التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

(ما يَفْتَحِ اللهُ) و (وَما يُمْسِكْ .. ما) فيهما : شرطية منصوبة ب (يَفْتَحِ) و (يُمْسِكْ) ، وما الشرطية يعمل فيها ما بعدها كالاستفهامية ؛ لأن الشرط والاستفهام لهما صدر الكلام ، وقوله (فَلا مُمْسِكَ فَلا مُرْسِلَ) جواب الشرط.

(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ غَيْرُ) : إما مرفوع لأنه فاعل أو صفة لخالق على الموضع ، وإما مجرور صفة لخالق على اللفظ ، وإما منصوب على الاستثناء. و (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) خبر المبتدأ.

البلاغة :

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) استعارة تمثيلية ، أستعير الفتح لإطلاق النعم والإمساك للمنع.

(يَفْتَحِ) و (يُمْسِكْ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق ، من الفطر بمعنى الشق أي شق العدم بإخراج السماء والأرض (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) إلى الأنبياء ، أي وسائط بين الله وبين أنبيائه ، يبلغونهم رسالاته بالوحي ، والملائكة : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (أُولِي أَجْنِحَةٍ) أصحاب أجنحة ، فمنهم من له جناحان ، ومنهم له ثلاثة ، ومنهم له أربعة ، ينزلون بها من السماء إلى الأرض ، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) معدولة عن اثنين وثلاثة وأربعة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي في خلق الملائكة وغيرها. وهو استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك مقتضى مشيئته ومؤدى حكمته (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فبقدرته يزيد ما يشاء.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) ما يعطي من نعمة حسية أو معنوية ، كرزق ومطر ، وصحة وأمن ، وعلم ونبوة وحكمة ، ونحو ذلك (فَلا مُمْسِكَ لَها) فلا مانع لها (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) يطلقه بعد إمساكه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي الغالب ، يتصرف في ملكه كما يشاء (الْحَكِيمُ) في فعله ، يضع الأمر في موضعه المناسب ، ولا معقب لحكمه ، وكل ما يفعله فهو لحكمة بالغة.

(اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تذكروا نعمه ، واحفظوها بمعرفة حقها ، والاعتراف بها ، وطاعة المنعم بها ، ومن النعم التي كانت على أهل مكة : إسكانهم الحرم ، ومنع الغارات عنهم (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر وغيره من فائدة الكواكب (وَالْأَرْضِ) بالنبات وغيره من المعادن ، والاستفهام في

٢٢١

قوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ يَرْزُقُكُمْ ...) للتقرير ، أي لا خالق رازق غيره (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تصرفون عن توحيد الخالق ، مع إقراركم بأنه الخالق الرازق.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا محمد في دعوتك إلى التوحيد والبعث والحساب والعقاب (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) في ذلك ، فاصبر كما صبروا. وفي هذا دعوة له للتأسي بمن قبله من الأنبياء ، وتسلية عن تكذيب كفار العرب له (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي المصير النهائي المحتوم إلى الله ، فيجازي كلا بما يستحقه ، يجازي المكذبين ، وينصر المرسلين.

التفسير والبيان :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لله الشكر الخالص على نعمه وقدرته ، فإنه خلق السموات والأرض وأبدعهما ، لا على مثال سابق ، وأحكم نظامهما. فموضوع الآية : أن الله تعالى يحمد نفسه على عظيم قدرته وعلمه وحكمته التي يشهد عليها ابتداء خلق السموات والأرض من العدم ، واختراعهما على غير مثال ، قال سفيان الثوري بسنده عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : «كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما لصاحبه : هذه بئري وأنا فطرتها» أي بدأتها.

والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم ، فهو قادر على الإعادة.

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي إنه تعالى جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغ رسالاته وغير ذلك ، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وهم ذوو أجنحة متعددة ، بعضهم له جناحان ، وبعضهم له ثلاثة ، وبعضهم له أربعة ، وبعضهم له أكثر من ذلك ، ينزلون بها من السماء إلى الأرض ، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. جاء في الحديث الصحيح عن مسلم عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل عليه‌السلام ، وله ستّ مائة جناح ، بين كل جناحين ، كما بين المشرق والمغرب». ولهذا قال جلّ وعلا :

٢٢٢

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يزيد في خلق الملائكة أجنحة أخرى ما يشاء ، ويزيد في خلق غيرهم ما يشاء ، من ملاحة العين ، وحسن الأنف ، وحلاوة الفم ، وجمال الصوت ، إن الله كامل القدرة في خلق الزيادة المادية الحسية والمعنوية ، فلا يعجز عن شيء ، وبقدرته يزيد مما يشاء.

