التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

والخلاصة : أن الغاية من القيامة هي أن ينعم السعداء من المؤمنين بالجنة ، ويعذب الأشقياء من الكافرين بالنار.

ثم أورد الله تعالى حكمة أخرى معطوفة على ما قبلها فقال :

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إن المؤمنين بما أنزل على الرسل من المسلمين وأهل الكتاب ، مثل عبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما وغيرهم إذا شاهدوا قيام الساعة ، ومجازاة الأبرار والفجار ، وتحققوا مما علموه من كتب الله تعالى في الدنيا ، رأوه حينئذ عين اليقين وتيقنوا أن القرآن حق ، ويقولون يومئذ : إن الذي جاءت به رسل الله لحق ثابت صدق لا شك فيه ، وأن القرآن يرشد من اتبعه إلى طريق الله ذي العزة الذي لا يغلب ولا يمانع ، وهو القاهر كل شيء ، وهو المحمود في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ولا يليق به صفة العجز. والصحيح أن (وَيَرَى) مرفوع على الاستئناف.

ونظير الآية : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس ٣٦ / ٥٢] (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) [الروم ٣٠ / ٥٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ أنكر الكفار من أهل مكة وغيرهم مجيء البعث والقيامة ، قال أبو سفيان لكفار مكة : واللّات والعزّى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث ، وهذا يعني أنهم مقرون بابتداء الله الخلق منكرون الإعادة ، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث ، وقالوا : وإن قدر لا يفعل.

٢ ـ أكد الله تعالى حدوث الساعة بقسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بربه العظيم لتأتينهم ،

١٤١

وأخبر على ألسنة الرسل عليهم‌السلام أنه يبعث الخلق ، وإذا ورد الخبر بشيء ، وهو ممكن في الفعل مقدور ، فتكذيب من وجب صدقه محال.

٣ ـ الله عالم بأصغر شيء وأكبره في السموات والأرض ، فهو العالم بما خلق ، ولا يخفى عليه شيء ، فوجد المقتضي لوجود البعث وهو إقامة العدل بين الناس ، وارتفع المانع من حصوله.

٤ ـ إن الحكمة من البعث والقيامة والحساب هي إثابة المؤمنين الذين عملوا الصالحات ، وعقاب الكافرين المكذبين بوحدانية الله وبالرسل والملائكة والكتب الإلهية واليوم الآخر.

٥ ـ إن الكفار الذين سعوا في إبطال أدلة الوحدانية والبعث والنبوة ، والتكذيب بآيات الله مسابقين يحسبون أنهم يفوتون ربهم ، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة ، وظنوا أنه يهملهم ، هؤلاء لهم عذاب مؤلم هو أسوأ العذاب وأشده.

٦ ـ وفي مقابل موقف أولئك الكفار الذين سعوا في إبطال النبوة ، وجد آخرون هم الذين أوتوا العلم من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن مؤمني أهل الكتاب يرون أن القرآن حق وإن لم تأتهم الساعة ، والرؤية بمعنى العلم ، وأن القرآن يهدي إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله.

١٤٢

استبعاد الكفار قيام الساعة واستهزاؤهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والاستدلال على البعث

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

الإعراب :

(إِذا مُزِّقْتُمْ) العامل في (إِذا) فعل دلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وتقديره : إذا مزّقتم كلّ ممزّق بعثتم. وتقديم الظرف للدلالة على البعد.

البلاغة :

(هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) الاستفهام للسخرية والاستهزاء ، ومرادهم الاستهزاء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يذكروا اسمه تجهيلا له.

المفردات اللغوية :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : قال بعض الكفار لبعض على جهة التعجيب (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (يُنَبِّئُكُمْ) يخبركم أنكم (إِذا مُزِّقْتُمْ) قطّعتم قطعا صغيرة. (كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي كل تمزيق ، أي تقطيع. (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي إنكم تنشؤون وتخلقون خلقا جديدا بعد التمزيق والتفريق بحيث تصير ترابا. قالوا ذلك استهزاء.

