التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

ومن لم يخش الله فليس بعالم. والمراد به العالم بعلوم الطبيعة والحياة وأسرار الكون. وسبب خشية العلماء من الله أن الله قوي في انتقامه من الكافرين ، غفور لذنوب المؤمنين به التائبين إليه ، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى ، وهذا يوجب الخوف والرجاء ، فكونه عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام ، وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ ، وهذا كله يدركه بدقة وشمول العلماء المتخصصون.

قال ابن عباس : العالم بالرحمن : من لم يشرك به شيئا ، وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، وحفظ وصيته ، وأيقن أنه ملاقيه ، ومحاسب بعمله.

وقال الحسن البصري : العالم : من خشي الرحمن بالغيب ، ورغب فيما رغّب الله فيه ، وزهد فيما سخط الله فيه ، ثم تلا الآية : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).

وقال سعيد بن جبير : الخشية : هي التي تحول بينك وبين معصية الله عزوجل.

وعن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : ليس العلم عن كثرة الحديث ، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال مالك : إن العلم ليس بكثرة الرواية ، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.

ثم أخبر الله تعالى عن العلماء بكتاب الله العاملين به ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي إن الذين يواظبون على تلاوة القرآن الكريم ويعملون بما فيه من فرائض ، كإقام الصلاة المفروضة في أوقاتها ، مع كمال أركانها وشرائطها والخشوع فيها ، والإنفاق مما أعطاهم الله تعالى من فضله ليلا ونهارا ، سرا وعلانية ، هؤلاء يطلبون ثوابا من الله على طاعتهم ، لا بد من حصوله ، لذا قال :

٢٦١

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي ليوفيهم الله ثواب ما عملوه ، ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم ، إنه غفور لذنوبهم ، شكور لطاعتهم وللقليل من أعمالهم.

ونظير الآية قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء ٤ / ١٧٣] وقوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ..) إلى قوله : لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ..) [النور ٢٤ / ٣٧ ـ ٣٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يلي :

١ ـ من أدلة قدرة الله العظمى ووحدانيته واختياره : إنزال الماء من السماء ، وإنبات النباتات ، وإخراج الثمار المختلفة الأنواع والطعوم والروائح والألوان.

٢ ـ ومن الأدلة أيضا : إرساء الأرض بالجبال ، وخلق طرق مختلفة الألوان فيما بينها تخالف لون الجبل ، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا.

٣ ـ ومنها أيضا خلق الناس والدواب والأنعام مختلفة الألوان ، ففيهم الأحمر والأبيض والأسود والأصفر وغير ذلك ، وكل ذلك دليل على وجود صانع مختار ، واحد لا شريك له.

٤ ـ إن العلماء بطبيعة تركيب الكون ودقائقه ، وبصفات الله وأفعاله ، هم الذين يخافون قدرته ، فمن علم أنه عزوجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية ، ومن لم يخش الله فليس بعالم ، كما قال الربيع بن أنس ، والخشية بمعرفة قدر المخشي ، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد ؛ لأن الله بين أن الكرامة بقدر التقوى ، والتقوى بقدر العلم.

٢٦٢

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية».

٥ ـ آية (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) : هذه آية القراء العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه ، الذين يقيمون صلاة الفرض والنفل ، وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية ، هؤلاء هم الذين يبتغون تحصيل الثواب من الله على طاعاتهم ، ويزيدهم الله من فضله ، والزيادة هي الشفاعة في الآخرة ، إن الله عند إعطاء الأجور غفور للذنوب ، وعند إعطاء الزيادة شكور يقبل القليل من العمل الخالص ، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.

وقوله : (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) إشارة إلى الإخلاص ، أي ينفقون لا ليقال : إنه كريم ، ولا لشيء من الأشياء غير وجه الله تعالى.

تصديق القرآن لما تقدمه وأنواع ورثته وجزاء المؤمنين

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

٢٦٣

الإعراب :

(مُصَدِّقاً) حال مؤكدة ؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق.

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ) : مبتدأ ، و (الْفَضْلُ) : خبره ، و (هُوَ) : ضمير فصل بين المبتدأ والخبر. و (الْكَبِيرُ) : صفة الخبر ، ويصح القول : (ذلِكَ) مبتدأ أول ، و (هُوَ) مبتدأ ثان ، و (الْفَضْلُ) خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) إما مبتدأ ، و (يَدْخُلُونَها) الخبر ، أو بدل من قوله : (الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو جنات. و (يُحَلَّوْنَ) خبر ثان أو حال مقدرة.

(مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة ، وهذا جمع سوار. و (لُؤْلُؤاً) معطوف على محل : (مِنْ أَساوِرَ).

(الَّذِي أَحَلَّنا .. الَّذِي) في موضع نصب صفة اسم «إن» في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّنا) ويصح جعله في موضع الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو الذي ، أو خبر بعد خبر ، أو بدل من ضمير (شَكُورٌ).

البلاغة :

(لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) إطناب بتكرار الفعل ، للمبالغة في انتفاء كل من النصب واللغوب.

المفردات اللغوية :

(مِنَ الْكِتابِ) القرآن ، و (مِنَ) للتبيين. (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) تقدمه من الكتب. (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) عالم بالبواطن والظواهر. (ثُمَّ أَوْرَثْنَا) أعطيناه وقضينا وقدرنا. (الْكِتابَ) القرآن. (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) اخترناهم ، وهم علماء الأمة الإسلامية من الصحابة ومن بعدهم. (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالتقصير في العمل به ، والظلم : تجاوز الحدود. (مُقْتَصِدٌ) متوسط يعمل به في أغلب الأوقات. (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) يضم إلى العلم والتعليم ، والإرشاد إلى العمل. و (سابِقٌ) متقدم إلى ثواب الله ، و (بِالْخَيْراتِ) أي بسبب عمل الخيرات والأعمال الصالحة. (بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته وتوفيقه. (ذلِكَ) توريثهم الكتاب والاصطفاء ، وقيل : السبق إلى الخيرات.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة. (أَساوِرَ) جمع أسورة : وهي حلية تلبس في اليد. (الْحَزَنَ) الخوف من مخاطر المستقبل. (لَغَفُورٌ) للذنوب. (شَكُورٌ) للطاعة.

٢٦٤

(دارَ الْمُقامَةِ) أي دار الإقامة الدائمة وهي الجنة. (نَصَبٌ) تعب. (لُغُوبٌ) إعياء من التعب أو كلال ، ونفيهما جميعا للدلالة على الاستقلال ، ولعدم التكليف في الجنة.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٥):

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) : أخرج البيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : «قال رجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن النوم مما يقرّ الله به أعيننا في الدنيا ، فهل في الجنة من نوم؟ قال : لا ، إن النوم شريك الموت ، وليس في الجنة موت ، قال : فما راحتهم؟ فأعظم ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : ليس فيها لغوب ، كل أمرهم راحة ، فنزلت : (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ)».

المناسبة :

بعد بيان الأصل الأول في العقيدة ، وهو وجود الله الواحد ، وإثباته بأنواع الأدلة ، وهي : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ) ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة ، فقال : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ).

ولما بيّن الله تعالى في الآية السابقة ثواب تلاوة كتاب الله ، أكد ذلك وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق ، فتاليه محق ومستحق لهذا الثواب ، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب السابقة ، ثم قسم ورثته ثلاثة أنواع ، ثم أوضح جزاء العاملين به في الآخرة.

التفسير والبيان :

يبين الله تعالى مكانة القرآن ومهمته بين الكتب السماوية فقال :

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ، إِنَّ اللهَ

٢٦٥

بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي إن الذي أوحينا إليك به يا محمد وهو القرآن هو الحق الثابت الدائم ، المصدق والموافق لما تقدمه من الكتب السماوية السابقة ، إن الله محيط بجميع أمور عباده ، يعلم أحوالها الباطنة والظاهرة ، يشرع لهم من الشرائع والأحكام المناسبة لكل زمان ومكان ، وقد أنزله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين والمرسلين ، لما اقتضت حكمته وعدله.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) أي ثم قضينا وقدرنا بتوريث هذا القرآن من اخترنا من عبادنا ، وهم يا محمد علماء أمتك من الصحابة فمن بعدهم ، التي هي خير الأمم بنص الآية : (نْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران ٣ / ١١٠] وجعلناهم أقساما ثلاثة :

١ ـ الظالم لنفسه : بتجاوز الحد ، وهو المفرط في فعل بعض الواجبات ، المرتكب لبعض المحرمات.

