التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

المفردات اللغوية :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي يحشر للحساب العابد والمعبود ، والمستكبر والمستضعف ، وقرئ: نحشرهم (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) هذا تقريع للمشركين ، وتوبيخ لكل من عبد غير الله عزوجل ، وإقناط لهم عما يتوقعون من شفاعتهم. والخطاب للملائكة ؛ لأنهم أشرف شركائهم ، والصالحون للخطاب منهم.

(قالُوا) أي الملائكة (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي تنزيها لك عن الشريك ، أنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم ، ولا موالاة بيننا وبينهم ، وما كنا معبودين لهم على الحقيقة (بَلْ) للإضراب والانتقال (كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) الشياطين ، وهم إبليس وجنوده ، فإنهم كانوا يطيعونهم في عبادتهم إيانا (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي أكثر المشركين مصدقون بالجن فيما يلقونه إليهم من الوساوس والأكاذيب ، ومنها أمرهم بعبادة الأصنام ، فالضمير الأول للمشركين والثاني للجن.

قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي لا يملك المعبودون للعابدين شفاعة ونجاة ، ولا عذابا وهلاكا ؛ لأن الأمر يوم القيامة كله لله ، والدار دار جزاء ، والله هو المجازي وحده (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم وكفروا بعبادة غير الله (تُكَذِّبُونَ) في الدنيا.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى أن حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كحال من تقدمه من الأنبياء ، وحال قومه كحال من تقدم من الكفار ، وبيّن لهم خطأ اعتمادهم على كثرة الأموال والأولاد ، بيّن ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتوبيخ ، بسؤال الملائكة : أهم كانوا يعبدونكم؟ إهانة لهم. ثم بيّن أنهم كانوا ينقادون لأمر الجن ، وأن ما كانوا يعبدونه لا ينفعهم.

التفسير والبيان :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ)؟ أي ويوم يحشر الله تعالى العابدين والمعبودين ، والمستكبرين والمستضعفين جميعا ، ثم يسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ، ليقربوهم إلى الله زلفى : أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ وهذا السؤال يراد

٢٠١

به تقريع المشركين يوم القيامة أمام الخلائق ، على طريقة : إياك أعني واسمعي يا جارة.

وهذا شبيه بقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) [الفرقان ٢٥ / ١٧] وشبيه بسؤال عيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ : اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالَ : سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة ٥ / ١١٦]. والله يعلم أن الملائكة وعيسى أبرياء من هذه التهمة ، وإنما السؤال والجواب للتقريع والتوبيخ والتعيير.

(قالُوا : سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي قالت الملائكة : تنزيها لك يا رب عن الشريك ، نحن عبيدك ، ونبرأ إليك من هؤلاء ، وأنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم ، ما اتخذناهم عابدين ، ولا موالاة بيننا وبينهم ، بل إنهم كانوا يعبدون الشياطين وهم إبليس وجنوده ، فهم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم ، وأكثر المشركين مصدقون الجن فيما يلقونه إليهم من الوساوس والأكاذيب ، ومنها أمرهم بعبادة الأصنام ، كما قالت تبارك وتعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً ، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً ، لَعَنَهُ اللهُ) [النساء ٤ / ١١٧ ـ ١١٨].

ثم أعلن الله تعالى إفلاسهم وتبدد آمالهم بشفاعة الآلهة المزعومة ، زيادة في إيلامهم وحسرتهم ، فقال :

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي في يوم القيامة هذا لن يتحقق لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان والأنداد التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم ، ولن تكون لكم شفاعة وقدرة على النجاة ، كما لن يكون بيدكم العذاب والهلاك ، وإنما المجازي هو الله وحده.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا : ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي

٢٠٢

ونقول للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله وهم المشركون تأنيبا وتوبيخا : ذوقوا عذاب جهنم الذي كنتم تكذبون بوقوعه في الدنيا ، فأنتم الآن في أعماق النار. وهذا تأكيد لبيان حالهم في الظلم وعقابهم على الإثم.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيات على ما يأتي :

١ ـ الحشر والحساب حق ، والله يحشر جميع الخلائق ، لكن يكون للكفار حشر وموقف خاص ، فالله تعالى يحشر العابدين والمعبودين أي يجمعهم للحساب مع بعضهم ، ثم يسأل الملائكة الذين يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ، فيقول تقريعا وتوبيخا للكفار على عبادتهم غير الله : أهؤلاء كانوا يعبدونكم؟

٢ ـ يتبرأ الملائكة من هذه التهمة قائلين : سبحانك ، أي تنزيها لك يا رب عن الشريك ، أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له ، وإنما يعبد هؤلاء الشياطين ويطيعونهم ، لأنهم زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم.