(أَفْتَرى) الهمزة للاستفهام ، واستغني بها عن همزة الوصل ، والافتراء : اختلاق الكذب.

١٤٣

(جِنَّةٌ) جنون وزوال عقل يوهمه ذلك ويجعله يتخيل البعث. (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) المشتملة على البعث والعذاب فيها (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) عن الحق والصواب في الدنيا ، والعذاب في الآخرة. والمقصود الردّ من الله عليهم لإثبات ما هو أفظع من القسمين وهو الضلال والعذاب.

(أَفَلَمْ يَرَوْا) ينظروا. (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما فوقهم وما تحتهم. (نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) نغيبهم فيها. (كِسَفاً) قطعا جمع كسفة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) المرئي. (لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) المنيب : الراجع إلى ربه المطيع له ، والمعنى : إن فيما رأوا لدلالة على قدرة الله على البعث وما يشاء.

المناسبة :

بعد الإخبار عن إنكار الكفرة الساعة ، والرّد عليهم ، وبيان جزائهم وجزاء المؤمنين بها ، ذكر الله تعالى مقال الكافرين في شأن الساعة على سبيل التعجب والتهكم والاستهزاء ، ووصفهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه مفتر أو مجنون ، ثم أقام الدليل على البعث بقدرته على خلق السموات والأرض ، ثم هددهم بالعذاب الشديد ، لعلهم يرجعون عن كفرهم.

التفسير والبيان :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي قال بعض الكفار لبعض على سبيل التعجب والاستهزاء والتهكم : هل ندلكم على شخص اسمه محمد يخبركم بنبإ غريب وهو أنكم إذا بليتم وصرتم ترابا وصارت أجسادكم في الأرض متفرقة موزعة قطعا قطعا ، تعودون بعدئذ أحياء كما كنتم مرة أخرى.

ونظير الآية : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً ، وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٨].

١٤٤

(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي إن حاله لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله كذبا أنه قد أوحى إليه ذلك ، أي أنه كاذب فيما قاله ، أو أن به جنونا جعله لا يعقل ما يقول ، ويتوهم البعث ويتخيله.

فردّ الله عليهم بإثبات ما هو أخطر وأشنع من الأمرين فقال :

(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما زعموا ، ولا كما ذهبوا إليه ، بل إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الصادق الرشيد الذي جاء بالحق ، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء المنكرون للآخرة ، الذين كفروا ، فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة ، وهم اليوم في الدنيا في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد.

ثم نبههم تعالى على قدرته في خلق السموات والأرض ، فهو القادر على البعث ، فقال:

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي وبخهم لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء والأرض ، فقال لهم : أفلم ينظروا خلفهم وأمامهم إلى العجائب الدالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته ، فإنهم يرون السماء ناطقة بوجود القادر ، والأرض كذلك تنطق بمثل ما تشير به السماء من الدلالة ، فلو نظروا إليهما لعلموا أن خالقهما قادر على تعجيل العذاب لهم ، فإن نرد نخسف بهم الأرض ، كما خسفنا بقارون ، أو نسقط عليهم قطعا من السماء ، كما أسقطنا على أصحاب الأيكة.

والمراد : لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وقدرتنا عليهم ، ولكن نؤخر العقاب عنهم لحلمنا وعفونا.

١٤٥

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجّاع إلى الله ، على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد ؛ لأن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها ، وهذه الأرض في انخفاضها وطولها وعرضها ، قادر على إعادة الأجسام كما كانت ، كما قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر ٤٠ / ٥٧] ، وقال سبحانه : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى) [يس ٣٦ / ٨١].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ لم يكتف المشركون بإعلان إنكارهم البعث والقيامة ، وإنما تغالوا في ذلك فأخذوا يقولون قولا يقصد به الطعن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعجب منه والهزء والسخرية من إخباره بالبعث ، وجعلوا ذلك أداة ضحك وتلهي ، واستغربوا أن الناس إذا فرقوا كل تفريق في أجزاء التراب ، كيف يمكن إعادة الحياة لهم؟!

