التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : إن أحد الفريقين منا ، سواء معشر المؤمنين الموحدين الله الخالق الرازق ، الذين يخصونه بالعبادة ، أو المشركين الذين يعبدون الجمادات العاجزة عن الخلق والرزق والنفع والضرر ، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو في الضلال البيّن الوضح ، فلا سبيل إلى تصويب كل منا ، فإما أن نكون نحن أو أنتم على الهدى أو على الضلال ، بل واحد منا مصيب ، والآخر مخطئ مبطل. وهذا أسلوب فيه لطف وأدب ، لاستدراج الخصم إلى أن ينظر في حاله وحال غيره ، ويستعمله العرب لإعطاء الحرية للمخاطب بأن يتأمل ويعلن عن قناعة أنه مخطئ وغيره مصيب ، كما يقول الرجل لصاحبه : قد علم الله الصادق مني ومنك ، وإن أحدنا لكاذب.

ويلاحظ أنه ذكر كلمة «على» مع الهدى ، وكلمة «في» مع الضلال ؛ لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع ، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها. ووصف الضلال بالمبين ، ولم يصف الهدى ؛ لأن الهدى هو الطريق المستقيم الموصل إلى الحق ، والمستقيم واحد ، وغيره كله ضلال ، بعضه أبين من بعض. وقدم الهدى على الضلال لمناسبته لوصف المؤمنين المبدوء بكلمة (إِنَّا) المقدم في الذكر.

ثم أعلن الله تعالى وجود الانفصال بين الفريقين واستقلال كل منهما عن الآخر بطريق التلطف مرة أخرى بنسبة الاجرام فرضا إلى المؤمنين والعمل للمشركين فقال : (قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي قل أيها الرسول أيضا للمشركين : إن كانت عبادتنا لله وطاعتنا له جريمة ، فلستم مسئولين عنا ، ولا نسأل عما تعملون من خير أو شر. وهذا معناه التبري منهم ، فلستم منا ولا نحن منكم ، بل ندعوكم إلى توحيد الله وإفراد العبادة له ، فإن أجبتم فأنتم منا ، ونحن منكم ، وإن أعرضتم وكذبتم فنحن برآء منكم ، وأنتم برآء منا ، كما قال الله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس ١٠ / ٤١]. وقد أضاف الاجرام إلى النفس :

١٨١

(أَجْرَمْنا) وقال في حقهم (عَمَّا تَعْمَلُونَ) لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.

ثم أنذرهم الله تعالى بالقضاء والحكم الذي سيقضي به ، تأكيدا للنظر والتفكر ، في مجال الحساب والثواب والعذاب ، فقال :

(قُلْ : يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي قل لهم أيها الرسول أيضا. إن ربنا سيجمع بيننا في ساحة واحدة يوم الحساب ، ويوم القيامة ، ثم يحكم ويقضي بيننا بالحق والعدل ، والله هو الحاكم العادل القاضي بالصواب ، العالم بحقائق الأحوال والأمور ، وبما يتعلق بحكمه من المصالح ، فيجزي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية ، كما قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) [الروم ٣٠ / ١٤ ـ ١٦].

ثم تحداهم تعالى بالكشف عن الشركاء وقدراتهم ، فقال :

(قُلْ : أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ ، كَلَّا ، بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين قولا فصلا : أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا ، وصيرتموها شركاء ونظراء معادلين لله ، حتى أراهم ، وأرى ما يقدرون عليه. الحق واضح ، والأمر ليس كما تزعمون ، كلا أي فارتدعوا عن ادعاء المشاركة ، فلا نظير ولا شريك ولا عديل لله ، بل هو الله الواحد الأحد ، المتفرد بالألوهية ، الذي لا شريك له ، ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء ، وغلب كل شيء ، الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، حكمة باهرة لا يعلوها شيء. وهذا التساؤل يراد به بيان فائدة الشركاء في دفع الضرر ، بعد إبطال فائدتها بآية

١٨٢

(قُلْ : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لجلب المنفعة ، تمشيا مع أهداف العامة الذين لا يعبدون المعبود إلا لدفع الضرر أو لجلب المنفعة ، أما الخواص فيعبدون الله لأنه يستحق العبادة لذاته.