وجاء في التفاسير : أن بني مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن ، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم ، وأنهم ملائكة ، وأنهم بنات الله. وهو قوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات ٣٧ / ١٥٨].

٣ ـ أيأس الله تعالى الكفار من شفاعة أحد من آلهتهم المزعومة ، وأخبر بأنه في يوم القيامة لا يملك المعبودون للعابدين شفاعة ونجاة ، ولا عذابا وهلاكا ، وإنما المالك المجازي وحده هو الله تعالى.

٤ ـ يعاين الكفار جهنم ، ويقذفون فيها ، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا :

٢٠٣

(ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) في الدنيا ، والمكذب به هنا : هو النار ، وفي سورة السجدة (عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ) [٢٠] هو العذاب ، وهم في الواقع يكذبون بالكل. وسبب التغاير في التعبير أن الآية هنا في وصف النار التي كانت أول ما رأوها بعد الحشر والسؤال ، وأما في سورة السجدة فالمراد وصف العذاب الذي يعانونه بعد دخولهم النار ، وأنه العذاب الدائم.

أسباب تعذيب الكفار

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))

٢٠٤

الإعراب :

(أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أَنْ تَقُومُوا) : إما في موضع جر على البدل من قوله : (بِواحِدَةٍ) أي بأن ، أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : وهي أن تقوموا ، أو في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، وهو اللام ، وتقديره : لأن تقوموا لله ، و (مَثْنى وَفُرادى) منصوبان على الحال من واو (تَقُومُوا).

(عَلَّامُ الْغُيُوبِ) مرفوع على أنه خبر ثان بعد أول وهو (يَقْذِفُ) أو على البدل من ضمير (يَقْذِفُ) أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : وهو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، أو بدل من «ربّ» على الموضع ، وموضعه الرفع ، أو وصف ل «رب» على الموضع. ويجوز فيه النصب من وجهين : على الوصف ل «رب» أو على البدل منه.

(وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) : (ما) : في موضع نصب ، تقديره : أيّ شيء يبدئ الباطل ، وأيّ شيء يعيد.

البلاغة :

(بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) استعارة ، استعار لفظ اليدين لما يكون من الأهوال أمام الإنسان.

(وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره.

(مَثْنى وَفُرادى) بينهما طباق.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على إمعانهم في الكفر.

المفردات اللغوية :

(آياتُنا) القرآن (بَيِّناتٍ) واضحات الدلالات ، ظاهرات المعاني ما هذا التالي لها وهو النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَصُدَّكُمْ) يمنعكم (وَقالُوا : ما هذا) قالوا ثانيا ما هذا القرآن (إِفْكٌ) كذب (مُفْتَرىً) مختلق لا أساس له (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قالوا ثالثا (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن والمعجزات ، وهذا باعتبار لفظه وإعجازه ، والأول باعتبار معناه (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ما هذا إلا سحر ظاهر سحريته.

ويلاحظ أن الإشارة الأولى : (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثانية : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ) إلى القرآن ، والثالثة : (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) والحق : أمر النبوة كله ودين الإسلام كما

٢٠٥

وتكرار الفعل : (قالُوا) والتصريح بذكر الكفرة ، وقوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) من المبادهة بالكفر وأنه حين جاءهم لم يفكروا فيه ، بل بادروه بالإنكار : دليل على صدور الكفر عن إنكار عظيم له ، وغضب شديد منه ، وتعجيب بليغ منه ، كأنه قال : وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ، ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المنير قبل أن يتذوقوه : ما هو إلا سحر واضح لمن يتأمله.