٢ ـ وقال المشركون : إن محمدا في إخباره بالبعث لا يخلو إما أن يكون كاذبا مفتريا على الله ، وإما أنه مجنون.

٣ ـ ردّ الله عليهم ردّا يثبت عليهم ما هو أشنع من التهمتين السابقتين : وهو أنهم بسبب إنكارهم البعث واقعون في الآخرة في العذاب الشديد ، واليوم في الضلال البعيد عن الصواب ، حين صاروا إلى تعجيز الإله ، ونسبة الافتراء إلى من أيّده الله بالمعجزات.

٤ ـ ثم أقام الله تعالى عليهم الدليل على صحة البعث ، فأعلمهم أن الذي قدر على خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث ، وعلى تعجيل العقوبة لهم ، ومنها الخسف والكسف ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.

١٤٦

٥ ـ وإن في هذا المذكور من قدرة الله الباهرة لدلالة ظاهرة لكل عبد تائب رجّاع إلى الله بقلبه على قدرة الله تعالى على البعث ووقوع المعاد. وخصّ المنيب بالذكر ؛ لأنه المنتفع بالتفكر في حجج الله وآياته.

نعم الله على داود عليه‌السلام

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

الإعراب :

(وَالطَّيْرَ) إما منصوب بالعطف على موضع المنادي وهو النصب في قوله : (يا جِبالُ) أو على أنه مفعول معه ، أي مع الطير ، أو بفعل مقدر ، أي وسخرنا له الطير ، ودلّ عليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً). ويقرأ بالرفع (وَالطَّيْرَ) عطفا على لفظ (يا جِبالُ) أو عطفا على الضمير المرفوع في (أَوِّبِي) وحسن ذلك لوجود الفصل ب (مَعَهُ) والفصل يقوم مقام التوكيد. والقراءة بالنصب أقوى في القياس من الرفع.

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أَنِ) : إما مفسرة بمعنى (أي) أو في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر ، وتقديره : لأن أعمل. و (سابِغاتٍ) : أي دروعا سابغات ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.

البلاغة :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) تنكير (فَضْلاً) للتفخيم ، أي فضلا عظيما. وتقديم داود على المفعول اهتمام بالمقدم وتشويق إلى المؤخر.

المفردات اللغوية :

(فَضْلاً) هو النبوة والملك والجنود وكتاب الزبور والصوت الحسن. (أَوِّبِي مَعَهُ) رجّعي وردّدي معه التسبيح ، والتأويب : التسبيح. (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جعلناه في يده كالعجين

١٤٧

أو الشمع يصرّفه من غير نار ولا طرق. (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي وقلنا له اعمل دروعا كوامل تامة ، وهو أول من اتخذها. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي اجعل النسج متناسبا في الحلق على قدر الحاجة غير مختلفة. و (قَدِّرْ) : اقتصد ، و (السَّرْدِ) : النسج ، يقال لصانع الدروع : سرّاد وزرّاد. (وَاعْمَلُوا صالِحاً) يعود الضمير لداود وأهله أي آل داود. (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مطلع على كل أعمالكم ، فأجازيكم عليها.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى من ينيب من عباده ، ذكر نماذج ممن أنابوا إلى ربّهم ومنهم داود عليه‌السلام ، وبيّن ما آتاه الله على إنابته ، من النبوة والملك والجنود والزبور والصوت الحسن ، فكانت الجبال والطيور إذا سبّح تسبّح معه ، وعلّمه تعالى صناعة الدروع الحربية للوقاية من الضربات في الحروب.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) يخبر تعالى عما أنعم به على رسوله داود عليه‌السلام مما آتاه من الفضل المبين ، وجمع له بين النبوة والملك العظيم المتمكن والجنود ، ومنحه من الصوت الرخيم القوي المؤثر ، الذي كان إذا سبّح سبّحت معه الجبال الراسيات ، والطيور السارحات : الغاديات الرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات.

والمعنى : لقد أعطينا داود فضلا عظيما ونعما جليلة ، فقلنا للجبال والطير : رددي معه التسبيح إذا سبّح.

جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه ، يقرأ من الليل فوقف ، فاستمع لقراءته ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود».

١٤٨

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي جعلنا الحديد في يده لينا يصنع به ما يشاء ، من غير حاجة إلى نار ولا مطرقة ، بل كان يفتله في يده مثل الخيوط ، ليعمل به الدروع الكاملات الواسعات التي تقي من ويلات الحروب ، وعلمه كيفية نسج الدروع بحيث تكون متناسبة الحلق ، وعلى قدر الحاجة ، فلا هي صغيرة ضيقة لا تحقق الهدف ، ولا كبيرة ثقيلة على لابسها ، فيعجز عن لبسها. ولا شك أن إلانة الحديد من غير نار ولا طرق معجزة لنبي الله داود ، لا تنطبق على غيره. وكان داود عليه‌السلام أول من صنع الدروع ، قال قتادة رحمه‌الله : «كانت الدروع قبله صفائح ثقالا» فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة ، أي قدّر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه ، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ، ولا الخفة فتزيل المنعة.

(وَاعْمَلُوا صالِحاً ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي اعملوا يا آل داود عملا صالحا فيما أعطاكم الله تعالى من النعم ؛ فإني مراقب لكم ، بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا يخفى عليّ شيء منها. وقوله : (إِنِّي بِما ..) تعليل للأمر.

وهذا تحريض على إصلاح العمل لشكر النعمة ، والعمل الصالح يقوّم النفوس ، ويصقل الروح ، ويحصنها من المزالق والانحرافات.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لقد منح الله تعالى عبده المنيب ورسوله داود عليه‌السلام فضلا عظيما ، فضّله به على سائر الأنبياء من قبله ، من الجمع بين النبوة والملك والزبور والعلم والجنود وتسبيح الجبال والطيور مع تسبيحه ، قال تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) [ص ٣٨ / ١٨].

١٤٩

قال أبو ميسرة في تفسير التأويب : هو التسبيح بلغة الحبشة ، ومعنى تسبيح الجبال : هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود عليه‌السلام.

وقيل : المعنى : سيري معه حيث شاء ؛ من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ، والنزول ليلا.

وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه داود بالنهار ، فكان إذا قرأ الزبور صوّتت الجبال معه ، وأصغت إليه الطير.

٢ ـ ومن فضائل الله على داود ومعجزاته : إلانة الحديد بيده ، حيث يصير كالعجين أو الشمع من غير نار ولا مطرقة.

قال القرطبي : في هذه الآية دليل على مشروعية تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرّف بها لا ينقص من مناصبهم ، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم ؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن خير ما أكل المرء من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده».

٣ ـ علّم الله تعالى داود عليه‌السلام صناعة الدروع السابغات ، أي الكوامل التامات الواسعات ، المحكمة الحلق المتناسبة فيما بينها ، ليست بالصغيرة فلا تحقق الغرض منها وهو الدفاع ، ولا بالكبيرة التي تثقل كاهل لابسها.

٤ ـ لم يستثن الله نبيا ولا رسولا من إلزامه بالعمل الصالح ، لذا أعقب بيان نعمه وأفضاله على داود بأمره مع أهله بصالح العمل وهو فعل الأوامر وترك النواهي ، كما قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ ٣٤ / ١٣]. وعلل الترغيب بالعمل الصالح بأنه تعالى بصير بأعمال عباده وأقوالهم ، لا يغيب عنه شيء ، فيجازيهم عليها.

١٥٠

نعم الله على سليمان عليه‌السلام [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

الإعراب :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ الرِّيحَ) : منصوب بفعل مقدر ، تقديره : وسخرنا لسليمان الريح ، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر ، والجار والمجرور خبر مقدم ، أو مرفوع بالجار والمجرور على مذهب الأخفش.

(غُدُوُّها شَهْرٌ) مبتدأ وخبر. (وَرَواحُها شَهْرٌ) معطوف عليه ، أي غدوها مسيرة شهر ، ورواحها مسيرة شهر ، وإنما وجب هذا التقدير ؛ لأن الغدو والرواح ليس بالشهر ، وإنما يكونان فيه.