قال الزهري وابن جريح في قوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : يعني حسن الصوت (١).

وبعد بيان كمال القدرة بيّن الله تعالى أنه نافذ الإرادة والمشيئة والأمر ، فقال :

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ما يعطي الله تعالى من نعمة حسيّة أو معنوية من رزق ومطر ، أو صحة وأمن ، أو علم ونبوة وحكمة ، فلا مانع له ، وما يمنع من ذلك فلا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه ، بيده الخير كله ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، روى الإمام أحمد والشيخان عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا انصرف من الصلاة ، قال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : «سمع الله لمن حمده ، اللهم ربّنا لك الحمد ملء السّماء والأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، اللهم أهل الثناء والمجد ، أحق

__________________

(١) رواه عن الزّهري البخاري في الأدب وابن أبي حاتم في تفسيره.

٢٢٣

ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».

ونظير الآية قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ، فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [الأنعام ٦ / ١٧].

وفي موطأ مالك : بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح ، وقد مطر الناس : مطرنا بنوء الفتح ، ثم يتلو هذه الآية : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ، فَلا مُمْسِكَ لَها).

وبعد بيان كونه تعالى مصدر الخلق والرزق والنعم ، أمر بتذكر نعمه والإقرار بالتوحيد فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ، اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي يا أيها الناس قاطبة ، تذكروا نعم الله عليكم ، وارعوها ، واحفظوها بمعرفة حقوقها والاعتراف بها ، وأفردوا موجدها بالعبادة والطاعة ، فهو وحده رازقكم من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك ، وأعلنوا توحيد الله وأنه لا إله إلا هو ، وإذا أقررتم بذلك ، فكيف بعد هذا البيان ووضوح البرهان تصرفون عن الحق : وهو توحيد الله وشكره ، وتعبدون بعد هذا الأنداد والأوثان؟!

وبعد تقرير الأصل الأول وهو التوحيد ، قرر الله تعالى الأصل الثاني وهو الرسالة ، فقال مسلّيا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيب قومه :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون ، ويعارضونك فيما جئت به من التوحيد ، بعد إثباته بالأدلة والبراهين ، فتأسّ بمن سلف قبلك من الرّسل ، فإنهم أيضا جاؤوا قومهم بالبيّنات وأمروهم بالتوحيد ، فكذبوهم وخالفوهم ، ومصير

٢٢٤

الجميع في النهاية إلى الله ، فيجازي على ذلك أوفر الجزاء ، يجازيك على صبرك ، ويجازيهم على التكذيب.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الله تعالى هو مستحق الحمد والشكر على قدرته ونعمه وحكمته ، وقد ذكرت سابقا أن هذه السورة ـ كما ذكر الرازي ـ إحدى السّور القرآنية الأربع المبدوءة بالحمد ، فسورة الأنعام إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإيجاد ، وسورة الكهف إشارة بالحمد إلى النعمة العاجلة وهي الإبقاء ، وسورة سبأ إشارة بالحمد إلى نعمة الإيجاد الثاني وهو الحشر ، وهذه السورة إشارة بالحمد إلى نعمة البقاء في الآخرة ، بدليل قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي يجعلهم رسلا يتلقون عباد الله تعالى.

٢ ـ الله سبحانه هو مبدع السموات والأرض على غير مثال سبق ، وهو جاعل الملائكة ذوي أجنحة من اثنين إلى ثلاثة فأربعة ، فأكثر ، للطيران والتحليق هبوطا وصعودا بين السماء والأرض ، وجاعلهم رسلا إلى الأنبياء ، أو إلى العباد برحمة أو نقمة في الدنيا ، ولتلقي عباد الله في الآخرة كما ذكر الرازي.

٣ ـ الله تعالى هو الذي يزيد في مخلوقاته ما يشاء ، سواء في خلق الملائكة ، بالأجنحة الكثيرة ، أو في الزيادة المادية الحسية أو المعنوية في خلق الناس ، كالتميز بأنواع الجمال المختلفة في العينين والأنف والفم ونحوها ، وحسن الصوت ، وجمال الخط أو الكلام أو النّطق.