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها ، وهو دليل على صحة الإشراك (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) يدعوهم إليه ، وينذرهم بالعذاب على تركه. وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم ، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه ، ولا شبهة يعتمدون عليها ، إذ لم يأتهم كتاب ، ولا نذير بهذا الذي فعلوه ، فمن أين كذبوك؟!

(وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال فأهلكهم الله ، كعاد وثمود ونحوهم ، والمعشار : هو العشر أي عشرة في المائة ، وقيل : هو عشر العشر ، أي واحد في المائة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب والعقوبة؟ أي هو واقع موقعه.

(أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه ، وأوصيكم بخصلة واحدة وهي (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) أي أن تقوموا في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين : اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ؛ لأن الاجتماع يشوش الفكر. (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) تنظروا في حقيقة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الكتاب ، فتعلموا أنه (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمجنون ولا ساحر ، فليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك ، ومجيئه بالوحي دليل ظاهر على صدقه (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ما هو إلا منذر لكم قبل مجيء عذاب شديد في الآخرة إن عصيتموه ، وقد علمتم أنه أرجح الناس عقلا ، وما جربتم عليه كذبا مدة عمره فيكم.

(قُلْ : ما سَأَلْتُكُمْ) قل لهم : ما طلبت منكم على الإنذار والتبليغ (مِنْ أَجْرٍ) مال مقابل الرسالة (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ما ثوابي إلا على الله ، لا على غيره (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مطلع ، لا يغيب عنه شيء ، يعلم صدقي.

(قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يتكلم بالحق ويلقيه إلى أنبيائه ، وهو القرآن والوحي (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يعلم ما غاب عن خلقه في السموات والأرض (جاءَ الْحَقُ) أي الإسلام والتوحيد ، والقرآن الذي فيه البراهين والحجج (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي لا أثر للكفر أو الشرك ، فهو لا حقيقة له بدءا وإعادة. (إِنْ ضَلَلْتُ) عن الحق وطريقه (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) أي إثم ضلالتي يكون على نفسي (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) من القرآن والحكمة والموعظة (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) مني ومنكم ، يعلم الهدى والضلالة.

٢٠٦

المناسبة :

بعد بيان عقاب المشركين في نار جهنم يوم القيامة وأنه يقال لهم : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) ذكر الله تعالى الأسباب الموجبة للعذاب من فساد الاعتقاد ، واشتداد العناد ، وتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن والإسلام كله ، ثم أنذرهم سوء العاقبة كالذين من قبلهم من الأمم القوية ، ودعاهم إلى التأمل والتفكر الهادئ العميق في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنذر من عذاب يوم القيامة ، وأخبرهم بأن الله أرسل إليهم الحق الدامغ الساطع وهو القرآن والوحي ، وما عداه هو الباطل الذي لا حقيقة ولا بقاء لأثره.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أسباب استحقاق الكفار العقوبة وأليم العذاب ، ويذكر هنا أهمها وهي ثلاث : الطعن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالقرآن الكريم ، وبالدين والإسلام كله ، فيقول :

١ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا : ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي وإذا تليت آيات القرآن الواضحات الدلالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك ، الظاهرات المعاني ، قالوا : ما هذا أي النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا رجل يريد صرفكم عن دين الآباء والأجداد من عبادة الأصنام ، دون حجة ولا برهان ، وما جاء به باطل.

٢ ـ (وَقالُوا : ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي وقال الكفار ثانيا : ما هذا أي القرآن إلا كذب على الله ، مختلق من عنده ، بقصد تضليل الأتباع.

٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقال الكافرون ثالثا : ما هذا الدين والإسلام المشتمل على المعجزات والشرائع والأحكام لتنظيم الحياة الاجتماعية إلا سحر ظاهر.

٢٠٧

فرد الله عليهم مبطلا كون دينهم حقا ، ومظهرا انعدام حجتهم في اتباعه ، فقال :

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن يقرر لهم دينا ، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى الحق ، وينذرهم بالعذاب مع أنهم كانوا يقولون : لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا ، فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.

وإذا كان الدين الصحيح لا يعرف إلا بوحي من عند الله ، وبكتاب ينزل على رسول ، فإن ادعاء المشركين أن الشرك بالله وتقليد الأسلاف هو الدين الحق ادعاء باطل لا يعتمد على أساس ولا حجة.

