روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

سورة الأحقاف

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء ، واستثنى بعضهم قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [الأحقاف : ١٠] الآية ، فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبد الله بن سلام ، وروي ذلك عن محمد بن سيرين.

وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الأحقاف : ١٠] وفي نزولها فيه رضي الله تعالى عنه أخبار كثيرة ، وظاهر ذلك أنها مدنية لأن إسلامه فيها بل في الأخبار ما يدل على مدنيتها من وجه آخر ، وعكرمة ينكر نزولها فيه ويقول : هي مكية كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه وكذا مسروق ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ما نزلت إلا بمكة وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستثنى بعضهم (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) [الأحقاف : ١٧] الآيتين ، وزعم مروان من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباه وهو في صلبه أنهما نزلتا في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما فكذبته عائشة وقالت : كذب مروان مرتين والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض أي قطعة من لعنة الله تعالى ، وفي رواية أنها قالت : إنما نزلت في فلان بن فلان وسمت رجلا آخر ، واستثنى آخر (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) [الأحقاف : ١٥] الآيات الأربع كما حكاه في جمال القراء ، وحكى أيضا استثناء (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) [الأحقاف : ٣٥] الآية ونقله في البحر عن ابن عباس. وقتادة ، وكذا نقل فيه عنهما استثناء (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) إلخ ، وتمام الكلام في ذلك سيأتي إن شاء الله تعالى. وآيها خمس وثلاثون في الكوفي وأربع وثلاثون في غيره والاختلاف في «حم» وتسمى لمجاوزتها الثلاثين ثلاثين. أخرج أحمد بسند جيد عن ابن عباس قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة من آل حم وهي الأحقاف وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها على وجهين.

أخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الأحقاف فسمعت رجلا يقرؤها خلاف ذلك فقلت : من أقرأكها؟ قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : والله لقد أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير ذا فأتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال : بلى فقال الآخر : ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال : بلى فتمعّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف».

وأنت تعلم أن ما تواتر هو القرآن. ووجه اتصالها أنه تعالى لما ختم السورة التي قبلها بذكر التوحيد وذم أهل

١٦١

الشرك والوعيد افتتح هذه بالتوحيد ثم بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد فقال عزوجل :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ(٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الكلام فيه كالذي تقدم في مطلع السورة السابقة (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بما فيهما من حيث الجزئية منهما ومن حيث الاستقرار فيهما (وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات (إِلَّا بِالْحَقِ) استثناء مفرع من أعم المفاعيل أي لا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية ، وفيه من الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتناء أفعاله على حكم بالغة وانتهائها إلى غايات جليلة ما لا يخفى ، وجوز كونه مفرغا من أعم الأحوال من فاعل (خَلَقْنَا) أو من مفعوله أي ما خلقناها في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق أو حال ملابستها به (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) عطف على (الحق) بتقدير مضاف أي وبتقدير أجل مسمى ، وقدر لأن الخلق إنما يلتبس به لا بالأجل نفسه والمراد بهذا الأجل. كما قال ابن عباس. يوم القيامة فإنه ينتهي إليه أمور الكل وتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار ، وقتل : مدة البقاء المقدر لكل واحد ، ويؤيد الأول قوله تعالى :

١٦٢

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) فإن ما أنذروه يوم القيامة وما فيه من الطامة التامة والأهوال العامة لا آخر أعمارهم. وجوز كون (ما) مصدرية أي عن إنذارهم بذلك الوقت على إضافة المصدر إلى مفعوله الأول القائم مقام الفاعل ، والجملة حالية أي ما خلقنا الخلق إلا بالحق وتقدير الأجل الذي يجازون عنده والحال أنهم غير مؤمنين به معرضون عنه غير مستعدين لحلوله (قُلْ) توبيخا لهم وتبكيتا (أَرَأَيْتُمْ) أخبروني وقرئ «أرأيتكم» (ما تَدْعُونَ) ما تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام أو جميع المعبودات الباطلة ولعله الأظهر ، والموصول مفعول أول ـ لأرأيتم ـ وقوله تعالى : (أَرُونِي) تأكيد له فإنه بمعنى أخبروني أيضا ، وقوله تعالى : (ما ذا خَلَقُوا) جوز فيه أن تكون (ما) اسم استفهام مفعولا مقدما ـ لخلقوا ـ و (ذا) زائدة وأن تكون (ما ذا) اسما واحدا مفعولا مقدما أي أي شيء خلقوا وأن تكون اسم استفهام مبتدأ أو خبرا مقدما و (ذا) اسم موصول خبرا أو مبتدأ مؤخرا وجملة (خَلَقُوا) صلة الموصول أي ما الذي خلقوه ، وعلى الأولين جملة (خَلَقُوا) مفعول ثان ـ لأرأيتم ـ وعلى ما بعدهما جملة (ما ذا خَلَقُوا) وجوز أن يكون الكلام من باب الأعمال وقد أعمل الثاني وحذف المفعول الأول وأختاره أبو حيان ، وقيل : يحتمل أن يكون (أَرُونِي) بدل اشتمال من (أَرَأَيْتُمْ) وقال ابن عطية : يحتمل (أَرَأَيْتُمْ) وجهين : كونها متعدية و (ما) مفعولا لها. وكونها منبهة لا تتعدى و (ما) استفهامية على معنى التوبيخ ، وهذا الثاني قاله الأخفش في (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) [الكهف : ٦٣].

وقوله تعالى : (مِنَ الْأَرْضِ) تفسير للمبهم في (ما ذا خَلَقُوا) قيل : والظاهر أن المراد من أجزاء الأرض وبقعها ، وجوز أن يكون المراد ما على وجهها من حيوان وغيره بتقدير مضاف يؤدي ذلك ، ويجوز أن يراد بالأرض السفليات مطلقا ولعله أولى (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) أي شركة مع الله سبحانه (فِي السَّماواتِ) أي في خلقها ، ولعل الأولى فيها أيضا أن تفسر بالعلويات. و (أَمْ) جوز أن تكون منقطعة وأن تكون متصلة ، والمراد نفي استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتم وجه ، فقد نفى أولا مدخليتها في خلق شيء من أجزاء العالم السفلي حقيقة واستقلالا ، وثانيا مدخليتها على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلوي ، ومن المعلوم أن نفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية ؛ وتخصيص الشركة في النظم الجليل بقوله سبحانه : (فِي السَّماواتِ) مع أنه لا شركة فيها وفي الأرض أيضا لأن القصد إلزامهم بما هو مسلم لهم ظاهر لكل أحد والشركة في الحوادث السفلين ليست كذلك لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة. وقيل : الأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل (أَمْ) المتصلة لوجود دليله والتقدير ألهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السموات وهو كما ترى ، وقوله تعالى : (ائْتُونِي بِكِتابٍ) إلى آخره تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي فهو من جملة القول أي ائتوني بكتاب إلهي كائن (مِنْ قَبْلِ هذا) الكتاب أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم العبادة ، فالاثارة مصدر كالضلالة بمعنى البقية من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من لحم أي بقية منه. وقال القرطبي : هي بمعنى الإسناد والرواية ، ومنه قول الأعشى :

إن الذي فيه تماريتما

بيّن للسامع والآثر

وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقتادة : المعنى أو خاصة من علم فاشتقاقها من الأثرة فكأنها قد آثر الله تعالى بها من هي عنده ، وقيل : هي العلامة. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال : الخط ، وروي ذلك أيضا موقوفا على