٤ ـ الله عزوجل تامّ القدرة على كل شيء بالنّقصان والزّيادة ، والإيجاد والإعدام ، وغير ذلك.

٢٢٥

قال الزمخشري في آية (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ..) : الآية مطلقة تتناول كلّ زيادة في الخلق من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء ، وقوة في البطش ، وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ، وجرأة في القلب ، وسماحة في النفس ، وذلاقة في اللسان ، ولباقة في التّكلّم ، وحسن تأتّ (١) في مزاولة الأمور ، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف (٢).

٥ ـ الله عزوجل نافذ المشيئة والإرادة والأمر ، فإذا منح نعمة لأحد ، فلا يقدر أحد أن يمنعها ، وإذا حرم أحدا نعمة ، لم يستطع أحد إعطاءه إياها. وبما أن الرّسل بعثوا رحمة للناس ، فلا يقدر على إرسالهم غير الله ، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه.

وتنكيره الرحمة : (مِنْ رَحْمَةٍ) يفيد العموم والشمول ، والإشاعة والإبهام ، فهي متناولة لكل رحمة ، سماوية كانت أو أرضية.

٦ ـ على الناس شكر نعمة الله عليهم ، بحفظها وأداء حقها وذكرها باللسان والقلب ، وإفراد المنعم بالطاعة والعبادة والثناء عليه بما هو أهله ، وإنهاء التعلق بالأصنام والأوثان وجعلها شركاء لله ، وهو أبطل الباطل الذي لا يقره العقل المتحضر ، ولا الإنسان المتمدن.

٧ ـ لا أحد على الإطلاق يأتي بالرزق ، فالله تعالى مصدر الرزق من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات.

٨ ـ يجب على الخلق جميعا إعلان توحيد الله ، فالوحدانية في صحيفة الكون ، في الضمير والوجدان ، ومقتضى الفطرة ، وفي ميزان العقل الراقي.

__________________

(١) التأتي في الأمور : التّرفق لها ، وإتيانها من وجهها ، وعلاجها بحكمة.

(٢) الكشاف : ٣ / ٥٦٩

٢٢٦

٩ ـ إذ أثبت العقل ودلّت آيات القرآن والكون وحدانية الله ، فكيف يصحّ للبشر الانصراف عن هذا الظاهر ، وكيف يشركون المنحوت بمن له الملكوت؟!

١٠ ـ إثبات التوحيد يستتبع إثبات الرسالة وصدق نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات الظاهرة ، وأعلاها وأخلدها القرآن العظيم.

وإذا كذب بعض الناس قديما وحديثا رسول الله ، فقد كذب الكفار عبر التاريخ أنبياءهم ، وتلك ظاهرة عامة ، وما على الرسول وأتباعه إلا التّأسّي بمن سبق في الصبر ، والنهاية الحتمية المصيرية إلى الله ، فيجازي الجميع بما يستحقون.

تقرير الحشر والتحذير من الشيطان

وجزاء الكافرين والمؤمنين

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

الإعراب :

(الَّذِينَ كَفَرُوا ..) (الَّذِينَ) : إما بدل مجرور من (أَصْحابِ) وإما بدل منصوب من (حِزْبَهُ) وإما بدل مرفوع من ضمير (لِيَكُونُوا). (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، خبره : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ).

(حَسَراتٍ) إما مفعول لأجله ، أو منصوب على المصدر. وقرئ بالإمالة مع فتحة الراء وإمالتها ، فمن قرأ بفتح الراء أتى بها على الأصل ، ومن أمال فلأن الألف بدل عن الياء ، ثم أتبع الراء إمالة الهمزة ، والإتباع للمجانسة كثير في كلام العرب.

٢٢٧

البلاغة :

(يُضِلُ) و (يَهْدِي) بينهما طباق.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) بينهما مقابلة وهي كالطباق إلا أنها تكون في أكثر من شيئين.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، فَرَآهُ حَسَناً) حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه ، أي كمن لم يزين له سوء عمله؟ ودلّ على المحذوف بقية الآية : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ ..) و (فَمَنْ) مبتدأ ، وخبره : كمن هداه الله.

(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ثم قال : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) إطناب بتكرار الفعل.

(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) كناية عن الهلاك ؛ لأن النفس إذا ذهبت هلك الإنسان.