وبعد إثبات التوحيد ، أبان الله تعالى عموم الرسالة المحمدية للناس جميعا ، فليست ذات نزعة عنصرية ، ولا حكرا على العرب وحدهم ، فقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي وما أرسلناك أيها النبي لقومك العرب خاصة ، بل أرسلناك للناس قاطبة ، عربهم وعجمهم ، أبيضهم وأسودهم وأحمرهم ، مبشرا من أطاع الله بالجنة ، ومنذرا من عصاه بالنار ، كما قال تعالى : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨] وقال سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١].

وفي الصحيحين عن جابر رضي‌الله‌عنه مرفوعا : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي .. وذكر منها : وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». وفي الصحيح أيضا : «بعثت إلى الأسود والأحمر».

إلا أن أكثر الناس لا يعلمون بعموم الرسالة ، ولا بمهمة التبشير والإنذار ، ولا بخطورة ما هم عليه من الضلال والجهالة ، ولا بالنفع في إرسال الرسل ، ولا ما عند الله من الجزاء ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف ١٢ / ١٠٣] وقال سبحانه : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام ٦ / ١١٦].

وبعد بيان التوحيد ثم الرسالة ، ذكر الحشر ، فأخبر تعالى عن استبعاد الكفار قيام الساعة وأجاب عنه ، فقال :

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول المشركون

١٨٣

استهزاء وتعنتا وجهلا : متى يكون هذا الوعد الذي تعدوننا به يا محمد والمؤمنون ، وهو قيام الساعة ، أخبرونا به إن كنتم صادقين في قولكم. وهذا كقوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) [الشورى ٤٢ / ١٨].

والجواب هو :

(قُلْ : لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ ، لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : لكم موعد يوم مؤجل محدد لا شك فيه ، هو يوم البعث والقيامة ، لا تتأخرون عنه ساعة ولا تتقدمون عليه ، لا يزاد ولا ينقص ، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قدّر الله وقوعه فيه. وفي هذا إنذار كاف.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الله سبحانه وتعالى في الواقع الذي لا يقبل سواه ، وفي اعتراف المشركين أنفسهم هو خالق الأرزاق الكائنة من السموات ، عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع ، والخارجة من الأرض عن الماء والنبات ، وبما أن الله هو الخالق الرازق فهو الذي ينبغي أن يعبد. ومن المعلوم أن العامة يعبدون الله ، لا لكونه إلها ، وإنما يطلبون به شيئا : إما دفع ضرر ، أو جر نفع.

٢ ـ الحق واحد لا يتعدد ، فلا يعقل أن يكون كل المؤمنين والمشركين في حال واحدة من الهدى أو الضلال ، بل هما متعارضان متضادان ، وأحد الفريقين مهتد ، وهم المؤمنون ، والآخر ضال وهم المشركون.

وقد كذبهم القرآن بأسلوب يعد أحسن من تصريح الكذب ، وهو أن المشركين هم الضالون حين أشركوا بالذي يرزقهم من السموات والأرض. فقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كما تقول : أنا أفعل كذا ،

١٨٤

وتفعل أنت كذا ، وأحدنا مخطئ ، وقد عرف من هو المخطئ. أما لو قال أحد المتناظرين للآخر : هذا الذي تقوله خطأ ، وأنت فيه مخطئ ، فإنه يغضب ، وإذا غضب اختل الفكر وساء الفهم.

٢ ـ أقام الله تعالى مهادنة ومتاركة بين المؤمنين والمشركين ، فأعلن رسوله لهم : إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم ، لا أن ينالني ضرر كفركم ، ولا يسأل أحد الفريقين عن الآخر ، فلا يسأل المشركون عما اكتسب المؤمنون ، ولا يسأل المؤمنون أيضا عما اقترف المشركون ، كما قال تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون ١٠٩ / ٦].

