روح المعاني - ج ١٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ١٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية (وَما أَصابَكُمْ) إلخ ، قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عزوجل عنه أكثر ، وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر ، ورؤي على كف شريح قرحة فقيل : بم هذا؟ فقال : بما كسبت يدي ، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال : إن أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي ، والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء عليهم‌السلام قد تصيبهم مصائب ، ففي الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا ، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية ، وقيل : في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة ، ويدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه ، وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محال فما هي إلا امتحانات ، وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها لبعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرا له.

وعن الحسن تفسير المصيبة بالحد قال : المعنى ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى فإنما هو بكسب أيديكم وارتكابكم ما يوجبه ويعفو الله تعالى عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه ، وهو مما تأباه الأخبار ومع هذا ليس بشيء ولعله لم يصح عن الحسن.

وفي الانتصاف أن هذه الآية تبلس عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنها حملوا قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] على التائب وهو غير ممكن لهم هاهنا فإنه قد أثبت التبعيض في العفو ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقيدا بالتوبة فإنه يلزم تبعيضا أيضا وهي عندهم لا تتبعض كما نقل الإمام عن أبي هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه وهو رد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة. وأجيب عنهم بأن لهم أن يقولوا : المراد ويعفو عن كثير فلا يعاقب عليه في الدنيا بل يؤخر عقوبته في الآخرة لمن لم يتب. وأنت تعلم ما دل خبر على كلام الله تعالى وجهه.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي بجاعلين الله سبحانه وتعالى عاجزا عن أن يصيبكم بالمصائب بما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مهرب ، وقيل : المراد أنكم لا تعجزون من في الأرض من جنوده تعالى فكيف من في السماء (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) من متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب وقيل يحميكم عنها (وَلا نَصِيرٍ) يدفعها عنكم ، والجملة كالتقرير لقوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي إن الله تعالى يعفو عن كثير من المصائب إذ لا قدرة لكم أن تعجزوه سبحانه فتفوتوا ما قضى عليكم منها ولا لكم أيضا من متول بالرحمة غيره عزوجل ليرحمكم إذا أصابتكم ولا ناصر سواه لينصركم منها ولهذا جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أن هذه أرجى آية

٤١

في القرآن للمؤمنين ، ويقوي أمر الرجاء على ما قيل : أن معنى (ما أَنْتُمْ) إلخ ما أنتم بمعجزين الله في دفع مصائبكم أي إنه سبحانه قادر على ذلك (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) أي السفن الجواري أي الجارية فهي صفة لموصوف محذوف لقرينة قوله تعالى : (فِي الْبَحْرِ) وبذلك حسن الحذف وإلا فهي صفة غير مختصة والقياس فيها أن لا يحذف الموصوف وتقوم مقامه ، وجوز أبو حيان أن يقال : إنها صفة غالبة كالأبطح وهي يجوز فيها أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف ، و (فِي الْبَحْرِ) متعلق بالجواري وقوله تعالى : (كَالْأَعْلامِ) في موضع الحال.

وجوز أن يكون الأول أيضا كذلك ، والأعلام جمع علم وهو الجبل وأصله الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق وعلم الجيش وسمي الجبل علما لذلك ولا اختصاص له بالجبل الذي عليه النار للاهتداء بل إذا أريد ذلك قيد كما في قول الخنساء :

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

وفيه مبالغة لطيفة ، وحكي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما سمعه : قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا وقرأ نافع وأبو عمرو «الجواري» بياء في الوصل دون الوقف.

وقرأ ابن كثير بها فيهما والباقون بالحذف فيهما والإثبات على الأصل والحذف للتخفيف ، وعلى كل فالإعراب تقديري وسمع من بعض العرب الاعراب على الراء (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) التي تجري بها ويعدم سبب تموجها وهو تكاثف الهواء الذي كان في المحل الذي جرت إليه وتراكم بعضه على بعض وسبب ذلك التكاثف إما انخفاض درجة حرارة الهواء فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خليا وإما تجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فيخلو محلها ، وهذا على ما قيل أقوى الأسباب فإذا وجد الهواء أمامه فراغا بسبب ذلك جرى بقوة ليشغله فتحدث الريح وتستمر حتى تملأ المحل وما ذكر في سبب التموج هو الذي ذكره فلاسفة العصر. وأما المتقدمون فذكروا أشياء أخرى ، ولعل هناك أسبابا غير ذلك كله لا يعلمها إلا الله عزوجل ، والقول بالأسباب تحريكا وإسكانا لا ينافي إسناد الحوادث إلى الفاعل المختار جلّ جلاله وعم نواله.

وقرأ نافع «الرياح» جمعا (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) فيصرن ثوابت على ظهر البحر أي غير جاريات لا غير متحركات أصلا ، وفسر بعضهم (يظللن) بيبقين فيكون (رَواكِدَ) حالا والأول أولى.

وقرأ قتادة «فيظللن» بكسر اللام والقياس الفتح لأن الماضي مكسور العين فالكسر في المضارع شاذ ، وقال الزمخشري : هو من ظل يظل ويظل بالفتح والكسر نحو ضل بالضاد يضل ويضل ، وتعقبه أبو حيان بأنه ليس كما ذكر لأن يضل بالفتح من ضللت بالكسر ويضل بالكسر من ضللت بالفتح وكلاهما مقيس (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر من السفن المسخرة في البحر تحت أمره سبحانه وحسب مشيئته تعالى : (لَآياتٍ) عظيمة كثيرة على عظمة شئونه عزوجل (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لكل من حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغي ووكل همته بالنظر في آيات الله تعالى والتفكر في آلائه سبحانه فالصبر هنا حبس مخصوص والتفكر في نعمه تعالى شكر.

ويجوز أن يكون قد كنى بهذين الوصفين عن المؤمن الكامل لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.

وذكر الإمام أن المؤمن لا يخلو من أن يكون في السراء والضراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان من الشاكرين (أَوْ يُوبِقْهُنَ) عطف على (يُسْكِنِ) أي أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة ، والمراد على ما قال غير واحد إهلاك أهلها إما بتقدير مضاف أو بالتجوز بإطلاق المحل على حاله أو بطريق

٤٢

الكناية لأنه يلزم من إهلاكها إهلاك من فيها والقرينة على إرادة ذلك قوله تعالى : (بِما كَسَبُوا) وأصله أو يرسلها أي الريح فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود من إرسالها عاصفة وهو إما إهلاكهم أو إنجاؤهم المراد من قوله تعالى : (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا بذنوبهم وينج ناسا على طريق العفو عنهم وبهذا ظهر وجه جزم (يَعْفُ) لأنه بمعنى ينج معطوف على يوبق ، ويعلم وجه عطفه بالواو لأنه مندرج في القسيم وهو إرسالها عاصفة ، وعلى هذا التفسير تكون الآية متضمنة لإسكانها ولإرسالها عاصفة مع الإهلاك والإنجاء وإرسالها باعتدال معلوم من قوله سبحانه الجواري فإنها المطلوب الأصلي منها.

وقال بعض الأجلة : التحقيق أن (يَعْفُ) عطف على قوله تعالى : (يُسْكِنِ الرِّيحَ) إلى قوله سبحانه : (بِما كَسَبُوا) ولذا عطف بالواو لا بأو والمعنى إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الإعصاف وإن يشأ يعف عن كثير.

وجوز بعضهم حمل (يُوبِقْهُنَ) على ظاهره لأن السفن من جملة أموالهم التي هلاكها والخسارة فيها بذنوبهم أيضا وجعل الآية مثل قوله تعالى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ). إلخ.

وقرأ الأعمش «يعفو» بالواو الساكنة آخره على عطفه على مجموع الشرط والجواب دون الجواب وحده كما في قراءة الجزم ، وعن أهل المدينة أنهم قرءوا «يعفو» بالواو المفتوحة على أنه منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الواو والعطف على هذه القراءة على مصدر متصيد من الكلام السابق كأنه قيل : يقع وهو من العطف على المعنى وهذا مذهب البصريين في مثل ذلك وتسمى هذه الواو واو الصرف لصرفها عن عطف الفعل المجزوم قبلها إلى عطف مصدر على مصدر ، ومذهب الكوفيين أن الواو بمعنى أن المصدرية ناصبة للمضارع بنفسها.