٢ ـ المقتصد : المتوسط المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات ، لكنه قد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات.

٣ ـ السابق بالخيرات بإذن الله : وهو الذي يفعل الواجبات والمستحبات ، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات. وهذا خير الثلاثة ، الذي سبق غيره في أمور الدين.

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي توريث الكتاب والاصطفاء فضل عظيم من الله تعالى.

ثم أبان الله تعالى جزاء المؤمنين السابقين بغير حساب والمقتصدين بحساب يسير ، والظالمين إن رحموا ، فقال :

٢٦٦

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي يدخل هؤلاء المصطفون جميعا جنات الإقامة الدائمة يوم المعاد ، التي يحلّون فيها أساور من ذهب مرصع باللؤلؤ ، ويكون لباسهم حريرا خالصا ، وقد أباحه الله تعالى لهم في الآخرة ، بعد أن كان محظورا عليهم في الدنيا. ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لبس الحرير في الدنيا ، لم يلبسه في الآخرة» وقال : «هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة».

وعلى هذا تكون الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة ، والعلماء أغبط الناس بهذه النعمة ، وأولى الناس بهذه الرحمة.

أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن قيس بن كثير قال : قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه ، وهو بدمشق ، فقال : ما أقدمك أي أخي؟ قال : حديث بلغني أنك تحدّث به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : أما قدمت لتجارة؟ قال : لا ، قال : أما قدمت لحاجة؟ قال : لا ، قال : أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال : نعم ، قال رضي‌الله‌عنه : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«من سلك طريقا يطلب فيها علما ، سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورّثوا العلم ، فمن أخذ به ، أخذ بحظّ وافر».

(وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي وقالوا حين استقروا في مأواهم جنات عدن : الحمد والشكر والثناء على الله الذي أزال عنا الخوف من المحذور ، وأراحنا من هموم الدنيا والآخرة ، إن ربنا صاحب الفضل والرحمة والسعة ، فهو غفور لذنوب عباده ، شكور لطاعتهم.

٢٦٧

روى الطبراني عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ، ولا في القبور ، ولا في النشور ، وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)».

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما وغيره : غفر لهم الكثير من السيئات ، وشكر لهم اليسير من الحسنات.

ثم حمدوه أيضا على نعمة البقاء والاستقرار في الجنة والراحة فيها ، فقال :

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي يقولون : الذي أعطانا هذه المنزلة ، وهذا المقام الذي لا تحول عنه من فضله ومنّه ورحمته ، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك ، كما ثبت في الصحيح لدى مسلم وأبي داود عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل» ولا نتعرض فيها لتعب ولا إعياء ، لا في الأبدان ولا في الأرواح ؛ إذ إنهم دأبوا على العبادة في الدنيا ، فصاروا في راحة دائمة مستمرة ، كما قال تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٢٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ القرآن الكريم هو الحق الصدق الثابت الذي لا شك فيه ، وهو الموافق والمصدق لأصول الكتب السماوية السابقة في صورتها الصحيحة قبل التحريف والتبديل ؛ لأن الله أعلم بما يحقق الحكمة والمصلحة والعدل.

٢ ـ علماء الأمة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم ممن اختارهم الله ورثوا

٢٦٨

القرآن وضمنه كل كتاب منزل ؛ لأن الله شرفهم على سائر العباد ، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس ، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم.

٣ ـ قسم الله الأمة المسلمة بالنسبة للعمل بالقرآن ثلاثة أقسام : الظالم لنفسه : أصحاب الكبائر من أهل التوحيد ، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة ، والسابق إلى الأعمال الصالحة.

٤ ـ وعد الله المصطفين جميعا أو السابقين إلى الخيرات جنات عدن يدخلونها ، متمتعين فيها بحلي الذهب المرصع باللؤلؤ ، مرتدين فيها الحرير الخالص. وهذا دليل سرورهم ومتعتهم.

٥ ـ يحمد الله هؤلاء المؤمنون الذين جعل مأواهم جنات عدن ودار الإقامة ، قائلين : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أي الخوف من محذور المستقبل ، لا يصيبنا فيها عناء ولا إعياء ولا مشقة.

وهذا إخبار ببقائهم في الجنان ودوامهم فيها على الاستمرار.