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ مِنَ) : إما منصوب بتقدير فعل ، تقديره : وسخّرنا من الجن من يعمل بين يديه ، وإما مرفوع بالابتداء ، والجار والمجرور خبره ، أو مرفوع بالجار والمجرور على مذهب الأخفش.

(وَمَنْ يَزِغْ مِنَ) : شرطية في موضع رفع بالابتداء ، و (نُذِقْهُ) : الجواب ، وهو خبر المبتدأ.

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً شُكْراً) : منصوب ؛ لأنه مفعول لأجله ، ولا يكون منصوبا ب (اعْمَلُوا) لأن «شكروا» أفصح من : «اعملوا شكرا».

١٥١

(مِنْسَأَتَهُ) يقرأ بالهمز على الأصل ، ومن لم يهمزه أبدل من الهمزة ألفا.

(أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ أَنْ) : إما بالرفع على البدل من (الْجِنُ) وهو بدل اشتمال ، مثل : أعجبني زيد عقله ، وإما بالنصب على تقدير حذف حرف جر ، وهي اللام.

البلاغة :

(غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي غدوها مسيرة شهر ، ورواحها مسيرة شهر.

(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) تشبيه مرسل مجمل ، لذكر أداة الشبه ، وحذف وجه الشبه.

المفردات اللغوية :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) فيه تقدير ، أي وسخرنا لسليمان الريح. (غُدُوُّها شَهْرٌ) أي جريها بالغداة مسيرة شهر ، والغداة : من الصباح إلى الزوال. (وَرَواحُها شَهْرٌ) أي وجريها بالعشي مسيرة شهر ، والعشي : من الزوال إلى الغروب. (وَأَسَلْنا) أذبنا. (الْقِطْرِ) النحاس المذاب. (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بأمر ربه. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي ومن يعدل منهم عن طاعة سليمان بأمرنا له بطاعته. (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي من عذاب النار في الآخرة ، أو الحريق في الدنيا.

(مَحارِيبَ) هي الأبنية العالية والقصور الرفيعة الحصينة ، سميت بذلك لأنه يحارب عليها ، وقيل : المراد بالمحاريب هنا : المساجد. (وَتَماثِيلَ) جمع تمثال ، وهو كل شيء مجسّم صوّرته بصورة الحيوان من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك. قيل : إن التصوير كان مباحا في شرع سليمان ، ثم نسخ ذلك في شرع نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَجِفانٍ) جمع جفنة ، أي صحاف تشبه في العظم حياض الإبل ، يجتمع على القصعة الواحدة جمع كبير كألف ، يأكلون منها. (كَالْجَوابِ) كالحياض الكبار ، جمع جابية. (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات ، ولها قوائم لا تتحرك عن أماكنها ، تتخذ من الجبال باليمن ، يصعد إليها بالسلالم.

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي وقلنا لهم : اعملوا يا آل داود بطاعة الله ، شكرا له على ما آتاكم. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) العامل بطاعة الله ، المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه في أكثر أوقاته ، ومع ذلك لا يوفي حقه ؛ لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر إلى ما لا نهاية.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي حكمنا على سليمان ، بأن مات ومكث قائما متكئا على عصاه ، وبقي الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة على عادتها ، لا تشعر بموته ، حتى أكلت الأرضة عصاه ، فخرّ ميتا. (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أي ما دلّ الجن على موته إلا الأرضة : وهي التي تأكل

١٥٢

الأخشاب ونحوها ، مأخوذة من أرضيت الخشبة : أكلتها الأرضة ، ويقال : أرضيت الأرضة الخشبة أرضا. (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) عصاه ؛ لأنها ينسأ بها ، أي يطرد ويزجر بها. (فَلَمَّا خَرَّ) سقط ميتا. (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) انكشف لهم. (أَنْ لَوْ كانُوا أَنْ) : مخففة من الثقيلة ، أي أنهم. (يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) كما زعموا ، لعلموا بموته. (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) ما أقاموا في الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها ، لظنهم حياته. قيل : وقد أرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت يوما وليلة مقدارا ، فحسبوا ذلك ، فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة ، وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. وقال كما ذكر الماوردي بعد الانتهاء من بناء المسجد الأقصى : «اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال : لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه ، ولا خائف إلا أمّنته ، ولا سقيم إلا شفيته ، ولا فقير إلا أغنيته ، والخامس : ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلا من أراد إلحادا أو ظلما ، يا ربّ العالمين».