واختار الرضي أن الواو إما واو الحال والمصدر بعدها مبتدأ خبره مقدر والجملة حالية أو واو المعية وينصب بعدها الفعل لقصد الدلالة على معية الأفعال كما أن الواو في المفعول معه دالة على مصاحبة الأسماء فعدل به عن الظاهر ليكون نصا في معنى الجمعية ، والمشهور اليوم على ألسنة المعربين مذهب البصريين وعليه خرج أبو حيان النصب في هذه القراءة وكذا خرج غير واحد ومنهم الزجاج النصب في قوله تعالى :

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما

٤٣

كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(٥٣)

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي من مهرب ومخلص من العذاب على ذلك ، وجعلوا الجزاء بمنزلة الإنشاء كالاستفهام فكأنه تقدم أحد الأمور الستة ولم يرتض ذلك الزمخشري وقال : فيه نظر لما أورده سيبويه في الكتاب قال : واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله :

وألحق بالحجاز فأستريحا

فهذا تجوز ولا بحد الكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعف ، ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة انتهى ، وخرج هو النصب في (يَعْلَمَ) على العطف على علة مقدرة قال : أي لينتقم منهم ويعلم الذين إلخ ، وكم من نظير له في القرآن العظيم إلا أن ذلك من وجود حرف التعليل كقوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) [مريم : ٢١] وقوله سبحانه : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الجاثية : ٢٢].

وقال أبو حيان : يبعد هذا التقدير أنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن لينتقم منهم.

وأجيب بأن الآية مخصوصة بالمجرمين فالمقصود الهلاك ويجوز أن يقدر ليظهر عظيم قدرته تعالى ويعلم الذين يجادلون فلا يرد عليه ما ذكر ويحسن ذلك التقدير في توجيه النصب في «يعفو» على ما روي عن أهل المدينة إذا خدش التوجيه السابق بما نقل عن سيبويه فيقال : إنه عطف على تعليل مقدر أي لينتقم منهم ويعفو عن كثير ، وقراءة النصب في (يَعْلَمَ) هي التي قرأ بها أكثر السبعة.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر والأعرج وشيبة وزيد بن علي بالرفع ، وقرر في الكشف وجهه بأنه على عطف يعلم على مجموع الجملة الشرطية على معنى ومن آياته الدالة على كمال القدرة السفن في البحر ثم ذكر وجه الدلالة وأنها مسخرة تحت أمره سبحانه تارة بتضمن نفع من فيها وتارة بالعكس ثم قال جل وعلا ويعلم الذين يعاندون ولا

٤٤

يعترفون بآيات الله تعالى الباهرة بدل قوله سبحانه فيها بالضمير الراجع إلى الآية المبحوث عنها شهادة بأنها من آيات الله تعالى وزيادة للتحذير وذم الجدال فيها وليكون على أسلوب الكناية على نحو العرب لا تخفر الذمم فكأنه لما قيل : إن يشأ يسكن الريح وذكر سبب الدلالة صار في معنى يعلمها ويعترف بها المتدبرون في آياتنا المسترشدون ويعلم المجادلون فيها المنكرون ما لهم من محيص ، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) وتجعل هذه وحدها آيات لتضمنها وجودها من الدلالة أقيمت مقام المضمر ، والمعنى ومن آياته الجوار ويعلم المجادلون فيها ، واعترض بين المعطوف والمعطوف عليه ببيان وجه الدلالة ليدل على موجب وعيد المجادل وعلى كونها آية بل آيات ، ونقل عن أن الحاجب أنه يجوز أن يكون الرفع بالعطف على موضع الجزاء المتقدم باعتبار كونه جملة لا باعتبار عطف مجرد الفعل ليجب الجزم فتكون الجملتان مشتركتين في المسببية ، وفيه بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وقرئ «ويعلم» بالجزم.

وخرج على العطف علي (يَعْفُ) وتسببه عن الشرط باعتبار تضمن الأخبار عن علم المجادلين بما يحل بهم في المستقبل الوعيد والتحذير كما قيل :

سوف ترى إذا انجلى الغبار

أفرس تحتك أم حمار

ومرجع المعنى علي ذلك أنه تعالى إن يشأ يعصف الريح فيغرق بعضا وينج آخرين عفوا ويجذر جماعة أخرى.

واعترض بأن التخصيص بالمجادلين في هذا التحذير غير لائح ، وأيضا علمهم بأن لا محيص من عذاب الله تعالى على تقدير عصف الريح بأهل السفن على سبيل العبرة ولا اختصاص لها بهم ولا بهذا المقدور خاصة.

وأجيب عن الأول بأن التخصيص بالمجادلين لأنهم أولى بالتحذير ، وعن الأخير بأنه أريد أن البر والبحر لا ينجيان من بأسه عزوجل فهو تعميم ، واختار في الكشف كون التخريج على أن الآية في الكافرين بمعنى إن يعصف الريح فيغرق بعضهم وينج آخرين منهم عفوا ويعلموا ما لهم من محيص فلا يغتروا بالنجاة والعفو في هذه المرة ، فالمجادلون هم الكثير الناجون أو بعضهم وهو على منوال قوله تعالى (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) [الإسراء : ٦٩] ، ومن مجموع ما سمعت يلوح لك ضعف هذه القراءة ولهذا لم يقرأ بها في السبعة ، والظاهر على القراءات الثلاث أن فاعل (يَعْلَمَ الَّذِينَ) وجملة (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) سادة مسد المفعولين. وفي الدر المصون أن الجملة في قراءة الرفع تحتمل الفعلية وتحتمل الاسمية أي وهو يعلم الذين ، ولا يخفى أن الظاهر على الاحتمال الثاني كون (الَّذِينَ) مفعولا أولا والجملة مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى المستتر ، وأوجب بعضهم هذا على قراءة الجزم وعطف (يَعْلَمَ) على (يَعْفُ) لئلا يخرج الكلام عن الانتظام ويظهر قصد التحذير لشيوع أن علم الله تعالى يكون كناية عن المجازاة وهو كما ترى (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي شيء كان من أسباب الدنيا ، والظاهر أن الخطاب للناس مطلقا ، وقيل : للمشركين ، وما موصوله مبتدأ والعائد محذوف أي أوتيتموه والخبر ما بعد ، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط ، وقال أبو حيان : هي شرطية مفعول ثان لأوتيتم و (مِنْ شَيْءٍ) بيان لها وقوله تعالى : (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فهو متاعها تتمتعون به مدة حياتكم فيها جواب الشرط ، والأول أوفق بقوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الآخرة (خَيْرٌ) ذاتا لخلوص نفعه (وَأَبْقى) زمانا حيث لا يزول ولا يفنى لأن الظاهر أن (ما) فيه موصولة وإنما لم يؤت بالفاء في خبرها مع أن الموصول المبتدأ إذا وصل بالطرف يتضمن معنى الشرط أيضا لأن مسببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمر معلوم مقرر غني عن الدلالة عليه بحرف موضوع له بخلاف ما عند غيره سبحانه

٤٥

والتعبير عنه بأنه عند الله تعالى دون ما ادخر لذلك ، وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) إما متعلق بأبقى أو اللام لبيان من له هذه النعمة فهو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك للذين آمنوا.