(السَّعِيرِ كَبِيرٌ) سجع مؤثر على السمع.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي إن وعده بالبعث والجزاء أو الحشر والعقاب لا خلف فيه.(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) لا تلهينكم ويذهلنكم التمتع بها عن الإيمان بالحشر وعن طلب الآخرة والسعي لها. (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) في حلمه وإمهاله. (الْغَرُورُ) الشيطان ، بأن يمنيكم المغفرة ، مع الإصرار على المعصية.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) عداوة عامة قديمة. (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) بطاعة الله ، ولا تطيعوه في المعاصي ، واحذروه في كل الأحوال. (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي إنما يدعو أصحابه وأتباعه المتحزبين له ، والمطيعين له ، إلى المعاصي والكفر ، لأجل أن يكونوا من أهل النار الشديدة ، لعداوته لآدم وذريته. وهذا تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة أشياعه إلى اتّباع الهوى والركون إلى الدنيا.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وعيد لمن أجاب دعاء الشيطان ، ووعد لمن خالفه بالإيمان والعمل الصالح بمغفرة الذنوب والأجر الكبير وهو الجنة.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي من غلب وهمه على عقله ، فرأى عمله السيء صوابا ، والباطل حقا ، والقبيح حسنا ، كمن لم يزين له؟ حذف الجواب لدلالة : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُ

٢٢٨

مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي من شاء الله إضلاله أضلّه ، ومن شاء هدايته هداه. (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي عليه وهو المزين له ، والمعنى : فلا تهلك نفسك باغتمامك على غيّهم وكفرهم وإصرارهم على التكذيب. والحسرة : همّ النفس على فوات أمر ، أي التلهف عليه. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) فيجازيهم عليه ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية من أفعالهم وأقوالهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٨):

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) : أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : أنزلت هذه الآية : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أعزّ دينك بعمر بن الخطاب ، أو بأبي جهل بن هشام» فهدى الله عمر ، وأضلّ أبا جهل ، ففيهما أنزلت.

المناسبة :

بعد بيان الأصل الأول وهو التوحيد ، والأصل الثاني وهو الرسالة ، ذكر الله تعالى الأصل الثالث وهو الحشر أو البعث والنشور ، والحساب والعقاب ، وقرر أنه حق لا شك فيه ، وحذر من وسواس الشيطان في تشكيك الناس بالإيمان به ، ثم صنّف الناس إزاءه صنفين : حزب الشيطان الذين لهم العذاب الشديد ، وحزب الرحمن الذين لهم المغفرة والأجر الكبير وهو الجنة. ثم أبان قضية جوهرية وهي أن الضلال والهدى بيد الله حسبما يعلم من استعداد النفوس للأول أو الثاني.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يا أيها البشر جميعا إن وعد الله بالبعث والجزاء حقّ ثابت مؤكد

٢٢٩

لا شك فيه ، والمعاد كائن لا محالة ، فلا تتلهوا بزخارف الدنيا ونعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة ، ولا يغرنكم الشيطان بالله ، فيجعلكم تعيشون في الأوهام والآمال المعسولة ، قائلا لكم : إن الله يتجاوز عنكم ، ويغفر لكم ، لسعة رحمته ، فتنزلقوا في المعاصي ، وتسرفوا في المخالفات ، فإنه غرّار كذّاب أفّاك.

وهذه الآية كآية آخر سورة لقمان : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ).

ثم بيّن الله تعالى علّة عدم الاغترار بالشيطان وهي عداوة إبليس لابن آدم ، فقال :

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي إن عداوة الشيطان لكم عداوة قديمة عامة ظاهرة ، فعادوه أنتم أشدّ العداوة ، وخالفوه وكذّبوه فيما يغركم به ، بطاعة الله ، ولا تطيعوه في معاصي الله تعالى.

ثم ذكر الله تعالى أغراض الشيطان ومقاصده الخبيثة فقال :

(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب النار الشديد الدائم. جاء في حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للشيطان لمّة (١) بابن آدم وللملك لمّة ، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحقّ ، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ».

ثم ذكر تعالى جزاء حزب الشيطان وحزب الرحمن فقال :

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي إن الذين كفروا بالله ورسوله وأنكروا البعث ، واتبعوا وساوس الشيطان ، لهم عذاب شديد في نار جهنم ؛ لأنهم أطاعوا الشيطان ، وعصوا الرحمن.

__________________

(١) اللمة : الخطرة التي تقع في القلب.