ونظير الآية كثير منها : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم ٣٠ / ٣٥] (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٢١] (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) [القلم ٦٨ / ٣٧ ـ ٣٨].

ثم هددهم بعذاب مشابه لعذاب الأمم الظالمة من قبلهم ، فقال :

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ ، فَكَذَّبُوا رُسُلِي ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كذبت الرسل والوحي أمم سابقة من القرون الخالية كقوم نوح وعاد وثمود ، وكانوا في الدنيا أشد قوة وبأسا من العرب ، بل إن أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب لم يبلغوا بقوتهم وكثرة ما لهم عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال ، فلم يدفع عنهم عذاب الله ولا رده ، وإنما أهلكهم الله ودمرهم تدميرا ، كما قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ، وَأَشَدَّ قُوَّةً) [غافر ٤٠ / ٨٢].

٢٠٨

وما جرى على المثيل يجري على مثيله ، لتساويهما في سبب العقاب ، فيتساويان في الحكم.

ثم نصحهم القرآن بالتأمل والتريث في الحكم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال تعالى : (قُلْ : إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ : أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا : ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه ، وآمركم وأنصحكم بخصلة واحدة : هي قيامكم في طلب الحق بالفكرة الصادقة ، والتأمل الذاتي المجرد المخلص ، دون تأثر بهوى أو عصبية ، متفرقين اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ؛ لأن الاجتماع والتجمهر يشوّش الفكر ، وينشر الغوغائية والفوضى ، ويثني الفكر عن الصواب ، ثم ينصح بعضكم بعضا بإخلاص أن ينظر ويتفكر في حقيقة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الكتاب ، فإنكم حينئذ تعلمون أن صاحبكم ليس بساحر ولا مجنون ؛ ليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك ، وإنما هو نبي مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي وما هذا الرسول إلا منذركم ومخوفكم ما تستقبلونه من عذاب شديد على النفوس يوم القيامة. وجعل إنذاره بين يدي العذاب إشارة إلى قرب العذاب ؛ لأنه بعث قرب الساعة ، روى الإمام أحمد حديثا هو : «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني».

وروى البخاري عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : «صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصّفا ذات يوم ، فقال : يا صباحاه ، فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك؟ فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم أو يمسّيكم ، أما كنتم تصدقوني؟ قالوا : بلى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبّا لك ، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عزوجل : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ، وَتَبَ) [المسد ١١١ / ١].

٢٠٩

قال الرازي : ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل ، فقوله: (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) إشارة إلى التوحيد ، وقوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) إشارة إلى الرسالة ، وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) إشارة إلى اليوم الآخر.

ولما نفى تعالى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجنون المستلزم كونه نبيا ، ذكر سببا آخر يلزم منه أنه نبي: وهو عناؤه الشديد في دعوته لا لغرض دنيوي عاجل ، وإنما بقصد الثواب الأخروي ، فقال :

(قُلْ : ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي قل أيها الرسول للمشركين : لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة الله عزوجل إليكم ، ونصحي لكم ، وأمري بعبادته تعالى ، إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله تعالى ، والله عالم بجميع الأمور ، من صدقي في تبليغ الرسالة ، وما أنتم عليه.

ثم صرح تعالى بأن ما جاء به هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو وحي من عند الله ، فقال : (قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ، عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي قل للمشركين : إن الله يرسل الملك بالوحي إلى من يشاء من عباده ، فمن يصطفيهم لرسالته ، وهو علام الغيوب ، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.

وهذا كما قال تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [غافر ٤٠ / ١٥] وقال سبحانه : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤].

وبعد أن ذكر الله تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة الاستقبال ، أخبر أن ذلك الحق قد جاء فقال :

٢١٠

(قُلْ : جاءَ الْحَقُّ ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل للمشركين : جاء الدين الحق وهو الإسلام والقرآن والتوحيد ، وهو الذي سيعلو على سائر الأديان ، ويمحق الله الباطل ويذهب أثره ، فلا يبقي منه شيئا ، كما قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ ، فَيَدْمَغُهُ ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء ٢١ / ١٨].

روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «أنه لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ، ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة ، جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ : (وَقُلْ : جاءَ الْحَقُّ ، وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء ١٧ / ٨١] ، و (قُلْ جاءَ الْحَقُّ ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ).

ثم أكد الله تعالى تقرير الرسالة ، وأعلن القول الفصل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين ، فقال :

(قُلْ : إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي ، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي قل أيها النبي لأولئك المشركين : إن ضللت عن الهدى وطريق الحق ، فإن إثم ضلالي وضرره على نفسي ، وإن عرفت طريق الهداية فمما أوحى إلي ربي من الخير والحق والاستقامة ، إنه سميع لقولي وأقوالكم ، قريب مني ومنكم ، يعلم الهدى والضلالة ، ويجازي كل إنسان بما يستحق.

فالخير كله من الله عزوجل ، وفيما أنزله من الوحي والحق المبين الذي فيه الهدى والبيان والرشاد ، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يلي :

١ ـ العدل والحق المطلق أهم مزية الحكم الإلهي ، فلا يظلم الله أحدا ،

٢١١

ولا يعاقب إلا بأسباب موجبة للعقاب ، وأهم الأسباب التي استحق بها المشركون نار جهنم : الطعن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالقرآن المجيد ، وبالدين والإسلام نظام البشرية الأمثل ، وقانونها الأعدل والأحكم.

٢ ـ لا حجة للمشركين في الإشراك بالله إلا تقليد الأسلاف واتباع الآباء والأجداد ، دون حجة عقلية ولا برهان منطقي مقبول.

٣ ـ ليس للمشركين ما يعتمدون عليه أيضا من الأدلة النقلية ، فليس لهم كتاب يقرءون فيه بطلان ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يسمعوا شيئا عن دينهم من رسول بعث إليهم ، فلا وجه لتكذيبهم ولا شبهة يتمسكون بها ، كشبهة أهل الكتاب وإن كانت باطلة ، الذين يقولون : نحن أهل كتاب وشرائع ، ومستندون إلى رسل من رسل الله.

والخلاصة : أنه ليس للمشركين على شركهم حجة عقلية ولا نقلية.

٤ ـ لم يبق أمام موقف أولئك المشركين المتشدد المعاند إلا توعدهم على تكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن بما حلّ من العذاب بالأمم الغابرة كعاد وثمود ، الذين كانوا أشد من أهل مكة المشركين بطشا ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأوسع عيشا ، فأهلكهم الله ، بل إنهم ما بلغوا عشر ما أوتي من قبلهم من تلك الأمم.

٥ ـ وبجانب الوعيد فهناك للكلمة المتأنية والفكرة الهادئة دور حيوي ، لذا دعاهم الله تعالى أيضا إلى إعمال الفكر ، لا بنحو جماهيري جماعي غوغائي ، وإنما بطريق ثنائي أو فردي يدعو إلى الهدوء والتروي والمناقشة المنطقية المقبولة ، وذلك في توحيد الله مصدر السعادة ، وفي حقيقة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدراسة تاريخ حياته المعاصرة لهم ، فهل جربوا عليه كذبا ، أو رأوا فيه جنونا وخللا عقليا ، وهل في أحواله وتصرفاته من فساد وشذوذ وانحراف ، وهل كان يتردد إلى من يدّعي العلم بالسحر ، وهل تعلّم الأقاصيص وقرأ الكتب ، وهل عرفوه طامعا في

٢١٢

أموالهم ، وهل هم قادرون على معارضة القرآن المنزل عليه في سورة واحدة؟!

فإذا عرفوا بهذه التأملات والدراسة الواقعية صدقه ، فما بال هذه المعاندة والمعارضة له؟

٦ ـ لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مبشرا من أطاعه بالجنة ، ومنذرا من عصاه بنار جهنم يوم القيامة.

٧ ـ وأيضا إن عناء النبي الشديد في تبليغ دعوته دون أن يأخذ من أحد أجرا على تبليغ الرسالة دليل واقعي على صدق نبوته ، فهو لا يريد إلا الأجر والثواب من عند ربه ، وهذا دليل الإخلاص ، والله رقيب على كل أعماله وأعمالهم ، وعالم بها لا يخفى عليه شيء ، فهو يجازي الجميع بما يستحقون.