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) لا على غيره تعالى أصلا ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه اجتمع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله تعالى فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت ؛ والموصول في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) مع ما بعد إما عطف على الموصول الأول أو هو مدح مرفوع على الخبرية لمبتدإ محذوف أو منصوب بمقدر كأعني أو أمدح ، والواو اعتراضية كما ذكره الرضي ، وغفل أبو البقاء عن الواو فلم يذكر العطف وذكر بدله البدل ، وكبائر الإثم ما رتب عليه الوعيد أو ما يوجب الحد أو كل ما نهى الله تعالى عنه والفواحش ما فحش وعظم قبحه منها ، وقيل : المراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع واستخرج الشبهات وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية وبقوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ما يتعلق بالقوة الغضبية وهو كما ترى ، والمراد بالإثم الجنس وإلا لقيل الآثام ، و (إِذا) ظرف ليغفرون و (هُمْ) مبتدأ لا تأكيد لضمير غضبوا وجوزه في البحر وجملة يغفرون خبره وتقديمه لافادة الاختصاص لأنه فاعل معنوي ، واختصاصهم باعتبار أنهم أحقاء بذلك دون غيرهم فإن المغفرة حال الغضب عزيزة المثال ، وفي الآية إيماء إلى أنهم يغفرون قبل الاستغفار ، وقيل (هُمْ) مرفوع بفعل يفسره (يَغْفِرُونَ) ولما حذف انفصل الضمير وليس بشيء ، وجعل أبو البقاء (إِذا) شرطية وجملة (هُمْ يَغْفِرُونَ) جوابا لها ، وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم الفاء حينئذ ولا يجوز حذفها إلا في الشعر ، وتقدم لك آنفا ما ينفعك تذكره فتذكر ، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» بالإفراد لإرادة الجنس أو الفرد الكامل منه وهو الشرك ، وروي تفسيره به عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ولا يلزم التكرار لأن المراد الاستمرار والدوام (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) قيل : نزلت في الأنصار دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه فاستجابوا له فأثنى عليهم جلّ وعلا بما أثنى ، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام لبيان شرفه لايمانهم دون تردد وتلعثم ، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة أو المراد بهم أصحاب العقبة (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي ذو شورى ومراجعة في الآراء بينهم بناء على أن الشورى مصدر كالبشرى فلا يصح الإخبار لأن الأمر متشاور فيه لا مشاورة إلا إذا قصد المبالغة ، وأورد أنه يقال من غير تأويل شأني الكرم والأمر هنا بمعنى الشأن. نعم إذا حمل على القضايا المتشاور فيها احتاج إلى التأويل أو قصد المبالغة ، وقيل : إن إضافة المصدر للعموم فلا يصح الإخبار إلا بالتأويل ورد بأن المراد أمرهم فيما يتشاور فيه لا جميع أمورهم وفيه نظر ، وقال الراغب : المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم : شرت العسل وأشرته استخرجته والشورى الأمر الذي يتشاور فيه انتهى ، والمشهور كونه مصدرا ، وجيء بالجملة اسمية مع أن المعطوف عليه جملة فعلية للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمرة قبل الإسلام وبعده ، وفي الآية مدح للتشاور لا سيما على القول بأن فيها الإخبار بالمصدر ، وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور ، وأخرج عبد بن حميد. والبخاري في الأدب. وابن المنذر عن الحسن قال : ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم ثم تلا (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ، وقد كانت الشورى بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب ، وكذا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام ، وكانت بينهم أيضا في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك ، والمراد ما لم يكن لهم فيه نص شرعي وإلا فالشورى لا معنى لها وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عزوجل إلى آراء

٤٦

الرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير ، ويؤيد ما قلنا ما أخرجه الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء قال : اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد ، وينبغي أن يكون المستشار عاقلا كما ينبغي أن يكون عابدا ، فقد أخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا «استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا» الشورى على الوجه الذي ذكرناه من جملة أسباب صلاح الأرض ففي الحديث «إذا كان أمراؤكم خياركم وأمركم شورى فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلائكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان إفسادها للدين والدنيا أكثر من إصلاحها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي في سبيل الخير لأنه مسوق للمدح بمجرد الإنفاق ، ولعل فصله عن قرينه بذكر المشاورة لأن الاستجابة لله تعالى وإقام الصلاة كانا من آثارها ، وقيل : لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون ، ومعنى الاختصاص أنهم الأخصاء بالانتصار وغيرهم يعدو ويتجاوز ، ولا يراد أنهم ينتصرون ولا يغفرون ليتناقض هو والسابق ، فكأنه وصفهم سبحانه بأنهم الأخصاء بالغفران لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول في غيرهم وإنهم الأخصاء بالانتصار على ما جوز لهم إن كافئوا ولا يعتدون كغيرهم فهم محمودون في الحالتين بين حسن وأحسن مخصوصون بذلك من بين الناس ، وقال غير واحد : إن كلّا من الوصفين في محل وهو فيه محمود فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود ولفظ المغفرة مشعر به والانتصار من المخاصم المصر محمود ، ولفظ الانتصار مشعر به ولو أوقعا على عكس ذلك كانا مذمومين وعلى هذا جاء قوله :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

فوضع الندى في موضع السيف بالعلى

مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

وقد يحمد كل ويذم باعتبارات أخر فلا تناقض أيضا سواء اتحد الموصوفان في الجملتين أولا ، وقال بعض المحققين : الأوجه أن لا يحمل الكلام على التخصيص بل على التقوى أي يفعلون المغفرة تارة والانتصار أخرى لا دائما للتناقض وليس بذاك ، وعن النخعي أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق ، وفيه إيماء إلى أن الانتصار من المخاصم المصرّ وإلا فلا إذلال للنفس بالعفو عن العاجز المعترف ، ثم إن جملة (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) من المبتدأ والخبر صلة الموصول و (إِذا) ظرف (يَنْتَصِرُونَ) وجوز كونها شرطية والجملة جواب الشرط وجملة الجواب والشرط هي الصلة. وتعقبه أبو حيان بما مر آنفا ، وجوز أيضا كون (هُمْ) فاعلا لمحذوف وهو كما سمعت في (وَإِذا ما غَضِبُوا) إلخ. وقال الحوفي : يجوز جعل (هُمْ) توكيدا لضمير (أَصابَهُمُ) وفيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل ولعله لا يمتنع ، ومع هذا فالوجه في الإعراب ما أشرنا إليه أولا (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) بيان لما جعل للمنتصر وتسمية الفعلة الثانية وهي الجزاء سيئة قيل للمشاكلة ، وقال جار الله : تسمية كلتا الفعلتين سيئة لأنها تسوء من تنزل به ، وفيه رعاية لحقيقة اللفظ وإشارة إلى أن الانتصار مع كونه محمودا إنما يحمد بشرط رعاية المماثلة وهي عسرة ففي مساقها حث على العفو من طريق الاحتياط ، وقوله تعالى : (فَمَنْ عَفا) أي عن المسيء إليه (وَأَصْلَحَ) ما بينه وبين من يعاد به بالعفو والإغضاء عما صدر منه (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فيجزيه جلّ وعلا أعظم الجزاء ، تصريح بما لوح إليه ذلك من الحث وتنبيه على أنه وإن كان سلوكا لطريق الاحتياط يتضمن مع ذلك إصلاح ذات البين المحمود حالا ومالا ليكون زيادة تحريض عليه ، وإبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه الدال

٤٧

على عظمه زيادة في الترغيب ، وجيء بالفاء ليرفعه عن السابق أي إذا كان سلوك الانتصار غير مأمون العثار فمن عفا وأصلح فهو سالك الطريق المأمون العثار المحمود في الدارين ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) المتجاوزين الحد في الانتقام ، تتميم لذلك المعنى وتصريح بما ضمن من عسر رعاية طريق المماثلة وأنه قلما تخلو عن الاعتداء والتجاوز لا سيما في حال الحرد والتهاب الحمية فيكون دخولا في زمرة من لا يحبه الله تعالى ، ولا حاجة على هذا المعنى إلى جعل (فَمَنْ عَفا) إلخ اعتراضا ، ثم لو كان كذلك بأن يكون هذا متعلقا بجزاء سيئة سيئة مثلها على أنه تعليل لما يفهم منه فالفاء غير مانعة عنه كما توهم ، وأدخل غير واحد المبتدئين بالسيئة في الظالمين (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) بعد ما ظلم بالبناء للمجهول ، وقرئ به فالمصدر مضاف لمفعوله أو هو مصدر المبني للمفعول واللام للقسم ، وجوز أن تكون لام الابتداء جيء بها للتوكيد و (من) شرطية أو موصولة وحمل انتصر على لفظها وحمل (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي للمعاقب ولا للعاتب والعائب على معناها ، والجملة عطف على (فَمَنْ عَفا) وجيء بها للتصريح بأن ما حض عليه إنما حض عليه إرشاد إلى الأصلح في الأغلب لا أن المنتصر عليه سبيل بوجه حالا أو مالا ، ولإيهام الحض خلاف ما تضمنته من نفس السبيل على العموم صدرت باللام ، وقوله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) تعيين لمن عليه السبيل بعد نفي ذلك عن المنتصرين ، والمراد بالذين يظلمون الناس من يبتدءونهم بالظلم أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حد لهم ، وفسر ذلك بعضهم بالذين يفعلون بهم ما لا يستحقونه وهو أعم.

(وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يتكبرون فيها تجبرا وفسادا (أُولئِكَ) الموصوفون بالظلم والبغي بغير الحق (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بسبب ظلمهم وبغيهم ، والمراد بهؤلاء الظالمين الباغين الكفرة.

وقيل : من يعمهم وغيرهم ، وقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه ، وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتماما به وزيادة ترغيب فيه ، فالصبر هنا هو الإصلاح المؤخر فيما تقدم قدم هاهنا ، وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولي العزم وإشارة إلى أن الإصلاح بالعفو والإغضاء إنما يحمد إذا كان عن قدرة لا عن عجز ، و (ذلِكَ) إشارة إلى المذكور من الصبر والمغفرة ، و (عَزْمِ الْأُمُورِ) الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة ، وجوز في (من) أن تكون موصولة وأن تكون شرطية ، وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون قسمية واكتفى بجواب القسم عن جواب الشرط ، وإذا جعلت اللام للابتداء و (من) شرطية فجملة (إِنَّ ذلِكَ) جواب الشرط وحذفت الفاء منها ، ومن يخص الحذف بالشعر لا يجوز هذا الوجه ، وذكر جماعة أن في الكلام حذفا أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور ، وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط و (ذلِكَ) لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة ، وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو «ذلك» رابط والإشارة لمن بتقدير من ذوي عزم الأمور تكلف.

هذا واختار العلامة الطيبي أن تسمية الفعلة الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين دون المشاكلة.

وزعم أن المجازى مسيء وبني على ذلك ربط جملة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) بما قبل فقال : يمكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) والمسيء في هذا المقام مفسدا لما في البين بدليل (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) كأنه قيل: من أخرج نفسه بالعفو والإصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد كان مقسطا إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالما

٤٨

نفسه (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) فالآية واردة إرشادا للمظلوم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين.

وقال : إن قوله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) إلخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به (يَظْلِمُونَ النَّاسَ) وفسره بقوله تعالى : (عَذابٌ أَلِيمٌ) وكذا قوله سبحانه : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) إلخ تعليم لهم أيضا طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخص له ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان انتهى ، ولا يخفى ما فيه.

وفي الكشف أن جعل ما ذكر خطابا للولاة والحاكم يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه ، وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ظلمهم ، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك؟ قال : من إذا قدر غفر» وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا : ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال : العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب».

وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله : فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال : إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله : وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال عليه الصلاة والسلام : «ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى إلّا أعز الله عزوجل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة» واستشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيهه رضي الله تعالى عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر ، وكذا لا يعد لو ما كما لا يخفى.

ومن الناس من خص السبيل في الآية بالإثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلا ، وقيل : هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يأذن له به قالا أو حالا بل لاح عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيئات المقربين.

وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم ، أخرج النسائي ، وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخلت علي زينب رضي الله تعالى عنها وعندي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تنته فقال لي : سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهلل سرورا ، ولعله كان هذا منه عليه الصلاة والسلام تعزيرا لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقا في الردود أي المصلحة في ذلك وقد ذكر فقهاؤنا أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل.

٤٩

وظاهر قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) يقتضي رعاية المماثلة مطلقا ، وفي تفسير الإمام أن الآية تقتضي وجوب رعاية المماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لو حملت المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الإجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص.

والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صور كثيرة تارة بناء على نص آخر أخص وأخرى بناء على القياس ، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب.

وعن مجاهد والسدي إذا قال له : أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به ، ونقل أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغى مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه ، وفي مجمع الفتاوى جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للإذن به (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) والعفو أفضل (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وقال ابن الهمام : الأولى أن الإنسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا : لو قال له : يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال : بل أنت لا بأس.

وفي التنوير وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافئا ، وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص ، وظاهر كلام العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم الظالم التعزير بضرب أو حبس أو نحوه ، وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الإبراء العفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضا حقا لله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل إلى آخر ما قالوا ، ويترجح عندي إن الإمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سببا للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي ما له من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله تعالى إياه فضمير (بَعْدِهِ) لله تعالى بتقدير مضاف فيه ، وقيل للخذلان المفهوم من (يُضْلِلِ) والجملة عطف على قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وكني بمن عن الظالم الباغي تسجيلا بأنه ضال مخذول أو أتي به مبهما ليشمله شمولا أوليا فقوله سبحانه : (وَلَمَنْ صَبَرَ) إلخ اعتراض لما أشرنا إليه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي حين يرونه ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ) أي رجعة إلى الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) حتى نؤمن ونعمل صالحا ، وجوز أن يكون المعنى هل إلى رد للعذاب ومنع من سبيل ، وتنكير (مَرَدٍّ) وكذا (سَبِيلٍ) للمبالغة والجملة حال وقيل مفعول ثان لترى.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار المدلول عليها بالعذاب ، والجملة كالسابقة (خاشِعِينَ) متضائلين متقاصرين (مِنَ الذُّلِ) أي بسبب الذل لعظم ما لحقهم فمن سببية متعلقة بخاشعين وهو وكذا ما بعده حال.

وجوز أن يعلق الجار بقوله تعالى : (يَنْظُرُونَ) ويوقف على (خاشِعِينَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) والأول أظهر ، والطرف مصدر طرف إذا حرك عينه ومنه طرفة العين ، والمراد بالخفي الضعيف ، ومن ابتدائية أي يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها كما يفعل في نظره إلى المحاب ، ويجوز أن تكون من بمعنى الباء.

وعن ابن عباس (خَفِيٍ) ذليل فالطرف عليه جفن العين ، وقيل : يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم وذاك

٥٠

نظر من طرف خفي ، وهو تأويل متكلف ، والجملتان السابقتان أعني (تَرَى الظَّالِمِينَ) و (تَراهُمْ يُعْرَضُونَ) معطوفان على (وَمَنْ يُضْلِلِ) وأصل الكلام والظالمون لما رأوا العذاب يقولون وهم يعرضون عليها خاشعين ، ثم قيل (وَتَرَى وَتَراهُمْ) خطابا لكل من يتأتّى منه الرؤية ويعتبر بحالهم زيادة للتهويل كأنه يعجبهم مما هم فيه ليعتبروا ويبتهجوا ، ومنه يظهر أنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ) أي إنهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) بالتعريض للعذاب الخالد أو على ما مر في الزمر ، وعدل عن أنهم إلى الذين تسجيلا عليهم بأكمل الخسران إذ المراد أن الكاملين في صفة الخسران المتصفين بحقيقته (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلق بخسروا والقول في الدنيا ، وجوز أن يكون متعلقا بقال ، والماضي لتحقق الوقوع أي ويقولون إذا رأوهم على تلك الصفة. وفي الكشف الظاهر أنه قول يوم القيامة كالخسران من باب التنازع بين الفعلين ، وآثر صاحب الكشاف على ما يؤذن به صنيعه أن يتعلق بالخسران وحده لأن الأصل في (قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ) إلخ هم الخاسرون كما أن الأصل في (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) والظالمون لما رأوا ثم قيل (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) على نحو ما قيل (وَتَرَى) إلخ وكما أن الرؤية رؤية الدنيا استحضارا لعذابهم الكائن في الآخرة تهويلا كذلك القول كأنهم جعلهم حضورا يعاين عذابهم ويسمع ما يقول المؤمنون فيهم ورد على الخطاب في الرؤية والغيبة في القول لأن معاينة العذاب لما كانت أدخل في التهويل جعل العذاب قريبا مشاهدا وخصوا بالخطاب على سبيل استحضار الحال لمزيد الابتهاج ولم يكن في الخسران ذلك المعنى لأنه أمر معقول والمحسوسات أقوى لا سيما إذا كن موجبات الخسران فجيء به على الأصل من الغيبة ، وعدله من المضارع إلى الماضي لأنه قول صادر عن مقتضى الحال قد حق ووقع تفوهوا به أو لا وأسند إلى المؤمنين دلالة على الابتهاج المذكور واعتباطهم بنجاتهم عما هم فيه وإلا فالقول والرؤية لكل من يتأتى منه القول والرؤية ، وجعله حالا كما فعل الطيبي على معنى وتراهم وقد صدق فيهم قول المؤمنين في الدنيا إن الخاسرين إلخ من أسلوب قوله :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

وفيه أنه إنما يرتكب عند تعذر الحقيقة وقد أمكن الحمل على التنازع فلا تعذر.

