييد بذلك لظهور آثار الكبرياء وأحكامها فيه ، والإظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء ، وفي الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة ، وهو ظاهر في عدم اتحاد الكبرياء والعظمة فلا تغفل (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب (الْحَكِيمُ) في كل ما قضى وقدر ، وفي هذه الجمل إرشاد ـ على ما قيل ـ إلى أوامر جليلة كأنه قيل : له الحمد فاحمدوه تعالى وله الكبرياء فكبروه سبحانه وهو العزيز الحكيم فأطيعوه عزوجل ، وجعلها بعضهم مجازا أو كناية عن الأوامر المذكورة والله تعالى أعلم ، هذا ولم أظفر من باب الإشارة بما يتعلق بشيء من آيات هذه السورة الكريمة يفي بمئونة نقله غير ما يتعلق بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] من جعله إشارة إلى وحدة الوجود ، وقد مر ما يغني عن نقله ، والله عزوجل ولي التوفيق.

١٦٠