المناسبة :

بعد بيان ما أنعم الله به على داود عليه‌السلام من النبوة والملك ، ذكر تعالى ما أنعم به على سليمان من تسخير الريح له ، حيث كانت تجري من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر ، وإذابة النحاس كإذابة الحديد لأبيه داود ، وتسخير الجن لبناء القصور الشامخة وصناعة الجفان الكبيرة كالأحواض ، والقدور الثابتة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها. وهذه الأشياء الثلاثة تقابل الثلاثة في حقّ داود وهي تسخير الجبال الذي هو من جنس تسخير الريح لسليمان ، وتسخير الطير الذي هو من جنس تسخير الجن لسليمان ، وإلانة الحديد كإلانة النحاس لسليمان.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات نعما ثلاثا كبري أنعم بها على سليمان عليه‌السلام وهي :

١ ـ تسخير الريح : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ، غُدُوُّها شَهْرٌ ، وَرَواحُها شَهْرٌ)

١٥٣

أي وسخّرنا لسليمان الريح التي كانت تحمل بساطا له غدوها (أي سيرها وقت الغداة من أول النهار إلى منتصف النهار) مسيرة شهر ، ورواحها (جريانها وقت الرواح من منتصف النهار إلى الغروب) مسيرة شهر.

قال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق ، فينزل بإصطخر يتغدى بها ، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل (في أفغانستان) وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع ، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.

٢ ـ إذابة النحاس : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي وأذبنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود ، فكان يصنع منه ما يشاء دون نار ولا مطرقة. وسمي عينا ، لأنه سال من معدنه سيلان الماء من الينبوع.

٣ ـ تسخير الجن : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي وسخرنا له من الجن من يعمل لديه من المحاريب وغيرها ، بأمر ربّه وقدرته وتيسيره وتسخيره إياهم لسليمان ، ومن يعدل ويخرج منهم عن طاعة سليمان نذقه عذابا أليما من الحريق في الدنيا ، أو من عذاب النار في الآخرة.

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ ، وَجِفانٍ كَالْجَوابِ ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي يعمل الجن لسليمان ما يريد من الأبنية الرفيعة والقصور العالية والمساجد والصور المجسمة المصنوعة من النحاس أو الزجاج أو الرخام ونحوها ، والصحاف أو القصاع الكبيرة التي تكفي لعدد كبير من الناس وتشبه حياض الإبل ، والقدور الثابتات في أماكنها ، لا تتحرك ولا تتحول عن مواضعها لعظمها وثقلها.

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي وقلنا : اعملوا يا آل داود بطاعة الله ، شكرا له على ما آتاكم من النعم في الدين والدنيا ، وقليل

١٥٤

من عبادي من يشكرني ، فيستعمل جميع جوارحه فيما خلقت له من المنافع المباحة. والشكور : هو الذي يشكر في جميع أحواله من الخير والضرّ. كما قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص ٣٨ / ٢٤] وهذا إخبار عن الواقع.

ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ أحبّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وأحبّ الصيام إلى الله تعالى صيام داود ، كان يصوم يوما ، ويفطر يوما ، ولا يفرّ إذا لاقى».

وأخرج مسلم في صحيحة عن عائشة رضي‌الله‌عنها «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه ، فقلت له : أتصنع هذا ، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : أفلا أكون عبدا شكورا».

وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد المنبر ، فتلا هذه الآية ، ثم قال : «ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود ، فقلنا : ما هنّ؟ فقال : العدل في الرّضا والغضب ، والقصد في الفقر والغنى ، وخشية الله في السّرّ والعلانية».