ثم إنه على التقدير لا يظهر أنه قول فيها إلا بدليل خارج ، وهذا بخلاف ما ذكره جار الله في قوله تعالى : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) [ق : ٢٨] من تقدير وقد صح عندكم أني قدمت لأن في اللفظ إشعارا به بينا انتهى ، ولعمري لقد أبعد قدس‌سره المغزى في هذه الآيات العظام وأتى بما تستحسنه النظار من ذي الإفهام فليفهم ، وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) إما من تمام كلام المؤمنين ويجري فيه ما سمعت من الأصل ونكتة العدول أو استئناف إخبار منه تعالى تصديقا لذلك (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ) برفع العذاب عنهم (مِنْ دُونِ اللهِ) حسبما يزعمون (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) إلى الهدى أو النجاة ، وقيل : المراد ما له من حجة (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) إذا دعاكم لما به النجاة على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) الجار والمجرور إما متعلق بمرد ويعامل اسم لا الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه كما نص عليه ابن مالك في التسهيل ؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «لا مانع لما أعطيت» وقوله تعالى : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف : ٩٢] أي لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به.

ومن لم يرض بذلك قال : هو خبر لمبتدإ محذوف أي ذلك من الله تعالى ، والجملة استئناف في جواب سؤال مقدر تقديره ممن ذلك؟ أو حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع خبر لا أو متعلق بالنفي أو بما دل عليه كما قيل في قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] وقيل : هو متعلق بيأتي ، وتعقب بأنه خلاف المتبادر من

٥١

اللفظ والمعنى ، وقيل : هو مع ذلك قليل الفائدة ، وجوز كونه صفة ليوم ، وتعقب بأنه ركيك معنى ، والظاهر أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة لا يوم ورود الموت كما قيل (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي ملاذ تلتجئون إليه فتخلصون من العذاب على أن (مَلْجَإٍ) اسم مكان ، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) إنكار على أنه مصدر أنكر على غير القياس ونفي ذلك مع قوله تعالى حكاية عنهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] تنزيلا لما يقع من إنكارهم منزلة العدم لعدم نفعه وقيام الحجة وشهادة الجوارح عليهم أو يقال إن الأمرين باعتبار تعدد الأحوال والمواقف ، وجوز أن يكون (نَكِيرٍ) اسم فاعل للمبالغة أي ما لكم منكر لأحوالكم غير مميز لها ليرحمكم وهو كما ترى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فلا تهتم بهم فما أرسلناك رقيبا ومحاسبا عليهم (إِنْ عَلَيْكَ) أي ما عليك (إِلَّا الْبَلاغُ) لا الحفظ وقد فعلت.

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أي نعمة من الصحة والغنى والأمن ونحوها (فَرِحَ بِها) أريد بالإنسان الجنس الشامل للجميع وهو حينئذ بمعنى الأناسي أو الناس ولذا جمع ضميره في قوله سبحانه : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) وليست للاستغراق والجمعية لا تتوقف عليه فكأنه قيل : وإن تصب الناس أو الأناسي (سَيِّئَةٌ) بلاء من مرض وفقر وخوف وغيرها (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما صدر منهم من السيئات (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) بليغ الكفر ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق لها.

وأل فيه أيضا للجنس ، وقيل : هي فيهما للعهد على أن المراد المجرمون ، وقيل : هي في الأول للجنس وفي الثاني للعهد ، وقال الزمخشري : أراد بالإنسان الجمع لا الواحد لمكان ضمير الجمع ولم يرد إلا المجرمين لأن إصابة السيئة بما قدمت أيديهم إنما يستقيم فيهم ، ثم قال : ولم يقل فإنه لكفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال سبحانه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : ٣٤]. (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات : ٦] ففهم منه العلامة الطيبي أنها في الأول للعهد وأن المراد الكفار المخاطبون في قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) لترتيب (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عليه ، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بتصميمهم على الكفران والإيذان بأنهم لا يرعوون مما هم فيه وأنها في الثاني للجنس ليكون المعنى ليس ببدع من هذا الإنسان المعهود الإصرار لأن هذا الجنس موسوم بكفران النعم فيكون ذم المطلق دليلا على ذم المقيد ، وفي الكشف أنه أراد أن الإنسان أي الأول للجنس الصالح للكل وللبعض وإذا قام دليل على إرادة البعض تعين وقد قام لما سلف أن الإصابة في غير المجرمين للعوض الموفى ولم يذهب إلى أن اللام للعهد وجعل قوله تعالى : (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) للجنس ليكون تعليلا للمقيد بطريق الأولى ومطابقا لما جاء في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ؛ ولا بأس بأن يجعل إشارة إلى السالف فإنه للجنس أيضا ، ويكون في وضع المظهر موضع المضمر الفائدة المذكورة مرارا بل هو أدل على القانون الممهد في الأصول وبكون كليهما للجنس أقول ؛ وإسناد الكفران مع أنه صفة الكفرة إلى الجنس لغلبتهم فهو مجاز عقلي حيث أسند إلى الجنس حال أغلب أفراده لملابسته الأغلبية ، ويجوز أن يعتبر أغلب الأفراد عين الجنس لغلبتهم على غيرهم فيكون المجاز لغويا ، وكذا يقال في إسناد الفرح إذا كان بمعنى البطر فإنه أيضا من صفات الكفرة بل إن كان أيضا بمعناه المعروف وهو انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية فإنه وإن لم يكن من خواص الكفار بل يكون في المؤمنين أيضا اضطرارا أو شكرا إلا أنه لا يعم جميع أفراد الجنس وإن قلت بعمومه لم تحتج إلى ذلك كما إذا فسرته بالبطر على إرادة العهد في الإنسان ، وإصابة السيئة بالذنوب غير عامة للأفراد أيضا فحال إسنادها يعلم مما