٨ ـ الله الحق هو مصدر الوحي والحق والقرآن وبيان الحجة وإظهارها ، وهذا ما أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه علام الغيوب : أي الأمر الذي غاب وخفي جدّا ، وقد علم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى من غيره باصطفائه للنبوة والرسالة ونزول القرآن على قلبه.

٩ ـ لقد جاء الحق للبشرية فعلا وهو القرآن الذي فيه البراهين والحجج على صحة الاعتقاد من التوحيد والرسالة والبعث والحساب. وإذا جاء الحق اندحر الباطل وهو الشرك والكفر ولم يعد له قرار ولا أثر ولا مقام ، ولم يبق منه شيء أمام الحق.

١٠ ـ قال الكفار للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تركت دين آبائك فضللت ، فرد الله عليهم آمرا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : إن ضللت كما تزعمون ، فإنما أضل على نفسي ، أي إن ضرره وإثمه علي ، وإن اهتديت إلى الحق والرشاد فبما أوحى الله إلي من الحكمة والبيان ، إن الله سميع ممن دعاه ، قريب الإجابة ، وفي هذا تقرير للرسالة أيضا.

٢١٣

تهديد الكفار بشديد العقاب وإيمانهم حين معاينة العذاب

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

الإعراب :

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ، وَأُخِذُوا) جواب (لَوْ) محذوف ، تقديره : لو ترى لتعجبت ، و (فَزِعُوا) : جملة فعلية في موضع جرّ بإضافة (إِذْ) إليها. و (أُخِذُوا) : جملة فعلية أخرى معطوفة عليها.

(وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) قرئ «التناؤش» بالهمز على الأصل : أي التأخر ، وقرئ بترك الهمز على إبدال الهمزة واوا ، أو بمعنى التناول ، فلا يكون أصله الهمز.

البلاغة :

(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) استعارة تصريحية ، استعار لفظ القذف للقول ، وشبه القائل بغير علم وإنما بالظن بالصائد الذي يرمي هدفا بعيدا فلا يصيبه.

المفردات اللغوية :

(وَلَوْ تَرى) يا محمد ، وجواب (لَوْ) محذوف ، تقديره : لرأيت مدهشا أو عجبا (إِذْ فَزِعُوا) عند البعث. والفزع : انقباض في النفس عند الأمر المخيف (فَلا فَوْتَ) أي فلا يفوت أحد منهم ، ولا ينجو منهم ناج (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي من القبور أو من موقف الحساب ، فهم قريبون من الله ، لا يفوتونه.

(آمَنَّا بِهِ) أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بالقرآن (التَّناوُشُ) تناول الإيمان تناولا سهلا (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) عن محله ، إذ هم في الآخرة ، ومحله والتكليف به في الدنيا. (كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي

٢١٤

كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بالعذاب في الدنيا قبل ذلك أوان التكليف (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) يرجمون أو يرمون بالظن الذي لا دليل عليه ، تقول العرب لكل من لم يتيقن أمرا : يقذف بالغيب ، أي يرمي به (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) من جهة بعيدة ، ليس فيها مستند لظنهم الباطل ، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد. والمراد أنهم يتكلمون في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المطاعن أو في العذاب من الجزم بنفيه ، حيث قالوا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ساحر ، شاعر ، كاهن ، وفي القرآن : سحر ، شعر ، كهانة.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من قبول الإيمان ، أو الرجوع إلى الدنيا ، أو من أموالهم وأهليهم في الدنيا (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي فعل بأمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية ، من قبلهم ، والأشياع : جمع شيع : وهذا جمع شيعة : وهي أنصار المذهب المتشيعين له (فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) موقع في الريبة والظن ، في أمر الرسل وما دعوا إليه من التوحيد ، والبعث والجنة والنار. ومريب : يحتمل وجهين : الأول : موقع في الريب والتهمة ، والثاني : ذي ريب.

المناسبة :

بعد بيان أسباب العذاب ، والرد على شبهات الكفار ، هددهم الله تعالى وأنذرهم بشديد العقاب يوم القيامة ، ثم أخبر عن إيمانهم حين معاينة العذاب يوم لا ينفع إيمان ، لفوات الأوان ، وكفرهم بالله وبرسوله وكتابه من قبل.