١٦٣

ابن عباس ، وفسر بعلم الرمل كما في حديث أبي هريرة مرفوعا «كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم». وفي رواية عن الحبر أنه قال (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) خط كان يخطه العرب في الأرض ، وهذا ظاهر في تقوية أمر علم الرمل وأنه شيء له وجه ويرشد إلى بعض الأمور ، وفي ذلك كلام يطلب من محله. وفي البحر قيل : إن صح تفسير ابن عباس الأثارة بالخط على التراب كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم ، والتنوين للتقليل و (مِنْ عِلْمٍ) صفة أي أو ائتوني بأثارة قليلة كائنة من علم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قاما على خلافها تبين بطلانها ، وقرئ «إثارة» بكسر الهمز وفسرت بالمناظرة فإنها تثير المعاني ، قيل : وذلك من باب الاستعارة على تشبيه ما يبرز ويتحقق بالمناظرة بما يثور من الغبار الثائر من حركات الفرسان. وقرأ علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم بخلاف عنهما. وزيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن والسلمي والأعمش وعمرو بن ميمون «أثرة» بغير ألف وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر ، وعلي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وقتادة أيضا بإسكان الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر أي قد قنعت منكم بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم ؛ وعن الكسائي ضم الهمزة وإسكان الثاء فهي اسم للمقدار كالغرفة لما يغرف باليد أي ائتوني بشيء ما يؤثر من علم ، وروي عنه أيضا أنه قرأ «إثرة» بكسر الهمزة وسكون الثاء وهي بمعنى الأثرة بفتحتين (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) إنكار لأن يكون أضل من المشركين ، وذكر بعض الفضلاء أن المراد نفي أن يكون أحد يساويهم في الضلالة وإن كان سبك التركيب لنفي الأضل ، وقد مر ما يتعلق بذلك فتذكر أي هو أضل من كل ضال حيث ترك دعاء المجيب القادر المستجمع لجميع صفات الكمال كما يشعر بذلك الاسم الجليل ودعا من ليس شأنه الاستجابة له وإسعافه بمطلوبه (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ما دامت الدنيا ، وظاهره أنه بعدها تقع الاستجابة وليس بمراد لتحقق ما يدل على خلافه ، فهذه الغاية على ما في الانتصاف من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالمباين حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده ، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة ، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر بعبادتهم إياهم كما ينطق به ما بعد فهو من وادي قول تعالى : في سورة [الزخرف : ٢٩] (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) الآية ، ونحوه قوله سبحانه في إبليس : (إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [ص : ٧٨] وقد يقال : المراد بهذه الغاية التأبيد كما قيل في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ) [هود : ١٠٧] وقولهم : ما دام ثبير ، وقال بعضهم : لا إشكال في الآية لأن الغاية مفهوم فلا تعارض المنطوق ، وفيه بحث ، ففي الدرر والينبوع عن البديع أن الغاية عندنا من قبيل إشارة النص لا المفهوم.

وقال الزركشي في شرح جمع الجوامع : ذهب القاضي أبو بكر إلى أن الحكم في الغاية منطوق وادعى أن أهل اللغة صرحوا بأن تعليق الحكم بالغاية موضوع على أن ما بعدها خلاف ما قبلها لأنهم اتفقوا على أنها ليست كلاما مستقلا فإن قوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] وقوله سبحانه : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢] لا بد فيه من إضمار لضرورة تتميم الكلام ؛ وذلك أن المضمر إما ضد ما قبله أو لا والثاني لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه فيقدر حتى يطهرن فاقربوهن ، حتى تنكح زوجا غيره فتحل ، قال : والمضمر بمنزلة الملفوظ فإنه إنما يضمر لسبقه إلى ذهن العارف باللسان ، وعليه جرى صاحب البديع من الحنفية فقال : هو عندنا من دلالة الإشارة لا من المفهوم ، لكن الجمهور على أنه مفهوم ومنعوا وضع اللغة لذلك انتهى ، ويعلم من هذا أن قوله في التلويح : إن مفهوم الغاية متفق عليه لا يخلو من الخلل (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ) الضمير الأول لمفعول (يَدْعُوا) أعني (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ) والثاني

١٦٤

لفاعله ، والجمع فيهما باعتبار معنى (مَنْ) كما أن الأفراد فيما سبق باعتبار لفظها أي والذين يدعون من لا يستجيبون لهم عن دعائهم إياهم (غافِلُونَ) لا يسمعون ولا يدرون ، أما إن كان المدعو جمادا فظاهر ، وأما إن كان من ذوي العقول فإن كان من المقبولين المقربين عند الله تعالى فلاشتغاله عن ذلك بما هو فيه من الخير أو كونه في محل ليس من شأن الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي للبعد كعيسى عليه الصلاة والسلام اليوم أو لأن الله تعالى يصون سمعه عن سماع ذلك لأنه لكونه مما لا يرضي الله تعالى يؤلمه لو سمعه ، وإن كان من أعداء الله تعالى كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله تعالى فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر ، وقيل : لأن الميت ليس من شأنه السماع ولا يتحقق منه سماع إلا معجزة كسماع أهل القليب ، وفي هذا كلام تقدم بعضه ؛ وإن كان حيا فإن كان بعيدا مثلا فالأمر ظاهر ، وإن كان قريبا سليم الحاسة فقيل : الكلام بالنسبة إليه بعد تأويل الغفلة بعدم السماع وعلى التغليب لندرة هذا الصنف.

ومن الناس من أوّل الغفلة بعدم الفائدة وتعقب بأنه حينئذ لا يكون لوصفهم بالغفلة بعد وصفهم بعدم الاستجابة كثير فائدة ، واعتبر بعضهم التغليب من غير تأويل بمعنى أنه غلب من يتصور منه الغفلة حقيقة على غيره ، وهذا كالتغليب في التعبير عن تلك الآلهة بما هو موضوع لأن يستعمل في العقلاء ، وإن كانت الآية في عبدة الأصنام ونحوها مما لا يعقل تجوز في الغفلة وكان التعبير بما هو للعاقل لإجراء العبدة إياها مجرى العقلاء.

وقال بعضهم : على جعلها في عبدة الأصنام. إن وصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها فتدبر ولا تغفل (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) عند قيام القيامة (كانُوا) أي المعبودون (لَهُمْ) أي العابدين (أَعْداءً) شديدي العداوة (وَكانُوا) أي المعبودون أيضا (بِعِبادَتِهِمْ) أي بعبادة الكفرة إياهم (كافِرِينَ) مكذبين ، والأمر ظاهر في ذوي العقول. وأما في الأصنام فقد روي أن الله تعالى يخلق لها إدراكا وينطقها فتتبرأ عن عبادتهم وكذا تكون أعداء لهم ، وجوز كون تكذيب الأصنام بلسان الحال لظهور أنهم لا يصلحون للعبادة وأنهم لا نفع لهم كما توهموه أولا حيث قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) [الزمر : ٣] ورجوا الشفاعة منهم. وفسرت العداوة بالضر على أنها مجاز مرسل عنه فمعنى (كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) كانوا لهم ضارين ، وما ذكرناه في بيان الضمائر هو الظاهر ، وقيل : ضمير (هم) المرفوع البارز والمستتر في قوله تعالى : (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) للكفرة الداعين وضمير (دُعائِهِمْ) لهم أو للمعبودين ، والمعنى أن الكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب لهم غافلون لا يتأملون ما عليهم في ذلك ، وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه ، وفي الضمائر بعد نحو ذلك ، والمعنى إذا حشر الناس كان الكفار أعداء لآلهتهم الباطلة لما يرون من ترتب العذاب على عبادتهم إياها وكانوا لذلك منكرين أنهم عبدوا غير الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم أنهم يقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] وتعقب بأن السياق لبيان حال الآلهة معهم لا عكسه ، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم وتسميته كفرا خلاف الظاهر (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي واضحات أو مبينات ما يلزم بيانه (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي الآيات المتلوة ، ووضع موضع ضميرها تنصيصا على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصوف موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلا عليهم بكمال الكفر والضلالة.

وجوز كون المراد ـ بالحق ـ النبوة أو الإسلام فليس فيه موضوعا موضع الضمير ، والأول أظهر ، واللام متعلقة.

بقال على أنها لام العلة أي قالوا لأجل الحق وفي شأنه وما يقال في شأن شيء مسوق لأجله ، وجوز تعلقه ـ بكفروا ـ على أنه بمعنى الباء أو حمل الكفر على نقيضه وهو الإيمان فإنه يتعدى باللام نحو (أَنُؤْمِنُ لَكَ) [الشعراء : ١١١] وهو

١٦٥

خلاف الظاهر كما لا يخفى (لَمَّا جاءَهُمْ) أي في وقت مجيئه إياهم ، ويفهم منه في العرف المبادرة وتستلزم عدم التأمل والتدبر فكأنه قيل : بادروا أول سماع الحق من غير تأمل إلى أن قالوا : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر كونه سحرا ، وحكمهم بذلك على الآيات لعجزهم عن الإتيان بمثلها ، وعلى النبوة لما معها من الخارق للعادة ، وعلى الإسلام لتفريقه بين المرء وزوجه وولده (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمدا على الله تعالى فإن الكذب خصوصا عليه عزوجل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة ، وما في (أَمْ) المنقطعة من الهمزة معنى للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجب من نسبته إلى الافتراء مع قولهم : هو سحر لعجزهم عنه ، والضمير المنصوب في (افْتَراهُ) كما قال أبو حيان (لِلْحَقِ) الذي هو الآيات المتلوة ، وقال بعضهم : للقرآن الدال عليه ما تقدم أي بل أيقولون افتراه.