٥٢

ذكرنا ؛ وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة بلفظ الماضي إلى نون العظمة للتنبيه على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مراد بالذات من الجواد المطلق سبحانه وتعالى كما أن تصدير الثانية بإن وإسناد الإصابة بلفظ المضارع إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات والقصد الأولى ، وإقامة علة الجزاء مقام الجزاء مبالغة في ذمهم.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا لغيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من غير وجوب عليه سبحانه (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) استئناف بياني أو بيان ليخلق أو بدل منه بدل البعض على ما اختاره القاضي ، ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها أتبع جل وعلا ذلك أن له سبحانه الملك وأنه تعالى يقسم النعمة والبلاء كما شاء بحكمته تعالى البالغة لا كما شاء الإنسان بهواه ، وفيه إشارة إلى أن إذاقة الرحمة ليست للفرح والبطر بل للشكر لموليها وإصابة المحنة ليست للكفران والجزع بل للرجوع إلى مبليها ؛ وتأكيد لإنكار كفرانهم من وجهين : الأول أن الملك ملكه سبحانه من غير منازع ومشارك يتصرف فيه كيف يشاء فليس على من هو أحقر جزء من ملكه تعالى أن يعترض ويريد أن يجري التدبير حسب هواه الفاسد. الثاني أن هذا الملك الواسع لذلك العزيز الحكيم جلّ جلاله الذي من شأنه أن يخلق ما يشاء فأنى يجوز أن يكون تصرفه إلا على وجه لا يتصور أكمل منه ولا أوفق لمقتضى الحكمة والصواب ، وعند ذلك لا يبقى إلا التسليم والشغل بتعظيم المنعم المبلي عن الكفران والإعجاب ، وناسب هذا المساق أن يدل في البيان من أول الأمر على أنه تعالى فعل لمحض مشيئته سبحانه لا مدخل لمشيئة العبد فيه فلذا قدمت الإناث وأخرت الذكور كأنه قيل : يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسي ما لا يهواه ويهب لمن يشاء منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الإناث بلاء (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل : ٥٨] ولو قدم المؤخر لا ختل النظم ، وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الإناث ، وفي تعريف الذكور مع ما فيه من الاستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم ، ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي الأولاد (ذُكْراناً وَإِناثاً) أي يخلق ما يهبهم زوجا لأن التزويج جعل الشيء زوجا فذكرانا وإناثا حال من الضمير ، والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقا ووجودا فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك ، وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معا لا أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والإناث على حياله زوجا ولو لا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله ، ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة ، وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له ، ثم قيل : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر ، وكأنه جيء بأو في (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) دون الواو كما في سابقه من حيث إنه قسيم الانفراد المشترك بين الأولين ولم يؤت في الأخير لاتضاحه بأنه قسيم الهبة المشتركة بين الأقسام المتقدمة فتأمل ، وقيل : قدم الإناث توصية برعايتهن لضعفهن لا سيما وكانوا قريبي العهد بالوأد ، وفي الحديث «من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار» وقيل : قدمت لأنها أكثر لتكثير النسل فهي من هذا الوجه أنسب بالخلق المراد بيانه ، وقيل : لتطييب قلوب آبائهن لما في تقديمهن من التشريف لأنهن سبب لتكثير مخلوقاته تعالى ، وقال الثعالبي : إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن حتى أن أول مولود ذكر يكون مشئوما فيقولون له بكر بكرين ؛ وعن قتادة من يمن المرأة تبكيرها بأنثى ، وقيل : قدمت وأخر الذكور معرفا للمحافظة على الفواصل ، والمناسب

٥٣

للسياق ما علمت سابقا ، وقال مجاهد في (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) التزويج أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية ، وقال محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنهما : هو أن تلد توأما غلاما وجارية. وزعم بعضهم أن الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وهب سبحانه لشعيب ولوط عليهم‌السلام إناثا ولإبراهيم عليه‌السلام ذكورا ولرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكورا وإناثا وجعل عيسى ويحيى عليهما‌السلام عقيمين ا ه (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) مبالغ جل شأنه في العلم والقدرة فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار (وَما كانَ لِبَشَرٍ) أي ما صح لفرد من أفراد البشر.

(أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام : الأول الوحي وهو المراد بقوله تعالى : (إِلَّا وَحْياً) وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه‌السلام إلقاء في المنام وليس إلهاما وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روي عن مجاهد وليس بإلهام ؛ والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا ، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه ، وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص :

وأوحى إليّ الله أن قد تأمروا

بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي

فإنه أراد قذف في قلبي. والثاني إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه‌السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه. والثالث إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم‌السلام ، وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عزوجل : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) أي ملكا (فَيُوحِيَ) ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري (بِإِذْنِهِ) أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه (ما يَشاءُ) أن يوحيه ، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول ، وبنى المعتزلي على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر ، وقال بعض : المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم ، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء ، وقال القاضي إن قوله تعالى (إِلَّا وَحْياً) معناه إلا كلاما خفيا يدرك بسرعة وليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روي في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه‌السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها ، وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال : وأما نحن فنقول والله تعالى أعلم : إن قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ) على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم‌السلام ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى. ثم إنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحيا لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك : ما كان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد ، نعم يحتمل أن يكون زيد داخلا فيهم على نحو (مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨] وهذا يضر القاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلى المراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة ، وتقدير إلا وحيا من غير حجاب أو من وراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه : (أَوْ يُرْسِلَ) وهو

٥٤

عطف على قوله تعالى : (إِلَّا وَحْياً) مع كونه خلاف الظاهر.

وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلى إلى ما دونه ، ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلا عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاء به عزوجل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كونا وجوديا ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظى منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه من سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود ، والمقصود أن الذي يصح ذوقا ونقلا وعقلا كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها ، وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليما ، وأما الثالث فلما كان تكليما مجازيا أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياءعليهم‌السلام انتهى.

وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايرا لما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف بأو بل بالواو كما لا يخفى ، ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحيا غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحيا مطلقا فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده : فيوحي بإذنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه ، نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما كان بالكلام فتدبر ، والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة ، أخرج البخاري ومسلم والترمذي عنها أنها قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣] (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه سبحانه ليلة الإسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيها التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها ، والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كلمه عليه الصلاة والسلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر وابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك ، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف الرؤية إلا اعتمادا على الاستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته ، واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام ، أما عدم تمامية احتجاجها بآية لا تدركه الأبصار فمشهور ، وأما عدم تمامية الاحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن صاحب الكشف قدس‌سره ، وقال الخفاجي بعد تقرير الاحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة : فإذا لم يره جلّ وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عزوجل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلا لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل ، وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو نقول يجوز أن تقع الرؤية حال التكليم وحيا إذ الوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى ، ولا يخفى عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام تلك الليلة لا يعد تكليما في الدنيا على ما ذكره الشرنبلالي في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام صاحب الكشف منع ظاهر للشرطية في وجه الاستدلال الذي قرره ، وبعضهم أجاب بأن العالم مخصص بغير ما دليل وفي البحر قيل «قالت قريش : ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم ينظر

٥٥

موسى عليه‌السلام إلى الله عزوجل فنزلت (وَما كانَ لِبَشَرٍ) الآية» وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضا كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه‌السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فإن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم ، وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله صاحب الكشف قدس‌سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس بمتيقن الثبوت ، ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالإلقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم‌السلام من يخط له في الأرض ، ومعناه اللغوي يشمل ذلك ، فقد قال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني : الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإلهام والإشارة والكتب فهو وحي ، وقال الراغب : أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الزمر والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة ، وقد حمل على ذلك قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً) [مريم : ١١] فقد قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضا وحمل عليه قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية ، و (وَحْياً) على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالا ، و (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى : (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٩١] والتقدير وما صح أن يكلم أحدا في حال من الأحوال إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا. وتعقبه أبو حيان فقال : وقوع المصدر حالا لا ينقاس فلا يجوز جاء زيد بكاء تريد باكيا ، وقاس منه المبرد ما كان نوعا للفعل نحو جاء زيد مشيا أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكا الواقع موقع ضاحكا.

وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال : يكتفى بقياس المبرد ، وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالا ، وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضا ألا تراهم فسروا (أَنْ يُفْتَرى) بمفترى ، وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه ، وعلى تسليم الاطراد فالمعرفة قد تكون حالا لكونها في معنى النكرة كوحدة ، والاقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا ، واختار غير واحد أن وحيا بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير إلّا كلام وحي و (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) صفة كلام أو سماع محذوف وصفة المصدر تسد مسده والإرسال نوع من الكلام أيضا بحسب المآل والاستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر ، وقال الزجاج : قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) بالنصب فقال : هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى : أن يكلمه الله لما يلزم منه أن يقال : ما كان لبشر أن يرسل الله رسولا وذلك غير جائز ، والمعنى ما كان لبشر (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) إلا بأن يوحى أو أن يرسل ، وعليه أن يقدر في قوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع. وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير. وقرأ ابن أبي عبلة «أو من وراء حجب» بالجمع. وقرأ نافع وأهل المدينة «أو يرسل رسولا فيوحي» برفع الفعلين ووجهوا ذلك بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على (وَحْياً) أو على ما يتعلق به (مِنْ وَراءِ) بناء على أن تقديره أو يسمع من وراء حجاب ، وقال العلامة الثاني : إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية على الحال المفردة ، وأما إضمار المبتدأ فإن حمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو ، وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر ما يعطف عليه سوى (ما كانَ لِبَشَرٍ) إلخ وليس بحسن الانتظام. وتعقب بأنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناء على أن الجملة الاسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما

٥٦

يناسب حال إرسال الرسول ، أو يقال : لا نسلم أن العطف على (ما كانَ لِبَشَرٍ) ليس بحسن الانتظام ، وفيه دغدغة لا تخفى ، وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلانا فراسله حنث لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام ، ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي.