٣ ـ يجمع الله تعالى يوم القيامة أهل الإيمان وأهل الشرك ، ثم يقضي بينهم بالحق والعدل ، فيثيب المهتدي ، ويعاقب الضال ، والله هو القاضي بالحق ، العليم بأحوال الخلق.

٤ ـ يسأل المشركون : عرّفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عزوجل ، وهل شاركت في خلق شيء؟ بينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها؟!

الحق أنه ليس الأمر كما زعم المشركون ، فليس لله شركاء ، بل هو الله ذو العزة القاهر الغالب ، الحكيم في أقواله وأفعاله ، يفعل ما هو مصلحة.

٥ ـ رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسالة عامة للبشرية جمعاء ، وليست مقصورة على العرب خاصة ، ومهمة النبي تبشير من أطاع الله بالجنة ، وإنذار من عصاه بالنار ، ولكن أكثر الناس وهم في ذلك الوقت المشركون لا يعلمون ما عند الله تعالى.

٦ ـ يتساءل المشركون استهزاء وعنادا وتعجيزا ، فيقولون للمؤمنين : متى موعدكم لنا بقيام الساعة إن كنتم صادقين في إخباركم عنها؟

١٨٥

فيجيبهم الله تعالى : قل لهم يا محمد : لكم ميقات معين هو يوم البعث أو القيامة ، لا يزيد ولا ينقص ، ولا تتقدمون عنه ولا تتأخرون ، وهو آت لا محالة ، وعلمه عند الله لم يطلع عليه أحدا من خلقه.

إنكار المشركين القرآن والحوار يوم القيامة بين الضالين والمضلين

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))

الإعراب :

(لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ أَنْتُمْ) ضمير مرفوع منفصل ، مبتدأ ، خبره محذوف ، ولا يجوز إظهاره لطول الكلام بالجواب.

البلاغة :

(لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) استعارة في الجملة الأخيرة ، إذ ليس للقرآن يدان ، ولكنه استعارة لما سبقه من الكتب السماوية المتقدمة.

١٨٦

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) حذف الجواب للتهويل ، أي لو رأيت حالهم ، لرأيت أمرا مريعا مهولا.

(اسْتَكْبَرُوا) و (اسْتُضْعِفُوا) بينهما طباق.

(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أسند المكر إلى الليل على سبيل المجاز العقلي ، أي المكر الواقع ليلا.

(أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى) استفهام بمعنى الإنكار.

المفردات اللغوية :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة. (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما تقدمه من الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل الدالين على البعث ؛ لإنكارهم له. (وَلَوْ تَرى) يا محمد. (إِذِ الظَّالِمُونَ) الكافرون. (مَوْقُوفُونَ) محبوسون ممنوعون في موقف الحساب. (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) الأتباع. (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) الرؤساء. (لَوْ لا أَنْتُمْ) لو لا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإيمان. (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) بالله مصدقين لرسوله وكتابه.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) مجيبين عليهم ، مستنكرين لما قالوه. (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى) أي منعناكم عن الهدى. (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) الهدى. (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) مصرّين على الكفر ، كثيري الاجرام والآثام. (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ردّا لجوابهم ودفعا لما نسبوه إليهم من صدهم عن الإيمان. (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي لم يكن إجرامنا الصادّ ، بل مكركم بنا في الليل والنهار ، ودعوتكم المستمرة لنا إلى الكفر ، هو الذي حملنا على هذا ، والمكر : الخديعة والاحتيال. (أَنْداداً) شركاء ، جمع ندّ : وهو النظير والشبيه. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر ، وأخفوها عن غيرهم. (الْأَغْلالَ) جمع غلّ ، وهو طوق من حديد يوضع في العنق. (فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) جاء بالظاهر تنويها بذمّهم ، أي جعلنا الأغلال في أعناق الكافرين في النار. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما يجزون إلا جزاء عملهم في الدنيا ، أو لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم ، وتعدية (يُجْزَوْنَ) إما لتضمين «يجزى» معنى : يقضى ، أو لنزع الخافض.