التفسير والبيان :

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ، وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي لو رأيت يا محمد هؤلاء الكفار حين خافوا عند البعث ، وخروجهم من القبور ، ورؤيتهم ألوان العذاب الشديد ، لرأيت أمرا عجبا ، فهم لا يتمكنون من الهرب ولا فوت ، أي لا مفر لهم ولا ملجأ لهم من العذاب ، وأخذوا لأول وهلة حين الفزع من القبور وموقف الحساب إلى نار جهنم ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ، إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٢].

(وَقالُوا : آمَنَّا بِهِ ، وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وقال الكفار

٢١٥

حينئذ : آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله وآمنا بالقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيف لهم تعاطي الإيمان ، وقد بعدوا عن محل قبوله ؛ لأن الدار الآخرة وهي دار الجزاء ليست بدار التكليف أو دار الابتلاء ، وإنما الدنيا هي مدار التكاليف من الإيمان والعمل الصالح. أو كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب ، والإيمان لا يكون إلا في الدنيا ، وهم في الآخرة ، والدنيا من الآخرة بعيدة؟!

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة ، وقد كفروا بالحق في الدنيا ، وكذبوا الرسل؟ وكانوا يرجمون بالظن ويتكلمون بما لا مستند لهم فيه ، فتارة يقولون في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : شاعر ، أو كاهن ، أو ساحر ، أو مجنون ونحو ذلك من الأباطيل ، وتارة يقولون في القرآن : سحر ، أو شعر ، أو كهانة ، أو إفك مفترى ، وتارة يقولون : لا بعث ولا جنة ولا نار ولا حساب ولا جزاء ، وما نحن بمعذبين.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا ، وبين ما طلبوه في الآخرة ، فمنعوا منه ، مثل قبول الإيمان ، والفرار من العذاب ، أو الرجوع إلى الدنيا ، أو اصطحاب أموالهم وأهليهم ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر ٤٠ / ٨٤ ـ ٨٥].

(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) هذا بيان سنة الله في أمثالهم ، وعلة تعذيبهم ورفض قبول إيمانهم ، والمعنى : لقد فعلنا بهم كما فعلنا في أمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية ، إنهم كانوا جميعا في الدنيا في شك مغرق في الريبة في أمر الرسل وما جاؤوا به من التوحيد ، وإثبات البعث والجزاء ، والشرائع والأحكام.

٢١٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ هذه صورة كئيبة محزنة من أحوال الكفار في وقت اضطرارهم إلى معرفة الحق ، فتراهم في أسوأ حال وأعجبه حين يستبد بهم الفزع والخوف ويتملكهم عند نزول بأس الله تعالى بهم ، ومعاينة العذاب والعقاب يوم القيامة ، حيث لا مفر ولا مهرب ولا نجاة لهم ، وأخذوا من حيث كانوا في موقف الحساب إلى النار ، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه.

٢ ـ في هذه الحالة الرهيبة يعلنون الإيمان بالقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبعث ، ولكن كيف لهم تعاطي الإيمان وتناوله في الآخرة ، وقد كفروا في الدنيا؟!

٣ ـ إنهم كفروا بالله عزوجل وبالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا ، ويرجمون بالظن ، ويتكلمون بالأوهام كحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد ، فلا يصيبه ، فيقولون : لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، رجما منهم بالظن ، ويقولون في القرآن : سحر ، وشعر ، وأساطير الأولين ، ويقولون في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ساحر ، شاعر ، كاهن ، مجنون.

٤ ـ والنهاية المحتومة : الحيلولة بينهم وبين النجاة من العذاب ، ومن الرجوع إلى الدنيا ، ومما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم. وذلك المصير مشابه لمصير أمثالهم ممن مضى من القرون السالفة الكافرة ، إنهم جميعا استحقوا العذاب ؛ لأنهم كانوا في شك ممعن في الريبة في أمر الرسل والبعث والجنة والنار ، بل وفي الدين كله والتوحيد.