(إِنَّهُ عَلِيٌ) متعال عن صفات المخلوقين (حَكِيمٌ) يجري سبحانه أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاما وإما خطابا أو إما عيانا وإما خطابا من وراء حجاب على ما يقتضيه الاختلاف السابق في تفسير الآية (وَكَذلِكَ) أي ومثل هذا الإيحاء البديع على أن الإشارة لما بعد (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وهو ما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية ، وقيل : أي ومثل الإيحاء المشهور لغيرك أوحينا إليك ، وقيل : أي ومثل ذلك الإيحاء المفصل أوحينا إليك إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث سواء فسر الوحي بالإلقاء أم فسر بالكلام الشفاهي ، وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام قد ألقي إليه في المنام كما ألقي إلى إبراهيم عليه‌السلام وألقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام.

ففي الكبريت الأحمر للشعراني نقلا عن الباب الثاني من الفتوحات المكية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطي القرآن مجملا قبل جبريل عليه‌السلام من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عباس تفسير الروح بالنبوة.

وقال الربيع : هو جبريل عليه‌السلام ، وعليه فأوحينا مضمن معنى أرسلنا ، والمعنى أرسلناه بالوحي إليك لأنه لا يقال : أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يصعد إلى السماء ، وهذا القول في غاية الغرابة ولعله لا يصح عن هذين الإمامين ، وتنوين (رُوحاً) للتعظيم أي روحا عظيما (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) الظاهر أن ما الأولى نافية والثانية استفهامية في محل رفع على الابتداء و (الْكِتابُ) خبر ، والجملة في موضع نصب بتدري وجملة (ما كُنْتَ) إلخ حالية من ضمير (أَوْحَيْنا) أو هي مستأنفة والمضي بالنسبة إلى زمان الوحي.

واستشكلت الآية بأن ظاهرها يستدعي عدم الاتصاف بالإيمان قبل الوحي ولا يصح ذلك لأن الأنبياء عليهم‌السلام جميعا قبل البعثة مؤمنون لعصمتهم عن الكفر بإجماع من يعتد به ، وأجيب بعدة أجوبة ، الأول أن الإيمان هنا ليس المراد به التصديق المجرد بل مجموع التصديق والإقرار والإعمال فإنه كما يطلق على ذلك يطلق على هذا شرعا ، ومنه قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] والأعمال لا سبيل إلى درايتها من غير سمع فهو مركب والمركب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه فلا يلزم من انتفاء الإيمان المركب بانتفاء الأعمال انتفاء الإيمان بالمعنى الآخر أعني التصديق وهو الذي أجمع العلماء على اتصاف الأنبياء عليهم‌السلام به قبل البعثة ، ولذا عبر بتدري دون أن يقال : لم تكن مؤمنا وهو جواب حسن ولا يلزمه نفي الإيمان عمن لا يعمل الطاعات ليكون القول به اعتزالا كما لا يخفى.

الثاني أن الإيمان إنما يعني به التصديق بالله تعالى وبرسوله عليه الصلاة والسلام دون التصديق بالله عزوجل ودون ما يدخل فيه الأعمال والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطب بالإيمان برسالة نفسه كما أن أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبون بذلك ، ولا شك أنه قبل الوحي لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أنه رسول الله وما علم ذلك إلا بالوحي فإذا كان الإيمان هو التصديق بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحي بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة المجمع

٥٧

على اتصاف الأنبياء عليهم‌السلام به قبل البعثة استقام نفي الإيمان قبل الوحي وإلى هذا ذهب ابن المنير. الثالث أن المراد شرائع الإيمان ومعالمه مما لا طريق إليه إلا السمع وإليه ذهب محيي السنة البغوي وقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قبل الوحي على دين إبراهيم عليه‌السلام ولم تتبين له عليه الصلاة والسلام شرائع دينه ، ولا يخفى أنه إذا لم يعتبر كون الكلام على حذف مضاف يلزمه إطلاق الإيمان على الأعمال وحدها وهو خلاف المعروف. الرابع أن الكلام على تقدير مضاف فقيل التقدير دعوة الإيمان أي ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان وإليه يشير كلام أبي العالية.

وقال الحسين بن الفضل : أي أهل الإيمان أي لا تدري من الذي يؤمن ، وأنت تدري أنه لا يرتضي هذا إلا من لا يدري. الخامس المراد نفي دراية المجموع أي ما كنت تدري قبل الوحي مجموع الكتاب والإيمان فلا ينافي كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدري الإيمان وحده ويأباه إعادة (لَا) السادس أن المراد ما كنت تدري ذلك إذ كنت في المهد وإليه ذهب علي بن عيسى وهو خلاف الظاهر ، والظاهر أن المراد استمرار النفي إلى زمن الوحي ، وظاهر كلام الكشف يميل إلى اعتبار نحو ذلك القيد قال : لعل الأشبه أن الإيمان على ظاهره والآية واردة في معرض الامتنان والإيحاء يشمل الإلقاء في الروع وإرسال الرسول فالإيمان عرفه بالأول والكتاب بالثاني على أن الآية تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفهما بعد أن لم يكن عارفا وهو كذلك أما أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي فلا فجاز أن يعرفهما به وجاز أن يعرف واحدا منهما معينا به. وقد دل الدليل على أن المعرف به هو الكتاب والإيمان بعد العقل وقبل الوحي ، والتمسك به على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن متعبدا بشرع من قبله ضعيف لأن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد بل يلزمه سقوط الإثم إن لم يكن تقصيرا انتهى.

وأنت تعلم أن المتبادر أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي ، وأما قوله قدس‌سره في تضعيف التمسك بذلك على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن متعبدا بشرع من قبله إن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد فقد قيل عليه : إنه ساقط لأنه عليه الصلاة والسلام إذا لم يدر شرعا فكيف يتعبد به ، وقد يجاب بأن مراد المدقق أن الدراية المنفية الدراية بمعنى العلم الجازم الثابت المطابق للواقع وعدمها لا يلزمه ، عدم التعبد إذ يكفي في التعبد بشرع من قبله عليه الصلاة والسلام الظن الراجح ثبوته فلعله كان حاصلا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومثل هذا الظن يكفي للمتعبدين اليوم بشرع نبينا عليه الصلاة والسلام فإن أكثر الفروع ظنية ، ومن يتتبع الأخبار يعلم أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إبراهيم عليه‌السلام من الحج والختان وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر وغير ذلك وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أحرص الناس على اتباع دين إبراهيم عليه‌السلام. وفي الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أي قبل البعثة يتحنث بغار حراء ، وفسر التحنث بالتحنف أي اتباع الحنيفية وهي دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وفي رواية ابن هشام في السير يتحنف بالفاء بدل الثاء ، نعم فسر أيضا بالتعبد كما في صحيح البخاري وباتقاء الحنث أي الإثم كالتحرج والتأثم وكل ذلك مما ذكره الحافظ القسطلاني في شرح الصحيح.

ثم إن الظاهر أن من قال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متعبدا بشرع من قبله ليس مراده أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بجميع شرع من قبله بل بما ترجح عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبوته. والذي ينبغي أن يرجح كون ذلك من شرع إبراهيم عليه‌السلام لأنه من ذريته عليهما الصلاة والسلام وقد كلفت العرب بدينه.