المناسبة :

بعد بيان الأمور الثلاثة من التوحيد والرسالة والحشر التي كفروا بها كلها ، ذكر تعالى إنكار جماعة من المشركين القرآن والكتب السماوية القديمة ، وما فيها

١٨٧

من إثبات البعث والحشر والحساب والجزاء ، ثم ذكر صورة من الحوار الحادّ بين الرؤساء المضلين والأتباع الضالين ، وأوضح وصفا للجزاء الذي يلقونه على أعمالهم في الدنيا.

التفسير والبيان :

هذا لون من تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وهو إصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم ، وبما أخبر به من أمر المعاد ، فقال تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وقال جماعة من مشركي العرب في مكة وغيرها : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب السماوية السابقة ، كالتوراة والإنجيل ، ولا بما اشتملت عليه من أمور الآخرة من بعث وحشر وحساب وجزاء. والمعنى : أنهم جحدوا نزول القرآن من الله تعالى ، وأن يكون لما دل عليه من المعاد وإعادة الجزاء حقيقة.

ثم أخبر تعالى عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة وحوارهم فيما بينهم فقال لرسوله أو للمخاطب :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي ولو تنظر أيها الرسول حين يكون الكافرون أذلة مهانين محبوسين في موقف الحساب ، يتخاصمون ويتحاجون ويتحاورون فيما بينهم ويتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب ، لرأيت العجيب والمخيف.

وصورة الحوار هي :

(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي يقول الأتباع الضعفاء للسادة الرؤساء المتكبرين في الدنيا : لو لا صدكم لنا عن الإيمان بالله واتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكنا مؤمنين بالله ، مصدقين برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه.

١٨٨

فأجابهم القادة :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ ، بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي قال السادة القادة المتكبرون في الدنيا للأتباع الضعفاء ، مستنكرين لما قالوا : أنحن منعناكم عن الإيمان واتباع طريق الهدى بعد أن جاءكم من عند الله؟ لا ، بل أنتم منعتم أنفسكم بإصراركم على الكفر ، وولوغكم في الاجرام والإثم.

فرد عليهم الأتباع بقولهم :

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ ، وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي رد الأتباع على القادة رؤساء الضلال : بل الذي صدنا عن الإيمان مكركم بنا بالليل والنهار حين كنتم تطلبون منا أن نبقى على الكفر بالله ، ونجعل له أشباها وأمثالا في الألوهية والعبادة.

ثم ذكر مصير الفريقين فقال :

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وأضمر الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه عن الكفر ، وأخفاه عن غيره ، مخافة الشماتة ، وتبينت الندامة في وجوههم حين واجهوا العذاب المحدق بهم ، وحين جعلنا الأغلال وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم في النار.

ثم أخبر تعالى عن عدالة هذا الجزاء ، فقال :

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ)؟ أي إنما نجازي هؤلاء وأمثالهم بأعمالهم ، كل بحسبه ، وبسبب ما اقترفه من الشرك بالله والإثم ، للقادة عذاب بحسبهم ، وللأتباع بحسبهم : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤١ / ٤٦].

١٨٩

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لقد أعلن كفار قريش عدم إيمانهم بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة المتضمنة الإخبار عن أمور الغيب من البعث والحشر والحساب والجزاء.

٢ ـ أخبر الله تعالى عن حالهم من الذلة والمهانة يوم القيامة ، فهم محبوسون في موقف الحساب ، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب ، بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين ، فحين ترى الظالمين موقوفين على تلك الحال ، ترى عجبا.

٣ ـ تكون المحاورة بين الرؤساء والأتباع شديدة حادة ، فيقول الأتباع للسادة ـ وبدأ بهم لأن المضل أولى بالتوبيخ ـ : لو لا أنكم أغويتمونا وأضللتمونا لكنا مؤمنين بالله ورسوله وكتبه.