جزاء الكافرين وأحوالهم في النار وتهديدهم على كفرهم

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ

٢٦٩

كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))

الإعراب :

(لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا فَيَمُوتُوا) : منصوب بأن مضمرة بعد النفي.

البلاغة :

(غَفُورٌ شَكُورٌ كَفُورٍ) صيغ مبالغة ، وتوافق فواصل.

(فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) تهكم في صيغة أمر.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً ، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) إطناب لزيادة التشنيع والتقبيح على الكافرين وكفرهم.

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) سجع عفوي فيه غاية الجمال.

المفردات اللغوية :

(لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) لا يحكم عليهم بموت ثان (فَيَمُوتُوا) يستريحوا من العذاب (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) بل كلما خبت زيد استعارها (كَذلِكَ نَجْزِي) مثل ذلك الجزاء ، أو كما جزيناهم (كَفُورٍ) كثير الكفر.

(يَصْطَرِخُونَ فِيها) يستغيثون في النار بشدة وصوت عال ، من الصراخ : وهو الصياح (رَبَّنا أَخْرِجْنا) بإضمار : يقولون : أخرجنا منها (نَعْمَلْ صالِحاً) تقييد العمل بالصالح للتحسر على ما عملوه من غير الصالح ، والاعتراف به.

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) جواب من الله وتوبيخ لهم ، معناه نجعلكم تعمرون وقتا أو نمهلكم (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي أولم نعمركم وقتا كافيا للتذكر ، من أراد أن يتذكر (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) الرسول ، فما أجبتم (لِلظَّالِمِينَ) الكافرين (نَصِيرٍ) معين يدفع عنهم العذاب.

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا تخفى عليه خافية ، فلا يخفى عليه أحوالهم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بما في القلوب من العقائد والظنون ، وهو تعليل لما سبق ؛ لأنه إذا علم مضمرات الصدور ـ وهي أخفى ما يكون ـ كان علمه بغيرها أولى ، بالنظر إلى حال الناس.

٢٧٠

(خَلائِفَ) جمع خليفة ، يخلف بعضكم بعضا وهو الذي يقوم بما كان يقوم به سلفه ، والخلفاء : جمع خليف. (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) جزاء كفره (مَقْتاً) غضبا وبغضا (خَساراً) خسارة للآخرة ؛ لأنهم اشتروا بعمرهم رأس المال سخط الله تعالى.

المناسبة :

بعد بيان جزاء ورثة القرآن ، ذكر جزاء الكفار ؛ لأن المقارنة تبعث في النفس طمأنينة وارتياحا ، وليعرف المؤمنون أن فخار الكفار في الدنيا عليهم ينقلب حسرة في الآخرة ، وأنه لا نصير للظالمين. ثم أردف ذلك ببيان إحاطة علم الله بالأشياء ، لينفي وجود نصير للظالمين ، ثم ذكر خلافتهم في الأرض ليقطع حجتهم بطلب العودة إلى الدنيا ، وأعقبه بتهديد الكافرين على كفرهم ، فإنه لا ينفع عند الله إلا المقت ، ولا يفيدهم إلا الخسارة ، فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ، ومن اشترى به سخطه خسر.

التفسير والبيان :

بعد بيان حال السعداء شرع الله تعالى في بيان حال الأشقياء في الآخرة ، فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي والذين كفروا بالله وبالقرآن وستروا ما تدل عليه العقول من دلالات واضحة على الحق ، لهم نار جهنم ، لا يحكم عليهم بموت ثان ، فيستريحوا من العذاب والآلام ، ولا يخفف عنهم شيء من العذاب طرفة عين ، بل كلما خبت زيد سعيرها ، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ، قالَ : إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧٧] وقوله سبحانه : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ، وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧٤ ـ ٧٥] وقوله :

٢٧١

(كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء ١٧ / ٩٧] وقوله : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ ٧٨ / ٣٠].

وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أما أهل النار الذين هم أهلها ، فلا يموتون فيها ، ولا يحيون».

(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي كل مبالغ في الكفر ، فنزج به في قعر جهنم.

ثم وصف تعالى حالهم في العذاب بقوله :

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها : رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي وهؤلاء الكفار يستغيثون في النار ، رافعين أصواتهم ، ينادون قائلين : ربنا أخرجنا منها ، وارجعنا إلى الدنيا ، نعمل عملا صالحا ترضى عنه ، غير ما كنا نعمله من الشرك والمعاصي ، فنجعل الإيمان بدل الكفر ، والطاعة بدل المعصية.