وقال بعضهم : إن عبادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم التفكر والاعتبار ، ولعله أيضا مما ترجح عنده عليه الصلاة والسلام كونه من شريعته عليه‌السلام وربما يقال : بما علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا على ذلك الوجه من شرع من قبله أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل موحى إليه وأنه

٥٨

عليه الصلاة والسلام متعبد بما يوحى إليه إلا أن الوحي السابق على البعثة كان إلقاء ونفثا في الروع وما عمل بما كان من شرائع أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا بواسطة ذلك الإلقاء وإذا كان بعض إخوانه من الأنبياء عليهم‌السلام قد أوتي الحكم صبيا ابن سنتين أو ثلاث فهو عليه الصلاة والسلام أولى بأن يوحى إليه ذلك النوع من الإيحاء صبيا أيضا. ومن علم مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق بأنه الحبيب الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين لم يستبعد ذلك فتأمل.

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ) أي الروح الذي أوحيناه إليك ، وقال ابن عطية : الضمير للكتاب ، وقيل : للإيمان ورجح بالقرب ، وقيل : للكتاب والإيمان ووحد لأن مقصدهما واحد فهو نظير (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢].

(نُوراً) عظيما (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ) هدايته (مِنْ عِبادِنا) وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به والجملة إما مستأنفة أو صفة «نورا» وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) تقرير لهدايته ، وبيان لكيفيتها ، ومفعول (لَتَهْدِي) محذوف ثقة بغاية الظهور أي وإنك لتهدي بذلك النور من تشاء هدايته (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام ؛ وقرأ ابن السميفع «لتهدي» بضم التاء وكسر الدال من أهدى ، وقرأ حوشب «لتهدى» مبنيا للمفعول أي ليهديك الله وقرئ لتدعو (صِراطِ اللهِ) بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل ثم وصفه بقوله تعالى : (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا وتصرفا مما يوجب ذلك أتم إيجاب. (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي أمور من فيهما قاطبة لا إلى غيره تعالى وذلك بارتفاع الوسائط يوم القيامة ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ما لا يخفى ، وصيغة المضارع على ما قررنا على ظاهرها من الاستقبال ، وقال في البحر : المراد بها الاستمرار كما في زيد يعطي أي من شأنه ذلك ، والأول أظهر والله تعالى أعلم.

ومما قاله أرباب الإشارات في بعض الآيات قال سبحانه : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) قيل يشير ذلك إلى إنذار نفسه الشريفة لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول العالمين خلقا ومنه عليه الصلاة والسلام نشأت الأرواح والنفوس ومن هذا كان آدم ومن دونه تحت لوائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أشار إلى ذلك سلطان العاشقين عمر بن الفارض بقوله على لسان الحقيقة المحمدية :

وإني وإن كنت ابن آدم صورة

فلي منه معنى شاهد بأبوتي

وقوله سبحانه : (وَمَنْ حَوْلَهُ) يشير إلى نفوس أهل العالم وقد أنذر صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا حسب استعداده ، وقيل: في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) إنه يشير إلى التنزيه والتشبيه ، وقرر ذلك الشيخ الأكبر قدس‌سره بما يطول (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيح سماوات القلوب وفيها خزائن لطفه تعالى ورحمته عزوجل وأرض النفوس وفيها خزائن قهره سبحانه وعزته جل جلاله فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه كالمعرفة والمحبة والشوق والتوحيد والهيبة والانس والرضا إلى غير ذلك ، وقد يجتمع في القلب خزائن وكل نفس مخزن لنوع من آثار قهره كالنكرة والجحود والإنكار والشرك والنفاق والحرص والكبر والبخل والشره وغير ذلك ، وقد يجتمع في النفس خزائن ، وفائدة الإخبار بأن له سبحانه مقاليد ذلك قطع أفكار العباد عمن سواه سبحانه في جلب ما يريدونه ودفع ما يكرهونه (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يشير إلى مقامي المجذوب والسالك فالمجذوب من الخواص اجتباه ربه سبحانه في الأزل وسلكه في مسلك من يحبهم واصطنعه سبحانه لنفسه جل شأنه وجذبه تعالى عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين فهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، والسالك من العوام سلكه في سلك من يحبونه بالتوفيق للهداية والقيام على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ

٥٩

ما اسْتُجِيبَ لَهُ) يشير إلى الذين يجادلون في معرفة الله تعالى بشبه العقل الذي استجاب له تعالى حين دعاه فوصل إلى الحضرة فهو في كشف وعيان وأولئك من وراء ما يزعمون أنه برهان (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) يشير إلى كفار النفوس فإنهم شرعوا عند استيلائهم للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله تعالى من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) يشير إلى عموم لطفه تعالى وهو أنواع لا تحصى ومراتب لا تستقصى.

وروى السلمي عن سيد الطائفة قدس‌سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذاء ويخرجك من الدنيا بالإيمان ويحرسك من نار لظى ويمكنك حتى تنظر وترى هذا لطف اللطيف بالعبد الضعيف (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وجلاء الروح (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) في الدنيا جنات الوصلة والمعارف وطيب الأنس في الخلوة والآخرة في روضات الجنة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) حسب مراتبهم في القربات والوصلات والمكاشفات ونيل الدرجات وعلى قدر هممهم (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وهم أقاربه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين خلقوا من عنصره الشريف وتحلوا بحلاه المنيف كأئمة أهل البيت ومودتهم يعود نفعها إلى من يودهم لأنها سبب للفيض وهم رضي الله تعالى عنهم أبوابه وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا مدينة العلم وعلي بابها» رمز إلى ذلك فافهم الإشارة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) لمزيد كرمه جل شأنه فمتى وفق عبدا للتوبة قبلها جودا وكرما وعن بعضهم أنه قال لبعض المشايخ : إن تبت فهل يقبلني الله تعالى؟ فقال : إن يقبلك الله تعالى تتب إليه سبحانه فقبول الله تعالى سابق على التوبة (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) إشارة إلى الرؤية فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق وهو عمل العمال والرؤية مما تتعلق بالقديم فلا تقع إلا فضلا ربانيا ، وفي بعض الأخبار أن هذه الزيادة أن يشفعهم في إخوان إخوانهم (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) الاستجابة للعوام بالوفاء بعده تعالى والقيام بحقه سبحانه والرجوع عن مخالفته جل شأنه إلى موافقته عزوجل وللخواص بالاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها ، ولأخص الخواص من أهل المحبة بصدق الطلب بالإعراض عن الدارين والتوجه لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول الوصال (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) قيل فيه إشارة إلى أحوال المشايخ من حيث المريدين فمنهم من يهب الله تعالى له ومنهم من لا تصرف له في غيره بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالأنثى من حيث عدم التصرف ومنهم من يهب سبحانه له من له قدرة التصرف بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالذكر ومنهم من يهب له تعالى هذا وهذا ومنهم من يجعله جل وعلا عقيما لأمر يدله أصلا (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) قال سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره الآية المذكورة اعلم أن المانع من سماع كلام الحق إنما هو البشرية فإذا ارتفع العبد عنها كلمه الله تعالى من حيث كلم سبحانه الأرواح المجردة عن المواد ، والبشر ما سمي بشرا إلا لمباشرته الأمور التي تعوقه عن اللحوق بدرجة فلما لم يلحق كلمه الله تعالى في الأشياء وتجلى سبحانه له فيها بخلاف من لحق كالأنبياء عليهم‌السلام فلا يتجلى الحق سبحانه لغيرهم إلا في حجاب الصور ولو لا هدايته تعالى للعبد ما عرف أنه سبحانه ربه ، واعلم أن الحقيقة تأبى أن يكلم الله تعالى غير نفسه أو يسمع غير نفسه فلا بد إذا خاطب عبدا على قصد إسماعه أن يكون جميع قواه لأنه محال أن يطيق الحادث سماع كلام القديم ولم يكن الحق سبحانه قواه عند النجوى ولذلك خر موسى عليه‌السلام صعقا إذ لم يكن له استعداد يقبل له التجلي اللائق بمقامه وثبت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما لم يكن للجبل درجة المحبة التي

٦٠