ويردّ القادة والرؤساء على الضعفاء الأتباع بقولهم منكرين اتهامهم : ما رددناكم نحن عن الهدى ، ولا أكرهناكم ، بعد أن جاءكم من الله ، بل كنتم أنتم مشركين مصرين على الكفر.

فأجابهم الأتباع بجواب أبلغ وأحكم : إن خديعتكم وحيلتكم وعملكم في الليل والنهار هو الذي صدّنا عن الإيمان بالله ورسوله ، وهو الذي حملنا على الكفر بدعوتكم المستمرة المدبرة دوما ، وكنتم تأمروننا بالكفر بالله ، وبأن نجعل له أشباها وأمثالا ونظراء.

وحين مجيء العذاب وبعد اليأس من الحوار أضمر الفريقان الندامة ، وأخفوها مخافة الشماتة ، وهذا معنى (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) وقيل : معنى الإسرار :

١٩٠

الإظهار ، أي أظهروا الندامة ؛ لأن الفعل من الأضداد ، يكون بمعنى الإخفاء والإبداء.

٤ ـ كان جزاء الفريقين التابعين والمتبوعين وسائر الكنار : جعل أغلال الحديد في أعناقهم في النار ، وهذا جزاء حق وعدل ، ولا يجازى هؤلاء إلا بسبب أعمالهم في الدنيا من الشرك بالله والإثم والعصيان.

تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ظاهرة الكفر بين المترفين واعتدادهم بالأموال والأولاد

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

١٩١

الإعراب :

(بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالَّتِي) في موضع نصب ؛ لأنه خبر (ما). ودخلت الباء في خبر (ما) لتكون بإزاء اللام في خبر «إنّ» لأن «إن» للإثبات ، و (ما) للنفي. و (إِلَّا مَنْ آمَنَ) في موضع نصب على الاستثناء ، ولا يجوز أن يكون منصوبا على البدل من الكاف والميم في (تُقَرِّبُكُمْ) لأن المخاطب لا يبدل منه. لكن جاء إبدال الغائب من المخاطب ، بإعادة العامل في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب ٣٣ / ٢١] أبدل منه بإعادة الجار ، فقال : لمن كان يرجو.

البلاغة :

(يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ) بينهما طباق.

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) فيه التفات من الغائب إلى المخاطب للمبالغة في تحقيق الحق ، وفيه إيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ، حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه ، أي ما أموالكم بالتي تقربكم ، ولا أولادكم بالذين يقربونكم عندنا.

(إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) مقابلة بين عاقبة الأبرار والفجار.

(كافِرُونَ لا يَعْلَمُونَ آمِنُونَ مُحْضَرُونَ ٣٨) فيها توافق الفواصل الذي فيه جميل الوقع على السمع.

المفردات اللغوية :

(قَرْيَةٍ) أهل قرية أي بلد. (نَذِيرٍ) ينذرهم ويحذرهم عقاب الله. (مُتْرَفُوها) أثرياؤها وقادة الشرّ فيها. (كافِرُونَ) مكذبون لكم بما أرسلتم به من التوحيد والإيمان. (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) قاسوا أمر الآخرة المفترضة عندهم على أمر الدنيا ، واعتقدوا أنهم لو لم يكونوا مكرمين عند الله لما رزقهم ، ولو لا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) يوسعه لمن يريد امتحانا. (وَيَقْدِرُ) يضيقه لمن يشاء ابتلاء. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة ، وكثيرا ما يكون للاستدراج. (زُلْفى) قربى أي تقريبا ، ويصح : زلفة : قربة. (إِلَّا مَنْ آمَنَ) لكن من آمن. (جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) الجزاء المضاعف للحسنات ، أي الحسنة بعشر فأكثر. (الْغُرُفاتِ) غرفات الجنة ، وقرئ : الغرفة ، بمعنى الجمع. (آمِنُونَ) من جميع ما يكرهون من الموت وغيره.