٢٣٠

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي والذين صدقوا بالله ورسوله وباليوم الآخر ، وعملوا صالح الأعمال من اتّباع الأوامر واجتناب النواهي ومخالفة الشيطان وهوى النفس ، لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة ، بسبب الإيمان والعمل الصالح وعمل الخير.

ثم بيّن تعالى الفرق بين الصنفين ، فليس من عمل سيّئا كالذي عمل صالحا ، فقال :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي كيف يتساوى المسيء والمحسن ، وهل يكون أولئك الكفار الفجار الذين بتزيين الشيطان وتحسين القبيح يعملون أعمالا سيّئة من كفر ووثنية وعصيان ، معتقدين أنهم يحسنون صنعا ، كالذين كانوا على الهدى ، ويعلمون أنهم على الحق؟! والمراد بمن زين له سوء عمله : كفار قريش وأمثالهم.

وسبب ذلك ما قال تعالى :

(فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي من شاء الله إضلاله أضلّه ، ومن شاء هدايته هداه ، لما له في ذلك من الحجة البالغة ، والعلم التامّ ، وتبعا لعلمه باستعداد النفوس للخير والشّر.

ثم سلّى تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حزن من إصرار قومه على الكفر ، فقال :

(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي لا تغتم ولا تأسف ولا تهلك نفسك على عدم إيمانهم ، وإصرارهم على الكفر ، واستمرارهم على الضلال ، فالله عليم بأحوالهم واستعداداتهم ، وعليم بما يصنعون من المنكرات والقبائح لا تخفى عليه خافية ، فيجازيهم بما يستحقون. وهذا وعيد كاف. وزجر بليغ إن أدركوا أبعاده ومراميه.

٢٣١

ونظير الآية كثير ، منها قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف ١٨ / ٦] ومنها : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ بعد إيضاح الدّليل على إثبات البعث والحشر ذكر الله تعالى مبدأ عاما في الاعتقاد : وهو أن البعث والثواب والعقاب حق لا مرية فيه ، ولا بدّ من حصوله.

٢ ـ وفي ضوء هذا المنظور الأخروي في عقيدة الإسلام الراسخة ، على الإنسان ألا تلهيه الدنيا وزخارفها عن العمل للآخرة ، وألا يغترّ بوساوس الشيطان ، فإنه أفّاك كذّاب ، قال سعيد بن جبير : غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذّاتها عن عمل الآخرة ، حتى يقول : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر ٨٩ / ٢٤].

٣ ـ إن عداوة الشيطان للإنسان عامة قديمة ، فيجب الحذر منه ، ومعاداته وعدم إطاعته ، ودليل عداوته : إخراجه أبانا آدم من الجنة ، وإصراره على إضلال الإنسان وضمانه ذلك في قوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) [النساء ٤ / ١١٩] ، وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) [الأعراف ٧ / ١٦ ـ ١٧].

٤ ـ إن هدف الشيطان الدّال على عداوته للإنسان أيضا دعوة حزبه أي أشياعه وأتباعه ليكونوا معه في نار جهنم الشديدة الاستعار.

٥ ـ هناك فرق واضح بين المسيء والمحسن ، فلا يسوّى بين من زيّن له

٢٣٢

الشيطان عمله السيء فأطاعه ، وبين من هداه الله للخير ، فاتّبع أوامر الله تعالى. والفريق الأول يشمل كل الكفار من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان والأصنام والشيطان ونحو ذلك.

٦ ـ إن الإضلال والهداية من الله بحسب ماله من العلم التامّ المسبق بكل إنسان ، وما لديه من استعداد للشّرّ أو للخير.

٧ ـ لا داعي للأسف والاغتمام على إصرار الكفار على كفرهم ، ولا ينفع التأسف على مقامهم على كفرهم ، فإن الله عليم بصنعهم القبائح ، وسيجازيهم على أفعالهم.

من دلائل القدرة الإلهية لإثبات البعث

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

الإعراب :

(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الهاء تعود على الكلم ، أي والعمل الصالح يرفع الكلم ، وقيل : تعود على العمل ، أي والعمل الصالح يرفعه الله ، ولو صح هذا القول لكان يلزم نصب كلمة (الْعَمَلُ).