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) على الفرض (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي عاجلني الله تعالى بعقوبة الافتراء عليه سبحانه فلا تقدرون على كفه عزوجل من معالجتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه سبحانه عني فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه ، فجواب (إِنِ) في الحقيقة محذوف وهو عاجلني وما ذكر مسبب عنه أقيم مقامه أو تجوز به عنه (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحرا تارة وافتراء أخرى ، واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولا كان أو فعلا مجاز مشهور ، وأصلها إسالة الماء يقال : أفاض الماء إذا أساله ، وما أشرنا إليه من كون (ما) موصولة وضمير فيه عائد عليه هو الظاهر وجوز كون (ما) مصدرية وضمير (فِيهِ) للحق أو للقرآن (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) حيث يشهد لي سبحانه بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود ، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم في الطعن في الآيات ، واستؤنف لأنه في جواب سؤال مقدر ، و (بِهِ) في موضع الفاعل ـ بكفى ـ على أصح الأقوال ، و (شَهِيداً) حال و (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) متعلق به أو بكفى (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عليهم إذ لم يعاجلهم سبحانه بالعقوبة وأمهلهم جل شأنه ليتداركوا أمورهم (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي بديعا منهم يعني لست مبتدعا لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاءوا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها ، فقد قيل : إنهم كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عنادا ومكابرة فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم ذلك ، ونظير بدع الخف بمعنى الخفيف والخل بمعنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها ، وجوز إبقاؤه على أصله. وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة «بدعا» بفتح الدال ، وخرج علي أنه جمع بدعة كسدرة وسدر ، والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والإخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضا.

وقال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم : دين قيم ولحم زيم أي متفرق. قال في البحر : ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال : ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي ، واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح ، وأما قيم فمقصور من قيام ولو لا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض ، وأما قول العرب : مكان سوي وماء روي ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر ، وعن مجاهد وأبي حيوة «بدعا» بفتح الباء وكسر الدال وهو صفة كحذر.

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي في الدارين على التفصيل كما قيل.

١٦٦

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية : أما في الآخرة فمعاذ الله تعالى قد علم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ولكن ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم‌السلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء عليهم‌السلام من قبلي ولا بكم أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة أم أمتي المرمية بالحجارة من اسماء قذفا أم المخسوف بها خسفا ثم أوحى إليه (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] يقول سبحانه : أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك فعرف عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل ثم أنزل الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [الفتح : ٢٨] يقول : أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام في أمته : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] فأخبره الله تعالى بما صنع به وما يصنع بأمته ، وعن الكلبي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا؟ فقال : وما أدري ما يفعل بي. ولا بكم أأترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخل وشجر. وحكى في البحر عن مالك بن أنس وقتادة وعكرمة والحسن أيضا. وابن عباس أن المعنى ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، وأخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الآية : نسختها الآية التي في [الفتح : ٢] (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فخرجصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال رجل من المؤمنين : هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فما ذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى في سورة [الأحزاب : ٤٧] (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) وقال سبحانه : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) [الفتح : ٥] فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. واستشكل على تقدير صحته بأن النسخ لا يجري في الخبر فلعل المنسوخ الأمر بقوله تعالى : (قُلْ) إن قلنا : إنه هنا للتكرار أو المراد بالنسخ مطلق التغيير.

وقال أبو حيان : هذا القول ليس بظاهر بل قد أعلم الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من أول الرسالة بحاله وحال المؤمن وحال الكافر في الآخرة ، وقال الإمام : أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا بأن النبي لا بد أن يعلم من نفسه كونه نبيا ومتى علم ذلك علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكا في أنه هل هو مغفور له أم لا ، وبأنه لا شك أن الأنبياء أرفع حالا من الأولياء ، وقد قال الله تعالى فيهم : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] فكيف يعتقد بقاء الرسول وهو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكا في أنه هل هو من المغفورين أم لا ، وقد يقال : المراد أيضا أنه عليه الصلاة والسلام ما يدري ذلك على التفصيل ، وما ذكر لا يتعين فيه حصول العلم التفصيلي لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد أعلم بذلك في مبدأ الأمر إجمالا بل في إعلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بحال كل شخص شخص على سبيل التفصيل بأن يكون قد أعلم عليه الصلاة والسلام بأحوال زيد مثلا في الآخرة على التفصيل وبأحوال عمرو كذلك وهكذا توقف.

وفي صحيح البخاري وأخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن مردويه عن أم العلاء ، وكانت بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها قالت لما مات عثمان بن مظعون : رحمة الله تعالى عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم ، قالت أم العلاء : فو الله ما أزكي بعده أحدا ، وفي رواية ابن حبان والطبراني عن زيد بن ثابت أنها قالت لما قبض : طب أبا السائب نفسا إنك في الجنة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما يدريك؟ قالت : يا رسول الله عثمان بن مظعون قال : أجل وما رأينا إلا خيرا والله ما أدري ما يصنع بي ، وفي رواية الطبراني. وابن

١٦٧

مردويه عن ابن عباس أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة : هنيئا لك ابن مظعون الجنة فنظر إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر مغضب وقال : وما يدريك؟ والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل الله بي فقالت : يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم فقال : أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه ، لكن في هذه الرواية أن ابن عباس قال : وذلك قبل أن ينزل (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] وعن الضحاك المراد لا أدري ما أومر به ولا ما تؤمرون به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان ، والذي أختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كان الدراية تفصيلية أو إجمالية وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية وأعتقد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشئونه والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالا ما لم يؤته أحد غيره من العالمين ، ولا أعتقد فوات كمال بعدم العلم بحوادث دنيوية جزئية كعدم العلم بما يصنع زيد مثلا في بيته وما يجري عليه في يومه أو غده ، ولا أرى حسنا قول القائل : إنه عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب وأستحسن أن يقال بدله : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطلعه الله تعالى على الغيب أو علمه سبحانه إياه أو نحو ذلك ، وفي الآية رد على من ينسب لبعض الأولياء علم كل شيء من الكليات والجزئيات ، وقد سمعت خطيبا على منبر المسجد الجامع المنسوب للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس‌سره يوم الجمعة قال بأعلى صوت : يا باز أنت أعلم بي من نفسي ، وقال لي بعض : إني لأعتقد أن الشيخ قدس‌سره يعلم كل شيء مني حتى منابت شعري ، ومثل ذلك مما لا ينبغي أن ينسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف ينسب إلى من سواه؟ فليتق العبد مولاه ، وفيما تقدم من الأخبار في شأن عثمان بن مظعون رد أيضا على من يقول فيمن دونه في الفضل أو من لم يبشره الصادق بالجنة والكرامة نحو ما قيل فيه. نعم ينبغي الظن الحسن في المؤمنين أحياء وأمواتا ورجاء الخير لكل منهم فالله تعالى أرحم الراحمين ، هذا والظاهر أن (ما) استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها الفعل القلبي وهو إما متعد لواحد أو اثنين ، وجوز أن تكون (ما) موصولة في محل نصب على المفعولية لفعل الدراية وهو حينئذ متعد لواحد والجملة بعدها صلة ، وأن تكون حرفا مصدريا فالمصدر مفعول (أَدْرِي) والاستفهامية أقضى لحق مقام التبري عن الدراية ، و (لا) لتذكير النفي المنسحب على (ما يُفْعَلُ) إلخ وتأكيده ، ولو لا اعتبار الانسحاب لكان التركيب ما يفعل بي وبكم دون (لا) لأنه ليس محلا للنفي ولا لزيادة لا ونظير ذلك زيادة (مِنَ) في قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ) [البقرة : ١٠٥] لانسحاب النفس فإنه إذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل ، وزيادة الباء في قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) [الأحقاف : ٣٣] لانسحاب النفي ، على أن مع ما في حيزها ولولاه ما زيدت الباء في الخبر ، وقيل : الأصل ولا ما يفعل بكم فاختصر ، وقيل : ولا بكم ، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة «يفعل» بالبناء للفاعل وهو ضمير الله عزوجل (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي على معنى قصر أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اتباع الوحي ، والمراد بالفعل ما يشمل القول وغيره ، وهذا جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه عليه الصلاة والسلام من الغيوب ، والخطاب السابق للمشركين.