٢١٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة فاطر

مكيّة ، وهي خمس وأربعون آية

تسميتها :

تسمى سورة «فاطر» لافتتاحها بهذا الوصف لله عزوجل الدال على الخلق والإبداع والإيجاد للكون العظيم ، والمنبئ عن عظمة الخالق وقدرته الباهرة. كما تسمى أيضا سورة «الملائكة» ؛ لأنها أفادت في مطلعها أيضا أن الله سبحانه جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغهم رسالاته وأوامره.

مناسبتها لما قبلها :

قال السيوطي : مناسبة وضعها بعد سبأ : تآخيهما في الافتتاح بالحمد ، مع تناسبهما في المقدار.

وتظهر صلتها أيضا بما قبلها في أنه لما أبان تعالى في ختام سورة سبأ هلاك الكفار وتعذيبهم أشد العذاب ، فقال : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) اقتضى أن يذكر ما يلزم المؤمنين من الحمد والشكر لله تعالى على ما اتصف به من قدرة الخلق والإبداع ، وإرسال الملائكة رسلا إلى الأنبياء لتبليغ الرسالة والوحي.

مشتملاتها :

موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية في العقيدة من الدعوة إلى

٢١٨

توحيد الله ، وإقامة البراهين على وجوده ، وهدم قواعد الشرك ، والإلزام بمنهج الاستقامة على دين الله وأخلاق الإسلام.

وقد اشتملت هذه السورة في فاتحتها ومقدمتها على بيان الأدلة الدامغة على قدرة الله عزوجل بإبداع الكون ، وجعل الملائكة رسلا بينه وبين أنبيائه لتبليغ الوحي. ثم ذكّرت الناس بنعم الله ليشكروها ، وحذرت من وساوس الشيطان ، وأبانت الفرق المتميز بين جزاء الكفار وجزاء المؤمنين الأبرار ، وميّزت بين المؤمن والكافر بضرب المثل بالأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، والظل والحرور.

وأوضحت مظاهر القدرة الإلهية ، وأقامت الأدلة والبراهين على البعث في سجل هذا الكون من إنزال الغيث ، وإنبات الزرع والثمار ، وخلق الإنسان في أطوار ، وعزل البحر المالح عن البحر العذب ، وتعاقب الليل والنهار ، وإيلاج أحدهما في الآخر ، وتسخير الشمس والقمر ، واختلاف ظواهر الجبال والناس والدواب والأنعام ، ومزية العلماء.

وأعلنت إرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق بشيرا ونذيرا ، كما أرسل نذير في كل أمة ، وثبّتت قلبه بذكر قصص المكذبين السابقين للأنبياء.

وأشادت بمن يتلو كتاب الله ، ويقيم الصلاة ، وينفق من رزق الله سرا وعلانية ، وأبانت أن القرآن مصدّق للكتب السماوية السابقة ، وفاخرت بميراث الأمة الإسلامية لأشرف رسالة ، وذكرت انقسام الأمة إزاءها إلى أنواع ثلاثة : ظالم مقصّر ، ومحسن مقتصد ، وسابق بالخيرات ، وحددت جزاء كل نوع في عالم الآخرة.

ثم ذكرت جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين ، ووصفت عاقبة كل منهم وما أعد له يوم القيامة.

٢١٩

وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم الأوثان والأصنام ، وأنذرتهم بعاقبة الذين من قبلهم الذين كانوا أشد منهم قوة ، وقرنت هذا الإنذار برحمة الله العامة للناس جميعا حيث لم يعاجلهم العقوبة ، وإنما يؤخرهم إلى أجل مسمى.

بعض أدلة القدرة الإلهية والتذكير بنعم الله وإثبات التوحيد والرسالة

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))

الإعراب :

(فاطِرِ السَّماواتِ فاطِرِ) : إما صفة لاسم الله تعالى أو بدل.

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً رُسُلاً) : مفعول به لاسم الفاعل : (جاعِلِ) إذا كان مرادا به الحال أو الاستقبال ؛ لأنه حينئذ يكون عاملا ، أما إن أريد به الماضي كان (رُسُلاً) منصوبا بتقدير فعل.

(أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : صفة : (أَجْنِحَةٍ) ، وهي ممنوعة من الصرف للوصف والعدل ، فهي معدولة عن لفظ اثنين وثلاثة وأربعة.

٢٢٠