١٩٢

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) القرآن بالرد والطعن. (مُعاجِزِينَ) مسابقين مغالبين لنا ، زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم. (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) تحضرهم الزبانية إلى النار ، دون أن يجدوا عنها محيصا أو مهربا.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) في فعل الخيرات التي أمر الله بها في كتابه وبيّنها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي يعوضه عليكم إما في الدنيا وإما في الآخرة. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي إن الناس مجرد وسطاء ، فإن رزق العباد لبعضهم بعضا إنما هو بتيسير الله وتقديره ، وليسوا برازقين على الحقيقة ، وإنما الرازق الحقيقي هو الله تعالى.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٤):

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ ..) : أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : «كان رجلان شريكان ، خرج أحدهما إلى الشام ، وبقي الآخر ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل ، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم ، فترك تجارته ، ثم أتى صاحبه ، فقال : دلّني عليه ، وكان يقرأ الكتب ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إلام تدعو؟ فقال : إلى كذا وكذا ، فقال : أشهد أنك رسول الله ، فقال : وما علمك بذلك؟ قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم ، فنزلت هذه الآية : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فأرسل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله قد أنزل تصديق ما قلت».

المناسبة :

بعد بيان تكذيب المشركين بالقرآن وبما تقدمه من الكتب السماوية ، سلّى الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما مني به من مخالفة قومه ، وخصّ بالتكذيب المترفين المعتمدين على كثرة الأموال والأولاد ؛ لأن الداعي إلى التكبر والإباء المفاخرة بزخارف

١٩٣

الدنيا والانهماك في الشهوات ، والاستهانة بمن لم يحظ منها ، وهذه ظاهرة عامة في الأمم ؛ لأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعا.

ثم فنّد الله تعالى مزاعمهم مبينا بأن الغنى والفقر لا يرتبطان بالإيمان والكفر ، فقد يرزق الكافر الفاجر ويحرم المؤمن وبالعكس ، لحكمة ومصلحة يعلمها الله تعالى ، وإنما الجزاء العادل في الآخرة حيث يمتّع المتقون بغرف الجنان ، ويزج الكافرون الصادون عن سبيل الله في نار جهنم.

التفسير والبيان :

يسلّي الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إعراض قومه عن دعوته ، ويأمر بالتأسي بالرسل المتقدمين ، ويخبره بأنه ما بعث نبيا في قرية إلا كذبه مترفوها ، واتبعه ضعفاؤهم ، فقال :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي لم نبعث إلى أهل كل قرية نبيا أو رسولا يحذرهم ويخوفهم عقاب الله إلا قال أغنياؤها وكبراؤها وأولو النعمة وقادة الشر فيها : إنا مكذبون بما أرسلتم به من توحيد الإله والإيمان به ، ونبذ تعدد الآلهة ، فلا نؤمن بكم ولا نتبعكم.

ونظير الآية كثير مثل : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام ٦ / ١٢٣] ومثل : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء ١٧ / ١٦].

ومسوغات كفرهم : الاغترار بالأموال والأولاد ، كما قال تعالى :

(وَقالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي وقال المترفون الكافرون للرسل وأتباعهم المؤمنين : إن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في

١٩٤

الدنيا ، وأنتم فقراء ضعفاء ، فهذا دليل تميزنا وتفاخرنا ، وهو دليل على محبة الله تعالى لنا ورضاه عنا ، وما نحن عليه من الدين ، وما كان ليعطينا هذا في الدنيا ويحسن إلينا ، ثم يعذبنا في الآخرة.

ولكن هذه النظرة خطأ محض ، وقياس باطل ، فإن الإمداد بالأموال غالبا ما يكون للاستدراج ، كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٥٦ ـ ٥٥]. وقال سبحانه : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ، وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ٩ / ٥٥].