ومع هذه النعم وعظمة سليمان عليه‌السلام ذكر تعالى كيفية موته وتعميته على الجن المسخرين له في الأعمال الشاقة ، فقال :

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي فلما حكمنا على سليمان بالموت وألزمناه إياه ، مات ، وهو قائم متكئ على عصاه ، ولم تعلم الجن بموته ، وبقوا يعملون خوفا منه ، ولم يدلّهم على موته إلا الأرضة التي أكلت عصاه من الداخل ، فلما سقط بعد ما وقعت عصاه ، ظهر للجن أنهم

١٥٥

لا يعلمون الغيب كما زعموا ، ولو صحّ ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب ، لعلموا بموته وهو أمامهم ، ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العمل الشاق الذي سخرهم فيه ، ظانين أنه حيّ. أما المدة التي مكث فيها سليمان متكئا على عصاه فلم يرد خبر صحيح في شأنها ، ونترك الأمر في تقديرها لله عزوجل ، وربما يستأنس بالحديث المرفوع الذي رواه إبراهيم بن طهمان عن ابن عباس وفيه : «أن سليمان نحت عصا الخرنوبة ، فتوكأ عليها حولا لا يعلمون ، فسقطت ، فعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب ، فنظروا مقدار ذلك ، فوجدوه سنة» (١).

قال الرازي : وقوله : (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير ؛ لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين (٢).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ امتنّ الله تعالى على سليمان عليه‌السلام بما أنعم عليه من النعم الجليلة أهمها ثلاث : تسخير الريح ، وإذابة النحاس ، وتسخير الجنّ للعمل بأمره.

أما تسخير الريح فكانت تحمل بساطه تنقله من مكان إلى آخر ، فتقطع مسافة في نصف يوم تقدر بمسيرة شهر للمسافر العادي ، وهذا معنى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ).

٢ ـ والنعمة الثانية هي إذابة النحاس في يده.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٧٩

(٢) تفسير الرازي : ٢٥ / ٢٥٠

١٥٦

قال القرطبي : والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه ، دلالة على نبوته (١).

٣ ـ والنعمة الثالثة هي تسخير الجنّ له شغلة عملة لمختلف الحرف والصناعات الثقيلة ، من المساجد والقصور الشامخة ، والقصاع الكبيرة كحياض الإبل وقدور النحاس الثوابت التي لا تحرك لعظمها. والتماثيل : وهي كل ما صوّر على مثل صورة من حيوان أو غيره. ذكر أنها صور الأنبياء والعلماء ، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس ، فيزدادوا عبادة واجتهادا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصّور» أي ليتذكروا عبادتهم ، فيجتهدوا في العبادة.

والآية صريحة في أن نبي الله سليمان عليه‌السلام كان يتخذ التماثيل. وهذا يدلّ على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان ، ونسخ جوازه بشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلة النسخ سد الذّرائع ومحاربة ما كانت العرب تفعله من عبادة الأوثان والأصنام ، كما أن التعظيم لا يكون لغير الله تعالى.

ذكر ابن العربي خمسة أحاديث في منع التصوير ، منها ما رواه مسلم عن أبي طلحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» زاد زيد بن خالد الجهني : «إلا ما كان رقما في ثوب» ثم ثبتت كراهية الرّقم أيضا ونسخه المنع منه في أحاديث أخرى ، فاستقرّ الأمر فيه على المنع كما ذكر القرطبي ، ومنها : ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود وابن عباس : «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون» ومنها ما رواه مسلم عن عائشة قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر ، وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوّلي هذا ، فإني كلما دخلت ، فرأيته ذكرت الدنيا» وعنها

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٧٠

١٥٧

قالت : دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مستترة بقرام (١) فيه صورة ، فتلوّن وجهه ، ثم تناول السّتر فهتكه ، ثم قال : «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبّهون بخلق الله عزوجل».