وقيل : عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والخطاب السابق لهم ، والأول أوفق لقوله تعالى : (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إليّ (مُبِينٌ) بين الإنذار بالمعجزات الباهرة ، والحصر إضافي. وقرأ ابن عمير «يوحي» على البناء للفاعل (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) أي ما يوحى إلي من القرآن ، وقيل : الضمير للرسول ، وفيه أن الظاهر لو كان المعنى عليه كنت (مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون (وَكَفَرْتُمْ

١٦٨

بِهِ) الواو للحال والجملة حال بتقدير قد على المشهور من الضمير في الخبر وسطت بين أجزاء الشرق اهتماما بالتسجيل عليهم بالكفر أو للعطف على (كانَ) كما في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) [فصلت : ٥٢] وكذا الواو في قوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله ، فالجمل المذكورات بعد الواوات ليست متعاطفة على نسق واحد بل مجموع (شَهِدَ فَآمَنَ) و (اسْتَكْبَرْتُمْ) معطوف على مجموع (كانَ) وما معه ، مثله في المفردات (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَ (١) الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣] والمعنى إن اجتمع كونه من عند الله تعالى مع كفركم واجتمع شهادة الشاهد فإيمانه مع استكباركم عن الإيمان ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في جواب الشرط وفي مفعولي (أَرَأَيْتُمْ) وضمير «به» عائد على ما عاد عليه اسم كان وهو ما يوحى من القرآن أو الرسول ، وعن الشعبي أنه للرسول ، ولعله يقول في ضمير (كانَ) أيضا كذلك وكنا في ضمير (عَلى مِثْلِهِ) لئلا يلزم التفكيك. وأنت تعلم أن الظاهر رجوع الضمائر كلها للقرآن ، وتنوين (شاهِدٌ) للتفخيم ، وكذا وصفه بالجار والمجرور أي وشهد شاهد عظيم الشأن من بني إسرائيل الواقفين على شئون الله تعالى وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها في الحقيقة عين ما فيه كما يعرب عنه قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] على وجه ، وكذا قوله سبحانه : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) [الأعلى : ١٨] والمثلية باعتبار تأديتها بعبارات أخرى أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر ، وقيل : على مثل شهادته أي لنفسه بأنه من عند الله تعالى كأنه لإعجازه يشهد لنفسه بذلك ، وقيل مثل كناية عن القرآن نفسه للمبالغة ، وعلى تقدير كون الضمير للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر المثل بموسى عليه‌السلام.

والفاء في قوله تعالى : (فَآمَنَ) أي بالقرآن للسببية فيكون إيمانه مترتبا على شهادة له بمطابقته للوحي ، ويجوز أن تكون تفصيلية فيكون إيمانه به هو الشهادة له ، والمعنى على تقدير أن يراد فآمن بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهر بأدنى التفات ، وقوله تعالى : (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي عن الإيمان معطوف على ما أشرنا إليه على (شَهِدَ شاهِدٌ) وجوز كونه معطوفا على «آمن» لأنه قسيمه ويجعل الكل معطوفا على الشرط ، ولا تكرار في (اسْتَكْبَرْتُمْ) لأن الاستكبار بعد الشهادة والكفر قبلها ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي الموسومين بهذا الوصف ، استئناف بياني في مقام التعليل للاستكبار عن الإيمان ، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم فتشعر هذه الجملة بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم وهو دليل جواب الشرط ولذا حذف ومفعولا (أَرَأَيْتُمْ) محذوفان أيضا لدلالة المعنى عليهما ، والتقدير أرأيتم حالكم إن كان كذا فقد ظلمتم ألستم ظالمين ، فالمفعول الأول حالكم والثاني ألستم ظالمين ، والجواب فقد ظلمتم ، وقال ابن عطية : في (أَرَأَيْتُمْ) يحتمل أن تكون منبهة فهي لفظ موضوع للسؤال لا تقتضي مفعولا ، ويحتمل أن تكون جملة (إِنْ كانَ) إلخ سادة مسد مفعوليها ، وهو خلاف ما قرره محققو النحاة في ذلك. وقدر الزمخشري الجواب ألستم ظالمين بغير فاء. ورده أبو حيان بأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جوابا للشرط لزمها الفاء فإن كانت الأداة الهمزة تقدم على الفاء وإلا تأخرت ، ولعله تقدير معنى لا تقدير إعراب ، وقدره بعضهم أفتؤمنون لدلالة (فَآمَنَ) وقدره الحسن فمن أضل منكم لقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٥٢] وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : ١٤٤ ، القصص : ٥٠ ، الأحقاف : ١٠] وقيل : التقدير فمن المحقق منا ومنكم ومن المبطل؟ وقيل : تهلكون ، وقيل : هو (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي فقد آمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم به أو الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان ، وأكثرها كما ترى.

١٦٩

والشاهد عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عند الجمهور وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن سيرين والضحاك وعكرمة في رواية ابن سعد. وابن عساكر عنه. وفي الكشف في جعله شاهدا والسورة مكية بحث ولهذا استثنيت هذه الآية ، وتحقيقه أنه نزل ما سيكون منزلة الواقع ولهذا عطف (شَهِدَ) وما بعده على قوله تعالى : (كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ) ليعلم أنه مثله في التحقيق فيكون على أسلوب قوله سبحانه : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) [الحجر : ٩٠] أي أنذر قريشا مثل ما أنزلناه على يهود بني قريظة وقد أنزل عليهم بعد سبع سنين من نزول الآية ، ومصب الإلزام في قوله تعالى : (فَآمَنَ) كأنه قيل : أخبروني إن يؤمن به عالم من بني إسرائيل أي عالم لما تحقق عنده أنه مثل التوراة ألستم تكونون أضل الناس ، ففيه الدلالة على أنه مثل التوراة يجب الإيمان به شهد ذلك الشاهد أو لم يشهد لأن تلك الشهادة يعقبها الإيمان من غير مهلة فلو لم يؤمن لم يكن عالما بما في التوراة ؛ وهذا يصلح جوابا مستقلا من غير نظر إلى الأول فافهم ، وقول من قال : الشاهد عبد الله على هذا بيان للواقع وأنه كان ممن شهد وآمن لا أن المراد بلفظ الآية عبد الله خصوصا ، وعلى الوجهين لا بد من تأويل قول سعد ، وقد تقدم في حديث الشيخين وغيرهما وفيه نزل (وَشَهِدَ شاهِدٌ) بأن المراد في شأنه الذي سيحدث على الأول أو فيه وفيمن هو على حاله كأنه قيل : هو من النازلين فيه لأنه كان من الشاهدين انتهى.