وهنا رد الله عليهم ، وأبان خطأهم ، فقال :

(قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي قل أيها الرسول لهم : إن الله يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب ، فيغني من يشاء ، ويفقر من يشاء ، لا لمحبة لمن وسع عليه ، ولا لبغض لمن ضيق عليه ، وإنما له في ذلك حكمة تامة بالغة ، ولأن الدنيا لا تساوي شيئا في ميزان الله ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي عن سهل بن سعد : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي إن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة سنن الله في الكون ، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مسألة الرزق غلط بيّن ، أو مغالطة واضحة ، فقد يعطي الله العاصي والكافر استدراجا ، ويمنع الطائع والمؤمن ابتلاء واختبارا ، ليصبر ، فتكثر حسناته عند الله ، وبه يتبين أن ما يزعمه المترفون من أن مدار التوسعة هو الشرف والكرامة ومدار التضييق هو الهوان والذل : لا حقيقة له ولا أصل في تقدير الله تعالى.

ثم أبان تعالى ميزان القربى عنده ، وأنها ليست بكثرة المال والولد ، وإنما بالإيمان والعمل الصالح ، فقال :

١٩٥

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا ، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي وليست كثرة أموالكم وأولادكم هي دليل محبتنا لكم ورضائنا عنكم ، ولا هي مما تقربكم إلى رحمتنا وفضلنا ، فإنما أموالكم وأولادكم فتنة واختبار لنعلم من يستعملها في طاعة الله ، ممن يعصي الله فيها.

لكن من آمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ، وعمل صالح الأعمال ، فأدى الفرائض ، واستعمل أمواله في طاعة الله ، فإن إيمانه وعمله يقربانه لدينا ، ويكون مرضيا عندنا ، وهؤلاء لهم الجزاء المضاعف للحسنات ، نجازيهم الحسنة بعشر أمثالها فأكثر إلى سبع مائة ضعف ، وهم آمنون من كل مكروه في غرفات الجنان.

روى الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها ، فقال أعرابي : لمن هي؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لمن طيّب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام».

ثم هدد الله تعالى الكافرين ، وأبان حال المسيئين ، فقال :

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي إن الذين يحاولون رد آياتنا في القرآن ، والطعن فيها ، لإبطالها ، ويسعون في الصد عن سبيل الله ، واتباع رسله ، والتصديق بآياته ، زاعمين أنهم يفوتوننا ،

١٩٦

وأننا لا نقدر عليهم ، فأولئك جميعهم مجزيون بأعمالهم ، تحضرهم الزبانية إلى عذاب جهنم ، ولا يجدون عنها محيصا أو مهربا.

ثم أبان الله تعالى ما يريح الخلائق جميعا في مسألة الرزق ، وأنه وحده هو المصدر ، فقال:

(قُلْ : إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي قل أيها الرسول لهم: إن ربي وحده هو الذي يوسع الرزق على من يريد من عباده ، وهو الذي يضيقه على من يشاء ، بحسب ما له في ذلك من الحكمة التي لا يدركها غيره.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي إن عطاء الله متجدد دائم ، فكل ما تنفقونه في فعل الخيرات التي أمر الله بها في كتابه وبيّنها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو يعوضه عليكم بالبدل في الدنيا أو بالجزاء والثواب في الآخرة ، والله هو الرازق في الحقيقة ، وما العباد إلا وسائط وأسباب. وفي هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الإنفاق في الخير.

جاء في الحديث القدسي عند مسلم : «يقول الله تعالى : أنفق أنفق عليك» وروى الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا». وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنفق بلالا ، ولا تخش من ذي العرش إقلالا».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن الاغترار بالأموال والأولاد ظاهرة عامة في البشر ، وهي في الغالب سبب للإعراض عن دعوة الرسل ، فلم يرسل الله نبيا ولا رسولا إلا قال مترفوها

١٩٧

أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل والأنبياء : نحن كافرون بما أرسلتم به.

وقالوا أيضا : لقد فضلنا عليكم بالأموال والأولاد ، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدّين والفضل لم يعطنا ذلك ، ولسنا نحن بمعذبين في الآخرة إن وجدت كما تقولون ؛ لأن من أحسن إليه فلا يعذبه.