هذا ما يراه ابن العربي والقرطبي (٢) في أن المنع من التصوير عام ، ثم استثنيت منه أشياء ، مثل لعب البنات ، بالحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي‌الله‌عنها. واستبعد جماعة من العلماء هذا الاتجاه ؛ لأن النسخ يشترط فيه العلم بالتاريخ ، والأولى في الجمع بين الأحاديث : أن يقال : تحمل النصوص التي فيها الحظر بإطلاق على ما كان منها مجسدا لذي روح ، بدليل حديث «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله» ومن طريق آخر : «يقال لهم : أحيوا ما خلقتم» فيكون المنع متجها إلى صور الأجسام ذات الروح إذا كانت على حالة بحيث يمكن أن يقال : إن صاحبها يضاهي بها خلق الله ، وذلك إذا كانت كاملة الخلق ، بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح.

وأما حديث الأمر بتحويل السّتر الذي فيه تمثال طائر ، فلاستقبال المارة له ، مما يشعر بتعظيمه ، فإذا وضع للاستعمال فلا بأس.

أما تصوير الجمادات ، كالجبال والأنهار ، والأشجار ونحوها ، فليست مما يتناولها النص بإشارة : «يشبّهون خلق الله» وبإشارة «يقال لهم : أحيوا ما خلقتم».

وكذلك كل ما وضع في حالة لا تشعر بالتعظيم كالاستعمال في الأرض لا يكون ممنوعا.

__________________

(١) القرام : السّتر الرقيق.

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٥٨٩ ـ ١٥٩٠ ، تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٧٢ ـ ٢٧٤

١٥٨

هذا وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري آراء العلماء في اتخاذ الصور ، نقلا عن ابن العربي ، وهي أن اتخاذ الصور ذات الأجسام أو ذات الظل لكل ما فيه روح من إنسان أو حيوان حرام بالإجماع إلا لعب البنات. أما الرّقم على الثياب ففيه أربعة أقوال :

الأول ـ يجوز مطلقا ، عملا بحديث : «إلا رقما في ثوب».

الثاني ـ المنع مطلقا.

الثالث ـ إن كانت الصورة باقية الهيئة ، قائمة الشكل ، حرم ، وإن كانت مقطوعة الرأس أو تفرقت الأجزاء ، جاز ، قال : وهذا هو الأصح.

الرابع ـ إن كانت مما يمتهن جاز ، وإلا لم يجز.

وأجاز جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب اتخاذ الصور إذا كانت مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد.

أما التصوير الشمسي أو الفوتوغرافي فحكمه حكم الرقم في الثوب ، وهذا مستثنى بالنّص ، بل إن هذا في الحقيقة ليس تصويرا بالمعنى الذي جاءت به الأحاديث بل حبس للصورة أو الظل ، فيكون مثل الصورة في المرآة أو الماء ، وليس فيه محاكاة صنع الخالق أو تشبيه خلق الله تعالى.

٤ ـ أمر الله آل داود بشكره ، وأخبر أن الشاكرين من عبادة قلة قليلة ، مما يدل على وجوب شكر الله تعالى على ما أنعم على الإنسان ، وحقيقة الشكر : الاعتراف بالنعمة للمنعم ، واستعمالها في طاعته ، والكفران استعمالها في المعصية.

وظاهر القرآن والسّنّة : أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان ، فالشكر بالأفعال عمل الأركان ، والشكر بالأقوال عمل اللسان.

١٥٩

٥ ـ ليس لأحد من الملائكة والجنّ والأنبياء والناس ادعاء العلم بالغيب ، وإنما ذلك مختص بالله تعالى ، كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

وفي قصة موت سليمان متكئا على عصاه ، دون أن تعلم الجن بموته ، بدليل استمرارهم بما كلّفوا به من الأعمال الشاقة : مثل واقعي فذّ لجهلهم بالغيب ، فإنه ظلّ مدة متكئا على عصاه ، ثم سقط بسقوط العصا التي تآكلت بفعل الأرضة ، وحينئذ علموا أنه ميّت.

قصة سبأ وسيل العرم

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

١٦٠