فرد الله عليهم موبخا :

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي ألم نبقكم مدة من العمر ، تتمكنون فيه من التذكر إذا أردتم التذكر ، أو أما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق ، لانتفعتم به في مدة عمركم؟

ونظير الآية : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ، ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) [غافر ٤٠ / ١١ ـ ١٢].

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة ، لقد أعذر الله تعالى إليه ، لقد أعذر الله تعالى إليه».

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي وجاءكم الرسول المنذر ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعه

٢٧٢

القرآن ، ينذركم بالعقاب إن عصيتم. وقيل : النذير : الشيب. وقال الرازي : أي آتيناكم عقولا ، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول.

وبه يتبين أن الله تعالى احتج عليهم بالعمر والرسل ؛ لقوله تعالى :

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ، قالَ : إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ، لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧٧ ـ ٧٨] وقوله سبحانه : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [الملك ٦٧ / ٨ ـ ٩].

(فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي فذوقوا عذاب جهنم ، جزاء على مخالفتكم للأنبياء في الدنيا ، فليس لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال ، وهو تهكم بصيغة الأمر مثل قوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ٤٤ / ٤٩].

ثم أخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع الأمور ومنها أحوالهم ، فقال :

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إن الله يعلم كل أمر خفي في السموات والأرض ، ومنها أعمال العباد ، لا تخفى منها خافية ، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٨] وذلك لأنه عليم بما تنطوي عليه الضمائر ، وبما تكنّه السرائر ، من المعتقدات والظنون وحديث النفس ، وسيجازي كل عامل بعمله.

وفيه إشارة إلى أنه لو أعادهم إلى الدنيا لم يعدلوا عن الكفر أبدا. وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لشمول علمه.

٢٧٣

ثم ذكر سببا آخر لعلمه بالغيب ، فقال :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي إن الله هو الذي جعلكم يخلف قوم قوما آخرين قبلهم ، خلفا بعد خلف ، وجيلا بعد جيل ، لتنتفعوا بخيرات الأرض ، وتشكروا الله بالتوحيد والطاعة ، كما قال تعالى : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل ٢٧ / ٦٢].

(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي فمن كفر منكم هذه النعمة ، فعليه ضرر كفره ، وجزاؤه عليه دون غيره.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً ، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى وغضب عليهم ، وكلما أصروا على الكفر خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وأصابهم النقص والهلاك.

وهذا التكرار دليل على أن الكفر يستوجب أمرين هما البغض والخسران.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ هذه أحوال النار ومقالتهم ، يخلدون في نار جهنم ، ولا يموتون فيها ولا يحيون : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى ٨٧ / ١٣] ، ولا يخفف عنهم شيء من عذابها ، وهذا جزاء كل كافر بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ إنهم يقولون في النار : ربنا أخرجنا من جهنم ، وردنا إلى الدنيا ، نعمل عملا صالحا غير عملنا الذي كنا نعمله ، وهو الشرك ، فنؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية ، ونمتثل أمر الرسل.

٣ ـ أجابهم الله تعالى بأنه أعطاهم مدة من العمر كافية ، يتمكن فيه كل واحد

٢٧٤

من التذكر إذا أراد التذكر ، وجاءتهم الرسل تنذرهم من عقاب الله إن أصروا على الكفر ، فكان أمامهم فرصتان : مدة العمر ، وإرسال الرسل.

٤ ـ إن دار الآخرة ليست بدار تكليف ، فلا يقبل فيها تصحيح الإيمان ، ولا تنفع فيها التوبة ، فذلك كله محله دار الدنيا ، لذا يقال للكفار : ذوقوا عذاب جهنم ؛ لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم ، فما للظالمين من ناصر ولا مانع من عذاب الله تعالى.

٥ ـ الله تعالى عالم بكل أمر خفي أو ظاهر في الدنيا والآخرة ، ومطلع على أعمال العباد ، وهو يعلم أنه لو رد الكفار إلى الدنيا لم يعملوا صالحا ، كما قال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام ٦ / ٢٨] وهذا تقرير لدوامهم في العذاب.