٢٣٣

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ السَّيِّئاتِ) : إما مفعول (يَمْكُرُونَ) بمعنى يعملون ، أو منصوب على المصدر ؛ لأن معنى (يَمْكُرُونَ) : يسيئون ، أو وصف لمصدر محذوف ، أي يمكرون المكرات السيئات ، ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ مَكْرُ) مبتدأ وخبره (يَبُورُ) وهو : فصل بين المبتدأ والخبر ، ويجوز الفصل إذا كان الفعل مضارعا.

البلاغة :

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَسُقْناهُ) سقناه : التفات من الغيبة إلى التكلم للإشعار بالعظمة.

(تَحْمِلُ) و (تَضَعُ) بينهما طباق ، وكذا بين (يُعَمَّرُ) و (يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ).

المفردات اللغوية :

(أَرْسَلَ) أطلق وأوجد من العدم. (فَتُثِيرُ سَحاباً) تزعجه وتحركه ، وأتى بالمضارع حكاية للحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة. (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) بالتخفيف ، أو ميّت بالتشديد : لا نبات فيه ، ويرى بعضهم : أن الميت بالتخفيف : هو الذي مات ، والميّت بالتشديد ، والمائت : هو الذي لم يمت بعد. (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها ، وأحيينا به الأرض : معناه أنبتنا بالمطر الزرع والكلأ. (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي كذلك يحيى الله العباد بعد موتهم ، كما أحيا الأرض بعد موتها. و (النُّشُورُ) البعث والإحياء ، يقال : نشر الله الميت وأنشره ، أي أحياه.

(الْعِزَّةَ) الشرف والجاه والمنعة. (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي فليطلبها من عند الله ، فإن له كل العزة في الدنيا والآخرة ، ولا تنال منه العزة إلا بطاعته ، فليطعه. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) مجاز يراد به قبول الله له ، أو علمه به ، و (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هو التوحيد (لا إله إلا الله) وكل كلام طيب من ذكر الله ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وتلاوة قرآن ودعاء وغير ذلك. (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، كما لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح. و (الْعَمَلُ الصَّالِحُ) ما كان بإخلاص ، و (يَرْفَعُهُ) يقبله. (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي الذين يعملون السيئات في الدنيا على وجه المكر والخديعة ، كالمكر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه ، كما ذكر في الأنفال ، أو مراءاة المؤمنين في أعمالهم بإيهامهم أنهم مطيعون لله. (يَبُورُ) يبطل ويفسد ولا ينفذ ، من البوار : الهلاك.

(خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي خلق أباكم آدم من تراب. (نُطْفَةٍ) مني يخلق ذريته منه. (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) ذكرانا وإناثا. (إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي لا يخرج شيء عن علمه وتدبيره ، وهو حال ، أي

٢٣٤

معلومة له. (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) أي لا يزاد ولا يطول من عمر أحد ، ولا ينقص من عمر معمر آخر ، وذلك بحسب العرف والعادة الشائعة بين الناس. (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي في صحيفة المرء في اللوح المحفوظ ، وتطويل العمر وتقصيره : هما بقضاء الله وقدره ، لأسباب تقتضي التطويل أو التقصير ، فمن أسباب التطويل : صلة الرحم ، ومن أسباب التقصير : الاستكثار من معاصي الله عزوجل. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي لا يصعب عليه منه شيء.

المناسبة :

بعد الإخبار عن عذاب الكفار الشديد ، والمغفرة والأجر الكبير للمؤمنين يوم القيامة ، أقام تعالى الدليل على البعث بإحياء الأرض بعد موتها ، وبخلق الإنسان ومروره في أطوار مختلفة من التراب ، فالنطفة ، فالبشر السوي ، فالمدّ في العمر أو تقصيره.

التفسير والبيان :

كثيرا ما يستدل الله تعالى على المعاد أو البعث بإحياء الأرض بعد موتها ، كما في أول سورة الحج مثلا ، وقال هنا :

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، كَذلِكَ النُّشُورُ) أي والدليل الحسي المشاهد على إمكان البعث وأنه مقدور لله تعالى : أنه سبحانه يرسل الرياح ، فتحرك الغيوم إلى حيث يشاء الله ، فيقوده إلى بلد ميت لا نبات به ، فينزل المطر عليه ، فتحيا الأرض بالنبات بعد يبسها ، وتصبح مخضرة ذات زرع وشجر ، بعد أن كانت تربة هامدة ، فكذلك يكون النشور أي كما يحيي الله الأرض بعد موتها ، يحيي العباد بعد موتهم ، وهذا هو النشور ، أي جعلهم أحياء.