وتعقب قوله : إنه نزل ما سيكون منزلة الواقع بأنه لا حاجة إلى ذلك التنزيل على تقدير مكيتها ، وكون الشاهد ابن سلام لمكان العطف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا وحينئذ لا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها ، ومع هذا فالظاهر من الأخبار أن النزول كان في المدينة وأنه بعد شهادة ابن سلام. أخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحبط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم عليه الصلاة والسلام فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال : أبيتم فو الله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم ثم انصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال : كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل : أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا : والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله تعالى ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال : فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل فقالوا : كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا وابن سلام فأنزل الله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية ، وروي حديث شهادته وإيمانه على وجه آخر ، ولا يظهر لي الجمع بينه وبين ما ذكر ، وهو أيضا ظاهر في كون النزول بعد الشهادة. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال : يا رسول الله ابعث إليهم ـ يعني اليهود ـ فاجعل بينك وبينهم حكما من أنفسهم فإنهم سيرضوني فبعث عليه الصلاة والسلام إليهم وأدخله الداخل فأتوه فخاطبوه مليا فقال لهم : اختاروا رجلا من أنفسكم يكون حكما بيني وبينكم قالوا : فإنا قد رضينا بميمون بن يامين فأخرجه إليهم فقال لهم ميمون : لنشهد أنه رسول الله وأنه على الحق فأبوا أن يصدقوه فأنزل الله تعالى فيه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) الآية ، وهو ظاهر في مدنية الآية وأن نزولها قبل شهادة الشاهد لكنه ظاهر في أن الشاهد غير عبد الله بن سلام ، وكونه كان يسمى بذلك قبل لم أره ، ولا يظهر لي وجه التعبير به دون المشهود إن كان ، والذي رأيته في الاستيعاب في ترجمة عبد الله أنه ابن سلام بن الحرث الإسرائيلي الأنصاري يكنى أبا يوسف وكان اسمه في الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله والله تعالى أعلم.

١٧٠

ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله تعالى عنها اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبد الله بن سلام وبقي معه مدة فتعلم منه علم الشرائع والأمم السالفة وأفرطوا في الكذب إلى أن نسبوا القرآن المعجز إلى تأليف عبد الله بن سلام وعبد الله هذا مما ليس له إقامة بمكة ولا تردد إليها ، ولم ير النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا في المدينة وأسلم إذ قدمها عليه الصلاة والسلام أو قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعامين على ما حكاه في البحر عن الشعبي ، فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله تعالى ، وناهيك من طائفة ما ذم في القرآن طائفة مثلها.

وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام ، وقد تقدم أنه كان يدّعي مكية الآية وينكر نزولها في ابن سلام ويقول : إنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه على هذا لا يحتاج إلى القول بأنها نزلت بخصوص شاهد ، وأيد عدم إرادة الخصوص بأن (شاهِدٌ) في الآية نكرة والنكرة في سياق الشرط تعم ، وأنا أقول : بكون التنوين في (شاهِدٌ) للتعظيم وبمدنية الآية ونزولها في ابن سلام ، والخطابات فيها مطلقا لكفار مكة ، وربما يظن على بعض الروايات أنها لليهود وليس كذلك ، وهم المعنيون أيضا بالذين كفروا في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخره ، وهو حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به. وفيه تحقيق لاستكبارهم أي وقال كفار مكة : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتعليل كما سمعت في (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) [سبأ : ٤٣].

وقيل : هي لام المشافهة والتبليغ والتفتوا في قولهم : (لَوْ كانَ) أي ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن ، وقيل: الإيمان (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) ولولاه لقالوا : سبقتمونا بالخطاب أو لما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة أخرى من المؤمنين أي قالوا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقنا إليه أولئك الذين بلغنا إيمانهم.

وتعقب بأن هذا ليس من مواطن الالتفات ، وكونهم قصدوا تحقير المؤمنين بالغيبة لا وجه له ، وكون المشافهين طائفة من المؤمنين والمخبر عنهم طائفة أخرى خلاف الظاهر ، فالأولى كونها للتعليل وقالوا ذلك لما رأوا أن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ضعفاء كعمار وصهيب وبلال وكانوا يزعمون أن الخير الديني يتبع الخير الدنيوي وأنه لا يتأهل للأول إلا من كان له القدح المعلى من الثاني ، ولذا قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وخطؤهم في ذلك مما لا يخفى.

وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال : كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة (١) فكان رضي الله تعالى عنه يضربها على إسلامها وكان كفار قريش يقولون : لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله تعالى في شأنها (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، ولعلهم لم يريدوا زنيرة بخصوصها بل من شابهها أيضا. وفي الآية تغليب المذكر على المؤنث ، وقال أبو المتوكل : أسلم أبو ذر ثم أسلمت غفار فقالت قريش ذلك ، وقال الكلبي والزجاج. قال ذلك بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وقال الثعلبي : هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام ، وأصحابه منهم ، ويلزم عليه القول بأن الآية مدنية وعدها في المستثنيات أو كون (قالَ) فيها كنادى في قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) [الأعراف : ٤٨] وهذا كما ترى والمعول عليه ما تقدم (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي بالقرآن ، وقيل : بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و «إذ» على ما اختاره جار الله ظرف لمقدر دل

__________________

(١) بالنون ووقع في أصل المؤلف «زبيرة» بالباء الموحدة وهو غلط صححناه من الإصابة.

١٧١

عليه السابق واللاحق أي وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم واستكبارهم ، وقوله تعالى : (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي يتحقق منهم هذا القول والطعن حينا فحينا كما يؤذن بذلك صيغة المضارع مسبب عن العناد والاستكبار ، وإذا جاز مثل حينئذ الآن أي كان ذلك حينئذ واسمع الآن بدليل قرينة الحال فهذا أجوز ، والإشارة إلى القرآن العظيم ، وقولهم : ذلك فيه كقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥ وغيرها] ولم يجوز أن يكون (فَسَيَقُولُونَ) عاملا في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال ، وإنما لم يجعله من قبيل (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ) [غافر : ٧٠ ـ ٧١] نظما للمستقبل في سلك المقطوع كما اختاره ابن الحاجب في الأمالي لأن المعنى هاهنا ـ كما في الكشف ـ على أن عدم الهداية محقق واقع لا أنه سيقع البتة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما بين استكبارهم وعنادهم كيف ينص على أنهم مجادلون معرضون عن القرآن وتدبره غير مهتدين ببشائره ونذره.

وقال بعضهم : الظرف معمول ـ لسيقولون ـ والفاء لا تمنع عن عمل ما بعدها فيما قبلها كما ذكره الرضي ، والتسبب المشعرة به عن كفرهم ، و (سيقولون) بمعنى قالوا ، والعدول إليه للإشعار بالاستمرار وتعقب بأن ذلك مع السين بعيد ، وقيل : إذ تعليلية للقول. وتعقب بأنه معلل بكفرهم كما آذنت به الفاء ، وقدر بعضهم العامل المحذوف قالوا ما قالوا ، ورجحه على التقدير السابق وليس براجح عليه كما لا يخفى على راجح (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن وهو خبر مقدم لقوله تعالى : (كِتابُ مُوسى) قدم للاهتمام ، وجوز الطبرسي كون (كِتابُ) معطوفا على (شاهِدٌ) والظرف فاصل بين العاطف والمعطوف ، والمعنى وشهد كتاب موسى من قبله ، وجعل ضمير (قَبْلِهِ) للقرآن أيضا وليس بشيء أصلا ، وقوله سبحانه : (إِماماً وَرَحْمَةً) حال من الضمير في الخبر أو من (كِتابُ) عند من جوز الحال من المبتدأ ، وقيل : حال من محذوف والعامل كذلك أي أنزلناه إماما وهو كما ترى.

والمعنى وكائن من قبله كتاب موسى يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدى بالإمام ورحمة من الله سبحانه لمن آمن به وعمل بموجبه ، وقوله تعالى : (وَهذا) أي القرآن الذي يقولون في شأنه ما يقولون (كِتابُ) مبتدأ خبر ، وقوله عزوجل : (مُصَدِّقٌ) نعت (كِتابُ) وهو مصب الفائدة أي مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية ، وقد قرئ «مصدق لما بين يديه» والجملة عطف على الجملة قبلها وهي حالية أو مستأنفة ، وأيا ما كان فالكلام رد لقولهم : (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) وإبطال له ، والمعنى كيف يصح كونه إفكا قديما وقد سلموا كتاب موسى والقرآن مصدق له متحد معه في المعنى أو لجميع الكتب الإلهية ، وقوله تعالى : (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير (كِتابُ) المستتر في (مُصَدِّقٌ) أو منه نفسه لتخصيصه بالصفة ، وعامله على الأول (مُصَدِّقٌ) وعلى الثاني ما في هذا من معنى الفعل ، وفائدة هذه الحال مع أن عربيته أمر معلوم لكل أحد الاشعار بالدلالة على أن كونه مصدقا كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله تعالى.