٢ ـ رد الله عليهم قولهم بأن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم ، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب ، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة ، فلا تظنوا أن أموالكم وأولادكم تغني عنكم غدا شيئا ، والرزق في الدنيا لا تدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل ، فكم من موسر شقي ومعسر تقي.

ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا ؛ لأنهم لا يتأملون.

٣ ـ أكد الله تعالى جوابه بأن الأموال والأولاد لا تقرب شيئا إلى الله ، أما الذي يقرب إليه فهو الإيمان والعمل الصالح ، فمن آمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا.

وأولئك المؤمنون الصالحون لهم الجزاء المضاعف للحسنات في الآخرة ، كما قال سبحانه: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام ٦ / ١٦٠] وهم الآمنون من كل مكروه في غرفات الجنة ، آمنون من العذاب والموت والأسقام ، وهذا إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده ، فإن من تنقطع عنه النعمة ، لا يكون آمنا.

وقد استدل بعضهم بهذه الآية في تفضيل الغنى على الفقر ، قال محمد بن كعب : إن المؤمن إذا كان غنيا آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية.

٤ ـ أما الكافرون الصادون عن سبيل الله واتباع رسله ، الساعون في إبطال

١٩٨

الأدلة والحجج المذكورة في القرآن ، الذين يحسبون أنهم يفوتون الله بأنفسهم ، فلا يقدر عليهم ، فأولئك تحضرهم الزبانية في نار جهنم ، وهذا إشارة أيضا إلى دوام العذاب ، كما قال تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) [السجدة ٣٢ / ٢٠] وكما قال تعالى : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [الانفطار ٨٢ / ١٦].

٥ ـ كرر الله تعالى للتأكيد أنه هو وحده باسط الرزق ومضيقه لمن يشاء ، على وفق ما يرى من الحكمة والمصلحة لعباده ، فيا أيها المغترون بالأموال والأولاد : إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء ، فلا تغتروا بالأموال والأولاد ، بل أنفقوها في طاعة الله ، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه عليكم ، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ، وهو الرازق على الحقيقة ، والناس مجرد وسطاء ورزقهم منقطع ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات ٥١ / ٥٨].

٦ ـ ما دلت عليه الآية : (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) والحديث المتقدم المتفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا : «قال : قال الله عزوجل : «أنفق أنفق عليك» : فيه إشارة إلى أن الخلف في الدنيا عن النفقة إذا كانت النفقة في طاعة الله ، وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء لتكفير الذنوب أو ادخار الثواب في الآخرة.

روى الدارقطني عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل معروف صدقة ، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله ، كتب له صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه (١) فهو صدقة ، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية».

أما ما أنفق الشخص في معصية فلا خوف أنه غير مثاب عليه ، ولا مخلوف له. وأما البنيان فما يكون منه ضروريا يكنّ الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف

__________________

(١) مثل إعطاء الشاعر وذي اللسان لتوقي الذم والقدح والهجاء.

١٩٩

عليه ، ومأجور ببنيانه ، كحفظ بنيته ، وستر عورته. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عثمان : «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال : بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته ، وجلف الخبز والماء» أي الوعاء.

٧ ـ دل قوله تعالى : (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) على أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا ، بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم ، مع القطع بحصول النعيم لهم في العقبى ، بناء على وعد الله تعالى.

وخيرية الرزق في أمور ذكرها الرازي : أحدها ـ ألا يؤخر عن وقت الحاجة ، والثاني ـ ألا ينقص عن قدر الحاجة ، والثالث ـ ألا ينكده بالحساب ، والرابع ـ ألا يكدره بطلب الثواب (١).

تقريع الكفار يوم القيامة أمام معبوداتهم

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

البلاغة :

(أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) تقريع وتوبيخ للمشركين ، والخطاب للملائكة.

(نَفْعاً) و (ضَرًّا) بينهما طباق.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ٢٦٣

٢٠٠