وسبب سعة علمه بالغيب : أنه عالم في الماضي والمستقبل بمضمرات الصدور ، وأنه جعل الناس خلفا بعد خلف ، وقرنا بعد قرن ، للانتفاع بكنوز الأرض ، وشكر الله بالتوحيد والطاعة.

٦ ـ من كفر فعليه جزاء كفره وهو العقاب والعذاب.

٧ ـ إذا استمر الكفار على كفرهم لم يستفيدوا إلا أمرين : المقت ، أي البغض والغضب من الله تعالى ، والخسارة ، أي الهلاك والضلال. فهل من معتبر منهم في الدنيا قبل فوات الأوان؟

مناقشة المشركين في عبادة الأوثان وإنكار التوحيد

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ

٢٧٥

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١))

الإعراب :

(أَرُونِي) بدل اشتمال من (أَرَأَيْتُمْ).

(إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) جملة سادّة مسد الجوابين : جواب القسم وجواب الشرط.

البلاغة :

(أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) استفهام إنكاري للتوبيخ.

(حَلِيماً غَفُوراً) من صيغ المبالغة.

(غُرُوراً غَفُوراً) توافق فواصل.

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعبدون من غير الله ، وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء لله تعالى (أَرُونِي) أخبروني (شِرْكٌ) شركة مع الله (فِي السَّماواتِ) أي في خلقها (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) ينطق على أنا اتخذنا شركاء (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية ، أي لهم معي شركة (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ) أي ما يعد الكافرون. ولمّا تقرر نفي أنواع الحجج في ذلك ، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه ، وهو تغرير الأسلاف الأخلاف أو الرؤساء الأتباع (غُرُوراً) باطلا.

(يُمْسِكُ) يحفظ (أَنْ تَزُولا) كراهة أن تضطرب وتنتقل من أماكنها ، من الزوال ، والمعنى : يمنعهما من الزوال (وَلَئِنْ) اللام لام القسم (إِنْ أَمْسَكَهُما) ما أمسكهما (مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد الله ، أي سواه ، أو من بعد الزوال ، ومن الأولى : زائدة ، والثانية : للابتداء والمعنى الأصح : لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما لو فرض زوالهما (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) في تأخير عقاب الكفار ، وفي إمساكه السموات والأرض.

٢٧٦

المناسبة :

بعد بيان جزاء المؤمنين والكافرين وتهديد كل من كفر بالله ، ذكر تعالى ما يدعو للتوحيد ويبطل الإشراك ، مناقشا المشركين في أبسط مقومات عبادة الإله : وهو الخلق والإبداع ، وأن هذه الآلهة المزعومة عاجزة عن ذلك.

التفسير والبيان :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) قل أيها النبي للمشركين : أخبروني عن الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله وتتخذونهم آلهة من الأصنام والأوثان ، هل خلقوا شيئا من الأرض ، حتى يستحقوا الألوهية؟

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) وهل لهم شركة مع الله في خلق السموات أو في ملكها أو في التصرف فيها ، حتى يستحقوا بذلك الشركة في الألوهية؟

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ)؟ أي وهل أنزلنا عليهم كتابا يقرر ما يقولونه من الشرك والكفر ، يكون لهم حجة فيما يدعون؟

(بَلْ ، إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم ، وهي كلها غرور وباطل وزور ، كما يعد الرؤساء والقادة أتباعهم بمواعيد يغرونهم بها ، وهي أباطيل تغر ولا حقيقة لها ، وذلك قولهم : إن هذه الآلهة تنفعهم وتقرّبهم إلى الله ، وتشفع لهم عنده.

وبعد بيان ضعف الأصنام وعجزها عن أي شيء ، أبان تعالى ما يؤهله للعبادة ، ويجعله أهلا للعظمة ، فقال مبينا قدرته وبديع صنعه :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي إن الله يمنع زوال

٢٧٧

السموات والأرض واضطرابها ، وانتقالها من أماكنها ، وهذا يشير إلى نظام الجاذبية ، وأن الأرض كرة تسبح في الفضاء ، كغيرها من الشمس والقمر والكواكب الأخرى السيارة التي تجري في مدارات خاصة بها ، كما قال عزوجل : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [فاطر ٣٥ / ٤١] وقال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم ٣٠ / ٢٥].

(وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) أي لو قدّر إشرافهما على الزوال ، لا يقدر أحد غيره تعالى على إمساكهما ، ولا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو ، وهو مع ذلك حليم غفور ، يمهل عقاب المشركين ، ويغفر لمن تاب منهم ما أجرم في الماضي ، فهو يحلم فيؤخّر ويؤجّل ، ولا يعجّل ، ويستر آخرين ويغفر ، ويظل ممسكا السموات والأرض ، بالرغم من أنه يرى عباده ، وهم يكفرون به ويعصونه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ يتحدى الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد ، ويطالبهم أن يخبروا عن شركائهم الذين يعبدونهم من دون الله ، أعبدوهم ؛ لأن لهم شركة في خلق السموات والأرض ، أم خلقوا من الأرض شيئا؟! أم عندهم كتاب أنزله إليهم بالشركة؟!

وقوله (شُرَكاءَكُمُ) : إنما أضاف الشركاء إليهم ، من حيث إن الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله ، وإنما هم جعلوها شركاء ، فقال : (شُرَكاءَكُمُ) أي الشركاء بجعلكم. ويحتمل أن يقال : شركاءكم في النار ، لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٨] قال الرازي : وهو قريب ، ويحتمل أن يقال : هو بعيد ، لاتفاق المفسرين على الأول.

٢٧٨

٢ ـ الحقيقة أنه لا جواب يقنع من المشركين ، وإنما هم يتبعون أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم ، وهي باطل وزور ، وما مواعيدهم لبعضهم بعضا إلا أباطيل تغرّ ، حين قال السادة للأتباع : إن هذه الآلهة تنفعكم وتقرّبكم.

٣ ـ الدليل على عظمة الله وقدرته بعد ثبوت ضعف الأصنام وعجزها : هو أن الله خالق السموات والأرض وممسكهما ، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده ، ولا يبقى إلا ببقائه ، ولو زالتا فرضا واضطربتا ما أمسكهما من أحد غير الله جل جلاله.

٤ ـ من صفات الله العليا : الحلم ، فلا يعجل العقوبة للكفار والعصاة ، والمغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا ، ثم اهتدى إلى طريق الحق على الدوام ، وهو تعالى يحافظ على هذا النظام البديع للكون ، بالرغم من كفر الكافرين.

إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

٢٧٩

الإعراب :

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ اسْتِكْباراً) مفعول لأجله ، و (مَكْرَ السَّيِّئِ) منصوب على المصدر ، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، بدليل قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

البلاغة :

(ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) في (ظَهْرِها) استعارة مكنية ، شبّه الأرض بدابة تحمل على ظهرها أنواع المخلوقات ، ثم حذف المشبه به ، ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو الظهر ، بطريق الاستعارة المكنية.

(عَلِيماً قَدِيراً بَصِيراً) من صيغ المبالغة.

المفردات اللغوية :

(وَأَقْسَمُوا) حلف المشركون (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) طاقتها وغاية اجتهادهم فيها (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) رسول منذر (أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) اليهود أو النصارى ، لما رأوا من تكذيب بعضهم بعضا ؛ إذ قالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما زادَهُمْ) مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) تباعدا عن الحق والهدى.

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) أي إنهم ما كذبوا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاعتقاد كذبه ، إنما فعلوا ذلك لأجل الاستكبار عن أن يكونوا أتباعا له ، ولأجل العتو : وهو التجبر والمضي في الفساد (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ومكر العمل السيء من الشرك وكيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمكر : هو الحيلة والخداع والعمل القبيح (وَلا يَحِيقُ) لا يصيب ولا ينزل ولا يحيط (إِلَّا بِأَهْلِهِ) وهو الماكر (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) طريقة المتقدمين من تعذيب المكذبين رسلهم (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي لا يبدل بالعذاب غيره ، ولا يحول إلى غير مستحقه ، وبعبارة أخرى : التبديل : وضع الرحمة موضع العذاب ، والتحويل : نقل العذاب من المكذبين إلى غيرهم.

(عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مصير وآثار الماضين من قبلهم أثناء سيرهم إلى الشام واليمن والعراق ، كعاد وثمود ومدين وأمثالهم ، نزل بهم العذاب ، لما كذبوا الرسل ، فتلك سنة الله في المكذبين التي لا تبدّل ولا تحوّل (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وأطول أعمارا ، وأكثر أموالا ، وأقوى أبدانا ، من أهل مكة ، فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم. والواو : واو الحال (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ

٢٨٠