جاء في حديث أبي رزين : «قلت : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا رزين ، أما مررت بوادي قومك

٢٣٥

ممحلا ، ثم مررت به يهتز خضرا؟! قلت : بلى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكذلك يحيي الله الموتى».

ثم ندد الله تعالى بمشاعر الكفار بالعزة والغطرسة التي حجبتهم عن طاعة الله ، فقال :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يريد الوصول إلى الشرف والتعزز والسمو ، فليتعزز بطاعة الله ، وليطلبها من الله لا من غيره ، فإن الله مصدر العزة ، وهو يهب منها لمن يشاء ، وهذا ردّ على الكفار الذين كانوا يطلبون العزة بعبادة الأصنام ، وعدم الطاعة للرسل ، وترك الاتّباع له ، فقال : إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزة في الحقيقة ، فهي كلها لله ، ومن يتذلل له فهو العزيز ، ومن يتعزز عليه ، فهو الذليل. وذلك كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون ٦٣ / ٨]. وقد حكى القرآن طلب المشركين العزة بعبادة الأصنام ، فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم ١٩ / ٨١]. وأما المشركون فكانوا يطلبون العزة عند الكفار فقال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟!) [النساء ٤ / ١٣٩].

ثم وصف الله تعالى بعض مظاهر العزة ردا على الكفار الذين كانوا يقولون : نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده ، فقال :

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي إن كنتم لا تصلون إلى الله ، فهو يسمع كلامكم ، ويقبل طيب الكلام ، كالتوحيد والأذكار ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعاء ، وتلاوة القرآن وغير ذلك. ومن أفضل الأذكار : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.

وإن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، كما أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع

٢٣٦

العمل الصالح ، وصلاح العمل : الإخلاص فيه ، فلا يتقبل الله صلاة وصياما وزكاة ونحو ذلك من أعمال البر ، إذا لم تكن لله ، وفعلت مراءاة للناس.

قال ابن عباس : الكلم الطيب : ذكر الله تعالى ، يصعد به إلى الله عزوجل ، والعمل الصالح : أداء الفريضة.

ثم أخبر الله تعالى أنه لا يقبل من المرائين أعمالهم ، فقال :

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي والذين يعملون المكرات السيئات في الدنيا ، كالتآمر على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لإضعاف المسلمين ، ويوهمون غيرهم أنهم في طاعة الله تعالى ، وهم بغضاء إلى الله عزوجل ، يراءون بأعمالهم ، لهم عقاب بالغ الغاية في الشدة.

ومكر هؤلاء الكاذبين المفسدين يفسد ويبطل ولا ينفذ ؛ لأن الأمور مقدرة ، لا تتغير بالمكر والحيلة ، ولأن المرائي ينكشف أمره بسرعة ، ولا يروج أمره ويستمر إلا على غني ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم ، بل ينكشف لهم عن قريب ، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية ، يجازي على الرياء أشد العذاب.

ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث بخلق الأنفس فقال :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي والله سبحانه ابتدأ خلق الإنسان من تراب ، فخلق أبانا آدم من تراب ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، فجعل الخلق المتوالي الدائم من النطفة (المني) والنطفة من الغذاء ، والغذاء من الماء والتراب ، فقد صير التراب نطفة ، ثم جعل الناس أصنافا ، ذكرانا وإناثا ، فهذا التحول من تراب إلى خلية حية ، إلى إنسان سوي دليل قاطع على إمكان البعث الذي هو إعادة الحياة مرة أخرى ، والإعادة في مفهوم الناس أهون من الإعادة ، أما عند الله فهما سواء.

٢٣٧

هذا دليل القدرة ، أعقبه تعالى بالدليل على كمال العلم فقال :

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي إن الله عالم بحمل أي أنثى في العالم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، كما أنه عالم بوقت الوضع ومكانه وكيفيته ، كما قال : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [الرعد ١٣ / ٨ ـ ٩].

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) سماه معمّرا بما هو صائر إليه ، أي ما يمدّ في عمر أحد ، وما ينقص من عمر آخر إلا في صحيفة كل إنسان في اللوح المحفوظ ، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه ، سواء أكان من أصحاب الأعمار الطويلة أم القصيرة الأجل ، فتطويل العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره ، لأسباب مسبقة يعلمها الله ، فمن أطال عمره فلأنه يفعل ما يقتضي التطويل ، كصلة الرحم ، ومن قصر عمره فلأنه يفعل ما يقتضي التقصير ، كالإكثار من معاصي الله.

روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سرّه أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره (١) ، فليصل رحمه».

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إن ذلك النظام المرتب للعالم سهل يسير على الله ، لديه علمه جملة وتفصيلا ، فإن علمه شامل لجميع المخلوقات ، لا يخفى عليه شيء منها.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

__________________

(١) أي يؤخر له في أجله.

٢٣٨

١ ـ إمكان حدوث البعث ؛ لأن الله قادر على كل شيء ، ومن مظاهر قدرته الدالة على ذلك بنحو حسي مباشر : إحياء الأرض بالمطر بعد يبسها وذهاب ما فيها من زروع ونباتات ، واكتسائها بالخضرة والمروج ، والنبات ، والثمار المختلفة الألوان والأنواع والطعوم.

فكما حدث من تبدل من موت إلى حياة كذلك يحدث إحياء المخلوقات ، فمثل إحياء الأرض الموات نشر الأموات ، وإعادة الحياة لهم بعد الموت.

٢ ـ إن الاعتزاز بالكفر والمال والأولاد والجاه والسمعة والنفوذ سراب خادع ، فإن من كان يريد العزة التي لا ذلة فيها في الدنيا والآخرة ، فعليه بطاعة الله عزوجل وعبادته وحده دون شريك ؛ لأن الله تعالى مصدر العزة ، وهو سبحانه يعز من يشاء في الدنيا والآخرة ، ويذلّ من يشاء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفسّرا لقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) : «من أراد عزّ الدارين ، فليطع العزيز».

وعليه ، من كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر ، ويدخل في دار العزة ـ ولله العزة ـ فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به ، فإنه من اعتز بالعبد أذله الله ، ومن اعتز بالله أعزه الله.

٣ ـ الكلم الطيب من توحيد الله وذكره ودعائه وتلاوة كتابه ونحو ذلك هو الذي يقبله الله عزوجل ، والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب كما قال ابن عباس وغيره ، كما أن الكلم الطيب لا يقبل إلا مع العمل الصالح. وصلاح العمل : الإخلاص فيه ، جاء في الحديث : «لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة»(١).

__________________

(١) رواه الطبراني عن ابن عمر بلفظ : «لا يقبل إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان».

٢٣٩

وردّ على ابن عباس قوله بتعارضه مع معتقد أهل السنة ، وأن ذلك لا يصح عنه. قال القرطبي : والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله ، وقال كلاما طيبا ، فإنه مكتوب له متقبّل منه ، وله حسناته وعليه سيئاته ، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح ، وإنما يستقيم قول من يقول : إن العمل هو الرافع للكلم ، بأن يتأوّل أنه يزيد في رفعه ، وحسن موقعه إذا تعاضد معه ، كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك ، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى ، كانت الأعمال أشرف ؛ فيكون قوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) موعظة وتذكرة وحضّا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها ، كالتوحيد والتسبيح فمقبولة (١).

٤ ـ إن الذين يراءون في أعمالهم ، ويعملون المكرات السيئات في الدنيا ، لهم عذاب شديد في نار جهنم ، ومكرهم بائد غير نافذ. والمكر : ما عمل على سبيل احتيال وخديعة.

٥ ـ الدليل الاخر على إمكان البعث أحوال نفوس البشر وأطوارها ، فقد خلق الله تعالى أصلها من تراب ، ثم جعل النطفة سببا للخلق ، ثم حدث التزاوج بين الذكر والأنثى ، ليتم البقاء في الدنيا إلى نهاية العالم ، عن طريق التناسل ، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به ، ولا يخرج شيء عن تدبيره.

٦ ـ الأعمار كالأرزاق مقدرة محددة في صحيفة كل إنسان ، لا تزيد ولا تنقص ، وأما طول العمر بأسباب ، كصلة الرحم ، فهو داخل في تقدير العمر بصفة نهائية في علم الله ، إذ إنه يكتب في اللوح المحفوظ : عمر فلان كذا سنة ، فإن وصل رحمه ، زيد في عمره كذا سنة ، وفي موضع آخر من اللوح المحفوظ بيّن : إنه سيصل رحمه ، فمن اطلع على الأول دون الثاني ، ظن أنه زيادة أو نقصان.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ٣٣٠

٢٤٠