هذا على القول بأن الكلام مع اليهود ظاهر ، وأما على القول بأنه مع كفار مكة فلأنهم قد يسلمون التوراة ونحوها من الكتب الإلهية السابقة وإن كانوا أحيانا ينكرون إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم‌السلام مطلقا. وفي الكشف وجه تقديم الخبر في قوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أن إرسال الرسل وإنزال الكتب أمر مستمر كائن من عند الله تعالى فمن قبل إنزال القرآن إماما ورحمة كان إنزال التوراة كذلك ، وليس من تقديم الاختصاص بل لأن العناية والاهتمام بذكره ، ولما ألزم الكفار بنزول مثله وشهادة أعلم بني إسرائيل ذكر على سبيل الاعتراض من حال كتاب موسى عليه‌السلام ما يؤكد كونه من عند الله تعالى وأن ما يطابقه يكون من عنده سبحانه لا محالة وتوصل منه إلى أن القرآن لما كان مصدقه بل مصدق سائر الكتب السماوية وجب أن يؤمن به ويتلقى بالقبول ؛ وهو بالحقيقة إعادة

١٧٢

للدعوى الأولى على وجه أخصر وأشمل إذ دلّ فيه على أن كونه مصدقا كاف شهد شاهد بني إسرائيل أو لا ، وإن قيل : نزلوا لعنادهم منزلة من لا يعرف أن كتاب موسى قبله إذ لو عرفوا وقد تبين أنه مثله لأذعنوا فقيل : (وَمِنْ قَبْلِهِ) لا من بعده لكان وجها موفى فيه حق الاختصاص كما آثره السكاكي من أنه لازم التقديم انتهى. وهو ظاهر في أن الجملة ليست حالية.

وجوز كون (لِساناً) مفعولا لمصدق. والكلام بتقدير مضاف أي ذا لسان عربي وهو النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقه إياه بموافقته كتاب موسى أو الكتب السماوية مطلقا وإعجازه ، وجوز على المفعولية كون «هذا» إشارة إلى كتاب موسى فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، ويراد بلسانا عربيا : القرآن ، ووضعت الإشارة موضع الضمير للتعظيم ، والأصل وهو مصدق لسانا عربيا ، وقيل : هو منصوب بنزع الخافض أي مصدق بلسان عربي والكل كما ترى. وقرأ الكلبي «ومن قبله» بفتح الميم «كتاب موسى» بالنصب ، وخرجت على أن من موصولة معمولة لفعل مقدر وكذا (كِتابُ) أي وآتينا الذين كانوا قبل نزول القرآن من بني إسرائيل كتاب موسى.

(لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) متعلق بمصدق. وفيه ضمير للكتاب أو لله تعالى أو للرسول عليه الصلاة والسلام ، ويؤيد الأخير قراءة أبي رجاء وشيبة والأعرج وأبي جعفر وابن عامر ونافع وابن كثير في رواية «لتنذر» بتاء الخطاب فإنه لا يصلح بدون تكلف لغير الرسول ، والتعليل صحيح على الكل ، ولا يتوهم لزوم حذف اللام على أن الضمير للكتاب لوجود شرط النصب لأنه شرط الجواز (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) عطف على المصدر الحاصل من أن والفعل ، وقال الزمخشري : وتبعه أبو البقاء هو في محل النصب معطوف على محل (لِيُنْذِرَ) لأنه مفعول له ، وزعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين لأن المحل ليس بحق الأصالة وهم يشترطون في الحمل عليه ذلك إذ الأصل في المفعول له الجر ، والنصب ناشئ من نزع الخافض لكنه كثر بشرطه ، وحكى في إعرابه أوجها فقال : قيل معطوف على (مُصَدِّقٌ) وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي هو بشرى ، وقيل : منصوب بفعل محذوف معطوف على (ينذر) أي ويبشر بشرى ، وقيل : منصوب بنزع الخافض أي ولبشرى ، والظاهر أن (المحسنين) في مقابلة (الَّذِينَ ظَلَمُوا) والمراد بالأول الكفرة وبالثاني المؤمنون. وفي شرح الطيبي إنما عدل عن العادلين إلى (المحسنين) ليكون ذريعة إلى البشارة بنفي الخوف والحزن لمن قالوا : ربنا الله ثم استقاموا ، وقيل : (المحسنين) دون الذين أحسنوا بعد قوله تعالى : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ليكون المعنى لينذر الذين وجد منهم الظلم ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الصراط السوي فيناسب تعليل البشارة بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) إلى آخره أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل ، و (ثُمَ) للتراخي الرتبي فالعمل متراخي الرتبة عن التوحيد ، وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من فوات محبوب ، والمراد استمرار النفي ، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الابتداء فلا تدخل في خبر ليت ولعل وكان وإن كانت أسماؤها موصولات ، وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسير ما ذكرنا فليراجع (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين (أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) حال من المستكن في (أَصْحابُ) وقوله تعالى : (جَزاءً) منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء ، والجملة استئناف أو حال وإما بمعنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) في معنى جازيناهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الحسنات القلبية والقالبية.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ

١٧٣

أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٢٦)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) نزلت كما أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى قوله تعالى : (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ).

و (إِحْساناً) قيل : مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى ألزمنا ، وقيل : منصوب على المصدر على تضمين (وَصَّيْنَا) معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا ، وقيل : صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان ، وقيل : مفعول له أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما ، وقال ابن عطية : إنه منصوب على المصدر الصريح و (بِوالِدَيْهِ) متعلق بوصينا ، أو به وكأنه عنى يحسن إحسانا وهو حسن ، لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجار بإحسانا بأنه لا يصح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول : أحسنت لزيد ولا تقول : أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه ، وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون بعض أحكامه مختصا بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل ولذا يعمل الاسم الجامد فيه باعتبار لمح المعنى المصدري ، وقال قالوا : إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشياء إليه.

والجار والمجرور محمول عليه ، وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة كلا تأخذكم بهما رأفة. ومعرفة نحو (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات : ١٠٢] وتأويل كل ذلك تكلف ، وأيضا قوله : لأن أحسن لا يتعدى

١٧٤

بالباء إلخ فيه منع ظاهر ، وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال : وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا ، ولعل التنوين للتفخيم أي إحسانا عظيما ، والإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات ، ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به ، وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأول وقتها ، وعد عقوقهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عزوجل ، والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جدا ، وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وقرأ الجمهور «حسنا» بضم الحاء وإسكان السين أي فعلا ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه ، وجوز أبو حيان فيه أن يكون بمعنى (إِحْساناً) فالأقوال السابقة تجري فيه. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وعيسى «حسنا» بفتح الحاء والسين ، وعن عيسى «حسنا» بضمهما.

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد والحسن وقتادة ، وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تجد له ثقلا. وقرأ شيبة وأبو جعفر والحرميان «كرها» بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف ، وقيل : المضموم اسم والمفتوح مصدر.

وقال الراغب : قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع. وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال : لا تحسن هذه القراءة لأن الكره بالفتح الغصب والغلبة. وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها ، وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراءات بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) أي مدة حمله وفصاله ، وبتقدير هذا المضاف يصح حمل قوله تعالى : (ثَلاثُونَ شَهْراً) على المبتدأ من غير كره.

والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته. وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة ويعقوب والجحدري «وفصله» أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى ؛ وقيل : الفصال بمعنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل ، والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهي بالفطام ولذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنه لا يفيد ذلك ، وفي الوصف تطويل ، والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها ، ولذا اعتنى الشارع ببرها فوق الاعتناء ببر الأب ، فقد روي «أن رجلا قال : يا رسول الله من أبر؟ قال : أمك قال : ثم من؟ قال : أمك قال : ثم من؟ قال : أمك قال : ثم من؟ قال : أباك» وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر بها على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك. واستدل بها علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وجماعة من العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولان لقوله تعالى : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء ، قال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة. وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك.

وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه ؛ وقال ابن سينا في الشفاء : بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدا نبتت أسنانه ، وحكي عن أرسطو أنه قال : أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر وربما وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر ، ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لانضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر ، وتحقق ارتباط حكم النسب

١٧٥

بأقل مدة الحمل حتى لو وضعته فيما دونه لم يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا ، ولو أرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) غاية لمقدر أي فعاش أو استمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) الظاهر أنه غير بلوغ الأشد ، وقال بعضهم : إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد.

وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جدا خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد ، وفي الحديث «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول بأبي وجه لا يفلح» وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار» وعلى ذلك قول الشاعر :

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن

له دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى

وإن جر أسباب الحياة له العمر

وقيل : لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين ، وذهب الفخر إلى خلافه مستدلا بأن عيسى ويحيى عليهما‌السلام أرسلا صبيين لظواهر ما حكي في الكتاب الجليل عنهما ، وهو ظاهر كلام السعد حيث قال : من شروط النبوة الذكورة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما‌السلام إلى آخر ما قال.

وذهب ابن العربي في آخرين إلى أنه يجوز على الله سبحانه بعث الصبي إلا أنه لم يقع وتأولوا آيتي عيسى ويحيى (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم : ٣٠]. (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] بأنهما اخبار عما سيحصل لهما لا عما حصل بالفعل ، ومثله كثير في الآيات وغيرها ، والواقع عند هؤلاء البعث بعد البلوغ. وحكى اللقاني عن بعض اشتراطه فيه ويترجح عندي اشتراطه فيه دون أصل النبوة لما أن النفوس في الأغلب تأنف عن اتباع الصغير وإن كبر فضلا كالرقيق والأنثى ، وصرح جمع بأن الأعم الأغلب كون البعثة على رأس الأربعين كما وقع لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي رغبني ووفقني من أوزعته بكذا أي جعلته مولعا به راغبا في تحصيله. وقرأ البزي «أوزعني» بفتح الياء (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها ، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه كذا قيل ، وإسلام أبيه بعد الفتح وحينئذ يلزم أن تكون الآية مدنية وإليه ذهب بعضهم ، وقيل : إن هذا الدعاء بالنسبة إلى أبويه دعاء بتوفيقهما للإيمان وهو كما ترى. واعترض على التعليل بابن عمر. وأسامة بن زيد. وغيرهما ، ونقل عن الواحدي أنه قد صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عشرين سنة في سفر للشام في التجارة فنزل تحت شجرة سمرة وقال له الراهب : إنه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقع في قلبه تصديقه فلم يكن يفارقه في سفر ولا حضر فلما نبئ وهو ابن أربعين آمن به وهو ابن ثمانية وثلاثين فلما بلغ الأربعين قال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) إلخ (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) التنوين للتفخيم والتكثير ، والمراد بكونه مرضيا له تعالى مع أن الرضا على ما عليه جمهور أهل الحق الإرادة مع ترك الاعتراض وكل عمل صالح كذلك أن يكون سالما من غوائل عدم القبول كالرياء والعجب وغيرهما ، فحاصله اجعل عملي على وفق رضاك : وقيل المراد بالرضا هنا ثمرته على طريق الكناية (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم كما في قوله :

فإن تعتذر في المحل من ذي ضروعها

لدى المحل يجرح في عراقيبها نصلي

١٧٦

على أن (أَصْلِحْ) نزل منزلة اللازم ثم عدي بفي ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وإلا فكان الظاهر وأصلح لي ذريتي ، وقيل : عدي بفي لتضمنه معنى اللطف أي الطف بي في ذريتي ، والأول أحسن ، قال ابن عباس : أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال. وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه ، ودعا أيضا فقال (أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا ، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنوا به ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عما لا ترضاه أو يشغل عنك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين أخلصوا أنفسهم لك (أُولئِكَ) إشارة إلى الإنسان ، والجمع لأن المراد به الجنس المتصف بالمعنى المحكي عنه ، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو درجته أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة.

(الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) من الطاعات فإن المباح حسن لا يثاب عليه (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) لتوبتهم المشار إليها بأني تبت وإلا فعند أهل الحق أن مغفرة الذنب مطلقا لا تتوقف على توبة (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) كائنين في عدادهم منتظمين في سلكهم ، وقيل : (فِي) بمعنى مع وليس بذاك (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر لفعل مقدر وهو مؤكد لمضمون الجملة قبله ، فإن قوله سبحانه : (نَتَقَبَّلُ) و (نَتَجاوَزُ) وعد منه عزوجل بالتقبل والتجاوز.

(الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) على ألسنة الرسل عليهم‌السلام. وقرئ «يتقبّل» بالياء والبناء للمفعول و «أحسن» بالرفع على النيابة مناب الفاعل وكذا «يتجاوز عن سيّئاتهم».

وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بالياء فيهما مبنيين للفاعل وهو ضميره تعالى شأنه و «أحسن» بالنصب على المفعولية (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) عند دعوتهما إياه للإيمان (أُفٍّ لَكُما) صوت يصدر عن المرء عند تضجره وفيه قراءات ولغات نحو الأربعين ، وقد نبهنا على ذلك في سورة الإسراء ، واللام لبيان المؤفف له كما في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] والموصول مبتدأ خبره (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) والمراد به الجنس فهو في معنى الجمع ، ولذا قيل : «أولئك» وإلى ذلك أشار الحسن بقول : هو الكافر العاق لوالديه المنكر للبعث ، ونزول الآية في شخص لا ينافي العموم كما قرر غير مرة ، وزعم مروان عليه ما يستحق أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما وردت عليه عائشة رضي الله تعالى عنها. أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال : إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال : إن الله تعالى قد أرى لأمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ في يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده ، فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه أف لكما فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباك فسمعت عائشة فقالت : مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا كذبت والله ما فيه نزلت نزلت في فلان بن فلان.

وفي رواية تقدمت رواها جماعة وصححها الحاكم عن محمد بن زياد أنها كذبته ثلاثا ثم قالت : والله ما هو به. تعني أخاها. ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته إلى آخر ما مر ، وكان ذلك من فضض اللعنة إغاظة لعبد الرحمن وتنفيرا للناس عنه لئلا يلتفتوا إلى ما قاله وما قال إلا حقا فأين يزيد الذي تجل اللعنة عنه وأين الخلافة.

ووافق بعضهم كالسهيلي في الإعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن ، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير

١٧٧

لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم وكان له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره والإسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعير بما كان يقول (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أبعث من القبر بعد الموت وقرأ الحسن وعاصم وأبو عمرو في رواية وهشام «أتعداني» بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وقرأ نافع في رواية. وجماعة بنون واحدة ، وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر بخلاف عنه ، وعبد الوارث عن أبي عمرو وهارون بن موسى عن الجحدري ، وبسام عن هشام «أتعدانني» بنونين من غير إدغام ومع فتح الأولى كأنهم فروا من اجتماع الكسرتين والياء ففتحوا للتخفيف ، وقال أبو حاتم : فتح النون باطل غلط ، وقال بعضهم : فتح نون التثنية لغة رديئة وهو الأمر هنا الاجتماع ، وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك «أخرج» مبنيا للفاعل من الخروج (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي مضت ولم يخرج منها أحد ولا بعث فالمراد إنكار البعث كما قيل :

ما جاءنا أحد يخبر أنه

في جنة لما مضى أو نار

وقال أبو سليمان الدمشقي : أراد : وقد خلت القرون من قبلي مكذبة بالبعث ، فالكلام كالاستدلال على نفي البعث.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي يقولان : الغياث بالله تعالى منك ، والمراد إنكار قوله واستعظامه كأنهما لجآ إلى الله سبحانه في دفعه كما يقال : العياذ بالله تعالى من كذا أو يطلبان من الله عزوجل أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه من إنكار البعث (وَيْلَكَ آمِنْ) أي قائلين أو يقولون له ذلك ، وأصل «ويل» دعاء بالثبور يقام مقام الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن ما هو متركب له حقيق بأن يهلك مرتكبه وأن يطلب له الهلاك فإذا أسمع ذلك كان باعثا على ترك ما هو فيه والأخذ بما ينجيه ، وقيل : إن ذلك لأن فيه إشعارا بأن الفعل الذي أمر به مما يحسد عليه فيدعى عليه بالثبور فإذا سمع ذلك رغب فيه ، وأيا ما كان فالمراد هنا الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي البعث ، وأضاف الوعد إليه تعالى تحقيقا للحق وتنبها على خطئه في إسناد الوعد إليهما. وقرأ الأعرج. وعمرو بن فائد «أن» بفتح الهمزة على تقدير لأن أو آمن بأن وعد الله حق ، ورجح الأول بأن فيه توافق القراءتين (فَيَقُولُ) مكذبا لهما ما هذا الذي تسميانه وعد الله تعالى (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة (أُولئِكَ) القائلون ذلك ، وقيل : أي صنف هذا المذكور بناء على زعم خصوص (الَّذِي) وليس بشيء.

(الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) وهو قوله تعالى لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] وقد مر تمام الكلام في ذلك. ورد بهذا على من زعم أن الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أسلم وجب عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة ، ومن حق عليه القول هو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا. وقيل : الحكم هنا على الجنس فلا ينافي خروج البعض من أحكامه الأخروية ، وقيل غير ذلك مما لا يلتفت إليه.

(فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) في مقابلة (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) فهو مثله إعرابا ومبالغة ومعنى ، وقوله تعالى (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) بيان للأمم (إِنَّهُمْ) جميعا (كانُوا خاسِرِينَ) قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رءوس أموالهم باتباع الشيطان ، والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف. وقرأ العباس عن أبي عمرو «أنهم» بفتح الهمزة على تقدير لأنهم. واستدل بقوله عزوجل : (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) إلخ على أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. وفي البحر قال الحسن في بعض مجالسه : الجن لا يموتون فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت (وَلِكُلٍ) من

١٧٨

الفريقين المذكورين في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ) وفي قوله سبحانه : «أولئك الذين حق عليهم القول» وإن شئت فقل في الذين قالوا ربنا الله والذي قال لوالديه أف (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي من جزاء ما عملوا ، فالكلام بتقدير مضاف ، والجار والمجرور صفة (دَرَجاتٌ) و (من) بيانية أو ابتدائية و (ما) موصولة أي من الذي عملوه من الخير والشر أو مصدرية أي من عملهم الخير والشر ، ويجوز أن تكون (من) تعليلية بدون تقدير مضاف والجار والمجرور كما تقدم. والدرجات جمع درجة وهي نحو المنزلة لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود ودركا إذا اعتبرت بالحدور ، ولهذا قيل : درجات الجنة ودركات النار.

والتعبير بالدرجات كما قال غير واحد على وجه التغليب لاشتمال (كل) على الفريقين أي لكل منازل ومراتب سواء كانت درجات أو دركات ، وإنما غلب أصحاب الدرجات لأنهم الأحقاء به لا سيما ، وقد ذكر جزاؤهم مرارا وجزاء المقابل مرة (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاء أعمالهم والفاعل ضميره تعالى. وقرأ الأعمش والأعرج وشيبة وأبو جعفر والأخوان وابن ذكوان ونافع بخلاف عنه «لنوفيهم» بنون العظمة ، وقرأ السلمي بتاء فوقية على الإسناد للدرجات مجازا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وزيادة عقاب ، وقد مر الكلام في مثله غير مرة. والجملة حال مؤكدة للتوفية أو استئناف مقرر لها ، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يعذبون بها من قولهم : عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به وهو مجاز شائع ، وذهب غير واحد إلى أنه من باب القلب المعنوي والمعنى يوم تعرض النار على الذين كفروا نحو عرض الناقة على الحوض فإن معناه أيضا كما قالوا : عرض الحوض على الناقة لأن المعروض عليه يجب أن يكون له إدراك ليميل به إلى المعروض أو يرغب عنه لكن لما كان المناسب هو أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه ويحرك نحوه وهاهنا الأمر بالعكس لأن الحوض لم يؤت به وكذا النار قلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار ، وفي الانتصاف إن كان قولهم : عرضت الناقة على الحوض مقلوبا فليس قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) كذلك لأن الملجئ ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الخوض حقيقة ، وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره كقولك عرضت الأسرى على الأمير ، وربما يقال : لا مانع من تنزيلها منزلة المدركة إن لم تكن حينئذ مدركة وكذا تنزيل الحوض منزلته حتى كأنه يستعرض الناقة كما قال أبو العلاء المعري :

إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت

عن الماء فاشتاقت إليها المناهل

وبعد ذلك قد لا يحتاج إلى اعتبار القلب ، وقال أبو حيان : لا ينبغي حمل القرآن على القلب إن الصحيح فيه أنه مما يضطر إليه في الشعر ، وإذا كان المعنى صحيحا واضحا بدونه فأي ضرورة تدعو إليه؟ والمثال المذكور لا قلب فيه أيضا ، فإن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وابن السكيت في كتاب التوسعة ذهب إلى أن عرضت الحوض على الناقة مقلوب والأصل إنما هو عرض الناقة على الحوض وهو مخالف للمشهور. وأنت تعلم مما ذكرنا أولا أن سبب اعتبارهم القلب في المثال كون المناسب في العرض أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه وإن الأمر في عرضت الحوض على الناقة بالعكس ، وتفصيل الكلام في ذلك على وجه يعرف منه منشأ الخلاف إن العرض مطلقا لا يقتضي ذلك وإنما

١٧٩

المقتضي له المعنى المقصود من العرض في المثال وهو الميل إلى المعروض ، ومن لم ينظر إلى هذا المعنى ونظر إلى أن المعرض يتحرك إلى المعروض عليه قال إنه الأصل ، ومن لم ينظر إلى الاعتبارين وقال العرض إظهار شيء لشيء قال إن كلّا من القولين على الأصل ، وهو كما قال العلامة السالكوتي الحق لأن كلا الاعتبارين خارج عن مفهوم العرض فاحفظه فإنه نفيس.

والظرف منصوب بقول محذوف مقوله قوله تعالى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلى آخره أي فيقال لهم يوم يعرضون أذهبتم لذاتكم (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) باستيفائها (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) فلم يبق لكم بعد شيء منها ، وهو عطف تفسير لأذهبتم ، وقرأ قتادة ومجاهد وابن وثاب وأبو جعفر والحسن والأعرج وابن كثير «آذهبتم» بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر بهمزتين حققهما ابن ذكوان ولين الثانية ابن هشام. وابن كثير في رواية ، وعن هشام الفصل بين المحققة والملينة بألف ، والاستفهام على معنى التوبيخ فهو خبر في المعنى ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء في قوله سبحانه : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي الهوان وكذلك قرئ (بِما كُنْتُمْ) في الدنيا (تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بغير استحقاق لذلك ، وقد مر بيان سر (فِي الْأَرْضِ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي تخرجون من طاعة الله عزوجل أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين ، وفي البحر أريد بالاستكبار الترفع عن الإيمان وبالفسق معاصي الجوارح وقدم ذنب القلب على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب ، وقرئ «تفسقون» بكسر السين وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف ، أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟ قال : أريد أن أشتري به لأهلي لحما قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه أين تذهب عنكم هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها).

وأخرج ابن المبارك وابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبو نعيم في الحلية عن الحسن قال قدم وفد أهل البصرة على عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري فكان له في كل يوم خبز يلت فربما وافقناه مأدوما بزيت وربما وافقناه مأدوما بسمن وربما وافقناه مأدوما بلبن وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي عليها وربما وافقنا اللحم الغريض ـ أي الطري ـ وهو قليل قال وقال لنا عمر رضي الله تعالى عنه : إني والله ما أجهل عن كراكر والأسنمة وعن صلاء وصناب وسلائق ولكن وجدت الله تعالى عير قوما بأمر فعلوه فقال عزوجل: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ (١) الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) ، والكراكر جمع كركرة بالكسرة زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض وهو من أطيب ما يؤكل منه والأسنمة جمع سنام معروف. والصلاء بالكسر والمد الشواء ، والصناب ككتاب صباغ يتخذ من الخردل والزبيب ، والسلائق جمع سليقة كسفينة ما سلق من البقول وغيرها ويروى بالصاد الخبز الرقاق واحدتها صليقة كسفينة أيضا ، وقيل : هي الحملان المشوية ، وقيل : اللحم المشوي المنضج وأنشدوا لجرير :

يكلفني معيشة آل زيد

ومن لي بالصلائق والصناب

وأخرج أحمد ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سافر آخر عهده من أهله بفاطمة وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضي الله تعالى عنها فقدم من غزاة له فأتاها فإذا بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا فقسمت ذلك بينهما فانطلقا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما يبكيان فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهما فقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة

١٨٠